باهر البرهان فى معانى مشكلات القرآن

النيسابوري، بيان الحق

المقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المقدمة قال القاضي الإمام العالم بيان الحق خاتم المفسرين محمود بن أبي الحسن بن حسين النيسابوري تغمده الله برحمته أما بعد حمد الله كفاء حقه والصلاة على محمد خير خلقه وعلى آله الطيبين وعترته الطاهرين فإن أفضل العلوم علم كتاب الله النازل من عنده والسبب الواصل بين الله وعبده وقد وجدت تفاسيره إما مقصورة على قول واحد من الأولين أو مختصة بالتكثير والتكرير كما هو في مجموعات المتأخرين والطريقة الأولى من فرط إيجازها لا تشفي القلب والثانية تعيي على

الحفظ لإطالة القول فعند ذلك رغبت إلى الله جل وعز في فضل التوفيق لإيضاح مشكلات التنزيل وإحسان التوقيف على غوامض التأويل بلفظ جزل ومخرج سهل وإيجاز في عاقبة الغريب وبعض إطناب في المشكل العويص وربما جمحت في الرسن بإيراد بعض الشعر الحسن لتمخيض العقل وإجمام الطبع وليتساهم فيه النظر الأدباء والكتاب كما يستقرئ معانيه العلماء وأولو الألباب

وجميع ما في هذا الكتاب من تفسير أسفر عن وجهه أو تأويل أحسر عن ذراعه فهو يجري على سائر ما جمع فيهما مجرى الغرة من الدهم والقرحة من الكمت وبالله التوفيق

سورة الفاتحة

سورة الفاتحة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ افتتاح القراءة باسم الله واجب لقوله تعالى اقرأ باسم ربك فإن إعمال الباء يقتضي الحق على افتتاح القراءة بالتسمية والاستنجاح بها على سائر الأمور سنة لقوله عليه السلام كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر

والله اسمه جل وعز وحده وليس بمشتق عن شيء ومعناه الذي تحق له العبادة وليس معناه المعبود ولا المستحق للعبادة لأن من يعبده أو تستحق عليه عبادته إنما خلق بعد أن لم يكن وهو عز اسمه إله فيما لم يزل الرحمن الرحيم اسمان من الرحمة والرحمة هي النعمة على المحتاج وتمام النعمة أن يكون المنعم بها مستغنياً عن فعلها والمنعم عليه محتاجا إليه وذلك المنعم هو الله فحق له العبادة ووجب له الحمد والنعمة قد تبلغ مبلغا لا يقدر أحد من الخلق على شيء منه مثل نعمة الحياة والعقل والحواس وقد يكون يما يتيسر للعباد المعاونة على أسباب منها مثل تعليم العلم وتهذيب الخلق والمواساة بالجاه والمال فذلك اختص أحد الاسمين الجاري بناؤه على المبالغة بالله وهو الرحمن لا يشارك ويشترك الثاني بين جميع المنعمين والرب المالك المدبر والربانيون العلماء الذين يربون العلم

ويجوز أن يكون معنى الرب الحافظ يقال للخرقة التي تحفظ فيها القداح ربابة وربة قال الهذلي 1 - وما الراح راح الشام جاءت سبيئة ... لها غاية تهدى الكرام عقابها 2 - توصل بالركبان حينا وتؤلف الـ ... جوار ويغشيها الأمان ربابها ولا يجوز أن يكون معنى الرب السيد حقيقة لأن السيد لا يستعمل بالإضافة إلى الحي المختار والرب يستعمل عاما في الجميع والعالم اسم للعدد الكثير ممن يعقل وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه اسم كل ذي روح

وعن الحسن رحمه الله ان العالم بما يحويه الفلك والأول أولى لأنه جم جمع العقلاء ولأنه لا يقال رأيت عالما من الإبل ولأن الأصل في اللغة الظهور من ذلك العالم فالعلم رأس الجبل والعلم اللواء والأعلم المشقوق الشفة العليا لأن ذلك ظاهر بين والظهور انما يكون للجمع الكثير وعلى الخصوص فيمن يعقل فانهم في الخليقة كالرؤوس والأعلام وإنهم مستدلون كما أنهم أدلة إلا أن يقال إن جميع المخلوقات يدخل في العالم على التبع لما يعقل فيكون حسنا لأنه أعم معنى والمالك القادر على التصرف ملكا والملك القادر عليه أمرا وتدبيرا فالأول أخص ظهورا إلا أنه أشد نفوذا واختيار قراءة الملك أو المالك أحدهما على الآخر لا يستقيم مع العلم بأنهما منزلان وأن في كل واحد منهما فائدة على حدة

والدين فسر بالجزاء والقضاء والحساب والطاعة والأصل الجزاء لأن الحساب للجزاء وكذلك القضاء المجازاة والطاعة القضاء يقتضي المجازاة عليها فتكون تسمية السبب باسم المسبب وتخصيص الملك بيوم الدين للرفع منه الإشادة به كقوله رب العرش ولأنه تعالى يملك في الدنيا بعض العباد ممالك كالعواري المستردة وأما الآخرة فالأمر فيها لله واحدة والصحيح في إياك مذهب الأخفش أنه اسم موضوع مضمر معرف غير مضاف والكاف فيه حرف خطاب ولا موضع لع من الإعراب بمنزلة الكاف في ذلك ولهذا لم يكن مشقا لأن الأسماء المضمرة لا اشتقاق في شيء منها إلا ما حكى عن الزجاج أنه كان يشتقه من الآية أي العلامة وأن إياك نعبد حقيقتك

نعبد فقيل له كيف يكون الاسم المضمر مشتقاً؟ فقال هو مظهر خص به المضمر وإنما كرر إياك لأنه بمعنى الكاف في نعبدك ونسستعينك ولأنه تعليم أن يجدد لكل دعوة عزيمة وتوجها ولا نجمعهما في ربقة ولا نعرضهما في صفقة وإنما لم يقل نعبدك ونستعينك وهو أوجز لأن نستعين على نظم أي السورة ولهذا قدمت العبادة على الاستعانة كما قدم الرحمن وهو أبلغ مع ما في تقديم ضمير المعبود على ذكر العابد من مراعاة التعظيم وإحسان الترتيب وإنما كان إياك نعبد بلفظ الخطاب والحمد لله في أول السورة بالغيبة لأنك تحمد نظيرك ولا تعبده فاستعمل لفظ الحمد لتوسطه مع الغيبة والعبادة التي هي الأمر الأقصى جرت بالخطاب تقربا منه تعالى بالانتهاء إلى محدودة منها وعلى هذا جاء آخر السورة

صراط الذين أنعمت عليهم باسناد النعمة إليه لفظا وصرف لفظ الغضب إلى المغضوب عليهم تحسناً وتلطفاً وإنما سئلت الهداية وهي حاصلة للتثبيت عليها في المستقبل من العمر وقيل إنه سؤال الهداية إلى طريق الجنة في الآخرة فكأنه استنجاز لما وعدنا في قولة يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام أي سبل دار السلام وقيل إنه لما كانت بإزاء كل دلالة شبهة حسن من المهتدي سؤال الهداية التي تزاح بها عن القلب الشبهات

وعن على رضي الله عنه أن الصراط المستقيم هنا كتاب الله فيكون سؤال الهداية لحفظة وتبين معانيه وعن النبي عليه السلام أن الصراط المستقيم سنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي فيحسن طلب الهداية إلى جميع مناهج السنة ممن قد هدى بالإيمان وسأل عدي بن حاتم النبي عليه السلام عن المغضوب عليهم فقال هم اليهود وعن الضالين

فقال هم النصارى والقرآن يدل عليه هو قوله في اليهود وباءوا بغضب من الله وفي النصارى وضلوا عن سواء السبيل فإن قيل إن غير أبداً نكرة فكيف وصف بها المعرفة؟ قلنا غير المغضوب عليهم على مذهب الأخفش بدل من الذين وليس بوصف وفي كلام أبي على إن غير هاهنا مع ما أضيف إليه معرفة وحكم كل مضاف إلى معرفة أن يكون معرفة وإنما تنكرت في الأصل غير ومثل مع

إضافتها إلى المعارف - من أجل معناهما لأنك إذا قلت رأيت غيرك فكل شيء تراه سواه هو غيره وكذلك إذا قال رأيت مثلك فما هو مثله من خلقه وخلقه وجاهه وعلمه لا يحصى فإنما صارتا نكرتين من أجل المعنى فأما إذا كانت المعرفة له ضد واحد وأردت إثباته ونفي ضده وعلم ذلك السامع فوصفته بغير وأضفت غير إلى ضده فهو معرفة كقولك عليك بالحركة غير السكون فغير السكون معرفة وهو الحركة فكأنك كررت الحركة تأكيدا فكذلك هذه لأن كل من أنعم عليه بالإيمان فهو غير مغضوب عليه على العكس فغير المغضوب هم الذين أنعم عليهم فهو مساو له في معرفته فغير على هذا التقدير معرفة وهاهنا إشكال آخر معنوي في كيفية غضب الله فينبغي أن تعلم أن الغضب من الله يخالف غضبنا فإنه منا شهوة الانتقام عند غليان دم القلب وهو من الله إرادة المضار بمن عصاه وهاهنا أصل تعرف به عامة الصفات المشكلة المعاني وهو أن لا يذهب فيها إلى التوهم اللفظي بحسب المبدأ ولكنه بحسب التمام

أوصاف الله تعالى تحمل على الأغراض الانتهائية لا على الأغراض الابتدائية مثاله الرأفة والرحمة فإنهما انعصار القلب لمكروه في الغير ثم طريانه علينا ببعث على إغاثة المبتلى بذلك المكروه فوصفنا إيانا بالرحمة والرأفة للمبدأ الذي هو انعصار القلب وأما في وصفه تعالى فللتمام الذي هو إغاثة المبتلى وكذلك المحبة منا ميل الطباع وتمامها إرادة الخير والإصلاح ووصف الله بها على معنى تمامها والغضب يعرض لنا فينتقض الطبع على جهة الحمية ويتغير الوجه وتحمر العين وربما يرتعد البدن ثم يدعو إلى جنس من العقوبة يضاد الرضي فيوصف الله تعالى به على هذا المعنى الأخير الذي هو الغاية والمال وعلى هذا يجري القول في الصفات والله أعلم

آمين معناه اللهم افعل اسم سمى به الفعل مثل صه ومه ورويدا وإليك ودونك وأصله أمين فأشبعت الهمزة كأنه فعيل من الأمن وليس به. تمت سورة الفاتحة

سورة البقرة

سورة البقرة المروى عن ابن عباس رضي الله عنهما في الم ونظائرها أن كل حرف منها عبارة عن اسم من أسماء الله مفتتح بتلك الحروف وعن الشعبي أنها أنفسها أسماء الله وعن عكرمة أنها أقسام

وقيل هجاء ألم أي أنزل ذلك الكتاب وقيل أنها حروف الجمل الحسابية إشارة إلى مقادير أشياء وآجال قوم وقال قطرب كانت العرب تعاهدوا أن لا يسمعوا القرآن وبلغوا فيه فافتتح بما لا يعلم تطرقاً إلى استماع ما يعلم وقال ثعلب إن الافتتاح بما لا يعلم صحيح على مذهبهم كقولهم ألا

إنك كذا ولا معنى في ألا سوى استحضار قلب السامع فكذلك أمر هذه الحروف وأكثر هذه الأقاويل مدخولة لأنها ليست على نهج كلام العرب ولأنه لا يجوز في كلام الحكيم الأصوات الخالية من المعنى وإنما الصواب في أحد الأقوال الثلاثة أحدهما أنها من المتشابة الذي لا يعلم تأويله إلا الله وهو قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال إن لكل كتاب سرا وسر الله في القرآن أوائل السور ولأنها سميت معجمة لإعجام بيانها وإبهام أمرها والقول الثاني ما قاله الحسن إنها أسماء للسور لأن الله أشار

بها هاهنا إلى الكتاب فإما أن يكون اسما للمشار إليه أو صفة وليس الموضع موضع الصفة لإنها لتحلية الموصوف بالمعاني المخصصة ولا معاني لهذه الحروف فتعينت أسماء أعلاماً فإن قيل فلم لم يعم جميع السور بالتسمية قلنا كما خص بعضها بتشريف في المعنى فإن قيل اشتركت سورتان وثلاث في تسمية قلنا كما يشترك جماعة من الناس في اسم واحد فإن قيل فيجب أن يكون غير السورة من حيث كان الاسم غير المسمي قلنا من يقول ذلك فإنما يقوله في الأشخاص التي حكمها حكم الألفاظ والقول الثالث أنها إشارة إلى أن ذلك الكتاب يتألف كم خذه الحروف كتأليف كلامهم فلو كان من عند غير الله لأتيتم بمثله ومعنى الإشارة في ذلك الكتاب الموعود إنزاله في الكتب السالفة من هذه الحروف وقيل معناه ذلك الكتاب الموعود بقوله

إنا سنلقى عليك قولا ثقيلا وقال الأصم يعني ب ذلك ما تقدم من القرآن فقد سبق البقرة سور كثيرة قال المبرد وأمثال هذا التقدير الذي يقر ذلك على وضعه أولى من التحول إلى أن ذلك بمعنى هذا وهما غير أن حاضر وغائب إلا أنه جاء أن ذلك معناه هذا عن الضحاك وغير في الكتاب الموفق

قال أبو عبيدة لقيني ملحد مرة فقال يا أبا عبيدة ألم ذلك الكتاب وهو هذا الكتاب فأي شيء ذلك من هذا؟ فقلت إن قبلت الحجة العربية قال هات قلت قول خفاف بن ندبة إن تك خيلي قد أصيب صميمها فعمدا على عيني تيممت مالكا وقلت له والرمح يأطر متنه تأمل خفافاً إنني أنا ذلكا

لا ريب فيه إخبار عن كون القرآن حقا مصدقا إذ أسباب الشك عنه زائلة وصفات التعقيد والتناقض منه بعيدة والإعجاز واقع والهدى حاصل والشيء إذا بلغ هذا المبلغ اتصف بأنه لا ريب فيه فيبطل بهذا سؤال من يقول إن المنكرين لا يقل ريبهم بالقول إنه لا ريب فيه واختصاص المتقين بهداهم على هذا الطريق وقيل إنه على جهة التعظيم لقدرهم والإشادة بذكرهم الذين يؤمنون بالغيب أي بما يغيب عن الحواس ولا يدرك إلا بالعقول وقيل بل المراد أنهم يؤمنون بالله ورسوله بظهر الغيب لا كالمنافقين الذين إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وهذا كقوله تعالى من خشى الرحمن بالغيب وقوله ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وقال الهذلي

أخالد ما راعيت من ذي قرابة فتحفظني بالغيب أو بعض ما تبدي والجار والمجرور في بالغيب من البيت والآية في موضع حال أي تحفظني غائباً ويؤمنون غائبين عن مراءاة الناس ومخافتهم وعلى القول الأول في موضع المفعول به إن الذين كفروا سواء عليهم في قوم من الكفار أخبر الله بعلمه فيهم كما أخبر نوحا فقال أنه لن يؤمن من قومك والحكم في الإنذار مع العلم بالإصرار إقامة الحجة وقيل ليكون الإرسال عاما وقيل لثبات الرسول على محاجة المعاندين وإنما جرى لفظ الاستفهام في ءأنذرتهم ومعناه الخبر لأن فيه التسوية التي في الاستفهام ألا ترى أنك إذا استفهمت فقلت أخرج زيد

أم قام فقد استوى الأمران عندك في الإبهام وعدمه على أحدهما بعينه كما إذا قلت في الخبر سواء على أخرجت أم أقمت كان الأمر في التسوية كذلك قال حسان ما أبالي أنب بالحزن تيس أم لحاني بظهر غيب لئيم وسمهم بسمة تعرفها الملائكة وفائدتها الوضع منهم والتبكيت كما أنه لما كتب الإيمان في قلوب المؤمنين كان تحلية لهم بما يرفعهم

آية على التشبيه لحالهم بحال المطبوع على قلبه المضروب على سمعه وبصره كما قال لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي وقال مجاهد الشيء إذا ختم ضم فالقلب إذا ران عليه المعاصي انضم ولم ينبسط بالإنذار ولم ينشرح بالإيمان وقيل إن المراد حفظ ما في قلوبهم للمجازاة إذ كل شيء يحفظ فإنه يختم وقيل إنه على الدعاء عليهم لا الخبر عنهم

وقيل بل المراد ظاهره وهو المنع ولكن المنع منعان منع بسلب القدرة ومنع بالخذلان والذي يجوز على الله منهما الخذلان وحبس التوفيق عقوبة لهم على كفرهم وإنما لم يجمع السمع لأنه أجرى مجرى المصدر أو لأنه توسط الجمعين فكان جمعا بدلالة القرينة مثل السموات والأرض والظلمات والنور يخدعون الله قد تكون المفاعلة من الواحد مثل عافاه الله وقاتله وعاقبت اللص وطارقت النعل ومعناه يعملون عمل المخادع وقيل إن المراد مخادعة الرسول والمؤمنين حين يساترونهم ما في قلوبهم لان الله لا يخفى عليه السرائر ولا يحتجب دونه الضمائر وهذا كقوله إن الذين يؤذون الله ورسوله أي يأذون أولياء الله

وأصل الخداع الاخفاء ومنه الحديث بين يدي الساعة سنون خداعة لأن امرها يخفى يظن بها الخصب فتجدب والدهر يقال له الخداع اخفاء صروفه ونلون خطوبه كما قال الأنصاري ذات أساهيج جمالية حشت بحاري وإقطاع أقضي بها الحاجات إن الفتى رهن بذي لونين خداع

وقيل معنى مخادعتهم إفسادهم ما بينهم وبين الله خدع الشيء فسد قال سويد حرة تجلو شتيتا واضحا كشعاع الشمس في الغيم سطع أبيض اللون لذيذا طعمه طيب الريق إذا الريق خدع وعلى هذا يطرد بمعنى وما يخادعون إلا أنفسهم لأن الإنسان يفسد نفسه ولكن لا يخفى عن نفسه شيئا يعلمه

في قلوبهم مرض أي شك قال البعيث فقلت لبشر إذ تبينت إنما يراد بنا في الأمر صماء صيلم تيقن فإن الشك داء وإنما ينجيك مصروم من الأمر مبرم وقيل غم وحزن كما قال حارثة بن بدر الغداني

إذا الهم أمسى وهو داء فأمضه ولست بممضيه وأنت تعادله وقل للفؤاد إذا نزا بك نزوة من الروع أفرخ أكثر الروع باطله وقيل مداجاة ونفاق كما قال أجامل أقواما حياء وقد أري صدورهم تغلى على مراضها وقيل معناه ظلمة وغمة كما قال

وليلة مرضت من كل ناحية فما يضيء لها شمس ولا قمر ولو أجرى المرض على ظاهره لكان أيضا قريبا فإن القلب جارحة من الجوارح يكون سليماً وسقيما وسويا وناقصا وإنما داؤه الجهل والفساد وودواؤه التعليم والإرشاد وأطباؤه الأنبياء ومن بعدهم العلماء قال السدي وزادهم عداوة الله مرضا فحذف المضاف كقوله فويل للقسية قلوبهم من ذكر الله أي من ترك ذكر الله وقيل زادهم الله بما فاتهم من حدود الشريعة وفروضها لأن من دعى إلى خير فلم يصلحه ازداد شرا إلى شر

ولهذا قيل إن القلب الغير التقي كلما هديته المراشد زدته فسادا كالبدن الغير نقي كلما غذوته الأطايب زدته سقاما وقيل زادهم مرضا زيادة تأييد الرسول وعلى القولين إضافة مرض قلوبهم إلى الله على طريق تسمية المسبب باسم السبب إذ الله لما كان هو الذي شرع الدين ونصر الرسول وهما سبب مرضهم جازت إضافة زيادة المرض إلى الله بسبب زيادة الآيات كما قال الفرزدق

سقتها خروق في المسامع لم تكن علاطا ولا موسومة في الملاغم أي لما سمعت السقاة أنها إبل فلان سقوها إتلالا فكان سبب السقي فعبر بالسبب عن المسبب بهذه الفصاحة وأنشد ابن السراج في مثل هذا الموضع شعر ذر الآكلين الماء ظلماً فما هم ينالون خيرا بعد أكلهم الماء

والماء لا تؤكل ولكنهم كانوا يبيعون شرب الأرض من صاحبها فيشترون بثمنه ما يأكلونه فاكتفي المسبب ومثله كثير الله يستهزئ بهم أي يجازيهم بالعقوبة على استهزائهم وقيل يرجع وبال استهزائهم عليهم وحمله ابن عباس رضي الله عنهما على استدراجهم والاستدراج زيادة النعم على التمادي في الخطيئات وقيل إنهم عوملوا في الدنيا بأحكام المسلمين وإذا دفعوا إلى أشد العذاب كان كالاستهزاء بهم وروى عدي بن حاتم في حديث طويل أنه يفتح لهم بابا الجنة ثم يرصفون إلى النار

وقيل إنه على مزاوجة الكلام كقوله تعالى وجزؤا سيئة سيئة قال تميم بن مقبل لعمر أبيك لقد شاقني خيال حزنت له أو حزن

وقال مزاحم العقيلي بكت درهم من نأيهم فتسرعت دموعي فأي الباكين ألوم أمستعبر يبكي من الهون والبلي أم آخر يبكي شجوه ويهيم وليس ثم حزن ولا بكاء ولكنهما مزاوجة ومكافأة ويمدهم في طغيانهم يملي لهم ويعمر عن ابن مسعود رضي الله عنه

وعن ابن عباس رضي الله عنهما يكلهم إلى نفوسهم ويخذلهم واختيارهم وقيل إنه على حذف المضاف أي يمدهم في جزاء طغيانهم ومد أمد واحد وقيل مد في الأمد وأمد في العدد وقال الفراء مد في الشيء له جاذب وفاعل وأمد من غيره والطغيان تعدي الطور وتجاوز القدر والهمة والحيرة

فما ربحت تجارتهم جاءت على سماعة العربية وإن كان الرابح هو التاجر كما قال جرير تعجب إذا فاجأني الشيب وارتقي إلى الرأس حتى ابيض مني المسائح فقد جعل المفروك لأنام ليله يحب حديثي والغيور والمشايح مثلهم كمثل الذي استوقد نارا قال السدي نزلت في قوم أسلموا ثم نافقوا

وقال سعيد بن جبير نزلت في اليهود كانوا ينتظرون مبعث النبي عليه السلام ويستفتحون به فذلك استضاءتهم ثم كفرهم به ذهاب نورهم ويندفع على التأويلين قول الطاعن كيف يمثل المنافق الذي لا نور له بمن أعطي نورا ثم شاب أو كصيب الصعيب فيعل من صاب يصوب كسيد من ساد يسود ومعناه ذو صوب فيجوز مطرا ويجوز سحابا

والرعد صوت الملك الذي يسوق السحاب والبرق ضربة السحاب بمخراق من على وعن ابن عباس رضي الله عنهم أن الرعد ريح تختنق في السحاب والبرق سقط السحاب إذا انقدحت بالريح

وقد جاء كثير بمثل هذا في شعره فقال تألف واحمؤمي وخيم بالربي أحم الذري ذو هيدب متراكب إذا زعزعته الريح أرزم جانب بلا خلف منه وأومض جانب

وأما الذي جرى له التمثيل بالصيب هو القرآن عند ابن عباس فإن ما فهيه من القصص والمواعظ والتسلية والبشارة وأسباب الهداية كالمطر الذي ينفع حيث يقع وما فيه من الوعيد والتحسير والذم للكافرين كالظلمات والصواعق وعند الحسن هو الإسلام وتقريب المماثلة بينهما أن المطر لا يتم منافعه إلا ومعه الرعد والبرق والظلمات فكذلك الإسلام تمامه باحتمال المتاعب في العبادات وتعريض النفس للقتل في الجهاد والمؤمنون يصبرون عليها والمنافقون يحذرون منها وتقريب آخر أن المطر وإن كان حياة الأرض فإذا وقع على هذه الأعراض راع المسافر وحيره فكذلك إيمان المنافق مع إسراره الكفر وقال في قوله يكاد البرق يخطف أبصرهم أن من لم يكن ضوءه إلا لمع بارق فالضوء عنه بعيد وقد كثر هذا المعني في أشعارهم قال جرير

منعت شفاء النفس ممن تركته به كالجوى مما تجن الجوانح وجدتك مثل البرق تحسب أنه قريب وأدنى ضوئه عنك نازح وقال كثير وإني وتهيامي بعزة بعد ما تخليت مما بيننا وتخلت لكالمرتجي ظل الغمامة كلما تبوأ منها للمقيل اضمحلت وقال ابن حطان أري أشقياء الناس لا يسأمونها على أنهم فيها عراة وجوع

أراها وإن كانت تحب كأنها سحابة صيف عن قليل تقشع لعلكم تتقون لكي تتقوا وهو معنى كل لعل في القرآن لأن الله يتعالى عن معاني الشك وقال المبرد بل هي على أصلها في الشك والرجاء من المخاطب أي أعبدوه على رجاء أن يتم لكم التقوى والترجية في مثل هذا أبلغ لأنه ترقيق للموعظة وتلطيف في العبارة وفائدة أخرى وهي أن لا يكون العبد من المدل بتقواه بل حريصا على العمل حذرا من الزلل

(فأتوا بسورة من مثله). أي مثل ما نزلنا. وقيل: من مثل عبدنا من رجل لا يقرأ ولا يكتب. والشهداء: الآلهة، وقيل: الأعوان. (ولن تفعلوا) اعتراض بين الشرط والجزاء. مثل: وأنت منهم في بيت كثير:

32 - لو أن المخلفين -وأنت منهم- ... رأوك تعلموا منك المطالا وقال [عبيد] الله بن الحر: 34 - تعلم -ولو كاتمته الناس- أنني ... عليك -ولم أظلم بذلك- عاتب. فقوله "ولو كاتمته الناس" اعتراض بين الفعل ومفعوله، "ولم أظلم بذلك" اعتراض بين اسم إن وخبرها. والاعتراض في أشعار العرب كثير؛ لأنه يجري مجرى التوكيد. ولنا فيه كتاب اسمه "قطع الرياض في بدع الاعتراض". (وقودها الناس والحجارة) قيل: إنها حجارة الكبريت فهي أشد توقداً.

وقيل: إنها الأصنام المعبودة فهي أشد تحسرا. وقال الجاحظ: كأنه حذرهم نارا تشتعل لشدتها وعظم مادتها في الحجارة. كما قال القطامي: 35 - يمشين [رهوا] فلا الإعجاز خاذلة ... ولا [الصدور] على الأعجاز تتكل. 36 - حتى وردن ركيات الغوير وقد ... كاد الملاء من الكتان يشتعل.

فوصف الحر باشتعال الكتان منه مع نداوته وطراوته. (وأتوا به متشبها) أي: التذاذهم بجميع المطاعم والمشارب متساو ولا يتناقص ولا يتفاضل. وعن ابن عباس: متشابها في المنظر وإن اختلف في المطعم، فيقولون -ما لم يطعموه- هذا الذي رزقنا من قبل. ولا يحمل على تشابهه بثمار الدنيا لأنه روي عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا (إنه ليس في الجنة شيء مما في الدنيا إلا الأسماء) (إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا) أي: لا يدع ولا يمتنع.

والاستحياء: عارض في الإنسان يمتنع عنده عما يعاب عليه، وذلك لا يجوز على الله، ولكن ضرب المثل بالحقير إذا تضمن جليل الحكمة لا يستحي عنه، فقارب جل اسمه الخطاب في التفهيم باللفظ المعتاد. (مثلا ما بعوضة) تقديره: أن يضرب مثلا ما، أي من الأمثال، فيتم الكلام على (ما). [ثم] (بعوضة) نصب على البدل. وهذا هو الصواب تنزيهاً للقرآن من لفظ خال عن معنى. وقال الكسائي: نصب بعوضة بمعني ما بين بعوضة فما فوقها، فلما ألقيت "بين" نصبت، كما تقول العرب: وهي أحسن الناس قرنا فقدما، أي: ما بين قرن فقدم.

(فما فوقها) أي في الكبر من الذباب والعنكبوت؛ لأن إنكار اليهود كان لضرب الله المثل لمهانتهما. وقيل: فما فوقها في الصغر؛ لأن القصد هو التمثيل بالحقير، فما كان أصغر كان إلى القصد أقرب، بل لا نتجاوز فيما زاد به التحقير إلا إلى ما هو أحقر وأصغر، فلا يقال: ماله على درهم ولا عشرة، ولكن درهم ولا دانق. فإن قيل: فكذلك لا يقال فوق والمراد به ما هو دونه. قلنا: يقال، كقولك: فلانٌ قليل العقل، فيقال: وفوق ذلك. (يضل به كثيرا) حيث يحكم عنده بالضلال. وقيل: حيث أضلهم عن جنته وثوابه.

وقيل: إضافة الإضلال إلى الله وإلى المثل المضروب -وإن كان حكمة- لوقوع الضلال عنده كقوله عز وجل في الأصنام: (رب إنهن أضللن كثيرا) لما ضلوا بسببها. وقال الأخفش: وهذا كما يقال: أهلكته فلانة إذا هلك في عشقها. كذلك إذا ضلوا في دين الله. وبعضهم على الإملاء فيه والإمهال. وبعضهم على مصادفتهم عليه، من أضل ناقته: إذا ضلت هي. قال ذو الرمة: 37 - أضله راعيا كلبية صدرا ... عن مطلب وطلى الأعناق تضطرب.

وقال آخر: 38 - هبوني امرءا منكم أضل بعيره ... له ذمة إن الذمام كبير (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه) عهده. وميثاقه: ما أمر به في كتبه وعلى لسان رسله. وقيل: هو حجة الله القائمة في عقل كل أحد على توحيده وعلى وجوب بعثه للرسل. وقيل: المراد يمينهم في قوله: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذيرٌ).

وسيبويه لا يجيز إعادة الثاني مظهرا بغير لفظ الأول، فلا يجوز: زيد مررت بأبي محمد، وكنيته أبو محمد، ويجوز بلفظ الأول كقوله تعالى: (الحاقة ما الحاقة) و (القارعة ما القارعة). قال ابن حطان: 39 - لا يعجز الموت شيء غير خالقه ... والموت فإن إذا ما حلَّهُ الأجل 40 - وكل شيء أمام الموت متضع ... للموت والموت فيما بعده جلل فعلى مذهب سيبويه لا يكون الميثاق: العهد بل يكون صفة للعهد. والأخفش يرد عليه ويقول: إنه إذا لم يعد لفظ الأول البتة، وعاد مخالفا للأول شابه بخلافه له المضمر الذي هو أبدا مخالف المظهر.

وهو أحسن، مثل قولك: زيد مررت. ألا ترى إلى قول كلحبة: 41 - أمرتكم [أمري] بمنعرج اللوى ... ولا أمر للمعصي إلا مضيعا. 42 - إن المرء لم يغش الكريهة أوشكت ... حبال الهوينا بالفتى أن تقطعا فالفتى غير لفظ المرء، وهو المرء المذكور فكذلك الميثاق والعهد. (وكنتم أمواتا) أي: نطفا في أصلاب آبائكم. أو أمواتا في القبور.

(فأحياكم) فيها للسؤال (ثم يميتكم) للبعث؛ لأن الموت ما كان عن حياة، إلا أن الموت ولا شيء سواء، فيجوز كنتم أمواتا أي لم تكونوا شيئا لا سيما وهو على مزاوجة الموتة [الحقيقة]. (ثم استوى إلى السماء) قصد إلى خلقها. وقال الحسن: ثم استوى أمره الذي بع تكونت الأشياء إلى السماء. وقيل: ثم استوى تقديره إلى السماء؛ لأن القضاء بجميع أحوال العالم ينزل من السماء، فحذف الأمر والتقدير لدلالة الحال.

وقال الأصم: الاستواء صفة الدخان المحذوف الذي كانت منه السماء. وفيه بعد لمعاندة الظاهر له. وقال الفراء: معناه أقبل عليها تقول العرب، كان فلان ينظر إلى غير ثم استوى إلي. وقيل: معناه استولى على ملك السماء ولم يجعلها كالأرض التي ملكها عباده. كما قال: 43 - فلما تولوا واستوينا عليهم ... تركناهم [صرعي] لنسر وكاسر.

وفي الآية ما يبطل الحمل على [الانتصاب]؛ لأنه لا يليق بذكر الإنعام بما خلق، ولأنه لا يتعلق به فسواهن. فإن قيل: في هذه الآية خلق السماء بعد الأرض، وفي قوله (بعد ذلك دحاها) خلق الأرض بعد السماء. قلنا: الدحو ليس من الخلق، وإنما هو البسط، فجاز أنه دحاها بعد أن خلقها وبني عليها، وكذلك التسوية ليس بخلق. فجائز أنه جعلها سبعا بعد خلق الأرض وكانت مخلوقة قبل كما في الحديث "أنها كانت دخانا". (إني جاعل في الأرض خليفة) قيل: كانت الخلافة عن الملائكة.

وقيل: عن الجان الذين أجلاهم الملائكة بسبب فسادهم. وقي: ل المراد بالخليفة جميع بني آدم أن يخلف بعضهم بعضا. وعن ابن مسعود: المراد أولو الأمر من عهد آدم إلى انقضاء العالم . فكلهم خلفاء الله في الحكم بين الخلق وتدبير ما على الأرض. (أتجعل فيها من يفسد فيها) قالوا ذلك على التألم والاغتمام لمن يفسد. وقيل: على الاستعصام للمعصية مع عظيم النعمة. وقيل: على الاستعلام لوجه التدبير فيه.

وقيل: على السؤال أن يجعلهم خلفاء الأرض [ليسبحوا] بدل من يفسد فقال عز وجل: (إني أعلم) من صلاح كل واحد (ما لا تعلمون) فدلهم [بذلك] أن صلاحهم في أن أختار لهم السماء وللبشر الأرض. (وعلم ءادم الأسماء) بمعانيها على اللغات المختلفة، فلما تفرق ولده تكلم كل قوم بلسان أحبه واعتاده وتناسوا غيره على الأيام. كما أن الله تعالى علمه الأسماء علمه الأفعال والحروف التي هي أصول الكلام؛ لأن المعني ينتظم بجميعها، والفضيلة بتصور المعني لا بتداول اللفظ، ولكنه لابد للكلام المفيد من الاسم، وقد يستغني عن الفعل والحروف، فلقوة الاسم وغلبته على الكلام جرى الاكتفاء بذكره مما هو قال له. وهكذا كما قال المخزومي: 44 - الله يعلم ما تركت قتالهم ... حتى علوا فرسي بأشقر مزبد

45 - وعلمت أني إن أقاتل بعدهم ... أقتل ولا يضرر عدوي مشهد فخص الله بالذكر على معني أنه إذا علمه الله لا أبالي استشهدت غيره أولم أفعل، لا لأنه أمر خفي لا يعلمه غير الله، ألا ترى إلى عنترة وذكره علم الفوارس مع [علم] الله في قوله: 46 - الله يعلم والفوارس أنني ... فرقت جمعهم بطعنة فيصل. وأما كيفية تعليم آدم الأسماء فينبغي أن يعلم أنه لا يجوز ذلك بالعلم الضروري؛ لأن المعرفة بالله وصفاته بالاستدلال، فكذلك بقصده وإرادته.

ولا يجوز ذلك بالمواضعة والإيماء؛ لأنه يتعالى عنه فيكون بالوحي [والتوقيف] حجة معجزة من خلقه في أول ما أعقله. إلا أن أول اللغة يكون بالمواضعة من الخلق، والاصطلاح عليها، ثم الله يغيرها ويكثرها بالوحي، بأن يوقف على مراتب الأسماء والمصادر، وكذلك مبادئ الأفعال والحروف ثم يهدي للتصرف للتصرف والاشتقاق. (ثم عرضهم على الملائكة) يعني المسميات، بدليل قوله: (أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صدقين) فيما هجس في نفوسكم أنكم أعلق الخلق وأفضلهم. فإن قيل: كيف أمروا بالإنباء مع العلم أنهم لا يعلمون!!

قلنا: لأن القصد هو التقرير والتنبيه على مكان الحجة، ولأنه أمر [مشروط] على الحقيقة؛ لأنه متعلق بشرط كونهم صادقين، أي: عالمين، فإذا لم يكونوا عالمين [لم] يكونوا مأمورين. وكان القاضي أبو القاسم الداودي يحتج بهذه الآية أن علم اللغة أفضل من التخلي [للعبادة]؛ لأن الملائكة تطاولت بالتسبيح والتقديس. ففضل الله آدم عليهم بعلم اللغات، فإن كان الأمر على هذا في علم الألفاظ فكيف في المعالم الشرعية والمعارف الحكمية.

(قالوا سبحانك) أي تنزيها لك أن يخفى عليك شيء. وهو نصب على المصدر، كقولك تسبيحا لك، وكذلك سائر المصادر العقيمة الغير المتصرفة، مثل معاذ الله، وعمرك الله، وقعدك الله، وأشباهه، كلها يجري مجرى المصادر المتصرفة المطلقة. (إلا ما علمتنا) في موضع الرفع؛ لأنه استثناء من مجحود. (ألم أقل لكم) ألف تنبيه وتقرير، لا تقريع وتوبيخ. كأنه أحضرهم ما علموه؛ لأن مكانهم أعلى، وعلمهم بالله أقوى من أن يخفى عليهم ذلك. وهو كما قال جرير: 47 - ألم يعلم الأقوام أن لست ظالما ... بريئا وأني للمتاحين متيح. 48 - فمنهم رمى قد أصيب فؤاد [هُ] ... وآخر يبغى صحة فمرنح.

(وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) قيل: إنه السجود اللغوي الذي هو: التذلل والخشوع، كما قال زيد الخيل: 49 - بني عامر هل يعلمون إذا غدا ... أبو مكنف قد شد عقد الدوابر 50 - بجمع يضل البلق في حجراته ... ترى الأكم منها سجدا للحوافر. وقيل: إنه كان تعظيما لآدم لا عبادة. وقيل: ما كان لآدم فيه من تعظيم، ولكنه كان قبلة، وكان السجود لله، ولكنه مع هذا لا يخلو عن ضرب من التعظيم.

والمروى عن ابن عباس في بعض الروايات: أن إبليس كان ملكاً من جنس المستثنى [منهم]. وعن الحسن: أن الملائكة هم لباب الخليقة، خلقوا من الأرواح الطاهرة، والأنوار الصافية لا يتناسلون، وإبليس شخص روحاني خلق من نار السموم وهو أبو الجن. (وزوجك الجنة) سقطت علامة التأنيث للاستغناء عنها بالإضافة المذكرة.

وابن بحر يذهب في الجنة أنها كانت بحيث شاء الله من الأرض؛ لأن جنة الخلد لا انتقال عنها، ولأن إبليس لم يكن ليدخلها حتى يزلهما عنها. والصحيح: أنها كانت جنة الخلد لتواتر النقل، ولأجل لام التعريف. وقوله: (وقلنا اهبطوا) أيضاً يدل على أنهم كانوا في السماء. وأن إبليس لم يكن إذ ذاك ممنوعا عن السماء، كالجن عن استراق السمع إلى المبعث، فوسوس إبليس لهما وهو على القرب من باب الجنة، أو ناداهما وهما على عرف الجنة. والرغد: الكثير الواسع الذي لا عناء فيه.

والشجرة المنهية: هي السنبلة رواه أبو بكر عن النبي عليه السلام. ومنه قيل: كيف لا يعصى الإنسان وقوته من شجرة العصيان وكيف لا ينسى العهد واسمه من النسيان. وعن ابن مسعود: أنها الكرم. ولذلك صارت فتنة؛ ولأن الشجر ماله ساق وغصن. (فتكونا من الظالمين) من حيث إحباط بعض الثواب؛ لأن ذم الأنبياء بالظلم لا يجوز إلا على تأويل صحيح.

وقيل: إن فاعل الصغيرة أيضا ظالم نفسه، من حيث ألزمها ما يشق من التوبة والتلافي، وكون الزلة صغيرة مغفورة لا ينافي وجوب التوبة كما لا ينافي ثبوت الحرمة. (فأزلهما الشيطن عنها) أي أكسبها الزلة. وقيل: إنه متعدي زل أي عثر وإزلاله بوسوسته لهما. وقيل: بأن قاسمهما على نصحه. وزلة آدم عليه السلام كانت بالخطأ في التأويل، إما بحمل النهي على التنزيه دون التحريم، وإما بحمل اللام على التعريف لا الجنس.

إذ الظاهر دلالة النهي على عين المنهي عنه لا جنسه، إلا أنه تعالى أراد الجنس، ومكن آدم من علم الدليل فغفل عنه وظن أنه لا يلزمه ذلك. وقيل: إن زلته أكله ناسيا بعض النسيان ربما يؤخذ على الأنبياء؛ لما يلزمهم من التحفظ والتيقظ كثير [اً]، فيكون صدوفهم عن تذكر النهي حينـ[ئذٍ] تفريطا. و (قلنا اهبطوا منها) الهبوط الأول من الجنة [إلى] السماء. والثاني: من السماء إلى الأرض. والهبوط الأول وإن لم يكن نزولا -لأن الجنة في السماء- إلا أنه ما كان فيه انتقال المكان مع سقوط المرتبة كان كقول لبيد:

51 - كل بني حرة مصيرهم ... قل وإن كثروا من العدد 52 - إن [يغبطوا] يهبطوا وإن أمروا ... يوما فهم للفناء وإن أمروا يوما فهم للفناء والفند وفي هذه القصة كل التحذير من المعاصي ليحضر العبد قلبه ما جرى على آدم بارتكاب صغير مع التأويل، فلا يرتكب الكبائر. وقد تظمه بعضهم فقال: 53 - يا ساهرا ترنوا يعيني راقد ... ومشاهدا للأمر غير مشاهد 54 - تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي ... درك الجنان ونيل ملك خالد

55 - ونسيت أن الله أخرج آدم ... منها إلى الدنيا بذنب واحد (فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي) جواب الشرط الأول محذوف، أي: فإما يأتينكم مني هدى فاتبعوه. وقال ابن سراج: الشرط وجوابه نظير المبتدأ والخبر، ويجوز خبر المبتدأ جملة هي خبر ومبتدأ، فكذلك جواب الشرطة جملة شرط وجواب. (ولا تكونوا أول كافر به) أي: أول حزب أو قبيل كافر به، كما قال:

56 - وإذا هم طعموا فألام طاعم ... وإذا هم جاعوا فشر جياع وكأنه حذرهم أن يكونوا أئمة الكفر وقادة الضلال. (ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا) قال الحسن: هو الدنيا بحذافيرها. وقال ابن عباس: كان لكعب بين الأشراف وغيره مأكله على اليهود في كل مكان سنة فغيروا صفة الرسول لها. (واركعوا مع الركعين) ذكر الركوع مع تقدم ذكر الصلاة تأكيدا؛ لأنه لا ركوع في صلاة أهل الكتاب.

وقيل: إن المراد به صلاة الجماعة، فعبر عنها بالركوع؛ لأنه أول ما يعرف به المرء مصليا. وقيل: أراد الركوع اللغوي وهو التذلل والخضوع، أي: اخضعوا مع الخاضعين. قال السعدي: 57 - ولا تهين الكريم علك أن ... تركع يوما والدهر قد رفعه (وإنها لكبيرة) أي: الاستعانة بالصبر والصلاة وكل واحد منهما لكبيرة. وقيل: بل رد اللفظ إلى أهم المذكورين أو إلى أقربهما، كما قال السعدي:

58 - لكل هم من الهموم سعة ... والمسى والصبح لا فلاح معه (الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم) أي: ملاقوه بذنوبهم وتقصيرهم. وقيل: يظنون أنهم [ملاقوه] في كل حينٍ -لشدة مراقبتهم الموت- فيخافونه. وقيل: يظنون أنهم ملاقو ثوابه، ويجب أن يكون ذلك على الظن والطمع، لا القطع عليه والحتم به كما في قول إبراهيم عليه السلام (والذي أطمع أنه يغفر لي خطيئتي) وإذا كان [لإجراء] الظن على [حقيقته] هذه الوجوه فلا

معنى لحمله على العلم وإن جاء ذلك كما قال دريد: 59 - ولما رأيت الخيل قبلا كأنها ... جراد تبارى وجهه الريح [مغتدي] 60 - فقلت لهم ظنوا بألفى مدجج ... سراتهم في الفارسي المسرد (لا تجزي) لا تغني، جزت: أغنت في الحجازية الفصحى، وفي التميمية أجزأت.

وقال المفضل: تجزي تقضي، وتجزأ مهموزة تكفي وتغني. والدليل على الأول قول أبي قيس بن الأسلت" 61 - لا نألم القتل ونجزي به ال ... أعداء كيل الصاع بالصاع 62 - [نذودهم] عنا بمستنة ... ذات عرانين ودفاع وعلى [القول الثاني]: 63 - لقد آليت أغدر في جداع ... ولو منيت أمات الرباع.

64 - لأن الغدر في الأقوام عار ... وأن المرأيجزأ بالكراع (بلاء من ربكم) يقال في الاختيار بالخير والشر البلاء. وقيل: البلاء في الشر، والإبلاء في الخير، واستعملهما زهير في الخير فقال: 65 - جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم ... وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو

والآية تحتمل المعنيين، في ذبح أبنائكم بلاء أي: محنة، وفي تنجيتكم من آل فرعون بلاء أي: نعمة. (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة) أربعين ليلة ليس بظرفٍ؛ لأن الوعد ليس فيها كلها ولا بعضها، وإنما الوعد انقضاء الأربعين فيكون نصبها على أنه المفعول الثاني. ومعنى المواعدة على أنه كان من موسى وعد أيضا، أو قبوله الوعد وتحريه للوفاء به كان [كالوعد]. وذم اليهود المخاطبين باتخاذ العجل وإن لم يفعلوا؛ لرضاهم بما فعلته أسلافهم، وكذلك المنة بقوله: (وإذ نجيناكم).

كما قال الأخطل لجرير: 66 - ولقد سما لكم الهنديل فنالكم ... بإراب حيث نفسم الأنفالا 67 - في فيلق يدعو الأراقم لم يكن ... فرسانه عزلا ولا أكفالا ولم يدرك جرير الهذيل، وإنما كان ذلك يوما جاهليا لتغلب على تميم. (وإذ ءاتينا موسى الكتب والفرقان) ليس هو كالكلام المثنى الذي يفيد فائدة واحدة. كقولهم بعدا وسحقا، ولكن كقوله: (إنه حكيم عليم).

وقيل: الفرقان: فرق الله بهم البحر. وقيل: إنه الفرج من الكرب كقوله: (يجعل لكم فرقانا) أي فرجا، ومخرجا. وقيل: الفرقان صفة الكتاب والواو زائدة. كقول الشاعر: 68 - إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم. (فاقتلوا أنفسكم) ذلك عقوبة للذين لم ينكرو [ا] العجل مع العلم بفساده كراهة القتال.

وتأويله: قتل البعض بعضا، [أ] والاستسلام للقتل، ولا يجوز مباشرة كل واحد قتل نفسه؛ لأن الأوامر الشرعية مصالح، والمصلحة في المستقبل، وليس للمرء بعد قتله نفسه حال يصلح فيها، وإنما لم يسقط القتل بالتوبة؛ لأنه وجب حد [اً] لا جزاء، وحكى الحكم بن عمر الرعيني قال:

أرسلني خالد بن عبد الله القسري: إلى قتادة أسأله عن حروف من القرآن منها قوله (فاقتلوا أنفسكم) [فقال: إنما هو فاقتالوا] من الاستقالة، والرواية المعروفة عن قتادة "أنهم غشيتهم ظلمة فقاموا يتناحرون بالشفار، فلما بلغ الله نقمته منهم، انجلت الظلمة وسقطت الشفار من أيديهم، فكان ذلك للحي توبة [وللمقتول] شهادة ".

(ثم بعثنكم) أحييانكم، وذلك أنهم لما سمعوا كلام الله لموسى قالوا: ولكنا لا نعلم أنه كلام الله فليظهر لنا جهرة، أي عيانا لنشهد لك عند بني اسرائيل، فأماتهم الله بالصاعقة، ثم أحياهم إلى بقية آجالهم. وقيل: أنهم سمعوا جرس الكلام، ولم يفهمه إلا موسى ولم يطلع موسى عليه أحداً، لقوله: (وقربنه نجيا) أي: ناجيناه على خلوة. و (القرية) التي أمروا بدخولها بيت المقدس. و (الباب) باب القبة التي كان بصلي إليها موسى.

(سجدا) أي: ركعا خضعا. كما قال: 69 - فكلتاهما خرت وأسجد رأسها ... كما سجدت نصرانة لم تحنف وليس المراد السجود الشرعي -[و] هو إلصاق الوجه بالأرض- لأنه يمتنع الدخول معه. ولكن حالهم في طلب التوبة وحط الخطيئة توجب أن يدخلوه خاضعين. (حطة) أي: دخولنا الباب سجدا حطة لذنوبنا.

والذين بدلوا إما قولا، فإنهم قالوا "حنطة" بدل "حطة" استهزاءً، وإما فعلا فإنهم دخلوا على استاههم. والرجز: العذاب من الرجز [و] هو داءٌ يصيب الإبل، وذلك العذاب أنهم طعنوا فهلك كبارهم. وانفجار الماء من الحجر لا نقول: إنه كان فيه فظهر، ولكن إما أن يكون الله عز وجل جعل يخلقه ويجريه، أو يجعل بعض الأجسام المتصلة بذلك الحجر ماء بأعراض يخلقها فيه؛ لأن الجواهر واحدة في الطينة، ثم [تختلف وتتبدل] بالأعراض المخلوقة فيها. كما شرحنا هذا النوع من المعنى في كتاب "الغلالة"

"في مسألة اليمين على شرب ماء [من الكوز] ولا ماء في الكوز". وإنما جاء في الأعراف (انبجست) والانبجاس: رشح الماء، وهاهنا انفجرت وهو خروجه بكثرة وغزارة؛ لأنه انبجس الماء ابتداء ثم انفجر كما قال في العصا مرة إنها جان، وهي الحية الصغيرة؛ لأنها ابتدأت كذلك، ومرة إنها ثعبان وهي الكبيرة؛ لأنها انتهت إليه. (ولا تعثوا) عاث وعثا: إذا أفسد فساد خبط وعدوان، وقال (مفسدين)؛ لأن بعض العيث باطنه صلاح، كخرق [الخضر] السفينة وقتله الغلام. والفوم: الحنطة. حكي المبرد "فوموا لنا" وأنشد:

70 - قد كنت أغنى الناس شخصا واحدا ... ورد المدينة عن زراعة فوم [و] قيل: بل هو الثوم. فأبدلت الثاء فاء، كقولهم جدث [وجدف] وأنشد الكسائي: 71 - كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة ... فيها الفراديس والفومان والبصل والفوم والبصل لا يليق بألفاظ القرآن في فصاحته [وجلالة مرتبته] ولكنها حكاية عنهم، وإخبار عن دناءة أنفسهم كما حكي قولهم [راعنا]

(وضربت عليهم الذلة) أي: الجزية. (والمسكنة) الخضوع. وذلك دأب اليهود، ولم تضرب عليهم الذلة بسؤالهم هذه الحبوب؛ لأنه أمر مباح، ولأن في شهوة الإنسان -التي هي من خلق الله- تلون الأطعمة عليه، وقلة الصبر على طعام واحد، ولذلك اتصلت بمسألتهم الإجابة بقوله: (فإن لكم ما سألتم) ولكن الذلة والمسكنة بما ذكره الله بعد، وهو (ذلك بأنهم كانوا يكفرون). (إن الذين آمنوا والذين هادوا) أي من آمن بمحمدٍ، ومن هو من أهل الكتاب كلهم سواء إذا آمنوا في مستقبل عمرهم وعملوا الصالحات (فلهم أجرهم) لا تختلف حال الآخر باختلاف الأحوال المتقدمة، وعلى هذا قوله: (يأيها الذين آمنوا ءامنوا بالله) أي: في مستقبل عمركم.

وسموا اليهود؛ لأنهم هادوا أي: تابوا. وقيل: للنسبة إلى [يهوذا] بن يعقوب. والنصاري: لنزول عيسى قرية ناصرة، فكان يقال له عيسى الناصري، ثم نسب قومه إليه. والصابئون قوم يقرؤون الزبور، ويصلون [إلى] القبلة، لكنهم يعظمون الكواكب لا على وجه العبادة. وهذا مذهب أبي حنيفة رحمة الله فيهم حتى جوز التزوج بنسائهم.

وقيل: بل هم قوم انحرفوا ومالوا عن الأديان؛ لأنه مهموز من صبأت النجوم، وصبأ ناب الصبي، وصبأ الرجل إذا خرج عن أرضه. فكأنهم خرجوا عن الأديان. وغير مهموز وبه قرأ نافع من صبا يصبوا: إذا مال إلى الشيء. قال وضاح [اليمن]: 72 - صبا قلبي ومال إليك ميلا ... وأرقني خيالك يا أثيلا

73 - يمانية تلم بنا فتبدى ... دقيق محاسن وتُكنُّ غيّلا فعلى هذا سموا صابئين لأنهم مالوا عن الأديان، ويجوز أن يكون الصابى غير مهموز بمعنى المهموز إلا أنه قلبت الهمزة، وقلب الهمز يجوز عند [غير] سيبويه، وسيبويه لا يجيزه فى غير الشعر. قال أبو زيد: قلت لسيبويه: سمعتُ قريتَ وأخطيتَ، قال: فكيف تقول فى المضارع؟ قلت: أقرأُ. فقال: حسبك: [قل] لى كيف يصح همز بعض الأمثلة وقلب بعض؟ وإنما ارتفع (ولا خوف) لأن الأحسن فى "لا، نكرة" أنه إذا

عطف على اسمها اسم أن يرتفعا على تقدير جواب السؤال. قال: 74 - وما هجرتكِ حتى قلتِ معلنةً ... لا ناقةٌ لى في هذا ولا جملُ (ورفعنا فوقكم الطور) قيل: إنه واو الحال كأنه: وإذ أخذنا ميثاقكم فى حال رفع الطور. [و] الأحسن أن تكون واو العطف، فإنها لا توجب الترتيب؛ لأن الماضى لايكون حالاً إلا بقد. (خاسئي) مبعدين، أي: عن الرحمة خسأت الكلبَ خسْأً فخسأ خُسُؤ [اً].

(فجعلنها) أي: المسخة التى مسخوها، ويجوز أن يعود الضمير إلى العقوبة، فإن النكال: هى العقوبة التى ينكل بها عن [الإقدام]، من النكل وهو القيد. (لما بين يديها وما خلفها) من القرى. وقيل: من الأمم الآتية والماضية. (أتتخذنا هزوا)

الهزء حدث، فلا يصلح أن يكون مفعولا ثانيا إلا أن يكون التقدير أصحاب هزء، أو يكون الهزء المهزوء مثل خلق الله، وهذا [ضرب] بغداد، ومثل الصيد فى قوله: (أحل لكم صيد البحر)، وتخفيف الزاى من هزء لتوالي ضمتين، وقلب الهمز واو؛ لأنها أخف من همزة بعد ضمتين. والفارض: المسنة. والفاقع: الخالص الصفرة. (لا شية) لا علامة من لون آخر، يقال: وشَى يشِى وشْياً وشِيَة. (وما كادوا يفعلون) لغلاء ثمنها، وقيل: لخوف الفضيحة.

(فادارئتم) تدافعتم، أى دفع كل قبيل عن نفسه، وكان أصله تدارأتم فأدغمت التاء فى الدال، وجلبت لسكونها ألف الوصل، وأصل هذه الكلمة من الدرء وهو الاعوجاج. قال الهذليُّ: 75 - تهال العقاب [أن] تمر بِرَيْدِهِ ... وتَرْمى دررُه دونَه بالأجادلِ (فقلنا اضربوه ببعضها) فيه حذف، وهو ليحيى فضرب فحيى، والحكمة فيه أن يكون الأمر فى

وقت إحيائه إليهم، ثم بضربهم إياه بمواتٍ، فيكون ظهور القتيل بالقتيل أقوم فى الحجة وأبعد من الظِّنةِ. وسبب القصة: أن شيخا موسرا قتله ورثته بنو أخيه وألقوه فى محلة أخرى، وطلبوا الدية، فسألوا موسى فقال: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) فظنوه هزء [اً] بهم لمَّا لمْ يكن فى ظاهره جوابهم، فاستعاذ بالله من الهزء، وعدَّه من الجهل.

والتقديم والتأخير فى أشباه هذه الآيات على مذهب العرب قال الأنصارى: 76 - قالت ولم تقصد لقيل الخنا ... مهلا لقد أبلغت أسماعي 77 - أنْكرتِهِ حين توسمْتِه ... والحرب غُول ذاتِ أوجاعِ وذلك [أن] أبا قيس هذا، غاب فى [حرب] الأوس والخزرج عن أهله شهرا، حتى شَحُبَ وتغيَّر، فجاء ليلة إلى امرأته كبشة بنت ضمرة، فدفعتـ[ـهُ] وأنكرته، فعرفها نفسه فذلك قولها: ولم تقصد لقيل الخنا أنكرته حين توسمته، وجوابه وعذره عن التغير: مهلا لقد أبلغت أسماعي، والحرب غُول ذاتِ أوجاعِ، وكذلك فى قصيدة تأبط شراً:

78 - [يا عيد] مالك من شوق وإبراق أبيات تقديم وتأخير . (فهى كالحجارة أو أشد) قال الفراء: معناه بل أشد. كقول ذى الرمة: 79 - بَدَتْ مثل قرن الشمس في رونق الضُّحى ... وصورتِها أو أنتِ في العين أَمْلَح

وقال قطرب: هى بمعنى الواو كقول توبة بنت الحُمَيِّر: 80 - وقد زعمت ليلى بأني فاجر ... لنفسي تُقاها أو عليها فجورها والمبرد يرد ذلك عليهما، ويحملها على الشك كما هو وضعها. ويقول: إن هذا الكلام خطاب من الله لخلقه، فكأنه قال: (أو أشد قسوة) عندكم، كقوله (فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) وقوله: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ).

وأما البيتان فأو فيهما أيضا على أصلها من الشك، أما بيت ذي الرمة فإن الشك في مثله أدمث وأغزل كقوله: 81 - أيا ظبية الوعساء بين [جلاجل] ... وبين النقا أأنت أمْ أُمُّ سالمِ وأما بيت توبة، فتقديره: لنفسى تقاها إن اتقت، وإن فجرت عليها فجورها. بين ذلك أن أحوال القلوب تختلف وقسوتها تزداد وتنتقص، فلم يخبر عنها بحال واحدة. (يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) قرأ قتادة يهبُطُ، على أصل الباب أن فَعَلَ المتعدى يجىء على يَفْعِلُ مكسور العين كضرب يضرب، و [حبس يحبس]، وفَعَلَ غير المتعدي يجىء على يَفْعُلُ مضموم العين، كقعد يقعد، وخرج يخرج.

وقيل: إن [هبط هنا] متعد ومعناه لما يهبط غيره [من طاعة الله]، أي: إذ رآه [الإنسان] خشع لطاعة الله، فحذف المفعول تخفيفا لدلالة [المكان] عليه. وقد جاء هبط متعديا كما جاء لازماً قال: 82 - ما راعني إلا جناح هابطا ... على البيوت قوطه العلابطا فأعلمه في القوط، وأما من قال: إن يهبط لازم، فتأويل هبوط الحجارة من خشية الله -مع أنه جماد لا يعرف الخشية- ما قاله المبرد: إن الذي فيها من الهبوط والهوى لاسيما عند الرجفة العظيمة [والزلزلة] الهائلة، وانقياد لأمر الله الذي لو كان مثله من حي قادر لدل على أنه خاش لله، كما قال جرير: 83 - لما أتى خبر الزبير تهدمت ... سور المدينة والجبال الخشع

وقال آخر: 84 - لها حافر مثل قعب الوليد ... تتخذ الفأر فيه مغارا أي: لو اتخذت فيه مغارا لغوره وتقعبه لوسعها؛ [لا أنها تتخذه]، ومثله مسألة الكتاب: "أخذتنا بالجود وفوقه" أي: لو كان فوق الجود شيء من المطر قد أخذتنا به. فكلام العرب لمن عرفه -ومن الذي يعرفه-؟ ألطف من السحر وأنقى من غرة النجم، ألا ترى إلى عنترة كيف أسفر عن وجه هذا المعني فقال: 85 - لو كان يدري ما المحاورة اشتكي ... ولكان لو علم الكلام مكلمي

وقالت الأعرابية: 86 - وأبرزتني للناس حتى تركتني ... لهم غرضا أرمي وأنت سليم 87 - ولو أن قولا يكلم الجلد قد بدا ... بجلدي من قول الوشاة كلوم وقال آخر: 88 - لو كان هذا الشمس تصبغ لمة ... صبغت شواتي طول ما أنا حاسر 89 - أو شاب عين شاب أسود ناظري ... من طول ما أنا في العجائب ناظر (وأحاطت به خطيئته)

أهلكته وأربقته كقوله: (إلا أن يحاط بكم) (وأحيط بثمره). وقيل: أحاطت بحسنته خطيئته فأحبطتها إذ كان المحيط أكثر من المحاط به. (إلا أماني) إلا أكاذيب. وقيل: إلا التلاوة الظاهرة. وقيل: إلا ما يقدرونه على رأيهم وأهوائهم، ومنه المنا وهو القدر. (وقولوا للناس حسنا)

أي قولا ذا حسن. وقيل: حُسْنا أي: حَسَنا، فأقيم المصدر مقام الاسم. كقولك: رجل عدل ورضي، ويجوز أن يكون الحسن والحسن كلاهما اسما، كالعرب والعرب والعجم والعجم. (أقررتم) رضيتم. قال الفرزدق: 90 - ألست كليبيا إذا سيم سوءة ... أقر كإقرار الحليلة للبعل 91 - وكل كليبي صفيحة وجهه ... أذل لأقدام الرجال من النعل (ثم أنتم هؤلاء)

أي يا هؤلاء. وقيل: تقديره ثم أنتم تقتلون، وهؤلاء تأكيد لأنتم. (وقفينا) أتبعنا، قفوته سرت في قفاه. وروح القدس: جبريل عن الحسن.

والإنجيل، عن ابن زيد. وعن ابن عباس: أنه الاسم الذي كان يحيى الموتي. والأول أقرب؛ لأن الملائكة هم الأرواح الطاهرة؛ ولأن جبريل عليه السلام هو النازل بالوحي الذي يحيي به العقول حياة الأبدان بالأرواح الهوائية، وكذلك الإضافة إلى القدس توجب هذا على اختلافهم أنه الله، أو الطهر، أو البركة. وتخصيص جبريل بعيسى؛ لأنه أيد به وهو في المهد بل نفخه.

(غلف) جمع أغلف وهو الذي لا يفهم كأن قلبه في غلاف يقال سيف أغلف وقوس غلفاء، ورجل أغلف لم يختن. وقيل: غلف أوعية للعلم، أي: قلوبنا قد أمتلأت من العلم فلا موضع فيها [لما] تقول. فالأول صحيح؛ لأن كثرة العلم لا تمنع من المزيد بل تعين عليه. (فقليلا ما يؤمنون) أي: قليل منهم يؤمنون، كقوله (فلا يؤمنون إلا قليلا). وقيل: معناه بقليل يؤمنون، فترجع القلة إلى ما يؤمنون به، وفي الأول إلى مؤمنيهم.

(مصدق لما معهم) من صفة الرسول المخبر به في التوراة، وأنهم به ينصرون، فكانوا يستفتحون بمبعثه، ويستنصرون حتى قال لهم معاذ بن جبل، وبشر بن البراء: اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد وتصفونه. وجواب (لما جاءهم) محذوف عند الأخفض لدلالة الحال عليه، وعند المبرد جوابه وجواب (فلما جاءهم) المكرر تأكيد [اً] هو قوله (كفروا به). وقال الفراء: فاء (فلما) جواب (ولما)، و (كفروا) جواب (فلما) وكقولك قوله: (فإما يأتينكم مني هدي فمن تبع هداي).

(بئسما اشتروا به) أي بئس [شيئا] اشتروا به أي باعوا به (أنفسهم) لأن الغرض واحد، وهو إبدال ملك بملك. وموضع (أن يكفروا) خفض على موضع الهاء في (به) على البدل عند البصريين، والتكرير عند الكوفيين. ويجوز فعله على قولك: نعم رجلا زيد، كأنه قيل: من الممدوح؟ فقلت: هو زيد. (وهو الحق مصدقا) انتصب مصدقا بمعنى الحال، والعامل فيه معني الفعل، كقولك هو زيد حقا، وهو زيد معروفا، فأما هو زيد قائما، فلا يصح حالا؛ لأن الحال لا يعمل فيها إلا فعل أو معني فعلٍ، وصح هو زيد معروفا؛ لأن تقديره: أعرف ذلك عرفانا.

وإنما جاز (فلم تقتلون)، (من قبل) والمراد: لم قتلتم؛ لأنه كالصفة اللازمة لهم، كقولك [لـ] لكذاب لم تكذب؟ وأنت تريد: لما كذبت؟ ولأن قرينة الحال تصرف اللفظ إلى الماضي وإن كانت الصيغة للاستقبال، كقولك: من دخل داري -إذا علقت به الجزاء- انصرفت إلى المستقبل. (ولن يتمنوه أبدا) اعترض ابن الرواندي بأنهم ربما تمنوا بقلوبهم، فمن أين علم أنهن لن يتمنوا بالقلوب، فيبطل التحدي بالتمني. والجواب: أن التمني لا يعرف إلا بالقول، وله صيغة في اللغة وهي ليت، وهي لا يخاطب بالتمني والمراد مالا يمكن الوقوف [عليه].

(بمزحزحه) بمباعده. قال [المتلمس]: 92 - على كلهم أسى وللأصل زلفة ... فزحزح عن الأدنين أن يتصدعوا 93 - وقد كان إخواني كريما جوارهم ... ولكن أصل العود من حيث [ينزع]. (فإنه نزله على قلبك) ردا لمعاداتهم جبريل، أي: لو نزله غير جبريل لنزله أيضا على الحدِّ.

(أو كلما عهدوا) العهد الذي نبد أنهم أعانوا قريشا يوم الأحزاب. (واتبعوا) يعني اليهود. (ما تتلوا الشياطين) يعني شياطين الإنس من السحر. (وما كفر سليمن) ما سحر؛ لأن السحر عند الله كفر، وذلك أن اليهود تنكر نيوة سليمان عليه السلام، [وتزعم] أنه ظهر بعد موته من تحت كرسيه كتب السحرة، وهو إما فعلها سليمان لئلا يعمل بها الناس.

أو السحرة بعده افتعلو [ها] لتفخيم السحر تمويها أنه كان يستسخر الجن والإنس؛ به ولذلك قال: (تتلوا [الشياطين] على ملك سليمان) تنبيها على كذبهم؛ لأن في الصديق يقال تلا عنه، وفي الكذب تلا عليه، كما قال الفرزدق في رجل كان يخطئه في بعض شعر [هِ] ويلحنُهُ: 94 - لقد كان في مغدان والفيل زاجر ... لعنبسة الراوي على القصائدا والسحر: تخييل قلب الشيء عن حقيقته بسبب خفي، وهو من نتائج الكلمات المؤلفة من الشرك، والأفعال الصادرة عن الإفك مع تعظيم شياطين

الجن. وهذا لا يليق شيء منه بملك سليمان. (وما أنزل على الملكين) أي: واتبعوا ما أنزل على الملكين، والذي أنزل على لسان الملكين من السحر؛ ليعلما ما السحر؟ وكيف [الاحتيال] به؟ إذ كانت السحرة كثروا في ذلك الزمان، فأُنزلا ليعلِّما الناس فساد السحر ليجتنبوه، كما روي أن رجلا قال لعمر: أما أن فلا أعرف الشر. فقال: أوشك أن تقع فيه، ومنه قيل: 95 - عرفت الشر لا للشـ ... ـرِّ ولكن لتوقِّيهِ 96 - ومن لا يعرف الشر من الـ ... ـناس يقع فيه

(إنما نحن فتنة) خبرة، فتنت الذهب [اختبرته] أي: يظهر بما [تتعلمون] منا حالكم في اجتناب السحر الذي نعلم فساده والعمل، به كما يظهر حال المكلف المبتلى بكل ما نهي عنه. (فيتعلمون منهما) أي مكان ما علماهم من تقبيح السحر، وفساده والاحتراس من مضارِّه، ما يفرقون به، كقول الشاعر: 97 - جمعت من الخيرات وطبا وعلبةً ... [وصرا] لأخلاف المضابرة البزل 98 - ومن [كل] أخلاق الكرام [نميمة] ... وسعيا على الجار المجاور بالمحل

وقال آخر: 99 - كأن قد حضرت الناس يوم تقـ ... ـسمت مكارمهم فاخترت منهن أربعا 100 - إعارة سمع كل مغتاب صاحب ... وتأبي لعيب الناس إلا تتبعا 101 - وأعظم من هذين أنك تدعي ... البراءة من عيب البرية أجمعا 102 - وأنك لو قارفت فعل إساءة ... وجوزيت بالحسن جحدتهما معا وتفريق الساحر بين المرء وزوجه بالتبغيض. وقيل: إذا عمل بالسحر كفر، فحرمت عليه زوجته. وابن بحر يذهب إلى الجحد في (ما أنزل) ويصرف (فيتعلمون منهما) إلى السحر والكفر إذ تقدم الدليل عليهما وهو: (ولكن الشياطين كفروا).

وإنما دعاه إلى ترك الظاهر، ومخالفة من يقدمه، تحاشيه من إضافة السحر إلى الملائكة وأنه أضاف القبيح، وإنزاله إلى الله، و [لم] يحضروه أن تعليم القبيح [للاجتناب] عنه واجب، وأن علمه لا يناسب العمل. (بإذن الله) بعلم الله. وقيل: بتخلية الله. وقيل: بفعل الله وإرادته؛ لأن الضرر الحاصل بالسحر -وإن كان لا يرضاه الله- فهو من فعله عند السبب الواقع من الساحر، كما لو سقاه سما فهلك به. وإنما قال: (لو كانوا يعلمون) مع قوله: (ولقد علموا) لأنه في فريقين: فريق عاند، وفريق جهل.

وقيل: إنما نفي العلم عنهم مع علمهم؛ لأنهم لم يعلموا بما علموا، فكأنهم لم يعلموا، كما وصف كعب بن زهير ذئباً تبعاه ليصيبا من زاده: 103 - لنا راعيا سوء مضيعان منهما ... أبو جعدة العادي وعرفاء جيأل 104 - إذا حضراني قلت لو تعلمانه ... ألم تعلما أني من الزاد مرمل؟ (ولو أنهم ءامنوا) محذوف الجواب؛ لأن شرط الفعل بلو يقتضي الجواب بالفعل، كأنه قيل: ولو أنهم آمنوا لأثيبوا. ولام (لمثوبة) لام الابتداء، كقولك: علمت لأنت خير منه.

(رعنا) أي: ارعنا سمعك كما نرعيك، فنهوا عن لفظ المفاعلة [لأنها] تنبئ عن المماثلة. (انظرنا) افهمنا. وقيل: انظر إلينا. وقيل: انتظرنا كقول المثقب: 105 - فإن يك صدر هذا اليوم ولى ... فإن غدا لناظره قريب

(ما ننسخ من ءاية) النسخ رفع حكم شرعي إلى بدل منه كنسخ الشمس بالظل. وقيل: إنه بيان مدة المصلحة، والمصالح تختلف بالأوقات والأعيان والأحوال، فكذلك الأحكام، ألا ترى أن الله يصرف بين السراء والضراء [لمصالح] العباد. وقول ابن بحر في امتناع نسخ من القرآن ظاهر الخلاف، وتأويله بين التعسف. وهذه الآية بعد نزول السور الكثيرة على وجه الشرط والجزاء الخالص للاستقبال، وعلى أنها نزلت منبهة على جميع حكم النسخ وأقسامه، من إثبات حكمه أبدا وإلى غاية، ومن إزالة حكمه ببدل، ومن إزالته إلى بدل، وإلى المثل، وإلى الخير، ونمن إزالة نفس الحفظ والكتابة، وعلى أن الآية إذا أطلقت فهم بها آيات القرآن، وعلى أنه إذا لم يمتنع نسخ ما تقدم من الكتب بالقرآن، لا يمتنع نسخ بعضه ببعض، وعلى أن نسخ القبلة الأولى، وثبات الواحد [للعشرة]، والتخيير في الصوم، وتقديم الصدقة قبل مناجاة الرسول، ومهادنة المشركين، وإتيان الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا، وعدة

المتوفى عنها زوجها إلى الحول، كلها في القرآن. وقراءة (ما ننسخ) لا وجه لها؛ لأنه إن قيل: نسخ وأنسخ واحد فلم نسمع بذلك. وإن قيل: إنه همزة النقل: أي ما ننزل من آية أو ننسها نأت بخير منها، فليس كل ما أنزل من القرآن أتي بخير منه. وإن قيل: نحمل على نسخها كقوله (فأجاءها المخاض) أي: حملها على المجئ، فليس غير الله ينسخ؛ ليكون هو حامل الناسخ على النسخ.

وكذلك: نجدها منسوخة، كقوله (حتى أنسوكم ذكري) أي: وجدوكم ناسين تاركين؛ لأنه يقتضي أن يكون النسخ من الغير، أو متقدما على وجوده كذلك. وإن قيل: نجعل لها نسخا، كقوله: (ثم أماته فأقبره) أي: جعل له قبرا فهو بعيد من الاستعمال أيضا. (أو ننسها) أو نتركها فلا نبدلها كقوله: (نسوا الله فنسيهم)، أي: تركوا طاعته، فترك رحمتهم، وكقوله: (واذكر ربك إذا نسيت)، أي: تركت، إذ لا يمكن الذكر مع النسيان.

قال: 106 - وما نسي الرامون لي في أديمكم ... مصحا ولكني أرى [مترقعا] وقيل: ننسها من قلوب الحافظين، وذلك إما بترك تلاوته فنسي على الأيام، أو في الحال معجزة القرآن، وننسأها: نؤخرُها فلا ننسخها، يقال: نسأته. قال ابن هرمه:

107 - أعلم أني طريق عالية ... من المنايا قد كنت أنسأها 108 - إن مصاب المنون يتبعه ... ولو تمادي لابد مخطؤها وهذا التأخير على أوجه: تأخير التلاوة والحكم فلا ينزل ألبتة، وتأخير التلاوة مع بقاء الحكم كآية الرجم، وتأخير الحكم مع بقاء التلاوة كسائر ما ننسخ من القرآن. (نأت بخير منها) في التخفيف، كالأمر بقتال الواحد العشرة نسخ بقتال الواحد الاثنين، كما قال عز وجل: (الآن خفف الله عنكم). وقيل: بخير منها في المصلحة، وهذا أولى؛ لأن الله يدبر عباده على ما هو أصلح لهم، لا على ما هو أخف عليهم، ولأن الأخف داخل في الأصلح. (أم تريدون أن تسئلوا رسولكم كما سُئِلَ موسى)

وذلك أن قريشا سألت أن يحول لهم الصفا ذهبا، فقال: لكم كالمائدة لبني اسرائيل فسكتوا. (فاعفوا) فاتركوهم (واصفحوا) أعرضوا بصفحة وجوهكم عنهم، فيكون الصفح بمعنى: إعراض الصفحة، كما أن الإعراض بها إقبال في قول الشاعر: 109 - أفاطم أعرضي قبل المنايا ... كفى بالموت صدا واجتنابا أي: أقبلي بعرض وجهك. (هودا) يهوداً أُسقطت الياء الزائدة.

وقال الأخفش: هو جمع هائد كحول وحائل. (أسلم وجهه لله) أخلص عبادته كقوله (رجلا سالما) أي: خالصا. قال زيد بن عمرو بن نفيل: 110 - فأسلمت وجهي لمن أسلمت ... له الأرض تحمل صخرا ثقالا 111 - وأسلمت نفسي لمن أسلمت ... له المزن تحمل ماء زلالا وإنما وحد (فله أجره) وجمع (ولا خوف عليهم) لأن (من) من أسماء الجنس. قال الفرزدق:

112 - وأطلس عسال وما كان صاحبا ... رفعت أثاري موهنا فأتاني 113 - تعش فإن عاهدتني لا تخونني ... نكن مثل من ياذئب يصطحبان (فأينما تولوا) قال ابن عباس: نزلت في سفر من الصحابة صلوا بالتحري في ليلة مظلمة [لغير] القبلة.

وعن [ابن] عمر: أنه أنها في صلاة السفر راكبا، وصلاة الخوف إذا تزاحفوا وتسايفوا. وقيل: أنه في تقرر معني نسخ القبلة الأولى، حين اعترضت اليهود عليه، فكأنه قيل: أن المشرق والمغرب لله الذي له ولا مكان في موضع منهما، ووجوه الأشياء وجهات الأماكن كلها له، فأينما تولوا فثم الوجه الذي يتقربون به إلى

الله، أو فثمَّ [الاتجاه] إلى الله، فوضع الفعل مكان الافتعال، والاسم موضع المصدر، كما قال: 114 - استغفر الله ذنبا لست محصيه ... رب العباد إليه الوجه والعمل والواسع: من سعة الرحمة والنعمة، فيصرف عباده على ما هو أصلح لهم وأعود عليهم. (كل له قنتون) دائمون تحت تدبيره وتقديره، فيدخل فيه البر والفاجر، والصامت والناطق. وكذلك على تأويل من قال: خاضعون لقدرته وشاهدون بما فيهم من آثار الصنعة على وحدانيته. كما قيل: 115 - ولله في كل تحريكة ... وتسكينة أبدا شاهد

116 - وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد (أمراً فإنما يقول له كن فيكون) قيل: إنه حقيقة في الأمر، وأن الأمر من الله جل وعز جامع لكل ما يحدثه عن إبداع واختراع، أو يخلقه على توليد وترتيب، فكل بأمره عند قوله (كن). وقيل: أنه على التمثيل أي يطيع الكون لأمره في الحال، كالشيء الذي يقال له كن فيكون، إلا أن هناك [قول]. كقول الشاعر: 117 - فقالت له العينان سمعا وطاعة ... وحدرتا كالدر لما يثقب ونظائره كثيرة.

وارتفاع (فيكون) إما على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي فهو يكون وإما على العطف وذلك أن (كن) أمر لفظا ولكن معناه الخبر، كقوله (اسمع بهم) أي: [ما أسمعهم] وتقديره: يقول له يكون، فيكون. ولا يجوز حمله على جواب الأمر؛ لأن الأمر وجوابه فيهما شرط وجزاء ولهذا يكون "إن" مقدرة فيها، وليس ذلك في (كن فيكون) ولأن جواب الأمر غير الأمر، مثل قولك: زرني فأكرمك. وقوله: (كن فيكون) واحد؛ لأن الكون الموجود هو الكون المأمور. والكسائي ينصب (فيكون) في سورتي النحل ويس [لا] على جواب الأمر بالفاء، ولكن بالعطف على قوله: (أن نقول) و (أن يقول)

(أو تأتينا آية) إنما لم يؤتوا ما سألوا؛ لأن صلاحهم فيها، أو فسادهم أو هلاكهم إذا عصوا بعدها، إو إصرارهم على التكذيب معها كما فعلته ثمود، أو لا يعلمه إلا الله. (وإذا ابتلى إبراهيم ربه) الابتلاء حقيقته الاختبار، ومجازه من الله تكليف ما يشق على الإنسان لينال بفعله الثواب. ولما كان أكثر ما يكلف بعضنا بعضا يجري على الاختبار والامتحان خاطبنا الله بما نتفاهم [به] في مثل هذا الموضع. وقال أبو بكر الرازي: من العدل أن يعاملنا الله في أوامره معاملة الممتحن المبتلى، لا [العالم] الخبير ليقع جزاؤه على عملنا، لا على علمه بنا.

والكلمات التي ابتلى بها هي: السنن العشر، خمسا في الجسد، وخمسا في الرأس وحده. وقيل: مناسك الحج. وقيل: بالنجوم حين استدل بها على التوحيد. وقيل: بالهجرة عن الوطن وبقري الأضياف في المال وبالذبح في الولد، وبالنار في البدن.

(مثابة) موضعا للثواب. وقيل: مرجعا ومصيرا. وأصله: مثوبة مفعلة من ثاب يثوب: إذا رجع، وذلك بما جعل الله في القلوب من تعظيم البيت، والحج [من] البلاد النائية والمواضع القاصية، ومن الرجوع إليه مرة بعد مرة وعاما بعد عام، قال الشاعر: 118 - مثابا لأفناء القبائل كلها ... تخب إليه اليعملات الذوامل

(وأمنا) أي: من ظهور الجبابرة عليه، وصد الحجيج عنه. وقيل: أمنا للخائف إذا عاذ به. [ولجأ] إليه، فقد كانت الجاهلية والإسلام يرى للحرم في الإنسان وغيره. قال الفرزدق: 119 - ألم يأته أني تخلل ناقتي ... بمكة أطراف الأراك النواعم 120 - مقلدة ترعى الأراك ورحلها ... بمكة ملقى عائذ بالمحارم

وقال كثير: 121 - [فدعني] أكن مادمت حيا حمامة ... من القاطنات البيت غير الروائم 122 - ونحن بحمد الله نتلو كتابه ... حلولا بهذا الخيف خيف المحارم 123 - بحيث الحمام أمن الروع ساكن ... وحيث العدو كالصديق المسالم (واتخذوا) الواو عطف على معني: (وإذ جعلنا البيت مثابة) لأنه يضمن ثوبوا إليه واتخذوا. و (مقام إبراهيم)

الموضع الذي فيه أثر قدمه عن الحسن، وعن ابن عباس "أن الحج كله مقام إبراهيم". (وارزق أهله من الثمرات من ءامن) كان عليه السلام سأل -لما جعله الله إماماً- أن يجعل ذريته كذلك، فقال عز وجل. (لا ينال عهدي الظالمين) فصار ذلك تعليما له في المسألة، وتأديبا، فتأدب به وخص بالدعاء المؤمنين. (واجعلنا مسلمين لك) أمدَّنا من التوفيق بما نبقى معه على الإسلام.

وقيل: إن المراد تسليم النفس وإخلاص العمل لله. (وتب علينا) أشعرنا التحرر عما تكرهه. وقيل: إنه على وجه السنة والتعليم ليقتدي بهما فيه. (ربنا وابعث فيهم) أي: في ذريتهم التي سأل أن يجعلها مسلمة وهم أمة محمد. (رسولاً) وهو محمد صلى الله عليه وباتفاق جميع المفسرين. ولذلك قال عليه السلام: "أنا دعوة أبي إبراهيم وبشارة [أخي] عيسى". (سَفِهَ نفسه)

قال ابن الأعرابي: سفه الرجل يسفه سفاهة وسفاها إذا جهل، وسفه نفسه يسفهها إذا جهلها وأنشد: 124 - هيهات قد سفهت أمية رأيها ... فاستجهلت حلماؤها سفهاؤها كلاهما بالرفع كما نشرحه في كتاب بعد هذا مفرد في معاني أبيات هذا الكتاب. وقال الفراء: في انتصاب نفسه أنها على التشبيه بالتمييز، كقوله عز وجل: (فإذا طبن لكم عن شيء منه نفساً)

وأنكر [عليه] الزجاج وقال: لا يحتمل التمييز التعريف، والإضافة عرفت النفس. واعتذر للفراء: أن الانفصال مقدر في هذه الإضافة كما تقول: مررت برجل مثلك، أي مثل لك. وقال أبو عبيدة: سفه نفسه: أوبقها وأهلكها. ووجدت في شعر قيس بن عاصمٍ: 125 - رأيت الخمر طيبة وفيها ... خصائص تفسد الرجل الكريما 126 - فلا والله أشربها حياتي ... ولا أدعوا لها أبدا نديما 127 - إذا دارك حمياها تعلت ... طوالع تسفه الرجل الحليما

وقال الزجاج: معناه: سفه في نفسه [فلما] حذفت في، [انتصب الاسم] بنزع الخافض، كقوله تعالى: (أن تسترضغوا أولادكم) أي: لأولادكم، (ولا تعزموا عقدة النكاح) أي عليها. وقال الشاعر: 128 - نُغالي اللحم للأضياف نيئاً ... ونبدره إذا نضج القدور أي باللحم. وأصوب هذه الأقاويل وأمثالها، أن سفه نفسه بمعني جهلها؛ لأن الفعل إذا كان بمعنى آخر، تتسع العرب فتوقع أحدهما موقع الآخر. كما قال الله تعالى: (بطرت معيشتها) أي سخطتها؛ لأن البطر ساخط للنعمة يتعرض لزوالها، ألا ترى إلى [إجراء] المصدر على غير فعل إذا كان في معناه.

نحو قوله: 129 - . .... .... .... ... وإن شئتم تعاودنا عوادا ومنه قوله تعالى: (وتبتل إليه تبتيلا) قال النابغة: 130 - إذا رضيت على بنو قشير ... لعمر الله أعجبني رضاها أي: إذا رضيت عني ولكنه إذا رضيت عنه أحبته وأقبلت عليه.

وقال آخر: 131 - إذا ما امرؤ ولى [على] بوده ... وأدبر لم يصدد بإدبار [هِ] ودي أي ولى عني، ولكنه إذا ولى عنه صار عليه ولم يبق له. وقال بعض بني طيء في أحد جبليها: 132 - نلوذ في أم لنا ما تغتصب ... من الغمام ترتدي وتنتقب لأنه إذا كان لائذا به كان فيه، فكذلك من سفهت نفسه فقد جهل أمر نفسه، فجاء سفه نفسه على مثال جهل نفسه. (أم كنتم شهداء) معني أم هنا الجحد، وتقديرها الصناعي أنها منقطعة، ولا تكون منقطعة إلا بعد كلام متقدم عليها، فيجيء عند ذلك بمعني بل وألف الاستفهام، كأنه

قيل: بل أكنتم، أي: ما كنتم شهداء. (إذ حضر يعقوب الموت) وأنه وصى باليهودية فلا تنحلوا أنبيائي النحلة اليهودية فإنهم كلهم حنفاء. وأصل الحنف، الميل في الرجل، تميل كل واحدة من الإبهامين إلى صاحبتها، وكانت أم الأحنف ترقصه وتقول: 133 - والله لولا حنف برجله 134 - ودقة في ساقه من هزله 135 - ما كان في فتيانكم من مثله فكأن الملة الحنيفية مالت من الأديان الباطلة إلى الحق. وقيل: إن أصله الاستقامة. قال عمر رضي الله عنه:

136 - حمدت الله حين [هدى] فؤادي ... إلى الإسلام والدين الحنيف ثم المغوج الإبهامي [يدعى] أحنف إما عن [طريق] السلب، كالتمريض والتقذية، والإشكاء والإعتاب في سلب هذه المعاني وإزالتها، وإما على طريق النقل بالضد كما يقال للمهلكة: المفازة وللديغ: السليم. السبط عند المبرد: من سبط عليه العطاء إذا أكثر ووالى كأنه مقلوب بسط، وكلاهما من الكثرة. وهذه هي طريقة الاشتقاق الأكبر، وهي رجوع

معاني الكلمة على اختلاف تركيبها مثلا في الثلاثي إذا تصرف على ستة قوالب إلى أصل واحد ومادة واحدة. (فإن ءامنوا بمثل ما ءامنتم) قيل: إن الباء زائدة، أي مثل إيمانكم. وقيل: بل المثل زائد أي فإن آمنوا بما آمنتم. وهكذا كتب في مصحف بن مسعود وابن أنس وأبي صالح ولأنه ليس الله مثل، والمراد: الإيمان به عز وجل، إلا أن العرب تأتي بمثل في نحو هذا توكيدا، يقول الرجل: مثلي لا يفعل هذا، أي أنا لا أفعله. والشقاق: الاختلاف والافتراق: لأن كل مخالف في شق غير شق صاحبه، ويسوم صاحبه ما يشق عليه. (صبغة الله) دين الله. وكأن ما يظهر في المسلم من نور الطهارة وبهجة العبادة وسيما الزهادة شبيه باللون الذي يظهر في الشيء عند الصبغ.

(ومن أحسن من الله صبغة) وهي بما للإسلام من الخصائص والهيئات التي [تفضله] على سائل الشرائع، كما قيل: 137 - تلوح من دولة الأيام دولتكم ... كأنه ملة الإسلام في الملل (أمة وسطا) عدلا، قد اعتدلت أموركم فلا إفراط ولا تفريط. وقيل: وسطا خيارا. قال أبو النجم:

138 - كأنما أبكؤها أضفاها 139 - يجزيك من أبعدها أدناها 140 - ولو تخطيت إلى أقصاها 141 - لم تعرف الحجرة من وسطاها (لتكونوا شهداء على الناس) أي على أهل الكتاب في تبليغ محمد صلى الله عليه. وقيل: في تبليغ جميع الرسل، كما سمعتم من الرسول الصادق. وقيل: إنها الشهادة التي هي بيان الحجة وظهور الدلالة، أي ليبينوا للناس الحق، ويكون قولكم وإجماعكم حجة على كل أحد وفي كل وقت. ويوضح هذا قوله: (ويكون الرسول عليكم شهيدا) وتسمية الشهادة بينة لهذا، ولذلك التأويل الأول داخل في هذا؛ لأنهم إذا بينوا الحق للناس، وشاهدوا من قبل ومن رد، شهدوا على ذلك يوم القيامة كما أن الشاهد في الدنيا يتحمل ما شهد ثم يؤدي إلى الحاكم بعده.

(إلا لنعلم) قد مضى تأويله في قوله: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه). وقيل: إلا ليعلم رسولنا وحزبنا، [كما] يقال: بني الأمير، وجبي الوزير. وقيل: معناه إلا لنرى، فأقيم العلم مقام الرؤية كما أقيمت الرؤية مقام العلم في قوله (ألم تر كيف فعل ربك بأصحب الفيل) وكان مولده عليه السلام بعد عام الفيل بخمسين يوما، وقيل: إنه على ملاطفة الخطاب لمن لا

يعلم، كقولك لمن ينكر ذوب الذهب: فلينفخ عليه بالنار لنعلم أيذوب. قال كثير: 142 - تعان فاستنصف ليعلم أينا ... على عدوان الدار والنأي أوصل 143 - أمسته رزق العينين بالشرب لو دعا ... بعبرته الأروى لظلت تنزل 144 - أم السادر اللاهي الذي جل همه ... إذا ما جلا مزالة والتكحل وقيل [المعني]: لكي يكون الموجود كما نعلم؛ لأن الموجود لا يخالف معلومه عز وجل، فتعلق الموجود بالمعلوم، أشد من تعلق المسبب بالسبب. (قد نرى تقلب وجهك في السماء) سببه سببه أن الله كان أخبره بتحويل قبلة بيت المقدس، وكان يقلب الوجه تشوقا للوحي وتوقعا، لا تحريا للهوى وتتبعا إذ كان يقينا عنده صلى الله عليه أن الخير والصلاح فيما يؤمر به لا فيما يهواه أو يكرهه.

وعن ابن عباس: أنه كان يحب التوجيه إلى الكعبة لا عن هوى النفس ولكن لأنها [قبلة] العرب، فيكون في التحويل إليها [توفر] دواعي العرب إلى الإيمان ومباينة اليهود ولا سيما المنافين منهم. إلا أنه كان [يقلب] وجهه، ولم يكن يدعو به؛ لأن الأنبياء لا يدعون إلا بعد أن يؤذن لهم لئلا يكون ردهم -إذا خالف دعاؤهم جهة المصلحة- فتنة لقومهم. (شطر المسجد الحرام) هو الكعبة: لأن الشطر هو النصف، والكعبة موضعها من المسجد الحرم في النصف من كل جهة. (ولكلٍ وجهةٌ)

أي: شرعة ومنهاج. عن الحسن، وغيره: قبلة. [أي] لكل فرقة من أهل الأديان، أو لكل أهل بلدة من المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها وجهة إلى القبلة، وقوله: (فاستبقوا الخيرات) يوضح هذا التأويل. (هو مُوَلِّيها) أي موليها [قصده]، والضمير في هو [لله] أي: الله موليها إياه، بمعنى موليه إياها. وقيل: مولي إليها على ضد مولي عنها، فيكون الضمير لكل. وتكرر. (فول وجهك شطر المسجد الحرام) لتأكيد أمر القبلة حين [تلاح] المشركون واليهود فيه. وخاضوا كل مخاض.

(لئلا يكون للناس عليكم حجة) في خلاف ما في التوراة من صرف قبلتكم إلى الكعبة. (إلا الذين ظلموا) إلا أن يظلموكم في كتمانه. وقيل: إنه استثناء منقطع بمعني لكن، أي: لكن الذين ظلموا يضعون الشبهة موضع الحجة، كقوله (مالهم به من علم إلا اتباع الظن). أي: لكنهم يتبعون الظن ولا يعلمون، قال الهذلي: 145 - أهاجك مغني دمنة ورسوم ... لخولة منها حادث وقديم

146 - فإن تك قد شطت وشط مزارها ... فإني بها إلا العزاء سقيم أي: لكنني اتعزى عنها. وقال أبو عبيدة: معنا لئلا يكون للناس عيكم حجة ولا الذين ظلموا، فيكون إلا بمعنى الواو. قال: 147 - [و] كل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان وقال قطرب: معناه إلا على الذين ظلموا فحذف على.

(بل أحياء) ذكر أبو بكر الرازي فيه وجهين: أحدهما: أن المراد به أرواحهم، وأن حقيقة الحياة للروح الذي هو جسم لطيف ملابس للجسد الكثيف، وذلك الروح هو الإنسان على الحقيقة، وإنما الجسد له كالجنة والوقاية. الثاني: أن الله يلطف -بعد الموت والقتل- ما تقوم به البنية الحيوانية [فـ]ـيجعله بحيث يشاء من عليين أو سجين لينال ما يستحق من النعيم أو البؤس، وهذا القول أشبه بمذهب أهل الإسلام. والأول على مذهب الأوائل. ولأن الروح الحيوانية بمجردها لا تكون حية؛ لأنها من جنس الريح والهواء. بل الهواء إذا حصل في البنية الحيوانية ودخل منافذها وانبسط في مخارقها وأمدته الرطوبة الذهنية التي حول القلب يقال له الروح ولذلك وصفه الله بالنفخ والقبض. فالأصح أن يحيى الله أجزاء من الشهيد، ومن هو مثل أهل ثوابه وكرامته، ويصل إليها [طرف] من النعيم، فتكون الحال كحال النائم على

سرور ورفاهية في روضة طيبة، ناغتها رياح السحر وفاح فيها نسيم الزهر، كما في الحديث: "أنه يفتح له مد البصر ثم يقال له نم نومة العروس". (شعائر الله) معالم دينه وأعلام شرعه، من شعرت وعلمت، ومنه إشعار الهدى ليعلم ذلك. (فلا جناح عليه أن يطوف بهما) قال ذلك مع أن السعي [عبادة] لمكان صنمين عليهما، يقال لهما: إساف ونائلة فكان المشركون يطيفون بهما، كما قال أبو طالب: 148 - وحيث ينيخ الأشعرون ركابهم ... بمفضي السيول من إساف ونائل

فظنَّ المسلمون عليهم إثما في الطوف بهما لأجل الصنمين. وقيل: معناه أنهما -أي الصفا والمروة- من شعائر الحج والعمرة وإلا كان الطواف بهما بدعة وجناحا كالتطوف بسائر الأماكن. (فإن الله شاكر) أي مجازي بالحسني؛ لأن الجزاء في مقابلة [العمل، كالشكر في مقابلة] النعمة. (إن في خلق السموات والأرض واختلف الليل والنهار) أي: يخلف كل واحد منهما صاحبه على التعاقب والتناوب. وقيل: بل المراد الاختلاف في النور والظلمة والطول والقصر بعد الاعتدالين، وهما في جميع ذلك يجريان على قدر مقدور لا زيادة ولا نقصان. (والفلك) وإن كانت من صنع الخلق وتركيبهم بخلاف سائر الأدلة من هذه الآية، فإن دلالتها على التوحيد من حيث لولا تمكين الله إيانا من الفلك وآلاتها التي تعمل

بها لما أمكن ركوب البحر ولفاتت [منافع] الجلب والامتياز من عامة البلدان، وكذلك لولا لطف الله في رقة المياه وامتياعها ووفورها في البحر لما جرت الفلك، ولولا الرياح السهلة لما أسرعت ولو أفرطت في الهبوب لما سلمت. ولولا أن الله ربط على القلوب لما عبر خلق ضعيف خلقا عظيما. وإنما هو دود عود في [غمار] من الهلاك ودفاع من الموت. وفي الفلك آية أخرى تشهد بها عامة من ركب البحر وهو [أنها] إذا لعبت بها العواصف، وأظلمت السحائب وصارت الحيلة مغلوبة، والمسكة مسلوبة فإن أجيبت دعوتهم ظهرت على نصل النشابة المشدودة بالدقل علامة [ككوكب] ضخم، آية للنجاة لا تخطئ البتة فترتج السفينة بالاستبشار وإن كانوا في حاق [الأمواج].

(ولو يرى الذين ظلموا) لو إذا ورد بعدها أمر يشوق إليه أو يخوف لا يوصل بجواب؛ ليذهب القلب فيه إلى كل مذهب كما قال الراعي: 149 - لو أن حق القوم منكم إقامَهُ ... وإن كان سرب قد مضى فتسرعا أي: لو كان أحد أحق بالإقامة منكم -وإن كان سربكم وهو المال قد مضى- أقام لكنه لا أحد أحق بالإقامة منكم وإن كان [كما قال]: 150 - [ردينة] لو شهدت غداة جئنا ... على أضماتنا وقد اختوينا

151 - وأرسلنا أبا عمرو ربيئا ... فقال ألا انعموا بالقول علينا (خطوات الشيطن) أعماله ووساوسه. وقيل: هي أن يتخطَّى. (أو لو كان ءاباؤهم) ألف توبيخ في صورة الاستفهام. (كمثل الذي ينعق) أي: ومثل داعي الذين كفروا إلى الله كمثل الناعق بما لا يسمع.

كما قال الحارثي: 152 - وقفت على الديار [فكلمتني] ... فما ملكت مدامعها القلوص أي: راكب القلوص. وقيل: إنه على القلب، إذ المعنى هو المنعوق به وإن كان اللفظ الناعق كقوله تعالى: (لتنوأ بالعصبة) ثم العصبة تنوء بها. ولكن المعنى لا يخفي في الموضعين: وقيل: إن الناعق هو مثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم؛ لأن النعيق صياح الراعي بالغنم، وهو صفة ذم فأولى بها الكافرون. قال الأخطل: 153 - فانعق بضأنك يا جرير فإنما ... منتك نفسك في الخلاء [ضلالاً]

154 - منتك نفسك ان تكون كدارم ... [أو أن توازن] حاجبا وعقالا (إنما حرم عليكم الميتة) نصب (الميتة) على معني الكافة في إنما، وإنما إثبات للمذكور ونفي لما عداه. قال: القول: ما حرم الله عليكم إلا كذا، يدل عليه أن "إن"

للتحقيق و "ما" [للنفي فتحقق] "إن" الشيء، وتنفي "ما" سواه. (وما أهل به) الإهلال رفع الصوت بالدعاء، كما قال الشاعر: 155 - يهل بالفرقد ركبانها ... كما يهل الراكب المعتمر وقال النابغة:

156 - أو درة صدفية غواصها ... بهج، متى يرها يهل [ويسجد] (غير باغ) على الإمام. (ولا عادٍ) بسفر حرامٍ. وهذا ضعيف لأن السفر الحلال لا يبيح الميتة ولا ضرورة، والحبس في الحضر يبيح ولا سفر. ولأن الميتة للمضطر كالذكية للواجد. ثم الباغي يأكل الذكية كالعادل؛ ولأنه يجب على الباغي حفظ النفس من التلف. (ما أصبرهم على النار)

ما الذي [جرأهم] على العمل الذي يدخلهم النار. حكى الفراء [عن] قاضي اليمن أن أحد الخصمين حلف عنده. فقال له صاحبه: ما أصبرك على الله. وقال المبرد: هو استفهام بمعني التوبيخ لهم والتعجيب لنا من [جراءتهم] على النار. (ولكن البر من ءامن بالله) أي: ولكن البر بر من آمن بالله.

كقول النابغة: 157 - وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي ... على وعل ذي المطارة عاقل أي: مخافة وعلٍ. وقيل: تقديره: ولكن ذا البر، كقوله: (هم درجت) أي: ذوو درجات. والقولان وإن [كانا] على حذف المضاف فالأول أجود؛ لأن حذف المضاف ضرب من الاتساع والخبر أولى به من المبتدأ؛ لأن الاتساع بالإعجاز أليق منه [بـ]ـالصدور. وقيل: تقديره ولكن البار، كقول الخنساء:

158 - ما أم سقب على بو تطيف به ... قد ساعدتها على التحنان أظار 159 - ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت ... فإنما هي إقبال وإدبار أي: مقبلة تارة ومدبرة أخرى. وقال المبرد: لو كنت من القراء لقرأت (ولكن البر) بفتح الباء والبر والبار واحد. (وءاتي المال على حبه)

أي: على حب المال أو على حب الإيتاء، كما قال الأنصاري: 160 - هلا سألت الخيل إذ قلصت ... ما كان [إبطائي] وإسراعي 161 - هل أبذل المال على حبه ... فيهم وآتي دعوة الداعي (وفي الرقاب) أي: المكاتبين، أي: من البر إعانتهم على بذل الكتابة. وقيل: المراد هو عتق الرقاب.

و (البأساء) [الفقر] والمسكنة. (والضراء) السقم. (وحين البأس) حين القتال. (والموفون بعهدهم) على تقدير: ولكن ذا البر من آمن والموفون. (والصبرين) عند الكسائي نصبت بإيتاء المال كأنه وأتى المال ذوي القربي والصابرين.

والأصح أنه نصب على المدح كما قال: 162 - لا يبعدن قومي الذين هم ... سم العداوة وآفة الجزر 163 - النازلون بكل معترك ... والطيبين معاقد الأزر ولأن على قول الكسائي يكون (وأقام الصلاة) و (الموفون) كل ذلك اعتراضا بين العطف والمعطوف، والاعتراض لا يكون معتمد الكلام ولا يعمل فيه شيء ولهذا منع أبو على في قول الشاعر:

164 - أتنسى -لا هداك الله- ليلى ... وعهد شبابها الحسن الجميل 165 - كأن -وقد أتي حول جديد- ........ اعتراضا؛ لأن موضعه نصب بما في "كأن" من معني التشبيه فمعناه [أشبهت] وقد مضى حول حمامات [مثولا]. (فمن عفى له من أخيه شيء) أي: القاتل، إذا عفا ولى القتيل عن القصاص وصالحه على المال، أو عفا بعض الأولياء، أو الولي عفا عن بعض القصاص ليظهر التقييد بشيء. (فاتباع بالمعروف) أي: وليُّ القتيل يطلب الدية بالمعروف وينظر القاتل إن أعسر ولا يشدد عليه.

(وأداء إليه بإحسن) أي يؤدي القاتل إليه المال ولا ينقصه ولا يماطله. ورفع "اتباع" على الخبر عن ابتداء محذوف أي فحكمة اتباع. أو هو ابتداء خبره محذوف، أي: فاتباع عليه. وأما قوله: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب) فالأجود نصب "ضرب الرقاب" على الإغراء؛ لأن "إذا" يجلب الفعل. (فمن بدله) أي الوصية، [إذ] الوصية والإيصاء واحد او فمن بدل قول الموصي والجنف والإثم: التوصية في غير القرابة عن الحسن. وعن ابن عباس: التفاوت في مقادير الوصية بحكم الهوى والميل.

وعن عطاء: إنه إعطاء البعض وحرمان البعض. وقيل: الجنف في القول وحده، والإثم في القول والفعل فيكون الجنف بالوصية قولا، والإثم بالإعطاء في المرض. قال جرير: 166 - هو الخليفة فارضوا ما قضى لكم ... بالحق يصدع ما في قوله جنف 167 - يقضى القضاء الذي يشقي النفاق [به] ... فاستبشر الناس بالحق الذي عرفوا وقال القتبي: خاف بمعني علم؛ لأن الخوف بمعني الخشية للمستقبل والوصية هاهنا وقعت، واستشهد بقول أبي محجن الثقفي:

168 - إذا من فادفني إلى أصل كرمة ... [تروى] عظامي بعد موتي عروقها 169 - ولا تدفنني بالفضاء فإنني ... أخاف إذا ما مت ألا أذوقها (فمن تطوع خيرا) أطعم أكثر من مسكين. وقيل: صام مع الفدية. (ولتكملوا العدة) أي عدة أيام الشهر للمطيق وعدة القضاء لغيره. (ولتكبروا الله على ما هداكم)

قيل: إنه التكبير في يوم الفطر. وقيل: إنه تعظيم الله على ما هدى إليه من عبادته. (فليستجيبوا لي) قال أبو عبيدة: الاستجابة والإجابة واحدة، كما قال الغنوي: 170 - وداع دعا [يا من يجيب] إلى الندى ... فلم يستجبه عند [ذاك] مجيب

فكان المراد فليجيبوا أوامري بالقبول والامتثال لأجيب دعاءهم. وقال المبرد: المراد بالاستجابة الانقياد والإذعان في كل ما أوجبه الله حتى إذا استجاب الله في أوامره، أجابه الله في مسائله. وهذا القول أجرى على الأصل؛ لأن في معنى الإذعان معنى طلب الفعل، ولأن الإذعان شرط من الدعاء، كما أن الإيمان والتفويض وصدق الرجاء ومعرفة ما يدعو به أهو حسن، وأنه خير وصلاح، ومعرفة الوجه الذي عليه يحسن الدعاء، وأن تعجيل الإجابة أو تأخيره على حسب مصالح الداعي، وأن الله يرى ويسمع كلامه، واختيار الله -فيما يخيره- للداعي. وخير له من الإجابة، كل ذلك شرط. و (الرفث) الجماع [و] في غير هذا الموضع الحديث عن النساء بقول فاحش. (الخيط الأبيض) الصبح أول ما يبدو كما قال أبو دؤاد:

171 - ولما أضاءت لنا سدفة ... ولا من الصبح خيط أنارا فإن قيل: أليس الأبيض هو الكاذب في الحديث والشعر. قال: 172 - [ترى] السر حان مفترشا يديه ... [كأن بياض لبته الصديع] وقال صلى الله عليه: "لا [يهيدنكم] المصفر فكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر"؟!!

قلنا: إذا استطار طلوع البياض ظهرت أوائل الحمرة. قال المخزومي: 173 - فلما تقضي الليل إلا أقله ... وكادت توالي نجمه [تتغور] 174 - فما راني إلا مناد تحملوا ... وقد لاح معروف من الفجر أشقر وأبين من هذا قول اليشكري: 175 - يسحب الليل نجوما ظلعا ... فتواليها [بطيئات] التبع 176 - ويزجيها على إبطائها ... مغرب اللون إذا اللون انقشع

المغرب في الخيل والإبل هو أن تحمر [أرفاغ] الفرس وحماليقه ووجهه من شدة البياض فعبر به عن الصبح. (وتدلوا بها إلى الحكام) أدليت الدلو أرسلتها لتملأها ودلوتها انتزعتها ملأى، قال ابن هرمة: 177 - ولن ترني إلا أخا ملك ... أدلى إليه دلوى فأدلوها 178 - سهل المحيا تلفى خلائقه ... مثل وحي السلام تقروها ومعنى الآية: أن المدلى كما أن قصده استقاء الماء فكذلك المتوسل إلى الحاكم قصده احتجان المال، فيجعل الحاكم سببا إلى غرضه كسبب الدلو، ويدخل فيه الإدلاء بالحجة الباطلة عند الحكام، ومصانعتهم بدفع شيء إليهم، والإقدام على اليمين الفاجرة التي يقطع الحاكم الأمر على ظاهرها، واقتطاع ما يمكن من المال ثم دفع الباقي إلى الحاكم لقطع الخصومة والمقالة.

و (يسئلونك عن الأهلة) أي: في زيادتها ونقصانها. (قل هي مواقيت للناس والحج) وهذا بيان جملة ما في الأهلة من مصالح الدنيا والدين، من مواقيت المعاملات والمداينات والتواريخ الحالية والمواعيد المضروبة والآجال المحدودة والأيام المعدودة في الصوم والفطر ومناسك الحج. (وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها) كانت العرب في الجاهلية إذا أحرمت نقبت في ظهور بيوتها للدخول والخروج. وقيل: إنه على وجه المثال في إتيان الشيء من وجهه والدخول في الأمر من بابه كما قال:

179 - لا أدخل البيت [أحبو] من مؤخره ... ولا أكثر في ابن العم [أظفاري] 180 - أعوذ بالله من أمر يزين لي ... شتم العشيرة أو يدني من العار (ثقفتموهم) ظفرتم بهم، ثقفته إذا وقعت له فظفرت به. قال الشماخ: 181 - فهمت [بورد] القنتين فصدها ... حوامي الكراع والقنان اللواهز

182 - ولو ثقفاها ضرخت من دمائها ... كما جللت نضو [القرام] الرجائز (الشهر الحرام بالشهر الحرام) أي: القتال في الشهر الحرام قصاص الكفر في الشهر الحرام. فأن يكبر الكفر فيه وينكر أولي من [أن] ينكر القتال. (والحرمات قصاص) أي: متفقة متساوية فكيف [يحرم] القتال ولا يحرم الكفر. وقال مجاهدٌ: صدت قريش النبي عليه السلام عن المسجد الحرام في ذي القعدة من العام المقبل فقضى عمرته فذلك قوله: (الشهر الحرام بالشهر الحرام).

(فإن أحصرتم) قال الشافعي رحمه الله: الإحصار منع العدو؛ لأنها نزلت في عمرة الحديبية عام صد النبي عليه السلام ولأنه قال: (فإذا أمنتم). وعندنا يكون الإحصار بالمرض أيضا وهو مذهب ابن عباس وابن مسعود. وخطَّأ أبو عبيدة واسماعيل بن إسحاق القاضي الشافعي وقالا:

الإحصار في المرض، والحصر في العدو. وقال المبرد: وحصر حبس. قال الهذلي: 183 - فجاء خليلاه إليها كلاهما ... يفيض دموعاً غربهن سجوم 184 - [فقالوا عهدنا] القوم قد [حصروا] به ... فلا ريب [أن] قد كان ثم لحيم

[وأحصر: عرض للحبس] على الأصل كقوله: أقتله عرضه للقتل. وأقبره: جعل له القبر. (فما استيسر من الهدي) عن ابن عباس "أنه شاة" وهو مذهبنا. (حتى يبلغ الهدي محله) أي الحرم عن عامة المفسرين.

وعند الشافعي محله موضع الإحصار. وهو على مذهب الكسائي أن المحل بالكسر هو [الإحلال] من الإحرام. والمحل بالفتح موضع الحلول. والمتمتع بالعمرة إلى الحج: هو المحرم بالعمرة في شهر الحج إذا أحرم بالحج بعد الفراغ من العمر [من غير] أن يلم بأهله في قول العبادلة بمذهب الفقهاء.

وقال السدي: "هو الذي فسخ الحج بالعمرة". وقال ابن [الزبير]: "هو المحصر إذا دخل مكة بعد فوت الحج". (فصيام ثلاثة أيام في الحج) أي: قبل [النحر] ما بين إحرامه في أشهر الحج إلى يوم عرفة.

(وسبعة إذا رجعتم) وهو عندنا إذا رجع [المتمتع] من الحج حتى لو صامها بعد الفراغ من الحج قبل الرجوع إلى الأهل أجزأه. (تلك عشرة كاملة) في الأجر. وقيل: في قيامها مقام الهدي. وقيل: إنه على الإفادة لجملة العددين إذ كانت العرب [لا تعرف] الحساب. وقال الفرزدق: 185 - ثلاث واثنتان فهمن خمس ... وواحدة تميل إلى شمامي

186 - فبتن بجانبي مصرعات ... وبت أفض أغلاق الختام وحاضرو المسجد الحرام هم أهل المواقيت ومن دونها إلى مكة وليس لهم أن يتمتعوا عندنا، ولو فعلوا لزمهم دم الجناية لا دم المتعة. (الحج أشهر معلومات) أي: أشهر الحج أشهر معلومات. فحذف المضاف. أو الحج حج أشهر معلومات. فحذف المصدر المضاف. أو جعل الأشهر الحج، لما كان الحج فيها كقولهم: ليل نائم ونهار صائم.

وأشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة. جمعت ببعض الثالث، والفعل إذا وقع في بعض يوم الجمعة صح القول بأنه في يوم الجمعة، كما صح أنه في وقت كذا منه. وعن مجاهد وقتادة: أن ذا الحجة داخل فيها بأسره. ومنه قول [الراعي]: 187 - قتلوا ابن عفان الخليفة محرما ... ودعا فلم أر مثله مقتولا

وكان قتله في السابع عشر من ذي الحجة. (فمن فرض فيهن الحج) أوجب على نفسه، أي: أحرم. والرفث: الجماع ودواعيه وذكره عند ذكر النساء. والفسوق: السباب. وقيل: المعاصي كلها.

والجدال: الملاحاة مع أهل الرفقة. وقيل: (لا جدال في الحج) لا خلاف فيه أنه في ذي الحجة. وهذا القول هو وجه امتناع (لا جدال) بالتنوين، وإن قرئ به (لا رفث ولا فسوق)؛ لأن قوله (لا جدال) نفي إذ لم يجادلوا أن الحج في ذي الحجة، ولا رفث نهي؛ إذ كانوا ربما يأتونه فكأن لا [في] الجدال نافية، وفي الرفث والفسوق بمعنى ليس. (أفضتم من عرفات) دفعتم بكثرةٍ منها إلى مزدلفة كفيض الإناء عند الامتلاء.

وصرف عرفات مع التأنيث والتعريف لأنه اسم واحد على حكاية الجمع. ومن قال: إنها جمع عرفة، صرفه معنى الجمع الجماعة ولا تأنيث في لفظة الجمع. واسم عرفات من تعارف الناس عند التقائهم في ذلك المجمع العظيم. وقيل: إن جبريل كان يرى ابراهيم المناسك فلما صارا بعرفات قال ابراهيم: عرفت فسميت بهذا الاسم. وقيل: إنه من اجتماع آدم وحواء وتعارفهما. و (المشعر الحرام) ما بين جبلي مزدلفة. عن ابن عباس.

وعن إبراهيم: هو الجبل الذي يقف [عليه] الإمام [بجمع] (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) أمر لقريش وحلفائهم -وهم الحُمس- بالإضافة من عرفات إلى جمع، وكانوا يقفون [بجمع] ويقولون: نحن أهل حرم الله لا نخرج عنه. وقيل: بل هذه الإضافة من جمع إلى منى، لأن الإضافة من عرفات مذكورة، وهذه معطوفة عليها فلا يصح هي بعينها فيكون المراد بقوله: (من حيث أفاض الناس) إبراهيم ومن تبعه. (فاذكروا الله كذكركم ءاباءكم)

كانت [العرب في] الجاهلية إذا وقفت بعرفات ومزدلفة تعد مآثرها ومفاخر آبائها كما ذكره الفرزدق: 188 - إذا ذكر الناس المآثر أشرفت ... روابي أبي حرب على من يطاول 189 - إليهم تناهي مجد كل قبيلة ... وصار لهم منها الذرى والكواهل 190 - وأنتم زمام ابني نزار كليهما ... إذا عد عند المشعرين الفضائل (من خلاقٍ)

من نصيب من [الخلافة] التي هي الاختصاص. أو الخليقة التي لها التقدير والتثبيت [للشيء]. والأيام المعدودات: أيام التشريق. ثلاثة بعد المعلومات التي هي عشر ذي الحجة. والسبب في الاسمين: أن المعلومات لاشتهارها يحرض الناس على معرفتها للحج، والمعدودات لقلتها بالقياس إلى المعلومات كالمعدودات، التي نسخها شهر رمضان فإنها كانت ثلاثة أيام من كل شهر؛ ولأن القلة معينة على الإسراع في التعديد. وذكر الله في المعدودات: التكبير.

وابتداؤه عند ابن مسعود من صلاة الفجر من يوم عرفة في أدبار الصلوات الثمان آخرها صلاة العصر من يوم القربان. وهو مذهب أبي حنيفة. وفي قول: ثلاث وعشرون صلاة، آخرها عصر رابع من النحر عشية النفر. وأيام التشريق، يسمى الأول منها: يوم القر؛ لاستقرار الناس بمنى، والثاني: يوم النفر؛ لأنهم ينفرون ويخرجون إلى أهاليهم وهو المراد بقوله: (فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه) أي: تعجل الخروج في النفر الأول. (ومن تأخر) إلى النفر الثاني -وهو الثالث من أيام منى. (فلا إثم عليه)

وهذا يوم الثالث يسمى أيضا يوم الصدر، ويسمى أيضا صرما، يسمى النفر الأول [قرما]. وقد اختلف في الكتب أسماؤها وترتيبها. (فلا إثم عليه لمن اتقى) في كل ما تقدم من إتمام أفعال الحج واجتناب محظوراته، عن ابن عباس: وقال السدي: لمن اتقى في بقية عمره لئلا يحبط عمله.

(ومن الناس من يعجبك قوله) في الأخنس [بن] شريق، هادن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونافقه ثم خرج [فأحرق] لبعض المسلمين كدسا وعقر حِمَارا. والألد: الكثير الخصومة، واللديدان صفحتا العنق. كأن الألد [يقلب] القول صفحة إلى صفحة كما قال ثعلبة بن صغير المازني:

191 - ولرب خصم جاهدين ذوي [شذى] ... [تقذى] صدورهم بهتر [هاتر] 192 - لدٍّ ظأرتهم على ما ساءهم ... وخسأت باطلهم بحق ظاهر و (الخصام) مصدر عند الخليل. وعند الزجاج: جمع خصم كبحر وبحار. (أخذته العزة بالإثم) أي بسبب الإثم الذي في قلبه. وقيل: معناه أخذته العزة بأن يأثم.

(يشري) يبيع. ومنه تسمية أهل حرور أنفسهم بالشراة. كما قال أبو [العيزار] الخارجي: 193 - يدنو وترفعه الرماح كأنه ... شلو تنشب في مخالب ضاري 194 - [فثوى] صريعا والسباع تنوشه ... إن الشراة قصيرة الأعمار

(ادخلوا في السلم كافة) في طائفة أهل الكتاب أسلموا ولم يتركوا السبت. وقيل: في المنافقين، أمروا أن يجعل باطنهم في الإسلام كظاهرهم. وقيل: بل هو أمر للمؤمنين بشرائع الإسلام جميعا. وقال الحسن: هو أمر للمسلمين بالدوام على الإسلام لأن الفاعل للواجب في الحال مأمور بمثله في الاستقبال، فهو كقوله: (يأيها الذين آمنوا ءامنوا) ومن قال: إن السلم بالفتح: الصلح لا غير، لم يمتنع على قوله أن يراد الإسلام بالصلح؛ لأن الإسلام صلح، والمسلمون يد واحدة في التناصر والتضافر.

(كافة) جميعا، وكففت الشيء: جمعته، وكفة الميزان لجمعه ما فيه، وكف الثوب: طيه. ويجوز أن يكون من الكف أي: المنع؛ لأنهم إذا اجتمعوا تمانعوا. (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله) المراد: إتيان آيات الله، فذكر الله لتفخيم شأن الآيات. وقيل: بل التقدير يأتيهم أمر الله فحذف المضاف كما هو في قوله: (أو يأتي أمر ربك) يبين ذلك: أن [في] الآيتين الإخبار عن حال القيامة فلما كان الأمر في أحدهما مذكورا، كان في الأخرى مقدرا مفهوماً.

وقيل: إن اللفظ وإن كان يثبت لإتيان فالفحوى ينفيه؛ لأن الحال على صورة من قدم إلى عبيدة بكل موعظة ورسول يستصلحهم بذلك، ثم يقول: -إذا لم يصلحوا- هل ينتظرون إلا أن آتيكم؟ على تقرر امتناع إتيانه في نفوسهم. (زين للذين كفروا الحيوة الدنيا) قيل: إن الشيطان هو الذي زينها لهم. وقيل: بل الله يفعل ذلك لصح التكليف، وليعظم الثواب على تركها مع شهوتها. (بغير حساب)

بغير استحقاق على جهة التفضل، وقوله (عطاء حسابا) أي الذي يقابل العمل ويكافئه. [و] قول قطرب: بغير حساب عنده تعالى لسعة فضله، وهو بحساب أعمالنا، وكأنه يعطي المسحوب المعدود مالا يحسب ولا يعد. (كان الناس أمة) الأمة هنا: الملة، قال النابغة: 195 - [حلفت] فلم أترك لنفسك ريبة ... وهل يأتمن ذو أمة وهو طائع بحذف المضاف أي: أهل ملة.

وتلك الملة: الضلال. عن ابن عباس [و] الحسن. فهو الغالب عليهم وإن كانت الأرض لم تخل عن حجة الله. ويجوز أن يكونوا [على الحق] متفقين [فاختلفوا] بعد. (بغيا بينهم) نصب على المفعول له أي: وما اختلفوا إلا للبغي. (بإذنه)

أي: فاهتدوا بإذنه، أي: بعلمه. (أم حسبتم) "أم" يكون للابتداء والاستفهام، إلا أنه خلع عنها هنا معنى الاستفهام، كما خلع في الخبر من قولك: مررت برجل أي رجل. ولذلك أعربت أي. ومثله واو العطف فإنها للعطف والجمع، فإذا وضعت موضع مع خلص للجمع في نحو: "استوى الماء والخشبة". وكذلك [فاء العطف] للعطف والاتباع، وإذا [استعملت] في جواب الشرط [انخلعت] عن العطف، وخلصت [للاتباع] وذلك قولك: إن تقم [فأنا] أقوم. (ولما يأتكم)

أي: ولم يأتكم، كقوله: (وءاخرين منهم لما يلحقوا) وأصل لما: لم، إلا أن لما بانفرادها تصلح جوابا لمن يقول لك: أقدم زيد؟ فتقول: لما. ولا يجوز لم. (وزلزلوا) ازعجوا بالخوف، وهو في يوم الأحزاب، وهو "زلوا" ضوعف لفظه لمضاعفة معناه، كقولهم صر وصرصر. قال الخليل: كأنهم توهموا في صوت الجندب استطالة فقالوا: صر وفي صوت البازي تقطيعا فقالوا: صرصر.

(حتى يقول الرسول) أي حتى يسأل النصر الموعود، وليس المراد الاستبطاء للنصر؛ لأن الرسول يعلم أن الله لا يؤخره عن وقت المصلحة. وكذلك كل من هو في شدة وغمه فلا ينبغي أن يستبطئ الفرج، بل يوقت بزوالها في الدنيا أو يموت عليها، فيظفر بالعوض العظيم في الآخرة، وذلك خير وأبقى. ومن رفع (يقول) كان الكلام بمعنى: استدامة حال الصبر إلى وقت

النصر، وتقديره: "حتى الرسول قائل"،كما قال: 196 - [يغشون] حتى ما تهر كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل 197 - بيض الوجوه ..... ...... ... .................... أي حتى هم الآن كذلك.

(يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه) انخفاض (قتال) على البدل من الشهر، بدل الاشتمال، وهو الذي يكون الثاني فيه غير الأول في اللفظ، وهو داخل أو مقدر فيه، قال الأعشى: 198 - هريرة ودعها وإن لا لائم ... غداة غد أن أنت للبين واجم 199 - لقد كان في حول ثواء ثويته ... تقضي لبانات ويسأم سائم ألا ترى أن الحول مشتمل على الثواء متناول. (وصَدٌّ عن سبيل الله)

أي: القتل في الشهر الحرام وعند المسجد الحرام يصد المسلمين عن الحج. (يسئلونك ماذا ينفقون قل العفو) أي: الفضل عند الحاجة. وقيل: السهل الميسر. يقال [خذ] ما عفا. أي: سهل وصفا. وقيل: هو القصد الوسط.

وانتصاب (العفو) على أنه جواب المنصوب، وهو ماذا، وماذا اسم واحد؛ لأنك تقول: عماذا تسأل؟ لا تحذف الألف من "عما" كما حذفت من (عم يتساءلون) لما لم يكن آخر الاسم، فيكون (ماذا ينفقون) مثل: ما ينفقون، والجواب: ينفقون العفو. ومن يرفع (العفو) يجل ذا بمنزلة الذي ويجعلها اسمين، كأن القول: "ما الذي ينفقون". (لأعنتكم) لشدد عليكم في [مخالطتهم]، أو في جميع ما كلفكم فإن العبرة لعموم اللفظ.

كذلك فَسَّر أبو عبيدة الإعنات بالإهلاك. وأصل العنت: الشدة والمشقة قال [مسلمة] بن عبد الملك: 200 - إني إذا الأصواب في القوم علت ... في موظن يخشى به القوم العنت 201 - موطن نفسي على ما خيلت ... بالصبر حتى تنجلي عما انجلت (حتى يطهرن) ينقطع دمهن، و (يطهرن): يتطهرن ويغتسلن فأُدغمت.

(أنى شئتم) كيف شئتم. وقيل: من أين شئتم بعد أن لا يخرج عن موضع الحرث بدليل (نساؤكم حرث لكم). (وقدموا لأنفسكم) قيل: إنه التسمية عند الجماع. والأولى: اعتبار عموم اللفظ، كأنه أمر -عقيب ما أباح وحظر- بتقديم الأعمال الصالحة [والتوقي]. (عرضة لأيمانكم) علة وحجة في ترك البر والتقوى والإصلاح فتخلفوا لتدفعوا وتعتلوا بها.

فكأن اليمين سبب يعرض فيمنع من البر والتقوى، أو سبب يوجب الإعراض عنهما. وهو كما قال جرير: 202 - ولا خبر في مستعجلات الملاوم ... ولا في صديق وصله غير دائم 203 - ولا خير في مال عليه ألية ... ولا في يمين غير ذات [مخارم] وقيل: معناه: لا تجعلوا اليمين بذلة كلامكم من غير حاجة ويغير استثناء، مع أن العبد لا يملك أمره حتى يعزم [على] شيء في المستقبل. (أن تبروا)

معناه على هذا القول: أن لا تبروا، فحذفت لا؛ لأنه في معنى القسم. قال امرؤ القيس: 204 - فقلت يمين الله أبرح قاعدا ... ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي فحذف [أقسم] فعل القسم، وحرف القسم و [لا] النافية المقسم بها.

وموضع (أن تبروا) نصب عند سيبويه، لوصول الفعل إليه مع تقدير الجار. وخفض عند الخليل؛ لأن التقدير: لأن تبروا. (لا يؤاخذكم الله باللغو) اللغو: اليمين على الظن إذ [ا] تبين خلافه، عن ابن عباس وأصحابه.

وعن عائشة: ما يسبق به اللسان من غير قصد وعقد قلب. كما قال الفرزدق: 205 - ولست بمأخوذ بقول تقوله ... إذا لم تعمد عاقدات العزائم والأصل في اللغو: ما لا يعتد به، كما قال:

206 - ويلغي دونه المرئي لغوا ... كما ألغيت في الدية الحوارا إذ لا يعتد بالحوار في الدية، ومنه لغو الطائر: صوتها على غير استقامة وترجيع. قال المازني: 207 - أعمير ما يدريك أن رب فتية ... بيض الوجود ذوي ندى ومآثر 208 - باكرتهم بسباء [جون ذراع] ... قبل الصباح وقبل لغو الطائر

(يؤلون) يحلفون، إيلاء وألية وألوة وإلوة. والإيلاء هنا: قول الرجل لامرأته: "والله لا [أ] قربك أربعة أشهر". أو قال من غير توقيت، أو حرمها على نفسه بنية هذا اليمين. فإن فاء إليها بالجماع، أي: رجع قبل أربعة أشهر كفر عن اليمين، وإلا بانت بتطليقة.

والتربص: الانتظار. وقيل: التصبر، كأنه فسر بمقلوبه. (ثلاثة قروء)

القرء: الحيض [عن] أكثر الصحابة والفقهاء. وعن بعضهم: الطهر. وحكى الكسائي: أقرأت المرأة: حاضت، فهي مقرى، وأصل الكلمة إن كان الاجتماع بدليل القرآن، والقرية للنمل وللناس، وقرأ الماء في الحوض، فالاجتماع في حالة الحيض. إذ لو كان في الطهر لسال دفعة، وإن كان

الأصل الانتقال، من قول العرب: قرأت النجوم وأقرأت، فكذلك؛ لأن الحيض عارض منتقل إليه من الظهر الثابت. (ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن) أي: من الحيض والولد؛ لئلا ينقطع رجعة الزوج وشيء من القرء باق، ولئلا نلحق الولد بغيره كصنيع الجاهلية. (الطلاق مرتان) أي: الطلاق الرجعي.

وسأل رجل النبي عليه السلام عن الثالثة فقال: "أو تسريح بإحسان". والطلاق الجاهلي أيضاً كان ثلاثا. كما سئل ابن عباس عنه فأنشد للأعشى: 209 - أيا جارتي بيني فإنك طالقة ... [كذاك] أمور الناس غاد وطارقه 210 - وبيني فإن البين خير من العصا ... وإن لا تزال فوق رأسك بارقة

211 - وبيني حصان الفرج غير ذميمة ... وموموقة عندي [كذاك] ووامقة فذاك ثلاث تطليقات: (إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله) قال أبو عبيدة: يوقنا. وقيل: يظنا.

(فبلغن أجلهن) قارنه وشارفنه، أو بلغن أجل الرجعة. (ولا تتخذوا ءايات الله هزوا) أي: لا تستهزؤوا بهذه الآية المشتملة على أحكام النكاح والطلاق والرجعة والخلع مع كثرة فروعها، وتفنن شعبها. وقال الحسن: كان الرجل يطلق ويعتق ثم يقول: كنت هازلا هازئا. (فلا تعضلوهن) العضل: المنع والتضييق، أعضل الأمر: أعيا، وعضلت المرأة وأعضلت: عسرت ولادتها.

قال الصلتان العبدي: 212 - هلا ليالي فوقه بزاته ... يغشى الأسنة فوق نهد قارح 213 - في جحفل لجب ترى أمثاله ... [منه] تعضل بالفضاء الفاسح (وعلى الوارث مثل ذلك) أي: على وارث الولد من النفقة مثل ما على المولود له، وهو الوالد إذا كان حيا، وذلك الوارث كل ذي رحم محرم.

(فإن أرادا فصالا) أي: فطاما عن الرضاع. والتراضي: لئلا يكون أحدهما للفطام كارها بما لا يعلمه الآخر. والتشاور: فلأنهما لو تراضيا من غير تفكر في حال الرضيع [لجاز] أن يكون الفطام ضارا به، فالحمد له سبحانه يؤدب الكبير ولا يهمل الصغير. (وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم) أي: لأولادكم إذ الاسترضاع لا يكون إلا للولد. وهذا إذا اشتغلت المرأة بحق الزوج عن الإرضاع، أو ينقطع لبنها، أو تطلق فتريد زوجا آخر. (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن) أخبر الزوجات دون (الذين) وبهم ابتدأ، كما قال:

214 - لعلى إن ما لت بي [الريح] ميلة ... على ابن أبي ذبان أن [يتندما] وتأنيث العشر لتغليب الليالي على الأيام فإن سني العرب هلالية، وأحكام الشرع تدور على الأهلة. (عرضتم [به] من خطبة النساء) وهو بكل كلام يدل على الرغبة فيها من غير إفصاح بنكاح. والإكنان: إضمار العزم على نكاحها. و (لا تواعدوهن سرا)

أي: لا تساروهن بالنكاح. وقيل: لا تواعدوهن سرا أن لا يتزوجن غيركم، وأكثر المعاهدة يكون سرا. وقال ابن زيد: لا تنكحوهن سرا. (حتى يبلغ الكتب أجله) أي تنتهي العدة.

والكتاب: ما كتب عليها من الحداد والقرار في المنزل. (لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن) لأنه إذا مسها لا يطلقها في طهر المسيس. وقيل: لا [جناح] عليكم في النفقة والمهر سوى متعة على قدر المكنة. وتخصيص (المحسنين) بالذكر: لأنهم هم الذين يقبلونه ويعملون به. وانتصاب (متاعا) على المصدر من (متعوهن). و (حقا) على الحال من قوله: (بالمعروف). (أو يعفوا الذين بيده عقدة النكاح) هو الزوج لا غيره.

وعفوه، إذا سلم منها كل الصداق: أن لا يرتجع النصف بالطلاق. وإن لم يسلم وفاه [كاملا] على [وجه] [الصلة] والإحسان. كما روي أن الحسن بن على حمم امرأة عشرة آلاف -أي متعها- فأنشدت: 215 - ............. ... متاع قليل من حبيب مفارق

ولا يبلغ بالمتعة هذا المبلغ. (والصلوة الوسطى) من حيث إن الخمسة المبهمة لا واسطة لها معينة، كثر الاختلاف فيها. فقيل: إنها الفجر؛ لأن الظهر والعصر قد يجمع بينهما، وكذلك العشاء والمغرب، [و] الفجر حامية جانبها عن [غيرها].

وقيل: إنها الظهر؛ لأنها وسط النهار وكانت تشق عليهم إقامتها في الهاجرة الحجازية التي تشوى كل شيء. وقيل: إنها المغرب؛ لأنها وسط في الطول والقصر، ووقت العجلة للانكفاء إلى المنازل [فتشغل] عن الصلاة. قال: 216 - رموت عليها الكسر من غير ريبة ... فلم أر إلا بذل تبن مترب 217 - فقلت بعيد منك تطلابك القرى ... وأجفلت عنها كالعجول المغرب

وقيل: إنها العصر؛ لأنها بين صلاتي النهار والليل، ولأنه وقت استعجال الأعمال؛ لإدبار النهار، كما قال الأخنس بن شهاب:

218 - تظل بها زبد النعام كأنها ... إماء تزجي بالعشي حواطب وقال علقمة بن عبدة: 219 - فولى على آثارهن بحاصب ... وغيبة شؤبوب من الشد ملهب 220 - فأدركهن ثانيا من عنانه ... يمر كمر الرائح المتحلب وإنما أبهمت الصلاة الوسطى مع فضلها على غيرها، ليحافظ ذو الرغبة في الثواب على الصلوات، ولا يستند إلى واحدة، ولهذا اخفيت ليلة القدر؛ ولهذا لا

يعلم الصغير بعينها [المكفرة] باجتناب الكبائر، -فلا يضر فعلها إذا علمت فالأولى- أن لا يعلم لتجتنب الذنوب بأسرها. (فإن خفتم فرجالا) أي صلوا على أرجلكم، أو على ركابكم وقوفا ومشاة، والرجال جمع راجل مثل التجار والصحاب. (وصية لأزواجهم) نصب على المصدر، أي فليوصوا وصية. أو على المفعول به أي: أوجب الله عليهم وصية. ومن رفعها فعلى جهالة الفاعل.

أو حذف المبتدأ، أي: فرض عليكم وصية. (غير إخراج) نصب على صفة المتاع. (فإن خرجن) أي بعد الحول. وقيل: [قبل] الحول إذا سكن في بيوتهن. (فلا جناح عليكم) في قطع نفقة السكنى. والحكمان -أعني الوصية للأزواج والعدة إلى الحول- منسوخان.

وابن بحر يقول: إنها نزلت في وصيتهم على عادة الجاهلية، فبين الله أن وصيتهم لا تغير حكم الله في تربص أربعة أشهر وعشر، فلذلك قال: (فإن خرجن فلا جناح عليكم) أي: خرجن قبل الحول وبعد الأربعة الأشهر والعشر. وإنما دعاه إلى هذا القول زعمه أنه لا نسخ في شيء من القرآن. (فيضاعفه) رفعه للعطف على يقرض الله.

والنصب على جواب الاستفهام بالفاء، إلا أن في الكلام معنى الجزاء؛ لأن التقدير: "من يقرض الله فالله يضاعفه" وجواب الجزاء بالفاء مرفوع. يقبض ويبصط يقبض الرزق على بعض ليأتلفوا بالاختلاف. وقيل: يقبض الصدقات ويبسط الجزاء. (الملإ) أكابر القوم وأشرافهم. (هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقتلوا [قالوا] ومالنا ألا نقتل)

[أي]: المعني أن نقاتل. (إن ءاية ملكه أن يأتيكم التابوت) إذ كانوا فقدوه فقال: إنه كان صعد به إلى السماء فنزلت به الملائكة. ويقال: إن عدوهم أخذوه منهم فردته الملائكة. (فيه سكينة) أي في إتيانه بعد الافتقاد كما قاله رسولهم. وقيل: كانت فيه صورة مباركة [يتيمن] بها في الحروب والخطوب.

(وبقية مما ترك آل موسى) قيل: إنها الكتب. وقيل: إنها عصاه وعمامة هارون. و (إن الله مبتليكم بنهر) ذلك ليعلم الله أن من يخالف الرسول بالشرب من النهر لا يواقف العدو ليجردوا العسكر عنهم.

والغُرْفة والغَرْفة واحدة [كسدفة] الليل وسدفته، ولحمة الثوب ولحمته. وقيل: الفتح لمرة واحدة، والضم اسم ما اغترف. (يظنون أنهم ملاقوا الله) يحدثون أنفسهم، وهو أصل الظن؛ ولذلك صلح الظن للشك واليقين. والفئة: القطعة من القوم، من فأوت رأسه قطعته.

وقيل: من فاء أي رجع كأنهم يرجعون إلى منعةٍ. (تلك الرسل فضلنا بعضهم) بما استحقوه من ثواب في الآخرة، وفي الدنيا بحسب مصالح العباد، لا على الميل والمحاباة. (ولو شاء الله ما اقتتلوا) قال الحسن: "هي مشيئة القدرة بالإلجاء". وقيل: هي مشيئة الصرفة. والصرفة مسألة [كلامية] مفتنة.

(من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه) خص البيع لما في المبايعة من المعاوضة، فيكون ذلك كالفذاء من العذاب كقوله: (وإن تعدل كل عدل). وقيل: إن البيع كناية عن وجوه المكاسب، كأنه أشار إلى أن المال لا ينفع، ولو نفع لما أمكن. (القيوم) القائم بتدبير خلقه، العالم بتصاريف ملكه.

والوصفان يوجبان انتفاء النوم والسنة -التي هي ترنيق النوم- كما قال العاملي: 221 - وكأنها بين النساء أعارها ... عينيه أحور من جاذر جاسم 222 - وسنان أقصده النعاس فرنقت ... في عينه سنة وليس بنائم (وسع كرسيه السماوات)

علمه عن ابن عباس. [وقيل: قدرته]؛ ولذلك وصله بقوله (ولا يؤده) أي لا يثقله. وقيل: هو الهواء الذي هو عماد السموات والأرض؛ لأن الكرسي في اللغة: العماد. وقيل: إن الكرسي جسم عظيم يحيط بالسموات السبع إحاطة السماء بالأرض، وهو العرش.

وعند بعضهم العرش أعظم منه، كما أن الكرسي أعظم من السموات. (الطاغوت) الشيطان، وكل ما ورد من إنس وجان. وهو فعلوت من الطغيان. [وقيل]: بل فلعوت على هذا الوجه، وهو أن لام [طغيوت] قلبت إلى موضع العين فصارت طيغوت، فانقلبت ألفا لحركتها وانفتاح ما قبلها، فصار وزنها الآن بعد القلب فلعوت.

و (العروة الوثقى) الإيمان بالله على وجه المثل والمجاز، كأنه شبه علقة الدين، وإن كانت لا تحس بالمحسوسة الوثيقة الثابتة، فعبر عن المعني بما يعبر به عن الشخص. قال الفرزدق: 223 - عمدت إليك خير الناس حيا ... لتنعش أو يكون بك اعتصامي 224 - وحبل الله حبلك من ينله ... فما لعري يديه من انفصام وقال جرير: 225 - فما لمت البناة ولم يلوموا ... ذيادي حين جدبنا الزحام 226 - إذا مدوا بحبلهم مددنا ... بحبل ما لعروته انفصام

(أن ءاتاه الله الملك) أي بموفور الحال، وجموم المال وجموع الرجال، لا بتمليك الأمر، بدليل قوله: (لا ينال عهدي الظالمين)، ولأن الاستصلاح بالفاسد محال. (فإن الله يأتي بالشمس من المشرق) ليس بانتقال عن الحجة الأولى، ولكن لما رأي عناد نمر وذحجة الأحياء، وتمويهه يتخليه واحد وقتل آخر، كلمة من وجه لم يمكنه [معاندته]، وذلك أنهم كانوا أصحاب تنجيم، وتعظيم للكواكب، وحركة الشمس وجميع الكواكب من المغرب إلى المشرق معلومة.

إلا أنها في الكواكب الثابتة الأبعاد قليلة المقدار. وفي السيارة كثيرة ظاهرة، وفي القمر من جهة سرعته أبين، فإنه من عند [إهلاله] في الأفق الغربي يزداد كل ليلة من الشمس بعداً إلا أن يستقبلها ليلة انتصاف الشهر. فظهر أنه يسير من المغرب إلى المشرق. كانت هذه حركة الكواكب الذاتية الطبيعية.

ثم إن الله بعظيم قدرته وعميم رحمته -كيلا يكون النهار سرمداً [ولمصالح] أخر- محركها بحركة أخرى قسرية قهرية من المشرق إلى المغرب. كتحريرك السفينة مثلا ركابها إلى جهة جريان الماء، وهم متحركون فيها إلى خلاف جهته، وهذه الحركة هي التي ترى الشمس، وكل كوكب طالعا ومرتفعا رويداً ثم غائباً، وإلى مطلعه الأول إنما دكيما وذلك عند [تمام] كل يوم وليلة، وإذا كان هذا مقررا لمن حاج إبراهيم كان وجه الحجة: أن ربي يحرك الشمس قسراً على غير حركتها، فأن كنت ربا فحركتها بحركتها لأن تقرير الشيء على طبعه أهون من نقله إلى ضده. (فـ) عند ذلك (بهت الذي كفر) أي دهش وتحير. (أو كالذي مر على قرية) قيل: لا يجوز أن يكون ذلك [المار] نبيا؛ لأن قوله: (أنى يحي هذه الله)

كلام شاك مستبعد، ولأن الآية على التعجب من قوله كالآية الأولى، ولأن قوله (فلما تبين) وقوله (أعلم) يدلان على شكه في الحال. وقيل: يجوز أن يكون نبيا، وإنما قال ذلك قبل الوحي أو على الطريق التبين بالمشاهدة كقول إبراهيم: (أرني كيف تحيي الموتى). ولأن الإعادة فيه وفي الحمار من المعجزات، ولأن في سياقة الآية (ولنجعلك ءاية) (خاوية) خربة خالية، خوى المنزل: خرب، وخوى النجم: سقط.

(على عروشها) أبنيتها وسقوفها. (لم يتسنه) إن قلت [سانيته] مساناة. فالهاء للوقف. وإذا وصلت قلت: لم يتسن. وإن كان من [سانهت مسانهة] فالهاء: لام الفعل. ويؤكد ذلك سنيهة في تصغير سنة. وقول حتان:

227 - وليست بسنهاء ولا رجبية ... ...................... ومعنى لم يتسنه: لم يتغير باختلاف السنين. أو لم تعمل فيه السنة التي يراد بها الجدب لا الحول. كما قال (ولقد أخذنا ءال فرعون بالسنين) ومنه يقال: أسنتوا إذا أجدبوا. (ننشزها) نرفع بعضها إلى بعض.

والنشز: المكان المرتفع، ونشوز المرأة: ترفعها. (وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتي) سبب ذلك: أنه أرى جيفة مزقتها السباع واستهلكت أشلاؤها الرياح. فأحب معاينة إحيائها، ليقوى علمه اليقيني بالحس والمشاهدة. فتكون على هذا ألف (أولم تؤمن) للتقرير وإن كانت صورتها للاستفهام أي: قد آمنت، فلم تسأل هذا؟ فقال: (ليطمئن قلبي) باجتماع المشاهدة مع العلم. قال كثير في التقرير بلفظ الاستفهام:

228 - أليس أبي بالنضر أم ليس والدي ... لكل نجيب من خزاعة أزهر [ا] (فصرهن إليك) صرت: يقع على إمالة الشيء. وعلى قطعه. صار [هُ] يصيره ويصوره إذا أماله. والأصور: المائل العنق. ومن القطع: الصور [ةُ]: النخلة الفردة المنقطعة عن أخواتها.

والصوار: القطيع من البقر، وصراه: قطعه، فيكون صاره مقلوبة. ويجوز من الأصلين: الصورة لأنها تميل النفوس إليها، ولأنها على تقطيع وتقدير. وكذلك الصوار: قطعة من المسك، فهو من القطع. ومن حيث إنها تميل حاسة الشم إليها: 229 - ولو أن ركباً يمموك لقادهم ... نسيمك حتى يستدل بك الركب فهو من الأصل الثاني، ومنه يقال: المسك كأنه لطيب رائحته يمسك الحاسة عليه. فمن فسر قوله (فصرهن) بأملهن، كان في الكلام حذف كأن المعني فأملهن إليك وقطعهن بدليل قوله: (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا) لأن التجزئة بعد التقطيع.

(قول معروف) أي رد حسن. قال بشامة بن عقير المري: 230 - ألا يكن ورق يوما يجاد به ... [للخابطين] فإني [لين العودٍ 231 - لا يعدم السائلون الخير من خلقي ... إما نوالي وإما [حسن] مردود

(ومغفرة) ستر الفقر على السائل. وقيل: هي التجافي عما يبدر من السائل عند رده. (فمثله كمثل صفوان) وهو الحجر الأملس، أي: صفته صفة صفوان. (أكلها) بتخفيف الكاف وتثقيلها: طعامها. وإنما جاء: (أيود أحدكم أن تكون) بلفظ المضارع (وأصابه الكبر) عطفا عليه بالماضي.

لأن معني أيود هنا: التمني. والتمني يصح في الماضي والمستقبل، وعلى أنه يجوز إطلاق الاسم على المعني وإن لم يحدث. وقال جرير: 232 - لما تذكرت بالديرين أرقني ... صوت الدجاج وقرع [بالنواقيس] المعنى: انتظار أصواتها [لاستطالة] الليل، فأوقع عليه الاسم ولما يكن. (إعصار) أعاصير الرياح: وزوابعها، كأنها تلتف بالنار التفاف الثوب المعصور بالماء. (ولا تيمموا الخبيث)

لا تقصدوا رذال المال وحشف التمر في الزكاة. (إلا أن تغمضوا فيه) بوكسٍ ونقصان في الثمن.

وقيل: إلا [أن] [تأتوا] غامضا من الأمر لتطلبوا بذلك التأول على أخذه. فأغمض على هذا: أتى غامضا، كأعمن أتى عمان، وأعرق أتي العراق. (فنعما هي) أي نعم ما هي، على تقدير الفاعل. ونصف ما على التفسير، أي نعم الشيء شيئاً هي. وفيه أربع لغات مفردة: نَعِمّا ونِعِمَّا ونِعْمَّا ونِعَمَّا. (للفقراء) أي: الصدفة للفقراء، فيكون الفقراء نصبا على المفعول له.

(أحصروا) احتبسوا. الكسائي: أحصروا -بالمرض والجراحات المثخنة في الجهاد- عن الضرب في الأرض، لأنه لو كان من العدو لكان حصروا. (لا يسئلون الناس إلحافاً) لا يكون منهم سؤال فيكون منهم إلحاف، إذ لو سألوا لم يحسبهم الجاهل بهم أغنياء. وهذا كما قال: 233 - ودوية لا يهتدى [لـ]ـمنارها ... إذا لوح الصبح أشجاد دليلها 234 - تراه مرمى بالضحى فإذا دجا ... له الليل لم يشكل عليه سبيلها

أي: ليس ثم [منار] يهتدى بها. (يتخبطه الشيطان) يضربه ويصرعه. (من المس) من الجنون. وهذا الصرع وإن كان بانسداد بطون الدماغ من الرطوبات الفجة سدا غير كامل، ولكن إضافته إلى الشيطان على مجاز إضافة الإغواء الذي يلقى المرء في مصارع وخيمة. (فأذنوا) فاعلموا، وآذنوا: أعلموا، آذنتك بالشيء فأذنت به تأذن إذناً. أي: إنكم أذن حرب الله ورسوله.

(إذا تداينتم بدين) ذكر الدين بعد التداين [للتقرير] والتوكيد. (وليملك الذي عليه الحق) أي على إقراره. (ولا يبخس) ليشهد عليه. (أو لا يستطيع أن يمل هو) أي لخرس أو صبي أو عته. (أن تضل) أن تنسى. وقيل: لئلا تضل، ثم ابتدأ: (فتذكر إحداهما الأخرى)

أي: [تجعلها] كذكر من الرجال. (إلا أن تكون تجارة) أي: تقع وتحدث. وقيل: إن تجارة اسم كان، و (تديرونها) خبرها. (فرهانٌ) أي: الوثيقة رهانٌ.

(وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) أي: ما تضمروه من [معصية]، وتعزموا عليه من مفسدة. وقال مجاهد: من الشكّ واليقين. ولا يقال إنها [نُسِـ]ـخت بقوله: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها)؛ لأن النسخ بيان مدة المصلحة في الشرائع لا في الأخبار والمواعيد، ولأن تكليف ما ليس في الوسع لم يكن قط حتى ينسخ.

وما روي أن الصحابة رضي الله عنهم عز عليهم نزولا وقالوا: "إنا لنحدث أنفسنا [بمالا] يمكننا أن ندرأه عنا، فقد كلفنا ما لا [نطيق]، فنزلت (لا يكلف الله) " فحديث صحيح، إلا أنها نزلت على إزالة التوهم لا على نسخ الخبر المتقدم. (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) الخطأ والنسيان مرفوعان عن الإنسان، فيكون نسينا بمعني تركنا، وأخطأنا بمعني خطئنا، يقال [خطئ] خطأ: إذا تعمد الإثم، وأخطأ إذا لم

[يتعمد]، قال الله عز وجل: (لا يأكله إلا الخطئون). وقال: (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به). فقوله: وأخطأنا على وجهين، إما لأنه لما جاء خطئنا في موضع أخطأنا، جاء أخطأنا في موضع خطئنا. أو يكون أخطأنا: أتينا بخطئة، كقولك: أبدعت إذا أتيت ببدعة. قال النجاشي في أمير المؤمنين على رضي الله عنه: 235 - فمرنا بما تهوى [نجبك] إلى الرضي ... بصم العوالي والصفيح المعتد 236 - فإن نأت ما تهوى فذاك نريده ... به نخط ما تهوى فغير تعمد

وقيل: على ظاهره على طريق التعبد والتضرع عند المسألة وإن كنا نعلم أن الله لا يؤاخذنا بالخطأ والنسيان، كما جاء في الدعاء: (رب احكم بالحق) وكقوله (ربنا [و] ءاتنا ما وعدتنا على رسلك). (لا تحمل علينا إصرا) الإصر هنا: الثقل العظيم من كلفة أمر أو وبال نهي. وسمي في الأصل العهد إصرا، وكذلك الرحم؛ لأن القيام بحقهما ثقيل عظيم. وبالله التوفيق ومنه العصمة. [تمت سورة البقرة]

سورة آل عمران

سورة آل عمران (نزل عليك الكتاب) بالتشديد لتكرير تنزيل القرآن. (وأنزل التوراة والإنجيل) لأنهما أنزلا دفعة كل واحد منهما. وأعاد ذكر (الفرقان) وهو الكتاب [لما] في معني الفرق [بين] الحق والباطل من زيادة الفائدة. والتوراة والإنجيل والفرقان من الأسماء المختلفة المباني، المؤتلفة المعاني؛ لأن التوراة فوعلة من ورى الزند، فيكون "وورية" فانقلبت الواو تاء وقلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها. والإنجيل: إفعيل، من نجل ينجل: إذا أبان واستخرج. ونجل الرجل ولده؛ لأنه مستخرج من صلبه وبطن امرأته. فلإنجيل: لاستخراج علم الحلال والحرام منه.

والفرقان: فعلان من الفرق بين الحق والباطل. فاختلفـ[ـت] المباني واتفقت المعاني من إظهار الأحكام وإبرازها والفرق بين [أشباهها]. (محكمات) المحكم ما تبين واتفق تفسيره فيقطع على مراد الله به. والمتشابه: ما اشتبه، واختلف تأويله فلا ينقطع المراد على واحد منها بعينه. وقيل: المحكم: ما يعلم على التفصيل والوقت والمقدار، والمتشابه بخلافه، مثل: وقت الساعة وأشراطها ومعرفة الصغائر بأعيانها ومقادير الثواب والعقاب وصفة الحساب إلى غير ذلك.

فيكون الوقف على هذا عند قوله: (وما يعلم تأويله إلا الله). ومن وقف على قوله (والراسخون في العلم) كان (يقولون) في موضع الحال، أي: يعلمون تأويله قائلين: (ءامنا به كل من عند ربنا). وهذا هو المدح الموجه والغاية في الإحماد؛ لهم لأنهم إذا علموه [وصدقوا] به فقد بلغوا في الإيمان كل مبلغ. ونظيره من كلام العرب قول [يزيد] بن المفرغ:

237 - وشريت بردا ليتني ... من بعد برد كنت هامه 238 - [أو] هامة تدعو صدى ... بين المشقر واليمامه 239 - الريح تبكي شجوه ... والبرق يلمع في غمامه كأنه قال: والبرق أيضا [يبكيه] لامعا في غمامه أي في لمعانه، وإلا لم يكن للكلام معنى. وإنما كان الكلام المحكم أم الكتاب؛ لأنه كالأصل في رد المتشابه إليه، واستخراج علمه منه، وذلك كالاستواء في المتشابه إذ يكون بمعني الجلوس على السرير، وبمعني القدرة والاستيلاء وهذا يجوز على الله، والأول لا يجوز بدليل المحكم وهو

قولـ[ـه]: (ليس كمثله شيء). والحكمة في المتشابه: البعث على النظر والبحث في علم القرآن؛ لئلا تهمل الأدلة العقلية. (يرونهم مثليهم) في قصة [بدر]، وكان المسلمون ثلاث مائة وبضعة عشر، والمشركون زهاء ألف، فأراهم الله في أعين المسلمين مثليهم، وقللهم لتثبيت قلوبهم. والقنطار: من الدينا [رِ] ألف ومائتا مثاقيل.

وقيل: ملء مسك ثور ذهباً. (المقنطرة) المعدة المنضدة، على قياس الدنانير المدنرة، والدراهم المدرهمة، في إرادة الكثرة والمبالغة. قال رؤبة: 240 - وجامع القطرين مطرخم 241 - بيض عينيه العمي المعمي

(المسومة) المعلمة. وقيل: السائمة: الراعية. وقيل: إنها من الحسن، إذ السيما يكون بالحسن كما يكون بالعلامة. (شهد الله) قضى الله.

وقيل: شهادة الله إخبار، وشهادتنا: إقرار. وقيل: شهادة الله في ما خلق من العالم لتكون مشاهدة آثار الصنعة فيه شهادة على صانعها الحكيم. (قائما بالقسط) على الحال من اسم الله، أي ثبت تقديره بالعدل واستقام تدبيره على الحق. (إن الذين) بالكسر على الاستئناف. وبالنصب على البدل من (أنه لا إله إلا هو). (بغيا بينهم) مفعول الاختلاف. وقيل: مصدر فعل محذوف، أي بغوا بينهم بغياً.

(قل اللهم) الميم بدل من ياء النداء، ولهذا لا يقال في الخبر: اللهم، ولا يجمع بينها وبين ياء النداء. وقال الفراء: هو الله أم، أي أقصد بالخير. ولو كان كذلك لا يجمع بينهما، ولا يقال: اللهم آمنا بالخير، كما لا يقال: يا اللهم. (ترزق من تشاء بغير حساب) العرب [تسمي] العطاء اليسير محسوبا كما قال قيس بن الخطيم:

241 - أنى سربت وكنت غير سروب ... في النوم غير مصرد محسوب (يعلمه) مجزوم بالشرط. (ويعلم ما في السماوت) مرفوع على الاستئناف. (ءال إبراهيم) أهل دينه من كل حنيف مسلم. وإنما أبدلت هاء الأهل همزة فصار ءال، ثم أبدلت الهمزة ألفا فصار آل، ثم خص به الأكبر فالأكبر من المشهرين.

(وءال عمران) موسى وهارون عن ابن عباس. والمسيح وأمه مريم بنت عمران عن الحسن. (ذرية) نصبها على البد من آل إبراهيم. وأصلها إما ذرأ، من ذرأ الله الخلق.

أوذر من الذر. في الخبر: "إن الخلق كان في القديم من الذر". أو ذرو أو ذري من [ذروت] الحب وذريته، كقوله تعالى: (فأصبح هشيما تذروه الرياح) وذريتها. وطريق الصنعة [فيها] على اختلاف هذه المواضع الأربعة يلطف عنه الكتاب. (محررا)

مخلصا لله، على عادة الزمان في التبتل وحبس الأولاد على العبادة في بيت المقدس. وقيل: عتيقا من أمر الدنيا ليتخلى بطاعة الله من تحرر الرقبة. (فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا) المصدر على بناء الفعل. كما قال القطامي: 242 - وخير الأمر ما استقبلت منه ... وليس بأن تتبعه اتباعاً 243 - كذلك وما رأيت الناس إلا ... إلى [ما] جر [غاويهم] سراعاً

والقبول من المصادر الغريبة، مثل الولوع والوضوء يقال: توضأت وُضُوءا وَوَضُوءا، فالأول مصدر والثاني صفة. (وكفلها) بالتخفيف: قبلها وقام بأمرها. وبالتثقيل: أمر إنسانا بتكفلها. (هنالك) عند ذلك، والأصل في هناك ظرف المكان، وبزيادة اللام تصير ظرف زمان: لأن اللام للتعريف، والزمان أدخل في التعريف.

(يبشرك) خفيف: كنانية تهامية، ومنه البشير فعيل بمعني فاعل، ويبشرك: [تميمية]، ويبشرك: حجازية. (مصدقا بكلمة من الله) أي بعيسى، وسمى كلمة الله؛ لأنه كان بقول الله (كن) ولم يكن من أب، ولأنه كان يهتدي به كما يهتدي بكلمات الله، ولأن الله تكلم في التوراة بولادته من العذراء والبتول، وأنه [يتكلم] في المهد ويحيى الموتي.

والحصور: الذي لا يأتي النساء، والذي لا يذيع السر، والذي لا يخرج من الندامي شيئا. (أنى يكون لي غلام) على التعجب لا التشكك، كأنه استعظم قدرة الله على نقض العادة.

وقيل: إنه سؤال حال تكون له معها الولد، أيرد إلى الشباب وامرأته ولود، أم على حالهما في العقم والكبر. فقال: (كذلك) على حالكما. (رب اجعل لي ءاية) أي: علامة لوقت الحمل، وذلك ليعجل السرور به، فكانت العلامة أن منع كلام الناس ولم يمنع من ذكر الله. والرمز: الإيماء الخفي. وتكرير الاصطفاء؛ لأن الأول: الاصطفاء بالعبادة والولاية. والثاني: بولادة عيسى عن غير ازدواج و [أمشاجٍ].

وإنما ألقوا الأقلام، وضربوا عليها بالقداح تفاديا عنها، وتدافعا لها؛ لأن السنين ألحت [عليهم]، والأزمان بلغت منهم. وقيل: بل ألقى الله عليها محبة منه فتنافسوا في كفايتها. مقترعين فقرعهم زكريا. والمسيح: من الأسماء المشتركة، فالمسيح: سبائك الذهب، والمسيح: مادون الفود من الرأس.

والمسيح: الكثير الجماع، والمسيح: المنديل الأخشن. والمسيح: الذراع، والمسيح: العرق. والمسيح: الكذاب، وبه سمي الدجال. والمسيح: الصديق، وبه سمي عيسى عليه السلام. وقيل: إنه سمي به لأنه مسح بالبركة. وقيل: إنه من المسيح بالدهن، إذ كان في بني إسرائيل شرط القيام بالملك، وملك العالم -الذي هو النبوة- أولى بذلك. وقيل: إن إيليا مسحة بالدهن فسمي مسيحاً.

فهو على هذه الأقاويل "فعيل" بمعني "مفعول" مثل: الصريع والجريح. وقيل: إنه ما كان يمسح ذا عاهة إلا برأ، فهو بمعني الفاعل كالرحيم والعليم. وقيل: إنه المصدق أي صدقه الحواريون، فهو فعيل بمعني مفعل كالوكيل [والوليد]. وإخبار الملائكة بكلام عيسى "كهلاً" على أنه يبلغ الكهولة. وهذا علم الغيب، وفيه أيضا رد على النصارى، فإن من يختلف أحواله لا يكون إلهاً. (ويكلم الناس) في موضع النصب على وجيها، كأنه قيل: "وجيها ومكلما (في المهد وكهلا) كما قال:

244 - [بات يغشيها] بغضب باتر ... يقصد في أسوقها وجائر أي: قاصد وجائر، صفتان للباتر. والزجاج يقول: إن (ورسولا) ايضا عطف على هذا الموضع. أي: يكلمهم في المهد وكهلا ورسولا. وقال [الأخفش: الواو] زائدة، تقديره: ويعلمه الكتاب رسولا. (من أنصاري إلى الله) أي: مع الله.

وإنما يستعمل الحروف بعضها مكان بعض بشريطة، وهي تقارب الأفعال، فإذا تقاربت، وكان بعضها يتعدى بحرف وبعضها بحرف آخر، فيوضع [أحد] الحرفين موضع [صاحبه] وإلا فلا يجوز: "سرت إلى زيد" وأنت تريد "معه" ووجه المقاربة في الآية [ما] في الحرفين من معني الإضافة والمصاحبة، كأنه قيل: من ينضاف في نصرتي إلى الله، فهو مثل: "من ينضاف في نصرتي مع الله". وكذلك معنى الإضافة في اللام وحاصل. وتخفيف (الحواريون) في بعض [القراءات] يشكل لامتناع [ضمة] الياء [المكسور] ما قبلها، إلا أن يقال: إن أصل الياء في (الحواريون) مشددة، وإنما خففت استثقالا لتضعيف الياء، فكانت الحركة حالة التخفيف تنبيها على إرادة معني التشديد وتصويرا له. (ومكر الله)

على مزاوجة الكلام. أو على المعني الذي [استثنيناه] من ابتداء الكتاب في الصفات، أنها لا تكون على التوهم اللفظي بحسب المبتدأ، ولكنها بحسب المنتهي والتمام. فالمكر ابتداؤه منا: إرادة أن توقع الممكور به في شره، وتمامه يكون بتدبير خفي لا يطلع عليه. فهو من الله: التدبير الخفي في ضرب يناله المستحق على وجه لم يحتسبه. (إني متوفيك) قابضك برفعك إلى السماء من غير موت.

يقال: توفيت منه حقي: تسلمته. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: "أنه توفاه الموت، ثم أحياه ورفعه إلى سمائه ومحل كرامته". وإنما أضاف الرفع إليه جل وعز للتفخيم والتعظيم، كقول إبراهيم: (إني ذاهب إلى ربي) وإنما ذهب من العراق إلى الشام. (تعالوا) أصله: تعاليوا، فسقطت الياء تخفيفاً، وبقيت الواو علامة للجمع.

وقرأ الحسن مع جماعة "تعالوا" بضم اللام، إشارة إلى حركة الياء المحذوفة. وإنما يقال: تعالى في موضع تقدم؛ لأن التقدم: تعال، والتأخر انخفاض ألا ترى أن قولك: قدمته إلى الحاكم كقولك: [ترافعنا] إليه. (نبتهل) نخلص في الدعاء على الكاذب والمعاند. ويقال: نلتعن. يقال [عليه] بهلة الله أي: لعنته.

وامتنع المحاجون عن المباهلة، وهم نصارى نجران. (إن هذا لهو القصص الحق) خبر (هذا) (القصص)، و (لهو) عطف بيان، ويجيء في مثل هذا الموضع لتقرير المعنى. والكوفيون يقولون لمثله: العماد، ولا يرون له موضعا من الإعراب. وكذلك حكم (هؤلاء) في قوله: (هأنتم هؤلاء حججتم). وإنما دخلت (من) في قوله (وما من إله إلا الله) لأنها ابتداء الغاية فلما اتصلت بالنفي عمت النفي من ابتداء الغاية إلى انتهائها. (وجه النهار)

أوله. قال الربيع بن زياد: 245 - من كان [مسرورا] بمقتل مالك ... فليأت نسوتنا بوجه النهار 246 - يجد النساء حواسرا يندبنه ... بالصبح قبل تبلج الأسحار (أن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم)

يحتاج فيه إلى [تقدير]: "لا" أي إن هدى الله أيها المسلمون أن لا يؤتي أحد مثل ما أوتيتم من الكتاب، وأن لا يحاجوكم. فتكون الجملة خبر (إن الهدى هدى الله) وهذا القول على تمام الكلام على حكاية قول اليهود: (ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم) ثم الابتداء بقوله: (إن الهدى). وفيه قول آخر [للزجاج]: وهو أن الآية جميعها حكاية قول اليهود لقومهم "إنا والمسلمون على هدى، فلا تؤمنوا لهم لئلا يصدقهم المشركون بسب تصديقكم، ويحاجوا من أنكر عليهم إيمانهم لهم بإيمانكم". (ليس علينا في الأمين سبيل) أي: لا سبيل علينا في الذي أصبنا من مال العرب.

وقيل: إنها في أمانة أبي أن يردها بعض اليهود على صاحبها بعد ما أسلم، وقال: إن في كتابنا أن مالكم يحل إذا بدلتم دينكم. وعند نزولها قال عليه السلام "كذب أعداء الله ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي هاتين إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر". [و] العرب أميون؛ لأنهم لا يكتبون فكأنهم على ما ولدتهم أمهم. وقيل: بأنه نسبة إلى مكانهم بأم القرى مكة.

(بلى) مكتفية بنفسها وعليها وقف تام [كأنه] "بلى عليهم سبيل". (يلون ألسنتهم) يحرفونها بالتبديل والتغيير. وأصله يحركونها. قال الفرزدق: 247 - ولما بدا وادي القرى من أمامنا ... [وأشرق أقتار] البلاد القوائم 248 - لوى كل مشتاق من القوم رأسه ... بمغرورفات كالشنان الهزائم

(ربنين) [بـ]ـالعلم، والربان: الذي [يربُّ] الأمر ويدبره، رب الشيء يربه فهو ربان [أو الرباني منسوب إلى الرب] فغير لياء الإضافي كالبحراني واللحياني. وكما قالوا في أمس: إمسي، وفي حرم: حرمي، وقد قرى في بعض القراءات (ربيون). (وإذ أخد الله ميثاق النبيين) بأن أخذوا على قومهم تصديق محمد عليه السلام. (ولما ءاتيتكم)

قال المبرد: هذه [لام] التحقيق دخلت على "ما" الجزاء، ومعناه: "لمهما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول لتؤمنن به. ولام (لتؤمنن) لام القسم. مثل قولك: لزيد والله لتأتينه. وقيل: إن اللام الأولى: للقسم، أي والله لما آتيتكم، والثانية في (لتؤمنن): جواب القسم، على مثال قوله (ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله) أي: والله لإن قتلتم لمغفرة من الله. ومن قرآ (لما آتيتكم): كان من أجل ما آتيتكم؛ لأن من أوتي الكتاب أخذ عليه الميثاق بما فيه.

وقيل: إن هذه اللام المكسورة بمعني: بعد، أي: بعد ما آتيتكم كما تقول لثلاث خلون. قال النابغة: 249 - [توهمت] آيات لها [فعرفتها] ... لستة أعوام وذ [ا] العام سابع وقال المثقب: 250 - لمن ظعن تطالع من صبيب ... فما خرجت من الوادي لحين أي: بعد حين وإبطاء.

(وله أسلم) استسلم وانقاد. قال الحسن: أهل السموات طوعا، وأهل الأرض بعضهم طوعا وبعضهم كرها، إما من خوف السيف في حالة الاختيار أو لدى المعاينة عند الاضطرار. (إلا ما حرم إسرائيل على نفسه) سبب تحريم يعقوب عليه السلام لحوم الإبل على نفسه أنها كانت أحب الطعام إليه، فنذر إن شفاه الله من عرق النسا، أن يحرم أحب الطعام إليه.

ثم قيل: إن ذلك التحريم كان بإذن الله، إذ التحريم والتحليل إلى الله. وقيل: كان بالاجتهاد، لإضافة التحريم إليه. والاجتهاد للأنبياء جائز، وكذلك تحريم الحلال جائز في شريعتنا وموجبة الكفارة [كـ]ـاليمين، قال الله تعالى (يأيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك). ويجوز أن يكون يعقوب توهم في لحوم الإبل زيادة العلة عليه فحرمها على نفسه بواحدة قطعا للشهوة وتصميما للعزيمة. (بكة)

مكة عن مجاهد، وموضع البيت عن إبراهيم. وبطن مكة عن أبي عبيد [ة]، وهي من التباك: أي الازدحام [وقيل]: لأنها تبك أعناق الجبابرة. كما قالت الأعرابية في الجاهلية: 251 - أبني لا تظلم بمكـ ... ـة لا الصغير ولا الكبير

252 - أبني من يظلم بمكـ ... ـة يلقى في الظلم الشرور (فيه ءايت بينات) من اجتماع [الغزلان] والذؤبان حتى إذا خرجت من الحرم عاد الذئب إلى الصياد، والغزال إلى النفار، ومن إهلاك من عتا فيه، ومن قصة أصحاب الفيل، ومن انجمار أثر الجمار مع طول مدة الرمي وكثرته، ومن امتناع الطير من الوقوع على البيت، وإذا غامت في أيام الباكور ناحية الركن

اليماني سقيت اليمن ذلك العام، وإن غامت [ناحية] الشامي [سقيت] الشام، وإذا عم البيت سقى البلاد، إلى غير ذلك من بئر زمزم وأثر قدمي إبراهيم في [المقام]. (شهداء) عقلاء، كقوله: (أو ألقى السمع وهو شهيد). (تبغونها عوجا) تبغون لها عوجا، كقوله: (يبغونكم الفتنة). فالعوج في القول والعمل والأرض، والعوج في الحيطان والسواري. (وأنتم مسلمون) مستسلمون لأمر الله ورسوله. (شفا حفرة)

شفيرها وحرفها. (كنتم خير أمة) أي: [فيما] تتسامعه الأمم من تواتر البشارة بكم. قيل: إن كان هذه تامة، أي حدثتم خير أمة. وقيل: إن كنتم وأنتم سواء، ودخول كان وخروجها بمنزلة، إلا ما يفيد من تأكيد وقوع الأمر، بمنزل ما قد كان في الحقيقة. (إلا أذى) إلا كلاماً مؤذياً.

(بحبل) بعهد. (ليسوا سواء من أهل الكتب أمة قائمة) لما أسلم عبد الله بن سلام وجماعة معه، قالوا: لم يسلم إلا شرارنا. والضمير في (ليسوا) يعود على أهل الكتاب لتقدم ذكرهم. وعن أبي عبيدة: أنه على أكلوني البراغيث. (فلن تكفروه)

لا يستر عنكم ثوابه، سمى منع الثواب على المجاز كفرا، كما سمي ثواب الله شكرا فقيل لله: شاكر. (صِرٌّ) صوت ريح باردة، من الصرير. قال حاتم طئ: 253 - الليل يا واقد [ليل] قر 254 - والريح يا واقد ريح صر 255 - أوقد [ير] نارك من يمر 256 - إن جلبت ضيفا فأنت حر (بطانة)

دخلاء [يستنبطون] أمر الرجل. (لا يألونكم خبالاً) لا يقصرون في أموركم شرا وفسادا. وقيل: نقصانا واضطرابا، ومنه يقال للمضطرب: مخبل. ويقال: دماء و [خبول]، فالخبول: ما دون النفس لاضطراب هيئة البنية عند ذهاب أطرافه. قال الزجاج في عروضه: ومنه المستفعلن إذا حذف سينه وفاؤه فنقل إلى "فعلتن" [مخبول].

(هأنتم) تنبيه، و (أولاء) خطاب للمنافقين ليظهر فائدة التكرير. (لا يضركم) جواب شرط حذف فاؤه لدلالة الكلام عليها. وقيل: إنه كان لا يضرركم مجزماً بجواب الشرط، فأدغمت الراء في الراء، ونقلت ضمة الأولى إلى الضاد، وضمت الراء الأخير اتبا [عاً] لضمة الضاد كما قالوا في "أمدد" مد يا فتي. (وإذ غدوت من أهلك) في يوم أحد عن ابن عباس. (إذ همت طائفتان)

هما بنو سلمة، وبنو حارثة حيان من الأنصار. (والله وليهما) أي: كيف يفشل من الله وليه. (من فورهم) من وجههم. وقيل: من غضبهم تشبيها لاضطراب الغضبان وثورانه بفوران القدر. (مسومين)

أي: ارسلوا إلى الكفار كالسائمة في الرعي. [وقيل]: إنه من السومة، أي سوموا وأعلموا. وكانت سؤمتهم عمائم بيض، وسومة خيلهم [الأصواف الخضر في نواصيها]. (إلا بشرى لكم) أي: دلالة على أنكم على الحق. (ليقطع طرفا من الذين كفروا) في يوم بدر صناديد الكفر وقلادة الضلال.

(أو يكبتهم) يخزيهم. وقيل: يصرعهم على وجوههم. (أو يتوب عليهم) حتى يتوب عليهم. [أو] إلا أن [يتوب] عليهم. والأحسن أنه عطف على (أو يكبتهم) ليبقي اللفظ على وضعه، ثم يكون (ليس لك من الأمر شيء) اعتراضاً.

(أضعافا مضاعفة) كلما جاء أجله أجلوه ثانيا وزادوا على الأصل والفضل ربا. (وجنة عرضها السماوات والأرض) أي: إذا بسط وضم بعضها إلى بعض. وقيل للنبي عليه السلام: إذا كانت الجنة عرضها السموات والأرض، فأين النار؟ فقال: "سبحان الله إذا جاء النهار فأين الليل". وتعسف ابن بحر في تأويلها فقال" عرضها ثمنها لو جاز بيعها من المعاوضة في عقود البياعات.

(الذين ينفقون في السراء والضراء) خصهما بالذكر لأنهما داعيتا البخل. وحب المال يكون في حالتين: عند كثرته منافسة فيه، أو عند قلته حاجة إليه. الأول: مثل [قول] الشاعر: 257 - إذ [ا] البقل في أصلاب شول بن مسهر ... نما لم يزدها البقل إلا تكرما 258 - إذ [ا] أخذت شول [البخيل] رماحها ... [دحا] برماح [الشول] حتى تحطما والثاني: مثل قول [أبي] محجن:

259 - لا تسألي القوم عن مالي وكثرته ... وسائلي القوم عن ديني وعن خلقي 260 - فقد أجود وما مالي بذي ... فنع وأكتم السر فيه ضربة العنق وإنما قال: (إن كنتم مؤمنين) وهم مؤمنون ليعلم أن من صدق الإيمان ألا يهن المؤمن ولا يحزن لثقته بالله. (فرح) بالفتح: جراح، وبالضم: ألم الجراح.

وقيل: إن الفتح مصدر والضم اسم. (نداولها) نصرفها بتخفيف المحنة وتشد يدها. ولم يرد مداولة النصر بين المؤمنين والكافرين؛ لأنه لو نصر الكافرين لكان أحبهم، وإنما لم يكن الأيام أبداً لأولياء الله؛ لأنه ادعى إلى احتقار الدنيا الفانية الغير الوافية والعبد منه أعرف [لقيمة] الظفر وحسن العاقبة. (وليمحص) يخلص ويصفى من الذنوب، من محصت الماشية تمحص محصا إذا املصت وذهب وبرها، ولما كان محص الذنوب كمحق النفوس في النفاذ والذهاب تطابقا في الذكر وتوازناً.

(ولما يعلم الله) معناه حدوث معلوم، لا حدوث علم. (ويعلم الصابرين) نصب (ويعلم) على الصرف على العطف، إذ ليس المعنى نفي الثاني حتى يكون عطفا على نفي الأول، وإنما هو على منع اجتماع الثاني والأول، [كما] في قول المتوكل الليثي: 261 - لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم 262 - وأقم لمن صافيت وجها واحدا ... وخليقة إن الكريم قؤوم

(تمنون الموت) غاب رجل عن بدر فتمنوا الشهادة ثم تولوا في أحد. (وما محمد إلا رسول) أشيع موته عليه السلام يوم أحد وقالوا: لو كان نبيا ما مات. (وكأين) فيها أربع لغات: كَأَيِّن، وكَائِن بوزن كَاعِنٍ، وكَأْيِن الهمزة بعد الكاف

وزن كعْين، وكَئِنْ في وزن كَعِنْ، وأصل كلمة كَأَيِّن في معنى" كم"، وزعم يونس في كائن إلى أنه فاعل من الكون، ولو كان كذلك لأعرب. (قاتل معه ربيون) في موضع الجر على الوصف لنبي، [أو] موضع النصب على الحال. والربيون: العلماء الصبر عن الحسن.

وقال يونس وقطرب: هم جماعات في فرق. (تحسونهم) تستأصلونهم قتلا. (وعصيتم) إذ أخلت الرماة بالموضع الذي وصاهم النبي عليه السلام. (منكم من يريد الدنيا) النهب والغنم. (إذ تصعدون) تعلون طريق المدينة. والإصعاد: الابتداء بالسير نحو صعود من الأرض.

وقيل: بل الإصعاد: الإبعاد في الذهاب. كقول سلمة بن الخرشب: 263 - وأصعدت الحطاب حتى تقاربوا ... على خشب الطرفاء فوق العواقر وقول بشر: 264 - وأصعدت الرباب فليس منها ... بصارات ولا بالحبس نار

265 - فحاطونا [القصا] ولقد [رأونا] ... قريبا حيث يستمع السرار يقال: أصعد الرجل: ارتفع. وأفرع: هبط، وفرع مثل أصعد. وإنما يريد إبعادهم في السير بسبب عزهم حتى جاوزوا بلادهم في طلب الحطب [آمنين]. ولأنها نزلت في قوم من المسلمين استنبطوا الشعب آخذين طريق مكة ورسول الله فوقهم في الجبل يدعوهم فلا يجيبونه.

(غما بغم) أي: على غم، كقولك: نزلت ببني فلان أي: عليهم. والغم الأول: بما نيل منهم، والثاني بما أرجف من قتل الرسول. (وطائفة قد أهمتهم أنفسهم) أي: المنافقون حضروا للغنيمة وظنوا ظنا جاهليا أن الله لا يبتلي المؤمنين بالتمحيص والشهادة. (إن الأمر كله لله) نصب (كله) على التأكيد لأمر، أي: إن الأمر أجمع، ويجوز على

الصفة، أي: الأمر جميعه. ويجوز على البدل من الأمر، أي: إن كل الأمر لله. ورفع (كله) على أنه مبتدأ و (لله) خبره، والجملة من المبتدأ وخبره خبر إن. (غزى) جمع غاز، كشاهد وشهد وعائد وعود. (ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون) اللام الأولى حلف من أنفسهم، والثانية: جواب كأنه "والله إن متم لتحشرون".

(فبما رحمة من الله) أي: فبأي رحمة من الله، تعظيما للنعمة عليه فيما أعانه من اللين لهم في ذلك المقام، ولو غلظ إذ ذاك لانفضوا عنه هيبة وخوفا فيطمع العدو فيه. والفظ: الجافي الغليط، ومنه الافتظاظ لشرب ماء الكرش لجفائه على الطبع. قال:

266 - [وأي] فتى صبر على [الأين والظلما] ... إذا اعتصروا اللوح [ماء] فظاظها 267 - إذا ضربوها ساعة بدمائها ... [وحل عن] الكوماء عقد شظاظها قال الفرزدق: 268 - أمسكين أبكي الله عينك إنما ... جرى في ضلال دمعها إذ تحدرا 269 - بكيت امرءاً فظا غليظا مبغضا ... ككسرى على عدانه أو كقيصرا (أن يغل)

أن يخون، وأن يغل: يخان. وقيل: أن يوجد غالا كقولك: أجبته وأبخلته. وقيل: أن يقال له غللت، من قولك: أكذبته وأكفرته. (ومن يغلل يأت بما غل) أي: حاملا خيانته على ظهره. وقيل: إنه لا يكفره إلا رده على صاحبه.

(هم درجات) أي: مراتب، أهل [الثواب] والعقاب، النار دركات والجنة درجات. وفي الحديث: "إن أهل الجنة ليرون أهل عليين كما يرى النجم في السماء". ولما اختلفت أعمالهم جعلت كاختلاف الذوات في تفاوت الدرجات. كقول ابن هرمة:

270 - أنصب للمنية تعتريهم ... رجالي أم هم درج السيول (قد أصبتم مثليها) كان يوم أحد، قتل سبعون من المسلمين وقد قتلوا يوم بدر سبعين من المشركين وأسروا سبعين. (أو ادفعوا) أي: بتكثير السواد إن لم يقاتلوا. (يقولون بأفواههم) فإن قيل: معلوم أن القول لا يكون إلا بالأفواه!؟

قلنا: إن القول يحتمل باللسان، وبالقلب، فيكون بمعنى الظن والاعتقاد. قال توبة: 271 - ألا يا صفي النفس كيف تقولها ... لو أن طريدا خائفا يستجيرها 272 - يخبر إن شطت بها غربة النوى ... ستنقم ليلي أو يفك أسيرها (ويستبشرون بالذين لم يلحقوا) يطلبون السرور في البشارة بمن [يقدم] عليهم من إخوانهم كما يبشر بقدوم الغائب أهله. (الذين قال لهم الناس) هو نعيم بن مسعود الأشجعي حين ضمن له أبو سفيان مالا ليجبن

المسلمين ويثبطهم حتى يكون التأخر من المسلمين لا منه. إقامة الواحد مقام الجمع إما لتفخيم الأمر، وإما لابتداء القول أو العمل، كما إذا انتظرت قوماً فجاء واحدٌ منهم، قلت: جاء الناس. (يخوف أولياءه) أي: يخوفكم أولياءه، أو يخوف بأوليائه، كقوله: (لينذر بأسا شديدا) (أنما نملي لهم خير لأنفسهم) وقع موقع المفعولين لقوله: (ولا تحسبن الذين كفروا) أي: لا تحسبوا

إملاءنا خير لأنفسهم. وهذا كقولك: حسبت أن زيدا قائم، فإنه في حكم مفعولين، لأنه حديث ومحدث عنه. والإمالة: إطالة المدة، والملاوة: الدهر. (ليزدادوا إثما) أي: لتكون عاقبة أمرهم ازدياد الإثم. (وما كان الله ليطلعكم على الغيب) في تمييز المؤمنين من المنافقين؛ لما في ذلك من رفع المحنة، ولكن يطلع أنبياءه (على الغيب) على بعض الغيب بقدر المصلحة. (بقربان) القربان: هو التقرب، مصدر من الرجحان والخسران، ثم سمي المتقرب به توسعا.

وإنما جمع بين الزبر والكتاب؛ لأن أصلهما مختلف؛ لأنه زبور لما فيه من الزبر، أي الزجر عن خلاف الحق. وهو كتاب؛ لأنه ضم الحروف بعضها إلى بعض. و (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا) أي اليهود الذين فرحوا بتكذيب النبي عليه السلام والاجتماع على كتمان أمره. وخبر لا يحسبن الأولى: (بمفازة من العذاب) ودخل بينهما (لا تحسبنهم) لطول الكلام.

(سمعنا مناديا) القرآن. (لا يغرنك) أي: أيها السامع. (تقلب الذين كفروا في البلاد) أي: بالنعم غير مأخوذين بكفرهم. (نزلا من عند الله) على معنى المصدر؛ لأن خلودهم فيها يقتضي نزولهم نزلا. وقيل: على التفسير، كقولك: هو لك هبة أو صدقة. (إن الله سريع الحساب) أي: سريع المجازاة على الأعمال، وأن وقت الجزاء قريب. أو معناه محاسبة جميع الخلق في وقت واحد، ويقال: إن مقدار ذلك: مقدار حلب شاة؛ لأنه تعالى لا يشغله شأن عن شأن.

(اصبروا) أي: على طاعة الله. (وصابروا) أي: أعداء الله. (ورابطوا) أي: في سبيل الله. والمرابطة والرباط كلاهما ربط الخيل في الثغر، والإقامة فيه لدفاع العدو. قال الأخطل: 273 - مازال فينا رباط الخيل معلمة ... وفي كليب رباط اللؤم والعار 274 - النازلين بدار الذل إن نزلوا ... و [تستبيح] كليب حرمة الجار [تمت سورة آل عمران]

سورة النساء

سورة النساء (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) أي: اتقوا الأرحام أن تقطعوها. وقيل: أسألك بالله وبالرحم. [بين] ذلك افتتاح الكلام بخلقهم من نفس واحدة، وهو يدعوا إلى التعاطف والتواصل في الأرحام وحفظ النساء والأولاد. وهذا أولى من كسر الأرحام عطفا على الضمير في (به) لفظا؛ لأنه

لا يعطف على الضمير المجرور لضعفه، ألا ترى أنه ليس للمجرور ضمير منفصل.

(وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم) أي أدرك من النساء، كما يقال: طابت الثمرة: إذا أدركت. فيكون المراد التحذير من ظلم اليتيمة، وأن الأمر في البالغة أخف، كما روي أن عروة سأل عائشة عن الآية، فقالت: "هي اليتمية في حجر وليها، فيرغب في مالها وجمالها، ويقصر في صداقها". وقيل: كانوا يتحرجون في أمر اليتامي ولا يتحرجون في النساء، فنزلت. أي: إن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى، فخافوا كذلك وإنما قال: (ما طاب) ولم يقل "من طاب"؛ لأنه قصد النكاح لا المنكوحة، أي انكحوا نكاحا طيبا فيكون (ما) بمعني المصدر.

(مثنى وثلاث ورباع) هذه صيغ لأعداد مفردة مكررة في نفسها، وكذلك منعت الصرف لما عدلت عن وضعها الأول في اللفظ والمعنى. ألا ترى أن الواحد لما لم ينقسم من الوجه الذي قيل له: بأنه واحد وأحاد، منقسم بالكثرة المشتركة على [آحاد] غير منقسمين، وكذلك مثنى وثلات، كل لفظ منها محمول على الكثير في ذلك العدد. قال الهذلي: 275 - ولكنما أهلى بواد أنيسه ... ذئاب تبغى الناس مثنى وموحد

(تعولوا) تجوروا. روته عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه. ومن فسره بكثر [ة] العيال، فقد حمله على المعني لا على اللفظ

العيال، وإنما هو من قولهم: عال الميزان إذا رجحت إحدى كفتيه على الأخرى، فكأنه إذا كثر عياله ثقلت عليه نفقتهم. وقيل: تميلوا. قال الفرزدق: 276 - ترى الغر [الجحاجح] من قريش ... إذا ما الأمر في الحدثان عالا 277 - قياما ينظرون إلى سعيد ... كأنهم يرون به هلالا (صدقاتهن نحلة)

يقال صَدُقَةٌ وصُدُقة وصداق وصداق. وسئل ثعلب: أن النحلة كلها هبة، والصداق فريضة؟ فقال: كان الرجل يصدق امرأة أكثر من مهر مثلها، فإذا طلقها أبى إلا مهر مثلها فبين الله أن تلك الزيادة -التي كانت في الابتداء تبرعا ونحلة- وجبت بالتسمية كمهر المثل. وقيل: نحلة: هبة من الله للنساء. (هنيئا مريئا) هنأني الطعام ومرأني، فإذا أفردت قلت: أمرأني. (قياما) قوما، كما يقال: طال طيلك وطولك.

(ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) قال ابن عباس: " [قرضا] ثم يقضيه إذا وجد". وقال الحسن: "لا يقضي ما صرفه إلى سد الجوعة وستر العورة".

(وللنساء نصيب) نزلت حين كانت العرب لا تورث البنات. (إنما يأكلون في بطونهم نارا)

لما كانت غايتهم النار، كما قيل فيمن أخذ الدية: 278 - وإن الذي أصبحتم تحلبونه ... ثم غير أن اللون ليس بأحمرا وقال آخر: 279 - وما كنت أخشى خالدا دمه ... على مكللة الشيزي تمور وتطفح

وفي ضده: 280 - فلو أن حيا يقبل المال فدية ... لسقنا لهم سيلا من المال مفعما 281 - ولكن أبي قوم أصيب أخوهم ... رضي العار واختاروا على اللبن الدما وقال آخر: 282 - غدا ورداؤه لهق [حجير] ... ورحت أجر ثوبي أرجوان 283 - كلانا اختار فانظر كيف تبقى ... أحاديث الرجال على الزمان

(وسيصلون سعيرا) صلى النار يصلى صلى: إذا لزمها. (وسيصلون) بالضم على ما لم يسم فاعله، من أصليته ناراً: ألقيته. فيها ويجوز من صليته صلى ناراً، أو صليته، لازم ومتعد، ومنه [ا] لحديث: "أتى بشاة مصلية" أي مشوية. (فإن كان له إخوة)

أي الأخوان فصاعدا. وإنما حجبت الإخوة الأم عن الثلث، وإن لم يرثوا مع الأب معونة للأب إذ هو كافيهم وكافلهم. وقد نبه عليه قوله: (لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا) أي لا تعلمونه والله يعلمه، فاقسموه كما أمره من يعلم المصالح والعواقب. والكلالة: ماعدا الوالد والولد من القرابة المحيطة بالولاد إحاطة الإكليل بالرأس. (واللاتي يأتين الفاحشة)

منسوخة، والسبيل الذي جعل الله لهن: جلد البكر ورجم الثيب. وابن بحر: لا يرى النسخ فيحملها على خلوة المرأة بالمرأة في فاحشة السحاق، والسبيل: التزوج والاستعفاف بالحلال. (والذان يأتيانها) يحملها على الرجلين يخلوان بالفاحشة بينهما. ويستدل عليه بتثنية الضمير على التذكير دون جمعه. (أعتدنا)

أفعلنا من العتاد، ومعناه أعددناه من العدة، فتبدل التاء من الدال أحدهما بصاحبه. (أن ترثوا النساء كرها) يحبسها وهو كاره لها ليرثها. وقيل: ذلك على عادة الجاهلية في وراثة ولي الميت امرأته فإن شاء أمسكها بالمهر الأول، وإن شاء زوجها وأخذ مهرها. (بفاحشة) نشوز.

وقيل: زنا. فيحل أخذ الفدية. (مبينة) متبينة، يقال: بين الصبح لذي عينين أي تبين. قال الشاعر: 284 - مبينة ترى البصراء فيها ... وأفيال الرجال وهم سواء (أتأخذونه بهتانا) أي ظلما، كالظلم بالبهتان. (أو بأن يبهتوا أنكم ما ملكتموه منهن. (أفضى)

خلا بها. (ميثاقا غليظا) أي عقد النكاح، فكان يقال في النكاح قديماً: الله عليك لتمسكن بمعروف، أو لتسرحن بإحسان. (ولا تنكحوا ما نكح ءاباؤكم) بمعنى المصدر، أي نكاحهم. ثم يجوز هذا المصدر على حقيقته، فيدخل فيه أنكحة الجاهلية المحرمة على عهد الإسلام. ويجوز بمعنى المفعول به أي لا تنكحوا منكوحة آبائكم صنع الجاهلية. (إلا ما قد سلف) أي لكن ما سلف فمعفو مغفور.

وكل استثناء منقطع كان "إلا" فيه [بـ]ـمعني "لكن". (وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم) أي دون من تبنيتم به، إذ دخل فيه حلائل الأبناء من الرضاع. (والمحصنات) أحصن فهو محصن مثل أسهب فهو مسهب وألفج [فهو] [ملفج]. ثلاث شاذة. وللإحصان معنيان: لازم ومتعد، لازم: على معنى الدخول في الحصن. مثل: أسهل وأحزن وأسلم وآمن. والمتعدى: على معنى إدخال النفس في الحصن، والاتفاق على الفتح

في هذا الموضع للاتفاق على أن المراد بهن [ذوات] الأزواج، فإنهن محرمات على غير الأزواج. (إلا ما ملكت أيمانكم) أي: ذوات الأزواج اللاتي ملكتموهن بالسبي. وسئل الحسن عن هذه المسألة والفرزدق عند فأنشد من شعره: 285 - وذات حليل أنكحتا رماحنا ... حلالا لمن يبني بها لم يطلق

وذكرها حاتم قبله: 286 - فما نكحوها طائعين [بناتهم] ... ولكن خطبناها [بأسيافنا قسرا] 287 - وكائن ترى من ابن سبيئة ... إذا لقى الأبطال يطعنهم شزرا (كتاب الله) مصدر على غير فعله، أي حرم ذلك كتابا من الله عليكم. (فيما تراضيتم به من بعد الفريضة) من هبة الصداق أو حط بعضه أو تأخيره. الخدن: الأليف والعشير.

والعنت: [الزني]. وقيل: أذى العزوبة وشهوة الزني. (وأن تصبروا) أي عن نكاح الإماء؛ لما فيه من تعريض الولد للرق. (يريد الله أن يخفف عنكم)

أي في نكاح الإماء؛ لأن الإنسان خلق ضعيفا في أمر النساء. (ولا تقتلوا أنفسكم) أي لا يقتل بعضكم بعضا، وجعل ذلك قتل أنفسهم؛ لأن أهل الدين الواحد أو البيعة الواحدة كنفس واحدة. وقيل: إن هذا القتل يرجع إلى أكل الأموال بالباطل، فإن ظلم غيره كان كالمهلك نفسه. (مدخلا كريما) يجوز اسما للموضع، ويجوز المصدر: أي ندخلكم إدخالا كريما. (ولكل جعلنا موالى)

أي: عصبات من الورثة. (والذين عاقدت أيمانكم) هم الحلفاء، وكان الحليف يورث فنسخ. [قال] مجاهد: حليف القوم يعطي نصيبه من النصرة والنصيحة والعقل دون الميراث. (الرجال قوامون)

نزلت في رجل لطم امرأته، فهم النبي عليه السلام بالقصاص. (والجار ذي القربى) القريب. (والجار الجنب) الغريب. والجنب: صفة على فعل مثل: ناقة أجد. ويقال: ما تأتينا إلا عن جنابة. قال ابن عبدة: 288 - فلا تحرمني [نائلاً] عن جنابة ... فإني امرؤ وسط القباب غريب

ومن قرأ: (والجار الجنب) كان الجنب: الناحية، والتقدير: ذي الجنب، كما قال الهذلي: 289 - ألفيته لا يذم الغيث جفنته ... والجار ذو الجنب [محبو] وممنوح ومعنى القراءتين واحد، وهو أنه مجانب لأقاربه. قال الهذلي: 290 - يبيت إذا ما أنس الليل كانسا ... مبيت الغريب ذي الكساء المغاضب

291 - [مبيت] الغريب يشتكي غير معتب ... شفيف عقوق من بينه الأقارب (والصاحب بالجنب) الزوجة. وقيل: الرفيق في السفر الذي نزل إلى جنبك. (ويكتمون ما ءاتاهم الله من فضله) يجحدون اليسار [اعتذارا] في البخل

(فكيف إذا جئنا من كل أمة شهيد) أي: فكيف حالهم. والحذف في مثل هذا الموضع أبلغ، وكان ابن مسعود يقرأ سورة النساء على النبي عليه السلام، فلما بلغ هذه الآية فاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم. (لو تسوى بهم الأرض) أي: يودون لو جعلوا والأرض سواء، كقوله: (ياليتني كنت ترابا). وقيل: معناه لو يعدل بهم الأرض على وجه الفداء. ([و] لا يكتمون الله حديثا) أي: لا تكتمه جوارحهم وإن كتموه. (إلا عابري سبيل)

أي: لا يدخل المصلى -أي المسجد- إلا مجتازا، ولم يذكر المصلى لدلالة الصلاة عليه. (وكفى بالله وليا) دخول الباء لتأكيد الاتصال؛ لأن الاسم في "كفى الله" يتصل اتصال الفاعل، فاتصل بالباء اتصال المضاف أيضا فازداد معنى. (من الذين هادوا) تمام الصفة قوله: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا) والوقف هادوا.

وقيل: إنه على الاستئناف، وتقديره: من الذين هادوا فريق يحرفون. كما قال تميم بن مقبل: 292 - وما الدهر إلا تارتان فمنها ... أموت وأخرى ابتغي العيش أكدح 293 - وكلتاهما قد خط [لي] في صحيفة ... فللعيش أهوى لي وللموت أروح (واسمع غير مسمع) كانوا يقولون ذلك على أنا نريد أن لا تسمع ما تكره، وقصدهم الدعاء بالصمم، أي: اسمع لا سمعت. (وراعنا)

كلمة شتم عندهم، ويظهرون أنهم يريدون ارعنا سمعك، فذلك اللي والتحريف. (من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها) أي: نمحو آثارها حتى تصير كالأقفاء ونجعل عيونها في أقفائها [فيمشون] القهقري. وفي معناه: 294 - ألفينا عيناك عند القفا ... أولى فأولى لك ذا واقية وقال آخر: 295 - وتركض والعينان في نقرة القفا ... من الذعر لا تلوى على متخلف

ومثله الفتيل: القشرة التي في بطن [النواة]. والنقير للنقرة في ظهرها. وقيل: الفتيل: ما يقتل بالإصبعين من وسخها، [والنقير]: ما ينقر بالإصبع كنقر الدينار ونحوه، ويشهد [للقولين] قول كثير: 296 - على كل حالي جريتني ... فطورا مرئيا وطورا وبيلا 297 - فلم يجد الجوز تقتادني ... ولا القسر وينزل مني فتيلا

و (الجبت) السحر. (والطاغوت) الشيطان. وقيل: هما صنمان. (بدلناهم جلودا غيرها) أما من يقول إن الروح هو المعذب فلا سؤال عليه. ومن قال: إنه جملة الإنسان، فجوابه: أن تبديل الجلود بإفنائها وإعادتها بعده، كحال القمر في ذهابه عند السرار، ثم عوده بعده، وكما يقال: صاغ

له غير ذلك الخاتم، وجاء بغير ذلك اللباس. (ظلا ظليلا) أي: كنينا، فرقا بينه وبين (ظل ذي [ثلاث] شعب لا ظليل) وقيل: إنه كقولهم جن جنونه، وجرحت جوارحه، قال: 298 - رأت نضو أسفار أميمة شاحبا ... على نضو أسفار فجن جنونها 299 - فقالت من أي الناس أنت ومن تكن ... فإنك مولى أسرة لا يزينها (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات)

في مفتاح الكعبة أخذه النبي عليه السلام يوم الفتح من بني عبد الدار. (وأولي الأمر) هم الأمراء، عن ابن عباس. والعلماء عن الحسن ومجاهد وعطاء. (وأحسن تأويلا) عاقبة ومرجعا من آل يؤول. (إلى الطاغوت)

هو كعب بن الأشرف. (وحسن أولئك رفيقا) وحده لما دخله من معنى التمييز. ولهذا يدخل "من" في مثله. ويجوز توحيده على معنى الجنس والحال، كقولهم [لله درهم] فارسا أي في حال الفروسية. وهذا أولى؛ لأنه قل ما يميز بأسماء الصفات. و (خذوا حذركم).

أي: سلاحكم، أو معناه احذروا عدوكم. (وإن منكم لمن ليبطئن) أي: المنافقين؛ لأنهم يثبطون الناس عن الجهاد. ولام لمن "لام الابتداء" ولهذا دخلت على الاسم، والثانية لام القسم؛ ولهذا دخلت مع نون التوكيد على الفعل. (كأن لم تكن بينكم وبينه) أي: وبين محمد. (مودة) اعتراض بين القول والتمني، أي: بين (ليقولن) وبين (ياليتني كنت معهم).

(في بروج مشيدة) قصور مجصصة. والشيد: الجص. وقيل: مبنية في اعتلاء وارتفاع. شاد البناء وأشاده وشيده. وعن السدي: إنها بروج السماء. وعن الربيع: إنها قصر في السماء.

وفي معناه قال الهذلي: 300 - يقولون لو أن كان بالرحل لم يمت ... نشيبة والأنباء يكذب قيلها 301 - ولو أنني استودعته الشمس لاهتدت ... إليه المنايا عينها ودليلها (ويقولون طاعة) أي: منا طاعة، أو أمرنا طاعة. كما قال المخزومي: 302 - [فقالت] على اسم الله أمرك طاعة ... وإن كنت قد كلفت ما لم أعود

(لا تكلف إلا نفسك) أي: إلا فعل نفسك. (شفاعة حسنة) يعني الدعاء للمؤمنين. والشفاعة السيئة: الدعاء عليهم. والكفل: النصيب. والمقيت: الحفيظ المقتدر أقاته يقيته. (فما لكم في المنافقين فئتين) أي: مختلفين فيهم، طائفة تقول: هم منا، وطائفة [تقول] ليسوا منا.

وانتصاب (فئتين) على الحال، كما تقول: مالك قائما في حال القيام. وبعضهم ينصبه على معني خبر كان، كأنه قال: كم لبثت قائما. (أركسهم) وركسهم، ردهم ونكسهم.

(إن الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق) أي يدخلون في قوم أمنتموهم. نزلت في بني مدلج، كان بينهم وبين قريش عهد، فحرم الله من بني مدلح ما حرم من قريش. (أو جاءوكم حصرت صدورهم) أي: ضاقت، وحصرت صدورهم نصب على الحال، كقولك: جاءني فلان ذهب عقله. ويجوز على معني الدعاء، فيكون اعتراضا.

(أُركسوا فيها) وجدوا راكسين فيها، أي مقيمين عليها. (إلا خطئا) استثناء منقطع بمعنى لكن. (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق) أهل الذمة من أهل الكتاب. (درجات)

نصبها على البدل من قوله: (أجرا عظيما) (فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم) جاء عسى فيمن يعفي عنه ترهيبا وتصعيبا لأمر غيرهم، كما قيل: 303 - ولم تر كافر نعمي نجا ... من السوء ليت نجا الشاكر ومثله: 304 - بقربك داران مهد ومتان ... ودارك ثالثة تهدم 305 - فليت السلامة للمنصفين ... تدون فكيف لمن يظلم

(مراغما) متسعا لهجرته كأنه موضع المراغمة، كالمزاحم: موضع المزاحمة. (فيميلون عليكم ميلة واحدة) أي يحولون. (فإذا اطمأننتم) رجعتم إلى الوطن، أو أمنتم العدو. (كتابا موقوتا) فرضا مؤقتا. (يختانون أنفسهم) [يخونون] بها، بأن [يجعلوها] خائنة. (هأنتم هؤلاء جادلتم عنهم)

"هؤلاء" كناية عن اللصوص الذين يجادل عنهم، وهو غير "أنتم" [فلذلك] كرر. (ومن يكسب خطيئة أو إثما) الإثم غير الخطيئة، فإن الإثم في هذا [الموضع] ما يقتطعه الإنسان من مال من لا يجوز الاقتطاع من ماله، فيكون المعنى: من يكسب ذنبا بينه وبين الله أو ذنبا هو من مظالم العباد، فهما جنسان، فحسن دخول "أو" فيهما. والبرئ المذكور: اليهودي الذي طرح ابن أبيرق الدرع عليه. (أن يضلوك) يهلكوك. قال النابغة:

306 - فأب مضلو [هـ] بعين جلية ... وغودر بالجولان حزم ونائل أي دافنو [هُ]. (إلا إناثا) أي ضعافا عاجزين، سيف أنيث: كهام غير قطاع. ألا ترى أن الإناث من كل شيء أراذله. (مفروضا)

معلوما. (فليبتكن ءاذان الأنعام) يشقون أذن البحيرة. وقيل: يشقوها نسكا لما يعبدون من الأوثان. (فليغيرن خلق الله) أي: دين الله. وقيل: ذلك التغيير بالخصاء. وقيل: بالوشم. وكره أنس خصاء الغنم.

(وما يتلى عليكم في الكتاب) موضعه رفع بالابتداء، وخبره محذوف، على تقدير: "وما يتلى عليكم في الكتاب مبين" وهو في أول السورة من ذكر الميراث، وما في أثنائها وآخرها. (إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما) أي: الله أرأف بالفقير منكم وأعلم بحال الغني. نزلت في غني وفقير اختصما إلى النبي عليه السلام، فظن أن الفقير لا يظلم الغني. (فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا)

أي: عن الحق. وقيل: كراهة أن تعدلوا، أي: لا تتركوا العدل بالهوى. (وإن تلووا) من لوى يلوي ليا، إذا مطل ودافع. أي: وإن تدفعوا بأداء الشهادة. (أو تعرضوا) أو تكتموها. (يأيها الذين ءامنوا) أي بالأنبياء السابقين، والكتب السالفة. (ءامنوا) بمحمد. وقيل: إنه خطاب للذين وصفهم بقوله: (من الذي قالوا ءامنا بأفواههم ولو تؤمن قلوبهم).

(إن الذين ءامنوا ثم كفروا ثم ءامنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا) يعني به المنافقين، فالإيمان الأول: دخولهم في الإسلام وحقنهم به الدماء والأموال. وإيمانهم الثاني: نفاقهم بقولهم (إنا مؤمنون) مع ما عُلِمَ من نفاقهم. وما ازدادوا من الكفر إنما هو بقولهم: (إنما نحن مستهزءون). (بشر المنافقين) على مجاز قول الشاعر: 307 - وخيل [قد] دلفت [لها] بخيل ... تحية بينهم ضرب وجيع

[و] قول آخر: 308 - ركبت أخاهم حتى التقينا ... يعج نجيعه فوق التراقي 309 - دلفت له بأبيض مشرفي ... كما يدنو المصافح للعناق وقال آخر: 310 - فلولا خلة سبقت إليه ... و [أخو] كان من عرق [المدام] 311 - دنوت له بأبيض مشرفي ... كما يدنو المصافح للسلام (ألم تستحوذ عليكم)

ألم نحط بكم للمعونة. وقيل: نستول عليكم. استحوذ: إذا غلب واستعلى. وكان القياس "استحاذ" مثل "استعاذ" و"استطاع"، إلا أنه جاء على الأصل من غير إعلال. (مذبذبين) مترددين متماثلين. قال النابغة: 312 - ألم نر أن الله أعطاك سورة ... ترى كل ملك دونها يتذبذب 313 - بأنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب

وقيل: إن معناه معنى قول الشاعر: 314 - خيال لأم السلسبيل ودونها ... مسيرة شهر للبريد المذبذب أي المهتز القلق الذي لا يثبت في مكان، فكذلك هؤلاء يخفون تارة إلى هؤلاء وتارة إلى هؤلاء. (فبما نقضهم) "ما" ليست بزائدة؛ لأنا ننزه القرآن عنها. ولكن كان: فبشيء أو أمر عذبناهم أو لعناهم، ثم فسر ذلك بما هو [بدل] عنه من نقضهم الميثاق وكفرهم، وغير ذلك.

و (ما لهم [به] من علم إلا اتباع الظن) أي مالهم به من علم هل كان رسولا أو غير رسول. (وما قتلوه يقينا) ما قتلوه حقا، ولكن شبهوا على قومهم بإلقاء ثيابه على غيره تلبيسا وتدليسا. وقيل: "ما قتلوه يقينا": ما تبينو [هـ] علما، فيرجع الهاء إلى الظن. من قولهم: "قتلت الشيء علما، [وقتلته] ممارسة وتدليلا". قال: 315 - فقلت اقتلوها عنكم بمزاجها ... وحب بها مقتولة حين تقتل

وقال شقران للوليد بن [يزيد]: 316 - إن الذي ربضتما أمره ... سرا وقد بين للناخع 317 - لكالتي يحسبها أهلها ... عذراء بكرا وهي في [الـ]ـتاسع [الناخع]: الذي قتل الأمر علما، ومنه نخع الشاة: ذبحها. (بل رفعه الله إليه) أي: رفعه إلى موضع لا يجري عليه أمر أحد من العباد، كقول إبراهيم: (إني ذاهب إلى ربي)، أي: إلى حيث أمرني ربي.

(وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن) أي: ما من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن بالمسيح. أحد: أبداً فقدر في كل نفي دخله استثناء. (قبل موته) أي قبل موت المسيح إذا نزل من السماء. وقيل: قبل موت الكتابي عند المعاينة، رواه شهر بن حوشب عن محمد ابن الحنيفة حين سأله الحجاج عنها، فقال: أخذتها من عين صافية.

(المقيمين الصلاة) نصب على المدح وهو في كلام العرب أشهر من كل شيء، فلا يصح ما

يروى عن عائشة أنها قالت لعروة: "يا بني هذا مما أخطأت فيه الكتاب". وقيل: تقديره: والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وإلى المقيمين الصلاة.

أو تقديره: يؤمنون بما أنزل إليك وبالمقيمين الصلاة، أى يصدقون بالكتاب وبالمؤمنين كقوله: (يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ). ثم قوله: (وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) رفع مستأنف. (لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ) إذ قالت اليهود لا نشهد بما أنزل الله، فشهد الله بما أظهر من المعجزات . (فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ) على ضمير الجواب: أى: يكن خيرا لكم.

وكذلك قوله (انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ) (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) أي لولا تبيينه وقيل: معناه: كراهة أن تضلوا. [تمت سورة النساء]

سورة المائدة

سورة المائدة (لا تحلوا شعائر الله) [2] أي: معالم الحجِّ ومناسكه. (وَلَا الْهَدْيَ) ما يهدي إلى البيت، فلا يذبح حتى يبلغ الحرم. (وَلَا الْقَلَائِدَ) كان الرجل في الجاهلية يتقلد من لحاء شجر [الحرم] ليأمن كما قال الهذلي: 318 - ألا أبلغا جُلَّ السَّواري ومالِكاً ... وأَبْلغْ بني ذِي السهم عني ويعمرا

319 - ألم تقتلوا الحَرْجَيْنِ إذ [أعورا] لكم ... يمران فى الأيدي اللحاء [المضفرا] أي: لحاء شجر الحرم تعوذاً، فأقرَّ الله هذا على الإسلام وأمر أن لا يحلّو من تقلد به. وقيل: على عكس هذا، أي منع التقلد به وأمر أن لا تحلوا القلائد لئلا يتشذب شجر الحرم.

(وَلَا آَمِّينَ الْبَيْت) أي ولا تحلوا قاصدين البيت. (وَلَا يَجْرِمَنَّكُم) لا يحملنَّكمْ وقيل: لا [يكسبنَّكم] وجريمةُ القوم: كاسبُهم. قال الهذلي: 320 - بها كان طفلاً ثم أسدس فاستوى ... فأصبح لهما في لُهُومٍ [قَرَاهِبِ]

321 - أُتِيح له يوماً وقد طال عمرة ... جريمة شيخٍ قد [تَحَنَّبَ] ساغِبِ (شَنَآَنُ قَوْمٍ) بغضهم وفيه ثلاث لغاتٍ: شَنَأنُ، وشَنْأن وشَنَانُ. قال الأحوص: 332 - إذ [ا] كنت عزهاةً [عن] اللهو والصبا ... فكن حجراً من يابس الصخر جلمدا

323 - فما العيش إلا ما تلذُّ وتشتهي ... وإن لام فيه ذو الشَّنان [وفَنَّدا] وروي: "وإن لام ذو الشنآن فيه وفندا". (أن صَدُّوركُم) أي: بأن صدوكم، أو لأن. [و] عن أبي عمرو: أن فيه تقديماً وتأخيراً، أي. " لا يجرمنكم شنآن قومٍ: أن تعتدوا إن صدوكم".

(والمنخنقه) التي تموت بالخنق. (والموقوذة) التي تُضربُ ضرباً مبرحاً حتى تموت تزعم المجوس أنه أرخص للحمها. (والمتردية) الهاوية من جبلٍ أو في بئرٍ. (والنطيحة) إذا نطحتها أخرى فماتت، وجاءت النطيحة بالهاء وإن كان فعيلاً بمعنى مفعول للمبالغة كالعلامة والنسابة. (وما ذبح على النصب) جمعٌ. واحدُها نصاب.

وقيل: واحد. وجمعه أنصاب ونصائب. قال الفرذدق: 324 - ومالئه الحجلين لو أن مَيِّتاً ... ولو كان في الأكفان تحت [النصائب] 325 - دعته لألقى التُّرب عنه انتفاضه ... ولو كان تحت الراسيات الرواسب (وأن تستقسموا) أي: تطلبوا، من الأقسام بضرب الميسر. (وما علمتم من الجوارح) الكواسب أنشد الأصمعي شعر:

326 - بعثت قلوصي فاستجابت جوارحي ... وظنت ظنونا فاستحالت ظنونها 327 - فاليت لا أنفك أبعث ناقتي ... بشيء سوى مرعا بادٍ طنينها (مكلبين) ذوي كلاب وقيل: معلمين الكلاب الصيد كالمؤدب يعلم الأدب. وقيل: مضرين من التضريه والإغراء على الصيد. ويكون بمعنى مكلبين. يقال: أكلبت الكلب وأسدته: ضريته. وقال أبو عبيدة: أكلبت وكلّبت واحد. وانشد وهو من غريب المجانس في شعر العرب:

328 - وإني وإياها إذا ضمنها الهوى ... كنجمين لاحا في السماء تلالاً 329 - أعانقها طوراً وطوراً يضمني ... وطوراً ككلابٍ إذا ما تلالأى قال: [اللأى]: الثور الوحشي. (وامسحوا برءوسكم وأرجلكم) خفض أرجلكم على مجاورة اللفظ، كقولهم: "جحر ضبٍ خربٍ" وهو في الشعر كثيرٌ، ومن الكلام فصيحٌ، قال دريد بن الصّمّة:

330 - فجئتُ إليه والرماح تنوشه ... كوقع الصياحي في النسيج المعدد 331 - [فطاعنت] عنه الخيل حتى تنهنهت ... وحتى علاني حالك اللون أسود وقال الفرزدق: 332 - ألستم عائجين بنا لعنَّا ... نرى العرصات أو أثر الخيامِ 333 - [فكيف] إذا رأيت ديار قومٍ ... وجيرانٍ لنا كانوا كرامِ

فجرَّ الكرام على جوار الجيران. وقد قُرِيءَ: (وأرجلكم) بالنصب عطفاً على قوله: (فاغسلوا وجوهكم) وإنما يجوز مثل هذا في الكلام الهجين المعقد والمريج المختلط، دون العربي المبين. وهل في جميع القرآن مثل/: "رأيت زيداً، ومررت بعمروٍ [و] خالداً"؟!.

ولهذا قدّر الكسائي فيه تكرار الفعل، أي: "واغسلوا أرجلكم". ولهذا قرأ الحسن (وأرجلكم) بالرفع على الابتداء المحذوف الخبر، أي: وأرجلكم مغسولة! لئلا يحتاج إلى اعتبار المجاز توقي العطف عما يليه. فالأولى إذاً أن يكون معطوفاً على مسح الرأس في اللفظ والمعنى، ثم نُسِخَ بدليل السنة وبدليل التحديد إلى الكعبين؛ لأن التحديد يكون في المغسول. قال الشعبي: "جاء القرآن بالمسح والسنةُ بالغسل".

(وميثاقه الذي واثقكم به) أي بيعة الرسول على طاعته. وقيل: هو ما في العقول من أدلة التوحيد (2). (نقيبا) حفيظاً عارفاً، و [النَّقَّاب]: الباحث المنقر عن الشيء. (وعزرتموهم) عذرته أعزرُه عزراً: إذا [حطته وكنفته]. وعزرتُه: فخّمت أمره وعظمته، فكأنه لقربه من الأرز كانت التقوية معناه

أو قريباً منه، ونحوه حزر اللبن إذا حمض [فقوي] واشتدَّ. وكذلك الغلام إذا قوي واشتد يقال له الحزور، وهو فعولٌ من اللبن الحازر، وهذا من تلامح كلام العرب. ومثله (تؤزهم أزّاً) أي: تزعجهم في معنى تهزُّهم. هذا ومثله كثيرٌ إلا أنا لسنا فيه. (على خائنةٍ منهم) [الخائنة] إما مصدر كالخاطئة والكاذبة، وإمّا اسم كالعافية والعاقبة. (ويعفوا عن كثيرٍ)

لما أخبرهم [بالرجم] من التوراة أخبرهم بعلمه غير ذلك ليتركوا المجاحدة. (وإنا لن ندخلها) هى أريحا. (كتب الله لكم) الذين كتب الله لهم دخولها، غير الطائفة التي حرمت عليهم أربعين سنةً، دخلوما بعد موت موسى / بشهرين مع يوشع بن نون.

(فطوعت له نفسه) فعّلت من الطاعة، أي أطاعته وساعدته. (من أجل ذلك) من سبب ذلك. (فكأنما قتل الناس جميعاً) بما سنَّ القتل ونهج طريقه لغيره. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "على ابن آدم القاتل أولاً كفلٌ من إثم كلِّ قاتلٍ ظلماً". وقال: "من سنَّ سنةً حسنةً ... ". الخبر، ومنه قول الهذلي:

334 - فلا تجزعن من سنةٍ أنت سرتها ... فأول راضٍ سُنَّةً من يسيرها (ومن أحياها) أنقذها من هلكةٍ في الدين [أ] والدنيا. (أو ينفوا من الأرض) أي: يُحبسوا؛ لأنه لا يجوز إلجاؤهم إلى دار الحرب. قال بعض المسجونين: فعدّ السجن خروجاً من الدنيا والنفيُ بمعناه:

335 - خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها ... فلسنا من الأحياء فيها ولا الموتى 336 - إذا جاء [نا] [السَّجَانُ] يوماً لحاجةٍ ... [عجبنا] وقلنا جاء هذا من الدنيا (ومن يرد الله فتنته) أي: عذابه. كقوله: (على النار يفتنون). (ومهيمناً عليه) أي: أميناً عليه.

وقيل. شاهداً يقال: هيمن عليه إذا شاهده وحفظه. وهو مفيعلٌ من الأمان، مثل مبيطرٍ، ومسيطرٍ، فأبدلَتْ الهاء من الفاء [التي] هي همزة، وليست الياء للتصغير إنما هي لحقت "فعل" فألحقته بذوات الأربعة. (فترى الذين في قلوبهم مرضٌ يُسارعون فيهم) أي: في الكفار، أي في مرضاتهم وولايتهم. (أذلةٍ على المؤمنين)

[ليّنينَ]. كما قال الراعي: 337 - وكان عديد الحيِّ فيها ولم يكن ... تميل على المولى وإن كان أقْلَمَا 338 - حِفاظاً على الأسباب حتى تخالنا ... أذَلَّ وإن كنا أعزَّ وأكرما/ (وإذا ناديتم إلى الصلاة) أذَّنْتُمْ. قال أبو [دهبلٍ]:

339 - وأبرزتها [من] بطن مكة بعدما ... [أصات] المنادي [للصلاة] فأعتما (هل تنقمون منا) تكرهون وتعيبون. قال عبد الله بن قيسٍ: 240 - ما نقموا من بني أميَّة إلا ... أنهم يحلمون إن غضبوا 241 - وأنهم معدن السماح فما ... يُقيمُ إلا عليهم العرب

(وعبد الطاغوت) الشيطان الذي سوّل لهم عبادة العجل. فعطف الفعل على مثله وإن اختلفا في الفاعل كقوله: (شيطاناً مريداً لعنه الله وقال لأتخذنَّ) وقد [قرئت هذه الحروف]. لإشكالها [بعد] وجوهٍ: (عبد الطاغوت) اسمٌ على فعلٍ نحو حَذُرَ وفَطُنَ.

و"عبد الطاغوت" جمع عبيد، أو جمع عبدٍ كرهنٍ ورهنٍ. أو جمعُ عابدٍ كبازلٍ وبُزُلٍ، وشارفٍ وشُرُفٍ. و"عُبَّدَ الطاغوت" جمع عابدٍ و"عُبَّاد (8) الطاغوت" كذلك كضَارِبٍ وضُرَّاب وضُرَّبٍ. و"عِبَاد الطاغوت" (9) جمع عابدٍ كقائم وقِيامٍ وصائم وصيام. و"عُبِدَ الطاعوت" (10) على جهالة الفاعل.

و"عَبَدُو الطاغوت" و"عُبَدَ الطاغوت" كحُطَم ولُبَد. و"عَبُدَ الطاغوتُ" أي صار الطاغوتُ معبوداً، كفقُهَ الرجل وظرف و"عَبَدَ الطاغوت" أي: عبدة فحذف التاء. (وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به) أي: دخلوا وخرجوا بالكفر لا بما أظهروه لكم. (لولا ينهاهم)

هلا ينهاهم. ولولا دخولها على الماضي بمعنى التوبيخ وعلى المستقبل بمعنى التحريض. قال الأشهب بن رميله في المستقبل: 3، 2 - تعُدُّون عقر النِّيب أفضل مجدكم ... بني ضوطرى لولا الكَمِيُّ المقنَعَّا وقال أخر في الماضي: 323 - [وألهى] بني [حمان] عسبُ عَتُودِهِم ... عن المجد لولا سؤدد وسماح

(لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم) جرى ذلك على مجاز قولهم: "هو في الخير والسعة من قرنِه إلى قدمه". (منهم أمةٌ مقتصدةٌ) النجاشي، و [بحيرى]، وأمثالهما القائمون في عيسى بالحقِّ. (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون) رفَعَ (الصابئون).

على تقدير التأخير [كأنه]: "ولا هم يحزنون والصابئون كذلك". كما قال بشر بن أبي حازمٍ: 344 - وإلا فاعلموا أنَّا وأنتم ... بُغاةٌ ما بقينا في شِقاقِ أي: إنا بغاةٌ ما بقينا في شقاقٍ وأنتم كذلك. ولو كان أنتم. عطفاً على الضمير، لكان منصوباً وكان "إيَّاكم".

وقال الكسائيُّ: "هو عطفٌ على ضمير [هادوا]، أي "والذين هادوا هم والصابئون". وقال الفراءُ: "إنما ارتفع [لضعف] عمل ... "إن" لاسيَّما وهو عطفٌ على الضمير الذي [لم] يظهر فيه الإعراب". يعني بالأول: أن قولك: إن زيداً قائمٌ، ثم لا يتضمن معنىً زائداً بخلاف ليتَ ولعلَّ.

وبالثاني: إنَّ العطف على الضمير غيرُ مطردٍ حتى لا يجزىء في الضمير المجرور نحو "مررتُ به وزيدٍ". (ليمسنَّ الذين كفروا منهم) "من" هذه لتبيين الجنس لا للتبعيض. وقيل. معناه "إن منهم من يؤمن" فجعل الوعيد لمن بقي على الشرك. (قد ضلوا من قبل) عن الهدى في الدنيا. (وضلوا عن سواء السبيل) عن قصد طريق الجنة في الآخرة. (قسيسين) عابدين من النصارى، وهو من الاتّباع يقال في اتباع الحديث: يقسُّ، وفي اتباع أثر الطريق: يقصُّ. جعلوا الأقوى لما فيه أثرٌ مشاهدٌ، كما قالوا: الوصيلة:/ في الاتصال والمماسّةِ الحسية، والوسيلة: في القربة. وقالوا: صعد في الجبل لما يشاهد، وسعدَ لما لا صعود فيه حساً، ولكن فيه صعود

الجدِّ وإعلاؤه وكذلك الفسيلُ: في النخيل التي التلاقحُ والنتاجُ فيه خفيٌّ والفصيلُ: في الإبل. (إنما الخمر والميسر) الخمر: [عصير] العنب [النيىء]، المشتد. وليس بالنبيذ في اللغة. بدليل قول أبي الأسود: 345 - دع الخمر يشربها الغواة فإنني ... رأيت أخاها مغنياً بمكانها

346 - وإلا [يكنها] أو تَكُنْهُ فإنه ... أخوها غَذَتْهُ أمُّه [بلبانها] والشيء لا يكون أخا نفسه، والميسر: تداول المال بالقمار والخطار، مأخوذٌ من تيسير أمر [الجزور] بالمناهدة، والقمر.

قال المازني: 347 - فقصرتُ يومهم بِرَنَّةِ شارفٍ ... وسماع مدجنةٍ وميسر جازر (إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا) الاتقاءُ الأوّل: فعل الاتقاء، والثاني: دوامه، والثالث: اتقاءُ مظالم العباد؛ بدليل ضمّ الإحسان إليه.

(فجزاءُ مثل ما قتل) أي الواجب الجزاءُ الذي هو مثل ما قتل، فيكون الجزاء والمثل بمعنى واحد، وإضافة الجزاء إلى المثل من إضافة الشيء إلى نفسه مثلُ (حقُّ اليقين)، و (حبل الوريد) أي: الحقُّ الذي هو اليقين. وقيل: المثل صلة في الكلام؛ لأنَّ عليه جزاء المقتول، لا جزاء مثله. كما قال دريد بن الصّمّة: 348 - وقاكِ الله يا بنت آل عمروٍ ... من الأزواج أمثالي ونفسي 349 - وقالت إنه شيخٌ كبيرٌ ... وهل نبأتُها أنِّي ابنُ أمْسِ

وقال معوذ الحكماء: 350 - حملتُ حمالة القرشي عنهم ... ولا ظلماً أردتُ ولا اختلابا 351 - سبقت بها قدامة أو سميراً ... ولو دُعيا إلى مثلٍ أجابا (يحكم به ذوا عدلٍ) سأل أعرابي محرمٌ عمر في خلافته، قال: قتلتُ غزالاً؟ فأقبل عمر على عبد الرحمن بن [عوفٍ]: أيُّ شىءٍ فيها؟ فقال: جفرة وهي الصغيرة من

الضأن، كالعناق من المعزى. فانتقل الأعرابي وهو يقول: لم يعلم أمير المؤمنين ما فيها حتى سأل، فدعا [هُ] عمر وعلاه بالدرة: تقتل الصيد وأنت حرمٌ وتغمط [الفتيا] يالكع، ألم تسمع اللهَ يقول؟: (يحكم به ذوا عدلٍ منكم).

(صيدُ البحرِ) هو الطريُّ (وطعامه) المالحُ. (قياماً للناس) عماداً وقواماً. قلبت الواوُ ياءً لكسرةِ ما قبلها. والمراد: ما في المناسك من منافع [الدين]، وما في الحجِّ من معايش قريشٍ وأهل مكة، وما في الحرم والشهر الحرام، وسوقِ الهدي، والتقليد من أمنة الخائفين. (ذلك لتعلموا) أي: لتعلموا أن من علم أموركم قبل خلقكم، وما يجرى من التفاسد والتغاور بينكم، فجعل لكم حرماً يؤمن اللاجيءَ إليه، ويقيم معيشة الثاوي

فيه بالمتاجر المربحة والمواسم الجامعة [ويقرب] العبد من نيلِ الرضى، والفوز بالمغفرة، ويؤلف الحال في القرب المختلفة، وما يختص بتلك [المواقف] الشريفة هو الذي يعلم ما في السموات والأرض، ولا يضيع عملاً ولا يخيبُ أملاً. البحيرةُ: المشقوقةُ والأذن، كما قال: 352 - وأمسى فيكم عِمران يمشي ... يزينُ كأنه جَمَل بحيرُ 353 - يرُوحُ بدارِ مضيعةٍ ويغدوا ... سلِيباً ليس في يده نقير وإنما البحيرة للجاهلية هي الناقة نُتِجَتْ خمسةَ أبطنٍ، فإن كان أخرها سقباً: أي ذكراً، أكلوه وبحروا أذنَ النّاقةِ، وخلوها ترعى لا تحلبُ ولا تركب، وإن كانت الخامسة أنثى صنعوا بها هذا الصنيع دون أمّها.

والسائبة! الإبل تسيّبُ بنذرٍ، أو بلوغِ راكبِها عليها حاجةً في [نفسه]. كما قال ابن رواحة: 354 - إذا بلغتني وحملت ظهري ... مسيرة أربعٍ دون الحساء 355 - فشأنك فانعمي وخلاك ذمّ ... ولا أرجع إلى أهلي ورائي

الوصيله: الشاةُ ولدت سبعة أبطنٍ، فإن كان ذكراً أكله الرجال، وإن كان أنثى أُرسلت في الغنم، وكذلك إن كان ذكراً وأنثى، وقالوا: وصلت أخاها. والحامِي: الفحل يضربُ في الإبل عشر سنين فيخلّى ويصيّرُ [ظهره] حمىً لا يركبُ. وقيل: الحامي: الذي نتج ولده. (عليكم أنفسكم) نصبٌ على الإغراء، أي "احفظوا أنفسكم" والإغراء بـ عليك وإليك وعندك ودونك". (لا يضركم من ضلَّ)

أي: في الآخرةِ، أما الإمساك عن إرشادِ الضالِّ وترك المعروف فلا سبيل إليه، كذلك فسرّه أبو بكر الصديق رضي الله عنه. (شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت) أي: أسبابه. (اثنان) أي شهادة اثنين ذوي عدلٍ. (أو آخران من غيركم)

من [غير] ملتكم إن كنتم في السفر ولم يحضر غيرهما، ثم نسخ، فيحلفان بعد صلاة العصر؛ إذ هو وقت يعظّمُه أهل الكتاب. (لا نشتري يه ثمناً) قليلاً لا نطلب عوضاً. (ولو كان ذا قربى) أي المشهود عليه وإن كان قريباً لا نُبالي بأن نشهد بالحق.

وقيل: بأنَّ هذه شهادة حضور الوصية لا شهادة الأداء. وآخران من غيركم على هذا القول وصيّان من غير قبيلتكم، والوصيُّ يحلف عند الخلاف والتّهمة لا الشاهد. (فإن عُثِرَ على أنهما استحقا إثماً) أي: إنْ اطّلع على أنَّ الشاهدين اقتطعا بشهادتهما أو يمينهما على الشهادة إثماً، حلفَ أوليان بالميت -أي: بوصيته- على العلم أنهما لم يعلما من الميت ما ادعيا عليه وأنّ أيمانهما أحقُّ من أيمانهما، (من الذين استحق عليهم) أي: بسببهم الإثم على الخيانة، وهم أهلُ الميِّت هما الأوليان بالشهادة من الوصيين.

وقيل: بل المفعول الوصية وهم أهل الميّتِ أيضاً. فهذه زبدةُ تفسير الآية على إشكالها. وأما إعرابُها: فارتفاع (شهادة بينكم) [بالابتداء] وخبره: (اثنان ذَوَا عدلٍ)، واتسع في بين -وإن كان ظرفاً- فأضيف إليه المصدرُ كما اتسع في قوله: (لقد تقطع بينكم) وقيل بل يقدرُه على حذفٍ في أوّله. أي: "كتب عليكم إن شهد منكم اثنان". و (الأوليان) ارتفاعه على الابتداءِ، وإن أخّرَه، وتقديره: "فالأوليان بالميّت آخران من أهله يقومان مقام الخائنين اللذين [عثرَ] على خيانتهما".

ويجوز أن يكون خير ابتداءٍ محذوفٍ كأنه: فآخران يقومان مقامهما [هما] الأوليان، أو يكون بدلاً من الضمير الذي في (يقومان) كأنه فيقوم الأوليان. وبدلُ المعرفة من النكرة جائزٌ، وإن كانت لا يجوز. وقال الأخفش: (الأوليان) صفةٌ لقوله: (فآخران) والأوليان معرفةٌ وآخران نكرةٌ، ولكنّه جاز ذلك لأن النّكرة الموصوفة تقاربُ المعرفةَ، وهذه النكرة موصوفةٌ بقوله: (يقومان مقامهما). (قالوا لا علم لنا)

أي بباطنِ أمورهم الذي وقع عليه المجازاة بدليل قوله: (إنك أنت علام الغيوب). وقيل: إن ذلك لذهولهم عن الجواب لشدة ذلك اليوم المهول. (وإذ أوحيت إلى الحواريين) ألهمتهم. وقيل: ألقيتُ إليهم. وأصلُ الوحيِّ: الإلقاء السريع، ومنه الوحا: السرعة. والأمر الوحي: [السريع]. (هل يستطيعُ ربُّك) أي: هل يطيعُ ربك إن سألت. استطاع بمعنى أطاع. وقيل: هل يستجيب.

ويعضهم أجراه على ظاهره: أي هل يقدر على معنيين، أحدهما: أنهم سألوا ذلك في ابتداءِ أمرِهم قبل استحكام معرفتهم وإيمانهم. والثاني: أنه بعد إيمانهم [لـ] مزيد اليقين. ولذلك قالوا:: (وتطمئن قلوبنا) كما قال إبراهيم: (ولكن ليطمئن قلبي). (وإذ قال الله ياعيسى ابن مريم ءأنت قلت) إنما جاء: (إذ قال) وهو أمرٌ مستقبلٌ، وإذ لما مضى؛ لإرادة التقريب؛ ولأنه كائنٌ لا يحول دونه حائلٌ، وإنما يقول الله ذلك، توبيخاً لأمته. وقيل: إعلاماً له بهم؛ لئلا يشفع لهم. (وإن تغفر لهم)

معناه تفويض الأمر إلى الله، ولذلك وصله بالعزيز الحكيم دون الغفور الرحيم. (هذا يومُ ينفع) رفع (يوم) على الإشارة إلى اليوم، كقولك: هذا يومُ الجمعة. وحكى البياريُّ. أن ثعلباً كان يقرأُ بالنصب على قراءة نافعٍ؛ بسبب الإضافة إلى الفعل، كما قال النابغة: 356 - على حين عاتبتُ المشيبَ على الصِّبَا ... وقلتُ أَلَمَّا [تصحُ] والشيب وازِعُ

فذكرتُه للمبرد فخطّأه. وقال. إنما يجوز البناء على الفعل الماضي كما في شعر النابغة، ولا يجوز على المضارع لأنه كالاسم.

ولكنّ نافعاً ينصبه على الظرف، ومعنى الإشارة لا يمنع الظرف. فكأنه: "قيل: هذا القولُ في يوم ينفعُ الصادقين". [تمت سورة المائدة]

سورة الأنعام

سورة الأنعام (بربهم يعدلون) أي: يعدلون به الأصنام ويعبدونها عبادته، من قولك: هذا بذلك، أي: جعلتُه عدلاً له ومثلاً، (ثم قضى أجلاً) الموت. (وأجلٌ مسمى عنده) الآخرة. وقيل: الأجل الأول: أجل الحياة، والمسمى عنده أجل الموت إلى البعث.

(ثم أنتم تمترون) تشكّون في البعث. (من قرنٍ) أهل كلِّ عصرٍ قرنٌ؛ لاقتران الخالف بالسالف. وقيل: إنه عشرون سنة، مثلُ قران العلويين، لأنه في مثل هذه العدة

يتبدلُ قومٌ بعد قوم (لجعلناهُ رجلاً) لأن الجنس إلى الجنس أميلُ وبه آنس [وعنه أفهمُ]. قال الجاحظ: "من لطيف صنع الله أن فطر المعلمين على وزن عقول الصبيان وإلا لم يكن إلى تأليف الأمر بينهما سبيلٌ". وسمع عبد الملك بن مروان كلاماً مختلطاً فقال: "كلامُ مجنونٍ أو مناغيةُ صبيٍّ" (5). صبئ" .. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "من كان له صبيٌّ فليتصبَّ له" أي [ليكلمْهُ] كلام

الصبيان [للاستئناس] والمقاربة وفي معناه. 357 - وأنزلني طولُ النَّوى دار غَرْبَةٍ ... إذا شئتُ لاقيتُ أمراً لا أشاكله 358 - أُحَامِقُهُ حتى يقال سجيةً ... ولو كان ذا عقلٍ لكنُتُ أُعَاقِلُهْ (وللبسنا عليهم ما يلبسون) أي: إذا جعلناه رجلاً شَبَّهْنَا عليهم وشَككنا بهم كما يشبهون على أنفسهم. واللبس: الشك. قالت الخنساء: 359 - ترى الجليس يقول الحق [تحسبُهُ] ... رشداً وهيهات فانظر ما به التَبَسَا

360 - صَدِّق مقالته واحذر عداوته ... والبِسْ عليه بشكٍّ مثل ما لَبِسَا (كتب على نفسه الرحمةَ) بما عرّض له الخلق من الثواب ودعاهم إلى الطاعة وأراهم من الأدلة، ثم لم يعاجل بالعقوبة على المعصية. (ليجمعنكم) لا موضع له من إعراب ما مضى؛ لأنه ابتداءُ قسمٍ. وقيل. موضعه نصب بـ (كَتَبَ). (الذين خسروا) نصبٌ على البدل من الضمير في "ليجمعنكم".

وعلى الوجهِ الأول رفعٌ بالابتداء، وخبره: (فهم لا يؤمنون). (يُطْعِمُ ولا يُطْعَمُ) يرزق ولا يرزق ولا. قال ابن عبدة: 361 - ومطعمُ الغنم [يومم الغنم] مُطْعَمُهُ ... [أنَّي] تَوَجَّهَ والمحروم محروم فقابل الحرمان بالإطعام، كما يقابل بالرزق. (لأنذركم به ومن بلغ) أي ومن بلغه القرآن. (آلهةً أخرى) . وصفَ الجماعة بالواحد المؤنث على المعنى؛ لأن الجماعة مؤنثة، كقوله: (القرون الأولى) و (والأسماء الحسنى).

(ثم لم تكن فتنتهم) أي بليّتهم التي غرتهم إلا مقالتهم (ما كنا مشركين) فأنث الفعل إذ "أن" مع "الفعل" بمعنى المصدر، ونصب (فتنتهم) على أنها خبرُ كان، واسمها في (إلا أن قالوا)، وإنما صار أحقَّ بالاسم؛ لأنه أشبه المضمر من حيث لا يوصف والمضمر أعرف من المظهر، فكان أولى بالاسم. (أكِنَّةً) جمع كنانٍ، وهو الغطاء. وكانوا يؤذون رسول الله إذا سمعوا القرآن فصرفهم الله عنه. (وهم ينهون عنه وينئون عنه) أي: ينهون الناس عن متابعة الرسول ويبعدون عنه بأنفسهم.

وقيل: إنه أبو طالبٍ ينهاهم عن أذى الرسول، ثم يبعد عن الإيمان به. (ولا نُكَذِبُ) بالرفع عطفاً على (نُرَدُّ) وهو مرفوع بخبر ليت. فالردُّ وترك التكذيب دخلا في التمني، ويجوز الرفغ على الاستئناف أي: بأنا لا نكذب.

(ونكون): ابتداء إخبار عن أنفسهم. قال سيبويه: هذا كما تقول: دعني ولا أعود، أي: وأنا لا أعود. (ما كانوا يخفون) يجدونه خافياً. وقيل: بدا للاتباع ما علماؤهم يخفونه عنهم. (فإنهم لا يكذبونك) جاء على مثال: ما كذبك فلانٌ، وإنما كذبني. وقيل: لا يجدونك كاذباً، كقولك: عدلتُه وفسقتُه.

(نفقاً) سرباً في الأرض، قال كعبُ بن زهير: 363 - وما لكما منجاً على الأرض فابغيا ... به نفقاً أو في السماوات سُلَّما (إنما يستجيب الذين يسمعون) أي: إنما يسمع الأحياء لا الأموات كما قال: 363 - لقد أسمعت لو ناديت حياً ... ولكن لا حياة لمن تنادي وفي معناهُ: 364 - كأني أُنادي [ماتِحاً] فوق رَحْلِهَا ... [ونى غَرْفُهُ] والدَّلو ناءٍ قليبها

(يطير بجناحيه) قال بجناحيه لأن السمك طائرٌ في الماء ولا جناح لها. والمراد ما في الأرض وما في الجوِّ؛ إذ لا حيوان غيرهما؛ ولأن الطيران قد يكون بمعنى الإسراع كما قال سلمةُ بن خَرْشَبٍ: 365 - فلو أنها تجري على الأرضى أدركتْ ... ولكنها تهفو بتمثال طائر 366 - خداريةٍ فتخاء ألثق ريشها ... سحابة يوم ذي شابيب ماطرِ (إلا أممٌ) جماعاتٌ. (أمثالكم) في حاجات النّفس. وقيل: في اختلاف الصّور والطبائع.

وقيلَ الدلالة على الصانع ببديع الفطرة وعجيب الصنعة. وقيل: في [الاحتيال] للمعيشة. كما قال الأعرابي: 367 - [سقى]) الله أرضاً يعلم الضَّبُّ أنها ... بعيدٌ من الآفات طيِّبة البقل 368 - بني بيته فيها على رأس كُدْيَةٍ ... وكل امريءٍ في حرفة العيش ذو عقل (ما فرَّطنا في الكتاب) أي اللوح المحفوظ من آجال الحيوان وأرزاقه وأحواله؛ ليعلم الإنسان أن عمله أولى بالحفظ والإحصاء.

وقيل: إن الكتاب: القرآن، فإنَّ فيه كلَّ شيءٍ إمَّا على الجملة وإما على التفصيل. (مبلسون) الإبلاس: السكوت مع اكتئابٍ. وقال الفرار: الإبلاس: التحيرُ عند انقطاع الحجة. (دابر القوم) أخرهم الذي يدبرُهم ويعقبُهم. ومنه. التدبير: وهو النظر في عواقب الأمور. أي: لم يبق منهم خلفٌ وعقبٌ. (وكذلك فتنا بعضهم ببعضٍ) امتحنَّا الفقراء الأغنياء في السَّعة والجِدَة، والأغنياء بالفقراء في سبق الإسلام وغيره؛ ليتبيَّن صبرهم وشكرهم ومنافستُهم في الدين والدنيا.

(ليقولوا) لكي يقولوا، فاللام للعاقبة، كما قال: 369 - لِدُوا للموت وابنو للخراب ... فكلكم يصير إلى التراب 370 - الأيا موت لم أر منك بداً ... أبيت فما تحيف ولا تحابي 371 - كأنك قد هجمت على مشيبي ... كما هجم المشيب على شبابي (ولتستبين سبيلُ المجرمين)

السبيل: مونثة كقوله: (قل هذه سبيلي). قال كثيرٌ: 372 - يغادرن عَسْبَ الوالقي وناصِحٍ ... تخصُّ بِرَمِّية السبيل عيالها وإن جعلت الاستبانة بتعدية، ونصبت (السبيل) فتاءُ الخطاب للنبي عليه السلام إذ سبق خطابه (وإذا جاءك).

(يَقْضِ الحق) أي: يقضي القضاء الحق. وقيل: يصنع الحقَّ. كقول الهذليِّ: 373 - وعليهما مسرودتان قضاهما ... داود أو صنع السوابغ تُبَّعُ

(مفاتح الغيب) المقدورات التي يفتح الله لعباده بها ما في الغيب من الأرزاق والخيرات. (وما تسقط من ورقةٍ إلا يعلمها) ليعلم أن الأعمال أولى بالإحصاء للجزاء. (يتوفاكم باليل) يقبضكم عن التصرف بالليل. وقيل: إنه من توفِّي العدد. أي يحصيكم بالليل. قال الراجز: ، 37 - إن بني [الأدرم] ليسوا من أحد 375 - ليسوا إلى قيس وليسوا من أسد 376 - ولا توفاهم قريش في العدد (توفته رسلنا)

أيضاً من توفِّي العدد وإحصائه. وكذلك قوله: (يتوفاكم ملك الموت) أي يستوفيكم جميعاً. (من فوقكم) بالآفات السماوية من الطُّوفان والقذف والصيحة. (أو من تحت أرجلكم) بالخسف والرجفة. (أو يلبسكم شيعاً) يخلطَكُم فرقاً مختلفين يتحاربون ولا يتسالمون. (تُبْسَلَ) تسلم. وقيل: تحبس وترتهن. قال الشنفري في المعنيين:

377 - إذا ضربوا رأسي وفي الرأس أكثري ... وغُودِرَ عند الملتقى ثَمَّ سائِرِ 378 - هنالك لا تلقى حياةً تسرني ... سَجِيسَ الليالي مبسلاً بالجرائر (ونردُّ على أعقابنا) يقال للخائب ارتد على عقبيه (استهوته) استزلته من الهُوُيِّ. يقال: هوى يهوي من الهُوُيّ، وهَوِيَ يَهْوَى من الهَوَى وقيل: استمالته من الهوى وقد ذكرهما في قول الشاعر:

379 - وما زُرتُكم عمداً ولكنَّ ذا الهوى ... إلى حيث يهوى القلب تهوي به الرِّجل (في الصُّورِ) أي: في الصُّوَر. تُجمع الصورة عليها، كالسُّور والسُّوَر في جمع سورةٍ. قال العجاج: 380 - يارب ذي سرادقٍ محجور 381 - سُرْتُ إليه في أعالي السُّورِ (وكذلك نُري إبراهيم ملكوت السماوات)

قيل: إنه أُسْرِيَ به. وقيل: كُشفَ له عن السموات والأرض وما فيهما. (فلما جنَّ عليه اليلُ) يقال: جَنَّه جناناً وجنوناً وأجَنَّهُ إجْنَاناً إذا غَشِيَهُ. قال الهذلي: 383 - وماءٍ وردت قُبيل الكَرَى ... وقد جَنَّه السَّدَفُ الأدهم وإنما جَنَّ عليه؛ لأنه نظير أظلم عليه. (هذا ربي)

قاله على تمهيد الحجَّة وتقرير الإلزام. وهو الذى يسمِّيه أصحاب القياس: [قياس الخُلْفِ]، وهو: أن يُفرض الأمر الواجب على وجوهٍ [لا تمكن ليجب] به الوجه الممكن. ويقال: إنه على الاستفهام والإنكار وإن لم يذكر حرف الاستفهام كقوله: (أفإين مِتَّ فهم الخالدون). قال: 383 - لعمرك ما أدري وإن كُنتُ دارِياً ... بسبعٍ رَمَيْنَ الجَمْرَ أم بثمان

وزعمت الرواة أنه عليه السلم لما ولد، خُبِّئَ في [مغارةٍ] لئَّلا يقتله نمرود، فبقي ثلاث عشر سنةً فيها لا يرى أرضاً ولا سماءً. [ثم]. أخرجته أمه ذات ليلةٍ، فرأى كوكباً فقال: ما [ا] قتصَّه الله من شأنه، وجعل يظنُّ وينفي الظن بالدليل، حتى استوى به الفكر على معرفة الله عز وجل. (أتحاجوني) أصله أتحاجونني. كقوله: (قل أتحاجوننا) فالأولى: علامة الرفع في الفعل، والثانية: زيدت ليسلم بها الفعل من الجر. واجتمع مثلان فوجب تخفيفها إما بالحذف وإما بالإدغام. (ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئاً)

بأن يحييه ويقدره عليه. وقيل: معناه لكن أخاف مشيئة ربي، فيكون الاستثناء منقطعاً. (واليسع) إنما دخلته الألف واللام. إمَّا لأنه اسمٌ أعجمي [وافق] أوزان العرب. كما قال الشاعر:

384 - وجدنا الوليد بن اليزيد مباركاً ... شديداً بأعباء الخلافة كاهله وإما أن يكون عربياً كاليسر، أو هو فعل المضارع. والألف واللام بمعنى الذي لا للتعريف، كأنه الذي يسعُ خيره وبركته. كما قال: 385 - ويستخرج اليربوع من نَافِقَائِهِ ... ومن بيته ذي الشِّيحة اليَتَقَصَّعُ أي: الذي يتقصع.

(فإن يكفر بها هؤلاء) أهلُ مكة. (فقد وكلنا بها قوماً) يعني أهل المدينة. (فبهداهم اقتده)

هذه هاء الضمير للمصدر المقدر وليس التي للوقف، وتقديره: "فبهداهم اقتدِ اقتداءً". قال: 386 - هذا سُراقة للقرآن يدرُسُه ... والمرء عند الرُّشا إن يلقها ذِيبُ والهاء في يدرسه للمصدر وليس للمفعول به، لأنه تعدَّى إليه الفعل باللام. وقيل: إنها [للاستراحة]، ولهذا يصحُّ الوقف عليها. (ثم ذرهم في خوضهم يلعبون)

إنما لم يجزم (يلعبون)؛ لأنه ليس بجواب الأمر، ولكنَّه توبيخ في موضع الحال، كأنه: ثم ذرهم في خوضهم لاعبين. وكذلك من ضمَّ (فهب لي من لدنك ولياً يرثني) ضمَّه على الحال، أي: ولياً وارثاً لي. (فُرَادَى) جمعُ فريدٍ، مثل: رديفٍ ورُدَافى، أو جمع فَرْدَان كسكران وسُكَارى. (تقطع بينكم) ذهب تواصلكم، عن مجاهدٍ.

والبين ليس بظرفٍ هنا، ولكنه اسمٌ للوصل، وهو من الأضداد يتناول الهجر والوصل. قال الله تعالى: (وأصلحوا ذات بينكم) قال: (فلمَّا بلغا مجمع بينهما). وقال أبو علي: "هو في الأصل ظرف، إلا أنه عند الاتساع يُستعمل اسماً، ويُخلعُ عنه معنى الظرف". كما قال الهذلي: 387 - فلاقته ببلقعةٍ بَرَازٍ ... فصادف بين عينيها الجَبُوبَا

وأمَّا من نصبه فقد [أقرَّهُ] على الظرف. وهو عند الكوفيين: تقطع ما بينكم فحذف ما. وعند البصريين: تقطَّع الأمر أو السبب بينكم، وينكرون مذهب الصلة. (والشمس والقمر حسباناً) أي حساباً، مثل شهابٍ وشهبانٍ وذلك على معنيين: أحدهما: أنَّ سيرهما في منازلهما بحسابٍ معلومٍ. والثاني: أن حساب الشُّهور والأعوام بمسيرهما. (فمستقرٌ) في الصلب. (ومستودع)

في الرَّحم. وقيل: مستقرٌ عى الأرض ومستودعٌ في القبر. (فأخرجنا به نباتَ كُلِّ شئٍ) أي: رزق كل شئ. (حباً متراكباً) أي: السنبل الذي تراكب حبُّه. (ومن النَّخل من طلعها قنوانٌ) ذكر الطلع، ولم يقل: من النخل قنوان: كان الطلع طعاماً لذيذاً، وإداماً نافعًا، ولم يكن كسائر أكمام الثِّمار.

[والقنو]!: العذقُ. وقال الشمَّاخ: 388 - دار الفتاة التي كنا نقول لها ... يا ظبية عُطُلاً حُسَّانة الجيد 389 - تُدني الحمامة منها وهي لاهيةٌ ... من يانع الكرم قنوان العناقيد وقنوانٌ: جمع جاء على حد التثنية. ومثله: صنوانٌ [جمع صنوٍ]، وصيدان جمع صاد، وتثنيتها، وهو النُّحاس. قال الهذلي:

390 - لنا صِرَمٌ [ينْحَرْنَ] في كل شَتْوَةٍ ... إذا [ما سماء الناس قل] قطارها 391 - وسودٌ من الصَّيْدان فيها [مذانب] ... [النُّضَار] إذا لم نستفدها نُعَارُهَا (دانيةٌ) متدليةٌ يقرب تناولها. وقيل: دانيةٌ بعضها من بعضٍ. (وينعه) نضجِه وإدراكه.

(وخرقوا) أي كذبوا. (وليقولوا) لام العاقبة، أي: (وليقولوا درست)، قرأت وكتبت الكتب المنزلة قبلك. وقيل: إنه فيه حذفاً أي: نصرِّف الآيات ولئلاَّ يقولوا درست وكثيراً ما يحذف "لا" في كلام العرب. قال الهذليُّ:

392 - تبين صلاة الحرب منا ومنكم ... إذا ما ألتقينا والمسالم بادِنُ 393 - فيبرح منا سَلْفَعٌ مُتَلَبِّب ... [جري] على [الغراء] والغزو [مارِنُ] أي: لا يبرح. (فيسبُّوا الله عَدْوَاً) العَدْو والعدُوُّ والعُدُوان والعِدَاء والاعتداءُ واحدٌ.

(وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون) تراهن المتوكِّلُ والفتح عليها. فقال الفتحُ: (إنها)، وقال المتوكل: (إنها) بالفتح، فأشخصَ المبرِّد من البصرة. فلقي الفتح، وقال: المختار (إنها) بالكسر [لتمام] الكلام بقوله: (قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم) قال: يا محمد (أنها إذا جاءت لا يؤمنون) على الاستنناف.

فركب إلى المتوكل وسأله الخطر، فأمر بإحضار المبرد، فقال. أكثر القرَّاء يقرأ بالفتح. فاستبشر وقال: المال يا فتحُ فلمَّا خرجا قال الفتحُ: أول ما ابتدأ تَنَابِه الكَذِبُ. قال: ما كذبتكم، وإنما قلتُ: أكثر الناس يقرأ (أنها). وأكثر الناس كما قال أبو الأسود: 394 - وأكثر هذا الناس إمَّا مُكَذِّبٌ ... يقول بما يهوى وإمَّا مُصَدِّق 395 - يقولون أقوالاً ولا يثبتونها ... وإن قيل هاتوا حَقِّقُوا لم يحقِّقُوا.

وجه فتح الهمزة بتقدير حذف اللام، وما يشعركم إيمانهم؛ لأنها إذا جات [لا يؤمنون، أو "لا" صلةٌ وفي الكلام حذفٌ، أي: وما يُشْعرُكُم أنَّها إذا جاءت] يؤمنون أو لا يؤمنون. (قُبُلاً) معاينةً، رأيته قُبُلاً. وقِبَلاً. وقيل: قُبُلاً جمعُ قبيلٍ، وهو الكفيلُ، أي: لو حشرنا عليهم كلَّ شيءٍ فكفِلَ بعا نقول ما كانوا ليؤمنوا.

وقيل: القبيل جمع قبيلة، والقُبُل: جمع قبيلٍ. مثل سفينةٍ وسَفِينٌ وسفنٌ، أي: لو جاءهم كلُّ شيءٍ قبيلةً وصنفاً صنفاً ثم لم يؤمنوا. (ولتصغى) لامُ العاقبة، وهي معطوفةٌ على الغرور من قوله: (يوحى بعضهم إلى بعضٍ زُخْرُفَ القول غروراً)، أي: للغرور، ولأن تصغى أفئدة الذين لا يؤمنون (وليرضوه وليقترفوا). (إنَّ ربَّكَ هو أعلم من يضلُّ عن سبيله) لا يجوز أن يكون (من) في موضع جر بإضافة (أعلم) إليها؛ لأن أفعل متى أضيف إلى شيءٍ فهو بعضه كقولك: "زيدٌ أفضل عشيرته"وتعالى الله أن يكون بعض الضَّالين، فكان في موضعِ نصبٍ، وكان المراد: أعلم بمن ضلَّ عن

سبيله. فحذف الباء وأوصل أعلم هذا بنفسه، [أ] وأضمر فعلاً واصلاً يدلُّ هذا الظاهر عليه حتى كأنَّ القول: يعلم أو علم من يضِلُّ عن سبيله، يدلُّ عليه ظهور الباء بعده وهو في قوله: (وهو أعلم بالمهتدين). ويجوز أن [تكون] مرفوعةٌ بالابتداء، ويضِلُّ بعدها. خبرُها، كأنه قال: إن ربك هو أعلم أيُّهم يضل عن سبيله. (ميتاً فأحييناه) أي: ضالاً فهديناه. (ومن يرد الله أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً)

أي: ذا حرجٍ. وقيل: إنه صفةٌ كالحرج، وليس بمصدرٍ، كما يقال: دَنِفٌ ودَنَف وقَمِنٌ وقَمَنٌ، وهذا الكلام على طريقة المثل، [إذ] كان القلب محلَّ العلم والإيمان، فوصف قلب من يستحقُّ الإضلال بالضيق وأنه على خلاف الشرح والانفساح وأنه مطبوعٌ على قلبه وأن قلبه [في] [كنانٍ] وغلافٍ، كما وصف الجبان بأنه مفؤود، وأنه لا قلب له. وأنه فارغُ الصدر كما قال الله تعالى: (وأفئدتهم هواءٌ). أي فارغةٌ ذوات هواء. خاليةٌ من القلب. قال طفيلُ الغنوي:

366 - لقد أردى الفوارس يومَ حسْي ... غلاماً غير منَّاع المتاع 397 - ولا فرحٍ بخيرٍ إن أتاه ... ولا جزعٍ من الحدثان لاع 398 - ولا وقَّافَةٍ والخيل تردي ... ولا خالٍ كأنبوب اليراع (كأنما يصعد في السماء) أي: من ضيق صدره ونفوره عن الإسلام كمن يراد على ما لا يقدر عليه. كما قال الهذليُّ:

399 - يَظَلُّ على الثَّمْرَاءِ منها جوارسٌ ... مراضيع صُهْبُ الرِّيش زُغْبٌ رقابها 400 - إذا نهضت فيه تصعَّد نفرها ... كَقِتْرِ الغلاء [مستدراً صيا بها] (يامعشر الجنّ قد استكثرتم من الإنس) استتبعتموهم وأغويتموهم فاستكثرتم من إغوائهم، واستمتع الإنسُ بالجنِّ بتزيين الشهوات والعون على الهوى، والجنُّ بالإنس باتباعهم خطوات الجن. (نولي بعض الظالمين بعضاً) نسلط، كقولهم:

401 - وما من يد إلاَّ يد الله فوقها ... وما ظالمٌ إلاَّ سيبلى بظالم وقيل: نكلُ بعضهم إلى بعضٍ كقوله: (نوله ما تولى). قال الأخطل في معناه: 402 - تواكلها بنو العلاَّت منهم ... وغالت مالكاً ويزيد غُول (قالوا شهدنا على أنفسنا) أي: [بوجوب] الحجة علينا. (على مكانتكم) طريقتكم.

وقيل: على تمكنكم، (فسوف تعلمون من تكون له عقبةُ الدار) (وجعلوا لله مما ذرأ) أي خلق. (من الحرث) سمُّوا لله حرثاً، ولأصنانهم حرثاً، ثم ما حملتهُ الريح من حرث الله، واختلط بحرث الأصنام تركوه، وقالوا الله غنيٌّ عن هذا وعلى العكس. (ساء ما يحكمون) موضع (ما) رفعٌ، أي: ساء الحكم حكمهم. أو نصبٌ، أي: ساء حكماً حكمهُم. (وليلبسوا عليهم دينهم) لبِسْتُ الثوب ألبسه، ولبَسْتُ عليه الأمر أَلْبِسُه. (وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا)

قيل: إنّه في منع الزيادة على الزكاة على وجه [المباهاة]. وقيل: إنه يكون السرف بمعنى التقصير. قال جرير: 403 - أعْطَوا [هُنَيْدةَ يحدوها] ثمانيةٌ ... ما في عطانهم مَنٌّ ولا سَرَفُ أي. تقصيرٌ. (حمولة وفرشاً) الحمولة كبار الإبل التي تحمل عليها. والفرش: صغارها التي لا تحمل عليها.

وعن ابن عباس: إن الفرش الغنم وما يؤكل من الراتعةِ. وفسَّر أبو عبيدة قول الهذلي: ، 40 - ولله فَتْخَاءُ الجناحين لقوة ... تَوَسَّدُ فرخيها لحوم الأرانب 405 - كأن قلوب الطير في جوف وكرها ... نوى القَسْبِ يُرْمَى عند بعض المآدبِ وقال: توسدُّها: تفرشُّها، كقوله تعالى: (حمولةً وفرشاً) أي. جعل اللحوم المأكولة وسادة كما جعلها الله فرشاً.

وهذا معنىً غريبٌ رغيبٌ، ونظرٌ بديعٌ بعيدٌ، ولأنهم كما يتنعمون بالفرش والوسائد كذلك بالأطايب من [المطاعم]. وتلاحظت المعاني فترادفت الألفاظ. ألا ترى إلى قولهم ما بها دبِّيجٌ. وتناسل عليه الوَشَاء، وإنما يريدون بالدِّبِّيج: الحيَّ الحلول، وبالوشاء: الماشية السارحة وبهما تعمر الديار [و] تحسن وتطيب الآثار، وأحدهما فعيلٌ من الديباج، والآخر: فعال من الوَشْي، وكذلك قالوا لأنفس أموالهم ناقة وجمل، والناقة: فعلةٌ من تنوُّق الشئ وتخيره وأجوده. والجمل: فعل من الجمال، كما قال الله تعالى: (ولكم فيها جمالٌ حين تريحون وحين تسرحون). ومن معناه يقول القائل:

406 - جمال معيشة المثري ... جمالٌ تدمن الحركة 407 - إذا تُرِكَتْ [بباب] فتى ... أناخت حولها البركه (ثمانية أزواج) أنشأ الأنعام نمانية أزواجٍ، من أربعة أصنافٍ، من كلِّ صنفٍ اثنين: ذكر وأنثى، فذكر الضأن والمعز، والبقر و [الإبل] في التي تليها. (قل ءالذكرين حرَّم) أي: إن كان التحريم من جهة الذَّكرين [فكل] ذكرٍ حرام، أم من جهة الأنثيين فكلُّ أنثى حرام، أم [الـ] جميع [حلال] في الحال، ثمَّ حرم ما يتولَّدُ

منه، فكلُّه حرامٌ، لأن الأرحام [تشتمل] على الجميع. (نبئوني) خبروني. (بعلمٍ) أي: بصدقٍ، ثم قال: (أم كنتم شهداء) فخبروني عن مشاهدةٍ، فالكلام مشتملٌ على أتمِّ تقسيمٍ في الحجاج. (الحوايا) المباعرُ. وقيل: كلُّ ما يحوي عليه البطنُ.

وهي فواعلٌ، وواحدُها حاوياء وحاوية، مثل: قاصعاء وقواصعَ. وإن كان واحدها حوية فهي فعائل كسفينةٍ وسفائنٍ. (بالقسط لا نكلف نفساً إلا وسعها) أي. أقيموا الميزان إقامةَ المثل بمبلغِ الوسعِ. (تماماً على الذي أحْسَنَ) أي: تمَّمنا جزاء إحسان موسى بأن أتيناه الكتاب. (أن تقولوا) لئلاَّ تقولوا، أو كراهة أن تقولوا.

(أو يأتي ربُّك) أي: يصير الأمر كلُّه لله. كقوله: (لمن الملك اليوم) (بعضُ آيات ربِّك) أشراطُ الساعة. (وكانوا شيعاً) أي: اليهود شايعوا المشركين على المسلمين. [تمت سورة الأنعام]

سورة الأعراف

سورة الأعراف (أهلكنا فجاءها بأسُنا) هذا وصفُ إهلاكها، وذكر مجيئه في وقت نومٍ وأمنةٍ. وقيل: إذا عُلِمَ أنَّ الهلاك بمجيء البأس لا يفترقا، لا يكون الفاءُ للتعقيب، كقولك: "أعطيتَ فأحسنْتَ". وقيل: أهلكناها: حكمنا بالهلاك ثم أرسلنا بأسنا. (أوْهُمْ قائلون) قال الفرَّاء: حذف واو الحال لئلاَّ يكون [عطفه على العطف] لو قيل: "أَوْ وَهُمْ".

وقال الزجاج: "تقديره فجاءهم بأسُنا بياتاً أو قائلةً. فاستغفى عن الواوِ في الثاني تقديراً، كما استغنى عنها في الأول لفظاً". "وقائلونَ" معناه: نائمون في [نصف] النَّهارِ، وهو في اللغة: ساكنُونَ كما قال الراعي: 408 - تَبِيتُ الحَيَّةُ النَّضْنَاضُ منه ... مكانَ الحِبِّ يستمعُ السِّرَارا 409 - فَيَمَّمَ حيثُ قال القلبُ منها ... بحجري ترى فيه اضْطِّمَارا

(دعواهم) دعاؤُهم. أنشد أبو زيدٍ: 410 - وإن مَذَلَتْ رِجْلي [دَعَوْتُكَ] أَشْتَفِي ... بدعواك من مذلٍ بها فيهُونُ (فمن ثقلت موازينه) وهو ميزان واحد، ولكنَّ الجمع إمَّا على تعدُّد أجزاء الميزان، أو تعدُّد الأعمال الموزونة. كما قال:

411 - أيا ليْلةً خُرْسَ الدجاج طويلةً ... ببغدادَ ما كادَتْ عن الصُّبْحِ تنجلي [وقال]: 413 - ووجهٌ نَقِيُّ اللونِ صافٍ يَزِينُهُ ... مع الجيدِ لبَّاتٌ لها ومَعَاصِمُ وإنما هو لَبَّةٌ ومِعْصَمَان، ومن هذا: ثوبٌ أخْلاق، وحَبْل أحْذَاقٌ [وَنعْلٌ] أسَمْاَطٌ، وبُرْمَةٌ أعْشَارٌ.

(ولقد خلقناكم) يعني آدم. كقوله: (وإذ أخذنا ميثاقكم) أي: ميثاق آبائكم. وقيل: خلقناكم في أصلاب آبائكم (ثم صَوَّرْنَاكُم،) في الأرحام (ثم) أخبرناكم أنَّا (قلنا للملائكة). (ما منعك ألا تَسْجُدَ) جاء على المعنى، كأنه ما حملكَ على أن لا تسجَد. (فبما أغويتني)

على القسم. وقيل: على الجزاء، أي: لإغوائك. وفسَّرُوا الإغواء بالإضلال، وبالتخييب [و] بالإهلاك. غَوِيَ الفصيلُ: أشفى على الهلاك. وبالتخييب كقوله: (فسوف يَلْقَوْنَ غَيّاً) بالحكم على الغيِّ. (صراطك) نُصِبَ على الظرفِ؛ لأنَّ الطريق يكونُ مبهماً غيرَ مختصٍ.

وقيل: إنه كقولك: ضَرَبَ الظهر والبطن، أي: عليهما. (مذءوماً مدحوراً) الذأمُ فوق الذَّمِّ، والدَّحرُ: الطَّردُ والإبعادُ. (وقاسمهما) أقسم لهما، مفاعلةٌ بمعنى الفعل. كقول الهذليِّ: 413 - وقاسمهُما بالله جَهْداً لأنْتُمُ ... [أَلَذُّ مِنَ] السَّلوى إذا ما نَشُورُهَا

وقيل: إنه مفاعلةٌ من القسمة، أي: قال لهما: إن كان ذا قلتُه خيراً فلكما، وإلا فعليَّ دونَكُما. (فدلاهما) حطَّهُما عن درجتهما. ولا تكون التدلية إلا من عُلوٍ إلى سُفْلٍ، يقال: تدلَّى بنفسه، ودلَّى غيره: 414 - فقلتُ لقلبي [يالَكَ] الخيرُ إنما ... يُدَلِّيك للموت [الجديد] حِبَابُها (وطفقا) جعلا. (يخصفان)

[يرقعان] الورق بعضها على بعضٍ من خَصْفِ النِّعالِ. قال الأعشى: 415 - ما نظرت [ذاتُ] أشْفَارٍ كَنَظرَتِها ... حَقّاً كما صَدَقَ الذِّئْبِيُّ [إذْ سَجَعَا] 416 - قالت أرى رجُلاً في كَفِّهِ كَتِفٌ ... [أ] ويَخْصِفُ النَّعْلَ لهفي أيَّةً صَنَعَا (ولباس التقوى) رُفِعَ على الابتداء (ذلك خيرٌ) خبرُه.

أو الخبر. (خيرٌ) و (ذلك) فصلٌ لا موضع له من الإعراب. (إنه يراكم هو وقبيله من حيثُ لا ترونهم) في معناه لبعض العرب. 417 - رَمَتْنِي بَنَاتُ [الدَّهْرِ] من حيثُ لا أرى ... فكيف بمن [يُرْمَى] وليس بِرَامِ 418 - ولو أنها نَبْلٌ يرى لاتَّقَيْتُها ... ولكنَّما أُرْمَى بغيرِ سِهَامِ (وأقيموا وجوهكم عند كل مسجدٍ)

أدركتم صلاته ولا تؤخروها لمسجدكم. وقيل: إنه أمرٌ بالتَّوجه إلى الجماعة. (كما بدأكم تعودون) ما معناه فيه أقوالٌ: كما خلقكم ولم تكونوا شيئاً كذلك يعيدُكم [أ] حياءً. وقال ابنُ عباسٍ: "كما بدأكم فمنكم شقيٌّ وسعيدٌ كذلك تبعثونَ".

قال عليه السلام: " [تبعثُ] كلُّ نفسٍ على ما كانت عليه". قال قتادة: كما بدأكم من التراب تعودون إليه (منها خلقناكم وفيها نعيدكم) (483) وفي معناه قيل: 419 - خُلِقْتَ من التراب فَصِرْتَ شَخْصاً ... يُنَادِي بالفَصِيح من الخطاب 420 - وعدتَ إلى التُّرابِ فَصِرْتَ فيه ... كأنك ما بَرِحْتَ من التراب (خالصةً) نصبٌ على الحال، والعامل فيه اللاَّم، أي وهي ثابتةٌ للذين آمنوا في الحياة الدنيا في حال خلوصها يوم القيامة.

والحالُ يقتضي المصاحبة، وكونها لهم يوم القيامة مصاحبٌ لكونها لهم في الدنيا [إذ هما] دارَان لا فاصل بينهما. (ينالهم نصيبُهُم من الكتاب) أي ما سبق لهم الكتاب به من العذاب. وقيل: مما كُتِبَ لهم من الأعمال والأرزاق. (ادَّاركوا) تداركوا. أي: تتابعوا وتلاحقوا. (لا تُفَتَّحُ لهم أبوابُ السماء) قال ابن عباسٍ: (لأرواحهم).

[وقال] الحسن: لدعائهم. وقال مجاهدٌ: لأعمالهم. (سَمِّ الخِيَاطِ)

ثقبِ الإبرة. وفي بعض القراءة "حتَّى يلجَ الجُمَّلُ" والجُمَل، بالتثقيل والتخفيف. وهما الحبلُ الغليظ. (وعلى الأعراف) سورٌ بين الجنة والنار، سُمِّيَ بذلك [لارتفاعه]. (رِجَالٌ) قيل. هم العلماء الأتقياء.

وقيل: قومٌ توازنت حسناتهم وسيناتهم، وقفَهُم الله بالأعراف لم يدخلوا الجنة ولا النار، وهم يطمعون ويخافون. كما قيل في معناه: 421 - فكأنِّي بين الوِصَالِ وبين الـ ... ـهَجْرِ مِمَّنْ مقامُهُ الأعْرَافُ 422 - في مَحَلٍّ بين الجنان وبين النَّا ... ر أرجو طوراً وطوراً أخافُ (بِسِيمَاهُم) بعلامتهم في نضرة الوجوهِ، [أ] وغبرتها. والسِّيما للإنسان كالسِّمَةِ للأنعام. قال:

423 - وأصبح أخداني [كأنَّ] عليهم ... مُلاء العراق والثَّغَام المُنَزَّعَا 424 - يُبَيِّنُهُم ذُو الُّلبِّ [حين] يَرَاهُمُ ... بسيماهم بِيضاً لِحَاهُمْ وأصْلَعَا (يطلبه حثيثاً) يطلبُه: يجوز حالاً من النهار -وإن كان مفعولاً- كقولك: ضربتْ هندٌ زيداً مؤلمةً له، فيكون "مؤلمةً" حالٌ من هندٍ ومن زيدٍ أيضاً؛ لأن لكل واحدٍ منهما في الحال ضميراً. (إن رحمت الله قريبٌ) حملٌ على المعنى، [إذ] المعنى: إنعامَه وثوابَه. وقيل: تقديُره: "مكان رحمة الله أو زمانه".

وقال [النضرُ]: المصادر تجري على التذكير. (يُرسِلُ الرياح نُشُراً) جمعُ نشورٍ، كرَسُولٍ ورُسُلٍ لأنَّها تنشرُ السحاب [وتستدرُّه]، والتثقيل لغة الحجاز، والتخفيف لتميمٍ. ويجوزُ (نَشْراً)، أي: ناشراتٍ كقوله: (ثمَّ ادْعُهُنَّ يأتِينَكَ سَعْياً)

أي: ساعياتء وقد قُرِيءَ (بُشُراً) جمع بشيرٍ؛ لأن الريح تبشرُ بالسحاب، وقُرِيءَ (بَشْراً) مصدرٌ في موضعِ الحال، أي: باشراتٍ بمعنى مبشراتٍ. وقُرِئَ "بُشْرَى" غير منون، وقُرِيءَ "نَشَرا" ذاتُ نشرٍ، والنَّشَرُ: انتشار النَّعم بالليل في الرَّعِي، فشبّهَ السحاب في انتشاره وعمومه بها. (ما لكم من إله غيره) رفع (غيره) على الصّفة لموضع (من إله) كأنه: ما إلهٌ غيرُهُ لكم، ويجوز على البدل من (إلهٍ)، واعتبار حذف المبدل كأنه ما غيره لكم، فيكونُ

أعمَّ في المعنى. وقيل: إنه اسم (ما) فأُخِّرَ، كأنه ما غيره لكم من إلهٍ. (أوْ لَتَعُودُنَّ في مِلَّتِنَا) وإن لم يكونوا فيها إذ كان العَوْدُ قد يتناولُ الابتداء. فقال: 435 - إذا [التِّسْعُونَ] أقْصَدَنِي سَراها ... [وسَارَتْ] في المفاصِلِ والعِظَامِ 426 - وصِرْتُ كأنني أقْتَادُ [عيراً] ... وعاد الرَّأسُ منِّي كالثَّغَامِ (كأن لم يَغْنَوْا فيها) أي: لم يقيمُوا، وفي معناه لبعضِ الجاهليةِ:

427 - كأن لم يكن بين الحُجُونِ إلى الصَّفَا ... أنيسٌ ولم يستمر بمكَّة سَامِرُ 428 - بلى نحن كنا أهلها فأزالنا ... صرُوفُ الليالي والجُدُودُ العواثِرُ وفي لفظه ومعناه الأسود بنُ يعفرَ قال: 429 - ولقد غَنَوْا فيها بأنْعَم عِيشَةٍ ... في ظِلِّ مُلْكٍ ثَابتِ الأوْتَادِ 430 - فإذا النَّعِيمُ وكلُّ ما [يُلهَي] به ... يوْماً يَصِيرُ إلى بِلىً ونَفَادِ (وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين)

"إن" هذه للتوكيد، وهي مخففةٌ من الثقيلةِ. [كـ] قوله: 431 - وعَلِمْتُ أن من يثقفوه يتركوا ... جَزْراً لِخَامِعَةٍ وفَرْخِ غُرَابِ (حقيقٌ) حريصٌ. وقيل: هو بمعنى محقوقٌ، من قولهم: حَقَّ عليه بكذا، وكما يقال: حَقَّ

عليه يقالُ: حُقَّ عليه، أي وجبَ. فأيُّ حاجةٍ إلى تغييرِه دون تقريره؟! (أرْجِهْ) أخرْهُ. وقيل: احبسْهُ. (من خلافٍ) أي: كلُّ واحدٍ منهما من شقٍّ. (بالسِّنِينَ) بالجَدْبِ. قال حاتمٌ: 433 - وإنَّا نُهِينُ المَالَ من غير ضِنَّةٍ ... وما يَشْتَكِينَا في السِّنِينَ ضَرِيرُها

وقال أوسٌ فقرَّرَ المعنى: 433 - على دُبُرِ الشَّهْرِ الحَرَام بأرضِنَا ... وما حولها جَدْبٌ سِنُونٌ تَلَمَّعُ أي لا خصبٌ ولا نباتٌ. كقولِهم السنة الشهباء، [توصفُ] بالشَّهبِ -الذي هو البياض-[والتلمُّعُ]، كما يوصف خلافُها بالسَّوادِ. (يَطَّيَّرُوا بموسى) يتشائَمُوا به. (طائرهم عند الله) ما معناه قال سيبويه: الطائر اسمٌ للجمع غيرُ مكسَّرٍ. كالجامل والباقر. وأنشد:

434 - كأنه تهتَانُ يوم ماطر 435 - على رؤوس كرؤوس الطائر فيكون المعنى على الجمع ما يُجْرَى به الطير -وهي جمعٌ أيضاً- من السعادة والشقاوة، والنفع والضر، والجدب والخصب، فكلُّها من عند الله، لا صنع فيه لخلقٍ، ولا عمل لطيرٍ. (مهما تأتنا) أي: أيُّ شيءٍ تأتينا به، وأصله عند الخليل: "ماما" فقلبوا الألف هاءً ذهاباً عن التكرير.

وقال الكسائي: هي "مَهْ" بمعنى كُفَّ، دخلت على "ما" الذي بمعنى الشرط. (مُتَبَّرٌ) مهلكٌ، ومنه يقال للذَّهب -ما دام في تراب معدنه أو مكسوراً- تبرٌ، وهو فِعْلٌ من التَّبارِ، كما يقالُ للفضَّة -ما دامَتْ متلجنةً بتراب المعدن- اللجينُ. (تَجَلَّى ربه للجبل) ظهر وبان بأمرِهِ، الذي أحدثه في الجبل، كما قال الشاعر:

436 - تجلَّى [لنا] بالمشرفيَّةِ والقَنَا ... وقد كان من وَقْعِ الأسِنَّةِ نَائِيَا أي: ظهر تدبيره. وما أسرَّه من أمرِه واختيارِه. (جعله دَكّاً) أي: مدكوكاً. كقوله: (خَلْقُ اللهِ) أي. مخلوقُه، وقيل: معناه ذَادَكٍ. وقيل: تقديره دكَّه [دكاً]. فجاء المصدر على غير لفظِ الفعل، كقوله:

(تدعونه تَضَرُّعاً). . والمعنى أنه جعل أحجارها تراباً وسَوَّاهُ على وجهِ الأرض. من قولهم: ناقةٌ دكاءٌ ليس لها سنامٌ. وأنشد المبردُ: 437 - قد كان [شَغْبٌ] لو أنَّ الله عَمَّرَهُ ... [عِزّاً تُزَادُ به] في عِزِّها مُضَرُ 438 - لَيْتَ الجِبَالَ تَداعَتْ قَبْلَ مَصْرَعِهِ ... دَكّاً فلم يَبْقَ في أحجارها حَجَرُ (صَعِقاً) مغشياً عليه. (عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ)

قيل: إنه الروح لم يدخلها لئلاَّ يُشْبِهَ المعجزة النبوية، وإنما جعل له [خروقاً] تدخلها الريحُ فَيُسْمَعُ كالخوارِ. وقال الحسنُ: بلْ صارَ ذا روحٍ، ولمْ يشبه المعجزة؛ لأن الله أجرى العادة أنَّ القبضة من أثر الملك إذا أُلقيتْ على أيةِ صورةٍ حَيَتْ. (سقط في أيديهم) يُقال للنادمِ العاجزِ سُقِطَ وأُسْقِطَ في يَدِه. وأصله في الرجل يستأسرُ فَيُلْقِي بيده ليُكتَّفْ.

وقيل: إنه مثلٌ للخائف. كما قالَ عنترةُ في معناه: 439 - ومْرقِصَةٍ رَدَدْتُ الخيل عنها ... وقد هَمَّتْ بإلقاءِ الزِّمَامِ (قال ابن أُمَّ) بالفتح. [و] وجهُ انتصابِ (أُمَّ) -وَهُوَ مضافٌ إليه- عى جَعْلِ الاسمين اسماً واحداً، كقولهم: جئتُه صباحَ مساءَ، والفرق في شَغَرَ بَغَرَ.

وبالكسر على أنه يابن أُمِّي، فحُذِفَتْ [ياءُ الإضافة]. (ولمَّا سَكَتَ) أحسنُ من سكنَ لتضمُّنِه [معَ] سكونِ الغضب سكوتَه [عن] معاقبةِ أخيه. [(وَيَضَعُ عنهم إِصْرَهُم)] ويقطع عنهم إصرَهُم. (والأغلالُ)

أي: المواثيقُ الغلاظُ التي [هي] كالأغلال اللازمة كما قال الهذلي في حدود الإسلام وفروضه [عليهم] بعد [بطالةِ] الجاهلية: 440 - فَلَيْسَتْ كعَهْدِ الدارِ يا أُمَّ مَالكٍ ... ولكن أحَاطَتْ بالرِّقَابِ [السَّلاسِلُ] 441 - وعاد الفتى كالكَهْلِ ليس بقائلٍ ... سِوَى الحَقِّ شيئاً واسْتَرَاحَ العَوَاذِلُ (اثنتي عَشْرَةَ أسْبَاطَاً)

بدلٌ ولو كان تمييزاً لكان سبْطاً كما يقال: [اثنيْ عشرَ رجلاً]. وقيل: إنه صفةُ موصوفٍ محذوفٍ، كأنه اثنتا عشرةَ فرقةً أسباطاً (شُرَّعاً) ظاهرةً على الماء، ومنه: الطرق الشوارعُ. (قالوا معذرةٌ) أي: موعظتُنا معذرةٌ، فحذف المبتدأ.

[أو] معذرةُ الله نريدها فحذف الخبر. (بعذابٍ بئيس) على وزن فعيلٍ. من قولهم: بَئِسَ الرَّجل بأسَة إذا شجع وصارَ مقداماً، فكأنه عذابٌ مُقْدِمٌ عليهم غيرُ متأخرٍ عنهم. قال الهذليُّ: 443 - ولقد صبرتُ على السَّمُوم يَكِنُّني ... قَرِدٌ على [اللِّيتينِ] غيرُ [مُرَجَّلِ]

443 - وَمَعِي لَبُوسٌ لِلبَئِيسُ كأنَّهُ ... رَوْقٌ بِجبهةِ ذِي نعَاجِ مُجْفِلِ (وإذ تأذن ربُّكَ) [تألىَّ]، وأقسمَ قسماً سمعَهُ الإنسانُ. وقيلَ: تأذَّنَ: أمرَ وأعلمَ، من أذِنَ، وَتفَعَّلَ يرادُ به فَعِلَ. وقالَ زهيرٌ: 444 - تَعَلَّم أَنَّ شَرَّ النّاسِ قومٌ ... ُينَادىَ فِي [شِعَارِهُم] يَسَارُ

وقالَ: 445 - [تَعَلَّمَن هَا] لَعَمْرُ اللهِ ذَا قَسَماً ... فاقْصِدْ بِذَرْعِكَ وانْظُر أَينَ يَنْسلِكُ فليسَ "تعلَّمْ" هذا عنْ جهلٍ، وإنما يريدُ بِه "اعْلَمْ" كأنَّه ينبهُهُ ليُقْبِلَ على خطاِبه. (وقَطَّعْنَاهُم في الأرض) شتَّتْنَا شملَهم. (وإن يأتِهِمْ عَرَضٌ مثلُهُ يأخذوه) أيْ: مصرَّفونَ، لا يكفيِهم شيءٌ ولا يشبعُهم مالٌ. (ودَرَسُوا ما فِيهِ)

تركوُه حتَى صارَ دارساً. وقيلَ: تلَوْهُ ودرسُوهُ ثمَّ خالفُوهُ معَ تلاوتِه. (وإذ نتقنا الجبل) قلعنَاه ورفعناه. (وإذ أخذ ربك من بني آدم) قالَ ابنُ عباسٍ: "أخرجَ الله من ظهرِ آدمَ ذريتَهُ وأرَاهُ إيَّاهُم كهيئةِ الذَّرِ وأعطاهُم مِن العَقْلِ، وقالَ: هؤلاء ولدُك آخذُ عليِهم الميثاقَ أنْ يعبدوَننِي وأرزقُهم. ثمَّ قالَ: (ألستُ بربكم قالوا بلى) ".

وهذا صحيحٌ قريبٌ معقولٌ وكذلكَ القولُ في الإعادَةِ، يعادُ لكلِّ واحدٍ روحُه وبنيتُه التِي يقومُ [بِهَا] روحُه، فلاَ يجبُ إعادةُ المريضِ المدنفِ، والشيخِ البالِي على صورتِهما. فإنْ قيلَ: أيُّ فائدةٍ فيهِ ولا نذكرُه؟! قيلَ لهُ: إنَّما [أنْسَانَا] الله ذلكَ فِي الدنْيَا ليصِحَّ الاختبارُ، ولا [نكونُ] كالمضطرينَ. والفائدةُ: علمُ آدمَ، وما يحصلُ له من السرورِ بكثرةِ ذريتهِ.

وعن الحسنِ: عنَّ نعيمَ الأطفالِ في الجنةِ ثوابُ إيماِنهم فِي الذَّرِ الأولِ. وقيلَ: إنهم بنُو آدمَ ونسلُه الموجودون فِي الدنيَا على طول الأيامِ، فإنَّ اللهَ أشهدَهُمْ على أنفسِهم بمَا أبدَعَ فيِهم منْ دلائلِ التوحيدِ، فأقرُّوا بِها أنَّ اللهَ ربُّهم على وجهِ الدلالةِ والاعتبارِ، وإنْ لمْ يفعلُوا بالنطقِ والحوار.

(فأتبعه الشيطانُ) قالَ القتيبيُّ: أَتْبَعْتُ الرَّجلَ: لحقتَهُ، وتبعتُهُ: سرَت خلفَهُ. فالمعنى: لحقَهُ الشيطانُ فَأغوَاهُ. (أخْلَدَ إلى الأرضِ) سكنَ إليها، ورضِيَ بِمَا عليْهَا. وأصلُ الإخلادِ: اللزومُ على الدوام. يقالُ لمنْ لا يكاد يشيبُ أَوْ [يتغيَّرُ] مخلدٌ. (فمثله كمثل الكلب) أيْ: فِي ذلتِه ومهانتِه كالكلب الذِي ليسَ منْهُ فِي الحالَيْنِ إلاَّ الجوعُ واللهاثُ، وكلُّ شيءٍ يلهثُ فإنَّما يلهثُ منْ تعبٍ أَوْ عطشٍ، والكلبُ يلهثُ فِي كلِّ حالٍ. (ذرأنا لجهنم) لامُ العاقبةِ كما مضَى، إذ لمْ يخلقْ اللهُ الخلقَ إلاَّ [للرحمةِ]. ولكن لما كانَتْ عاقبةُ المعتدينَ جهنَّمَ، كانَ كأنه خلقَهُم لَها.

(بَل هُم أَضَلُّ) هذا على المبالغةِ فِي التمثيلِ. [لا] على التحقيقِ؛ لأنَّها لا تدعُ ما فيهِ صلاحُها، حتَّى النَّخلةُ والنملةُ. وهؤلاءِ كفرُوا بمَن دلائلُ توحيد فِي أنفسِهم صادقةٌ، وألسنةُ مواهبهِ على أحوالهِم ناطقةٌ. قالَ المفضلُ: قلتُ لمحمدٍ بنِ سهلٍ [راوية] الكميتِ: ما معنَى

[قولِ] الكميتِ فِي الرَّخمةِ: 446 - وَذَاتِ اسمَيْنِ والألوَانُ شَتَّى ... [تُحَمَّقُ وَهي] كَيِّسَةُ الحَويلِ 447 - لَها خِبٌّ [تَلُوذُ] بهِ فَلَيْسَتْ ... بِضَائِعَةِ [الجَنِين]، ولا مَذوُلِ ونحن لا نرَى طائر [اً] ألأَمَ منها، ولا أظهَر مَوْقاً حتى صارَت فِي ذلكَ مثلاً.

فقالَ: وما حمقُها وهيَ تحضنُ بيضَها، وتحمي فَرْخَها وتحبُ ولدَها، ولاَ ُتُمَكِّنُ إلاَّ زوجَها، وتقطع فِي أوَّلِ القواطع وترجعُ فِي أوّلِ [الرواجع]، ولاَ تطيرُ فِي التحسيرِ. ولا تغْتَرُّ [بالشَّكِيرِ]، ولا تَرِب بالوكورِ، ولا تسقطُ على الجفيرِ. (يلحدون) لحدَ وألحدَ مالَ عن الحقِّ.

وقالَ الفراءُ: لحدَ: مالَ، وألحدَ: اعترض. إلحادُهم فِي أسماءِ اللهِ قولُهم: اللَّاتُ مِن اللهِ، والعُزَّى مِن العزيز. (سَنَسْتَدْرِجُهُم) [نهلكُهُم]. منْ درجَ: هلكَ. (من حيثُ لا يعلمون) بوقتِ الهلاكِ لماَ فِي إخفاء ذلكَ منْ صِحَّة التكليفِ. وقيلَ: إنَّه مِن الدرجةِ، أي: يتدرجُ بِهم على مدارجِ النِّعمِ إلى الموتِ الَّذي هو ميعادُ عقابِهم. (وأٌمْلِي لهم) اُنْظِرُهُمْ فِي الملاوةِ وهيَ الدهرُ. (أيَّانَ مُرسَاهَا)

مَثْبتَهُا. وقيلَ: متَى قِيَامُها. (لا يُجَلِّيهَا) لا يظهرُها. (يسألونك كأنَّكَ حفيٌّ عنها) قالَ الأخفشُ: أيْ: يسألونَكَ عنْهَا كأنَّك حفيٌّ بِها. فأخَّرَ، "عن"، وحذفَ الجارَّ والمجرورَ [للدلالة] عليها. ألاَ ترَى إنَّه إذَا كانَ حفياً بِها. فإنه يُسْأَلُ عنْها، كمَا أنَّه إذَا سُئِلَ عنْها فليسَ ذلكَ إلاَّ [لحفاوتِه] بِها. وإذا لمْ يكنْ بِها [حفيّاً] لمْ يكنْ عنها مسؤولاً. وكلُّ واحدٍ منْ [حرفيِّ] الجرِّ دلَّ عليهِ ما صحبَهُ [فساغَ] حذفُه.

(إنَّما علمُهَا عند ربي) أيْ: علمُ وقتِها. وقولهُ: (إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله). أيْ: علمُ وصفِها وحاِلها فلذلك كرَّرَ. (هو الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ) أيْ: مِنْ آدمَ. (وَجَعَلَ مِنهَا زوجَهَا) أيْ: جعلَ من كلِّ نفسٍ زوجَها. كأنَّه وجعلَ من النَّفسِ زوجَها على طريقِ الجنسِ ليميلَ إليهَا ويألفَها. (فَلَمَّا تَغَشَّاهَا) أصابَها (حَمَلَتْ حَمْلاً خفيفاً فَمَرَّتْ به) أيْ: سعَتْ بِه مستخفةً لهُ إلى أَنْ أثقلَت. (فلما أثقلت دَعَوَا الله ربهما لئن آتيتنا صالحاً) أيْ ولداً سوياً [صالحَ] البنيةِ. هذا هوَ التأويلُ الصحيحُ.

ومنْ حملَ الآيةَ على آدمَ وحواءَ، قدَّرَ فِي (جَعَلا لَه شُرَكاءَ) حذفاً، أيْ: جعلَ ذريتُهما، كمَا تقولُ: فعلَتْ تغلبُ، أيْ: بنُو تغلبَ، ولذلك قالَ: (فَتَعَالىَ [اللهُ] عَمَّا يشركُونَ). (إنَّ الذين تدعون من دون الله عبادٌ أمْثَالُكُمْ فادعُوهُم)

الدعاءُ الأول: تسميتُهم الأصنامَ آلهةً، والدعاءُ الثاِني: فِي طلبِ النَّفع، ودفعِ الضرُّ [من] جهتِهم، وذلكَ لا يكونُ. وسمَّاهَا عباداً [لأنها] مخلوقةٌ مذللة. (وإما ينزغَنَّكَ) يُزْعِجَنَّك. (من الشيطان [نَزْغٌ]) وسوسةٌ، وأكثرُ ما يكونُ عندَ الغضب (طائفٌ) خاطرٌ أو عارضٌ. وقيلَ: لممٌ كالطيفِ الَّذِي يطيفُ فِي النَّومِ.

(وإخوانهم يمدونهم) أي: إخوانُ الشياطينِ يمدُّهُم الشياطينُ. (لولا اجْتَبَيْتَهَا) هلاَّ تقبلْتَها منْ ربِّكَ. وقيلَ: هلاَّ اقتضَيْتَها منْ عندِ نفسِكَ. [تمت سورة الأعراف]

سورة الأنفال

سورة الأنفال قالَ ابنُ عباسٍ: لمَّا كانَ يومُ بدرٍ، قالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من صنعَ كذَا فلَهُ كذَا فتسارعَ إليهَا الشبّانُ، ثُمَّ أرادُوا استصفاءَ الغنيمةِ لهُمْ. فقالَ الشيوخُ: لاَ تستأثرُوا علينَا فإنَّا كنَّا لكُمْ ردْءاً فنزلَ: (يسألونك عن الأنفال) الآية. وعنْ عبادة بن الصامت قالَ: فينَا نزلَ معشرَ البدريين حينَ اختلفنَا في النَّفَلِ، من حارسٍ لرسولِ اللهِ، ومن محاربٍ، وساءَتْ فيهِ أخلاقُنا، فنزعَهُ اللهُ

منْ بينِ أيدينَا، وجعلَهُ إلى رسولِ اللهِ فقسمَهُ بيننَا عنْ بواءٍ، أَيْ: سواءٍ. وأنَّثَ (ذَاتَ بينكم) [إِذْ] أرادَ حالَ بينِكم، أو ألفةَ بينِكم، قالَ خواتُ بنُ جبيرٍ الأنصاريُّ: 448 - وَأهلُ خِبَاءٍ صَالحٍ ذَاتُ بينهِمْ ... قَد احْتَرَبُوا في عاجلِ أنَا آجِلُهْ 449 - فَأقْبَلْتُ فِي الساعِينَ أسألُ عَنْهُم ... سؤاَلكَ [بالشَّيءِ] الَّذِى أَنْتَ جَاهِلُهْ

(كما أخرجك ربك) أي: جعلَ الظَّفَرَ والنَّفلَ لكَ كمَا أخرجكَ عنْ وطنِك فِي طاعتِه وبعضُهم كارهونَ. (كأنما يساقون إلى الموت) لعدُولهِ عليهِ السلامُ [عن العيرِ إلى النفيرِ].

(وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم) لما أقبلَتْ عيرُ قريشٍ من الشام معَ أبِي سفيانَ، سارَ إليها رسولُ اللهِ فخرجَتْ نفيرُ قريشٍ وهُمْ ذاتُ الشوكةِ إليَها. (لِيُحِقَّ الحقَّ) ليظهرَهُ لكُمْ لأنَّه لمْ يكنْ كذلكَ. (مُردفين) تابعين، رَدِفَ وأردفَ: تَبِعَ، قال خزيمة بنُ نهدٍ: 450 - إذَا الجوَزاءُ أَردَفَتِ الثُّرَيَّا ... ظَنَنْتُ بآلِ فاطمةَ [الـ]ـظُّنُوَنا 451 - ظَنَنْتُ بها وظَنُّ المرءِ حُوبٌ ... وإِنْ أَوفَي وإنْ سكنَ [الحُجُوَنا]

ويجوز (مُردِفِينَ): [مجرورةً] على الوصفِ للألفِ، ومنصوبة على الحالِ مِن الملائكةِ، وأمَّا [الجرُّ] فعلى الوصفِ للألفِ، أي: أردفَ بعضُهم بعضاً، فكانُوا زمراً زمراً. (إذ يُغَشِّيكُمُ النُعُاسَ آمَنَةً) كمَا يقالُ: إنَّ الأمنَ منيمٌ والخوفَ مسهرٌ، فثبَّتَهم اللهُ بالأمنِ المنيم، واستجمَّ بالنوم قِواهُم وأرسلَ عليهم غمامةً طهَّرَتْ أبدَانَهم مِن الأحداثِ، وقلوبَهم مِنْ وساوِسِ الشيطانِ وقنوطِه، واستجلدَ بِها الأرضَ، وتلبَّدَ الرملُّ حتَّى ثبتَتْ الأقدامُ.

(سأُلقي في قلوب الذين كفروا الرعبَ) قالَ المنهزمون منهم: انهزمْنَا ونحنُ [نحشُّ] فِي قُلُوبِنَا كوقعِ الحصى فِي الطِّسَاس. (فوق الأعناق) أي: الرؤوس. وقيلَ: [على] الأعناق. (كُلَّ بَنَانٍ)

مَفْصِلٍ، منْ قولِهم: أَبَنَّ بالمكانِ إذَا أقامَ بِه، فكلُّ مَفْصِلٍ أُقيمَ عليهِ عضو. (ذلكم فذوقوه) اعتراضٌ. (وأن للكافرين عذابَ النار) عطفٌ على (ذلك بأنهم شاقُّوا اللهَ) وقالَ: فذوقُوه؛ لأنَّ الذائقَ أشدُّ إحساساً بالطعم مِن المستمرِ على الأكلِ، فكأنَّ [حالَهم] أبداً حالُ الذائقِ في إحساسِهم العذابَ. (زَحْفاً) قريباً. (مُتحيزاً) طالبَ حيِّزٍ يقوَى بِه.

(وما رميت) أخذَ - صلى الله عليه وسلم - قبضةً منْ ترابٍ فحثَاهُ فِي وجوهِهِم، وقالَ: شاهتَ الوجُوُه، فكانَت الهزيمةُ. (وليبلي المؤمنين منه بلاءً حَسَناً) أيْ: ولينعمَ عليهِنم نعمةً عظيمة. (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتحُ) نزلَتْ فِي المشركيَن استنصرُوا يومَ بدرٍ، وقالُوا: مَنْ كانَ أقطعَنا للرحمِ وأظلمَنا فانصرْ عليهِم.

(لأسْمَعَهُمْ) أيْ: كلامَ الَّذينَ طلبُوا [إحياءهم] مِنْ قصيِّ بنِ كلابٍ وغيرِه. وقيلَ: هوَ فِي دلائلِ الله وآياتِه. أيْ: لو علمَ الله أنَّهم يصلحُونَ يها لأسمعَهُمْ إيَّاهَا. (يحولُ بين المرءِ وقَلْبِهِ)

أيْ: بالوفاةِ وغيرِها مِن الآَفاتِ فلاَ يمكنُه تلافِي ما فاتَ. وقيلَ: يحولُ بينَ المرءِ ومَا يتمنَّاه بقلبِه مِنْ طولِ العمرِ والأملِ ودوامِ الدنيَا. 452 - يَؤَمِّلُ دُنيَا لِتَنقَى لَهُ ... فوافَى المَنِيَّةَ دونَ الأَملْ وفي معنَى القولينِ، أنشدَ أبُو عمروٍ: 453 - تَراه يُرَوِّي أُصُولَ الفَسِيلِ ... فعاشَ الفَسيلُ وماتَ الرَّجُلْ وقيلَ: معنى الآيةِ: حولُه تعالَى بيَن القلبِ وما يعزمُ عليهِ وفي معناهُ: 454 - ما القلبُ إلَّا ما أَنشاهُ فِي حُجُبٍ ... وحقُّهُ بِمُنَى تقوىَ وآمالِ

455 - تَقوَى بَقلبِكَ أوطاراً وينْقُضُها ... ُمقَلِّبُ القَلْبِ من حالٍ إلى حالِ وقدْ رُوِيَ عنِ النبي عليهِ السلامُ أنَّ معنَاهَا: "ما يحولُ بِه بيَن المؤمنِ والمعاصِي مِنْ إِصلاحِهِ للقلوبِ". وَفِي معنَاهُ: 456 - أقولُ والنّفْسُ سَكرَى في تحيّرِها ... ياذَا المعارِج أِوْضِحْ كُلَّ مُشْتبَهِ 457 - أَنْتَ الطَّبيبُ لأَدْوَاءِ القُلُوبِ فيَا ... طَبِيبُها دَاوِ قلْبِي مِنْ تَقَلُّبِهِ (لا تصيبن الذين ظلموا) في معنَى النَّهي لا [الخبِر]، لتكونَ الفتنةُ خاصةً بالظالمينَ. ولوْ كانَ تأويلُ

الآيةِ عمومَ الفتنةِ لقالَ: "لا تصيبُ الَّذينَ ظلمُوا منْكمْ خاصةً". وقالَ الكساِئيُّ: هُوَ نهيٌّ فِي معنَى الجزاءِ، مثلُ قوِلكَْ اِنزلْ عن الدابةِ لاَ يطرحنَّكَ. ولو كان جزاءً خالصاً ما دخَلتْهُ النونُ، كقولِكَ قُمْ أضربْكَ. (تخافون أن يتخطفكم الناس) المؤمنونَ فِي أوّلِ الإسلام. وقيلَ: قريشٌ وكانُوا قليلاً أيامَ جرهُمٍ. وخراعةَ. (يجعل لكم فرقاناً)

مخرجاً. وقيلَ: فتحاً لقولهِ: (يوم الفرقان يوم التقى الجمعان) (ليُثْبِتُوكَ) أي: فِي الوثاقِ والحبسِ. وقيلَ: يثخنوكَ. رماهُ فأثبَتَهُ. (أو يخرجوك) قالَ أبو البُخْترِي: [نخرجُه] على بعيرٍ شرودٍ، يُطْرَدُ حتَّى يهلكَ.

وقالَ أبوُ جهلٍ: تجتمعُ عليهِ القبائلُ فلاَ يقاومُهُمْ بنُو هاشمٍ فيرضَوْنَ بالديةِ، فحينئذ خرجَ إلى الغارِ وهاجرَ. المُكَاُء: صوتُ الُمكَّاءِ، شبَّهَ الصفيَر بهِ لشدةِ صوِتها. قالَ القَطَامِيُّ: 458 - قَفْرٌ يَظَلُّ مكَاكِيُّ النَّهَارِ به ... كأَنَّ أصواتَها أصواتُ نُشَّادِ والتصديةُ: التصفيقُ.

وقيلَ: تصديةٌ عَن البيتِ، مِنْ صَدَدَ يصدُدُ، فأبدلتْ الدَّالُ ياءً كمَا في التظنّي، وَ: 459 - تَقضِّيَ البَارزِّي ..... ..... وقيلَ: إنَّه منْ صَدَدَ يَصِدُّ إذَا ضَجَّ [كقولهِ]: (إذا قومُك منه يَصِدُّون). (فَيَرْكُمَهُ) [يجعلَ] بعضَهُ فوقَ بعضٍ كالرَّملِ الرُّكَام وِالسَّحاب الركامِ. (فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ)

أيْ لبيتِ الله، وكانَ رسولُ الله يضربُ يدَهُ فِي خمسِ الغنيمةِ، فيأخذُ منْهُ قبضة للكعبة. وقيلَ: سهمُ اللهِ وسهمُ الرسولِ واحدٌ. وذكرُ اللهِ لتشريفِ السَّهمِ، أوْ لافتتاح الذكر. الَعُِدْوةُ: شفيرُ الوادِي، بضمِّ العينِ وكسرِها وفتحِها.

(والرَّكبُ أسفل منكم) أبُو سفيانَ وأصحابُه. (ولو تَوَاعَدتُّمْ) أيْ: من غيرِ عونِ اللهِ وإرادتِه (لاختلفتم)، (ولكن ليقضي الله) وقد اقتبسَهُ أبُو غالبٍ الواسطيِّ: 460 - لمَّا رأَيْتُ سُلُوِّي غيرَ مُتَّجِهٍ ... وأَنْ غَرْبَ اصْطِبَارِي [عادَ مَفْلُولا] 461 - دَخَلْتُ بالرَّغْم مِنِّي تَحْتَ طَاعَتِكِمْ ... لِيَقضيَ الله أمرًا كانَ مَفعوَلا (ويحيى من حَيَّ)

كانَ حَيِيَ يحيَى، مثلُ: عِلمَ يَعلمُ، وقد قُرِئَ بِها، إلا أنه شَدَّدَ الياءَ تخفيفاً كمَا قالُوا: عيَّ بأمرِه، ألاَ ترَى أنَّ مِن العربِ مَنْ يقولُ: عَلْمَ زيدٌ، يعنِي عِلمَ تخفيفاً فِيما ليس بِمِثْلَيْنِ، فأولَى فِي المثلينِ. (في مَنَامِكَ قَلِيلاً) في عينِك؛ لأنَّها موضعُ النَّومِ، كالمقام موضعَ الإقامةِ. وقيلَ: إنَّه رؤَيا النَّوم [لتجرِئَةِ] المسلمينَ. (ويُقَلِلُكُمْ في أعْيُنِهِمْ) لئلاّ يستعدُّوا لَكُمْ. (وَتَذهَبَ ريِحُكُمْ)

دولتُكُمْ، انشد أبو عبيدٍ لضرارٍ بن الخطَّابِ: 462 - قَدْ عُوِّدُوا كُلَّ يَوْمٍ أنْ تَكُونَ لَهم ... رِيحُ الِقتَالِ [وَأَسْلابُ] الَّذِينَ لَقُوا (نَكَصَ على عَقِبَيْهِ) رجعَ القهقرَى ذليلاً خاسئاً. (تَثْقَفَنَّهُمْ) [تجدنَّهم]، وأصلُه: [إدراكُ] الشيءِ والأخذ منْهُ، ومنهُ تثقيفُ السهام. قالَ العامليَّ: 463 - وقَصِيدَةٍ قَدْ بِتُّ أَجْمَعُ بَينَها ... حتى أُقَوِّمَ مَيلَها وَسِنَادَها

464 - نَظَرَ المُثَقِّفِ فِي كُعُوب قِناتِهِ ... حتَّى يُقِيَم ثِقَافُه مُنْادَهًا (فَشَرِّدْ بهم منْ خَلْفَهُمْ) نكِّل بِهم تنكيلاً يشرُّد غيرَهم ويخوفُهُمْ. (وإمَّا تخافَنَّ) أي: إنْ خِفتَ. ونحنُ نُنْكِرُ "مَا" أَو غيرَها تجيُء زائدةً فِي القرآن. فالمعنَى ها هنا: نقلُ الفعلِ مِن الماضِي إلى المستقبلِ معَ ما حدَثَ مِنْ حسنِ اللفظ بالغنَّةِ الَّتِي يحدثُها اجتماعُ "إِنْ" معَ "الميم". (فانبِذْ إليهم) فألقِ إليهِم حديثَ [الحرب]. (على سواءٍ)

على استواءٍ فِي العلم مِنكَ ومنهُم. وعنْ هذَا كانَتْ ألفاظُ السواء [والسوَى] والعدلِ والوسطِ والقسطِ والقصدِ والنصفِ متقاربةَ المعاِني. (وآخرين من دونهم) بنُو قريظةَ. وما [قبلُ]: بنُو قينقاعٍ. (وألَّفَ بين قلوبهم) يعنِي الأوسَ والخزرجَ وكانُوا يتفانوُنَ فِي الحروبِ. (ما كان لنبيٍّ أن تكون له أسرى)

فِي أسارَى بدرٍ حيَن رأَى النبيُّ عليهِ السلاُم فيِهم الفداءَ، بعدَ شُورَى الصحابة. (حتى يُثْخِنَ) [يكثرَ] مِن القتلِ. ومتاعُ الدنيَا عرضٌ، لقلةِ بقائِه وَوَشْكِ فنائِه. (لولا كتابٌ من الله سبق) أنه لا يعذبُ إلا بعدَ مظاهرةِ البيان. وقيلَ: إنَّه ستحلُّ لكُم الغنائمُ.

(فِي قُلُوبِكم خَيراً) أيْ: بصيرةً وإنابةً. (يؤتكم خيراً مما أُخِذَ منكم) من الفداءِ، نزلت فِي العباسِ حينَ فدَى نفسَهُ وابنَي أخِيهِ عقيلاً ونوفلاً. قالَ العباس: فآتانِي اللهُ خيراً منهُ مالاً كثيراً، منها عشرونَ عبداً، أدناهُمْ يضربُ [بعشرينَ] ألفِ دينارٍ.

(من ولايتهم) الاجتماعُ على التناصرِ والتصافِي. (ورزقٌ كريم) طعامُ الجنةِ لاَ يستحيلُ نجواً، بَلْ كالمسكِ رشحاً. [تمت سورة الأنفال]

سورة التوبة

سورة التوبة (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) أولُها. عاشرُ ذِي الحجةِ منْ سنةِ تسعٍ، وأخيرُها: عاشرُ شهر ربيعٍ الأخر. قالَ الحسنُ: كانت مدةُ النداءِ بالبراءةِ فِي الأربعةِ [الأشهرِ] لِمَنْ ليسَ لهُ عهدٌ، وأمَّا مَنْ لَهُ عهدٌ [فإِلى] تمام مِدتِه كمَا قالَ: (فَأتمُّوَا إليهم عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ)

وقيلَ: كانَ منْهُمْ مَنْ عهدُه اْكثرُ منْ أربعةِ أشهرٍ فَحُطَّ إليهَا، وهُمْ [البادِئُونَ] بالعزمِ على النكثِ. ومَنْ كانَ عهدُه أقلَّ، وهُمُ الأوفياءُ رُفِعَ إليهَا. والمشركونَ الذينَ لا عهدَ لهُمْ فيقاتلونَ بعدَ انقضاءِ الأشهِر الحرمِ المعهودةِ، ولا ينظرونَ تمامَ النداءِ، وكانَ القتالُ إذْ ذاك في الأشهر الحرمِ محرماً، كمَا قالَ: (فإذا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ) (إلاَّ) حلفًا وعهدًا.

وقيلَ: مودةً ووصلةً. وكِلا المعنَيَيْنِ يحتملُه قولُ خفافٍ: 465 - أَعَبَّاسُ إِنَّ الَّذِي بَيْنَنَا ... أَبىَ أَنْ [يُجَاوِزَهُ] الأَربَعُ 466 - عَلائِقُ مِنْ حَسِبٍ دَاخِلٍ ... معَ الإلِّ والنَّسَبِ أَرفَعُ وأعيدَ: (لا يرقبون) لأنَّ الأول فِي جميع الناقضينَ للعهدِ. والثانِي: فِي الذِينَ اشتروا بآياتِ اللهِ، وهُمْ قومٌُ أطعمَهُمْ أبُو سفيانَ ليصدُّوا النَّاسَ عَن الإسلام.

(أَلاَ تُقَاتِلوُنَ قَوْمَاً نكَثُوا أَيْمَانَهُمْ) يعنِي قريشاً إذ غَدَرُوا بخزاعَة. (ولَمَّا يَعْلَمِ اللهُ) لمَّا يفعلْ: نفيُ الفعلِ معَ تقريبِ وقوعِه. ولمْ يفعلْ: نفيٌّ بغيرِ إيذانٍ بوقوعِه. ومعنَى الآيةِ: أمْ حسبْتُمْ أنْ تترَكُوا ولمْ تجاهِدُوا؛ لأنَّهم إذَا جاهدُوا علمَ اللهُ ذلكَ منْهُم.

(وَلِيجَةً) خلطاءَ يناجونَهُم، الواحدُ والجماعةُ فيهِ سواءٌ. وقيلَ: الوليجةُ: الدخيلةُ والبطانةُ، الَّذِي يدخلُ فِي باطنِ أمرِ الرَّجلِ. (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) وأهلُ الكتابِ يقرُّونَ بالنَّشْأةِ الآخرةِ، لكنَّ إيمانَهم على غيرِ علمٍ ولاَ استبصارٍ، وبِخلافِ مَا وصفَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - منْ أحوالِ اليومِ الآخرِ، ومِنْ مدَّةِ العذاب. (عَن يَدٍ) عن قهرٍ واستعلاءٍ منكُمْ عليهِمْ. قالَ أبُو عبيدةَ: كلُّ مَنْ أطاعَ لقاهرٍ بمَا يعطيِه عَنْ ذلٍ وضرورةٍ، أَو هوىً

وصبابةٍ، فقَدْ أعطَاهُ عَنْ يدٍ. قالَ الشاعُر: 467 - لَم [أَعْطُهَا] عَنْ يَدِي إِذْ بِتُّ اَرْشُفُهَا ... إلا تطَاوَلَ غُصْنِ الجيدِ للجِيدِ 468 - كمَا تطَاعَمَ فِي خَضراءَ نَاعَمةٍ ... مُطَوَّقَانِ أَصَاخَا بَعْدَ تَغْرِيدِ وقيلِ: إنَّ المرادَ يدُ المَؤدِّي، فإن الذِّمِيَّ يلبَّبُ، ويقامُ بينَ يدَيْ مَنْ يأخذُ الجزيةَ حتى يؤدِّيها عَنْ يدِهِ. وهذَا تأويلُ الصغارِ. وعَن هذَا سقطَتْ بالموتِ والإسلامِ عندَنا؛ لأَنَّ الاستيفاءَ عَنْ يدهِ

-وعلى هذِه الصورةِ- لا يُتَصَوَّرُ فكأنَّه تعاَلى قالَ: قاتلُوهُمْ حتَّى يذلُّوا ذلاً يبقَى على الأيامِ، وِفي أقلِّ هذا الهوانِ ما يزيدُ على كثيرٍ مِن العذابِ والقتلِ. فسقطَ قولُ الطاعنِ فِي سقوطِ القتلِ عنهُم بعرَضٍ يسيرٍ لا يعبأُ به. 469 - أَلَمْ تَرَ أنِّي لا تُبَلُّ رَمِيَّتِي ... [فَمَنْ] أَرْم لا [تُخْطِيء] مقَاتِلُـ[ـه] نَبْلِي 470 - رأَيْتُكَ لا تحْمِي عِقَالاً ولَمْ تُرِدْ ... [قِتَالاً] [فمَا لاقَيْتَ] شَرّ مِن القَتْلِ ألا ترَى أنَّ بنِي تغلبَ لمَّا عثَرَتْ على هذا [الذُّلِّ] المبير المبينِ كيفَ أَبَتْ

عنها إلى القتالِ، وأرسلَتْ [إلى] عمرَ رضيَ الله عنهُ: بأنَّا أشرعْنَا [إليكَ الأَسِنَّةَ] الرهاقَ دونَها. فأجابَ عمرُ: إذاً أجزُرُكُمْ جزرَ العُبْرِ المعافيرِ، كعادة اللهِ في سَواكُم، ثُمَّ رضُوا بالخمسِ من المعشورِ، والضعفِ مِن المصدرقِ ، وهيَ على الاضعافِ مِنْ جِزَاهُمْ، وأرسلَ عمرُ بالمصدقِ إليهِم، ولمْ يكلفْهُم أَن يعطُوها عَنْ يدٍ كمَا قالَ بعضُ مصدِّقيهِ: 471 - غَدَتْ منْ أُوَى فَيْحَانَ [مَلْمُومةُ] الذُّرىَ ... غرائِبُ مِنْ آلِ تَغْلِبَ والنَّمِرْ

472 - يَؤُمُّ أبَا حَفْصٍ ودُوَن لِقَائِه ... قُرَى النيبِ فالصَّمَّانِ مِن جَبَلَيْ حَجزْ وجريُرٌ كثيرُ التنبيهِ على معارِّ الجِزْية مِثلُ قوله: 473 - أَدِّ الجِزَى وَدعِ الفَخَارَ بتَغْلِبٍ ... واخْسَأْ بِمَنزلِةِ الَّذليِلِ الصَّاغِرِ وقولهِ: 474 - أُرِيدَكُمُ مسَيحَ الصَّلِيبِ إذَا دَنَا ... هِلاَلُ الجِزَى فاسْتَعْجِلُوا بالَدَّرَاهِم 475 - لنَا كُلَّ عامٍ جزيُة [تَتَّقِي] بِهَا ... عَليْكَ وما تَلقىَ مِن الذُّلِّ أَبْرَحُ

وقولهِ: 476 - ويسْعَى الَتغِلبِيُّ إذَا اجْتَبَيْنَا ... بِجزيتِهِ وَينْتَظِرُ الهِلالاَ وقولهِ: 477 - فَخَلِّ الفَخْرَ يا [ا] بنَ أَبِي خُليْدٍ ... وَأَدِّ خَرَاجَ رَأسِكِ كُلَّ عَام إلى غيرِ ذلكَ مِنْ معانِي بديعةٍ، وألفاظٍ فصيحةٍ كلِّها معانِي قولهِ عزَّ وجلَّ: (عَنْ يَدٍ) وهُوَ أربعةُ أحرفٍ. (يُضَاهِئُونَ) يشابِهُونَ. امرأةٌ ضهياءُ لا تحيضُ يُشَبِّهُهَا بالرِّجالِ. (قاتلهم الله)

كما قالَ عَبِيد بنُ الأبرصِ: 478 - قاتَلَها الله تلحَاِني وقَدْ عَلِمَتْ ... أَنّي لِنَفْسِي إِفسَادِي وِإصْلاحِي (يُحمى عليها) يوقدُ عليَها. (في كتاب الله) [أي]: اللَّوحُ المحفوظُ.

(ذلك الدين القيم) الحسابُ [الـ] مستقيمُ. (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) [بإحلالِها]. وقيلَ: بمعصيةِ اللهِ فِيهَا. وقيلَ: بأَنْ تتركُوا فِيها قتالَ عدِّوكُمْ. (إنما النسيءُ)

يجوزُ مصدرَاً بمعنَى النَساءِ [كالنذيرِ]. وفاعلاً كالبشيرِ. أيْ: النَّاسيءُ ذو زيادةٍ فِي الكفرِ، وهوُ النَّاسيُء لا الَّذِي هوَ خلافُ الذاكرِ. ويجوزُ مفعولاً كالقتيلِ والجريح، أيْ. الشهرُ المؤخرُ زيادةٌ فِي الكفرِ. وكانوُا يؤخروَن تحريَم المحرَّم سِنةً؛ لحاجتِهم إلى القتالِ فيه. وقيلَ: يؤخرونَ أشهَر الحجِّ كأنّهَم يستنسِؤُونَ ذلك كما تُسْتَنْسَأُ الديونُ. (انفِرُوا) اخرجُوا كافةً. والنَّفْرُ والنَّفِيرُ: الخروجُ إلى الشيء لسببٍ [يبعثُ] عليهِ [ويدعُو] إليهِ.

(اثَّاقلتم إلى الأرض) تثاقَلتُم إلى أوطانِكم. فأُدْغِمَتْ التاءُ في الثاءِ، ودخلَتْ ألفُ الوصلِ للابتداء. قالَ الواقديُّ: إنها نزلَتْ فِي منافقِيّ الأنصارِ [المتخلفيَن] عَنْ تبوك. (ثانيَ اثنين) العربُ تقولُ: خامسُ خمسةٍ، ورُبَّما تقولُ: خامسُ أربعةٍ. هذا أشهرُ. والأولُ أفصحُ. قالَ حميدُ بنُ ثورٍ:

479 - لِقحَ العِجَافُ له [لِسَابِع] سَبْعَةٍ ... وَشَرِبْنَ بعدَ [تَحَلُّوٍ] فَرَوِينَا 480 - غَيْثٌ إذَا سِمعَ السَّحابُ هديرَهُ ... جاءَتْ تَوالِيهِ يَحِنُّ حَنِينَا (انفِرُوا خِفَافَاً وَثِقَالاً) أيْ: شباناً وشيوخاً. وقيلَ: ركباناً ومشاةً. وقيلَ: [خفافاً:] مسرعينَ، مِنْ [خَفَّ خفوفاً].

وقيلَ: خفافاً مِن الثقلِ والسلاح. (عَرَضَاً قريباً) متاعاً قريبَ المأخذِ. (وَسَفَرَاً قَاصِدَاً) [سهلاً] مقتصداً. وقيلَ: ذا قصدٍ، أي: عدلٍ، غيرَ قريبٍ ولاَ بعيدٍ. (كره الله انبعاثهم) أيْ: خروجهم إليهَا ونهوضَهم بها. (فَثَبَّطَهُمْ) وقفَهم وأقعدَهم (مَعَ اَلقعِدِين) النساءِ والصبيانِ. (خَبَالاً)

فساداً. وقيلَ: اضطراباً فِي الرَّأي. فالأولُ أوجَهُ فِي اللغةِ. قالَ الأخطلُ: 481 - وإذَا دعَوْنَكَ عَمَّهُنَّ فإِنَّهُ ... نَسَبٌ يَزيدُكَ عِنْدَهُنَّ خَبَالاَ (ولأوضعوا خلالكم) أسرعُوا بينَكُم بالتخليطِ والإفسادِ. وأصلُ الإيضاعِ: الإسراعُ فِي السيرِ. قالَ المخزوميُّ: 482 - فَلَمَّا تَوَافَقْنَا وسَلّمْتُ أَقْبَلَتْ ... وُجُوهٌ زَهَاهَا الحُسْنُ أنْ تَتَقَنَّعاَ 483 - تبَاَلْهنَ بالعِرْفَانِ لمّا [عَرَفْنَنِي] ... وَقُلْنَ امْرُؤٌ بَاغٍ أكَلَّ وأَوْضَعَا

(ولا تَفْتِنِّي) فِي جدِّ بنِ قيسٍ، قالَ لرسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لا تفتنِّي ببناتِ الرُّوم فِإنِّي مستهترٌ بالنساءِ. قالَ ذلك لقربِ تبوكَ [مِن] الروم.

(لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا) أيْ: بحفطها والحزنِ عليها، والمصائبِ فيها معَ عدم [الانتفاعِ] بها. وقيلَ: بالحسرةِ عليهَا عندَ اغتنام اِلمؤمنيَن. (وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ) تهلَكُ وتبطلُ. [واللاُم] للعاقبةِ، فإنَّ العبَد إذَا كانَ من اللهِ فِي استدراجٍ كثَّرَ اللهُ مالَهُ وولدَهُ وفتنَةِ بهِمَا. (مَلْجَئاً)

قوماً يلجؤُوَن إليهِم. (أوْ مَغاراتٍ) غيرانا فِي الجبال. (مُدَّخَلاً) سرباً فِي الأرضِ يدخلوَنهُ. (يَلْمِزُكَ) يعيبُكَ. وهُوَ ثعلبةُ بنُ حاطبٍ قالَ: إنَّما يُعْطِي محمدٌ مَنْ يحبُّ.

(للفقراءِ والمساكينِ)

[عن] ابن عباسٍ: الفقيرُ: المحتاجُ المتعففُ عن المسألة، والمسكين : المحتاجُ السائلُ وقيلَ. الفقيرُ الَّذِي فَقَرَهُ الفَقرُ، كأنَّه أصابَ فقارَهُ. والمسكينُ [الذِي] أسكنَة العدمُ وذهبَ بحركتِه. وفِي الحقيقةِ هُمَا متقاربانِ وتكرُّرُهما [لتوكيدِ] الوصيةِ بانعادم (7) العاقل.

(وَاَلعاملِينَ عَلَيْهَا) أيْ: [السعاةُ] على الصدقاتِ. (والمؤلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) مثلُ أِبي سفيانَ وابنهِ معاويةَ، والأقرعِ بنِ حابسٍ، وعيينةَ بنِ حصنٍ. [وحكيم] بنِ حزامٍ، وأشباهِهم.

(وَفِي الرِّقَابِ) يعنِي المكاتبينَ يعانُونَ على بدلِ الكتابة. وقيلَ: هُم عبيدٌ يُشترونَ بهذَا السهم فِيعتقونَ. (وَاَلْغَرمِينَ) الَّذِينَ لا يفِي مالُهم بدَيْنِهِم.

(هوَ أُذُنٌ) أيْ: صاحبُ أذنٍ يصغِي إلى كلِّ أحدٍ. وقيلَ: أذنُ أيْ: لا يقبلُ إلا الوحيَ. (قُل أُذُنُ خَيرٍ) أي: يستمعُ للخيرِ ويعملُ بِه. (ويؤمن للمؤمنين) يصدقُهُم. كقولِه: (رَدِفَ لَكُم). وقيلَ: إنَّه لامُ الفرقِ بينَ إيمانِ التصديقِ وإيمانِ [الأمان]. (ورحمةٌٍ).

عطفٌ على (أُذُنُ [خيرٍ) أيْ: مستمعُ خيرٍ ورحمةٍ. ورفعُه على تقدير]: أيْ قُلْ: هُوَ مستمعُ خيرٍ وُهوَ رحمة. كقوله: (وما أرسلناك إلا رحمة ً للعالمين) وقيلَ: إنَّ معنَاُه ذُو رحمةٍ. (يُحادِدِ اللهَ) يكونُ في حدٍّ غير حدِّهِ. (وخضتم كالذي خاضوا) إشارةٌ إلى ما خاضُوا فيه.

وقيلَ: أرادَ كالذينَ خاصوا، فحذف النونَ تخفيفاً لطولِ الاسم بِالصلةِ. كمَا قالَ الأشهبُ بنُ رميلةَ، شعر: 484 - إِنَّ الَّذِي حَانَتْ بِفلْجٍ دِمَاؤُهُمْ ... هُمُ القَوْمُ كلُّ القَوْم يِا أُمَّ خَالدِ 485 - هُمُ ساعدُ الدَّهرِ الذَّي يُتَّقَى بهِ ... وما خيرُ كَفِّ لَمِ يُؤيََّدْ بِسَاعِدِ. (ورضوانٌ من الله أكبرُ) منْ جميعِ النِّعَم، سرورُ المؤمنُ بما يتحَققُهُ مِنْ رضوانِ اللهِ أكبر مِنْ جميعِ النِّعَمِ.

وروَى معاذٌ عَن النبيِّ عليهِ السلامُ: "إنَّ جنةَ العدنِ مِن السماءِ العليا لا يدخلُها إلا نبيٌّ أَوْ صديقٌ أو شهيدٌ، أَوْ إمامٌ عدلٌ أو محكمٌ فِي نفسِه. وجنّةُ المأْوَى في السماءِ الدُّنيا يأْوِي إليَها أرواحُ المؤمنينَ.

(يحلفون بالله) في الجُلاَسِ بنِ سويدِ بنِ الصامت قالَ: إنْ كانَ قولُ محمدٍ حقاً لنحنُ شرٌّ مِن الحميرِ، فَرُفِعَ ذلكَ للنبيِّ عليهِ السلامُ، فحلفَ أنَّه لم يقلْ. (وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَهُمُ اللهُ) وذلكَ أنَّ مولَى للجُلاَسِ قُتِلَ، فأمرَ لَهُ النبيّ عليهِ السلامُ بديتِه، فاستغنَى بها. (فأعْقَبَهُمْ نِفَاقاً)

أيْ: بخلُهم بحقوقِ اللهِ، إلى يوم يِلقَونَ بخلَهُم. وقيلَ: أعقبَهُم الله ذلكَ بالخذلانِ وحرمانِ التوبة. وقيلَ: معناهُ جازَاهُم ببخلِهم وكفرِهم. كمَا قالَ النابغةُ: 486 - فَمَنْ أَطَاعَ فَأَعْقبهُ بِطَاعَتِهِ ... كمَا أطَاعَكَ وَدلِّلْهُ علَى الرُّشْدِ (الذين يَلْمِزُون المُطَّوِّعِينَ) ترافدَ المسلمون بالنفقاتِ في غزوةِ تبوك على أقدارِهم، فجاءَ علبةُ بنُ زيدٍ الحارِثيُّ بصاعٍ مِن تمرٍ، وقالَ: إنِّي أجَّرْتُ نفسِي بصاعَيْنِ ذهبتُ بأحدِهما

لعيالِي وجِئْتُ بالآخرِ صدقة. فسخرَ منهُ المنافقونَ.

(إن تستغفر لهم سَبْعِينَ مَرَّةً) جاءَ على المبالغِة دونَ التقدير؛ لأنَّ السبعةَ أكملُ الأعدادِ؛ لأنها [جمعَتْ] معاِنيَ العددِ كلِّه، لأن العددَ كلَّه أزواجٌ وأفرادٌ، والأزواجُ منها أولُ وثاِني، والثلاثةُ أولُ الأفرادِ، والخمسةُ فردٌ تالٍ، فإذَا جُمِعَ فردٌ أولٌ إلى زوجٍ ثانٍ، [أو] زوجٌ [أولٌ] إلى فردٍ ثانٍ كانت سبعةً. يبينُ ذلكَ أنَّ الستةَ لأولُ عددٍ تامٍ، لأنَّه إذَا جُمِعَتْ أجزاؤُها كانت مساويةً لهَا؛ لأنَّّ لهَا نصفاً وهُوَ ثلاثةٌ، [وثلثاً] وهُو اثنانِ وسدساً وهُوَ واحد. فإذَا

جُمِعَتْ هذِه الأجزاءُ كانَتْ ستةً سواءً. ثمَّ أُخِذَ الواحدُ الَّذِي هُوَ أصلُ العددِ معَ الستةِ التِي هيَ عددٌ تامٌ، كانت منهُمَا السبعةُ. وكانَت [عدداً] [كاملاً] لأنَّه ليسَ بعدَ [التمامِ] إلاَّ الكمالُ. ولعلَّ واضعَ اللغةِ سمَّى الأسدَ بالسبعِ؛ لكمالِ قوتِه، كمَا سمَّاهُ أسداً لإسآدِهِ فِي السيرِ. فإذَا ثبتَ هذا، فسبعينَ مرةً فِي الآيةِ يكونُ غايةَ الغايةِ وكمالَ النهاية؛ لأنَّ الآحادَ غايتُها العشراتِ، فكأنَّ المعنَى إنَّ الله لا يغفرُ لهمُ وإنْ استغفرْتَ أبداً. وهذا هُوَ الجوابُ عنْ قولهِ: (وَفُتحَت أَبْوابُهَا). (وَثَامِنُهُم كَلْبُهُمْ) فإنَّ واوَ الثمانيةِ واوُ الاستننافِ! لأنَّ الشيءَ إذَا انتهَى إلى كماِله وجبَ استئنافُ حاِله.

(خِلافَ رَسُولِ الله) أيْ: على مخالفتِه. وقيلَ: بعدَهُ وخلفَه. كمَا قالَ الهذليُّ: 487 - [فإِنْ] تَبْكِ فِي رَسْم اِلدِّيارِ فإِنَّها ... دِيَارُ بَنِي عَوْفٍ وهَلْ عَنْهُمُ صَْبرُ

488 - فمَا كُنْتُ أَخْشَى أَنْ أَعِيشَ خِلَافَهُمْ ... بِسِتَّةِ أَبْيَاتٍ كمَا نَبَتَ [الِعتْرُ] (ولا تصلِّ على أحدٍ منهم) فِي عبدِ اللهِ بنِ أبي بنِ سلولٍ. (الخَوَالِفِ) النساءِ والصبيانِ لتخلِفهِمْ عَن الجهادِ.

(وجاء المُعَذِّرُونَ) أي: المقصرُونَ الذينَ يظهرونَ عذرَهُمْ ولا عذرَ. يقالُ. أعذرَ فِي الأمرِ: بالغَ، وعذَّر: قصَّرَ. 489 - وإنْ شَلَّ رُعْيَانُ الجميع مخافةً ... يَقولُ جِهاراً وْيَلكُمْ لا تُنَفِّرُ [و] 490 - علَى رِسْلِكُمْ إنَّا سنعدِي وَراَءكُمْ ... ونعذُرُ إنْ يكُنْ سَِوانَا يَعذُر (الأعراب أشدُّ كفراً) أيْ: أهلُ البدوِ لمِاَ فِيهِم مِنْ [جفاءِ] الطبعِ وقسوِة القلبِ. (الدَّوَائِرَ) دولُ الأيام وِنوبُ الأقسامِ.

(قُرُباتٍ عند الله وصلواتِ الرَّسُولِ) عليهِ السلامُ. أيْ: يتخذُ نفقَتَهُ ودعاءَ الرسولِ قربةً إلى الله. (والذين اتَّبَعُوهُم بإحْسَانٍ) مَنْ تبِعَهُمْ مِن الصحابة. وقيلَ: مِن التابعينَ. (مَرَدُوا عَلىَ النِّفَاقِ) مرنُوا عليهِ وتَجَرَّدُوا عَنْ غيره. (سَنُعَذِّبُهُم مَرَّتَيْنِ) فِي الدُّنيا بالجوِع والخوفِ وفِي القبرِ بالعذابِ.

وقيلَ: أحدُ العذابينِ أخذُ ماِلهم فِي جهازِ الحربِ، والثانِي أمرُهم بالجهادِ. (وآخرون اعترفوا) فِي نفرٍ تخلَّفُوا عَنْ تبوك. (عَسَى اَللهُ) خرجَ مخرجَ الإطماعِ والإشفاقِ ليأملُوا ولا يتكلُوا. (إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لهم) تثبيتٌ، يسكنونَ إليَها ويعلمونَ أنَّ توبتَهم قُبِلَتْ. (مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللهِ) مؤخرون محبوسونِ لِمَا ينزلُ مِن أمرِ اللهِ.

وهُم الثلاثةُ الَّذِينَ خلفُوا: هلالُ بنُ أميَة. ومرارةُ بن الربيع، وكعبُ ابنُ مالكٍ. (والذين اتخذوا مسجدهم ضِراراً) ابتداءٌ، وخبرُه (لا تَقُمْ فيه أبداً). وكانُوا نفراً مِنْ منافِقي الأنصار بنُوا المسجدَ ليتفردُوا بنجَواهُم الملعونةِ.

وقيلَ: إنَّ أبَا [عامرٍ] الراهبَ راسَلهُم مِن الشام أِنْ يأتيُهم فبنَوا مسجدَهُم إرصاداً لَهُ. (وتفريقاً بين المؤمنين) بأَنْ يصلِّي فيهِ قومٌ، وقومٌ فِي مسجدِ رسولِ اللهِ فبعثَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عاصمَ بن عدي فهدَمَهُ وأحرَقَهُ. (لمسجدٌ أُسِّسَ على التقوى)

يعنِي مسجدَ رسولِ الله. وقيلَ: مسجدَ قباءَ، فإنَّه أولُ مسجدٍ بُنِيَ فِي الإسلامِ.

(شَفَا جُرُفٍ) شفيرِ الوادِي، الذِي جرَف الماءُ أصلَه، فبقيَ واهياً لا يثبتُ عليهِ البناءُ. وَ (هَارٍ). مقلوبُ هائرٍ، أَيْ: ساقطٍ. وذهبَ ابنُ جنِّي: أَنَّ [تيهورةً]-وهيَ قطعةٌ مِن الرمل- مقلوبة [هيوورَةٍ] منْ هارَ الجُرُفُ وانهارَ. وعن الشيباِنيِّ: ناقةٌ هايرٌ وهائرٌ إذَا سارَتْ أسرَعَتْ كالجرفِ الهائر.

وأنشدَ الحامضُ: 491 - وتَحْتِي مِنْ بَنَاتِ العيد هارٍ ... اَضَرَّ بِطَرقِهِ سَيْرٌ هجاجُ 492 - حَروجُ الِمنْكَبَيْنِ منَ المطَاَيا ... إذَا ما قِيلَ لِلشُّجْعَانِ: عاج وفِي معنَى الآيةِ قولُ الشماخِ: 493 - ولمَّا رَأَيتُ الأَمرَ عَرْشَ هَوَيَّةٍ ... تَسَلَّيْتُ حَاجَاتِ النُّفُوسِ بشِمَّرَا ومثلُه:

494 - سَاقِي عرْيجَاءَ على أهوالِ 495 - إِذَا تَتَنَزَّى فوقَ عرشٍ بالِ (رِيبةً في قلوبهم) خيانةً بِما أضمرُوه مِنْ تفريقِ كلمة رسولِ اللهِ. وقيلَ: شكاً بسببِ ماراسلَهم فيهِ أبو عامرٍ، وفيهِ قول النابغةِ: 496 - حَلفْتُ فلَم أَترُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً ... ولَيْسَ وَراء اللهِ للمَرْءِ [مَذْهبُ] 497 - لَئِنْ كُنت قَدْ بُلِّغْتَ [عَنِّي] خِيَانَةً ... لَمُبلِغُكَ الَواشِي أَغَشُّ وأَكذَبُ (إنَّ الله اشترى) هذا مجازٌ، لأنَّه إنَّما يشترِي مالاً يملكُه، ولكن المعنَى تحقيقُ العوضِ فِي النفوسِ.

(وَعْداً عليه) نَصَبَ (وَعْداً)؛ لأنَّ قولَه: (اشترى) يدلُ على أنَّه وعدَ وعداً. بَل الوعدُ هو حقيقهُ المرادِ. (حقّاً) [أي]: واجباً؛ لأنَّه صارَ كالجزاءِ، وإلاَّ فقَدْ يكونُ فِي الوعدِ ما ليسَ بواجبٍ، وهوَ -وإنْ كانَ أوجبَهُ تعالى على نفسِه- تفضلٌ منه علينَا. (السائحون) الصائمونَ. وقالَ عليهِ السلاُم: "سياحةُ أُمَّتي الصومُ". وقيلَ: المهاجرونَ.

وعن عكرمةَ: أنَّهم الذينَ يسافرون فِي طلبِ العلم. (إلا عن موعدةٍ وعدها إياه) كانَ أبرهُ وعدَه أنْ يؤمنَ [فـ]ـكانَ استغفارُه على هذا الوجهِ أنْ يرزقَه الإيمانَ ويغفرَ لهُ الشركَ.

(فلما تبين له أنه عدوٌّ لله) بموته على شركِه. (تبرأ منه) أيْ: مِن أفعاِله. وقيلَ: مِنْ استغفاِره لَهُ على هذا الوجهِ. (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين) أمَّا على النبيِّ فلإذنِه المنافقينَ فِي التخلفِ عنْهُ. وقيلَ: هوَ مفتاحُ كلامٍ لَما كانَ النبي سببَ توبتهم ذُكرَ معَهُم. كقوله: (فأنَّ لله خمسه). (الذين اتبعوهم في ساعة العُسرة) أيْ: وقتِ العسرةِ إذ كانُوا منْ غزوةِ تبوك في جهدٍ جهيدٍ منْ العطش وعوزِ الظهرِ.

(وَضَاقَت عَليهم أنفسهم) أيْ: الذين خُلِّفُوا مِن النبوة والجفوةِ، حتَّى أمرَ نساءهُم باعتزالِهم. ونهَى الناسَ عَنْ مكالمتِهم. (ثم تاب عليهم ليتوبوا) ليدُوموا على التوبة. وقيلَ: ليتوبَ الناسُ. (وما كان المؤمنون لينفروا كافَّةً) لمَّا نزلَتْ: (إِلا تنفروا يعذبكم) قالَ المنافقونَ: [هلكَ] الَّذِينَ لمْ

ينفرَوا معه، وكانَ ناسٌ مِن الصحابةِ خرجُوا إلى قومِهم يفقهونَهُم ويعلمونَهم الشرائعَ فنزلَتْ هذِه. (عزيزٌ عليه ما عنتم) شديدٌ عليهِ ما شقَّ عليكُم. وقيلَ: ما هلَكتمُ عليهِ. وقيلَ: ما أثِمْتُم به. [تمت سورة التوبة]

سورة يونس عليه السلام

سورة يونس عليه السلام (قَدَمَ صدقٍ) ثواث وافٍ بمَا قدَّموُا منَ الأعمالِ. وقيلَ: سابقةٌ مما أخْلَصُوا منَ الطاعَة. وقيلَ: سابقُة بمَا كتبت لهَمْ من السعادَة. (في ستة أيامٍ) لتشاهدَ الملائكةُ الخلقَ شيئاً بعَد شيءٍ فيعتبرُوَنهُ ويدركوَنه.

وقيلَ: لأنَّ تصريفَ الخلقِ حالاً بعدَ حالٍ أحكمُ وأبعدُ مِنْ شُبَهِ الاتفاق. (وَعْدَ الله) نُصِبَ على معنىَ المصدرِ، أيْ: وعدَ وعداً، وحَّققَه حقاً، أو نصبَهُ على ما فِي "مرجعِكُم" منْ معنَى الفعل، كقولِ الهذليِّ: 498 - مَا إنْ يَمَسُّ الأَرْض إلاَّ منِكبٌ ... مِنْهُ وحَرْفُ السَّاقِ طَيَّ المحمل

فنصبَ طيَّ المحملِ على فعلٍ ليسَ منْ لفظِه؛ لأنَّ معنَاهُ: طُوِيَ طيَّ المحملِ. وكذَا قولُ كعبٍ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: 499 - [و] قالَ كُلُّ خليلٍ كُنْتُ أمُلُه ... لَأَلهيَنَّكَ إِني عَنكَ مَشغُولُ 500 - تَسعَى الوشاةُ جَنَاَبَيْها وِقيلَهُمُ ... أَرِيك يا ابنَ أبِي سُلْمَى لَمَقتوُلُ أيْ: ويقولُونَ قيلاً ثم أضافَ القيلَ إليهِم. (وعملوا الصالحات بالقسط)

أي: بنصيبِهم وقسطهم منَ الثَّواب، ولمْ يردْ القسطَ الذي هوَ العدلُ؛ لأَنَّ العدلَ محمولٌ عليهِ الكافرُ والمؤمنُ. (وقدره مَنَازِلَ) خَصَّ بهِ القمرَ؛ لأن حسابَ العامَّة هلاليُّ وعلمَهم بالسنينِ منَ الأَهلَّة، ولأنَّ المنازلَ تنسبُ إلى القمر، والضياء أغلبُ من النورِ فجعلَهُ للشّمسِ، لاَ يقالُ: أضاءَ الليلُ كمَا يقالُ: أنارَ. (دعواهم فيها سبحانك اللهم) إذا اشتَهَوْا شيئاً قالُوا: سبحانك اللَّهُمَّ فيأتيهِم، [وَ] إذَا قَضَْوا منْهُ

شهوَتهم قالوُا: (الحمد لله رب العالمين) فذهبَ عنْهُم. (وتحيتهم فيها سلام) ملكُهم فيهَا سلامٌ منَ الزَّوَالِ. (ولو يعجل الله للناس الشَّرَّ) أيْ: لو اسْتُجيبَ إذَا دعَوْا على أنفسِهم وأولادهم وأحبتِهِم. (لقضي إليهم أجلهم) أيْ: لأهلكُوا. (ولا أدراكم به) أيْ: ولا أعلَمَكُم. (ولولا كلمةٌ سبقت من ربك) فِي أنْ لاَ يعاجِلَ عقوبةَ العصاة.

وقيلَ: إنَّها الأجلُ المقضيُّ فِي المدَدِ والأعمار. (إذا لهم مكرٌ في آياتنا) أيْ كفرٌ وتكذيبٌ. وقيلَ: أيْ كلَّما أنعمْنَا عليهِم بغوا [الدِّيِنَ] وأهلَه [الغوائلَ]. (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم) تحوَّلَ عنْ ضميرِ المخاطبِ إلى ضمير الغائبِ لظهور المعنىَ، وهوَ كثيرٌ فِي كلامِهم. قالَ عبدُ الله بنُ قيسٍ: 501 - فَتاتَانِ أَمَّا مِنهُمَا فَشَبيهَةٌ ... هلالاً وأُخرَى منهما تشُبِهُ [الشَّمسَا] 502 - فَتَاتَانِ بالنَّجْم السَّعِيدُِ وُلِدْتمُا ... وَلمْ تَلْقَيَا يوماً هَوَاناً ولاَ [نَحْسَا]

وقالَ الهذليُّ: 503 - ألاَ [ا] رتثَّتْ مودتُكَ ارْتِثَاثَا ... وأصْبَحَ حَبْلُ وصلِكُمُ رثَاثَا 504 - وكنتُ إِذَا ذكرْتُ الدَّهْرَ سلمَى ... فَإِخلافًا لعهدِكِ وانتكَاثَا وذكرَ ابنُ المعتزِّ فِي محاسنِ الكلامِ الالتفاتَ، وقالَ: هوَ انصرافُ المتكلمِ عن المخاطبةِ إلى الإخبار، وعلى العكسِ. وأنشدَ [لـ]ـجرير: 505 - طَرِبَ الحَمَامُ بِذِي الأرَاكِ فشَاقَنِي ... لَا زِلْتَ فِي غَلَلٍ وَأيْكٍ نَاضِرِ

وإنما يحسنُ الالتفاتُ فِي الكلام؛ لأنه خروُجٌ عَنْ معنًى كُنْتَ فِيه إلى غيرِه. وتصرفٌ من القولِ على وجوهِه، كما قالَ جرير أيضاً: 506 - مَتىَ كَانَ الخِيَامُ بِذِي طُلُوحٍ ... سُقِيتِ الغَيْثَ أَيَّتُهَا الخِيَامُ 507 - أتَنسى يَومَ تصقلُ [عاِرضْيَها] ... بِفَرْعِ بَشَامَةٍ سُقيَ البَشَامُ فانْصَرَفَ عن [الخبر] إلي معنىً آخر، وهو الدعاءُ فجاءَ بهِ أرقَّ مِن الماءِ [و] ألطفَ من الهواءِ. وأَما [جمعُ ضمير]، الفلك فِي الآية وتوحيدُه في قوِله: (الفلك المشحون)

فالُفلكُ مما يجوزُ جمعُه على الفُلكِ أيضاً، فيكونُ فِي [الجَمْع] بمنزلةِ الحُمْرِ والصُّفرِ، وفِي الواحدِ بمنزلةِ القُفْلِ والخُرجٍ، وعلَّةُ جَمْعِ "الفُلْك" على "الفلك"، واللفظُ واحد: أنَّ "فَعَلاً" يعاقِبُ "فُعْلاً" على المعنَى الواحدِ نحو الشَّغَلِ والشُّغْلِ، والبَخَلِ والبُخْلِ، و"فَعَل" مِمَّاُ يكَسَّرُ على "فُعْلٍ" كأَسَدٍ وأُسْدٍ، وَوَثَنٍ وَوُثْنٍ، فكذلكَ يُجْمَعُ "فُعْل" على "فُعْلٍ" وهذا بابٌ غريبٌ فيهِ منْ [جمعِ] نحوِ الهجانِ على الهجانِ، [والعُذافِرِ] على العُذَافِرِ وعللُها حسنة، ولكنَّ الكتابَ يرتفعُ عنْهَا. (إنما مثلُ الحياة الدنيا كماءٍ أنزلناه من السماء) فإِنَّ ماءَ السماءِ بينَا يجرِي على وجهِ الأرضِ إذ يغورُ؛ ولأنَّه ينزلُ قطرةً قطرة ثمَّ يذهبُ جملة، ولأنَّ صوبَ المهادِ يجمُّ فِي الوهادِ دونَ [النجادِ]،

مثلَ الدُّنْياَ هيَ تجتمعُ عندَ الأوغادِ دونَ الأمجادِ، ولأَنَّ ماءَ السماءِ إذَا اتصلَ سالَ، فكذلكَ نعيمُ الدنيَا إذَا انْتَظَمَ زالَ، ولأنَّ الماءَ يصفُو أوله ويكدرُ غبَرة وآخرُه، وحياةُ الدُّنيَا كذلكَ كمَا [قالَ]: 508 - وَجَعُ المفَاصِلِ وهُوَ أَيْـ ... ـسرُ ما لَقِيتُ مِن الأَذى 509 - [جَعَلَ الَّذِي] اسْتَحْسَنتُهُ ... [واليَأْسُ مِنْ] حَظِّي كَذَا 510 - والعُمرُ مثلُ الكَأسِ يَرْ ... سبُ فِي أَواخِرِهـ[ـا] القَذَى (ولا يَرْهَقُ) ولا [يغْشَى] ولاَ [يَلْبسُ].

(قَتَرٌ) غبرةٌ وسوادٌ، فيحتملُ أن يكونَ مِنْ دخانِ النارِ، ومنهُ قتارُ [اللَّحم]. (قطعاً) لغةٌ فِي قِطْعَ أي: قِطْعَة، مثلُ كِسْرةٍ وكِسْر. فالمظلمُ حالةُ مِنَ الليلِ، أيْ: كأنما أغشيَتْ وجوهُمُم قطعاً مِنَ اللَّيلِ فِي حالِ إظلامِه. (تبلوا كلُّ نفسٍ) أيْ: فيُكشَفُ له ما أَسلفَتْ فتختبُر جزاءها كقولهِ:: (يوم تُبْلَى السرائر)، أيْ تُخْتبَرُ بالكشف.

(حقت كلمتُ ربك) أي: وعيدُه. وقيل: معناه حقَّ الكفر على الذِينَ فسقُوا. (أمَّن لا يَهِدِّي) يقالُ: اهتدَى يهْتَدِي وهَدَّى يَهَدِّي وهَدَّى تَهِدِّي. أمّا فتحُ الياءِ والهاءِ في يَهَدِّي، فلأنَّهُ لمَّا أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الدالِ أُلقِيَتْ حركةُ التاءِ على الهاءِ. كمَا قالُوا: "عُدَّ [و] فِرَّ" وأصلُهما اعْدُدْ وافْرِرْ، فلمَّا أُدْغِمَ المثلانِ [قُلِبَتْ] ضمّةُ الدالِ إلى العينِ، وكسرةُ الراءِ إلى الفاءِ وحُذفَتْ ألفُ الوصلِ للاستغناءِ عَنْها بحركةِ الحرفينِ، كمَا أنشدَ الفراءُ:

511 - وإنَّهُمُ الوُلاةُ وإنَّ مِنْهُمْ ... رسولَ الرحمةِ الهَادِي المهدِّي وأمَّا فتحُ الياءِ وكسرُ الهاءِ فلأنَّه لمَاّ أدُغمَ التاءُ فِي الدالِ اجتمعَ ساكنانِ فَكُسِرَتْ الهاءُ على الأصل في حركةِ الساكن، وأمَّا كسُرهما فلاستِتْبَاعِ الأخيرةِ الأولى في الكسرة. (يَتَعَارَفُونَ بينهم) يعرفُ بعضُهم بعضاً، ثُمَّ تنقطعُ المعرفةُ لأهوالِها. وقيلَ: يعترفونَ ببطلانِ ما كانُوا عليهِ.

(وتفصيل الكتاب) الكتابُ هنا الفرضُ، أيْ: تفصيلُ الفروضِ والحدودِ. (إي وربي) كلمةُ تحقيقٍ، أيْ: هوَ كائنٌ لا محالةَ. (فجعلتم منه حراماً وحلالاً) أي: البحيرةَ ونحوها. (وما يَعْزُبُ) وقيلَ: يبعُد. كما قالَ [الغنويُّ]: 512 - [عَوازِبُ] لَمْ تَسْمَعْ بِنَوْحِ إقامةٍ ... ولَمْ تَرَ ناراً [تِمَّ] حولٍ [مُجَرَّمِ]

513 - سِوَىْ نَارَ بَيْضٍ أَوْ غًزالٍ بَقفرَةٍ ... أَغَنَّ مِنَ الخُنسِ المنَاخِرِ تَوْأَمِ (ولا أصغر من ذلك ولا أكبر) مجرورانِ بالعطفِ على (مِّثْقَاِل ذرةٍ) ثمَّ انتصَب لأجلِ الصفةِ وزنةِ الفعلِ، ويجوزُ رفعُهما بالفاعلِ عطفاً على موضعِ قولهِ: (مِن مِثْقَالِ ذَرَّةٍ). وذهبَ الزجاجُ فِي رفعِهما إلى الابتداءِ، وخبرُهما: (إلا في كتابٍ

مبينٍ). أيْ: ماشيء أصغرُ مِنْ مثقالِ ذرةٍ ولا أكبرُ إلاَّ فِي كتابٍ مبينٍ. (لهم البشرى في الحياة الدنيا) أيْ: بشارة الملائكةِ عندَ الموت. وقيلَ: هيَ الرؤيا الصالحةُ يراها المؤمنُ أو [تُرى] لَهُ.

(والنهار مبصراً) لأنَّه يُبْصَرُ فيِه، كَما يقالُ: ليلٌ نائمٌ. قالَ الهذليُّ: 514 - أَجَارَتَنَا هلْ لَيْلُ ذِي الَبثَّ رَاقِدُ ... أَم اِلَّليلُ [عَنّي] مَانِع مَا أُرَاوِدُ 515 - أَجَارَتَنَا إِنَّ امرءاً لَيَعُوُدهُ ... مِنْ أيسَرِ مَا قَدْ بِتُّ أُخْفِي [العَوَائِدِ] (متاعٌ في الدنيا) أيْ: افتراؤُهم لاكتسابِ متاعٍ. (فأجمعوا أمركم وشركاءكم)

قالَ المببرد: لا يقالُ: أجمعْتُ الشركاءَ وإنما يقالُ: جمَعتُ القومَ، وأجمَعْتُ الأمرَ، ولكنَّهُ حملَ الشركاءَ على مثلِ لفظِ الأمرِ على مذهبِ مشاركةِ الثانِي الأولِ في اللفظِ. كمَا قالَ الشاعُر: 516 - إِذَا مَا الَغانِيَاتُ بَرَزنَ يَوْمًا ... وَزَجَّجْنَ الحَوَاجِبَ والعُيُونَا وقالَ آخر: 517 - [تراه] كأَنَّ اللهَ يجدَعُ أنفَهُ ... وعَينَنهِ إِنْ مُوْلاهُ أمْسَى لَهُ وَفْرُ

(ثم لا يكن أمركم عليكم غُمَّةً) أي: مغطَّى، بل اعزمُوا على إظهارِ ما عندكم من طاعةٍ أوْ معصيةٍ. (لِتَلْفِتَنَا) لتصرَفنَا، لفتَهُ لفتاً. (ما جئتم به السحر) (مَا) مبتدأٌ، و (السِّحْرُ): خبرُه، أيْ: الَّذِي جئتُم بهِ هوَ السحر. فيكونُ الألفُ واللامُ لتعريفِ المعهودِ فإنَّهُم قالُوا [عَنْ] معجزةِ [موسَى] إنها لَسِحْرٌ. فقالَ موسى عليهِ السلامُ: الَّذِي جئتُمْ بِه هُوَ السِّحْرُ الَّذِي قلتُمْ.

(لا تجعلنا فتنةً) لا تعذبْنَا بأَيدِي آلِ فرعونَ [فَيُظَنُّ بِنَا الضَّلالَ]. (تَبَوءا لقومكما بمصرَ بُيُوتاً) خافُوا فأُمِرُوا أنْ يُصَلّوا فِي بيوتِهم ويجعلُوا فِيها مساجدَهُم. (ليضلوا عن سبيلك) استفهامٌ كأَنَّهُ [أ] لِيُضِلُّوا عنْ سبيلِكَ أعطيتَهُم ذلك؟. كما قاَل الأخطلُ:

518 - كَذَبَتْكَ عَيْنُكَ أَمْ رأَيتَ بِوَاسِطٍ ... غَلسَ الظَّلاَم مِنَ الرَّباب خَيَالاَ 519 - وتَغَوَّلَتْ [لِتَرُوعَنَا] جِنِّيَّةٌ ... وَالَغاِنيَاتُ يُرِينَكَ الأهوالا أيْ أكذبَتْكَ؟ وَأتَغَوّلَتْ؟. (اطْمِسْ على أموالهم) أَذهِبْها. وقيلَ: أَذْهِبْ نورَها وبهجتَها. (ولا تَتَّبِعَانِّ)

بتشديدِ النَّونِ وتخفيفِها. وهُمَا نونَا التَأكْيدِ. وإنما انْكَسَرتْ فيِهما؛ لأنَّها شابَهَتْ نونَ يفعلانِ في الخبر [لوقوعِهِما] بعدَ الألفِ واجتماع اِلساكنين. (نُنَجِّيكَ ببدنك) سئلَ يونُسُ كيفَ ذلكَ وقدْ أغرقَهُ اللهُ ولمْ ينجِهِ؟ فقالَ: إنما هوَ نُلْقِيكَ على نجوةٍ مِنَ الأرْضِ. وأنشدَ لعَبيدِ بن الأبرصِ: 520 - دَانٍ [مُسِفٍّ] فُوَيْقَ الأَرضِ هَيْدَبُهُ ... يَكَادُ يَمْسَحُهُ مَنْ قَامَ بِالرَّاحِ

521 - فَمَن بِنَجوتِهِ كَمَن [بِعَقْوتهِ] ... وَالمُسْتَكِنُّ كَمَنْ يَمشِى بِقرِوَاحِ [وقيلَ]: ببدنك: بدرعِك. قالَ دريدُ: 522 - أعَاذِلُ عِدَّتي بَدَنِي وَسَرْجِي ... وكُلُّ مُقَلِّصٍ سَلِسِ القِيادِ 523 - أَعَاذِلُ إنما أَفْنَى شَبَابِي ... ركُوبِي بِالصَّريخِ إلى المُنَاِدي

(لتكون لمن خلفك آيةً) ليرَى قدرةَ الصادقِ فِي الربوبيةِ على الكاذبِ، ولمْ يرَ مِن الغَرْقَى أحدٌ غيرَ فرعونَ. (فما اختلفوا حتى جاءهم العلم) أيْ: الفرائضُ والأحكامُ. ([فَـ]ـإِن كُنتَ) أيَهُّا السَّامِعُ. (مما أنزلنا إليك) على لسانِ نبيِّناَ. (فسئلِ الذين يقرءون الكتاب)

منْ أخبار موسَى. وَمنْ قالَ: إنَّ الخطابَ للنبيِّ، فيكونا ذلكَ على قسمةِ الكلام وِقضيةِ الخطاب. (أن تؤمن إلا بإذن الله) بعلم الله. وقيلَ: بتمكينهِ وإقدارِهِ. (واصبر حتى يحكُمَ اللهُ) أيْ: يأمرَك إمَّا بالهجرةِ أو بالجهادِ. [تمت سورة يونس]

سورة هود

سورة هود (أحكمت) بالأمر والنهي (ثم فصلت) بالوعد والوعيد. (ألا تعبدوا) أي: فصلت لئلا تعبدوا. و (استغفروا ربكم) من الذنوب السالفة و (توبوا) من الآنفة. (ويؤت كل ذي فضل فضله) إعلام بتفاوت الدرجات في الآخرة، وترغيب في العمل لها.

(يثنون صدورهم) كانوا إذا مروا برسول الله ثنوا صدورهم وتغشوا بثيابهم لئلا يروه. وقيل: (يثنون) يطوونها على البغض له والجحد به. كما قيل في معناه: 524 - طويت الحشا منها على كل كربة ... تااد ولم أجمع على منية يدا. (ويعلم مستقرها ومستودعها) حياتها وموتها. وقيل: (مستقرها) في الرحم، (ومستودعها) في الصلب.

(وكان عرشه على الماء) أي: بنية ما بناه على الماء. وذلك أعجب وأدل على القدرة القاهرة، والصفة الباهرة، يقال عرش يعرش عرشاً، وأصل العرش في اللغة: خشبات يوضع عليها ثمام يستظل به الساقي قال الراجز: 525 - أكل عام عرشها مقيلي. 526 - حتى ترى المئزر ذا الفضول. 527 - مثل جناح [السبد] الغسيل. (إلى أمة معدودة) إلى أجل محدود.

(نوف إليهم أعمالهم) أي من [أراد] الدنيا، وفاه الله ثواب حسناته في الدنيا. وقيل: إنها في المنافقين الذين غزول طلباً للمغانم. (أفمن كان على بينة من ربه) فيه حذف [الخبر]، من حاله هذه كمن هو في ضلال. والبينة: القرآن. وقيل: ما ركز [في] العقل من الاستدلال على التوحيد. (ويتلوه شاهد) على هذا القول ما يتضمنه القرآن من الحجج فهو شاهد للعقل.

وعلى القول الأول: ما يتضمنه العقل من وجوه الأدلة فهو شاهد للقرآن والأولى: حمل الشاهد على القرآن، أو على النبي عليه السلام ليعود ما بعده من الضمائر إلى واحد منهما. أعني قوله: (ومن قبله كتب موسى)، وقوله: (ومن يكفر به)، (فلا تك في مرية منه). (ويبغونها عوجاً) وقيل: يؤولون القرآن تأويلاً باطلاً. وتكرير (هم) في قوله: (هم كافرون)، لتقرير التحذير، وتأكيد القول، كقول الهذلي: 528 - رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع ... فقلت [وأنكرت] الوجوه هم هم.

529 - فعاديت شيئاً [والدريس] كأنما ... يزعزعه وعك من الموم مردم. (ما كانوا يستطيعون السمع) أي: استماع الحق والاعتبار به بغضاً له، كقوله: (إنك لن تستطيع معي صبراً)، أي: لا تفعله. (لا جرم) أي: حقاً.

وقيل: (لا جرم) لابد، والجرم: القطع، أي: لا قطع قاطع أن يكون كذا. (وأخبتوا إلى ربهم) تخشعوا له واطمأنوا به. (بادي الرأي) بالهمز: أول الرأي، وبغير الهمز: ظاهر الرأي.

وفي معنى الأول قول الخطابي: 531 - ولولا الهوى أبصرت [رائي] ومن يثق ... بأول رائيه فليس بعاقل. 532 - وذو النصح أهدى فيكم [لي] نصيحة ... ولكنما أهدى إلى غير قابل. وفي معنى الثاني قول الآخر: 533 - غموض الحق حين تذب عنه ... يقلل ناصر الرجل المحق 534 - فضل عن الدقيق عقول قوم ... فيقضي للمجل على [المدق].

ونصب بادي الرأي، أي: في بادي الرأي، ويجوز كونه ظرفاً للرؤية والاتباع والأرذال. (وما أنا بطارد الذين ءامنوا) أي: الذين قالوا لهم الأراذل: [لأنهم] (ملاقوا ربهم). (إن كان الله يريد أن يغويكم) مجازاةً على كفركم.

وقيل: يحرمكم من رحمته. ومنه قوله تعالى: (فسوف يلقون غياً) أي: خيبة وحرماناً. قال المرقش: 535 - ومن يلق خيراً يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغي لائماً. (فلا تبتئس) فلا تحزن ولا تأسف، من البأساء. (واصنع الفلك بأعيننا).

أي: حفظنا حفظ من يرى. ([و] وحينا) أي: تعليمنا من أمرنا. (وفار التنور) قال مجاهد: فار الماء من مكان النار آيةً للعذاب.

وقال ابن عباس: التنور وجه الأرض. وعن علي: أنه [فار] من الكوفة/ثم طبق الأرض، وأن التنور من تنوير الصبح، [فكما] أن الصبح إذا نور ملأ الآفاق، فكذلك ذلك الماء لما سال عم الأرض.

وقيل: إنه على طريقة المثل، أي: اشتد غضب الله عليهم، وحل عذابه بهم، كقوله عليه السلام: "الآن حمي الوطيس". وكقول الشاعر: 536 - تفور علينا قدرهم [فنديمها] ... ونفثؤها عنا إ [ذا] حميها [غلا].

وكقول الفرزدق: 537 - وقدر فثأنا غليها بعدما غلت ... وأخرى حششنا بالعوالي [تؤثف]. (من كل زوجين اثنين) أي: ذكر وأنثى في حال ازدواجهما. [والزوج واحد له شكل، والاثنان زوجان] ولذلك حسن لفظ اثنين بعد زوجين. (مجراها ومرساها) أي: إجراؤها، وإرساؤها، بمعنى المصدر.

[و] يجوز بمعنى الوقت، كالممسى والمصبح، أي: بسم الله وقت إجرائها وإرسائها، وإنما لم يجز مرساها بالفتح، وإن قرئ مجرايها بالفتح لأنه يقال: [جرت] السفينة مجرى، وأرساها الملاح مرسى، لأنها إذا أخذت في الجري لا ترسو بنفسها. [يا أرض ابلعي ماءك) أي: تشربي في سرعة بخلاف العادة، ليكون أدل على القدرة، وأشد في العبرة. (ويا سماء أقلعي) أي: لا تمطري. (وغيض الماء).

نقص، يقال: غاض الماء وغضته. (إنه عمل غير صالح) أي: ذو عمل، أو عمله عمل غير صالح فحذف. وقيل: إنه لا حذف فيه وإنما هو على مجاز المبالغة والكثرة في مثل قولك: الشعر زهير، والجود حاتم. وقيل: إن الكناية في (إنه) راجعة إلى السؤال، أي: سؤالك/نجاته عمل غير صالح.

وقراءة (إنه عمل غير صالح) أي: فعل سوءاً. (إن ربي على صراط مستقيم) أي: على الحق والعدل. (واستعمركم فيها) جعلكم عمارها، وهذا يدل أن الله يريد عمارة الأرض، لا التخلي والتبتل.

وقيل: معناه جعلها لكم مدة أعماركم، فاستعمر بمعنى أعمره داره عمرى، إذا جعلها له مدة عمره. وقيل: أطال أعماركم فيها بمنزلة عمركم. وكانت ثمود طويلة الأعمار، فكانت إذا بنت من المدر انهدم وصاحبه حي فاتخذوا البيوت من الجبال. (فما تزيدونني غير تخسير) أي: لا تزيدونني لو اتبعت دين آبائكم غير خساري. وقيل: غير خساركم حين أنكرتم تركي دينكم. (جاثمين) هلكى ساقطين على الوجوه والركب. (قالوا سلاماً) على وجه التحية. فـ (قال سلام).

أجابهم بمثل تحيتهم. ونصب الأول بإيقاع القول، أو بالمصدر من غير لفظ الفعل، لأن السلام قول، ورفع الثاني على تقدير: وعليكم سلام، أو على الحكاية كقوله: (قل الحمد لله). والحنيذ: الحار عن أبي علقمة النحوي. [وقيل]: المشوي بالرضف في الحجارة المحماة. قال:

538 - إذا ما [ا] عتبطنا اللحم للطالب القرى ... حنذناه حتى يمكن اللحم آكله. (نكرهم) أنكرهم وقد جمعهما الأعشى: 539 - وأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا (وأوجس) أحس، وقيل: أضمر.

(فضحكت) أي: تعجبا من غرة قوم لوط وغفلتهم عما يحل بساحتهم. وقيل: تعجباً من إحياء الحنيذ حين مسحه جبريل عليه السلام. وقيل: كان ضحكها سروراً بالولد، كأنه على التقديم/والتأخير. أي: فبشرناها بإسحاق ويعقوب فضحكت. وقيل: بل سروراً بالسلامة من عذاب القوم، فوصلوها بسرور آخر، وهو البشارة بإسحاق. ومن قال: إن ضحكت: حاضت، لروعة ما سمعت من عذاب القوم.

أو حاضت مع الكبر لتوقن بالولد. وارتفاع (يعقوب) بالابتداء، وخبره: الظرف المقدم عليه، أي: ويعقوب من بعد إسحاق. وقيل: إن الحال مقدر فيه، أي: فبشرناها بإسحاق آتياً من ورائه يعقوب. ومن نصب "يعقوب"، فهو يعطفه على موضع إسحاق، إلا أن [الفصل]

بين العطف والمعطوف [قبيح]. والأولى: تقدير فعل آخر، أي: فبشرناها وزدناها من وراء إسحاق يعقوب، قال [الراجز]: 540 - لو جئت بالتمر له ميسراً 541 - والبيض مطبوخاً معاً والسكرا. (قالت ياويلتى) قالت ذلك على عادة النساء إذا عجبن من شيء. (يجادلنا في قوم لوط)

يراجع القول فيهم، إن فيها لوطاً وإنكم تحلون بهم العذاب أم [تحرفونهم]. والأواه: الدعاء. وقيل: كثير التأوه من خوف الله. (يوم عصيب) شديد، يعصب بالشر. (يهرعون) يسرعون، من الأفعال التي [يرفع] فيها الفعل بالفاعل. ومثله: أولع و [أرعد] وزهي.

(هؤلاء بناتي هن أطهر لكم) أي: لو تزوجتم بهن. وقيل: أراد بهن نساء أمته، فكل نبي أبو أمته. (ركن شديد) عشيرة منيعة. (سجيل) حجارة صلبة. قيل: إنها معربة "سنك" و"كل".

وقيل: إنه فعيل من السجل وهو الإرسال. (منضود) أي: نضد وجمع بعضه فوق بعض. (مسومة) معلمة باسم من ترمى به. (عند ربك) في خزانته التي لا يملكها غيره ولا يتصرف فيها سواه. وإنما رجم بهذه الحجارة من قوم [لوط] من كان غائباً عن [المؤتفكات] مدائنهم. (لرجمناك)

لرميناك بالحجارة. وقيل: [لشتمناك]. (واتخذتموه وراءكم ظهرياً) أي: منسياً، من قوله: (وكان الكافر على ربه ظهيراً)، أي: ذليلاً هيناً بمنزلة الشيء المنسي. وقيل: نبذتهم ثم أمره [وراء] ظهوركم. وقيل: إنه من قولهم: ظهرت به، أي: أعرضت عنه ووليته ظهري. قال: 542 - تقول بنتي وقد قربت مرتحلاً ... يا أبتا أنت والأنصاب مقتول.

543 - خلفتنا بين قوم يظهرون بنا ... أموالهم عازب عنا ومشغول. وقيل: إنه من قولهم: جعلت حاجته بظهر، قال: 544 - تميم بن قيس لا تكونن حاجتي ... بظهر ولا يعيا عليك جوابها. (يقدم قومه) يتقدمهم.

وقيل: يمشي على قدمه. (بئس الرفد المرفود) أي: بئس العطية النار بعد الغرق بالماء. وقال أبو عبيدة: معناه بئس العون المعان. وعن الأصمعي: الرفد ما في القدح من الشراب، والرفد -بالفتح-: القدح. (منها قائم وحصيد) أي: عامر وخراب. وقيل: قائم الرسم دارس العين.

[التتبيب] والتباب: الهلاك، عن قتادة. والخسران، عن مجاهد. الزفير: الصوت في الحلق. والشهيق: في الصدر. قال الراجز: ... 545 - حشرج في الجوف صهيلاً أو شهق 546 - حتى يقال ناهق وما نهق.

وقيل: إن الشهيق أمد من شاهق الجبل. والزفير: أنكر من الزفر، وهو/الحمل العظيم على الظهر. (إلا ما شاء ربك). أي: من أهل التوحيد فيخرجهم من النار، وقيل: إلا ما شاء ربك من أهل التوحيد أن لا يدخلهم. فيها ولا يخلدهم. وقيل: معناه أنتم خالدون فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك من الزيادة عليها فيكون (إلا) بمعنى "سوى".

قال الفراء: "هذا كقولك: عليك ألف درهم إلا ألفي القرض". فألفان زيادة بلا شك، إذ الكثير لا يستثنى من القليل. وقيل: إلا ما شاء ربك من مدة كونهم في الدنيا وفي البرزخ الذي هو ما بين الحياة والموت، ووقوفهم في العرصات. وتعليق الخلود بدوام السموات والأرض والمراد أبداً على عادة العرب في أمثاله. قال زيد الخيل: 547 - لعمرك ما أخشى التصعلك ما بقى ... على الأرض قيسي يسوق الأباعرا.

وقال كثير: 548 - فأقسمت لا أنساك ما عشت ليلة ... وإن شحطت دار وشط مزارها 549 - وما استن رقراق السراب وما جرى ... ببيض الربى إنسيها ونوارها. (غير مجذوذ) غير مقطوع. (فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء) أي: لا تشك في [كفرهم]. (وإن كلاً لما ليوفينهم) "لما" بالتشديد بمعنى "إلا" كقوله: (إن كل نفس لما عليها حافظ).

ألا ترى أنه في القسم كذلك، تقول: "نشدتك الله لما فعلت"، أي: إلا فعلت، يبين ذلك أن "لم" و"لا" كلتاهما للنفي فضمت إلى إحداهما "ما"، وإلى الأخرى "إن" وهما أيضاً للنفي فتقاربتا وتعاقبتا. والفراء يقول: "إنه لما ليوفينهم" فحذفت إحدى الميمات لكثرتها". والزجاج يقول: إنها من لممت الشيء: إذا جمعته، إلا أنها لم تصرف نحو: تترى وشتى، كأنه: وإن كلاً جميعاً ليوفينهم.

والسراج يقول: (لما) فيه معنى الظرف وقد دخل الكلام اختصار، كأنه: وإن كلاً لما بعثوا ليوفينهم ربك أعمالهم. ومن إشكال هذا الموضع، ما حكي عن الكسائي -وحمده على ذلك أبو علي- أنه قال: "ليس بتشديد (لما) علم، وإنما نقرأ كما أقرئنا". وأما (لما) بالتخفيف فعلى أن "ما" بمعنى "من" كما في قوله: (فانكحوا ما طاب لكم)، أي: وإن كلاً لمن ليوفينهم.

وقيل: بل هو وإن كلاً لليوفينهم، واللام الأولى: لام التأكيد دخل على خبر إن، والثانية: لام القسم، فاحتيج إلى فاصل بينهما ففصل بـ"ما" التي تدخل كثيراً في الكلام زيادة. والفرق بين لام التأكيد والقسم، أن لام التأكيد تدخل على المستقبل.

زلف الليل: ساعاته. قال العجاج: 550 - ناج طواه [الأين] مما وجفا 551 - طي الليالي زلفاً فزلفا 552 - سماوة الهلال حتى احقوقفا. (فلولا كان) أي: فهلا كان، أي: فلم يكن في القرون التي أهلكوا. (أولوا بقية) [يبقون] على أنفسهم وقومهم من عذاب الله. (إلا قليلاً ممن أنجينا)

استثناء منقطع، لأنه إيجاب لم يتقدمه نفي، وإنما تقدمه تهجين لهم، وتوبيخ لمن يسلك مسلكهم. (واتبع الذين ظلموا ما أترفوا) أي: ما عودوا من نعيم الدنيا. وموضعه رفع، أي: هلكوا وتبعتهم آثارهم وديارهم. (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم) أي: [بظلم] منه، تعالى [عنه]. (ولا يزالون مختلفين) أي: في الآراء والديانات. (إلا من رحم ربك) من أهل الحق.

وقيل: مختلفين في الأحوال من الغنى والفقر، والعناء/والدعة، ليأتلفوا في المصالح بذلك الاختلاف، (إلا من رحم ربك) بالرضى والقناعة. وقال ابن بحر: (مختلفين) يخلف بعضهم بعضاً من قولهم: ما اختلف الجديدان، كما يقال: قتل واقتتل، وشغل واشتغل. (ولذلك خلقهم) قيل: [للاختلاف]. وقيل: للرحمة.

ولم يؤنث ذلك؛ لأن الرحمة هنا بمعنى المصدر، أي: خلقهم ليرحمهم، [قالت] الخنساء: 553 - فذلك يا هند الرزية فاعلمي ... ونيران حرب حين شب وقودها. [تمت سورة هود]

سورة يوسف

سورة يوسف عليه السلام (نحن نقص عليك أحسن القصص) نبين لك أحسن البيان. (بما أوحينا) أي: بإيحائنا. (يا أبت) أي: يا أبي، فحذفت ياء الإضافة. وهذه التاء للمبالغة، كالعلامة، والنسابة. أو للتفخيم كيوم القيامة، أو منقلبة عن الواو المحذوفة التي [هي] لام الفعل، مثل "كلتا" فإن أصلها "كلوا". وإنما أعاد (رأيتهم) لأنها رؤية سجودهم له، والأولى رؤيته لهم.

والسجود: الخضوع، كما مر في غير موضع، ولما كان السجود من أفعال ذوي العقل، جاء ساجدين فيمن لا يعقل اعتباراً لصنعة الفعل، كقوله: (يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم). قال الجعدي: 554 - [توردتها] والديك يدعو صباحه ... إذا ما [بنو] نعش دنو فتصوبوا.

(فلما ذهبوا به) جوابه [محذوف]. (قال بل سولت لكم) أي: زينت لكم. وقيل: أمرت. (غيابت الجب) أسفل البئر، حيث [يغيب] عن الأبصار. (فأدلى دلوه) أرسلها ليملأها. ودلاها: أخرجها. قال ابن هرمة: 555 - ولم تريني إلا أخاملك ... أدلي إليه دلوي فيملؤها

556 - سهل المحيا تلفى مواعده ... مثل وحي السلام يقرؤها (يا بشراي) أضاف البشرى إلى نفسه كقوله: يا فرحتي، ويا دولتي. وموضع الألف فتح، لأن المنادى المضاف منصوب. (وأسروه بضعة) أي: الواردون أولاً أخفوه بضاعة، لئلا يشاركهم فيه باقي الأصحاب. وروي أن إخوته جاؤوا إلى البئر، ليبحثوا عن حاله، فإذا هم به قد أخرجوه الواردون، فقالوا: إنه عبدنا وبضاعتنا.

ثم شروه منهم، أي: باعوه. قال [السنبسي]: 557 - فإن [تبغضونا] بغضة في صدوركم ... فإنا جدعنا منكم وشرينا. أي: سبيناكم فبعناكم. (بثمن بخس) ظلم، عن قتادة.

وقليل، عن مجاهد. (وكانوا فيه من الزاهدين) [لعلمهم] بظلمهم، وحرمة ما أخذوا عليهم. (وكذلك يجتبيك) أي: هذه السبيل [التي] يصفها يجتبيك، ويعلمك التأويل، وهو عاقبة أمره، وما يصير إليه من العز بعد العبودة والوحدة.

وأول الأشد: أوان الحلم، وتمامه: أربعون سنة، وآخره: خمسون. كما قال سحيم الوائلي: 558 - وماذا يدري الشعراء مني ... وقد جاوزت رأس الأربعين 559 - أخو خمسين مجتمعاً أشدي ... ونجذني مداورة الشؤون

(وراودته) طلبته بجد وميل، من الإرادة وإنما جاءت على المفاعلة، لأنها في موضع يكون من طماع صاحبه داعية إلى الإجابة. كما قال ابن أحمر: 560 - إذا أنت راودت البخيل رددته ... إلى البخل واستمطرت غير مطير 561 - متى تطلب المعروف في غير أهله ... تجد مطلب المعروف غير [يسير] وقال الهذلي: 562 - أجارتنا هل ليل ذي البث راقد ... أم الليل مني مانع ما أراود. (هيت لك)

هلم لك. أي: انزل إلى ما أريد. قال الشاعر: 563 - أبلغ أمير المؤمنيـ ... ـن أخا العراق إذا أتيتا 564 - إن العراق وأهله ... عنق إليك فهيت هيتا. وهذه الكلمة وأمثالها نحو: هلا، وحوب، ودعدع، وإيه، وصه، ومه، كلها يجري مجرى الحروف والأصوات، لا يغير بتثنية وجمع، وأكثرها للزجر أو الحث، كما قال أبو دهبل الجمحي:

565 - عجب ما عجب أعجبني ... من غلام حكمي أصلا 566 - قلت: خبر عن الناس نزلوا ... حضناً أو غيره قال هلا 567 - قلت: بين ما هلا؟ هل نزلوا ... قال حوباً ثم ولى عجلا. (ولقد همت به) تقديره: ولولا أن رأى برهان ربه هم بها، بدلالة إخبار الله بصرف السوء والفحشاء عنه، وبدلالة أن قوله: (لولا أن رءا برهان ربه) شرط، فلا يجعل الكلام مطلقاً، والشرط حاصل، وكثيراً ما يتقدم الجواب على الشرط، كما قال الشاعر:

568 - ولا [يدعني] قومي صريحاً لحرة ... لئن كنت مقتولاً ويسلم عامر. [وقال]: فلا [يدعني] قومي صريحاً لحرة ... لئن لم أعجل طعنة أو أعجل.

وقيل: همه بها من قبل الشهوة التي جبل الإنسان عليها إلا بعلة، ومقدار الثواب على قمعها، في وزن قوتها وغلبتها. ومثل هذا الهم لا يكون من المغرم والإثم في شيء. وهو كما حكي في أخبار الأوائل: أن بعض [أصحاب] الفراسة قال لبقراط الحكيم: أنا أتخيل فيك الزنا، فقال: صدقت مخيلتك، أنا أشتهيه، ولكني لا أفعله.

وقيل لبعض الصوفية، في الصبي، فقال: ما على لص لم يسرق. وعن سليمان بن [يسار]، أن بعض نساء [الـ] مدينة من صميم شرفها وحسنات دهرها علقتـ[ـه] لحسنه الباهر، ودخلت عليه من كل مدخل،

ففر من المدينة، ورأى يوسف في المنام، فقال له: أنت الذي هممت. فقال له يوسف: وأنت الذي لم تهم. فدل أن الهم كان من يوسف، ولكن على الوجه الذي ذكره.

(قد شغفها حباً) بلغ حبه شغاف قلبها، كما يقال: رأسه ودمغه، والشغاف: غلاف القلب، جلدة بيضاء رقيقة تحتوي على القلب. وقال أبو عمرو الشيباني: الشغاف: داء تحت [الشراسيف]. أي: أصابها من حبه ما يصيب الشغاف. قال النابغة: 570 - ولكن هماً دون ذلك والج ... مكان الشغاف تبتغيه الأصابع.

وقال امرؤ القيس وهو على لفظ الآية: 571 - لتقتلني وقد شغفت فؤادها ... كما شغف المهنوءة [الرجل] الطالي. (وأعتدت) من العتاد، كقوله: (وأعتدنا).

والمتكأ: المجلس، وقيل: الوسادة. وقيل: الطعام، إما حقيقةً أو استعارةً، لأن الضيف يكرم ويطعم على متكأ يطرح له. (فاستعصم) امتنع طالباً العصمة. (السجن أحب) أي: حبيب، [لا أن الحب جمعهما]، ثم السجن أحب من الفحشاء، كما قال حيان بن قرط [اليربوعي]:

572 - خالي [أبو أنس] وخال سراتهم ... أوس فأيهما [أدق] [و] ألأم. (أصب إليهن) أمل. قال الهذلي: 573 - ديار التي قالت غداة لقيتها ... صبوت أبا ذئب وأنت كبير 574 - تغيرت بعدي أو أصابك حادث ... من الدهر أو مرت [عليك] مرور. (فأنساه الشيطان ذكر ربه)

أي ذكره يوسف لملكه. وقيل: أنسى الشيطان يوسف أن يذكر الله، وسول له الاستعانة بغيره، وزين الأسباب التي ينسى معها. والبضع: ما دون العشر من ثلاث إلى عشر.

(أضغاث أحلام) أخلاطها، وألوانها. والضغث: ملء الكف من الحشيش الذي فيه كل نبت. (وادكر بعد أمة) أي بعد انقضاء أمة من الناس. وذلك يكون بعد حين. (تزرعون [سبع سنين] دأباً) نصب على المصدر، أي: تدأبون دأباً، لأن يزرعون يدل على يدأبون. وقيل: إنه في موضع الحال، أي: يزرعون دائبين، كقوله تعالى: (واترك البحر رهواً)

أي: راهياً. وقيل: إنه جمع دائب، مثل راكب وركب، وصاحب وصحب. (يأكلن) يؤكل فيهن، على مجاز "ليل نائم"، و"نهار مبصر". (يغاث) من الغيث، تقول العرب "غثنا ما شئنا". قال الهذلي: 575 - فلما رآه قال لله من رأى ... من العصم شاةً مثل ذا بالعواقب

576 - لو أن كريمي صيد هذا أعاشه ... إلى أن يغيث الناس بعض [الكواكب]. (يعصرون) أي: العنب. وقيل: ينجون. والعصرة: النجاة من الجوع والعطش. أنشد الأصمعي: 577 - عصرته نطفة تضمنها ... [لصب] تلقى مواقع السبل

578 - أو وجبة من جناة أشكلة ... إن لم يرغها بالقوس لم تنل. (حاش لله) معناه الاستثناء. وقيل: التبرئة. وفسره مجاهد: بـ"معاذ الله". وقيل: إنه من قولهم: كنت [في] حشا فلان، أي: [ناحيته] من كل سوء.

(حصحص الحق) ظهر وتبين من جميع وجوهه. من حص رأسه: إذا صلع، قال [أبو] قيس بن الأسلت: 579 - قد حصت البيضة رأسي فما ... أطعم [نوماً] غير تهجاع 580 - أسعى على جل بني مالك ... كل امرئ في شأنه ساع. (بضاعتهم) وكانت ورقاً، وإنما ردها إليهم، ليتوسع بها أبوه وقومه، وليظهر أنه خير المنزلين.

(نكتل) وزنه نفتل، محذوف العين. [سأل] المازني [عنه] [ابن السكيت] عند الواثق، فقال: نفعل

قال: فماضيه إذن كتل. (فالله خير حافظاً) نصبه على الحال، أي: فالله خير الأرباب حافظاً. وقيل: إن حافظاً مصدر، فهو كقراءة من قرأ (فالله خير حافظاً)

ومثله: (أجيبوا داعي الله) أي: دعاء الله. (ما نبغي) ما الذي نطلب بعد هذا الإحسان. ([و] نمير أهلنا) نحمل لهم الميرة، وهي ما يقوت الإنسان. قال الشاعر: 581 - لنا إبل ما تستفيق تميرنا ... لحمانها ولنا الوسل 582 - ولكن قليل ما بقاء وطابنا ... ولا سيما إن ساق أضيافنا المحل.

(ونزداد كيل بعير) وكان يعطي كل واحد منهم حمل بعير. (ذلك كيل يسير) أي: مناله لا تعاسر علينا فيه. (إلا أن يحاط بكم) إلا أن تهلكوا جميعاً، كقوله: (وأحيط بثمره). (إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها) من أمره لهم بالدخول [من] أبواب لئلا يعتانوا. (وإنه لذو علم لما علمناه) أي: ذو يقين.

وقيل: ذو عمل. (فلا تبتئس) لا تبأس، أي: لا يكن عليك بأس بعملهم. السقاية والصواع: إناء يشرب به، ويكال فيه أيضاً. و (العير) الرفقة. قال: 583 - فلما مضى [شهر و] عشر لعيرها ... وقالوا [تجيء] الآن قد حان حينها 584 - أمرت من الكتان خيطاً وأرسلت ... جرياً إلى أخرى [قريباً] تعينها.

(إنكم لسارقون) كان ذلك من قول [الكيال]، وكان لم يعلم من جعل السقاية فيه. ومن قال: إنه من قول يوسف فهو على أنهم [سرقوه] من أبيه. (من وجد في رحله فهو جزاؤه) كان حكم السارق في دين بني إسرائيل أن يسترقه صاحب المال. (كذلك كدنا) صنعنا، عن ابن عباس.

ودبرنا، عن القتبي. وأردنا، عن ابن الأنباري. (ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك) كان حكم [السارق الضرب والضمان في دين الملك]. (إلا أن يشاء الله) أي: استرقاق السارق على دين بني إسرائيل. وتسريق أخيه مع براءته لا يستقبح، لأنه احتيال تضمن وجوهاً من الحكمة، منها: أخذه عنهم على حكمهم.

ومنها: أن أخاه [كان] عالماً بالقصة فلم يكن بهتاناً. ومنها: أنه كالتلعب بهم [مع ما] جدوا في أمره من قصد الهلاك. ويكون ذلك من أبواب الملاينة والمقاربة. ومنها: أنه جعل لهم مخلصاً عنه -لو فطنوه- وهو أنه [جعل] بضاعتهم في رحالهم من قبل، ولم يعلموا، [فهلا] قالوا: إن الصواع جعلت في رحالنا بغير علمنا. (فقد سرق أخ [له] من قبل) [قيل]: إن يوسف في صباه أخذ شيئاً من الدار [ودفعها] إلى سائل، وكان سجيته الإيثار، كما روي أنه كان يجوع في السنين وهو على خزائن الأرض، وإذا قدم إليه طعام أطعمه. وقيل: إنه كان في أول الصبى في حضانة عمته، فلما أراد يعقوب أخذه

منها على كراهتها جعلت مخنقة في قميصه من غير علمه، وسرقته بها لتسترقه فتمسكه على دينهم. فهذا تأويل سرقته. وأما انكتام أمره على أبيه مع تانك الوجاهة والنباهة فيحتمل أن يوسف مأموراً بإخفاء أمره على أبيه. ويحتمل الصرفة الكلامية، والصرفة مسئلة كثيرة النظائر، مفتنة الشعب. وهي ها هنا: صرف الله قلوبهما عن طلب كل واحد منهما موضع صاحبه. وبالجملة، لله تعالى في الأنبياء تدبير خفي خارج عن المعتاد. (فلما استيئسوا)

يئسوا. قال عبدة بن طبيب: 585 - تأرب من هند خيال مؤرق ... إذا استيأست من ذكر [ها] النفس تطرق. (نجياً) جمع [مناج]، وفي غير هذا الموضع يصلح واحداً ومصدراً واسماً حتى يكسر على الأنجية. قال: 586 - إني إذا ما القوم كانوا أنجية 587 - واضطرب القوم اضطراب الأرشية

588 - هناك أوصيني ولا توصي بيه. (ومن قبل ما فرطتم) موضع (ما) نصب بوقوع الفعل عليه، وهو [و] ما بعده بمنزلة المصدر، كأنه: ألم تعلموا ميثاق أبيكم وتفريطكم. ويجوز أن يكون التقدير: ومن قبل: تفريطكم، فتكون (من قبل) مبتدأ، و (ما فرطتم) خبره. والكظيم، الصابر على جزنه من كظم الغيظ.

وقيل: إنه الممتلئ حزناً كالسقاء المكظوم. ويجوز أنه الذي لا يتكلم من الغم، كأن فاه مسدود، أو هو أيضاً من كظم فم الإناء، وهو سده. قال: 589 - وأنت الذي أخلفتني ما وعدتني ... وأشمت بي من كان فيك يلوم [وقال]: 590 - وأنت [التي] أغضبت قومي فكلهم ... بعيد الرضى داني الصدود كظيم.

(تفتؤا) تزال وتنفك. قال: 591 - فما فتئت خيل تثوب وتدعي ... ويلحق منها أولون [وآخر] 592 - لدن غدوة حتى أتى الليل وانجلت ... عماية يوم شره المتظاهر. والمراد بقوله تفتؤ: لا تفتؤ، أي: لا تنفك، كما قال الهذلي: 593 - بني عمنا في كل يوم كريهة ... ولو قرب الأنساب عمراً وكاهلاً

594 - إذا [أقسموا] أقسمت [أنفك] منهم ... ولا منهما حتى تفك [السلاسلا] وقال آخر من هذيل، وهو شائع في لغتهم: 595 - تبين صلاة الحرب منا ومنكم ... إذا ما التقينا والمسالم بادن 596 - فيبرح منا سلفع متلبب ... جرئ على الغراء والغزو مارن. (حرضاً) مريضاً دنفاً.

وقيل: هو الذاهب العقل. قال العرجي: 597 - إني امرؤ لج بي حب وأحرضني ... حتى بليت وحتى [شفني] السقم. والبث: الحزن الذي لا يطيقه الإنسان، أو يبثه. كما قال ذو الرمة: 598 - وقفت على ربع لمية ناقتي ... فما زلت أبكي عنده وأخاطبه 599 - وأسقيه حتى كاد مما أبثه ... تكلمني أحجاره وملاعبه.

(فتحسسوا) التحسس: طلب الشيء بالحس. قال الأشعب: 600 - خليلي زورا علو ثم تحسسا ... ولا تعجلا أن تنظر هل لها عقل. أي: هل تعقل قتيلها وتديه. (مزجاة) يسيرة لا [يعتد] بها، قال الراعي: 601 - ومرسل ورسول غير متهم ... وحاجة غير مزجاة من الحاج

602 - طاوعته بعدما طال النجي بها ... وظن أني عليه غير منعاج. (لا تثريب عليكم اليوم) لا تعيير. ثرب: عدد ذنوبه. قال: 603 - فعفوت عنهم عفو غير مثرب ... وتركتهم لعقاب يوم سرمد. وخص اليوم، والمراد به الزمان، والعالم الشامل. كما قال امرؤ القيس: 604 - حلت لي الخمر وكنت امرءاً ... عن شربها في شغل شاغل

605 - فاليوم فاشرب غير [مستحقب] ... إثماً من الله ولا واغل. (تفندون) تعذلون. (ضلالك القديم) محبتك. وقيل: عنائك. كما قال أوس:

606 - إذا ناقة شدت برحل ونمرق ... إلى حكم [بعدي] فضل ضلالها 607 - كأني حلوت الشعر يوم مدحته ... صفا صخرة صماء صلد بلالها. (خاطئين) آثمين. قال ابن السكيت: خطئ خطأ [تعمد] الإثم، وأخطأ ثم لم يتعمد. قال: 608 - قد علمت [جلادها] وخورها 609 - إنك قد خطيت إذ تهورها.

(وجاء بكم من البدو) وكانوا بادية أهل وبر ومواش. والبادية: القوم المجتمعون الظاهرون للأعين. ومن قال: إن البادية بلد الأعراب [فإنما غلطه] فيه عادة العامة والسالكين طريق الحج، ألا ترى أن تنكير البادية، ولو كان بلداً معروفاً لكان معرفة أبداً قال النابغة الجعدي: 610 - وبادية سؤم الجراد وزعتها ... تكلفتها سيداً أزل مصدرا.

(نزغ الشيطان) أفسد ما [بيني و] بينهم. (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) هو إيمان المشركين بالله، وأنه الخالق والرازق، ثم يقولون إن الأصنام شركاؤه أو شفعاؤنا إليه. وقيل: مثل قول الرجل لولا الله وفلان/لهلكت، كما أنشد أبو تمام في

الوحشيات: 611 - وأفلتنا هجين بني قريظ ... يفدي المهر من حب الإياب 612 - فلولا الله والمهر المفدى ... [لأبت] وأنت [غربال] الإهاب. (ولدار الآخرة) ولدار الحال الآخرة، كقوله: (وحب الحصيد) أي: الزرع الحصيد. قال:

613 - ولو [أقوت] عليك ديار عبس ... عرفت الذل عرفان اليقين أي: عرفان العلم اليقين. (حتى إذا استيئس الرسل [وظنوا أنهم قد كذبوا) بالتشديد الضمير للرسل، والظن بمعنى اليقين، أي: لما استيأس الرسل] من إيمان قومهم أن يصدقوهم، [وأيقنوا] أن القوم كذبوهم (جاءهم نصرنا). وبالتخفيف، يكون الضمير للقوم، أي: حسب القوم أن الرسل كاذبون في وعد العذاب.

فهم على هذا [مكذبون، لأن كل من كذبك فأنت مكذوبه، كما في صفة الرسول عليه السلام: الصادق] [المصدوق، أي: صدقه] جبريل. وسئل سعيد بن جبير عنها -في دعوة حضرها الضحاك مكرهاً- قال: نعم حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدقوهم، وظن قومهم أن الرسل كذبوهم. فقال الضحاك: ما رأيت كاليوم، رجل يدعى إلى علم [فيتلكأ]، لو رحلت في هذا إلى اليمن لكان يسير [اً]. [تمت سورة يوسف]

سورة الرعد

سورة الرعد (بغير عمد ترونها) أي: بعمد لا ترونها، كما قال ابن هرمة: 614 - إن سليمى والله يكلؤها ... ضنت بشيء ما كان يرزؤها 615 - فلا أراها تزال ظالمة ... تحدث بي قرحة وتنكؤها. أي: أراها لا تزال ظالمة.

وقال قتادة: معناه بل رفعها بغير عمد وترونها كذلك. [و] هذا القول أدل على القدرة، وأثبت عند النظر والمشاهدة. (كل يجري لأجل مسمى) في أدوارها وأكوارها. ([و] من كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين) أي: نوعين اثنين من الحلو والحامض، والرطب واليابس، والنافع والضار.

فهو من مشاكلة النقيض للنقيض، لأن الأشكال تقابل بالنقائض أكثر مما [تقابل] بالنظائر. (صنوان) مجتمعة متشاكلة. قال ابن عباس: هي النخلات أصلها واحد. (المثلات) العقوبات التي يمثل بها المعاقب. واحد [ها] مثلة [كـ]ـصدقة وصدقات. (ولكل قوم هاد) أي: سابق يؤديهم إلى الهدى.

(وما تغيض الأرحام) ما تنقص من مدة الولادة (وما تزداد) عليها. [و] قيل: ما تغيض الأرحام من استواء الخلق، (وما تزداد) من الحسن وسلامة النية، والطول والعرض في الجثة.

(ومن هو مستخف بالليل)

مخف عمله في ظلمة الليل. قال: 616 - فإنكما يا [ا] بني حباب وجدتما ... كمن دب يستخفي وفي العنق جلجل. (وسارب)

ذاهب سارح. قال: 617 - أنت وهبت الفتية السلاهب 618 - وهجمة يحار فيها الحالب 619 - وغنماً مثل الجراد السارب 620 - متاع أيام وكل ذاهب. (معقبات) أي: الملائكة الذين يتعاقبون بأمر الله وحكمه في العالم. يقال: عقب وعاقب وتعاقب. (يحفظونه من أمر الله)

قال إبراهيم: فيه تقديم وتأخير، أي: له معقبات من أمر الله يحفظونه من بين يديه ومن خلفه. (من وال) من ولي يليهم. وقيل: من ملجأ. (شديد المحال) شديد الحول والقوة، عن مجاهد. والمكر: عن ثعلب، وأنشد:

621 - مصاد بن عمرو والخطوب كثيرة ... ألم تر أن الله يمحل بالألف 622 - فلا غرو ألا نوزهم من نبالنا ... كما اصعنفرت معزى الحجاز من الشعف. (كباسط كفيه إلى الماء) العرب تضرب المثل لما لا يدرك، أو يفوت عن سريع بالقبض على الماء. قال: 623 - فأصبحت من ليلى الغداة كقابض ... على الماء [خانته] فروج الأصابع.

[و] قال آخر: 624 - وأصبحت مما كان بيني وبينها ... [من الولد مثل القابض الماء باليد. وقال آخر: 625 - وإي وإياكم وشوقاً إليكم ... كقابض ماء لم [تسقه] أنامله. (أنزل من السماء ماء فسالت أودية)

يعني القرآن، فإنه في عموم نفعه كالمطر، نفع حيث وقع، كما قيل: 626 - ليهنك أني لم أجدلك عائباً ... سوى حاسد والحاسدون كثير 627 - وأنك مثل الغيث أما وقوعه ... فخصب وأما ماؤه فطهور. وأيضاً فإن نفع المطر يختلف باختلاف الأودية، كذلك نفع القرآن [يختلف] باختلاف المتدبرين. وجفاء السيل وخبث ما يذاب من الجوهر، مثل الباطل وذهابه، وصفو الماء مثل الحق في بقائه ونقائه.

(طوبى لهم) نعمى لهم. وقيل: حسنى. و [قيل:] هو فعلى من الطيب. (ولو أن قرءاناً سيرت به الجبال) نزلت حين سألت قريش هذه الأشياء، وإنما حذف جوابه، ليكون أبلغ في

العبارة، وأعم في الفائدة. كما قال امرؤ القيس: 628 - فلو أنها نفس تموت كريمة ... ولكنها نفس تساقط أنفسا. (أفلم يايئس الذين ءامنوا) أي: لم يعلم، ولم يتبين، في لغة جرهم. قال سحيم: 629 - أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني ... ألم [تيأسوا] أني ابن فارس زهدم.

ييسرونني: يقتسمونني بالميسر. وإنما سمي العلم يأساً، لأن العالم يعلم ما لا يكون، أنه لا يكون فييأس منه، بخلاف الجاهل. وقال الكسائي والفراء: هو اليأس المعروف، أي: القنوط. وفي الآية حذف، وهو عند الفراء: أفلم ييأسوا، لأنهم يعلمون أن آيات الله تجري على المصالح، لا الاقتراح العنادي. وعند الكسائي: ألم ييأسوا من [إيمان الكافرين].

(وجعلوا لله شركاء قل سموهم) أي: آلهة كما تزعمون. وقيل: معناه صفوهم بما فيهم، لتعلموا أنها لا تكون آلهة. (أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض) بالشريك، فلا يعلم شريكاً لنفسه فيها، كقوله: (قل أتنبئون الله بما لا يعلم). (أم بظاهر من القول) أي: بباطل زائل. كما قال: 630 - أعيرتنا ألبانها ولحومها ... وذلك عار يا [ا] بن ريطة ظاهر.

وقال الهذلي: 631 - وعيرها الواشون أني أحبها ... وتلك شكاة ظاهر [عنك] عارها 632 - فلا تهنئ الو [ا] شين أني هجرتها ... وأظلم دوني ليلها ونهارها. قال أبو القاسم بن حبيب: تضمنت الآية إلزاماً [تقسيمياً] أي: أتنبئون الله بباطن لا يعلمه، أم بظاهر يعلمه، [فإن قالوا: بباطن لا يعلمه، أحالوا، وإن قالوا: بظاهر يعلمه،] قل: سموهم، فإنه لا يعلم لنفسه سمياً ولا شريكاً.

(مثل الجنة) صفتها، كقوله: (ولله المثل الأعلى). (يمحو الله ما يشاء ويثبت) أي: من الأعمال التي رفعها الحفظة، فلا يثبت منها إلا ما له ثواب أو عليه عقاب. وعن ابن عباس: أن الله يمحو ويثبت ما في الكتب من أمور [العباد] على حسب اختلاف المصالح، إلا [أ] صل السعادة والشقاوة/فإنه في أم الكتاب لا تغيير له.

(لا معقب لحكمه) لا راد [لقضائه]، من قولهم: عقب الحاكم [حكم] من قبله، إذا رده. (ومن عنده علم الكتاب) قيل: إنه جبريل. وقيل: إنه مثل عبد الله بن سلام وتميم الداري. [تمت سورة الرعد]

سورة إبراهيم

سورة إبراهيم عليه السلام (الله الذي له ما في السماوات) رفعه على الاستئناف، وجره -وهو القراءة المعروفة- على البدل، أو على أنه عطف بيان. ولا يجوز الجر على أنه صفة للحميد، لأن [الـ]ـشيء يوصف بما هو أنقص منه وأخص، وهذا الاسم العظيم فوق كل اسم، وبمنزلة الأسماء الأعلام، فلا يصلح وصفاً.

(الذين يستحبون) يعتاضون ويستبدلون. وقيل: يختارون. (وإذ تأذن ربكم) أذن وأعلم. والتفعل يجيء بمعنى الإفعال والتفعيل وغيرهما. قال جرير: 633 - بيض ترببها النعيم وخالطت ... عيشاً كحاشية الحرير غرير [اً] 634 - أصبحن عني للمشيب [نوافرا] ... ولقد يكن إلى حديثي صورا. (فردوا أيديهم في أفواههم)

أي: عضوا على أيديهم من الغيظ والحزن، والمحزون المغيظ يعض يده. أنشد المبرد: 635 - لو أن سلمى أبصرت تخددي ... ودقة في عظم ساقي ويدي 636 - وبعد أهلي وجفاء عودي ... عضت من الوجد بأطراف [اليد]. قال الحسن: كأنهم ردوا أيديهم على أفواه الرسل، على طريقة المثل، إما على ردهم قولهم، وعدم استماعهم، وإما لخوفهم منهم.

قال عبد يغوث: 637 - أقول وقد شدوا لساني بنسعة ... أمعشرتيم أطلقوا عن لسانيا. وقال عمرو بن معد يكرب -وشبه مثل هذه الحال بإجرار [الفيصل] بالرضاع-: 638 - فلو أن قومي أنطقتني رماحهم ... نطقت ولكن الرماح [أجرت]

ويجوز الحمل على كراهيتهم ما قاله الرسل، كما يقال لمن كره استماع شيء: رد يده إلى صماخه، وجعل إصبعه في أذنه، قال الله تعالى: (يجعلون أصابعهم في ءاذانهم) وقال ابن ناعصة الأسدي: 639 - وحصا المنادح من حماها ... يرد بها البنان إلى الصماخ 640 - فقلنا "ها" فأنجدنا قرآها ... بنعمانا إلى العيش الرخاخ. (من ماء صديد) أي: من ماء مثل الصديد، فاختصر، كقولك: [هو] أسد.

وقيل: من ماء يصد الصادي عنه لشدته [وكراهيته]. (ويأتيه الموت من كل مكان) أي: أسبابه من جميع جسده، كأن من تحت كل منبت شعرة منبع ألم. وقيل: من جهاته الست. (في يوم عاصف) أي: عاصف الريح فاكتفي بدلالة الحال، وقيل: يوم عاصف: ذو عصوف. (ما أنا بمصرخكم)

هذه من لغات السلب، فإن الصارخ: المستغيث، والمصرخ: المغيث، ونظائرها كثيرة، مثل: الإشكاء، والإعتاب، ونحوهما. قال سلامة بن جندل: 641 - كنا إذا ما أتانا صارخ [فزع] ... كان الصراخ له قرع [الظنابيب]. وقال آخر: 642 - نثوب إليهم كلما صاح صارخ ... وتصرخهم فيما ينوب وتفرع.

وجميع النحاة لا يقبلون قراءة حمزة (بمصرخي) بكسر الياء. وهو لغة بني يربوع، ولها وجهان: إشباع ياء الإضافة، فيصير بمصرخي، ثم حذفت الزيادة وتركت الحركة للدلالة عليها. والثاني: أنه لما حذفت نون الجمع للإضافة التقت/ياء الجميع [بياء الإضافة] وهما ساكنتان في الأصل، فحركت ياء الإضافة إلى الكسرة.

(اجتثت) انتزعت. قال الهذلي: 643 - أو كالنعامة إذ غدت من بيتها ... [ليصاغ] قرناها [بغير] أذين 644 - فاجتثت الأذنان منها فانتهت ... صلماء ليست [من] ذوات قرون.

(لا بيع فيه) خص البيع، لما في المبايعة من المعاوضة، فيظن أن ذلك كالفداء في النجاة عما أوعدوا به، فصار في المعنى كقوله: (وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها). (ولا خلال) مصدر خاللته مخالة، وخلالاً. (دائبين) دائمين فيما سخرهما الله عليه. (أفئدة من الناس) قلوباً. وقيل: إنها تكسير [وفود على أوفدة]، ثم قلب اللفظ، ثم قلبت الواو، كما قلب في الأفئدة التي هي جمع الفؤاد. (تهوى إليهم)

تقصدهم. (وتقبل دعائي) عبادتي. (ربنا اغفر لي ولوالدي) [كانا] في الأحياء، فرجا إيمانهما. (تشخص فيه الأبصار) [ترتفع] من قولهم شخص بصر المريض شخوصاً، وشق شقوقاً. (مهطعين) مسرعين.

[ولا يفسر بالإطراق] لقوله: (مقنعي رءوسهم)، والإقناع: رفع الرأس إلى السماء من غير إقلاع، قال الراعي: 645 - زجل الحداء كأن في حيزومه ... قصباً ومقنعة الحنين عجولا. العجول: الناقة مات ولدها فحنت، وإذا حنت الناقة، رفعت رأسها. (وأفئدتهم هواء) جوف عن القلوب، لشدة الارتياع. أنشد أبو زيد: 646 - لقد أعجبتموني من جسوم ... وأسلحة ولكن لا فؤادا.

[و] مثله [للراعي]: 647 - وغدو بصكهم وأحدب أسأرت ... منه السياط يراعةً إجفيلا. (وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال) أي ما [كا] ن مكرهم لتزول منه الجبال، توهيناً لمكرهم، وتحقيراً لأمرهم. (فلا تحسين الله مخلف وعده رسله) قيل: تقديره: مخلف رسله وعده، فجاء مقلوباً: 648 - وكل كميت كأن السليـ ... ـط في حيث وارى الأديم [الشعارا]

أي: الشعار الأديم. وقال آخر: 649 - ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه ... وسائره باد إلى الشمس أجمع. والأولى: أن يقرر على اللفظ، لأن الإخلاف من الأفعال الجارية على الوجهين، يقال: أخلف [زيد] وعده، وأخلف وعده [زيداً]، ومثله: أصاب زيد مالاً، وأصاب زيداً مال، ووافق زيد [حديثنا]، إذا صادفهم يتحدثون، ووافق زيداً حديثنا، إذا سره وأعجبه، وأحرز زيد سيفه، إذا صانه في غمده، وأحر [ز] زيداً سيفه، إذا [حصنه] وصانه من القتل.

(مقرنين في الأصفاد) أي: يجمعون في الأغلال، كما كانوا في الدنيا [مقترنين] على الضلال. [تمت سورة إبراهيم]

سورة الحجر

سورة الحجر (آيات الكتاب وقرآن مبين) جمع بين الكتاب والقرآن، لأنهما وصفان مختلفان معنى، وإن كان الموصوف واحداً. (لو ما تأتينا) أي: لولا. وقيل: هلا. (شيع الأولين) فرق الأولين. (كذلك نسلكه) ندخله، أي: التكذيب والاستهزاء عن قتادة.

والذكر: القرآن، وإن لم يؤمنوا به عن الحسن. (سكرت أبصارنا) سدت من سكر البثق. (من كل شيء موزون) مقدر: أي: بمقدار لا ينقص عن الحاجة، ولا يزيد زيادة تخرج عن الفائدة. وذهب ابن بحر: أن المراد هو الأشياء الموزونة. ثم قال: إنما ذكرها دون المكيلة، لأن غاية المكيل [ينتهي] إلى الوزن.

والصحيح: هو القول الأول، ونظائره في كلامهم كثيرة. قال ذو الرمة: 650 - لها بشر مثل الحرير ومنطق ... رخيم الحواشي لا هراء ولا نزر. أي: قليل. وقال مالك الفزاري: 651 - وحديث ألذه هو مما ... ينعت الناعتون يوزن وزنا 652 - منطق صائب ويلحن أحيانا ... وخير الكلام ما كان لحنا

أي: كناية، لا [أ] نه أراد ما هو ضد الصواب، كقوله: (ولتعرفنهم في لحن القول)، وكما قيل: 653 - ولقد وحيت لكم لكيما تفطنوا ... ولحنت لحناً ليس [بـ]ـالمرتاب. (وجعلنا [لكم] فيها معايش ومن لستم له برازقين) ولمن لستم له برازقين من سائر الحيوانات ناطقها وعجمها. وقيل: إنه من علينا بالخول، كما من بالمعاش

أي: كما جعلنا لكم فيها معايش، جعلنا لكم خولاً من الخدم، والدواب، فإنا جعلناها لكم، ولم نجعل رزقها عليكم. فـ (من) على هذا القول منصوب، وعلى القول الأول مجرور. والمعايش: ما يتعيش به الإنسان من المطاعم والمشارب والملابس. قال جرير: 654 - تكلفني معيشة آل زيد ... ومن لي بالمرقق والصناب 655 - وقالت لا تضم كضم زيد ... وما ضمي ليس معي شباب. (لواقح) بمعنى ملاقح، على تقدير ذوات لقاح.

والرياح، لا سيما الصبا والجنوب ملقحة السحاب، كالفحل للناقة. وقيل: الصبا تثير وتلقح، والجنوب: تدر، والشمال: تمنع، والدبور: تقشع. وقد جاء كل ذلك في أشعار العرب/، قال الهذلي

656 - [[فسائل] سبرة الشجعي عنا ... غداة تخالنا [نجواً جنيبا]. وقال الأعشى: 657 - وما عنده فضل تليد ولا له ... من الريح فضل لا الجنوب ولا الصبا. وقال الهذبي في الشمال: 658 - هل هاجك الليل كليل على ... أسماء من ذي صبر مخيل

659 - حار وعقت مزنه الريح وانـ ... ـقار به العرض ولم يشمل. وقال آخر في الدبور: 660 - يا عارضاً قد أورد البحر ذوده ... فلما تروت سار شوفاً إلى نجد 661 - سما نحوه ملك الدبور بجنده ... فمزقه دون الإرادة والود. (فأسقيناكموه) يقال: سقاه وإذا دعا له بالسقيا أيضاً. (المستقدمين) الذين كانوا وماتوا.

وقيل: أراد المستقدمين في الخير، و (المستئخرين) عنه. والصلصال: الطين اليابس، الذي يصل بالنقر كالفخار، والحمأ: جمع حمأة، وهو الطين المسود. والمسنون: [المتغير] وقيل: المصبوب. وقيل: المصور، من سنة الوجه وصورته. (والجان) أبو الجن.

(خلقناه من قبل من نار السموم) نار السموم: نار تناهى في الغليان، وهي بالإضافة إلى النار التي جعلها الله متاعاً لنا، كالجمد إلى الماء، والحجر إلى التراب. وكان خلق الجان من تلك الأجزاء النارية المطيفة في أفق الهواء بكثرة الغليان، وإذا جاز خلق الحي العاقل من الأجزاء الأرضية العالية عليه، فمن لطافة الأجزاء النارية أجوز، فبطل مطعن الملحدة: أن خلق الحيوان كيف يكون من النار، وعلى أن الخلق ليس على وزن واحد، ألا ترى إلى الظليم الذي يلتقم الجمر المضطرم، ثم يميعه ويذيبه بحر قانصته، حتى يصير كالماء الجاري [فيغذوه] ويقيمه. (بقطع من الليل) بظلمة. وقيل: بآخر الليل.

(واتبع أدبارهم) مر خلفهم. (دابر هؤلاء) أصلهم، وقيل: آخرهم. (مشرقين) داخلين في وقت الإشراق، وهو إضاءة الشمس، والشروق: طلوعها، كما فصله بعضهم -وليس بشاهد ولكنه لحفظ الفرق-: 662 - عيني عليها -أو أراك- غشاوة ... فكأن شمسي من جبينك تشرق 663 - ويلحظ عينك عن لقاء نبوة ... فكأن شمسك من جبيني تشرق.

(وإنها لبسبيل مقيم) أي: بطريق واضح، كقوله: (لبإمام مبين) و (أصبحت الأيكة) قوم شعيب، فإنه بعث إلى أصحاب الأيكة، وإلى أهل مدين، فأهلك الله مدين بالصيحة، والأيكة بالظلة، فاحترقوا بنارها. و (الحجر)

ديار ثمود. (فاصفح الصفح الجميل) يعني الإعراض من غير احتفال، كأنه تولية صفحة الوجه. (سبعاً من المثاني) يعني الفاتحة، لأنها سبع آيات، وثنيت في الإنزال، وتثنى قراءتها في كل صلاة، والذكر فيها مثنى مقسوم بين الرب والعبد. وقيل: المثاني: القرآن، لأن الأنباء والقصص ثنيت فيها

فتكون الواو على هذا مقحمة، كأنه: سبعاً من المثاني القرآن العظيم. وسبعاً من قوله عليه السلام: " [أنزل] القرآن على سبعة أحرف". (أزواجاً منهم) أصنافاً وأشكالاً. (المقتسمين) كفار قريش، اقتسموا طرقات مكة، فإذا مر بهم مار إلى النبي عليه السلام، قال بعضهم: هو ساحر، وقال بعضهم: شاعر، وآخر: مجنون، وآخر: كاهن

وكانوا مقتسمين: إما على اقتسام طرق مكة، وإما على اقتسام القول في رسول الله. وقيل: المقتسمين: قوم تقاسموا أو تحالفوا على أن لا يؤمنوا برسول الله. (الذين جعلوا القرآن عضين) هذا يؤكد أن المراد بالمقتسمين، اقتسام القول، أي: جعلوا القرآن فرقاً من شعر وسحر وكهانة، وأساطير، كأنهم عضوه، كما يعضى [الجزورٍ]، قال رؤبة: 664 - [نشذب] من خندف حتى ترضى 665 - وليس دين الله بالمعضى

وأصل هذه الكلمة من "عضة" منقوصة، وكانت عضوة كعزة وعزين، وبرة وبرين، ولهذا قال: تجمع على عضوات. والتوفيق بين قوله تعالى: (لنسئلنهم أجمعين) وقوله: (لا يسئل عن ذنبه إنس ولا جان)، ما قاله ابن عباس: إنه لا يسأل هل أذنبتم؟ [لعلمه] بذلك، ولكن لم أذنبتم؟. وذكر عكرمة: أن المواقف مختلفة يسأل في بعضها، أو يسأل في بعض اليوم، ولا يسأل في بعضه، كقوله: (هذا يوم لا ينطقون)، ثم قال: (ثم

إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون)، إلا أن جميع أوقات اليوم [ومواقفه] داخل تحت اللفظ، لا سيما عندنا، فإن العموم لا يقتضي الخصوص، وكذلك إذا ورد خاص عندنا في حادثة بعد عام، لا يكون ذلك بياناً، ولكن نسخاً، والنسخ في الأحكام لا في الأخبار، فأولى أن المراد: هو النطق المسموع المقبول، الذي تقوم به حجة، وتظهر معذرة، فإذا لم يكن عندهم [ذلك]، كأن لم [ينطقوا]، ولا يسألوا على مجاز قول الدارمي: 666 - أعمى إذا ما جارتي خرجت ... حتى يواري جارتي الخدر 667 - [و] يصم عما كان بينهما ... أذني وما بي غيره وقر

وقول حاتم: 668 - بعيني عن عوراء جاري نبوة ... وبالأذن عما لا يلائمني وقر. وقال آخر: 669 - وقد طال كتمانيك حتى كأنني ... برد جواب السائلي عنك أعجم. والأول أولى (فاصدع بما تؤمر) احكم بأمرنا. وقيل: افرق بين الحق والباطل، كقول الهذلي:

670 - فكأنهن ربابة وكأنه ... يسر يفيض على القداح ويصدع. (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) أي: النصر الموعود. وقيل: الموت الذي هو موقن به. [تمت سورة الحجر]

سورة النحل

سورة النحل (أتى أمر الله) استقر دينه وأحكامه. (فلا تستعجلوه) بالتكذيب. وقيل: أتى أمر الله وعداً (فلا تستعجلوه) وقوعاً. وقيل: إن المراد نصرة الرسول. والروح: الوحي بالنبوة، كقوله: (يلقى الروح من أمره).

وقيل: هو الروح المعروف الذي يحيي به الأبدان. (لكم فيها دفء) هو ما يستدفأ به. (بشق الأنفس) بجهدها وعنانها. و (حين تريحون) أي: بالليل إلى معاطنها، (وحين تسرحون) بالنهار إلى مسارحها، قال الهذلي: 671 - اظعني أم نوفل عن جنابي ... لا تريحي فالرعي رعي وخيم 672 - من يذق رعيه سميت حبطاً ... منه فإني مما أقول زعيم

وقال المرار الفقعسي في السرح: 673 - ثقيل على جنب المثال وماله ... خفيف على أشياعه حين يسرح 674 - فإن مات لم يفجع صديقاً مكانه ... وإن عاش فهو [الديدني] المترح. (وعلى الله قصد السبيل) أي: بيان الحق. وقيل: إن إليه طريق كل أحد، لا يقدر أحد أن يجوز عنه، كما قال ذلك طفيل الغنوي للموت، لما كان سبيل [كل] حي عليه:

675 - نداماي أمسوا قد تخليت عنهم ... فكيف [ألذ] الخمر أم كيف أشرب 676 - مضوا سلفاً قصد السبيل عليهم ... وصرف المنايا بالرجال تقلب. (ومنها جائر) أي: [من] السبيل ما هو مائل عن الحق. (ولو شاء لهداكم أجمعين) أي: بالإلجاء. (تسيمون) ترعون أنعامكم.

وهذا السوم في الرعي، من التسويم بالعلامة، لأن الراعي يسيم الراعية بعلامات يعرف بها البعض من البعض. أو لأنه يظهر في مواضع الرعي علامات وسمات من آثار اختلاء النبات، ومساقط الأبعار. (والنجوم مسخرات) نصب مسخرات على حال مؤكدة، كقوله: (وهو الحق مصدقاً)، وليس بمفعول ثانٍ لقوله: (وسخر لكم)، لأن المسخر لا يسخر، إلا أن يقدر فيه فعل آخر، أي: جعل النجوم مسخرات، كما قدر في قوله ها هنا: (وما ذرأ لكم في الأرض) أي: وسخر لكم ما [ذرأ] في الأرض.

(وترى الفلك مواخر) جواري، مخرت السفينة كما تمخر الريح: إذا جرت. والمخر: هبوب الريح، والمخر: شق الماء بشيء يعترض في جهة جريانه. وقيل: مواخر: مواقر، مثقلات [بما] فيها. (أن تميد بكم) أي: لئلا [تميد] بكم. (كنتم تشاقون فيهم). تظهرون شقاق المسلمين وخلافهم لأجلهم.

(فألقوا السلم) أي: الخضوع والاستسلام لملائكة العذاب. (أو يأخذهم على تخوف) أي: خوف. وهو ما يتخوفون منه من الأعمال السيئة، أو يتخوفون عليه من متاع الدنيا. وقيل: على تنقص، أي: يسلط عليهم الفناء فيهلك الكثير في وقت يسير، يقال: تخوفت الشيء: إذا أخذت من حافاته وأطرافه. وقد سأل عمر -رضي الله عنه- عنها وهو على المنبر، فسكت الناس حتى قام شيخ هذلي، وقال: هذه لغتنا/التخوف: التنقص، فقال عمر: وهل شاهد؟ فأنشد لأبي كبير: 677 - تخوف الرجل منها تامكاً صلباً ... كما تخوف عود النبعة السفن.

فقال عمر: عليكم بديوانكم -شعر العرب- ففيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم. وقد أنشد بندار بن لرة أيضاً: 678 - تخوفتني مالي فأذهبت طارفي ... وتالد [مالي] فصرت أخا الفقر 679 - وكنت كذي [بئر] عدا نزف مائها ... إلى نزح ما فيها إلى آخر القعر.

وفي شعر الهذليين أيضاً: 680 - فقلت له لا المرء مالك أمره ... ولا هو في [جذم] العشيرة عائد 681 - أسيت على جذم العشيرة أصبحت ... تخوف منهم حافة وطرائد. فيكون اللفظ من قوله: ([أ] ويأخذهم على تخوف) والمعنى من قوله: (نأتي الأرض ننقصها من أطرافها). (يتفيؤا ظلاله) يتميل ويتحول. والفيء: الظل بعد الزوال، لأنه مال من جانب إلى جانب.

قال الأعرابي: 682 - بلاد بها كنا نحل فأصبحت ... خلاء ترعاها مع الأدم عينها 683 - تفيأت فيها بالشباب وبالصبا ... تميل بما أهوى علي غصونها. وجمع الشمائل للدلالة على أن المراد باليمين: الجمع على معنى الجنس. أو لأن الظل إذا ابتدأ من اليمين، ابتدأ جملة، ثم تنتقص عن الشمائل شيئاً فشيئاً، فجمع الشمائل على جمع أظلالها. (سجداً) خضعاً لأمر الله، لا يمتنع على تسخير [هـ] وتصريفه.

ومعناه: ابتداء الظل على طلوع الشمس من خلف الأشخاص، ثم تفيؤه من اليمين والشمال على ارتفاعها إلى الأمام على الغروب. (وهم داخرون) صاغرون خاضعون بما فيه من التسخير ودلائل التدبير، أو على أن مثل ذلك لو كان من حي مختار لكان عن خضوع وصغار. (يخافون ربهم من فوقهم) أي: عذابه [وقضاءه]. وقيل: معناه أن قدرته فوق ما أعارهم من القوى والقدر، على مجاز: (وهو القاهر فوق عباده). (وله الدين) أي: الطاعة. (واصباً)

دائماً. وقيل: خالصاً، والوصب: التعب بدوام العمل الشاق. (ويجعلون لما [لا] يعلمون نصيباً مما رزقناهم) هو ما يجعلونه لأصنامهم من الثمرات والأموال [ويحسبون] عليهم من الحرث والأنعام. (ولهم ما يشتهون) أي: من البنين. (مفرطون) معجلون.

وقيل: مقدمون. كما قال لبيد: 684 - أقضي اللبانة لا أفرط ريبة ... أو أن يلوم بحاجة لوامها. (نسقيكم) سقى وأسقى واحد، كما قال لبيد: 685 - سقى قومي بني مجد وأسقى ... نميراً والقبائل من هلال. (مما في بطونه) التذكير للرد إلى لفظ (ما) عند الكسائي. وقال الفراء: للرد على النعم، والنعم والأنعام واحد، لأن النعم اسم جنس، والتذكير على اللفظ، ألا ترى أن لك تأنيث النعم على نية الأنعام،

فكذلك تذكير الأنعام على نية النعم. وقال المؤرج: رد الكناية إلى البعض، أي: نسقيكم مما في بطونه اللبن، [إذ] ليس لكلها لبن يشرب. (سكراً)

شراباً مسكراً، (ورزقاً حسناً) فاكهة. قال الحسن: السكر ما شربت، والرزق الحسن ما أكلت. فيكون التفسير بثلاثة أوجه: -بالمعتصر من الثمرات. -قيل: السكر بالأنبذة المخللة على مذهبنا، وإن أسكرت. -وبالخمر [قبل] التحريم.

(وأوحى ربك إلى النحل) ألهمها، أي: جعله في طباعها ومكنها منه، [حتى] صارت سبله [لها] مذللة سهلة -أي [سبل] اتخاذ العسل-، ألا تراها كيف [تبكر] إلى الأعمال من الصباح إلى المساء، [وتقتسمها] بينها، كما يأمرها أميرها وفحلها اليعسوب، فبعضها يعمل الشمع، وبعضها يستقي الماء ويصبه في الثقب، ويلطخه بالعسل، ولا يتخذ ذلك إلا في أعلى موضع، وأحصن موقع، بحيث ينبو عن العيون ويأبى على الأقدام، كما قال الهذلي:

686 - [بأري] التي تأري لدى كل مغرب ... إذا اصفر قرن الشمس حان انقلابها 687 - بأري التي تأري اليعاسيب أصبحت ... إلى شاهق دون السماء ذؤابها 688 - جوارسها [تأري] الشعوف [دوائبا ... وتنصب] ألهاباً مضيقاً شعابها وقال أيضاً: 689 - وما [ضرب] بيضاء يأوي مليكها ... إلى [طنف أعيا] براق ونازل

690 - [تنمى بها اليعسوب] حتى أقرها ... إلى مألف رحب [المباءة] عاسل. (يخرج من بطونها شراب) سماه شراباً، [إذ] كان مما يجيء منه الشراب. والجاحظ يقول للطاعن: -إن النحل تجني العسل بأفواهها، وتضعه كهيئته، فكيف يقال: يخرج من بطونها؟! - قال: الأمر -وإن كان كذلك- فهو يخرج من جهة أجوافها، وبطونها، ويكون العسل باطناً في فيها، وقد خاطب بهذا الكلام أهل تهامة، وهذيلاً،

وضواحي كنانة، وهؤلاء هم أصحاب العسل، والأعراب أعرف بكل صمغة سائلة، وعسلة ساقطة، فهل سمعتم بأحد أنكر هذا البيان، أو طعن عليه من هذه الجهة. (فيه شفاء للناس) إذ كانت المعجونات كلها بالعسل. وفي الحديث: "من به داء قديم، فليأخذ درهماً حلالاً، وليشتر به عسلاً وليشربه بماء سماء فهو الشفاء".

قال الهذلي: 691 - وما ضرب بيضاء يسقي دبوبها ... [دفاق] فعروان الكراب [فضيمها] 692 - إلى فضلات من حبي مجلجل ... أضربت له [أضواجها] وهضومها 693 - فصفقها حتى [استمر] بنطفة ... وكان شفاء شوبها [وصميمها]. (فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم)

ما ملكت أيمانهم لا يشاركونهم في ملكهم، ولا يملكون شيئاً من رزقهم، فكيف يجعلون لي من خلقي شركاء في ملكي؟! (وما أمر الساعة إلا كلمح البصر) أي: إذا أمرنا. وقيل: إنه أراد النفخة [للفناء] أو للبعث. (أنكاثاً) أنقاضاً. (دخلا) غروراً ودغلاً، كأن داخل القلب يخالف ظاهر القول. (أن تكون أمة هي أربى) أي: أشد وأزيد، إذ كانوا يعقدون الحلف، ثم ينقضون إذا [وجدوا] من هو أكثر وأقوى.

(لسان الذي يلحدون إليه أعجمي) أي: يميلون ويضيفون إليه. [إذ] كانت العرب اتهمت رسول الله في معرفة الأخبار ببعض الأعاجم ممن قرأ الكتب. (فأذاقها الله لباس الجوع والخوف) جاء هذا الكلام على مذهب العرب، كما قال الشماخ في صفة قوس: 694 - فذاق وأعطته من اللين جانباً ... كفى ولها أن يعوق النزع حاجز

أي: نظر إليها ورآها، فجعل النظر ذوقاً. وقيل: معنى ذاق: جربها بالمد، فكذلك تكون الإذاقة في الآية بمعنى الابتلاء، لأن الابتلاء والتجريب متقاربان. وابن مقبل زاد عليه وجعل الذوق [لليد] فقال:- 695 - يهززن للمشي أوصالاً منعمة ... هز الكماة ضحى عيدان يبرينا 696 - أو كاهتزاز رديني تذاوقه ... أيدي التجار فزادوا متنه لينا. وعلى أن هذه اللفظة كثيرة الوقوع في الشدائد، لأن صاحبها يجد وقعها، كما يجد الذائق الطعم فوق ما يجد المستمر على الأكل، قال الله تعالى: (ذق إنك أنت العزيز الكريم)، وقال الراجز:

697 - دونك ما جنيته فاحس وذق 698 - قد حذرتك [آل] المصطلق. وقد سأل بعض الملحدة ابن الأعرابي عن هذه، وقال: تقول العرب: ذقت اللباس؟! فقال: إن لم يكن عندك [نبياً]، أما كان عربياً. وهذا الجواب كافي في إقناع الطاعن، والذي تقدم من تصحيحه على مذهب العرب حجة وبيان. (إن إبراهيم كان أمة) إماماً يأتم به الناس.

(قانتاً) دائماً على العبادة. (حنيفاً) مسلماً، مستقبلاً في صلاته الكعبة. كما قال ذو الرمة: 699 - [يظل] بها الحرباء للشمس ماثلاً ... على [الجذل] إلا أنه لا يكبر 700 - إذا حول الظل العشي رأيته ... حنيفاً، وفي قبل الضحى يتنصر. [والحرباء: يستقبل] الشمس أبداً، فيكون بالعشي -إذا استقبل الشمس- مستقبلاً القبلة. [تمت سورة النحل]

سورة بني إسرائيل

سورة بني إسرائيل (سبحان) لا يتصرف؛ لأنه صار علماً لأحد معنيين: إما [التبرئة والتنزيه]، وإما [التعجب]. الأول: براءة الله -الذي أسرى بعبده- من كل سوء. والثاني: عجباً لمن أسرى بعبده. وقول الأعشى: 701 - أقول لما جاءني فجره ... سبحان من علقمة الفاجر

قال الخليل: براءة منه. وقال سيبويه: لما صار [ت] هذه الكلمة في صفات الله [على] معنى البراءة، لا يفسر بها في غيره، بل يفسر بالعجب منه، ومن فخره. وأما الإسراء ففي رواية أبي هريرة، وحذيفة بن اليمان، كان بنفسه في حالة الانتباه.

وفي رواية عائشة، ومعاوية: بروحه حالة النوم. قالت عائشة: "ما فقد جسد رسول الله، ولكن الله أسرى [بـ] روحه".

والحسن أول قوله: (وما جعلنا الرءيا التي أريناك إلا فتنة للناس) بالمعراج. والخطابي يقول: "قد رويت الروايتان بطرق صحيحة، فالأولى أن تجمع بينهما ونقول: كان له عليه السلام معراجان، أحدهما في النوم، والآخر باليقظة".

وما في القرآن من تعظيم أمر المعراج، والتعجب به، وما في الأخبار من إنكار قريش حتى أخبرهم بأشياء من بيت المقدس، والسابلة على طريقه إليها، كل ذلك يدل على أنه في اليقظة. (ألا تتخذوا) معناه الخبر، أي: لئلا تتخذوا. وقيل: إن "أن" زائدة، والقول مقدر، أي: "وقلنا لا تتخذوا". (بعثنا عليكم)

قال الحسن: خليناكم وخذلناكم. وقيل: أظهرناهم عليكم، وكان أولئك هم العمالقة. وقيل: إنه [بختنصر]، إذ كان أصحاب سليمان بن داود -عليهما السلام- عرفوا من جهة أنبيائهم خراب الشام، ثم عودها إلى عمارتها. [ولما] وقفوا على قصد بختنصر، انجلوا عنها واعتصموا بمصر وملكها.

(فجاسوا) مشوا وترددوا. وقيل: عاثوا وأفسدوا. (ليسئوا وجوهكم) أي: سادتكم وكبراءكم في المرة الآخرة. (وليتبروا) يهلكوا ويخربوا. (ما علوا) ما وطئوا من الديار والمنازل. (حصيراً) محبساً.

(طائره في عنقه) أي: عمله، فيكون في اللزوم كالطوق للعنق. وقيل: طائره: كتابه الذي يطير إليه يوم القيامة. إلا أن الكتاب مذكور بعده، فإنما حسن هو القول الأول، [مع] أنه مطرد في كلام العرب. قال الفرزدق: 702 - [فـ]ـمن يك خائفاً لأذاة شعري ... فقد أمن الهجاء بنو حرام 703 - هم ردوا سفيههم وخافوا ... قلائد مثل أطواق الحمام.

(وإذا أردنا أن نهلك قرية) إرادة الهلاك ها هنا على مجاز المعلوم من عاقبة الأمر، وما يفضي إليه، كما قال الكميت: 704 - يابن هشام أهلك الناس اللبن ... فكلهم [يعدوا] بقوس وقرن. وقال آخر: 705 - وقد جعل الوسمي ينبت بيننا ... وبين بني رومان نبعاً وشوحطا. (أمرنا مترفيها) أي: أمرناهم بالطاعة.

(ففسقوا) [خرجوا] من أمرنا، كقولك: أمرته فعصى، ودعوته فأبى. ويجوز (أمرنا) كثرنا، يقال: أمره فهو مأمور، وآمره فهو مؤمر، وفي الحديث: "خير المال مهرة مأمورة". قال زهير: 706 - والإثم من شر ما تصول به ... والبر كالغيث نبته أمر.

(كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء) أي: من أراد العاجلة، ومن أراد الآخرة. (من عطاء ربك) من رزق ربك. (أف) معناه [التكره] والتضجر. (محسوراً) منقطعاً. وقيل: ذا حسرة. وقيل: مكشوفاً من قولك: حسرت الذراع. (خطئاً)

يجوز اسماً كالإثم، ومصدراً كالحذر. (ولا تقف ما ليس لك به علم) ولا تقل. وقيل: ولا تتبع من قفوت أثره. (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً) أي: عن الإنسان، لأنها من الأشهاد يوم القيامة. وقيل: كان الإنسان عن كل ذلك مسؤولاً، لأن الطاعة والمعصية [بها]. (كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروهاً) أراد بالسيئة الذنب، فحمل على المعنى.

وقيل: إن مكروهاً بدل عن السيئة، وليس بوصف. وعبره البدل حذف المبدل. وقيل: إنه خبر آخر لكان. وأما سيئه بالإضافة، فلإنه تقدم الكلام أوامر ونواهي، فما كان في كل المذكور من [سيء] كان عند الله مكروهاً، فيعلم به ما يقابله، وهو أن ما كان بخلافه من حسن كان مرضياً. (ولقد صرفنا في هذا القرآن) أي: صرفنا القول فيه على وجوه، من أمر ونهي، ووعد ووعيد، وتسلية وتحسير، وتزكية وتقريع، وقصص وأحكام، وتوحيد وصفات، وحكم وآيات. (فتستجيبون بحمده)

أي: بأمره. كما قال الثقفي: 707 - فإني بحمد الله لا ثوب غادر ... لبست ولا من خزية أتقنع. (إن لبثتم إلا قليلا) في الدنيا بالقياس إلى الآخرة، كما قال الحسن: "كأنك بالدنيا لم تكن، وبالآخرة لم تزل". (وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون) أي: وما منعنا إرسال الآيات إلا تكذيب الأولين. فيكون: (أن نرسل) في موضع النصب، و (أن كذب) في موضع الرفع.

(وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس) أي: علمه وقدرته، فيعصمك منهم. (وما جعلنا الرءيا التي أريناك) أي: ليلة الإسراء على اختلاف الرواية، من رؤيا عيان، أو رؤيا منام. (إلا فتنة) أي: ابتلاءً واختباراً لمن كفر به، فإن قوماً [أنكروا] المعراج، فارتدوا. وقيل: إنها رؤيا النبي عليه السلام دخوله المسجد الحرام، فلما صد عنها عام الحديبية، ارتد قوم، فلما دخلها في القابل نزل: (لقد صدق الله رسوله الرءيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام).

(والشجرة الملعونة) أي: وما جعلنا الشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة. وذلك أن أبا جهل قال لابن الزبعري: ما الزقوم؟ فقال: الزبد والتمر بلغة البربر، فقال: زقمينا يا جارية، فأتت بهما، فقال: [تزقموا]، فهذا ما يخوفكم به محمد. وقيل: الشجرة الملعونة: بنو أمية، فإنهم الذين بدلوا الأحكام، وبغوا على أهل البيت، ولم يستعملوا البقيا في سفك الدماء.

والرؤيا ما رآها النبي عليه السلام من نزوهم على منبره. (لأحتنكن ذريته) لأستولين عليهم، وأستأصلنهم، كما يحتنكن الجراد الزرع. وقيل: لأقودنهم إلى الغواية، كما تقاد الدابة بحنكها إذا شد فيه حبل. (واستفزز)

استخف. وقيل: استزل. (بصوتك) بدعائك إلى المعاصي. وقيل: إنه الغناء بالأوتار والمزامير. (وأجلب عليهم) أجمع عليهم. (بخيلك ورجلك) بكل راكب وماش في الضلالة.

(وشاركهم في الأموال والأولاد) أي: إذا ولدوهم بالزنا. وقيل: إذا عودوهم الضلالة والبطالة. (ضل من تدعون إلا إياه) أي: بطل. كقوله: (أضل أعمالهم). وقيل: معناه غاب، كقوله: (أءذا ضللنا في الأرض). الحاصب: الحجارة الصغار، وهي الحصاب، والحصباء أيضاً.

وقيل: الحاصب: الريح التي ترمي بالحاصب، كما سمي الجمار بالمحصب لمكان [رمي] الحصباء بها، ولذلك قال الهذلي: 708 - فيا رب حيرى جمادية ... تنزل فيها ندى ساكب 709 - ملكت سراها إلى صحبها ... بشعث كأنهم حاصب. والقاصف: الريح التي تقصف الشجر. والتبيع: المنتصر الثائر.

(يوم ندعوا كل أنس بإمامهم) قيل: بدينهم. وقيل: بأعمالهم. وقيل: بقادتهم ورؤسائهم. فيقال [للضالين]: "يا أتباع الشيطان". (ومن كان في هذه أعمى) أي: عن الطاعة والهدى. (فهو في الآخرة أعمى) أي: عن الثواب، وعن طريق الجنة. وقيل: إن من عمي عن هذه العبر المذكورة قبل هذه الآية، فهو عما غاب

عنه من أمر الآخرة أعمى. (وإن كادوا ليفتنونك) هموا أن يصرفوك. في وفد ثقيف، حين أرادوا الإسلام على أن يمتعوا باللات سنة، ويكسر سائر أصنامهم.

(ضعف الحياة) أي: ضعف عذاب الحياة، أي: مثليه، لعظم ذنبك على شرف منزلتك. وقيل: إن الضعف هو العذاب نفسه، فكما سمي عذاباً لاستمراره في الأوقات -كالعذاب الذي يستمر في الحلق- سمي ضعفاً، لتضاعف الألم فيه. (وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها) في اليهود، قالوا: إن أرض الشام أرض الأنبياء، وفيها الحشر. (خلفك إلا قليلاً): بعدك.

و (خلافك): بمعناه، كقوله: (بمقعدهم خلاف رسول الله): أي خلفه. قال بعض بني عقيل: 710 - ولما حد [ا] الحادي وزمت جمالهم ... وراحوا [يغذون] القطيعة [إغذاذا] 711 - تيقنت أني سوف آوي خلافهم ... إلى كبد يغدوا على البين أفلاذا. دلوك الشمس: غروبها، وصلاة المغرب، قال ذو الرمة:

712 - مصابيح ليست باللواتي يقودها ... نجوم ولا بالآفلات الدوالك. وقيل: دلوكها: زوالها، وهذا التفسير يجمع الصلوات الخمس، لأنه مد من الزوال إلى الغسق. (وقرآن الفجر) ونصب (وقرآن الفجر) على الإغراء، والتحريض. وإنما سمى صلاة الفجر قرآناً، لتأكيد القراءة فيها. (إن قرآن الفجر كان مشهوداً) تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار.

(فتهجد) التهجد من باب السلب، وقد مر نظائره. (نافلة) خاصة لك. (أدخلني مدخل صدق) أي: المدينة عند الهجرة. (وأخرجني مخرج صدق) من مكة. وقيل: إن المراد به القبور.

ومعنى الصدق: الاستقامة وصلاح العاقبة. (وزهق الباطل) ذهب وهلك. (ونئا بجانبه) بعد بنفسه، كقوله: (فتولى بركنه). (شاكلته) عادته وخليقته، من قولهم: هو على شكله. (قل الروح من أمر ربي) أي: من خلق ربي، لأنهم سألوه عنه أقديم أم محدث.

وقيل: معناه من علم ربي. وإنما لم يجبهم عن الروح، لأن طريق معرفته العقل لا السمع [فلا يجري] الكلام [فيه] على سمت كلام النبوة، كما هو في كتب الفلاسفة، ولئلا يصير الجواب طريقاً إلى سؤالهم عن كل ما لا [يعينهم]. (كسفاً) قطعاً جمع كسفة.

قال أبو زيد: كسفت الثوب، أكسفه كسفاً: إذا قطعته، وذلك المقطوع كسف. ونصب (كسفاً) على الحال. قال الشيخ عبد الحميد -رحمه الله-: من قرأ (كسفاً) على الواحد، كان المعنى: ذات قطع على جهة التطبيق. ومن قرأ (كسفاً)، كان المعنى: ذات قطع على جهة التفريق. (قبيلاً) أي: مقابلة نعاينهم. وقال القتبي: قبيلاً: كفيلاً، والقبالة: الكفالة.

وقال ابن بحر: قبيلاً: جميعاً، من: قبائل العرب، وقبائل الرأس -وهي الشؤون- لاجتماع بعض منها إلى بعض. الزخرف: الذهب. وقيل: نقوش الذهب وتحاسينه. (مثبوراً) مهلكاً. والثبور: الهلاك. وقال المأمون يوماً لرجل: يا مثبور، ثم حدث عن الرشيد عن

المهدي عن المنصور عن ميمون بن مهران عن ابن عباس: أن المثبور ناقص العقل.

(لفيفاً) جميعاً، من جهات مختلفة. وتوحيده على معنى المصدر. [تمت سورة الإسراء]

سورة الكهف

سورة الكهف (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيماً) أي: أنزل الكتاب قيماً على الكتب كلها. وقيل: مستقيماً، إليه يرجع، ومنه يؤخذ. (ولم يجعل له عوجا) أي: عدولاً عن الحق والاستقامة. (كبرت كلمة) أي: كبرت الكلمة كلمة، نصب على القطع. (باخع نفسك) قاتلها.

(صعيداً) أرضاً مستوية. (جرزاً) يابسة لا نبات فيها. أو كأنه حصد نباتها، من الجزر وهو القطع. (والرقيم) اسم الجبل الذي كان فيه الكهف. وقيل: إنه واد عند الكهف، ورقمة الوادي: موضع الماء. (فضربنا على ءاذانهم)

[كقولك]: ضربت على يده: إذا منعته التصرف. قال الأسود بن يعفر: 713 - ومن العجائب لا أبا لك أنني ... ضربت على الأرض بالأسداد 714 - لا أهتدي [فيها لموضع] تلعة ... بين بين العذيب وبين أرض مراد. (أي الحزبين أحصى) الفتية أم أهل زمانهم. (مرفقاً) معاشاً في سعة.

وقيل: مخلصاً. ويجوز أن يكون اسماً وآلة لما يرتفق به، والاسم كمرفق اليد، وكالدرهم، والمسحل للحمار الوحشي، والآلة: كالمقطع والمثقب. (تزاور) تميل وتنحرف. (تقرضهم) [تحاذيهم]. وقيل: تقطعهم.

(فجوة) متسع، وإنما كان هذا لئلا يفسدهم ضيق المكان بعفنه، ولا يؤذيهم عين الشمس بحرها. الوصيد: فناء الباب. وقيل: عتبة الباب. أو الباب نفسه، ومنه أوصدت الباب: إذا أطبقته. (وكذلك أعثرنا عليهم) أي [كما] أطلعناهم على أمرهم وحالهم/في مدة نومهم، أطلعناهم على

أمر القيامة، [فنومهم] الطويل شبيه بالموت، و [البعث] بعده [شبيه بالبعث]. وإنما دخل الواو في الثامن، لأنه ابتداء العطف بها، لأن الكلام كأنه [تم] بالسبعة، لأن السبعة عدد كامل -كما سبق ذكره-، وبعض الناس يقول: إن هذه واو الثمانية لا يذكر إلا بها. (ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعاً) لتفاوت ما بين السنين المذكورة على التقريب من مدة قطع الشمس البروج [الإثنى] عشر في كل ثلاث مائة وخمسة وستين يوماً، ومن قطع القمر إياها في كل ثلاث مائة وأربعة وخمسين يوماً وكسراً.

وتنوين "ثلاث مائة" على أن يكون سنين بدلاً، أو عطف بيان، أو تمييزاً، لأن "ثلاث مائة" تتناول الشهور والأيام. ومن لم ينون للإضافة، اعتمد على الثلاث دون المائة، لأنه لا يقال: مائة سنين، بل مائة سنة، وإنما يقال: ثلاث سنين بالجمع فيما دون العشر. (ملتحداً) معدلاً، عن الأخفش. ومهرباً عن قطرب.

(ولا تطع من أغفلنا قلبه) وجدناه غافلاً، قال: 715 - [فأصممت] عمراً وأعميته ... عن الجود والمجد يوم الفخار. [وقال]: 716 - لقد أخبرت لقحة آل عمر [و] ... وأخبر دونها الفرس الخبير أي وجدتها خبراً، والخبر: الغزيرة. وفسر خالد بن كلثوم:

717 - فما [أفجرت] حتى أهب بسدفة ... غلاجيم [عين] ابني صباح [نثيرها] على رؤية الفجر ومصادفته. وقال أبو الفتح بن جني في الخصائص: "لو كان [أغفلنا] بمعنى صددنا، ولم يكن بمعنى صادفنا، لكان العطف بالفاء دون الواو، أي: كان "فاتبع هواه" حتى يكون الأول على للثاني، والثاني مطاوعاً، كقولك: سألته فبذل، وجذبته فانجذب". (فرطاً) ضياعاً، والتفريط في حق الله: تضييعه. وقيل: قدماً في الشر، فرس فرط: يقدم الخيل. وقيل: سرفاً وإفراطاً.

(أحاط بهم سرادقها) [روى] [يعلى بن] أمية، عن النبي عليه السلام "أن سرادقها هي البحر المحيط بالدنيا". وقال قتادة: سرادقها دخانها ولهبها. المهل: دردي الزيت، عن ابن عباس. والصديد، عن مجاهد. وكل جوهر معدني إذا أذيب أزبد [وانماع]، عن ابن مسعود.

الأساور: جمع إسوار، وأسورة. والأرائك: الأسرة. وقيل: الأكلة. (كلتا الجنتين ئاتت أكلها) كلتا وإن كانت في المعنى جمعاً، فلفظها واحد، [فلذلك] لم يقل آتتا، قال الأعشى: 718 - وما ذنبنا أن جاش بحر ابن عمكم ... وبحرك ساج لا يواري الدعامصا 719 - كلا أبويكم كان فرعاً دعامة ... ولكنهم زادوا وأصبحت ناقصا.

([و] لم تظلم) لم [تنقص]. (وكان له ثمر) أموال مثمرة نامية. (حسباناً) ناراً. وقيل: برداً. وقيل: عذاباً بحساب، لأن عذاب الله يكون بحساب [الذنب]. وقيل: إن أصل الحساب، سهام ترمى في مرمى واحد.

(صعيداً زلقاً) أرضاً ملساء، لا ينبت فيها نبات ولا يثبت عليها قدم. (أو يصبح ماؤها غوراً) أي: ويصبح غائراً، أقيم المصدر مقام الوصف. قال الراجز: 720 - شتان هذا والغناء والنوم ... والمشرب البارد والظل الدوم. (يقلب كفيه) يضرب إحداهما على الأخرى تحسراً. (لكنا) أصله "لكن أنا" بإشباع ألف "أنا"، فألقيت حركة الهمزة من "أنا" على النون الساكنة في "لكن"، كما قالوا في الأحمر: الحمر، فصار "لكننا" بنونين، فأدمغت إحداهما في الأخرى، فصار "لكنا"، كقوله: (مالك لا تأمنا).

وفي (أنا) بعد [لكن] ضمير الشأن والحديث، أي: لكن أنا، الشأن والحديث (الله ربي). قال: 721 - [وترمينني] بالطرف أي: أنت مذنب ... [وتقلينني] لكن إياك لا أقلي. (هنالك الولاية) بالفتح، مصدر الولي: أي: يتولون الله يومئذ ويتبرؤون مما سواه. وبالكسر: مصدر الوالي، أي: الله [يلي جزاءهم] يومئذ. وقيل: عما سواء، [كالجداية] والجداية في الأسماء، والوصاية في المصادر.

(لله الحق) كسر الحق على الصفة لله، أي: الله على الحقيقة. ورفعه على النعت للولاية. (وخير عقبا) أي: الله خير لهم في العاقبة. (كماء أنزلناه) تمثيل الدنيا بالماء، من حيث إن أمورها في السيلان، ومن حيث إن قليلها كاف، وكثيرها إتلاف، ومن حيث اختلاف أحوال بنيها، كاختلاف ما ينبت بالماء من النبات. (فأصبح هشيماً) الهشيم: النبت إذا جف وتكسر، فذرته الرياح، ويشبه به فانية المتاع، وضعفة الناس، قال ابن ميادة: 722 - أمرتك يا رياح بأمر حزم ... فقلت هشيمة من أهل نجد.

723 - نهيتك عن رجال من قريش ... على محبو [كة] [الأصلاب] جرد (تذروه الرياح) يقال: ذرته الريح، وذرته، [وأذرته] إذا نسفته فطارت به. (وخير أملاً) لأنه لا يكذب، بخلاف سائر الآمال. (وترى الأرض بارزة) لا يسترها جبل. وقيل: قد برز ما في بطنها من الأموات والكنوز.

(لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة) أي: أحياء. (موبقاً) [محبساً]. وقيل: مهلكاً. (قبلاً) مفاجأة. وقيل: أنواعاً من العذاب، كأنه جمع قبيل.

وقيل: مقابلة وهو معنى "قبلاً". (ليدحضوا به الحق) ليبطلوه ويزيلوه. والدحض: المزل المزلق، قال: 724 - وأستنقذ المولى من الأمر بعدما ... يزل كما زل البعير عن الدحض. (موئلاً) منجاً.

وقيل: ملجأ. كما قال حسان: 725 - أقمنا على الرس النزوع لياليا ... بأرعن جرار عظيم المبارك 726 - [نسير] فلا تنجو اليعافير وسطنا ... وإن وألت منا بشد [مواشك]. (لمهلكهم) أي: لإهلاكهم فهو على هذا مصدر، كقوله تعالى: (مدخل صدق) قال: 727 - ألم تعلم مسرحي القوافي ... فلا عياً بهن ولا اجتلابا

أي: تسريحي. ويجوز أن يكون "مهلكهم" اسماً لزمان الهلاك، أي: جعلنا لقوت إهلاكهم موعداً. ولكن المصدر أولى وأفصح [لتقدم] (أهلكناهم)، والفعل يقتضي المصدر وجوداً وحصولاً، وهو المفعول المطلق، ويقتضي الزمان والمكان محلاً وظرفاً. وكل فعل زاد على ثلاثة أحرف، فالمصدر، واسم الزمان، والمكان، [منه] على مثال المفعول به. وإذا كان المهلك اسماً لزمان الهلاك، لا يجوز الموعد اسماً للزمان أيضاً، لأن الزمان وجد في المهلك، فلا يكون للزمان زمان، بل يكون الموعد بمعنى المصدر، أي: جعلنا لزمان هلاكهم وعداً، وكذلك على العكس: إذا جعل المهلك مصدراً، كان الموعد اسم الزمان. وهذا من المشكل على كثير من الناس، حتى على الأصمعي، فإنه أنشد للعجاج:

728 - جأباً ترى تليله مسحجاً. فقال أبو حاتم: إنما هو بليته. فقال: من أخبرك بهذا؟. فقال: من سمعه من فلق [في] رؤبة -يعني أبا زيد- قال: هذا لا يكون. فقال: بلى جعل "مسحجاً" مصدراً، كما قال: 729 - ألم تعلم مسرحي القوافي .... .... .... .... فكأنه أراد أن يدفعه، فقال: قال الله عز اسمه: (ومزقناهم كل ممزق)، فسكت.

(وإذ قال موسى لفتاه) وهو ابن أخته يوشع بن نون. (لا أبرح) لا [أ] زال أمشي. (مجمع البحرين) بحر روم، وبحر فارس، يبتدئ أحدهما من المشرق، والآخر من

المغرب، حتى يلتقيا. وقيل: أراد بالبحرين الخضر وإلياس بغزارة علمهما. (حقباً) حيناً طويلاً. يقال: إنه ثمانون سنة.

وقيل: أقل من ذلك. (فلما بلغا مجمع بينهما) أي: أفريقية. (فاتخذ سبيله في البحر) أي: الحوت أحياه الله، فطفر في البحر. (سرباً) مسلكاً. (ذلك ما كنا نبغي) كان أوحي إلى موسى، أنك تلقى الخضر حيث تنسى شيئاً من متاعك.

(فارتدا على ءاثارهما قصصاً) أي: رجعا يقصان الأثر ويتبعانه. (شيئاً إمراً) عجباً. (لا تؤاخذني بما نسيت) أي: تركت. (ولا ترهقني) ولا تعاسرني. (زاكية) التي لم تذنب، و (زكية) التي غفر لها ذنبها.

وقيل: الزكية: في الدين والعقل، والزاكية: في البدن، أي: تامة نامية، وهو معنى قول ابن عباس: "إن المقتول كان شاباً يقطع الطريق". والبالغ يقال له: الغلام، أيضاً، كما قالت الأخيلية: 729 - إذا نزل الحجاج أرضاً مريضة ... تتبع أقصى دائها فشفاها 730 - شفاها من الداء العضال الذي بها ... غلام إذا هز [القناة] سقاها. (يريد أن ينقض) يكاد أن ينقض.

وحكى الصولي في معانيه: أن بعض الكتاب أنكر الإرادة للجماد، وتكلم على وجه الطعن، فألقمته الحجر بقول الراعي: 731 - في مهمه فلقت بهاها ماتها ... فلق الفؤوس إذا أردن [نصولا]. (فخشينا) كرهنا.

وقيل: علمنا. وخشي مثل حسب، وظن، من الأفعال التي تقارب أفعال الاستقرار والثبات. (وأقرب رحماً) أكثر براً لوالديه، وأتم نفعاً. (من كل شيء سبباً) علماً يتسبب به إلى نيله. (فأتبع سبباً) أي: طريقاً من المشرق والمغرب، كقوله: (أسباب السماوات)، أي: طرائقها. (وجدها تغرب في عين حمئة) ذات حمأة.

فإن من ركب البحر وجد الشمس تطلع وتغرب منها رؤية لا حقيقة. (جزاء الحسنى) أي: الجنة الحسنى، فحذف الموصوف اكتفاءً بالصفة. وربما نون الجزاء، ثم يكون الحسنى بدلاً منه. (لم نجعل لهم من دونها ستراً) أي: كنا ببناء أو بخمر، وقيل: بل أراد دوام طلوعها عليهم في الصيف، وإلا فالحيوان يحتال للكن، حتى الإنسان.

ولكن وراء بربر من تلقاء بلغار، إذا سلك السالك منهم لحق القطب في البحر -لامتناع المسير في البر- وصل إلى حيث يبطل الليل في الصيف بواحدة، وتدور الشمس ظاهرة فوق الأرض. وقد حكي أن رسولاً من أهل بلغار، ورد على الأمير الماضي -أنار الله برهانه- وكان بلغ الموضع المذكور، فحكاه بين يديه، وكان -رحمه الله- عظيم الصلابة في دين الله، فتسارع إلى شتم الرجل، ونسبته إلى إلحاد على براءة أولئك القوم عنه حتى قال له الشيخ أبو نصر بن مشكان: إن هذا لا

يذكره عن رأي ومذهب، وإنما يحكيه عن رؤية وعيان، والقرآن يشهد له بذلك في قوله: (لم نجعل لهم من دونها ستراً) فلم يقنعه حتى سأل/أصحاب العلم بالنجوم عنه، فوصفوا له بصور إقناعية. فقال: كيف تعرفون؟ والله يقول: (ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض)؟! فقيل: كما نعرف تشريح أبداننا، وقد قال: (ولا خلق أنفسهم) فكف عن الرجل. (خرجاً) خراجاً، [كالنبت والنبات]، والحصد والحصاد، وقيل: الخرج: الفيء، والخراج: الضريبة والجزية.

وقال الفراء: الخراج من الأرض، والخرج: فيما يخرج من سائر الأموال. (زبر الحديد) قطعاً منه. (بين الصدفين) بين الجبلين، كل واحد منهما يصادف صاحبه ويقابله. وقيل: بل كل واحد منهما ينحرف ويتزاور عن صاحبه، فيكون بمعنى الصدوف والصدود. (قطراً) نحاساً مذاباً. (أن يظهروه) أن يعلوه.

(وما استطاعوا له نقباً) من أسفله. (دكاء) هدماً، حتى يندك ويستوي بالأرض. (وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض) أي: يختلط كما يختلط أمواج البحر بعضها في بعض. [تمت سورة الكهف]

سورة مريم

سورة مريم (ذكر رحمت ربك) أي: هذا ذكر، أو فيما أنزل عليك ذكر. (واشتعل الرأس شيباً) نصب على المصدر، كأنه شاب الرأس شيباً. ويجوز على [التمييز]، كقولك: ضقت به ذرعاً، وتصببت عرقاً. (يرثني) بالرفع، على صفة الولي ومعنى النكرة، لأن صفة النكرة نكرة، أي: ولياً وارثاً.

وإنما دعا أن يرثه [الدين] والعلم، لئلا يغير بنو عمه كتبه. (عتياً) سناً عالياً. و [العاتي] والعاسي الذي أيبسه الكبر، وأعجفه السن. (وحناناً لمن لدنا) رحمة من عندنا. وقيل: تعطفاً وتحنناً على [عبادنا]، وإنما فسر بالتحنن، لأنه لم يوجد له فعل ثلاثي. (انتبذت) تباعدت وانفردت.

البغي: الفاجرة، مصروفة عن الباغية. أو بمعنى [المفعولة]، يقال: نفس [قتيل]، وكف خضيب. (فأجاءها المخاض) ألجأها [أ] و [جاء] بها، كما قال زهير في المعنيين: 732 - وسار سار معتمداً علينا ... أجاءته المخافة والرجاء 733 - ضمنا ماله فغدا سليماً ... علينا نقصه وله النماء. (نسياً منسياً)

مصدر موصوف، كقوله: (حجراً محجوراً). وقيل: إن النسي: اسم ما يرمى به لوتاحته وحقارته. وفي الشعر للشنفري: النسي: المفقود، فيكون المنسي غير معنى النسي، قال: 734 - لقد أعجبتني لا سقوطاً قناعها ... إذا ما مشت ولا بذات تلفت 735 - كأن لها في الأرض نسياً تقصه ... على أمها وإن تكلمك تبلت. (تحتك سرياً) أي: شريفاً وجيهاً، قال السدي: إنه كان والله سرياً.

وقيل: السري: النهر الصغير، لكون الرطب طعامها، والنهر شرابها. قال لبيد: 736 - سحق يمتعها [الصفا] وسريه ... عم نواعم بينهن كروم. (تساقط) أي: [تـ]ـتساقط، فأدغمت التاء في السين، لأنهما مهموستان. (رطباً جنياً) نصب على [التمييز]. وقيل: على وقوع الفعل عليه، لأن التساقط متعد، مثل: تقاضيته، وتناسيته، قال الله تعالى: (لولا أن تداركه نعمة).

وقيل: تقدير الكلام "وهزي رطباً جنياً بجذع النخلة تساقط عليك". (فأتت به قومها تحمله) يجوز أن يكون (تحمله) حالاً منها ويجوز منه، ويجوز منهما، على قوله: 737 - [فلئن] لقيتك خالياً لتعلمن ... أيي وأيك فارس الأحزاب ولو كانت الآية "فأتت به قومها تحمله إليهم"، لجاز أن يكون تحمله حالاً منها، ومنه، ومنهما، ومنهم جميعاً، لحصول الضمائر في الجملة التي هي حال. (فرياً) عجيباً.

وقيل: مفترى، من الفرية. (من كان في المهد صبياً) أي: من يكن في المهد، كيف نكلمه. على الشرط والجزاء، فوضع الماضي موضع الاستقبال، لأن الشرط لا يكون إلا في المستقبل، وقد يوضع كان موضع يكون، ويكون موضع كان، قال جرير: 738 - لقد وجداني حين مدت حبالنا ... أشد محاماة وأبعد منزعا 739 - فأدركت من قد كان قبلي ولم أدع ... لمن كان بعدي في القصائد مصنعا وقال الصلتان:

740 - فإذا مررت بقبره فاعقر به ... كوم الهجان وكل طرف سائح 741 - وانضح جوانب قبره بدمائها ... فلقد يكون أخادم وذبائح. (فاختلف الأحزاب) لأنهم تحزبوا إلى يعقوبية، وملكائية، ونسطورية، وغيرها. (أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا) أي: إن عموا وصموا عن الحق في الدنيا، فما أسمعهم يوم القيامة. ووجه التعجب أنهم يسمعون ويبصرون حيث لا ينفعهم. (واهجرني ملياً)

حيناً طويلاً. (حفياً) لطيفاً رحيماً. والتحفي: التلطف في القول والفعل، والحفاوة: الرأفة والكرامة. (فخلف من بعدهم خلف) الخلف في البقية الفاسدة، والخلف في الصالحة، وأنشد أبو عبيد: 742 - عرقت أبوك ولا أراك معرقاً ... وأباك دار في انتخاب المولد 743 - فاخلفه لبيك ولا تكن خلفاً ... ومن يخلف ولا يخلف أباً لا يرشد. وإعراب هذا الشعر من المشكلات، وسنشرحها إن شاء الله.

(يلقون غياً) خيبة، وقيل: شراً. وقيل: حذف منه المضاف، أي: جزاء الغي، كقوله تعالى: (يلق أثاماً). قال أنس بن [مدرك] الخثعمي: 744 - ومقوز يأبى الظلام شهدته ... والليل أليل ماله لألاء 745 - فرجت عنه بطعنة مشفوعة ... للنيب حول رشاشها ضوضاء. أي: [يأبى] رد الظلامة، فحذف المضاف.

(جثياً) و (عتياً) من بنات الواو، إلا أنها قلبت ياء لموافقة رؤوس الآي. وقيل: بل هو الوجه، لأن الواو وقعت طرفاً في موضع الإعلال، وقبلها ضمة، إذ أصلها "جثوواً". 746 - إذ [ا] الخصوم اجتمعت جثياً ... وجدت ألوى محكاً أبيا. (صلياً) دخولاً. وقيل: لزوماً. قال كليب وائل:

747 - قربا مربط النعامة مني ... لقحت حرب وائل عن حيال 748 - لم أكن من جناتها علم الله ... وإني لحرها اليوم صالي. (وإن منكم إلا واردها) منكم بمعنى منهم، وكذلك قرئت في بعض [القراءات]، كقوله: (إن هذا كان لكم جزاء) بعد قوله: (وسقاهم ربهم). وقيل: إنه ورود حضور، لا ورود دخول، كقول زهير:

749 - ولما وردن الماء زرقاً جمامه ... وضعن عصي الحاضر [المتخيم]. (حتماً) أي: حقاً، وليس التفسير بالواجب صحيحاً. كما قال الهذلي: 750 - فوالله أنساتيك ما عشت ليلة ... صفي من الإخوان والولد الحتم. وقال: 751 - وما أحد حي تأخر يومه ... بأخلد ممن صار قبل إلى الرجم

752 - سيأتي على [الباقين] يوم كما أتى ... على من مضى حتم عليهم من الحتم. ([و] رءياً) مهموزاً ساكنة على وزن رعي، اسم المرئي. يقال: رأيته رؤية ورأياً. [والمصدر] رئي، كالرعي والرعي، والحمل والحمل، أي: أحسن متاعاً ومنظراً. وقيل: أحسن ما لا يراه الناس وهو الأثاث، وما يراه الناس وهو الرئي. وأما "الري" مشدداً غير مهموز، فهو من الري: الشباب، وارتواء النعمة. قال المزرد:

753 - وأسحم ريان القرون كأنه ... أساودرمان السباط الأطاول 754 - وتخطو على برديتين غذاهما ... نمير المياه والعيون [الغلاغل]. (فليمدد له الرحمن مداً) أي: فليدعه في ضلالته وليمله في غيه. (وخير مرداً) أي: مرجعاً يرد إليه. (تؤزهم أزاً)

تزعجهم إزعاجاً. وقيل: تهيجهم وتثيرهم، وفي الحديث: "ولجوفه أزيز كأزيز المرجل". (نعد لهم عداً) أي: أعمالهم للجزاء. وقيل: أنفاسهم للفناء. (وفداً) ركباناً مكرمين.

وقيل: زواراً مجتمعين. (ورداً) عطاشاً من ورود الإبل. (إداً) منكراً عظيماً. وقيل: داهية شديدة. (ركزا) صوتاً خفياً. [تمت سورة مريم]

سورة طه

سورة طه (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) لتتعب بقيام جميع الليل. وقيل: لتحزن على قومك بأن لا يؤمنوا. (يعلم السر) السر ما يسره العبد عن غيره. (وأخفى) ما يخطر بالبال، ويهجس في الصدر. (ءانست ناراً) أبصرتها، قال الفرزدق: 755 - وركب كأن الريح تطلب عندهم ... لها ترة في جذبها بالعصائب

756 - إذا آنسوا ناراً يقولون ليتها ... وقد خصرت أيديهم نار غالب (طوى) لم ينصرف للعجمة والتعريف، [فإنه] اسم أعجمي [لواد] معروف. (أكاد أخفيها) أريد أخفيها. والمعنى: مقاربة كونها مع تبعيد العلم بوقتها. وقيل: في الكلام إضمار، أي: أكاد أظهرها، ثم قال: (أخفيها لتجزى كل نفس)، وذلك لأن من الحكمة والمصلحة في التكليف إخفاء أمر الساعة،

ليتوهم العبد صباح مساء فلا يفرط في التوبة، قال البرجمي: 757 - هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله أي: وكدت أقتله. وعلى قول أبي عبيدة وقطرب: إن أخفيها: أظهرها، لا يكون للتعليل، وإن جاء أخفي بمعنى أظهر. قال عبدة بن الطبيب: 58 - يخفي التراب بأظلاف ثمانية ... في أربه مسهن الأرض تحليل

أي: يظهر التراب، ويستخرجه [بأظلافه] لشدة عدوه. ومنه الحديث: "لا قطع على المختفي". والصحيح أن البيت يخفي التراب بفتح الياء، كما في شعر امرئ القيس: 759 - خفاهن من أنفاقهن كأنما ... خفاهن [ودق] من عشي [مجلب]. (أتوكؤا) كاء عليه اعتمد.

(وأهش) أخبط الورق [للغنم]. (ولي فيها مئارب أخرى) قال ابن الأعرابي: العصا يكون مع [الراعي]، [فيذود] بها غنمه، ويطرد بها الذئب، ويقابل بها الخارب، ويهش بها على غنمه إذا [قل] المرعى، ويأتي بها [البغيبغ] الذي لا تناله يده. -والبغيبغ: ماء قريب من اليد- فيشد صفنه بطرف العصا، فيستقي، ويتعب الراعي فيتكئ عليها، فيزيل تعبه، فيجعلها على كتده بين وايلتي كتفيه، فيجعل بدنه/عليها، ويمشي، فكأنه محمول، ثم يأتي منزله، فيجعلها كالوتد، فيعلق عليها ثيابه، ثم ينكسر العصا، فيجعل منه أوتاداً،

ثم يكسر الأوتاد فيجعل منها أخشة، ثم تبلى الأخشة وتتكسر، فيأخذ دقاقها فيجعل أخلة، ثم يأخذ البواقي، فيجعله توادي، ثم تتفتت التوادي فتصير فتاتاً، فيسمون ذلك الفتات أوقاصاً، فإذا تعسرت النار واشتعالها، قيل له: وقص على نارك، فيلقي عليها من تلك الأوقاص، فتشتعل حتى ترى لها [كالحية أي: لساناً]، وأنشد على هذا: 760 - أقسم بالبيت العتيق والصفا 761 - أنك خير من تفاريق العصا. (ءاياتنا الكبرى)

أراد الكبر، كقوله في نعت مآرب، (أخرى)، والمراد أخر، ولكن جرياً على نظام الآي. وقيل: من آياتنا الآية الكبرى. (ولتصنع على عيني) أي: بإرادتي ورعايتي. (وفتناك فتوناً) بلوناك بلاء، بعد بلاء. وقيل: خلصناك تخليصاً. وأصله من فتنت الذهب بالنار، وذلك أن الله ابتلاه عند الولادة وبعدها،

وحين البعثة بأنواع من البلاء، فخلص منها خلوص الذهب من اللهب. (ثم جئت على قدر) أي: موعد ومقدار للرسالة، وهو أربعون سنة، فبعدها يوحى إلى الأنبياء. (لعله يتذكر أو يخشى) على رجاء الرسول، لا المرسل. إذ لو يئس الرسول من ذلك لم يصح الإرسال. وقيل: إن الكلام معدول عن [المرسل إليه] كأن القول: لعله يتذكر

متذكر عنه، وما [حل] به، ويكون لعله حينئذ للإيجاب. كما في قول الشاعر: 762 - وقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا ... نكف ووثقتم لنا كل موثق 763 - فلما كففناها وجدنا عهودكم ... كضاحي سراب بالملا مترقرق. (نخاف أن يفرط علينا) يعجل بقتلنا. (أعطى كل شيء خلقه) أي: صورته التي لا يشبهه فيها غيره. وقيل: إن المراد صورة الأنواع المحفوظة بعضها عن بعض، فلا يكون على صورة نوع من حيوان نوع آخر.

وقيل: أعطى كل شيء من الأعضاء خلقه، فأدرك كل حاسة بإدراك، وأنطق اللسان، ومكن اليد من البطش، والأعمال العجيبة، والرجل من المشي. (خلق كل شيء فقدره تقديراً). (ثم هدى) للمعيشة في الدنيا، والسعادة في الآخرة. (قال فما بال القرون الأولى) وذلك أنه حذره البعث، فقال: ما بال الأمم الخالية كيف يبعثون؟ ومتى يبعثون وهم رمم بالية؟. (مكاناً سوى) -بكسر السين، وضمها- هو المكان النصف بين الفريقين، تستوي مسافته عليهما. و (يوم الزينة)

ارتفع [يوم لأنه خبر (موعدكم). على أن الموعد اسم زمان الوعد أو مكانه، ومن نصب]، نصبه على الظرف للموعد، وجعل الموعد حدثاً كالوعد، أي: وعدكم في يوم الزينة، لئلا يؤدي إلى إدخال الزمان في الزمان. (فيسحتكم) يستأصلكم، [سحت] وأسحت. (إن هذان لساحران) قال أبو عمرو: إني لأستحي من الله أن أقرأ: "إن هذان"، والقرآن أنزله بأفصح اللغات، وكان يقرأ: إن هذين.

وأما خط المصحف: فقد روى عيسى بن عمر أن عثمان قال: أرى فيه لحناً ستقيمه العرب بألسنتها. وقرأ ابن كثير: "إن هذان" بجزم النون، فيكون ارتفاع هذان على وجهين: أحدهما: أنها خفيفة من الثقيلة،/فضعفت في نفسها فلم تعمل فيما بعدها، فارتفع ما بعدها على الابتداء والخبر، ودخل اللام الخبر للفرق بينها، وبين "إن" التي هي نافية، بمعنى [ما].

والثاني: أنها بمعنى "ما"، واللام في خبرها بمعنى "إلا" أي: "ما هذان إلا ساحران" كقوله: (وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين) أي: إلا فاسقين، وقوله: (وإن نظنك لمن الكاذبين). وأما القراءة المعروفة، فيقال: إنها جاءت على لغة كنانة وبلحارث بن كعب، وخثعم، وزبيد، ومراد، وبني عذرة، وجماعة من قبائل اليمن،

فإن في لغاتها أن الثنية في الأحوال بالألف، ولا يختلف إعرابها، وأنشد: 764 - إن أباها وأبا أباها 765 - قد بلغا في المجد غايتاها ويقال أيضاً "إن" بمعنى ["نعم". وقيل: هو على حذف الهاء، بمعنى "إنه"] كما قال عبد الله بن قيس: 766 - بكرت علي عواذلي ... يلحينني وألومهنه 767 - ويقلن شيب قد علاك ... وقد كبرت فقلت إنه

إلا أن التعسف في القولين ظاهر، لأن لام التوكيد يختص بخبر إن. والأوجه: ما قاله أبو علي -رحمه الله-: إن [هذان] ليس بتثنية "هذا"، لأن هذا من أسماء الإشارة، فلا يكون أبداً إلا معرفة، والتثنية من خصائص النكرات كالجمع، لأن واحداً أعرف من اثنين، فلما [لم] يصح تنكير "هذا" لم يصح تثنية "هذا" من لفظه، ألا ترى أن: أنت، وهو، وهي -لما كانت معارف- لم يثن على لفظها، فلا يقال: أنتان، وهوان، وهيان. وإذا [مست] الحاجة إلى تثنيتها، يصاغ لها أسماء مبنية لا [تختلف] أبداً على صورة الأسماء المثناة، وهي: أنتما، وهما. [فكذلك] صيغ لـ"هذا" عند التثنية [لفظ مخترع مبني]، لا يعمل فيها

عامل ألا ترى أنهم كيف فعلوا في "الذين" هكذا. (فأجمعوا أمركم) يكون إجماع الأمر بمعنى جمعه، وبمعنى اجتماع الرأي والتدبير. قال: 768 - يا ليت شعري والمنى لا تنفع ... هل أغدون يوماً وأمري [مجمع]. (ثم ائتوا صفاً) أي [مصطفين] جميعاً.

وقال أبو عبيدة: الصف: مجتمع القوم، وحكى عن [أبي] العرب: ما [ا] استطعت أن آتي الصف، يعني المصلى. (فأوجس) أسر وأخفى. (تلقف ما صنعوا) تأخذ [هـ] بفيها وتبتلعها. (لا تخاف دركاً) منصوب على [معنى] الحال، اي: اضرب لهم طريقاً غير خائف. ويجوز كونه منصوباً على نعت الطريق، أي: طريقاً يبساً مأموناً غير مخشي فيه الدرك.

(ما أخلفنا موعدك بملكنا) بطاقتنا. وقيل: لم نملك أنفسنا. (ولكنا حملنا أوزاراً من زينة القوم) وذلك أن السامري قال لهم: إنها أوزار الذنوب، و [الـ]ـمال الحرام، فاجمعوه وانبذوه في النار، وكان صائغاً. (فنسي) ترك السامري إيمانه. وقيل: هو قول السامري: إن موسى نسي إلاهه عندكم، فلذلك أبطأ. (فقبضت قبضة من أثر الرسول) [96]

أي: من تراب حافر فرس الرسول، فحذف المضافات. (فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس) وذلك أن موسى أمر بني إسرائيل: أن لا تقاربوه، ولا تخالطوه. وقيل: إن السامري هرب من الناس، وتوحش في البراري خوفاً على نفسه، لا يماس أحداً، أي لا يدنو منه. قال: 769 - حتى تقول الأزد [لا مساسا] أي: لا خلاط. (ظلت) ظللت، فخفف كقولهم: مست في مسست وأحست/في أحسست. قال الراجز:

770 - ظلوا يحجون وظلنا نحجبه 771 - وظل يرمى بالحصى [مبوبه]. (لننسفنه) نذرينه، نسف الطعام بالمنسف: إذا ذراه لتطير قشوره. (زرقاً) عمياً. وقال الأزهري: تزرق عيونهم لشدة العطش، وهو كما تزرق لشدة الغضب. قال ضرار بن الخطاب: 772 - إني لأنمى إذا انتميت إلى ... عز رفيع ومعشر صدق

774 - بيض جعاد كأن أعينهم ... تكحل عند [الهياج] بالزرق. (يتخافتون) يتناجون. (عوجاً) غوراً. و (أمتاً) نجداً. وقيل: الأمت: الأخاديد في الأرض. (همساً) صوتاً خفياً. (وعنت الوجوه) ذلت وخشعت، ومنه العاني للأسير.

(ولا تعجل بالقرآن) لا تسأل إنزاله قبل أن يوحى إليك. وقيل: إنه كان يعاجل جبريل عليهما السلام في التلقن حرصاً. (فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى) أي: فتشقى أنت وزوجك. وقيل: لأن الرجل هو الذي يكدح في المعيشة، ويشقى بالكسب، والمرأة: تنعم بالهاء مكفية، كما قال المخزومي: 774 - وأعجبها في عيشها ظل غرفة ... وريان ملتف الحدائق أخضر 775 - ووال كفاها كل شيء يهمها ... فليست لشيء آخر الدهر تسهر.

(ولا تضحى) لا تظهر لحر الشمس. قال المخزومي أيضاً: 776 - رأت رجلاً أما إذا الشمس عارضت ... فيضحى وأما بالعشي فيخصر 777 - أخا سفر جواب [قفر] تقاذفت ... به فلوات فهو أشعث أغبر. (فغوى) فضل عن الرأي. (ولولا كلمة سبقت) تقديره: ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاماً، أي: عذاباً لازماً عاجلاً فقدم وأخر/، كما قال جرير:

778 - طاف الخيال وأين منك لماما ... فارجع لزورك بالسلام سلاما. أي: طاف الخيال لماماً، وأين منك. وقال الأخطل: 779 - إن الفرزدق صخرة [ملمومة] ... طالت فليس تنالها [الأوعالا] أي: طالت الأوعال. [تمت سورة طه]

سورة الأنبياء

سورة الأنبياء عليهم السلام (اقترب للناس حسابهم) [اقترابه] من وجهين: أحدهما: أن كل آت قريب. والثاني: قلة ما يبقى بالقياس إلى ما مضى. (محدث) أي: في التنزيل. (لاهية) مشتغلة عنه من لهيت ألهي. ويجوز طالبة للهو، من لهوت ألهو. وإذا تقدمت الصفة على الموصوف، انتصب. كقول الشاعر:

780 - [لـ]ـمية موحشاً طلل ... [يلوح] كأنه خلل. (وأسروا النجوى الذين ظلموا) جاء على قولهم: أكلوني البراغيث. (أفتأتون السحر) أفتقبلونه؟ (فيه ذكركم) شرفكم إن عملتم به. (يركضون) [يسرعون، ويستحثون]، ركضت الفرس، إذا حثثته على المر السريع،

فعدا، ولا يقال فركض. (لعلكم تسئلون) أي: لتسألوا عما كنتم تعملون. وقيل: إنه على [استهزاء بهم]. (حصيداً خامدين) أي: خمدوا كالنار، وحصدوا كما يحصد الزرع بالفأس. ([و] لا يستحسرون) لا يتعبون، ولا ينقطعون عن العمل، من البعير الحسير، وهو المعيى. (ينشرون) يحيون الموتى، أنشر الله الموتى فنشروا. (ومن يقل منهم إني إله)

قيل: إنه إبليس في [دعائه إلى] طاعته. (كانتا رتقاً) [ملتصقتين] ففتق الله بينهما بالهواء. وقيل: فتق السماء بالمطر، والأرض بالنبات. (يذكر ءالهتكم) يعيبهم. قال عنترة:

781 - لا تذكري فرسي وما أطعمته ... فيكون جلدك مثل جلد الأجرب (خلق الإنسان من عجل) فسر باسم الجنس، كقوله: (وكان الإنسان عجولاً) وفسر بآدم عليه السلام، وأنه لما نفخ فيه الروح، فقبل أن استكمله نهض. وقال الأخفش: معناه خلق الإنسان في عجلة. وذكر صاحب العين: أن العجل: الحمأة.

وذكر غلام ثعلب في الياقوتة: إنه التراب، وأنشد ابن الأعرابي: 782 - والنبع ينبت بين الصخر ضاحية ... خل ينبت بين الماء والعجل ووجه المطابقة بين ذلك وقوله: (فلا تستعجلون): أن من خلق الإنسان مع ما فيه من بديع الصنعة التي يعجز عنها كل قادر، ويحار فيها كل ناظر، لا يعجزه ما استعجلوه من الآيات. (فتبهتهم)

تفجؤهم. وقيل: [تحيرهم]. (نفحة) دفعة يسيرة. وقيل: نصيب، يقال: نفح له من العطاء، إذا أعطاه نصيباً منه. (ونضع الموازين القسط) على قولهم: قوم رضى وعدل. (جذاذاً) حطاماً، ويجوز قطعاً، جمع جذاذة، مثل: زجاجة وزجاج، و (جذاذاً): جمع جذيذ، مثل: خفيف وخفاف.

(فتى يذكرهم) يعيبهم. (قال بل فعله كبيرهم) أي: يجب أن يفعله كبيرهم -أن لو [كان] معبوداً على زعمكم- لئلا يعبد معه غيره، فهو على إلزام الحجة لا الخبر. وقيل: إنه خبر معلق بشرط لا يكون -وهو نطق الأصنام- فيكون نفياً [للمخبر به] كما قال:

783 - إذا شاب الغراب أتيت أهلي ... القار كاللبن الحليب. وقال آخر: 784 - وقد تركناك لا ترانا على بابك ... رى قفاك اللئيما. والكسائي [يقف] على "بل فعله" أي: بل فعله من فعله. ثم يبتدئ بقوله: (كبيرهم هذا). (إذ نفشت فيه غنم القوم) رعت ليلاً. يقال: نفشت الغنم نفشها [أهلها]، إن لم يكن معها راعيها فهي بالليل سدى وبالنهار همل. يقال: أسداها أهلها وأهملها، إذا فعلوا ذلك ثم غابوا.

(ففهمناها سليمان) فدفع الغنم إلى صاحب الحرث، لينتفع بدرها ونسلها، ودفع الحرث إلى صاحب الغنم، وجعل عليه عمارته، حتى إذا نبتت في السنة القابلة [ترادا]. اللبوس: الدرع. للواحد [و] الجميع. قال الراجز: 785 - إلبس لكل حالة لبوسها ... عيمها وإما بوسها. (وذا النون) أي: صاحب الحوت، وبه يفسر قوله: (ن والقلم)

في بعض الروايات. قال: 786 - زر جانب القصر نعم القصر والوادي ... ما شئت من حاضر فيه [ومن] بادي 787 - ترفي [سفاينه] والوحش راتعة ... والضب والنون والملاح والحادي

(إذ ذهب مغاضباً) أي: مغاضباً لقومه حين استبطأ وعد الله فخرج عن قومه بغير أمره، ولم يصبر، كما قال تعالى: (فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت). (فظن أن لن نقدر عليه) لن نضيق عليه كقوله: (ومن قدر عليه رزقه). وقيل: إنه على تقدير الاستفهام، أي: أفظن؟

(في الظلمات) ظلمة الليل، والبحر، وبطن الحوت. (إن هذه أمتكم) أي: دينكم (أمة واحدة) ديناً واحداً. ونصبه على القطع. وقيل: معناه إنكم خلق واحد، فكونوا على دين واحد. (وتقطعوا أمرهم بينهم) اختلفوا في الدين وتفرقوا. (وحرام) واجب. (على قرية) أهل قرية. (أهلكناها)

أي: بالعذاب. وقال عكرمة: وجدناها هالكة بالذنوب، كقولك: أعمرت بلدة وأخربتها، إذا وجدتها كذلك. (أنهم لا يرجعون) لا يؤمنون. (من كل حدب) الحدب فجاج الأرض. وقيل: قلاعها. (ينسلون) يخرجون. وقيل: يسرعون، من نسلان الذئب، قال الهذلي: 788 - حامي الحقيقة [نسال] الوديقة معـ ... ـتاق الوسيقة جلد غير ثنيان

789 - آبي الهضيمة ناب العظيمة متـ ... ـلاف الكريمة لا سقط ولا وان. (حصب جهنم) حطبها. وقيل: يحصبون فيها بالحصباء. (الفزع الأكبر) إطباق باب النار على أهلها، عن علي رضي الله عنه، وعن الحسن: أنه النفخة الأخيرة.

(كطي السجل) اسم الملك الذي يكتب الأعمال. وقيل: كاتب النبي عليه السلام. وقيل: اسم الصحيفة، فيكون الكاتب. [مصدراً] كالكتابة، نحو قوله: (وكل شيء أحصيناه كتاباً). (ولقد كتبنا في الزبور) زبور داود عليه السلام. (من بعد الذكر)

أي: التوراة. وقال مجاهد: (الزبور) الكتب المزبورة التي أنزلها الله على أنبيائه. و (الذكر): أم الكتاب. (ءاذنتكم على سواء) أمر بين سوي. وقيل: قصد عدل. (لعله فتنة) أي: إبقاؤكم على ما أنتم عليه، كناية عن مدلول غير مذكور. (قال رب احكم بالحق) أي: بحكمك الحق. وقيل: افصل بيننا بإظهار الحق.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا شهد حرباً قرأها. [تمت سورة الأنبياء]

سورة الحج

سورة الحج (كل مرضعة) إذا أريد فعل الإرضاع فهي مرضعة، وإذا أريدت الصفة فمرضع، مثل: شاة مقرب، وامرأة طالق. (كتب عليه) على الشيطان. (أنه من تولاه) اتبعه. (فأنه) فأن الشيطان (يضله). (مخلقة)

مخلوقة تامة التصوير. (لنبين لكم) أي: بدء خلقكم وترتيب إنشائكم. (ثم نخرجكم طفلاً) الطفل اسم الجنس، يتناول الواحد والكثير. (هامدة) غبراء يابسة. قال الأعشى: 790 - قالت قتيلة ما لجسمك شاحباً ... وأرى [ثيابك] باليات همدا.

(اهتزت) استبشرت وتحركت بنباتها. (وربت) انتفخت. وقيل: تضاعفت. وقيل: ارتفعت وطالت. كما قال الفرزدق: 791 - لجارية بين السليل عروقها ... وبين أبي الصهباء من آل خالد 792 - أحق بإغلاء المهور من التي ... ربت وهي [تنزو] في حجور الولائد. (من كل زوج)

من كل نوع. وقيل: لون. (بهيج) يبهج [من رآه]. (ثاني عطفه) لاوي عنقه، ومعناه التكبر. كما قال الشماخ: 793 - نبئت أن ربيعاً أن رعى إبلاً ... يهدي إلى خناه ثاني الجيد 794 - فإن كرهت هجائي فاجتنب سخطي ... لا يعلقنك إفراعي وتصعيد.

(ليس بظالم) إنما جاء على بناء المبالغة، وهو لا يظلم مثقال ذرة، لأن أقل قليل الظلم منه مع علمه بقبحه واستغنائه عنه كأكثر الكثير منا. سبب النزول: أنهم لم يعرفوا وجوه [الثواب]، وأقدار الأعراض في الآخرة، ولا ما في الدنيا من ائتلاف المصالح باختلاف الأحوال، فعدوا شدائد الدنيا وضنك معيشة البعض ظلماً. (على حرف) شك. وقيل: على ضعف [ر] أي في العبادة، مثل [ضعف] القائم على حرف. وما يلي الآية أحسن تفسير للعبادة على حرف. (يدعوا لمن ضره)

تقديره: تأخير "يدعو" ليصح موضع اللام، [أي] لمن ضره أقرب من نفعه يدعو. قال: 795 - خالي لأنت ومن جرير خاله ... ينل العلاء ويكرم الأخوالا أي: لأنت خالي فأخر لام الابتداء. وقيل: إن "يدعو" موصول بقوله: (هو الضلال البعيد)، يدعو [هـ]، [و] (لمن ضره) مبتدأ، وخبره: (لبئس المولى). (أن لن ينصره الله) أي: محمداً، فليتسبب أن يقطع عنه النصر من السماء.

وقيل: هذا كما يقال للحاسد المغيظ: اختنق. وقال أبو عبيدة: إن النصر المطر، من قولهم: "أرض منصورة" وسياق الآية، وقوله: (في الدنيا والآخرة) يمنع من هذا القول. (وكذلك أنزلناه) أي: هذا الأسلوب الواضح، والنظم المعجز، أو كما بينا لكم الآيات في خلقكم، وأحيينا الأرض لأرزاقكم، فكذلك هديناكم بما أنزلناه. (إن الذين ءامنوا) خبره. (إن الله يفصل بينكم). قال: 796 - إن الخليفة إن الله سربله ... سربال مجد به [ترجى] الخواتيم. (هذان خصمان)

أهل القرآن وأهل الكتاب. وعن أبي ذر: أنها نزلت في مبارزي بدر. (قطعت لهم ثياب من نار) أي: تحيط بهم النار، إحاطة الثياب. (يصهر) يذاب. وقيل: ينضج. (كلما أرادوا أن يخرجوا)

قيل: إن النار ترميهم إلى أعلاها حتى [يكادوا] يخرجوا منها فيقمعهم الزبانية بالمقامع إلى قعرها. (إن الذين كفروا ويصدون) عطف المستقبل على الماضي، لأنه تقدير: "وهم يصدون"، بمعنى من شأنهم الصد، كقوله: (الذين ءامنوا وتطمئن قلوبهم). (سواء العاكف فيه) "سواء" رفع بالابتداء، والعاكف خبره. قال الشيخ عبد الحميد -رحمة الله عليه- إنما صلح مع تنكيره الابتداء، لأنه كالجنس في إفادته العموم، الذي هو أخو العهد، فكان في معنى المعرفة.

ويجوز أن يكون "سواء" خبراً مقدماً على المبتدأ وهو العاكف، أي: العاكف والبادي فيه سواء. والعاكف: المقيم. والبادي: الطارئ. ولهذه الآية لم يجوز بيع دور مكة. (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم) أي: ومن يرد صداً، (بإلحاد) ميل عن الحق، ثم فسر الإلحاد (بظلم)، إذ يكون إلحاد وميل بغير ظلم، [فلذلك] تكررت الباء. (وإذ بوأنا) قررنا. وقيل: عرفنا.

قال السدي: كان ذلك ريح هفافة كنست مكان البيت، يقال [لها]: [الخجوج]. وقيل: سحابة بيضاء أظلت على مقدار البيت. (رجالاً) جمع [الراجل]. (يأتين) ذهب به إلى معنى الركاب، أو قوله: (كل ضامر) [تضمن]

معنى الجماعة. والفج: الطريق بين الجبلين. والعميق: [البعيد]. (أيام معلومات) أيام العشر عن ابن عباس. والنحر ويومان بعده، عن ابن عمر. (ثم ليقضوا تفثهم) حاجتهم من مناسك الحج عن مجاهد.

وحقيقته: قشف الإحرام، لأن التفث في اللغة: الوسخ، وقضاؤه: بالتنظف بعده، من الأخذ [من] الأشعار وتقليم الأظفار. (بالبيت العتيق) من الطوفان. وقيل: من استيلاء الجبابرة.

وإنما أسكنت (ثم ليقضوا) (وليوفوا)، لأن حروف العطف كأنها من نفس ما دخلت عليه، فاستثقل توالي الحركات في كلمة، كما سكن بعد [ألف] الوصل في قولك: ثم امرؤ وامرؤ. (الرجس من الأوثان) من [لتبيين] الجنس لا التبعيض. (ومن يشرك بالله) شبه انقطاع عصمه وذممه كلها بحال من خر من السماء فمزقته الطيور، وهوت به الرياح. (ومن [يعظم] شعائر الله) مناسك الحج.

وقيل: يعظم البدن المشعرة، أي: يسمنها ويكبرها. (إلى أجل مسمى) إلى أن يقلد. وقيل: ينحر. (ولكل أمة جعلنا منسكاً) عيداً وذبائح. وقيل: حجاً. (وبشر المخبتين) المطمئنين بذكر الله. و (الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم)

الوجل: إنما يكون عند خوف الزيغ، والذهاب عن أداء حقوقه. والطمأنينة: تكون عن أصح اليقين، وشرح الصدر بمعرفته: وكل واحدة من الحالين غير الأخرى، فلذلك حسن الجمع بينهما، مع تضادهما في الظاهر، ومثله قوله تعالى: (تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله). (والبدن) الإبل المبدنة بالسمن، بدنت الناقة سمنتها. ثم قيل: لكل إبل وبقر: بدنة. (من شعائر الله) معالم دينه. (صواف) مصطفة [معقولة]. (وجبت)

سقطت. قال الشماخ: 797 - حلفت يميناً بالذي وجبت له ... جنوب المطايا والجباه [السواجد]. (وأطعموا القانع والمعتر) القانع: الذي ينتظر الهدية ولا يسألها. والمعتر: الذي يأتيك سائلاً، كما قيل: 798 - سلي الطارق المعتر يا أم مالك ... إذا ما اعترى لي بين قدري ومجزر 799 - أأبدل بشري إنه أول القرى ... وأجعل معروفي له دون منكري

وقيل: على العكس من ذلك، وأن القانع من القنوع، والقنوع السؤال، والقناعة: الرضى. قال الشماخ: 800 - لمآل المرء يصلحه فيغني ... مفاقره أعف من القنوع 801 - يسد به نوائب تعتريه ... من الأيام كالنهل الشروع.

(أذن للذين يقاتلون) أول آية نزلت في القتال. (وبيع) كنائس النصارى. (وصلوات) كنائس اليهود. وكانت صلوتاً، فعربت بالصلاة، وأنشد الأنباري: 802 - فاتق الله والصلاة فدعها ... إن في الصوم والصلاة فسادا. فالصلاة: بيعة اليهود، والصوم: [ذرق] النعام.

(وبئر معطلة وقصر مشيد) أي: أهلكنا الحاضرة والبادية، فخلت القصور من أربابها، والآبار من ورادها. والمشيد: المجصص. والشيد: الجص. وقيل: هي المبني بالحجارة، كما قال عدي بن زيد: فجعل المشيد بالمرمر مجللاً بالكلس، -والجص: ليس إلا طين مكلس- قال وهو في معنى الآية: 803 - وأخو [الحضر] إذ بناه وإذ ... دجلة يجبى إليه والخابور 804 - شاده [مرمراً] وجلله كلـ ... ـساً وللطير في ذراه وكور 805 - تفكر رب الخورنق إذ أشـ ... ـرف يوماً وللهدى تفكير

806 - [سره] ملكه وكثرة ما يمـ ... ـلك والبحر معرضاً والسدير 807 - فارعوى قلبه وقال ما غبـ ... ـطة حي إلى [الممات] يصير 808 - وبنو الأصفر الكرام ملوك الدهـ ... ـر لم يبق منهم مذكور 809 - ثم أضحوا كأنهم ورق جـ ... ـف فألوت به الصبا والدبور. (ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) بيان أن محل العلم القلب، ولئلا يقال: إن القلب يعني به غير هذا العضو، على قولهم: القلب لب كل شيء. (كألف سنة) أن يجمع له عذاب ألف سنة فيما شاء الله من مقدار يوم [أ] وأقل من ذلك، أو أكثر، وكذلك نعيم أهل الجنة.

(معاجزين) طالبين للعجز، كقولك غالبته، وقاتلته، إذ [ا] طلبت غلبته، وقتله. وقيل: مسابقين، كأن المعاجز يجعل صاحبه في ناحية العجز منه [كالمسابق]. (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي) الرسول يعم البشر والملائكة، والنبي يخص البشر. وقيل: الرسول الشارع ابتداءً، والنبي الحافظ شريعة غيره. (إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) قال جعفر بن محمد: كل نبي يتمنى إيمان قومه، فيلقي الشيطان في أمنيته بما يوسوس إلى قومه (ثم يحكم الله ءاياته).

وقيل: على هذا القول: إن وسوسة الشيطان يجوز أن يكون للنبي، بما يلقي في أمنيته من اعتراض الهموم والخطرات المزعجة، عند تباطئ القوم عن الإيمان، وتسارعهم إلى الرد والعدوان، أو عند تأخر نصر الله له على قومه. وإن حملت الأمنية على التلاوة، فيجوز أن يكون الشيطان الملقي في التلاوة من شياطين الإنس، فإن كان من المشركين من يلغو في القرآن. (فينسخ الله ما يلقي الشيطان) ويبين إبطاله، ويحكم آياته عن أن يجوز فيها تمويه أو تلبيس، وما روي في سبب النزول: أن النبي عليه السلام [وصل] (ومناة الثالثة الأخرى) [بـ] "تلك الغرانقة الألى، وإن شفاعتهن لترتجى"، إن ثبت -وما ينبغي أن [يثبت]- لم يكن فيه ثناء على أصنامهم، لأن مخرج الكلام على زعم

المخالف روايةً، لا على التحقيق والتسليم، وهو في القرآن، وفي مذهب العرب شائع ذائع، كقوله: (يأيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون)، أي: نزل عليه الذكر على زعمه، وعند من آمن به، [و] لو كان عند [القائل] لما كان عنده مجنوناً. وقوله: (ذق إنك أنت العزيز الكريم) أي: عند نفسك وفي قولك، وكما قال بعض شعراء اليمن في هجائه جريراً: 811 - أبلغ كليباً وأبلغ عنك شاعرها ... أني الأغر وأني زهرة اليمن

[فأجابه جرير]: 812 - ألم يكن في [وسوم] قد وسمت بها ... من حان موعظة يا زهرة اليمن أي: على زعمك. (يوم عقيم) شديد لا رحمة فيه. وقيل: فرد لا يوم مثله. وقيل: هو بدر. (فلا ينازعنك)

نهي لهم عن منازعته، وكانت منازعتهم أن قالوا في الذبائح: أتأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتله الله. (وإن يسلبهم الذباب) بإفساده [لطعامهم] وثمارهم. وقيل: كانوا يلطخون أصنامهم بالعسل، فيقع عليه الذبان. (ما بين أيديهم) أول أعمالهم (وما خلفهم) آخرها. [تمت سورة الحج]

سورة المؤمنون

سورة المؤمنون (قد أفلح المؤمنون) عن ابن عباس: فازوا بما طلبوا، ونجوا عما هربوا. (خاشعون) خائفون بالقلب، ساكنون بالجوارح. (للزكاة فاعلون) لما كانت الزمان توجب زكاء المال، كان لفظ الفعل أليق به من لفظ الأداء والإخراج. والفردوس: أعلى الجنان، قالـ[ـه] قطرب، واستشهد بقول ذي الرمة: 813 - يا صاحبي انظرا [آواكما] درج ... عال وظل من الفردوس ممدود

814 - هل تبصران حمولاً بعدما اشتملت ... من دونهن جبال الأشيم القود. (من سلالة) أي: سل كل إنسان من ظهر أمه. (من طين) من آدم عليه السلام، وسلالة كل شيء وسليلته: خلاصته. قالت امرأة: 815 - وهل هند إلا مهرة عربية ... سليلة أفراس تجللها بغل

816 - فإن [نتجت] مهراً كريماً [فبالحرى] ... وإن يك إقراف فما أنجب البغل والنطفة: الماء الذي منه الولد، وأصله: الماء الصافي. قال عمارة: 817 - لن يلبث التخشين نفساً كريمة ... عريكتها أن يستمر مريرها 818 - وما النفس إلا نطفة في قرارة ... إذا لم يكدر كان [صفواً] غديرها

والعلقة: الدم الطري. قال أبو محجن الثقفي:

819 - هل أطعن الطعنة النجلاء عن عرض ... وأكتم السر فيه ضربة العنق 820 - وأشهد المأزق المخشي غمته ... وعامل الرمح أرويه من العلق. والمضغة: القطعة من اللحم، قال زهير: 821 - تلجلج مضغة فيها أنيض ... أصلت فهي فوق الكشح أداء 822 - [غصصت] بنيئها وبشمت منها ... وعندي -لو طلبت- لها شفاء

وجمعت [العظام] مع إفراد أخواتها المتقدمة، لاختلافها بين صغير وكبير، ومدور وطويل، وصلب وغضروف. (ثم أنشأناه خلقاً ءاخر) بنفخ الروح فيه. وقيل: بإنبات الشعر والأسنان.

وقيل: إن ذلك الإنشاء هو في السنة الرابعة، لأن المولود في سني [التربية يعد] في حد النقصان، والتهيؤ للتمام، والشيء قبل التمام في حيز العدم. ولهذا إن المبرزين في علم الفراسة والتنجيم، لا ينظرون في أخلاق

الطفل وأحواله، ولا يصححون مواقع النجوم على ميلاده إلا في السنة الرابعة، فيأخذون الطالع وصور الكواكب من هناك. (سبع طرائق) سبع سموات، لأنها طريق الملائكة. وقيل: لأنها طباق بعضها فوق بعض، يقال: أطرقت النعل إذا خصفتها، وأطبقت بعضها على بعض، قال تأبط شراً: 823 - بادرت قنتها صحبي وما كسلوا ... حتى نميت [إليها] بعد إشراق 824 - بشرثة خلق يوقى البنان بها ... شددت فيها سريحاً بعد إطراق.

(سيناء) على وزن فيعال، نحو ديار وقيام. وسيناء، وسيناه على وزن فيعال، مثل: ديماس وقيراط، والفتح أقوى، لأنه لا فعلاء غير منصرف.

وقيل: بل الكسر، كقوله: (وطور سينين). (تنبت بالدهن) قيل: إن الباء زائدة، وتكثر زيادتها في كلامهم، مثل قول الهذلي: 825 - ألا يا فتى ما نازل القوم واحداً ... بنعمان لم يخلق ضعيفاً [منتراً] 826 - أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها ... وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا

أي: عضته الحرب. وقال آخر: 827 - قد هراق الماء في أجوافها ... وتطايرن بأشتات شقق 828 - وأثار النقع في أكسايها ... مثل ما شقق سربال ما خلق. أي: تطايرن أشتاتاً. وعندنا لا يحكم لشيء [بكونه] زيادة، وله معنى ما، وللباء ها هنا معاني صحيحة: أحدها: أن تقديره تنبت ما تنبت والدهن فيها، كقول ثعلبة بن حرز: 829 - ومستنة كاستنان [الخرو ... ف] قد قطع الحبل بالمرود

830 - دفوع الأصابع ضرح الشمو ... س نجلاء مؤيسة العود والمعنى: أنه قطعه والمرود فيه. والثاني: أن إنباتها الدهن بعد إنبات الثمر الذي يخرج الدهن منه، فلما كان الفعل في المعنى تعلق بمفعولين يكونان في حال بعد حال، وهما الثمر والدهن، احتاج إلى تقويته بالباء. والثالث: [أن] أنبت جاء لازماً مثل نبت، فيعدى بحرف الصفة. قال زهير: 831 - رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم ... قطيناً لهم حتى إذا أنبت البقل.

وروى ابن درستويه: أن الدهن: المطر اللين. (وصبغ) إدام. قال عليه السلام: "الزيت [من] شجرة مباركة فائتدموا به وادهنوا". (يتفضل عليكم)

يكون أفضل منكم. قال القطامي: 832 - بنو [القرم] الذي علمت معد ... تفضل فوقها سعة وباعا. و (اصنع الفلك بأعيننا) على ما نمثله لك بالوحي. وقيل: معناه أن يصنعه وهو واثق بحفظ الله له، ورؤيته إياه، فلا يخاف قومه. والسلوك: لازم ومتعد. (عما قليل)

"ما" -في مثل هذا- لتقريب المدى، أو تقليل الفعل، كقولك: بسبب ما، أي: بسبب وإن قل. (فجعلناهم غثاء) هلكى، كما يحتمله الماء من الزبد والورق البالي. (فبعداً) إهلاكاً على طريق الدعاء عليهم. قال عبد يغوث: 833 - يقولون لا تبعد وهم يدفنونني ... وأين مكان البعد إلا مكانيا.

(تترا) متواتراً، متراصفاً، وأصله: وترى، من وتر القوس لاتصاله، كأنه واترنا رسلنا تترى، فجاء على غير لفظ الفعل. (وإن هذه أمتكم أمة واحدة) أي: ملتكم وطريقتكم في توحيد الله وأصول الشرائع، طريقة واحدة. وفتح (أن) على تقدير: "ولأن هذه أمتكم"، أي: فاتقون لهذا. هذا قول الخليل. وقال الأخفش: العامل فيما بعد قليل ضعيف، ولكن فتحها بالعطف على "ما"، (إني بما تعملون عليم)، "وبأن هذه". ويجوز فتحها بفعل مضمر، أي: واعلموا أن هذه.

وانتصاب (أمة واحدة) على الحال. (فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً) أي: افترقوا في دينهم فرقاً، كل ينتحل كتاباً ينسبه إلى نبيه. (وهم لها سابقون) أي: لأجلها سبقوا الناس. (تنكصون) ترجعون إلى الكفر. (مستكبرين به) بالحرم، أي: بلغ أمركم أنكم تسمرون بالبطحاء/لا تخافون أحداً. وتوحيد (سامراً) على معنى المصدر، أي: تسمرون سمراً، كقولك:

قوموا قائماً، أي: قياماً. ويجوز حالاً للحرم، لأن السمر في اللغة: ظلمة الليل، تقول العرب: حلف بالسمر والقمر. (تهجرون) تقولون الهجر، وهو الهذيان، مثل كلام الموسوس والمحموم. و (تهجرون) من الإهجار، وهو الإفحاش في القول. (بل أتيناهم بذكرهم) أي: بشرفهم لكون رسولهم منهم، والقرآن بلسانهم.

(فما استكانوا لربهم) أي: بالجدب الذي أصابهم بدعائه عليه السلام. (باباً ذا عذاب شديد) يعني يوم بدر. (سيقولون لله) جاء في الثاني والثالث على صورة الكلام الأول، تقريراً وتوكيداً.

وخرج الجواب على المعنى دون اللفظ، فإن معنى قوله: (من رب السموات والأرض): لمن ملكهما وتدبيرهما. وأنشد الفراء: 834 - وأعلم أنني سأكون رمساً ... إذا سار النواعج لا أسير 835 - فقال السائلون [لمن حفرتم] ... فقال المخبرون لهم وزير. أي: فيقولون لوزير -وهو اسمه- حفرناه. (ومن ورائهم برزخ) أي: ومن أمامهم حاجز وهو ما بين الدنيا والآخرة. وقيل: إنه ما بين الموت والبعث.

وقال مجاهد: وهو الحاجز بين الميت وبين الرجوع إلى الدنيا. (ولا يتساءلون) أي: عن أنسابهم ومعارفهم، لاشتغال كل واحد بنفسه. وقيل: إنه تساءل أن يحمل بعضهم عن بعض، ولكنهم يتساءلون عن حالهم، وعما عمهم من البلاء سؤال العاني المعذب من لقيه في مثل حاله، كما قال عز وجل: (فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون). وهذا التساؤل في مواقف/الأمن بعد زوال الدهش والأهوال، بدليل ما اتصل به من قوله: (قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين) واللفح: إصابة سموم النار. والكلوح: تقلص الشفتين عن الأسنان.

(اخسئوا) [اسكتوا]. وقيل: ابعدوا بعد الكلب. (سخرياً) بالكسر هزءاً. وبالضم -كما هو في الزخرف- سخرة وعبودة.

(قال إن لبثتم إلا قليلاً) أي: في الدنيا، أو في القبور بالإضافة إلى طول لبثكم في النار. [تمت سورة المؤمنون]

سورة النور

سورة النور (سورة) أي: هذه سورة، لأنه لا يبتدأ بالنكرة. والسورة: المنزلة المتضمنة [لآيات] متصلة. (فرضناها) فرضنا العمل بها، فحذف. وفرضناها: فصلناها. (الزانية)

رفع على تقدير: فيما فرض، وإلا كان نصباً على الأمر. والابتداء بالزانية بخلاف آية السارق، لأن المراة هي الأصل في الزنا، وزناهن أفحش وأقبح. (والزانية لا ينكحها إلا زانٍ أو مشرك) لتغليظ الأمر على المسلمين في التزوج بالبغايا المشهرات في الجاهلية. وقيل: إنه نكاح وطء لا عقد، فإن غير الزاني يستقذر الزانية ولا يشتهيها.

(إلا الذين تابوا) الاستثناء من الفسق فحسب، لأن ما قبله ليس من جنسه، لأنه اسم وخبر، وما قبله فعل وأمر. (فشهادة أحدهم أربع شهادات)

نصبه لوقوعه موقع المصدر، أو يكون مفعولاً به للمصدر الذي هو الشهادة، كأنه يشهد أحدهم الشهادات الأربع، وتكون الجملة مبتدأ، والخبر: (إنه لمن الصادقين). أو تكون الآية كلها خبراً، والمبتدأ محذوف، أي: فالحكم أو الفرض شهادة أحدهم أربع شهادات [ ... ] لوقوع. (بالإفك) بالكذب، لأنه صرف عن الحق. (بل هو خير لكم) لأن الله برأها عنه وأثابها عليه. (والذي تولى كبره) عبد الله بن أبي بن سلول، جمعهم في بيته.

ومن عد حسان بن ثابت معه، عد حده [و] ذهاب بصره من عذابه العظيم. (لولا إذ سمعتموه) أي: هلا. (إذ تلقونه بألسنتكم) كلما سمعه سامع منهم نشره كأنه تقبله. وقراءة عائشة "إذ تلقونه"، والولق: [خفة] اللسان واستمراره بالكذب، من ولق يلق إذا أسرع [في الكذب].

[والأولق]: فوعل من هذا على أنه كان وولق. (ولا يأتل أولوا الفضل) لا يحلف على حرمان أولي القربى. (أن يؤتوا) أن لا يؤتوا، في أبي بكر حين حرم مسطح ابن أثاثة -ابن خالته-

بسبب دخوله في الإفك. وقيل: لا يأتل: لا يقصر. من قولهم ما [ألوت] جهداً. قال العجاج: 836 - يذري بإرعاش يمين المؤتلي 837 - خضمة [الذراع] هذ [المختلي]. أي: المقصر الذي لا يبلغ الجهد. (يوفيهم الله دينهم) جزاءهم. (تستأنسوا)

تستعملوا من في الدار. وقيل: تستبصروا، أي: تطلبون من يبصركم، فيستأذنوه. والإيناس: الإبصار. (بيوتاً غير مسكونة) حوانيت التجار، ومناخات الرحال للسابلة. وقيل: إنها مثل الخرابات والخانات والأرحية.

(وليضربن بخمرهن على جيوبهن) أمر لهن بالاختمار على أيسر ما يكون، دون التطوق بالخمار، وإرسالها بحيث [يغطي] [نحورهن]. (أو ما ملكت أيمانهن) أي: من الإماء. (أو التابعين غير أولي الإربة) ابن عباس: التابع الذي يتبعك ليصيب من طعامك، ولا حاجة له في النساء. وقيل: إنه العنين.

وقيل: هو الأبله الذي لا يستحي منه النساء. وإنما جاز وصف "التابعين" بـ"غير" نكرة،/لأن التابعين في حكم النكرة، إذ لا يخص قوماً بأعيانهم. (وأنكحوا الأيامى) الأيم: من أم عن الزوج، ذكراً كان أو أنثى، قال: 838 - [كل] امرئ ستئيم منـ ... ـه العرس، أو منها يئيم. وقيل: الأيم من النساء خاصة، كالعزب من الرجال.

(من بعد إكراههن غفور رحيم) أي: لهن. (ومثلاً من الذين خلوا) مثالاً وعبرة. (الله نور السموات والأرض) هاديهما. وقيل: [منورهما] كما يقال: فلان رحمة، وإنما منه الرحمة. (كمشكاة) [كوة] لا منفذ لها. وقيل: هو موضع الفتيلة المشتعلة من الزجاجة.

(كوكب دري) يجوز منسوباً إلى الدر في حسنه وصفائه. ويجوز أن تكون دروءاً على وزن فعول من الدرء، وهو الدفع للشياطين، فخففت الهمزة، وقلبت الواو الأخيرة ياء، لكونها على الطرف، وقلبت الواو الأولى لها ياء، فأدغمت، وكسر ما قبل الياء للاتباع. (توقد من شجرة مباركة زيتونة) لأن الله بارك في زيتون الشام. وقيل: تخصيصها، لأن دهنها أضوأ وأصفى، وأنه يسيل من غير اعتصار.

(لا شرقية ولا غربية) ليست من [شجر] الشرق دون الغرب، أو الغرب دون الشرق، ولكنها من شجر الشام واسطة البلاد بين المشرق والمغرب، فيكون أوسط الأشجار منبتاً وأكرمها مغرساً. وقيل: إنها ليست بشرقية في جبل يدوم إشراق الشمس عليها، ولا غربية نابتة في [وهاد] لا تطلع عليها الشمس. كما يقال: لا خير في المقناة والمضحاة. وقال الحسن: المراد أنها ليست من [شجر] الدنيا التي تكون شرقية أو

غربية، ولكنها من شجر الجنة بدليل قوله: (يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار). وعلى القول الأول: يكاد صفاء زيتها يلمع كضوء النار، وإن لم تمسسه نار. وعن [أبي بن] كعب: أن هذا لا [يؤول] على ظاهره، ولكنه كما قال الله، (مثل)، فنور الله: الإسلام، والمشكاة: صدر المؤمن، والزجاجة: قلبه، والمصباح فيه: الإيمان، والشجرة المباركة: شجرة البنوة.

(في بيوت أذن الله أن ترفع) يعني المساجد، أي: هذه المشكاة فيها. والبيع: قد يكون [لغير] التجارة، لما يبيع الرجل غلة ضيعته، فلذلك جمع بينهما. وكذلك التجار: هم أصحاب الجلب والتجهيز، والباعة: هم المقيمون في البلدة. (تتقلب فيه القلوب) [بـ]ـلوغها إلى الحناجر. (والأبصار)

بالشخوص والزرقة والرد على الأدبار. (وإقام الصلاة) أي: إقامتها، لكن الإضافة كالعوض من الهاء، لما كانت الهاء في الإقامة عوضاً من الواو. (كسراب بقيعة) جمع قاع، مثل جار وجيرة. (في بحر لجي) مضاف إلى اللجة، وهو معظم البحر. (إذا أخرج يده لم يكد يراها) أي: لم يرها إلا بعد جهد. وقال الزجاج: معناه لم يرها ولم يكد. وذكر غيلان البختري: كنت واقفاً بكناسة الكوفة، وذو الرمة ينشد:

839 - إذا غير النأ [ي] المحبين لم يكد ... رسيس الهوى من حب مية يبرح. فقال له ابن [شبرمة]: أراه قد برح يا غيلان، فغيره وقال: ... ... ... ... لم أجد رسيس الهوى ... ... ... قال: وبادرت إلى أبي بما جرى، فقال: يابني، أخطأ ابن شبرمة في رده، وأخطأ ذو الرمة في قبوله. والمعنى: لم يبرح، ولم يكد، كما قال الله تعالى: (إذا أخرج يده لم يكد يراها)، والمعنى: لم يرها ولم يكد.

(والطير صافات) مصطفة الأجنحة في الهواء. (كل قد علم صلاته) أي: الإنسان (وتسبيحه) أي: ما سواه. (يزجي سحاباً) يسيرها ويسوقها. قال [عمرو بن قميئة] 840 - [وملمومة لا يخرق] الطرف عرضها ... لها كوكب فخم [شديد] وضوحها 841 - تسير وتوجي السم تحت لبانها ... كريه إلى من فاجأته صبوحها.

(ركاما) متراكباً بعضه فوق بعض. قال ذو الرمة: 842 - تستن أعداء قريان [تسنمها] ... ركام غيم ومرتجاته السود. والودق: المطر. وقيل: البرق. قال: 843 - أثرن عجاجة وخرجن منها ... خروج الودق من خلل السحاب. (وينزل من السماء من جبال)

قيل: المراد به الكثرة والمبالغة، كما قال ابن مقبل: 844 - إذا مت عن ذكر القوافي فلن ترى ... لها قائلاً مثلي أطب وأشعرا 845 - وأكثر بيتاً شاعراً ضربت به ... حزون جبال الشعر حتى تيسرا. (يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار) في معناه قال الشماخ: 846 - وما كادت إذا رفعت سناها ... ليبصر ضوءها الرجل البصير.

(فمنهم من يمشي على بطنه) دخل فيه ما ينساح ويعوم، فكان لفظه [المشي] أعم لاشتماله على النوعين. ومن قال: لا يسمى الانسياح على البطن مشياً، فإنه لم يسمع من العرب شيئاً، وما أكثر ما شبهت مشية النساء بمشي الحيات. قال: 847 - يمشين مشي الأيم أخضره الندى ... قب البطون رواجح الأكفال. وقال آخر: 848 - أتذهب ليلى في اللمام ولا ترى ... وبالليل أيم حيث شاء يسيب. (قل لا تقسموا طاعة معروفة)

أي: طاعة أمثل من أن تقسموا. أو طاعة معروفة أولى من طاعتكم هذه المدخولة المنحولة. أو طاعتكم معروفة أنها كاذبة بالقول. [ليستخلفنهم) [يجعلهم] خلفاء من الماضيين. (والذين لم يبلغوا الحلم) وهو ممن يميز ويصف. (ثلاث عورات) أي: أوقات عورة. وخص الأوقات الثلاثة بالاستئذان، لأنها أوقات تكشف وتبذل. (والقواعد) [هن] اللاتي قعدن بالكبر عن الحيض [والحبل].

(غير متبرجات بزينة) غير مظهرات [زينتهن] للنظر إليها. (ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم) أي: من أموال عيالكم. وقيل: أراد بيوت أولادكم، بدليل أنه لم يذكر في الآية بيوت أولادكم. (أو ما ملكتم مفاتحه) أي: ما يتولاه وكيل الرجل في ماله وضياعه، فيأكل مما يقوم عليه. وقيل: إنه [فيما] يتولاه القيم من أموال اليتامى. وقيل: إنه أكل الرجل من مال عبد [هـ].

(أو صديقكم) أي: إذا [كان] الطعام حاضراً غير محرز، وكان الصديق بحيث لا يحتجب بعضهم عن بعض في مال ونفس. (فسلموا على أنفسكم) أي: [إذا دخلتم] بيوتاً فارغة. فقولوا: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. (على أمر جامع) أي: للجهاد، نزلت في يوم الأحزاب. وقيل: إنه عام حتى في يوم الجمعة والعيدين.

و (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم) أي: تحاموا عن سخطته، فإن [دعاءه] مسموع. وقيل: لا تدعوا باسمه، ولكن يا رسول الله في لين وتواضع. (يتسللون منكم لواذا) يلوذ بعضهم ببعض، ويستتر به، حتى ينسل من بين القوم فراراً من الجهاد. وقيل: عن الجمعة والخطبة. (يخالفون عن أمره) يتخلفون عنه. (أن تصيبهم فتنة) محنة ومكروه. [تمت سورة النور]

سورة الفرقان

سورة الفرقان (تبارك) تعالى، اشتق من البرك، وهو طائر يحلق في الهواء، ولا يسف إلى الأرض، ذكره زهير: 849 - حتى استغاثت بماء لا رشاء له ... من الأباطح في حافاته البرك. وقيل: إنه من البركة، لى معنى الثبوت والنماء كله، أي: ثبت ملكه [ودام] أمره، ومنه بروك الإبل وبراكاء القتال.

(يعلم السر في السموات والأرض) أي: أنزله على مقتضى علمه ببواطن الأمور. (فضلوا) [ناقضوا]، إذ قالوا: [اختلقها] وافتراها، وقالوا: فهي [تملى] عليه. (سمعوا لها تغيظاً وزفيرا) قال زيد بن علي: تشرف عليهم النار بمقدار خمسمائة عام فتزفر تغيظاً عليهم زفرة يسمعها كل أحد.

(وإذا ألقوا منها مكاناً ضيقاً) سئل النبي عليه السلام فقال: "والذي نفسي بيده إنهم يستكرهون في النار، كما يستكره في النار، كما يستكره الوتد في الحائط". (مقرنين) مصفدين، قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال. (وعداً مسئولاً) وهو ما سأله المؤمنون من الجنة والمغفرة.

(بورا) هلكى. وقيل: فاسدين، من بوار الأرض: تعطيلها من الزرع، وبارت التجارة: كسدت، ولفظة بور، لفظ المصدر يتناول الواحد والجمع. قال ابن الزبعري: 850 - يا رسول المليك إن لساني ... راتق ما فتقت إذ أنا بور 851 - إذ أجاري الشيطان في سنن الـ ... ـغي ومن مال ميله مثبور. (فما يستطيعون صرفا)

أي: صرف العذاب عن أنفسهم. وقيل: إن الصرف [الحيلة] والاصطراف: [الاحتيال]. والصيرفي: لاحتياله في الاستيفاء إذا اتزن، والتطفيف مإذا وزن. أنشد: 852 - قد يدرك المال الهدان الجافي 853 - من غير ما عقل ولا اصطراف (إلا أنهم ليأكلون) إلا قيل: إنهم ليأكلون.

وقيل: كسر "إن" لأنه موضع الابتداء، كأنه إلا هم يأكلون، كما يقول: ما أتيته إلا أنه مكرم لي، قال كثير: 854 - ما أعطياني ولا سألتهما ... إلا وإني لحاجزي كرمي. (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة) قيل: إنه افتتان المقل بالمثري [والضوي] بالقوي. (أتصبرون) أي: على هذه الفتنة أم لا تصبرون فيزداد غمكم، لأن في القول دليلاً على هذا. (وكان ربك بصيرا) [بالحكمة] في اختلاف المعايش.

ويقال: إن بعض الصالحين تبرم برزاحة حاله، وضنك عيشه، فخرج ضجراً إلى السوق، فرأى أسود [خصياً] في موكب عظيم وزينة ظاهر، فوجم لبعض ما خطر في قلبه، فإذا إنسان قرأ عليه: (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون) فتنبه وازداد تبصراً وتصبراً. (لا يرجون لقاءنا) لا يخافون، وإنما جاز "يرجو" في موضع "يخاف"، لأن الراجي الشيء قلق فيما يرجوه، فمرة يشتد طمعه، فيصير كالآمن، ومرة يضعف فيصير كالخائف. قال الهذلي: 855 - تدلى عليها بالحبال موثقاً ... شديد الوصاء نابل وابن نابل

856 - إذا لسعته الدبر لم يرج لسعها ... وخالفها في بيت نوب عوامل. [أي]: لم يخف. (ويقولون حجراً محجوراً) كان الرجل في الجاهلية، يلقى رجلاً يخافه في أشهر الحرم، فيقول: "حجراً محجوراً"، أي: حراماً محرماً عليك قتلي في هذا الشهر، فلا ينداه بشر. فإذا كان يوم القيامة رأى المشركون ملائكة العذاب، فقالوا: حجراً محجوراً، وظنوا أن ذلك ينفعهم، كما نفعهم في الدنيا. (وقدمنا)

عمدنا. (من عمل) من قرب. (ويوم تشقق السماء بالغمام) نزول الملائكة منها في الغمام. (يـ[ويلتى] ليتني لم أتخذ فلاناً خليلا) ف ي أبي بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، ولكنه لو سماهما لم يعم القول جميع الأخلاء المبطلين. (هذا القرآن مهجورا) أي: بإعراضهم عن التدبر. وقيل: بقولهم فيه الهجر.

(لنثبت به فؤادك) أي: لنثبته في فؤادك. وقيل: لنثبت به فؤادك [باتصال] الوحي. (ورتلناه) فصلناه. (وأصحاب الرس) بئر. وقيل: معدن، وقد ذكره زهير: 857 - بكرن بكوراً [واستحرن بسحرة ... فهن ووادي] الرس كاليد للفم.

(لا يرجون نشورا) لا يخافون بعثاً. و (القرية التي أمطرت مطر السوء) سدوم قرية لوط. (مد الظل) [أي: الليل]، لأنه ظل الأرض الممدود على قريب من نصف وجهها الممتد في الجو إلى مدار القمر الأبعد. وقيل: إنه من طلوع الفجر إلى شروق الشمس. (ولو شاء لجعله ساكناً) أي: بإبطال كلتي الحركتين في السماء، الغربية التي بها النهار والليل، والشرقية التي بها فصول الأزمنة، لأن الشرقية متى لم [تبطل]، مع بطلان

الغربية، انقسمت مدة السنة إلى ليل ونهار، وكل واحد منهما مدة ستة أشهر، فلم يكن الليل دائماً. (ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً) أي: على وقته وامتداده، لأنه لولا الشمس لما عرف الظل. (قبضاً يسيراً) خفياً سهلاً، لبطء حكة الظل بالقرب من نصف النهار، بخلاف ما هو في طرفيه من السرعة والكثرة. (وجعل النهار نشورا) أي: انتشاراً للمعايش.

والأناسي: جمع أنسي، مثل: كرسي وكراسي. أو جمع إنسان، وكان أناسين، مثل: سرحان وسراحين، فعوضت الياء من النون. (مرج البحرين) [مرج] وأمرج: خلى. (وكان الكافر على ربه/ظهيراً)

أي: على أولياء ربه معيناً يعاونهم. أو المعنى: كان هيناً عليه لا وزن له من قولهم: ظهرت بحاجتي، إذا لم يعنى بها. (وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة) خلفاً عن صاحبه، فما فاته في أحدهما قضاه في الآخر. وقيل: إذا مضى أحدهما خلفه صاحبه. كما قال زهير: 858 - بها العين والآرام يمشين خلفة ... وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم

أي: الوحوش خلفت الإنس فيها. (هوناً) أي: بسكينة ووقار، دون مرح واختيال. قال: 859 - لئن قدمت قبلي رجالاً [فطالما] ... مشيت على هون فكنت المقدما. (كان غراماً) هلاكاً. قال بشر: 860 - ويوم الجفار ويوم النسار ... [كانا عذاباً] وكانا غراما.

(أثاماً) عقوبة وجزاء. قال: 861 - وإن مقامنا [ندعو] عليكم ... بأبطح ذي المجاز له أثام. (يضاعف له العذاب) أي: عذاب الدنيا والآخرة. وقيل: إنه جمع عقوبات الكبائر المختلفة المجتمعة. (يبدل الله سيئاتهم حسنات)

أي: يغير أعمالهم. وقيل: يبدلها بالتوبة والندم على فعلها حسنات. (لم يخروا عليها) لم يسقطوا. (واجعلنا للمتقين إماما) وحد إماماً على المصدر، أم إماماً، كقام قياماً. وقيل: إمام جمع أم، كقائم وقيام. وقيل: بأن إماماً جمع إمام، وإن كان على لفظه، كقوله: درع دلاص، وأدرع دلاص، وناقة هجان، ونوق هجان. قال أبو السيد الهلالي:

862 - أراح إلى أفطانه العيس بعدما ... تشذبت الأيدي نوامك نيبها 863 - فشلت يميني يوم تحلب مربع ... غزار [هجان] لا أرتوي بحليبها وفقه هذه اللغة أن العرب تكسر فعيلاً على فعال كثيراً/فتكسر فعالاً على فعال أيضاً، لأن فعيلاً وفعالاً أختان، كل واحد منهما ثلاثي الأصل، وثالثه حرف لين، وقد اعتقبا أيضاً على المعنى الواحد، نحو: عبيد وعباد، وكليب وكلاب، ولذلك الألف أقرب إلى الياء منها إلى الواو. (ما يعبؤا بكم) ما يصنع بكم. وقيل: ما يبالي بكم. يقال: عبأت الشيء: أعددته. قال زهير:

864 - عبأت له حلمي وأكرمت غيره ... وأعرضت عنه وهو باد مقاتله. (لولا دعاؤكم) رغبتكم إليه، وطاعتكم له. وقال القتبي: معناه، ما يصنع بعذابكم لولا ما تدعونـ[ـه] من دونه. (فقد كذبتم) على القول الأول: قصرتم في طاعتي. (لزاماً) عذاباً لازماً. قال الهذلي:

865 - فإما ينجوا من حتف أرضي ... فقد لقيا [حتوفهما] لزاما [تمت سورة الفرقان]

سورة الشعراء

سورة الشعراء (أعناقهم لها خاضعين) جماعتهم، عنق من الناس: جماعة. وقيل: رؤساؤهم. ومن حملها على ظاهرها استعارة، فتذكيرها للإضافة إلى المذكر، [كما] أنث الصدر الأعشى للإضافة إلى المؤنث: 866 - ويشرق بالقول الذي قد أذعته ... كما شرقت صدر القناة من الدم

وكما قال جرير: 867 - رأت مر السنين أخذن مني ... كما أخذ السرار من الهلال. (زوج كريم) منتفع به، كالكريم في الناس للناس المرضيُّ. (مستمعون) سامعون. قال القطامي: 868 - ومعصية الشفيق عليك مما ... يزيدك مرة منه استماعا. (إنا رسول رب العالمين)

الرسول يذكر بمعنى الجمع، كما قال الهذلي: 869 - ألكني إليها وخير الرسو ... ل أعلمهم بنواحي الخبر. (وأنا من الضالين) الجاهلين بأنها تبلغ القتل. و (إذاً) هنا بمعنى إذ ذاك. (وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل) كأنه اعترف بتلك النعمة، وأن لم [يستعبده]، كما استعبدهم. وقيل: إنه على الإنكار، وتقدير الاستفهام فيه، وإن لم يكن في اللفظ، كأنه: أوتلك نعمة؟، أي: تربيتك نفساً واحدة مع إساءتك إلى الجمع.

قال المخزومي في إضمار الاستفهام: 870 - لم أنس يوم الرحيل وقفتنا ... وجفنها في دموعها غرق 871 - [وقولها] والركاب سائرة ... تتركني هكذا وتنطلق.

(لعلنا نتبع السحرة) أي: سحرة فرعون. وقيل: إنهم قالوا ذلك لموسى استهزاء. (لشرذمة قليلون) أي: كل واحد قليل ذليل في نفسه. فلذلك [جمع] القليل على المعنى. قال:

872 - فرد قواصي الأحياء منهم ... فقد رجعوا كحي واحدينا. وشرذمة كل شيء بقيته، قال: 873 - جاء الشتاء وقميصي أخلاق 874 - شراذم يضحك مني التواق. (حذرون) متيقظون، و (حاذرون): مستعدون بالسلاح ونحوه. الأصل أن معنى فعل للطبع، وفاعل للتكلف، فيخرج عليه الأقاويل المختلفة فيهما.

(مشرقين) داخلين في وقت شروق الشمس. (وأزلفنا ثم الأخرين) قربناهم إلى البحر. وقيل: جمعناهم. (فإنهم عدو لي إلا على رب العالمين) أي: إلا من عبد رب العالمين. وقيل: إن "لا" بمعنى لكن، والضمير في "إنهم" للآلهة التي عبدوها، وجرى ذلك على تغليب ما يعقل [كقوله]: (رأيتهم [لي] ساجدين).

(لسان صدق) [ثناءً] حسناً. وقيل: [خلفاً] يصدق بالحق بعدي. (واغفر لأبي) اجعله من أهل المغفرة. (بقلب سليم) مسلم، فعيل بمعنى مفعل. وقيل: سالم من الشك، كما قال في المنافقين (في قلوبهم مرض). (فكبكبوا) قلبوا بعضهم على بعض.

وقيل: أسقطوا على وجوههم، أي: "كبوا" فكررت الباء للتأكيد، وقلبت إحداهما كافاً لموازنة اللفظ. (صديق حميم) قريب، حم الشيء: قرب. قال الهذلي: 875 - فلو أنه ما كان إذ حم واقعاً ... بجانب من [يحفى] ومن يتودد 876 - ولكنما أهلي بواد أنيسه ... [سباع] تبغى الناس مثنى وموحد. (ريع) طريق بين الجبال والثنايا.

وقيل: إنه مكان مشرف. (ءاية) بناءً، يكون لارتفاعه كالعلامة. (خلق الأولين) كذبهم [و] اختلاقهم. [وإن أراد الإنشاء، فالمعنى: ما خلقنا] إلا كخلق الأولين، ونراهم يموتون [و] لا يبعثون. وخلق -بالضم- عادتهم، أي: في ادعاء الرسالة، فرجع الضمير إلى الأنبياء، ويجوز أن يرجع إلى آبائهم، أي: تكذيبنا لك كتكذيب آبائنا للأنبياء.

(طلعها هضيم) [متفتق] انشق عن البسر، لتراكب بعضه بعضاً. وأهل الهضم الضمر، ومنه هضيم الكشح، فكأنه ازدحم التمر فيها حتى انهضمت بعض أطرافها ببعض. (فرهين) أشرين. وفارهين: حاذقين. وقيل: معناهما فرحين، وفارحين، لقرب الهاء من الحاء. قال ابن الرقاع: 877 - لا أستكين إذا ما أزمة أزمت ... ولا تراني بخير فاره اللبب

أي: لا تراني فرحاً. (المسحرين) مسحورين مرة بعد أخرى. وقيل: المعللين بالطعام والشراب. قال امرؤ القيس: 878 - أرانا موضعين لحتم أمر ... ونسحر بالطعام وبالشراب. (لئيكة) الشجر الملتف مثل الغيضة. (بالقسطاس) بالميزان. وقيل: العدل والسواء. قال كعب بن زهير: 879 - تخف الأرض أن تفقدك منها ... وتصبح ما بقيت لها ثقيلا

880 - لأنك موضع القسطاس منها ... فتمنع جانبيها أن تزولا. (من المخسرين) الناقصين. (والجبلة الأولين) الخلق الأولين. (أولم يكن لهم ءاية أن يعلمه علموا بني إسرائيل)

(أن يعلمه) اسم كان، و (ءاية) خبرها، قدم على الاسم: أولم يكن علم علماء بني إسرائيل، ومن آمن منهم بمحمد آية لهم. (على بعض الأعجمين) أي: إذا لم [يؤمن] به العرب [وأنفوا] من اتباعه، كذلك حالهم وقد أنزلنا [هـ] عليهم، وسلكناه في قلوبهم، يريد أنهم معاندون معرضون. (يلقون السمع) أي: الكهنة. (الغاوون) البطالون الفرغ. (يهيمون) يخوضون. وقيل: يحارون.

(وانتصروا [من] بعد ما ظلموا) أي: شعراء المسلمين الذين ناضحوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، [قال عليه السلام] [لحسان: "أجب] عني" ثم قال: "اللهم أيد [هـ] [بروح] القدس". [تمت سورة الشعراء]

سورة النمل

سورة النمل (بشهاب قبس) أ ي: مقبوس، أو بشهاب ذي قبس. وكلاهما على الصفة للشهاب. وإن كان القبس اسماً للنار، فيكون على البدل من الشهاب. و (بشهاب قبس) بالإضافة، على أن يكون الشهاب قطعة من النار، كقولك: ثوب خز. قال:

881 - في كفه صعدة مثقفة ... فيها سنان كشعلة القبس. (بورك) قدس، هكذا هو المعنى، كما قال الكميت -في روضة رسول الله عليه السلام-: 882 - فبورك قبر أنت فيه وبوركت ... به -وله أهل لذلك-[يثرب] 883 - لقد غيبوا براً وحزماً ونائلاً ... عشية [واراك] الصفيح [المنصب]

(من في النار ومن حولها) قيل: إن من زائدة. وقيل: إنه بمعنى ما، أي: ما [في] النار، ومن حولها. وقيل: إنه [يعود] إلى النور، أي: بورك النور الذي في النار، أو الشجرة التي في النار، وكانت خضراء، ولا [تزداد] على اشتعال النار إلا اخضراراً. وقيل: (بورك من في النار) أي: الملائكة، (ومن حولها) أي: موسى.

أو بورك من في طلب النار بحذف الطلب، ومن حولها من الملائكة. وقيل: معناه بورك من في النار سلطانه وكلامه، فيكون التقديس لله تعالى عن المكان والزمان.

وفي التوراة: "جاء الله من سيناء، وأشرق من ساعير، [واستعلى] من جبال فاران". أي: من هذه المواضع جاءت آياته، وظهرت رحمته، حيث كلم موسى بسيناء، وبعث عيسى من ساعير، ومحمداً من فاران، جبال مكة. (ولم يعقب) لم يرجع ولم يلتفت، من العقب.

(إلا من ظلم) استثناء منقطع، أي: لكن من ظلم من غيرهم، لأن الأنبياء لا يظلمون، وقيل: إنه تعريض بما كان من قتله القبطي. (مبصرة) مبصرة، من البصيرة. (علمنا منطق الطير) كان يفهمهم، كما يتفاهم الطير بعضها عن بعض، وأصوات الطير سمي منطقاً، قال حميد بن ثور: 884 - وما هاج هذا الشوق إلا حمامة ... دعت ساق حر ترحة فترنما 885 - عجبت لها أنى يكون غناؤها ... فصيحاً ولم تفغر بمنطقها فما.

(يوزعون) يدفعون ويحبسون. قال: 886 - لسان الفتى سبع عليه شذاته ... وإلا تزع عن غربه فهو قاتله 887 - وما الجهل إلا منطق متسرع ... سواء عليه حق أمر وباطله. وينبغي أن يعلم أن معرفة تلك النملة بسليمان، وحديث [الـ]ـهدهد لم يجر على الجنس، ولكن عليهما بعينهما، فيكون اختصاصهما وحدهما في زمن نبي -بما يكون في حد المعجزة له- بمنزلة كلام الذئب، وكلام الصبي

في المهد، وأما من كل نوع من الحيوان، أو في كل زمان، [فلا فضل] في معارف العجم من الحيوانات على خاص مصالحها.

(وتفقد الطير) هذا التفقد منه أدب للملوك والأكابر في تفقد جندهم، [واستشفاف] أمرهم، ومقابلة من [أخل] منهم بشرطه من الإنكار بما يستحقه. (ليأتيني) إن كانت النون ثقيلة، مشاكلة لقوله: (لأعذبنه) (أو لأذبحنه) فإنه حذفت إحداهما استثقالاً. وإن كانت [نون] التوكيد [الخفيفة]، فلا حذف، ولكن أدغمت في نون الإضافة.

(من سبأ) صرفه، لأنه في الأصل اسم رجل، غلب على اسم [بلد]. (ألا يسجدوا) أي: زين لهم الشيطان أعمالهم، بأن لا يسجدوا، أو فصدهم عن السبيل بأن لا يسجدوا. (يخرج الخبء) أي: غيب السموات والأرض. وقيل: خبء السموات المطر، وخبء الأرض النبات. (في السموات)

أي: من السموات، وجاز ذلك، لأن ما أخرج من الشيء فهو فيه قبل الإخراج. (قبل أن يرتد إليك طرفك) أي: تديم النظر حتى يرتد الطرف كليلاً. ويقال: لأن الجن كرهت بلقيس، لئلا يجتمع علمها إلى علمه، فيزداد كدها، فذكرتها بقبح رجلها، ورمتها في عقلها، فأمر سليمان بتغيير شيء من عرشها، فقالت: (كأنه هو) بل هو، على حد قولهم: (أهكذا عرشك). ورأى قدميها أحسن قدم، حين ظنت صرح الزجاجة ماء، فكشفت عن ساقيها.

وصرحة الدار، وباحتها، وساحتها واحدة، وهي ها هنا: بركة من الزجاج. وفي شعر الهذليين، بناء مرتفع: 888 - على طرق كنحور الركا ... ب تحسب أعلامهن الصروحا 889 - بهن نعام بناه [الرجـ ... ـال] تلقي النفائض فيه السريحا.

واللجة: معظم الماء. والممرد: المملس. (تفتنون) [تمتحنون] بطاعة الله ومعصيته. (تقاسموا) [تحالفوا] (إنا دمرناهم) على الاستئناف. ومعناه بيان العاقبة. (حدائق ذات بهجة) ذوات بهجة. كقول الأعشى: 890 - وسوف يعقبنيه إن ظفرت به ... رب كريم وبيض ذات أطهار

891 - لا سرهن لدينا ضائع مذق ... وكاتمات إذا استودعن أسراري. (بل ادارك علمهم في الأخرة) أي: تدارك، فأدغمت التاء في الدال، واجتلبت ألف الوصل للابتداء. تقول: أدركت الشيء وتداركته، [واداركته]، وأدركته: إذا لحقته. والمعنى: أحاط علمهم في الآخرة بها عند مشاهدتهم أحوالها وأهوالها، وكانوا في الشك منها. وقيل: بل هو تلاحق علمهم وتساويه بالآخرة في الدنيا، مما ذكره الله في العقول من وجوب جزاء الأعمال، ومما جاءت به الرسل.

(بل هم في شك) من وقت ورودها. (بل هم منها عمون) أي: تاركون مع ذلك التأمل. (ردف لكم) تبعكم ودنا منكم. واللام ينبغي أن يقتضي زيادة تتابع، واتصال، مع الدنو. كما قال طلحة ابن عبد الرحمن: 892 - تقول سلمى "أراك شبت ولم ... تبلغ من السن كنهها فلمه؟ " 893 - يا سلم إن الخطوب إذ [ردفت] ... لي شاب رأسي وكان كالحممة. (وإذا وقع القول عليهم)

وجب الغضب. وقيل: حق القول بأنهم لا يؤمنون. وسئل علي رضي الله عنه عن دابة الأرض؟ فقال: "والله مالها ذنب، وإن لها للحية" وهذا يدل على أنه من الإنس. وقال ابن عباس: هي دابة ذات زغب وريش، لها أربع قوائم، يخرج من وادي تهامة.

(ففزع من في السموات) أسرع إلى الإجابة، كقول كلحبة: 894 - فقلت لكأس ألجميها فإنما ... نزلنا الكثيب من زرود لنفزعا. (إلا من شاء الله) من البهائم، ومن لا ثواب له ولا عقاب. ومن حمله على الفزع المعروف من الخوف، كان الاستثناء للملائكة والشهداء.

(وترى الجبال تحسبها جامدة) أي: في يوم القيامة، لأنها تجمع وتسير، وكل شيء إذا عظم حتى غص به الهواء، تكون في العين واقفة وهي سائرة. كما قال الجعدي: 895 - بأرعن مثل الطود تحسب أنهم ... وقوف لحاج والركاب تهملك [تمت سورة النمل]

سورة القصص

سورة القصص (شيعاً) فرقاً، أي: فرق بني إسرائيل، فجعلهم خولاً للقبط. (ونريد أن نمن) واو الحال، أي: فقصد فرعون أمراً في حال إرادتنا لضده. (وأوحينا إلى أم موسى) ألهمناها. وقيل: إنه كان رؤيا منام. (فإذا خفت عليه) أي: خفت أن يسمع جيرانك صوته.

وكان موسى ولد في عام القتل، وهارون في عام الاستحياء، وذلك أن بني إسرائيل لما تفانوا بالقتل، قالت القبط: خولنا منهم، وقد فنيت شيوخهم موتاً، وأولادهم قتلاً. [و] في الآية خبران وأمران ونهيان وبشارتان. وحكى الأصمعي [قال]: سمعت جارية معصرة تقول: 896 - أستغفر الله لذنبي كله 897 - قبلت إنساناً بغير حله 898 - مثل الغزال ناعماً في دله 899 - فانتصف [الليل] ولم أصله فقلت: قاتلك الله ما أفصحك.

فقالت: أو فصاحة بعد قوله تعالى: ([و] أوحينا إلى أم موسى) ... الآية. (فالتقطه) أخذه فجأة. قال الراجز: 900 - ومنهل وردته التقاطا 901 - لم ألق [إذ] وردته [فراطا]. (فراغاً) أي: من كل شيء إلا من ذكر موسى.

وقيل: من موسى أيضاً، لأن الله أنساها ذكره، أو ربط على قلبها وآنسه. (إن كادت لتبدي به) لما رأت الأمواج بلعت [التابوت] فكادت تصيح. (قصيه) اتبعي أثره، لتعلمي أمره. (عن جنب) عن جانب، كأنها ليست تريده. والجنب والجنابة: البعد. قال:

902 - [وإني لظلام] لأشعث [بائس] ... عرانا [ومقرور] أتانا به الفقر 903 - وجار قريب الدار وذي جنابة ... بعيد محل الدار ليس له [وفر] أي: أظلم الناقة وأنحر فصيلها لأجل هؤلاء. (وحرمنا عليه) تحريم منه لا شرع، قال امرؤ القيس: 904 - جالت لتصرعني فقلت لها اقصري ... إني امرؤ صرعي [عليك] حرام

أي: ممتنع. (من قبل) أي: من قبل مجيء [أخته]. ومن إلطاف الله لنبيه موسى، استخدم له عدوه في كفالته وتربيته، وهو يقتل القتل الذريع لأجله. والأشد: لا واحد له من لفظه. وقيل: [واحده] شدة، كنعمة وأنعم. أو شد، كفلس وأفلس، أو شد كما يقال: هو ودي والجمع أود. (واستوى) استحكم، وانتهى شبابه. (على حين غفلة)

نصف النهار، في وقت القائلة. (فوكزه) دفعه بجميع كفه. (فقضى عليه) قتله. (هذا من عمل الشيطان) لأن الغضب من [نفخ] الشيطان. (فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه) الإسرائيلي الذي خلصه موسى استغاث به ثانياً على آخر من القبط، فقال له موسى (إنك لغوي) أي: للقبطي. فظن الإسرائيلي أنه عناه، فقال: (أتريد أن تقتلني كما قتلت [نفساً بالأمس)] وسمعه القبطي، فعرف قاتل المقتول أمس، فسعى به. (يأتمرون بك)

يتشاورون في قتلك. وقيل: [يأمر] بعضهم بعضاً. (تذودان) تطردان. وقيل: بل تحسبان، أي: تمنعان عنهما الورود. كما قال [سويد] بن كراع:

905 - أبيت بأبواب القوافي كأنما ... أذود بها سرباً من الوحش نزعا. (يصدر الرعاء) ينصرف الرعاة، و (يصدر) قريب من (يصدر)، لأن الرعاة إذا صدروا فقد أصدروا، وإذا أصدروا فقد صدروا. إلا أن المفعول في: (يصدر الرعاء) محذوف، كما في قوله: (لا نسقي). (على أن تأجرني) وإن كان الصداق لها، لأن مال الولد في الإضافة للوالد، وكذلك استيفاء صداقها إلى والدها [إن] كانت ساكتة.

(جذوة) قطعة، من جذوت الشيء قطعته، قال الشاعر: 906 - وألقى على قبس من النار جذوة ... شديداً عليها حميها والتهابها. وقيل: الجذوة: خشبة في رأسها نار، كما قال ابن مقبل: 907 - باتت حواطب ليلى يلتمسن لها ... جزل الجذى غير خوار ولا دعر

(واضمم إليك جناحك من الرهب) أي: اضمم يدك إلى صدرك يذهب الله ما بك من الفرق. وقيل: إنه على التوطين والتسكين. كما يقال: ليسكن جأشك، وليفرخ روعك، لما كان من شأن الخائف أن يرتعد حشاه/، ويخفق صدره. كما قال حارثة بن بدر الغداني: 908 - وقل للفؤاد إن نزا بك نزوة ... -من الروع- أفرخ أكثر الروع باطله وفي الرهب لغات: الرهب والرهب، كالضعف والضعف. والرهب والرهب، كالبخل والبخل.

والرهب والرهب: كالمعز والمعز. وكان الرهب أقوى لاطراده على أصلين. (رداً) عوناً، وقال مسلم بن جندب: "رداً" زيادة. واستشهد بقول حاتم: 909 - تجد فرساً [مثل] العنان وصارماً ... حساماً إذا ما هز لم يرض بالهبر 910 - وأسمر خطياً كأن كعوبه ... نوى القسب قد أردى ذراعاً على العشر.

أي: زاد. والحكمة في تكرير هذه القصص: أن المواعظ يجب تكريرها على الأسماع، لتقريرها في الطباع. والثاني: أن فيه التحدي إلى الإتيان بمثله، ولو بترديد بعض هذه القصص. والثالث: تسلية النبي، وتحسير الكافرين حالاً بعد حال. والرابع: أن العرب من شأنها أن تورد المعنى الواحد بالألفاظ المختلفة، وتجلو الأعراض المتفقة في المعارض المختلفة. وبها فضلت على سائر الألسنة. ألا ترى أن الشعراء كيف تداولوا نواظر الغزلان، وعيون [الجآذر]

بحيث لا يكاد يخلو منها تشبيب، وكلها مقبول معسول. وهل بين قول امرئ القيس: 911 - تصد وتبدي عن أسيل وتتقي ... بناظرة من وحش وجرة، مطفل. وقول عدي: 912 - وكأنها بين [النساء] أعارها ... عينيه جؤذر من جآذر جاسم. إلا اتفاق الغرض من كل الوجوه، مع اختلاف الكسوة الأنيقة، والعبارة الرشيقة، وكل واحد منهما قصد التشبيه [بشيء] واحد، هذا بعيون وحش/وجرة، وذاك بعيون جآذر جاسم، مع أن الظباء لا يختلف عيونها، وإن

كانت ربما يختلف بعض أخلاقها وألوانها. (وجعلناهم أئمة) هو من الجعل بمعنى الوصف، كقولك: جعلته رجل سوء. وقيل: إن ذلك بعد الحشر، حيث يقدمون الكافرين إلى النار كأنهم يدعونهم ويقودونهم إليها. قال [جبيهاء] الأشجعي: 913 - ولو [أشليت] في ليلة رجبية ... بأوراقها هطل من الماء سافح 915 - لجاءت أمام الحالبين وضرعها ... أمام صفاقيها مبد مكاوح فجعلها أماماً لتقدمها.

(من المقبوحين) من الممقوتين. وقيل: المشوهين بسواد الوجوه، وزرقة العيون، يقال: قبحه الله وقبحه. (ولولا أن تصيبهم) جوابه في التقدير: لما أرسلنا رسولاً. (ساحران تظاهرا)

أي: موسى ومحمد عليهما السلام، وذلك حين بعث أهل مكة إلى يهود [المدينة] فأخبروه بنعته، وأوان مبعثه من كتابهم. (من المحضرين) المزعجين. وقيل: من المحضرين للجزاء، أو إلى النار. (لتنوأ بالعصبة) من الثقل. يقال: ناء إذا مال، ومنه النوء: وهو الكوكب إذا مال عن العين عند الغروب. قال الهذلي:

915: [وأربد] يوم الجزع لما أتاكم ... [وجاركم لم تنذروه] ليحذرا 916 - كشفت غطاء الحرب لما رأيتها ... تنوء على [صغو] من الرأس أصعرا وقال أبو عبيدة: هو من المقلوب، أي: العصبة لتنوء بالمفاتح، أي: تنهض بها ثقيلاً. ومذهب الخليل في النوء هذا، وهو اختيار الزجاج، أن النوء اسم المطر الذي يكون مع سقوط النجم، لأن المطر نهض مع سقوط الكوكب، فإذا ثبت ذلك، فالمقلوب كثير في كلامهم. قال الحطيئة:

917 - فلما خشيت الهون والعير ممسك ... على رغمه ما أمسك الحبل [حافره]. أي: أمسك الحبل حافره، فقلب، وقال الآخر: 918 - كانت فريضة ما تقول [كما] ... كان الزناء فريضة الرجم وقال البعيث: 919 - ألا أصبحت خنساء جاذمة الوصل ... وضنت [علينا] والضنين من البخل

(إن الله لا يحب الفرحين) أي: البطرين، قال الغنوي: 920 - لقد أردى الفوارس يوم حسي ... غلاماً غير مناع المتاع 921 - ولا فرح بخير إن أتاه ... ولا جزع من الحدثان لاع. مثله لهدبة بن خشرم: 922 - فلست بمفراح إذا الدهر سرني ... ولا جازع من ريبه المتقلب 923 - ولا أتمنى الشر والشر تاركي ... ولكن متى أحمل على الشر أركب. (في زينته)

في موكب على بغلة شهباء بمركب ذهب من لباس أرجواني. (فخسفنا به) [قال] موسى: يا أرض خذيه [فابتلعته]، وكان ابن عمه، فقال بنو إسرائيل: أهلكه ليرثه، فخسف بداره وجميع أمواله. (ويكأن الله) قيل: إن "وي" [مفصول]، وهو اسم سمي به الفعل، أي: اعجب. ثم ابتدأ وقال: كأن الله يبسط.

وقيل: إنه "ويك" ومعناه: ألم تر، أو ألم [تعلم]، أو معناه: ويح أو ويلك. والمراد بالجميع التنبيه. قال زيد بن عمرو بن نفيل في "وي" مفصولاً: 924 - سألتاني الطلاق أن رأتاني ... قل مالي قد جئتماني بنكر 925 - وي كأن من يكن له نشب يحبب ... ومن يفتقر يعش عيش ضر وقال عنترة في "ويك":

926 - ولقد شفا نفسي وأبرأ سقمها ... قيل الفوارس ويك عنتر أقدم. ونظير هذه الكلمة في توجه اللفظ الواحد إلى صورتين، قول [امرئ] القيس: 927 - [نطعنهم] سلكى ومخلوجة ... كرك لأمين على نابل، أي: رد لأمين -وهما سهمان- على نابل، وذلك أن يعترض من صاحب النبل شيئاً منه فيتأمله، ثم يرده إليه، فيقع بعضه كذا وبعضه كذا. وفي رواية أخرى: "كر كلامين على نابل". أي: كما تقول له: ارم-ارم. فالمراد بالرواية الأولى: اختلاف الطعنتين، والثانية: السرعة والعجلة. والأصمعي ينشد بيت المثقب:

928 - أفاطم قبل بينك متعيني ... ومنعك ما سألت كأن تبيني. وابن الأعرابي: "ومنعك ما سألتك أن تبيني". وأبو زيد يقول في قول الشاعر: 929 - وأطلس يهديه إلى الزاد أنفه ... أطاف بنا والليل داجي العساكر 930 - فقلت لعمرو صاحبي إذ رأيته ... ونحن على خوص وذايا عواسر إنه عوى الذئب فسر أنت. وغيره يقول: إن عواسر صفة "الوذايا".

وقول الهذلي: 931 - فلا والله ياذى الحي ضيفي ... هدواً بالمساءة والعلاط. وقيل [فيه] إنه نادى الحي، وقيل: إنه لا يؤذون ضيفي. ولهذه الأبيات نظائر. وقد كنا أفردنا لها نظمها ونثرها كتاباً. والآن [إذ] أجممنا الطبع بشيء منها عدنا إلى التفسير. (فرض عليك القرآن) أنزل على لسانك فرائضه. وقيل: حملك تبليغه. (لرادك إلى معاد) أي: مكة.

نزلت بالجحفة حين عسف به الطريق إليها، فحن. (إلا رحمة) أي: لكن رحمة. (إلا وجهه) إلا ما أريد به وجهه. ومن حمل وجه الشيء على نفسه، استشهد بقول أحمر بن جندل:

933 - ونحن حفزنا الحوفزان بطعنة ... فأفلت منها وجهه عتد نهد. [تمت سورة القصص]

سورة العنكبوت

سورة العنكبوت (الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا ءامنا وهم لا يفتنون) أي: بالأوامر والنواهي. وقيل: في أموالهم وأنفسهم. و"أن" الأولى في موضع النصب، لوقوع الحسبان عليه. والثانية: في محل الخفض، أي: لأن يقولوا. (فليعلمن الله) فليظهرن الله لرسوله. وقيل: فليميزن الله. وقيل: يعلمه كائناً واقعاً.

وقيل: يعلمه كائناً غير واقع. (أن يسبقونا) أن يفوتونا. (جعل فتنة الناس كعذاب الله) في قوم من مكة أسلموا، فلما فتنوا وأوذوا ارتدوا. (ولنحمل خطاياكم) لفظه أمر، ومعناه الجزاء. أي: اكفروا فإن كان عليكم شيء فهو علينا. (وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم) أي: أثقال إضلالهم مع أثقال ضلالهم. وقيل: إنها أوزار السنن الجائرة. (ألف سنة إلا خمسين عاماً)

هذا أفخم في اللفظ، وأحسن في النظم من القول: "تسع مئة وخمسين عاماً". (ينشئ النشأة) مصدر من غير صدره، وتقديره: ثم الله ينشئ الخلق فينشؤون النشأة الآخرة. (يعذب من يشاء) قيل: بالانقطاع إلى الدنيا. وقيل: بسوء الخلق. (وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء) أي: ولا في السماء لو كنتم فيها. وقيل: معناه أنه لا يعجزه أهل الأرض في الأرض، ولا أهل السماء في السماء، إلا أنه لم يظهر الضمير.

(مودة بينكم) يتوادون بها في الدنيا، ويتبرؤون منها يوم القيامة، فيتم الكلام عند قوله: (إنما اتخذتم من دون الله أوثانا) ثم تكون (مودة بينكم) مبتدأ، والخبر: (في الحياة الدنيا)، أي: مودة بينكم كائنة في الدنيا، ثم ينقطع يوم القيامة. وقيل: بأن الكلام [متصل] بأوله على وجهين: -أن "ما" في "إنما" اسم، وهو مع الفعل بمعنى المصدر، أي: إن اتخاذكم من دون الله أوثاناً مودة بينكم. -والثاني: أن يكون ["ما"] بمعنى "الذي" أي: إن الذي اتخذتم من دون الله أوثاناً مودة بينكم، أي: ذوو مودة بينكم. (وقال إني مهاجر)

قاله إبراهيم، أي: مهاجر للظالمين، وهاجر إلى حران. (وتقطعون السبيل) هو قطع سبيل الولد برفض النساء. (وكانوا مستبصرين) أي: عقلاء، ذوي بصائر. وعن قتادة: مستبصرين في ضلالتهم، معجبين بها. (وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت) إذ ليس في جميع البيوت لجميع الحيوان، ما لا [يكن] من حر أو برد، ولا يحصن عن طالب، إلا بيت العنكبوت. قال الفرزدق:

934 - ضربت عليك العنكبوت بنسجها ... وقضى عليك به الكتاب المنزل. (ولذكر الله أكبر) أي: ذكر الله لكم بالرحمة، أكبر من ذكركم له بالطاعة. (إلا بالتي هي أحسن) أي: في إيراد الحجة من غير سباب واضطراب. (إلا الذين ظلموا منهم) أي: منع الجزية وقاتل. وقيل: هم الذين أقاموا على الكفر بعد أن حجوا وألزموا. (ومن هؤلاء من يؤمن) أي: أهل مكة، أو العرب.

(بل هو ءايات بينات في صدور الذين أوتوا العلم) أي: حفظ القرآن وحفظ الكتاب بتمامه لهذه الأمة. وفي الحديث "أنا جيلهم في صدورهم وقربانهم من نفوسهم"، أي: الجهاد. (وكأين من دابة) لما أمروا بالهجرة، قالوا: ليس لنا بالمدينة منازل ولا أموال. (لا تحمل رزقها) أي: لا تدخر. (وإن الدار الآخرة لهي الحيوان)

أي: الحياة، أو دار الحيوان. وإن كانت الدار حياة، فما ظنكم بأهل الدار. (ليكفروا بما ءاتيناهم وليتمتعوا) جرى على الوعيد، لا الرخصة، كقوله: (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر). [تمت سورة العنكبوت]

سورة الروم

سورة الروم (غلبت الروم) غلبتهم الفرس في زمن أنوشروان، فأخبر الله رسوله أن الروم [ستدال] على فارس، فغلبوا الفرس في عام الحديبية. (في أدنى الأرض)

في الجزيرة، وهي أقرب أرض الروم إلى فارس. وقيل: في أذرعات وبصرى. (ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله) أي: الروم على فارس، لتصديق الوعد، أو لأن ضعف فارس قوة العرب، ولأن فارس لم يكونوا أهل كتاب، وروم نصارى أهل الإنجيل. (إلا بالحق)

إلا بالعدل. وقيل: إلا للحق، أي: لإقامة الحق. (ثم كان عاقبة الذين أسائوا السوأى) نصب العاقبة على خبر (كان) قدمه على الاسم، واسمه (السوأى)، واللام مقدر في (أن كذبوا)، والسوأى: النار هاهنا، كما أن الحسنى الجنة، في قوله تعالى: (للذين أحسنوا الحسنى). (يحبرون) يكرمون. وقيل: يسرون.

(فسبحان الله) فسبحوا الله في هذه الأوقات. وإن كان "سبحان" مصدراً عقيماً، ولكنه في معنى تسبيح الله. (ومن ءاياته يريكم البرق خوفاً وطمعاً) [خوفاً] من الصواعق، وطمعاً في الغيث. وقيل: خوفاً للمسافر، وطمعاً للمقيم. ولم يجيء "أن" في "يريكم البرق"، لأنه عطف على: (ومن ءاياته خلق السموات)، وكان المعطوف بمعنى المصدر ليكون عطف اسم على اسم.

وقيل: تقديره: ويريكم البرق خوفاً وطمعاً من آياته، فيكون عطف جملة على جملة. (وهو أهون عليه) أي: عندكم. وقيل: أهون على المعاد من الابتداء، لأنه ينقل في الابتداء حالاً فحالاً، ويخلق أطواراً، وفي الإعادة يكون بكن. وقيل: إن المراد بالأهون الهين، قال الفرزدق: 935 - إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتاً دعائمه أعز وأطول 936 - بيتاً بناه لنا الإله وما بنى ... ملك السماء فإنه لا ينقل.

(وله المثل الأعلى) الصفة العليا. (ضرب لكم مثلاً من أنفسكم)

أي: لستم تجعلون عبيدكم شركاءكم، فكيف [(تخافونهم] كخيفتكم أنفسكم) أي كخيفتكم شركاءكم -الذين ليسوا عبيداً- في المتاجر، كقوله تعالى: ([و] لا تلمزوا أنفسكم). (وكانوا شيعاً) صاروا فرقاً. (فئات ذا القربى حقه) من البر وصلة الرحم. (ظهر الفساد في البر والبحر) أجدب البر وانقطعت مادة البحر.

وقيل: البر مدائن البلاد، والبحر: جزائرها. (يصدعون) يتفرقون. (وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله) الأول: من قبل الإنزال، والثاني: من قبل الإرسال. ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفراً) أي: السحاب، فإذا كان مصفراً لم يمطر. وقيل: فرأوا الزرع مصفراً. فيكون كناية عن غير مذكور، إلا أنه في (كيف يحي الأرض) دلالة عليه.

(لقد لبثتم في كتاب [الله]) علم الله. وقيل: ما بين من كتابه. [تمت سورة الروم]

سورة لقمان

سورة لقمان (لهو الحديث) [الأسمار] والأخبار الكسروية. وقيل: الغناء. (وهناً على وهن) أي: نطفة وجنيناً. وقيل: ضعف الحمل على ضعف الأنوثة. (أن اشكر لي ولوالديك)

اشكر لي حق النعمة، ولهما حق التربية. (وإن جاهداك) أي: جهدا في قبولك، وجهدت في الامتناع ليكون مفاعلة. (إنها إن تك) بلغت. إنها إن تك: الهاء كناية عن الخطيئة، [ويجوز أن تكون] عائدة إلى الحسنة، كقوله: (إنها تذكرة). (يأت بها الله) بجزائها. وقيل: إنها الرزق، فلو كان تحت الأرض، ولو كان أقل [قليل] لأخرجه إليك. (ولا تصعر خدك)

لا تكثر إمالة الخد عن الناس صداً وإعراضاً. وقيل: هو التشدق عند التكلم تجبراً وتعمقاً. قال الحطيئة: 937 - أم من لخصم مضجعين قسيهم ... صعر خدودهم عظام [المفخر]. (لصوت الحمير) إذ أوله زفير، وآخره شهيق. وليس فيما يعايش الناس أرفع صوتاً من الحمير. (كنفس واحدة) كخلق نفس واحدة.

(والبحر) بالرفع على الابتداء، والخبر: (يمده). وإنما حسن الابتداء في أثناء الكلام، لأن قوله (ولو أنما في الأرض) قد فرغ فيها "إن" من عملها. وقيل: إن واو (والبحر) واو الحال وليست للعطف، أي: والبحر هذه حاله. (فمنهم مقتصد) عدل وفي بما عاهد الله عليه في البحر. (كل ختار) جاحد. وقيل: غدار. [تمت سورة لقمان]

سورة الم السجدة

سورة الم السجدة (أم يقولون) فيه حذف، أي: فهل [يؤمنون] به أم [يقولون]. وقيل: معناه: بل [يقولون]. والأصح: أنها أم المنقطعة، تؤدي معنى واو العطف -ولذلك لا يكون إلا بعد كلام- وتؤدي معنى الاستفهام. كما قال الأعشى: 938 - هريرة ودعها وإن لام لائم ... غداة غد أم أنت للبين واجد

ثم أقام "الواو" عقيب هذا البيت مقام "أم" كما أقام "أم" مقام "الواو" في هذا البيت، فقال: 939 - لقد كان في حول ثواء ثويته ... [تقضي] لبانات ويسأم سائم. (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض) أي: من السماء العليا إلى الأرض الدنيا كلها يدبره. وقيل: معناه إنه يدبر الأمر في السماء، ثم ينزل بالأمر الملك إلى الأرض. (ثم يعرج إليه) أي: إلى الموضع الذي فيه يثبت الأعمال والآجال. أو مكان الملك الذي أمره الله أن يقوم فيه. وقيل: إنه جبريل يصعد إلى السماء بعد نزوله بالوحي. (في يوم كان مقداره ألف سنة)

أي: الملائكة التي تصعد بأعمال العباد في يوم واحد [تصعد وتقطع] مسافة ألف سنة. وقيل: إن الله تعالى يقضي أمر العالم لألف سنة في يوم واحد، ثم يلقيه إلى الملائكة، وكذلك أبداً. واليوم عبارة عن الوقت، لا عن وضح النهار، قال سلامة [بن] جندل: 940 - يومان يوم مقامات وأندية ... ويوم سير إلى الأعداء تأويب. (أحسن كل شيء خلقه)

"خلق" بدل من "كل"، وهو بدل الشيء من نفسه، أي: أحسن خلق كل شيء. قال ابن عباس: حتى جعل الكلب في خلقه حسناً، ولفظ الكسائي: أحسن ما خلق. وقول سيبويه: إنه مصدر من غير صدر، أي: خلق كل شيء خلقه. [وعلى قراءة خلقه] الضمير في الهاء، يجوز أن يعود إلى الفاعل وهو الله، وإلى المفعول المخلوق. (أءذا ضللنا) هلكنا وبطلنا. قال الأخطل: 941 - كنت القذى في موج أكدر مزبد ... قذف الأتي به فضل ضلالا.

(لأتينا كل نفس هداها) أي: هدايتها إلى طريق الجنة. وقيل: آتيناها الهدى إلجاءً. (تتجافى جنوبهم) [تنبو وترتفع]. قال عبد الله بن رواحة: 942 - وفينا رسول الله يتلو كتابه ... كما انشق معروف من الفجر ساطع 943 - تراه يجافي جنبه عن فراشه ... إذا استثقلت بالمشركين [الـ]ـمضاجع

(من العذاب الأدنى) مصائب الدنيا. قيل: عذاب قريش بالقحط سبع سنين. (إلى الأرض الجرز) اليابسة. وقيل: الأرض التي لا تسقى إلا بالسيول والأمطار. [تمت سورة السجدة]

سورة الأحزاب

سورة الأحزاب (يا أيها النبي اتق الله) أي: أكثر من التقوى. وقيل: أدمها. (ولا تطع الكافرين) فيما سألته وفد ثقيف أن يمتعوا باللات سنة. (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه)

أي: اعتقادين. وقيل: نزلت في رجل قال: لي نفس تأمرني بالإسلام، ونفس تنهاني. وفي معناه للفرزدق: 944 - فلو كنت ذا نفسين خاطرت مقبلاً ... بإحداهما من دونك الموت أحمرا 945 - فإن هلكت إحداهما عشت بعدها ... بأخرى عست نفسي بها أن تعمرا. الآخر: 946 - ولو كان [لي] قلبان عشت بواحد ... وأفردت قلباً في هواك يعذب 947 - ولكنما أحيا بقلب [مروع] ... فلا العيش يصفو لي ولا الحب يقرب

ثم نقض الفرزدق هذا القول في أخرى فقال: 948 - لكل امرئ نفسان نفس كريمة ... وأخرى يعاصيها الفتى ويطيعها 949 - ونفسك من نفسيك تشفع للندى ... إذا قل من أخدانهن شفيعها. (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) من بعضهم ببعض. وقيل: أولى بهم فيما رآه لهم، منهم بأنفسهم. (وأزواجه أمهاتهم) في التحريم وفي التعظيم.

(ليسئل الصادقين عن صدقهم) ألله كان ذلك [أم الدنيا]. [أو] ليسأل الأنبياء عن تبليغهم. (إذ جاءتكم جنود) لما أجلى النبي عليه السلام يهود بني النضير عن ديارهم، اجتمعوا وقدموا مكة، وحزبوا الأحزاب، وتذكر قريش طوائلهم يوم بدر، وقائدهم/أبو سفيات وقائد غطفان عيينة بن حصن، وصار المشركون كلهم يداً واحدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان قد وادع بني قريظة، وهم أصحاب حصون بالمدينة، [فاحتال لهم حيي بن أخطب، ولم يزل يفتلهم في الذروة والغارب حتى نقضوا العهد، فعظم البلاء، فأشار سلمان بالمقام بالمدينة] وأن يخندق.

(فأرسلنا عليهم ريحاً) كانت ريح صبا تكب القدور وتطير الأخببية. (إذ جاءوكم من فوقكم) عيينة في أهل نجد. و (أسفل منكم) أبو سفيان في قريش بجميع عددهم وعددهم. (زاغت الأبصار) شخصت. ويقال: حارت. وقيل: زاغت، أي: عن النظر إلى كل شيء [إلا] [إلى عدوها].

(وبلغت القلوب الحناجر) لشدة الرعب والخفقان، فإن الحياة تنبع من القلب في الشرايين فينبض به، والخفقان حركة للقلب غير معتادة، يحس بها صاحبه حتى يقال: إنه يخرج فيها عن [غشائه]، وكان بلوغ القلوب الحناجر منه. كما قال زهير: 950 - يصعد من خوفها الفؤاد فما ... يرقد بعض الرقاد صاحبها. وقيل: معنى بلغت كادت تبلغ، إذ القلب لو زال عن موضعه لمات صاحبه. وأفسد ابن الأنباري هذا التأويل، وقال: كاد لا يضمر ألبتة ولو جاز إضماره لجاز "قام زيد" بمعنى كاد يقوم، فيصير تأويل "قام زيد": لم يقم زيد. والتأويل صحيح غير فاسد، لأن إضمار "كاد" أكثر من أن يحصى، ولكنه بحسب الموضع المحتمل، ودلالة الكلام.

ألا ترى أنك تقول: أوردت عليه من الإرهاب ما مات عنده، أي: كاد يموت، ومنه قول جرير: 951 - إن العيون التي في طرفها مرض ... يقتلننا ثم لا يحيين قتلانا 952 - [يصرعن] ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله أركانا أي: كدن يقتلننا ويصرعن. (وتظنون بالله الظنونا) هذه الألف لبيان الحركة.

وكذلك في قوله: (الرسولا) و (السبيلا)، لأنه لو وقف بالسكون لخفي إعراب الكلمة، فيوقف بالألف، كما يوقف بها في قوافي الشعر، وكما تدخل الهاء لبيان الحركة في: (ماليه) و (حسابيه). (وإذ قالت طائفة منهم) وهم بنو سليم. (يا أهل يثرب) وهي المدينة. وقيل: المدينة بعض منها. (يقولون إن بيوتنا عورة) وهم بنو حارثة.

(ثم سئلوا الفتنة) الرجوع عن الدين. (وما تلبثوا) أي: عن الإجابة إلى الفتنة (إلا يسيرا) وقيل: ما تلبثوا حتى يهلكوا. (هلم) أصله "لم" أي: لم بنا، ثم دخلت عليها هاء التنبيه، فصار "هالم"، فحذفت الألف تخفيفاً. (أشحة عليكم) أي: [بالخير] والمواساة. (سلقوكم) بلغوا في أذاكم بالكلام الموحش كل مبلغ. (أسوة حسنة)

أي: حسن مواساة ومشاركة، إذ قاتل يوم أحد حتى [جرح، وقتل عمه] وخاصته. ([فمنهم] من قضى نحبه ومنهم من ينتظر) أي: الموت. قال بشر بن أبي خازم: 953 - [قضى] نحب الحياة وكل حي ... إذا يدعى لميتته أجابا. وقيل: قضى نذره، ويجوز أن يكون نذر صدق القتال، وحسن العناء، كما قال كعب بن مالك الأنصاري: 954 - قضينا من تهامة كل نحب ... وخيبر ثم أجممنا السيوفا

955 - [نخيرها] فلو نطقت لقالت ... [قواطعهن] دوساً أو ثقيفا. وقيل: قضى نحبه، أي: قضى حاجته وبلغ هواه، كما قال جرير: 956 - بطخفة جالدنا الملوك وخيلنا ... عشية [بسطام] جرين على [نحب]. (وكفى الله المؤمنين القتال)

[لما] اشتد الخوف يوم الأحزاب أتى نعيم بن مسعود مسلماً من غير أن علم قومه، فقال عليه السلام: "إنما أنت فينا رجل واحد وإنما غناؤك أن تخادع عنا، فالحرب خدعة". فخرج حتى أتى بني قريظة، وكان نديمهم، فذكرهم وده، وقال: إن قريشاً وغطفان من [الطارئين] على بلادكم، فإن وجدا نهزة وغنيمة أصابوها،

وإلا لحقوا ببلادهم، وخلوا بينكم وبين الرجل، ولا قبل لكم به، فلا [تقاتلوا] حتى تأخذوا رهناً من أشرافهم، ليناجزوا القتال. ثم أتى قريشاً وغطفان فذكرهم وده لهم، فقال: بلغني أمر أنصحكم فيه، فاكتموا علي، إن معشر اليهود ندموا، وترضوا محمداً على أن يأخذوا منكم أشرافاً ويدفعوهم إليه، ثم يكونون معه عليكم. فوقع ذلك من القوم، وأرسل أبو سفيان ورؤوس غطفان إلى بني قريظة: أنا لسنا بدار مقام، وهلك الخف والحافر، فلنناجز محمداً فطلبوا رهناً، [فقالت] قريش وغطفان: إن حديث نعيم لحق. وتخاذل القوم، واتهم بعضهم بعضاً (وكفى الله المؤمنين القتال). (وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم) من حصونهم.

عن قتادة: نزل جبريل ورسول الله في بيت زينب بنت جحش، يغسل رأسه، فقال: عفا الله عنك، ما وضعت الملائكة سلاحها منذ أربعين ليلة، [فانهد] إلى بني قريظة، فإني قطعت أوتارهم، وقلعت أوتادهم، وتركتهم في زلزال وبلبال، فحاصرهم النبي عليه السلام، ثم قتل مقاتليهم، وسبى ذراريهم. (تردن الحياة الدنيا وزينتها) قال الحسن: تطلعت نفس بعض نسائه إلى الدنيا، فنزلت الآية.

(يضاعف لها العذاب) لأن النعمة عندهن بصحبة الرسول أعظم، والحجة عليهن ألزم. وقال أبو عمرو: أقرأ بالتشديد للتفسير بضعفين، ولو كان مضاعفة لكان العذاب ثلاثاً أو أكثر. وبينه أبو عبيدة فقال: التضعيف: جعل الشيء ضعفين، والمضاعفة: أن يجعل إلى الشيء شيئين. (فلا تخضعن بالقول) لا تلينه. (قولاً معروفاً) صحيحاً غليظاً، غير مؤنس مطمع.

[(وقرن) من] وقر يقر وقوراً ووقاراً، إذا سكن واطمأن، أي: كن ذوات وقار فلا تخففن بالخروج من البيوت. ويجوز من قر بالمكان يقر. وكان اقررن فتركوا حرفاً من التضعيف، كما قالوا: "ظلت" في "ظللت". ثم نقلوا حركته إلى القاف، واستغنوا عن [ألف] الوصل فصار "قرن"، وإن شئت قرن، كما قرئ (ظلت عليه عاكفاً) بالكسر والفتح.

(ولا تبرجن) لا تظهرن المحاسن. وقيل: لا تمشين بين يدي الرجال. (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله) في زينب بنت جحش وكانت ابنت عمة رسول الله، خطبها لزيد بن حارثة، فامتنعت وأخوها عبد الله.

(وإذ تقول للذي أنعم الله عليه) أيضاً فيها. (وتخفي في نفسك ما الله مبديه) من الميل إليها وإرادة طلاقها. وقال الحسن: هو ما أعلمه الله أنها ستكون زوجته. (فلما قضى زيد منها وطراً)

أي: من طلاقها، عن قتادة. وعن مقاتل: من نكاحها. والرواية الصحيحة: ما حدث أنس أنه خطبها لرسول الله، ثم قبل العقد، خطبها لزيد، لما كان من أمر زيد، واختيار رسول الله على أبيه، وقول رسول الله: آثرني على [أبيه]، فسأوثره على ما أخطب لنفسي، وأزوج منه ابنت [عمتي]، لئلا يسبقني أحد إلى فضل، فأجابت المرأة على كراهة شديدة، وما وافقتها صحبته، [لما] تقدم لها من رغبة رسول الله فيها. وأوحى الله إليه [لتنكحنها ولتصيرن] من أمهات المؤمنين، فذلك الذي كان يخفيه عن زيد حياءً، إلى أن أمره الله.

(وكان أمر الله قدراً مقدوراً) جارياً على تقدير وحكمة. (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم) الحسن والحسين إذ ذاك [لم] يكونا رجلين. (ودع أذاهم) اصبر. وقيل: لا تحزن، وكلهم إلينا فأنا حسبك وحسيبهم.

(من عدة تعتدونها) تفتعلون من العد، أي: تحسبونها، عددت واعتددت، مثل: حسبت واحتسبت. (ترجي) تؤخر. (وتئوي) تضم. ومعناهما: الطلاق والإمساك. وقال الحسن: النكاح وتركه. (ومن ابتغيت ممن عزلت) أي: طلبت إصابته بعد العزل (فلا جناح).

(ذلك أدنى أن تقر أعينهن) أي: إذا علمن أنك لا تطلقهن، وأنك لا تتزوج عليهن. (لا يحل [لك] النساء من بعد) أي: من بعد هؤلاء التسع، والمعنى فيه أنه لما خيرهن فاخترنه، أمر أن يكتفي بهن. وإنما جاء لا يحل بالياء للذهاب إلى الجمع في النساء، لا الجماعة، أو إلى ضمير مضاف محذوف. كأنه: لا يحل لك نكاح النساء، أو جميع النساء، أو شيء من النساء. (غير ناظرين إناه) غير منتظرين حينه ووقته. (ذلك أدنى أن يعرفن) أي: الحرة من الأمة. وقيل: الصالحات من المتبرجات.

(ءاذوا موسى) اتهموه بقتل هارون، فأحياه الله فبرأه ثم مات. (إنا عرضنا الأمانة) على طريق المثل والاستعارة، أي: لو كانت السموات والأرض من أهل الأمانة، لأشفقن منها مع عظيم هيئتها، ووثاقة [بنيتهما]، كما قال:

957 - أما وجلال الله لو تذكرينني ... [كذكريك] ما نهنهت للعين مدمعا 956 - فقالت: بلى والله ذكراً لو أنه ... تضمنه صم [الصفا] لتصدعا إلا أن الشعر وأمثاله معلق بشرط "لو يكون"، فيجوز أن يقال: إنه لا يكون. وعرض الله الأمانة قد كان، لأنه من المحال أن يقول: (عرضنا الأمانة)، ولم يعرضها لا مجازاً ولا حقيقة. فعند ذلك يقدر محذوف في (فأبين)، أي: فأبين خيانتها بدليل قوله عز وجل: (قالتا أتينا طائعين). وتكون الأمانة ما أودعها الله في العالم من دلائل التوحيد أن يظهروها، فأظهروها، [إلا] الإنسان فإنه جحدها، وحمل الخيانة فيما حمل من الأمانة.

أو يقال: إن هذا العرض، بمعنى المعارضة، أي: عورضت السموات والأرض، وقويست بثقل الأمانة، فكانت الأمانة أوزن وأرجح، لعظم مقدارها، وتغليظ أحكامها. (فأبين أن يحملنها) لم يوازنها، (وأشفقن منها) أي: خفن، على المجاز، كما قيل: 959 - يريد الرمح قلب أبي براء ... ويرغب عن دماء بني عقيل. وعن القاضي أبي القاسم الداوودي: أن هذه الأمانة هي القوى الثلاثة، التي في الإنسان: قوة العقل، وقوتا الشهوة والغضب، فإنه لم يحمل جميعها من بين السموات والأرض أحد سوى الإنسان. وهذا الإنسان الضعيف الظلوم الحامل ما [لا] تحمله السموات والأرض من هذه القوى الثلاثة المتضادة، شبه في رموز الحكماء ببيت فيه ملك، وخنزير وسبع، فالملك عقله، والخنزير شهوته، والسبع غضبه. وقالوا: أي الثلاثة غلبت فالبيت له.

فليت عقله إذاً ثبت لمغالبة العدوين الذين يجاذبانه إلى هلاكه ختلاً، ويساكنانه أبداً. وأما إذا كان ناقصاً جهولاً ضعيفاً بين قويين ظلومين على ما هو الأغلب في الناس، فهناك كل شر وفساد، [إذ] قيل: ويل للقوي بين الضعيفين، فكيف للضعيف بين القويين. [تمت سورة الأحزاب]

سورة سبأ

سورة سبأ (وله الحمد في الأخرة) هو حمد أهل الجنة سروراً بالنعيم من غير تكليف. (يعلم ما يلج في الأرض) من المطر. (وما يخرج منها) من النبات. (وما ينزل من السماء) من الأقضية والأقدار. (وما يعرج فيها)

من الأعمال. (أفلم يروا إلى ما بين أيديهم) أي: ألا ترون أنا إن نشأ نعذبهم في الأرض أو في السماء. (أوبي معه) رجعي التسبيح. والأوب: الرجوع، والتأويب: السير إلى الليل، أي: سبحي من الصبح إلى الليل، قال الراعي: 960 - لحقنا بحي أوبوا السير بعدما ... رفعنا شعاع الشمس والطرف مجنح 961 - فنلنا غراراً من حديث نقوده ... كما اغتر بالنص القضيب المسمح.

(والطير) نصبه: بالعطف على موضع المنادى. أو على المفعول معه، أي: سخرنا له الجبال وسخرنا معه الطير. (وقدر في السرد) وهو دفع المسمار في ثقب الحلقة. والتقدير فيه: أن يجعل المسمار على قدر الثقب، لا دقيقاً فيقلق، ولا غليظاً فيفصمه. قال الشماخ: 962 - شككن بأحساء الذناب على هدى ... كما تابعت سرد العنان الخوارز.

(وأسلنا له عين القطر) سالت له القطر، وهو النحاس من عين فيما وراء أندلس بمسيرة أربعة أشهر، فبني منه قصراً، [وحصر] فيها مردة الشياطين، ولا باب لهذا القصر، ذكر ذلك في حكاية طويلة من أخبار عبد الملك بن مروان، وأن من جرده لذلك تسورها من أصحابه عدد، فاختطفوا فكر راجعاً. (كالجواب) كالحياض يجمع فيها الماء. قال كثير:

963 - أتيتك والعيون مقدحات ... هوارب في جماجم كالجواب. (وقدور راسيات) لا تزول عن أماكنها. كما قال بعض بني منقر: 964 - يفرج ما بين الأثافي ويذبل ... ومثل ذراها راسيات قدورنا 965 - فأضيافنا في المحل حول خبائنا ... وأعداؤنا من خوفنا ما نطورنا. (اعملوا ءال داود شكراً) أي: اعملوا لأجل شكر الله، فيكون مفعولاً له، كقولك: جئتك حباً.

ويجوز مفعولاً به كأنه اعملوا عملاً دون ذلك، عمل الأركان. ومثل هذه الآية في احتمال اللفظ على وجهين: له وبه، قول حاتم: 966 - وعوراء قد أعرضت عنها فلم تضر ... [وذي أود] قومته فتقوما 967 - واغفر عوراء الكريم ادخاره ... وأعرض عن شتم اللئيم بتكرما] أي: اغفرها لأجل ادخاره، أو أغفرها مغفرة تكون ادخاراً له واستبقاءً [لـ]ـمودته. (منسأته)

عصاه، نسأت الغنم سقتها. قال الهذلي: 968 - إذا دببت على المنساة من كبر ... فقد تباعد عنك اللهو والغزل. (العرم) المسنيات، واحدها عرمة. وقيل: العرم: اسم الجرذ الذي نقب السكر.

(ذواتى أكل خمط) ذواتي ثمر خمط، والخمط شجر الأراك، وله حمل يؤكل فيكون على أكل عطف بيان، أي: الأكل لهذا الشجر. وقيل: بل الخمط صفة حمل الشجرة، وهو المر الذي فيه حموضة، كما قال الهذلي:

969 - وما الراح [راح] الشام جاءت سبيئة ... لها غاية [تهدي] الكرام عقابها 970 - عقار كماء النيئ ليست بخمطة ... ولا خلة يكوي الشروب شهابها. والأثل: شبيه بالطرفاء. والسدر: النبق. (وجعلنا بينهم وبين القرى)

كانت بينهم وبين بيت المقدس (قرى ظاهرة)، إذا قاموا في واحدة، ظهرت لهم الثانية. (وقدرنا فيها السير) للمبيت والمقيل من قرية إلى قرية. (ءامنين) من الجوع والظمأ، وكانت المرأة تدخلها بمكتلها فتمتلئ من ألوان الفواكه، من غير أن تأخذ شيئاً بيدها. (باعد بين أسفارنا) قالوا: ليتها كانت بعيدة فنسير على نجائبنا. (فجعلناهم أحاديث) حتى قالوا في المثل: تفرقوا أيدي سبأ. (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه)

أصاب في ظنه، والظن مفعول. وقيل: مصدر، تقديره: صدق عليهم إبليس ظناً ظنه. وظن إبليس: أن آدم لما نسي، قال إبليس: لا تكون ذريته إلا ضعافاً عصاة. (وما كان له عليهم من سلطان) لولا التخلية للمحنة. (إلا لنعلم) لنظهر المعلوم. (فزع عن قلوبهم) أزيل عنها الخوف.

أفزعته: إذا [ذعرته]، وفزعته: [جليت] عنه الفزع. مثل: أقذيت وقذيت، وأمرضت ومرضت. (وإنا أو إياكم) معناه إنا وأنتم لسنا على أمر واحد، فلا محالة يكون أحدنا على هدى، والآخر في ضلال، فأضلهم بأحسن تعريض، كما يقول الصادق للكاذب، [إن أحدنا] لكاذب. وفي معناه: 971 - بنو عم النبي وأقربوه ... أحب الناس كلهم إليا

972 - فإن يك [حبهم] رشداً أصبه ... ولست [بمخطئ] إن كان غيا. فخرج التقسيم على الإلزام لا على الشك من القائل، ومثله أو قريب منه: 973 - زعم المنجم والطبيب كلاهما ... لا يبعث الأموات قلت إليكما 974 - إن صح قولكما فلست بخاسر ... أو صح قولي فالخسار عليكما. وذكر الفقيه نصير المرغيناني: بأن من محاسن الكلام تجاهل

[العارف]، مثل قوله تعالى: (وإنا أو إياكم لعلى هدى)، وأنشد في نظائره قول المجنون: 975 - بالله يا ظبيات القاع قلن لنا ... ليلاي منكن أو ليلى من البشر. وقول دريد بن الصمة: 976 - تنادوا [فقالوا] أردت الخيل فارساً ... فقلت أعبد الله ذلكم الردي

977 - فإن يك عبد الله خلى مكانه ... فما كان وقافاً ولا طائش اليد. (إلا كافة للناس) إلا رحمة شاملة جامعة. والكافة: الجماعة التي تكف غيرها. وقال [الجبائي]: الكافة الجماعة التي تتكفأ يميناً وشمالاً. فجعل المضاعف من المهموز، ونقله عن المعنى المعروف.

وقال ابن بحر: معناه كافاً لهم، أي: مانعاً من الشرك. فغير المأخذ اللفظي دون المعنى، وكذلك البلخي في قوله: إنه من [كف] الثوب، إذا جمعه، فضم أطرافه، فقد سها في تفسير هذه اللفظة رؤساء المتكلمين. (بل مكر الليل والنهار) قيل: معصيتهما. وقيل: مرهما واختلافهما، فقالوا: إنهما لا إلى نهاية. (وما بلغوا معشار ما ءاتيناهم) [45]

أي: ما بلغ أهل مكة معشار ما أوتي الأولون من القوى والقدر. وقال ابن عباس: هم الأولون، ما بلغوا معشار ما آتيناهم، أي: هذه الأمة، فلا أمة أعلم منهم ولا كتاب أهدى من كتابهم. (أن تقوموا لله مثنى وفرادى) أي: تناظرون مثنى، وتتفكرون في [أنفسكم] فرادى، فهل تجدون في أحواله، وأخلاقه، ومنشئه، ومبعثه، ما يتهمه في صدقه. (يقذف بالحق) [يرمي] به على الباطل. (وما يبدئ الباطل) لا يثبت إذا بدأ، (وما يعيد) [لا يعود] إذا زال.

وقيل: لا يأتي بخير في البدء والإعادة، أي: الدنيا والآخرة. (وأنى لهم التناوش) [التباطؤ]، وقيل: التناول. قال الراجز: 978 - بات ينوش الدلو نوشاً من علا 979 - نوشاً به يقطع أجواز الفلا

والمراد بالتناوش هنا: الرجعة، عن ابن عباس. والتوبة عن سدي. والإيمان عن الزجاج. أي: كيف يكون التناول من بعيد لما كان قريباً منهم فلم يتناولوه. (ويقذفون بالغيب) يقولون: لا بعث ولا حساب. (من مكان بعيد) أي: يقذفون من قلوبهم، وهي بعيدة عن الصدق والصواب. [تمت سورة سبأ]

سورة الملائكة

سورة الملائكة (مثنى وثلاث ورباع) قد [ذكرنا] أنها لتكرر تلك الأعداد، ولم ينصرف للعدل [والصفة]. [وقال] بعض الطاعنين: إن صاحب الأجنحة الثلاثة لا يطير، لزوال الاعتدال، ويكون كالجادف [الذي] أحد جناحيه مقصوص. فأجاب عنه الجاحظ: "إنه قريب معقول في الطيران، إذا وضع على غير هذا الوضع، يصير ثلاثة أجنحة وفق تلك الطبيعة. ولو كان [الوطواط] في تركيبه كسائر الطير، لما طار لا ريش.

وكل إنسان فإنما ركبته في رجله، وذوات الأربع ركبها في أيديها، والإنسان وكل سبع فكفه في يده، والطائر كفه في رجله. ويجوز أن يكون موضع الجناح الثالث بين الجناحين، فيكون عوناً لهما [فتستوي] [في] [القوى] والحصص. وإذ كان ذلك [ممكناً] في معرفة العبد، فكيف في قدرة الرب"، وأيضاً [فإن] هذا البناء لتعدد العدد المسمى به، ولذلك عدل عن البناء الأول، فثلاث إذا عبارة عن ثلاث ثلاث، فتكون ثلاثة أجنحة من جانب، وثلاثة من جانب، فيعتدل. (أفمن زين له سوء عمله فرءاه حسنا) جوابه محذوف، يجوز أن يكون مثل: تريد أن تهديه.

ويجوز: فإنه يتحسر عليه. ويجوز: كمن آمن وعمل صالحاً. ويجوز: كمن علم الحسن والقبيح. ويجوز: فإن الله يضله، إلا أنه وقع (من يشاء) موقع الجميع. وإنما كان أكثر استفهامات القرآن بلا جواب، لمعنيين، أحدهما: ليكثر احتمال الجواز، والثاني: لأنها من عالم لا يستعلم مستفيداً. (من كان يريد العزة فلله العزة جميعا) قال قتادة: أي: فليتعزز بطاعة الله. وقال علي: من سره الغنى بلا مال، والعز بلا سلطان، والكثرة بلا عشيرة، فليخرج من ذل معصية الله إلى عز طاعته.

وأنشد: 980 - من رام ملكاً في الورى ... من غير سلطان ومال 981 - وأراد عزاً لم يؤثله ... العشائر والموالي 982 - فليعتصم بدخوله ... في عز طاعة ذي الجلال. (إليه يصعد الكلم الطيب) التوحيد. وقيل: الثناء الحسن على الصالحين. (والعمل الصالح يرفعه) أي: يرتفع الكلام الطيب بالعمل الصالح.

(وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره) قال البلخي: أي: من عمر آخر غير الأول، كما تقول: عندي درهم ونصفه، أي: نصف آخر، [بل] لا يمتنع أن يزيد الله في العمر أو [ينقص]، كما روي: "أن صلة الرحم تزيد في العمر" على أن تكون

الأحوال قبل التغيير وبعده مستقرة في سابق علمه. (ومن الجبال جدد) طرائق. والجدة: الطريقة. (وغرابيب) من شرط التأكيد أن يتقدم الأظهر، كقولك: أسود حالك، وأصفر فاقع، فكذلك ينبغي أن يجيء سود غرابيب، ولكن تقديم الغرابيب، لأن العرب ترغب عن اسم السواد، حتى يسمون الأسود من الخيل: الأدهم، والأسود من الإبل: الأصفر. قال أبو عبيدة -في بيت الأعشى-: 983 - تلك خيلي منهم وتلك ركابي ... هن صفر أولادها كالزبيب فبدأ الله بما هو أحب عندهم، وأخر ما هو أكره في أسماعهم. (فمنهم ظالم لنفسه) يحتمل أصحاب الصغائر والكبائر، فيكون قوله (الذين اصطفينا من

عبادنا) دليلاً على أن جملة هذه الأمة مصطفاة متخيرة على غيرها، وإن كان فيها الفسقة المرقة. والمقتصد: المتوسط في الطاعة. والسابق: أهل الدرجة القصوى منها. (أذهب عنا الحزن) هموم الدنيا ومعايشها. (وجاءكم النذير) النبي عليه السلام. وقيل: الشيب، وفي معناه قيل:

984 - وقائلة: تبيض والغواني ... نوافر عن معاينة القتير 985 - ألا إن المشيب نذير ربي ... ولست مسوداً وجه النذير. (إلا سنت الأولين) ما لقوة من صنوف العذاب أو الموت. (على ظهرها من دابة) لأنها خلقت للناس. [تمت سورة فاطر]

سورة يس

سورة يس (ما أنذر ءاباؤهم) يجوز أن يكون "ما" بمعنى النفي. ويجوز بمعنى الذي، أي: لنخوفهم الذي خوف آباءهم. وهذا أولى، لأن الأرض لا تخلو من حجة تخوف. (إنا جعلنا في أعناقهم) نزلت الآيتان فيمن هم أن يفتك برسول الله -صلى الله عليه- فصرفهم الله عنه. ويجوز أن يكون ذلك صورة عذابهم في الآخرة. ويجوز أن يكون ذلك مثل امتناعهم عن الإيمان، كالمغلول عن التصرف.

كما قال الأفوه الأودي: 986 - كيف الرشاد إذا ما كنت في نفر ... لهم على الرشد أغلال وأقياد 987 - أعطوا غواتهم جهلاً مقادتهم ... وكلهم في حبال الغي منقاد. (مقمحون) مرفوعة رؤوسهم. والقمح: رفع الشيء إلى الفم. وقيل: المقمح: الذي يرفع رأسه فيصوبها إلى ظهره، فيكون خارج الصدر، متطامن ما بين المنكبين، وتلك هيئة البعير إذا رفع رأسه. (ونكتب ما قدموا) أعمالهم. (وءاثارهم)

سننهم، أي: [ما] استن بها من بعدهم، كقوله: (ينبؤا الإنسان يومئذ بما قدم وأخر). (أصحاب القرية) أهل أنطاكية. والرسولان الأولان: تومان وبولص، والثالث: شمعون.

(رجل يسعى) حبيب النجار. كان من بني إسرائيل، وكانت السماء أمسكت، فتطيروا بهم وقتلوهم، فلما رأى حبيب نعيم الجنة، تمنى إيمان قومه بني إسرائيل فقال: (يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي) بأي شيء غفر. (من جند) لم تحتج إلى جند. (إن كانت) أي: ما كانت (إلا صيحة). (خامدون) ميتون، كالنار الخامدة. (يا حسرة على العباد)

تلقين لهم أن يتحسروا على ما فاتهم. (وإن كل [لما جميع لدينا محضرون)] ["لما" بالتخفيف على أن "ما" صلة مؤكدة، و"إن" مخففة من المثقلة أي]: إن كلاً لجميع لدينا محضرون. وبالتشديد، على أنها بمعنى "إلا"، وإن بمعنى "ما". أي: ما كل إلا جميع لدينا محضرون. و (جميع) في الوجهين تأكيد [لـ (كل)]. (ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم) يحتمل معنى الإثبات والنفي. الإثبات: أي يأكلون هنيئاً بغير صنعة كالرطب والفواكه، ويصنعون منه بأيديهم.

[أو هو على النفي أي: ليأكلوا ولم يعملوا ذلك بأيديهم]. (نسلخ منه النهار) نخرج منه ضوءه، كما نسلخ الشاة من جلدها. (والشمس تجري لمستقر لها) لانتهائها وفنائها عند انقضاء الدنيا.

وقيل: لأبعد مغاربها من الأفق، ثم تكر راجعة إليها. (والقمر) نصبه بتقدير فعل مضمر، كأنه قدرنا القمر قدرناه، فيكون الفعل المضمر قبل القمر معلوماً بالفعل المظهر بعده، هذا هو مذهب سيبويه في قولك: زيداً ضربته. قال أبو عبيد: لا سيما وقد تقدم القمر ما يمكن أن يعمل في نصبه، وهو نسلخ منه النهار، أي نسلخ النهار، ونقدر القمر. (قدرناه منازل) هي المنازل المعروفة الثمانية والعشرون. (كالعرجون القديم) العذق اليابس. والعذق: ما يخرج من قضبان الكرم والنخيل فيدق ويتقوس، والقديم الذي أتى عليه الحول فدق واستقوس.

ولا يعجبنا اختيار المتكلمين لفظة القديم من بين أسماء الله الحسنى، وقد شبه الله بالعرجون بعض خلقه في أضعف حالاته، وجعل القديم من أدق صفاته.

وكذلك قولهم الذات خطأ، لأن صفات الله لا تلحقها تاء التأنيث للمبالغة، لا يقال: علامة، وهو أعلم [العالمين].

(لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر) أي: بسرعة سير القمر، كما يرى ذلك في حركتها من المغرب إلى المشرق. فبينا هو يجامع الشمس في الأفق الغربي من أول الشهر، إذ هو يستقبله في النصف منه.

وقال يحيى بن سلام: إن المراد به ليلة البدر، لأنه يبادر في صبيحتها بالمغيب قبل طلوعها. (ولا الليل سابق النهار) أي: لا يأتي الليل إلا بعد النهار، وقت النهار بتمامه. وسئل الرضا عند المأمون عن الليل والنهار أيهما أقدم وأسبق؟، فقال: النهار، فطلب منه الدليل؟ فقال: أما من القرآن فقوله: (ولا الليل سابق النهار)، وأما من الحساب: فخلق الدنيا بطالع السرطان، والكواكب في أشرافها، فيقتضي

كون الشمس من الحمل في عاشر الطالع أن يكون في وسط السماء. (يسبحون) يسيرون بسرعة، ومنه فرس سابح وسبوح. قال الراجز: 988 - ومهمه فيه السراب يسبح 989 - يدأب فيه القوم حتى يطلحوا

990 - وإن غدوا فيه وإن تروحوا 991 - كأنما أمسوا بحيث أصبحوا. (حملنا ذرياتهم) أي آباءهم، سمى الآباء ذرية، لأنه ذرأ الأبناء منهم على طريق تسمية السبب باسم المسبب، كما قال الراجز: 992 - أقبل في المستن من ربابه 993 - [أسنمة] الآبال من سحابه. (من مثله)

من سائر السفن التي هي مثل سفينة نوح. وقيل: هي الزواريق. وقيل: الإبل فإنها سفن البر. قال طرفة: 994 - كأن حدوج المالكية [غدوة] ... خلايا [سفين] بالنواصف [من] دد. وقال المثقب: 995 - وهن كذاك حين قطعن [فلجاً] ... كأن حمولهن على سفين

996 - يشبهن السفين وهن بخت ... عراضات الأباهر والشؤون. (اتقوا ما بين أيديكم) من عذاب الدنيا. (وما خلفكم) من عذاب الآخرة. (وهم يخصمون) أي: في متاجرهم ومبائعهم. (ينسلون) يسرعون. وقيل: يخرجون.

(من مرقدنا) يخفف عنهم بين النفختين فينامون. (في شغل فاكهون) ناعمون، وذلك الشغل افتضاض الأبكار. وقيل: السماع. والأولى: أن يحمل على كل لذة ونعيم.

وقال الفراء: الفكه [والفاكه] واحد، وهو الرجل الطيب الحديث، الناعم البال. وقال أبو عبيدة: الفكه الذي يتفكه بالطعام، والفاكه صاحب الفاكهة، كالتامر واللابن. (ما يدعون) يستدعون ويتمنون. (سلام قولاً) أي: ولهم من الله سلام يسمعونه، ومعناه: بشارة الله لهم بسلامتهم أبداً.

(وامتازوا اليوم) ينفصل فرق المجرمين بعضهم عن بعض. (جبلاً كثيراً) خلقاً كثيراً. والأولى: جبلاً بدليل مؤنثه الجبلة، كقوله: (والجبلة الأولين). وهذا كما يقال: بعير ذفر، وناقة ذفرة: إذا كانت عظيمة الذفرى. ويجوز أن يكون الجبل جمع جبلة. وأما (جبلاً) بالضمتين، فهي جمع جبيل، مثل: سبيل وسبل.

ومعناه: المجبول: مثل الجريح والقتيل. (لطمسنا على أعينهم) أعميناهم في الدنيا. (فاستبقوا [الصراط]) الطريق. (فأنى يبصرون) فكيف يبصرون. (لمسخناهم على مكانتهم) أي: في منازلهم حيث يجترحون المآثم. (ومن نعمره) [نبلغه] ثمانين سنة. (ننكسه) نرده من القوة إلى الضعف، ومن الجدة إلى البلى، ومن الزيادة إلى النقصان.

(مما عملت أيدينا) مما تولينا خلقه، كقوله: (فبما كسبت أيديكم). وقال الحسن: مما عملت قوانا. واليد: القوة كالأيد والله يتعالى عن أن تحله القوة أو الضعف، ولكن معناه: مما عملت قوانا التي أعطيناها الأشياء من الأمور السماوية والأرضية. (وهم لهم جند محضرون) أي: في النار، أو عند الحساب. أي: لا [يتمكنون] من نصرهم وهم حاضرون. [تمت سورة يس]

سورة الصافات

سورة الصافات (والصافات صفا) الملائكة، لأنها صفوف في السماء. أو لأنها تصف أجنحتها في الهواء، حتى يأمرها الله بما خلقوا لها. (فالزاجرات زجرا) [تدركه] القلوب كما [تدرك] وسوسة الشيطان، وذلك من دواعي التكليف. (فالتاليات ذكرا) وهو تلاوة كتب الله، أو ذكر تسبيحه وتقديسه. أقسم بثلاثة أصناف من الملائكة، أو برب الأصناف الثلاثة.

وكل واحد من هذا جمع الجمع، لأن الملائكة ذكور، فنقول في جمعها صافة، ثم يجمع على الصافات. (بزينة الكواكب) الزينة تجوز اسماً فأضيفت إلى الكواكب إضافة محضة، أي: بزينة من الكواكب، وتجوز مصدراً أضيفت إلى المفعول به. وقيل: الإضافة كانت "بزينة الكواكب" بتنوين الأول ونصب الثاني، كما هو في بعض القراءات، وهو من باب قوله تعالى: (دعاء الخير) و (سؤال نعجتك)، أي: دعائه الخير، وسؤاله نعجتك. (دحورا)

قذفاً في النار. وقيل: دفعاً بعنف. (واصب) دائم مؤلم. (إلا من خطف) استلب السمع واسترق. وعن ابن عباس: "من وثب الوثبة فلا يلحقه الرجم". (شهاب ثاقب) شعلة من النار، يثقب ضوؤها ويستوقد. قال: 997 - ليت شعري ولليت نبوة ... أين صار الروح مذبان الجسد

998 - بينما المرء شهاب ثاقب ... ضرب الدهر سناه فخمد. (أم من خلقنا) أي: من السماء والأرض والجبال. وقيل: من الملائكة. وقيل: من الأمم الماضية الذين أهلكوا. (لازب) لاصق لازق، وبينهما فرق، فاللاصق الذي يلصق بعضه ببعض، واللازق: الذي يلزق [بما] أصابه. وقيل: لازب لازم. فالأربعة الألفاظ متقاربة.

قال النابغة: 999 - ولا يحسبون الخير لا شر بعده ... ولا يحسبون الشر ضربة لازب. (يستسخرون) يستدعون السخرية. وقيل: ينسبون الآيات إلى السخرية، كما تقول: استحسنته واستقبحته إذا وصفته بهما. (داخرون) أذلاء صاغرون. (وأزواجهم) أشباههم، يحشر صاحب الزنا مع صاحب الزنا وصاحب الخمر مع صاحب الخمر. (فاهدوهم إلى صراط الجحيم)

دلوهم. قال ابن كيسان: قدموهم، والهادي: السابق. والهادية: العنق، وهاديات الوحش: أوائلها. قال امرؤ القيس: 1000 - كأن دماء الهاديات بنحره ... عصارة حناء بشيب مرجل (وقفوهم) احبسوهم، لازم ومتعد، قال الأعرابي:

1001 - رئمت لسلمى بوضيم وإنني ... قديماً لآبي الضيم وابن أبات 1002 - فقد وقفتني بين شك وشبهة ... وما كنت وقافاً على الشبهات. (تأتوننا عن اليمين) تقهروننا بالقوة. قال الشماخ: 1003 - رأيت عرابة الأوسي يسمو ... إلى الغايات منقطع القرين 1004 - إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين. وقال الحسن: اليمين مثل [الدين]، أي: تأتوننا من قبله، فتصدوننا عنه.

(رزق معلوم) لأن النفس إلى المعلوم منه اسكن. كما قال سلمان: "النفس إذا أحرزت قوتها اطمأنت). (بكأس من معين) تسمية الخمر بالمعين على معاني تسمية الماء: -إما من ظهورها للعين. -[أو] لامتداد العين بها لطول اتصالها، أو عدم انقطاعها. -أو لشدة جريها، من الإمعان في السير. -أو لكثرتها، من المعن، وهو الشيء الكثير، ومنه الماعون لكثرة الانتفاع به.

(لا فيها غول) أي: أذى وغائلة. وقيل: لا تغتال عقولهم. كما قال: 1005 - فما زالت الكأس تغتالنا ... وتذهب بالأول الأول. (لا ينزفون) بكسر الزاي، أي: لا يسكرون، لئلا يقل حظهم من النعيم واللذات. قال [الأبيرد] الرياحي:

1006 - لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم ... لبئس الندامى أنتم آل [أبجرا]. وقيل: لا [ينفد] شرابهم، ولا يعل عقولهم من باب "أقل" و"أعسر" و"أفنى" و"أنفد"، من نزفت الركية إذا استخرجت جميع مائها. ولا ينزفون بفتح الزاي على بناء الفعل للمفعول من هذا. ويقال منه: نزف الرجل فهو نزيف ومنزوف. وفي الأول نزيف لا غير. قال المخزومي:

1007 - قالت: واحق أبي وأكبر إخوتي ... لأنبهن الحي [إن] لم تخرج 1008 - ولثمت فاها آخذاً بقورنها ... شرب النزيف ببرد ماء الحشرج. (قاصرات الطرف) يقصرن طرفهن على أزواجهن. قال امرؤ القيس: 1009 - من القاصرات الطرف لودب محول ... من الذر فوق الإتب منها لأثرا. (كأنهن بيض)

في نقائها واستوائها. وبلغ من جهل ابن الرواندي بأشعار العرب، ومحاسن التشبيه أن قال: ما في بيض النعام من محاسن [الجمال]، حتى يصير موضع تشبيهها به؟! والعرب تناقلت ذكره، والقرآن على لسانهم، قال الراجز في الجاهلية: 1010 - كأن لون البيض في الأدحي 1011 - لونك إلا صفرة الجادي. وقال عروة: 1012 - وكأنهن [و] قد حسرن لواغباً ... بيض بأكناف الحطيم مركم. وقال الفرزدق: 1013 - فجئن إلي لم يطمثن قبلي ... وهن أصح من بيض النعام.

(سواء الجحيم) وسطه، لاستواء البعد إليه من الجوانب. وقال: 1014 - وصاحب غير ذي ظل ولا نفس ... هيجته في سواء البيد فاهتاجا. (شجرة الزقوم) أخبث شجر. (طلعها) أي: ما يطلع منها وهو الثمر، وقبح صورة الشيطان متقرر في النفوس، فجرى التشبيه عليه وإن لم ير، كما قال امرؤ القيس: 1015 - اتقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال.

وقيل: إن الشياطين الحيات، وأنشد: 1016 - تلاعب مثنى حضرمي كأنه ... تعمج شيطان بذي خروع [قفر]. وما يشبه زماماً مضفوراً من أدم بتلوي حية في غيضة. (من حميم) من ماء حار. وقيل: من عرق. وجاء الشعر في معناه، قال: 1017 - وليس بها ريح ولكن وديقة ... يظل [بها] الساري يهل وينقع.

[وقال]: 1018 - يبل بمعصور جناحي ضئيلة ... أفاويق منها هلة ونقوع. (ثم إن مرجعهم) معناه معنى الواو، وليس للتراخي، وهو كما قال عبدة بن الطبيب: 1019 - لما وردنا رفعنا ظل أخبية ... وفار باللحم للقوم المراجيل 1020 - ورداً وأشقر لم يهنئه طابخه ... ما غير الغلي منه [فهو] مأكول 1021 - ثم قمنا إلى جرد مسومة ... أعرافهن لأيدينا مناديل.

لم يريدوا التراخي بدليل أنهم [لم يهنئوا] اللحم، أي: لم ينضجوه، ولم يتفرغوا للتنظف وغسل اليد. (وتركنا عليه في الآخرين) أبقينا له الثناء الحسن. (بقلب سليم) سالم من الشك والرياء. (فما ظنكم برب العالمين) حين خلقكم ورزقكم وعبدتم غيره. (فنظر نظرة في النجوم) للاستدلال بها على الصانع. وقال الحسن: ليس هو نجوم السماء، ولكنه ما نجم في قلبه من [أمر] الأصنام، وقصد إهلاكها.

وقيل: إن علم النجوم كان حقاً، وكان من النبوة ثم نسخ. قال الضحاك: [إن علم النجوم كان] ثابتاً إلى [زمن] عيسى عليه السلام. والنسخ في مثل هذا الموضع بعيد، وإنما النسخ في الأحكام والشرائع، وما كان من علم النجوم ثابتاً من [تصريف] الله على أمور في العالم، فذلك ثابت أبداً.

وما ليس بثابت اليوم من فعلها في العالم بعلمها واختيارها، فلم يكن ثابتاً، إلا أن يقال: إن الاشتغال بمعرفتها والتوفر على ضبطها وتحصيلها نسخ، فيكون ذلك صحيحاً. وقيل: معناه أنه نبين بها أن الحركات العلوية معدة للتغيرات في السفلية، ولا بقاء مع دورانها على الأشخاص البالية، قال أسقف نجران: 1022 - منع البقاء تصرف الشمس ... وطلوعها من حيث لا تمسي 1023 - وطلوعها بيضاء صافية ... وغروبها صفراء كالورس 1024 - اليوم يعلم ما يجيء به ... ومضى [بفصل] قضائه أمس

وقال أمية بن أبي [الـ] صلت: 1025 - وكيف أعد الشاء مالاً وربما ... أتى سبع يغدو عليها فتشعب 1026 - أو الإبل اللاتي إذا الشمس أشرقت ... عليها فماتت كلهن حين تغرب. (فقال إني سقيم) أي: خلقت للموت، فأنا سقيم أبداً. وقيل: إنه استدل بها على حدوث سقم في بدنه. والأولى القول الأول، وذلك أنه أراد أن يتأخر عن عيد لهم، ليتم كيده في أصنامهم، [فاعتذر] بالسقم على تأويل أن المخلوق للموت والأسقام، سقيم أبداً، صحته داء، وسلامته عناء قال لبيد:

1027 - كانت قناتي لا [تلين] لغامز ... فألانها الإصباح والإمساء 1028 - ودعوت ربي بالسلامة جاهداً ... ليصحني فإذا السلامة داء. وقال حميد بن ثور: 1029 - أرى بصري قد رابني بعد صحة ... وحسبك داء أن تصح وتسلما 1030 - فلن يلبث العصران يوم وليلة ... إذا تمما أن يدركا ما تيمما. وقال آخر: 1031 - لعمرك [ما الدنيا] بدار إقامة ... إذا زال عن عين البصير غطاؤها 1032 - وكيف بقاء المرء فيها وإنما ... ينال بأسباب الفناء بقاؤها.

وفي معاني هذه الأبيات، وفي قولهم: 1033 - كل يدور على البقاء بجهده ... وعلى الفناء يديره الأيام. وقولهم: 1034 - يميتك ما يحييك في كل ساعة ... ويحدوك حاد يريد بك الهزءا. وغير ذلك. قالت الحكماء: إن تحلل الرطوبة التي منها خلقنا -وهو المني- والرطوبة الخاصة منها [لغذاء] القلب -وهي رطوبة دهنية لذيذة ملساء هي لنار القلب كالدهن [لشعلة] السراج- دائم أبداً، بسببين: بالهواء المحلل من خارج، وبالحرارة الغريزية وبالغريبة من داخل. وهذه الأسباب متعاونـ[ـة] على التجفيف أولاً أولاً.

بل هذا الجفاف ضرورة الاستكمال، والبلوغ من تتمة الأفعال. فإنا في أول الأمر ما [نكون] في غاية الرطوبة، [وبحسب] ذلك كثرة الحرارة، وإلا عفنت واحتنقت، فهي تستولي عليها، [وتعمل] في أكلها وتجفيفها حتى يبلغ البدن الحد المعتدل، ثم التجفيف يكون أقوى من الأول، لأن المادة تهي أقبل فلا يزال يزداد حتى يفني رطوبة القلب بحرارته، فتصير الحرارة الغريزية بالعرض سبباً لإطفاء نفسها، وعند ذلك يعرف، وجعل حياته بالفناء والآفات. فهو -وهو حي- ميت. كما قال عز من قائل: (إنك ميت وإنهم لميتون). (فراغ عليهم) مال إليهم. والروغ [والروغان] ذهاب في ختل وخفية. (ضرباً باليمين) بالقوة. وقيل: باليمين التي هي خلاف الشمال.

وقيل: بالحلف التي [تألى] بها في قوله: (وتالله لأكيدن أصنامكم). وقول [الحادرة]: 1035 - ولدى أشعث باسط ليمينه ... قسماً لقد أنضجت لم يتورع. يحتمل اليمينين التي هي خلاف الشمال، والتي هي القسم. (يزفون) يسرعون. زف يزف زفيفاً، وأزف يزف إزفافاً. (فلما بلغ معه السعي) أي: ألوان السعي في طاعة الله وعبادته.

(فانظر ماذا ترى) ليس ذلك على المؤامرة، ولكنه اختبر بذلك أيجزع أم يصبر، فقال: (ستجدني إن شاء الله من الصابرين). (وتله) صرعه على جبينه. وقال قطرب: ضرب به على تل. [وجواب] (فلما أسلما): (وناديناه) فيكون الواو [مقحمة،] كما قال: 1036 - حتى إذا [قملت] بطونكم ... ورأيتم أبناءكم شبوا

1037 - وقلبتم ظهر المجن لنا ... إن اللئيم لعاجز [خب]. أي: قلبتم. ويجوز أن يكون الجواب: (إن هذا لهو البلاء)، أي: لما بلغ الأمر بهما إلى ما ذكر، بلغ البلاء غايته. وقيل: إن البلاء هاهنا بمعنى النعمة، بدليل ما تقدمه من: (وناديناه) وما تعقبه من: (وفديناه). وهذا كما قال أوس بن حجر: 1038 - وقد غبرت شهري ربيع كليهما ... بحمل البلايا والخباء الممدد 1039 - سنجزيك أو يجزيك عنا مثوب ... وحسبك أن يثنى عليك وتحمدي.

(وبشرناه بإسحاق نبيا) أي: بشرناه بنبوته بعد ما بشرناه فيما مضى بولادته. (آل ياسين) يجوز أن يكون ياسين محمداً وأمته، لأنهم أهل سورة يس. ويجوز أن يكون ياسين لغة في ياس على قراءة من قرأ "وإن إلياس" موصولاً. قال خداش بن زهير:

. ... ... ... ... ... ... ... ، مثل إبراهيم وإبراهام. ويجوز أن يكون لذلك النبي اسمان، مثل: يعقوب وإسرائيل، ومحمد وأحمد. وأما من قرأ (الياسين) بكسر الهمزة وسكون اللام، فيقول أبو عمرو: إن الياسين لغة في إلياس، مثل (وطور سينين) في (طور سيناء).

ويدل عليه ما في أواخر قصص الأنبياء المتقدمة من إعادة ذكرهم بالسلام. وقيل: إنه جمع إلياس بعينه وأهل دينه بالياء والنون على العدد/بغير إضافة، كما يقال: المهلبون والأشعرون. قال الراجز: 1040 - أنا ابن سعد سيد السعدينا. (أتدعون بعلاً) اسم صنم من ذهب يعبدونه. وبذلك الصنم سمي بعلبك، كما يقال: بغ داد، ولذلك غير فسمي مدينة المنصور، ومدينة السلام، إذ كان بغ اسم صنم.

وقيل: إنـ[ـه] الرب والسيد، ويقال: من بعل هذه الدار. وقيل: إن البعل اسم الله بلغة اليمن، وتقديره: أتدعون إلهاً غير الله. (مغاضباً) قيل: لقومه، لاستحالة مغاضبة الله. ولكن قوله: (وهو مليم) يمنع من هذا التأويل، لأن المليم هو المستحق للملام، كما قال الأسدي:

1041 - وإني أحب الخلد لو أستطيعه ... وكالخلد عندي أن أموت [ولم] ألم. وليست المغاضبة بمعنى المفاعلة بين الشيئين، ولكن المتسخط [للشيء] الكئيب به، يقال له: المغاضب، كما قال الهذلي: 1042 - يبيت إذا ما آنس الليل كانساً ... مبيت الغريب ذي الكساء المغاضب ولما ركب السفينة خافوا الغرق من الأمواج. وقيل: من الحوت الذي عارضهم. فقالوا: [ههنا] عبد مذنب لا [ننجوا] أو نلقيه في البحر، فاقترعوا، فخرجت القرعة على يونس، فألقوه وذلك قوله:

(فساهم) أي: قارع بالسهام. (فكان من المدحضين) أي: المقروعين المغلوبين. (فنبذناه بالعراء) بالفضاء. (وهو سقيم) كالصبي المنفوس. (من يقطين) قرع. وقيل: إنه كل ما ينبسط ورقه على الأرض، وهو يفعيل من قطن بالمكان. قال مقاتل: كان تأتي إليه وعلة فيشرب لبنها في مثل تلك الشجرة.

(أو يزيدون) على شك [المخاطبين]، أو للإبهام عليهم، كأنه قيل إلى أحد العددين. (فئامنوا فمتعناهم إلى حين) أي: إلى حين موتهم. وإنما آمنوا قبل حضور العذاب، ولكنهم استدلوا بخروج يونس على العذاب، فآمنوا قبل أن [يبلغوا] إلى حد اليأس والإلجاء. (وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً)

قالوا: إن الملائكة بنات الله، حتى قال لهم أبو بكر: فمن أمهاتهم؟ وقيل: إنها الأصنام، والنسب الشركة، [لأن] الجن [يكلمهم] منها، ويغويهم فيها. وهذا القول أولى، لقوله: (إنهم لمحضرون) أي: مزعجوم في العذاب. (ما أنتم [عليه] بفاتنين)

مضلين. (إنهم لهم المنصورون) قال الحسن: لم يقتل نبي أمر بالجهاد. [تمت سورة الصافات]

سورة ص

سورة ص (ذي الذكر) ذي الشرف. وقيل: ذكر ما قبله من أحاديث الأمم، وأقاصيص الأنبياء [عليهم] السلام. وقيل: ذكر ما فيه من جميع أغراض القرآن. وجواب القسم محذوف، ليذهب فيه القلب إلى كل مذهب، فيكون دليله أغزر وبحره أزخر. وقيل: جوابه: (كم أهلكنا).

وقيل: (إن كل إلا كذب). وقيل: (بل الذين كفروا)، وبل للإضراب عن الأول من غير إبطال. (في عزة) حمية الجاهلية. (وشقاق) خلاف وعداوة. ([و] لات حين) ليس حين، ولا تعمل "لات" بالنصب إلا في الحين وحده، [لأنها] مشبهة بـ"ليس" فلا تقوى قوة المشبه به، قال أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب:

1043 - يا نبي [الهدى] [إليك] [لجا] ... حي قريش، ولات حين [لجاء] 1044 - حين ضاقت عليهم سعة الأرض ... وعاداهم إله السماء. (مناص) ملجأ. وقيل: مفر. قال: 1045 - ولقد شهدت تغاؤراً ... يوم اللقاء على أبوص 1046 - إني لأروع ماجد ... سمح الخلائق لا أنوص (في الملة الأخرة)

ملة النصرانية، لأنها آخر الملل. وقال مجاهد: في ملة قريش. (فليرتقوا في الأسباب) أي: أبواب السماء وطرقها، فليأتوا منها بالوحي إلى من شاؤوا. (مهزوم من الأحزاب) بشره الله بهزيمتهم، فكانت يوم بدر. (وفرعون ذو الأوتاد) ذو الأبنية العالية، كالجبال التي هي الأوتاد في الأرض. وقيل: ذو الملك الثابت كثبوت ما يشدد بالأوتاد. كما قال الأسود بن يعفر: 1047 - ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة ... في ظل ملك ثابت الأوتاد

1048 - فإذا النعيم وكل ما يلهي به ... يوماً يصير إلى بلى ونفاد. (ما لها من فواق) بالفتح والضم، مثل [غمار] الناس وغمارهم. وقيل: الفواق -بالضم-: ما بين الحلبتين، مقدار ما يفوق اللبن فيه إلى الضرع ويجتمع، والفواق: مصدر كالإفاقة، مثل: الجواب والإجابة، فالأول [يرجع] إلى مقدار وقت الراحة. والثاني: إلى نفي الإفاقة عن الغشية. ويحتمل المعنيين قول الهذلي:

1049 - إذا ماتت من الدنيا حياتي ... فيا ليت القيامة عن فواق. وفي معنى [الفواق]-بالضم- قول الجعدي: 1050 - وبنو فزارة إنها ... لا تلبث الحلب الحلائب. أي: لا تلبث الحلائب قدر حلب ناقة حتى تهزمهم. (عجل لنا قطنا) ما كتب لنا من الرزق. وقيل: من الجنة ونعيمها. وقيل: من العذاب.

وأصله القطع، ومنه قط القلم، وما رأيته قط، أي: قطعاً، ثم سمي الكتاب قطاً، لأنه يقطع ثم يكتب. قال أمية بن أبي الصلت: 1051 - قوم لهم ساحة العراق وما ... يجبى إليه والقط والقلم. (ذا الأيد) ذا [ا] لقوة في الدين، فكان يقوم نصف كل ليلة، ويصوم نصف كل شهر. (إنه أواب) مسبح. كقوله: (يا جبال أوبي)، وكذلك قوله:

(كل له أواب) أي: مطيع له مسبح معه. (وفصل الخطاب) علم الحكم بين الناس، كأنه قطع المخاطبة، وفصل ما خاطب به بعض بعضاً. (وهل أتاك نبأ الخصم) الخصم يتناول العدد والواحد، لأن لفظه لفظ المصدر، والمصدر للجنس. (تسوروا) أتوه من أعلى سوره، وقال "تسوروا" بلفظ الجمع، وهما اثنان، لأن الاثنين جمع في الحقيقة، إذ الجمع ليس إلا ضم عدد إلى عدد. (ولا تشطط)

أشط في الحكم، إذا عدل عن العدل، متباعداً من قولهم: شطت به النوى، أي: تباعدت، قال الأحوص: 1052 - ألا يالقوم قد أشطت عواذلي ... ويزعمن قد أودى بحقي باطلي. وقد كثر اختلاف المفسرين في هذه الآيات، وأوسطها طريقة: ما ذكر في كتاب عصمة الأنبياء: أن جماعة من أعدائه تسوروا محرابه الذي يصلي فيه، وقصدوه بسوء في وقت غفلته، فلما رأوه متيقظاً انتقض عليهم تدبيرهم، فاخترع بعضهم خصومة، وأوهموه أنهم قصدوه لأجلها، ففزع منهم، فقالوا: لا بأس (خصمان) إلى قوله: (ولي نعجة واحدة). فقال داود: (لقد ظلمك بسؤال نعجتك) أي: إن كان الأمر كما تقول،

فحلم عنهم وصبر مع القدرة والأيد، وشدة الملك. (وخر راكعاً) وقع من ركوعه إلى سجوده. (وأناب) إلى الله شكراً لما وفقه له من الصبر والحلم. واستغفر لذنوب القوم، أو قال: اللهم اغفر لي ولهم. وقوله: (فغفرنا له ذلك) أي: لأجله. ويجوز أن يكون استغفاره على مذهب الصالحين إذا دهمهم مكروه، رجعوا إلى أنفسهم، وقالوا: إنما أخذنا بذنوبنا.

وإن ثبت حديث أوريا فخطيئته: خطبته على خطبته، أو استكثاره من النساء. وإن كانت القصة من الملكين -كما يقوله القصاص- فلا بد من أن يكون في كلامهما من المعاريض ما يبعد عن الكذب، ولكن استغنى عن ذكرها، إذ كان الغرض اقتصاص غيرها.

وعلى أنهم لم يقولوا: نحن خصمان، وإنما ذكر ذلك على طريق المثل والسؤال، فظن داود أنهم عرضوا له بكثرة أزواجه، وميله إلى الشهوات الدنيا، فاستغفر ربه. (وعزني في الخطاب) غلبني. قال الشاعر -أنشده المبرد-: 1053 - لقد علمت أم الصبيين أنني ... إلى الضيف قوام السنات خروج 1054 - إذ المرغث العوجاء بات يعزها ... على ضرعها ذو تو متين لهوج. (الصافنات)

الخيل القائمة على ثلاث قوائم، الثانية رابعتها. (أحببت حب الخير) آثرت حب المال على ذكر ربي. (فطفق مسحا بالسوق والأعناق) قيل: كواها في الأعناق والقوائم، وجعلها حبيساً في سبيل الله مسومة بها، كفارة لصلاته الفائتة. وقيل: ذبحها وعرقبها، وتصدق بلحومها كفارة أيضاً. (توارت بالحجاب) أي: الشمس، وإن لم يجر لها ذكر، كما قال لبيد:

1055 - حتى إذا ألقت يداً في كافر ... وأجن عورات الثغور ظلامها. (ولقد فتنا سليمان) قيل: خلصناه. وقيل: ابتليناه. وسبب فتنته قربانه بعض نسائه في حالة الحيض عن الحسن. وعن ابن المسيب: احتجابه عن الناس ثلاثة أيام. (وألقينا على كرسيه جسداً)

أي: ألقيناه، لأنه مرض فكان على كرسيه كالجسد الملقى. وتفسير [النقاش]: ولد له شق إنسان فألقي على كرسيه ميتاً.

وعن ابن عباس: أنه كان على شاطئ البحر يعبث بخاتمه فوقع في البحر، ثم بعد أربعين يوماً من زوال أمره، أخذ سمكة أجراً على عمله، فوجد الخاتم في جوفها، فأناب إلى ملكه. وعلى القول الأول: أناب إلى الصحة. (لا ينبغي) لا يكون. قال ابن أحمر: 1056 - في رأس خلقاء من عنقاء [مشرفة] ... لا ينبغي دونها سهل ولا جبل. وإنما سأل بهذا أن لا يسلب الملك مرة ثانية. وعلى القول الأول: أنه لما مرض عرض لقلبه زوال ملك الدنيا عنه إلى غيره، فسأل ملك الآخرة.

(حيث أصاب) قصد وأراد. كما يقال: "أصاب الصواب، فأخطأ الجواب"، قال بشر: 1057 - وغيرها ما غير الناس قبلها ... فبانت وحاجات الفؤاد يصيبها. (بنصب وعذاب) بضر. والنصب -بالفتح-: التعب. وقيل: هما واحد كالضعف والضعف. قال طرفة:

1058 - من عائدي الليلة أم من نصيح ... بت بنصب ففؤادي قريح. وإنما اشتكى أيوب وسوسة الشيطان لا [ا] لمرض، لقوله: (إنا وجدناه صابراً). وقيل: إن الشيطان كان يوسوس إلى الناس أن داءه يعدي، حتى أخرجوه واستقذروه وتركت امرأته تعهدها.

(اركض برجلك) حركها، واضرب بها الأرض، فضرب فنبعت عينان، اغتسل في إحداهما، فذهب ظاهر دائه، وشرب من الأخرى فذهب باطن دائه. (ووهبنا له أهله) كانوا مرضى فشفاهم. وقيل: غائبين فردهم. وقيل: موتى فأحياهم. (ومثلهم معهم) الخول والمواشي. وعن الحسن: وهب لهم من أولادهم مثلهم. (وخذ بيدك ضغثاً) جاءته بأكثر مما كانت تأتيه من خبز الخبز، فخاف خيانتها.

وقيل: إن الشيطان وسوس لها ببعض التبرم والكراهية لما قضى الله عليهم. والضغث: الحزمة من الحشيش. وقيل: عثكال النخل الجامع لشماريخه. (أولي الأيدي والأبصار) أي: القوى في العبادة، والبصائر في الدين. (بخالصة ذكرى الدار) إذا نونت الخالصة، كانت ذكرى الدار بدلاً عنها، أي: أخلصناهم بذكرى الدار. أو يكون خبر مبتدأ محذوف، أي: بخالصة هي ذكرى الدار.

وإذا لم تنون الخالصة، كانت الخالصة صفة لموصوف محذوف، أي: بخصلة خالصة ذكرى الدار. ويجوز أن يكون المصدر أو الخالصة بمعنى الخلوص، والإضافة إلى الفاعل، كما تقول: "عجبت من ضرب زيد" أي من أن ضرب زيد، وتقديره: بخلوص ذكرى الدار لهم وهم في الدنيا. وفي الخبر تفسير (إنا أخلصناهم بخالصة): هي الكتب المنزلة التي فيها ذكرى الدار. وعن مقاتل: أخلصناهم بالنبوة، وذكرى الدار الآخرة، والرجوع إلى الله عز وجل. (وغساق) بالتخفيف والتشديد، لغتان، ومعناهما:

المنتن المظلم، من غسق الجرح: سال، وغسق الليل: أظلم. والمشدد: صفة لموصوف محذوف، أي: وصديد غساق. والمخفف: يجوز اسماً كالشراب والنكال، ويجوز مصدراً كالذهاب والثبات، ثم وصف بالمصدر، أي: ذو غساق. (وءاخر من شكله) أي: وعذاب آخر. و (أزواج) نعت [لـ]ـلثلاثة، أو لآخر، فإن آخر بمعنى الجنس، أو العذاب يكون أنواعاً في نفسه، أو كل خرزة منه عذاب. كما قال الشاعر:

1059 - [أ] يا ليلة خرس الدجاج طويلة ... ببغداد ما كادت عن الصبح تنجلي. فقال: خرس الدجاج وإن كانت الليلة واحدة، لأنه ذهب إلى الدجاج، أو جعل كل جزء من الليلة أخرس الدجاج. و (من) متعلقة بالأزواج، أي: وعذاب آخر أزواج من شكله، أي: شكل ما تقدم ذكره، ويجوز أن يتعلق بـ (آخر) أي: وعذاب آخر كائن من هذا الشكل، ثم أزواج صفة بعد صفة. (هذا فوج مقتحم معكم) هم فوج بعد فوج يقتحمون النار. وقال الحسن: الفوج الأول: بنو إبليس، والثاني: بنو آدم. وقيل: الأول: الرؤساء، والثاني: الأتباع. (أتخذناهم سخريا)

على الاستفهام. (أم زاغت عنهم الأبصار) [فلا نراهُم] وهم معنا. وهذا من الاستفهام الذي معناه التعجب، أو التوبيخ. أي: كانوا من السقوط بحيث يسخر منهم، فما لهم لم يدخلوا معنا النار. (لما خلقت بيدي) توليت خلقه بنفسي. أوخلقته، فتكون اليد بمعنى التأكيد والصلة، كقوله: (ويبقى وجه ربك). وقيل: خلقت بقوتي وقدرتي، وتثنيتها على هذا ليس بخارج عن عادة العرب.

.

كما قال: 1060 - فإن [تزجراني يا ابن] عفان أنزجر ... وإن تدعاني أحم عرضاً ممنعا. وقال آخر:

1061 - وقلت لصاحبي [لا تحبسانا] ... [بنزع] أصوله [واجتز شيحا]. (فالحق) نصبه على التفسير فقدمه، أي: لأملأن جهنم حقاً، (والحق أقول) اعتراض. وكذلك من قال: إنه قسم، والمقسم عليه: (لأملأن) كان (والحق أقول) أيضاً اعتراضاً. وقيل: إنه نصب على الإغراء، أي: فاتبعوا الحق، (والحق أقول) كلام آخر. [تمت سورة "ص"]

سورة الزمر

سورة الزمر (ألا لله الدين الخالص) ما لا رياء فيه من الطاعات. (من دونه أولياء ما نعبدهم). أي: قالوا: ما [نعبدهم]، فحذف. (إن الله لا يهدي) أي: لحجته. وقيل: لثوابه. (وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج) تفسيرها في سورة الأنعام.

(في ظلمات ثلاث) ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة. (أمن هو قانت) أدغمت "أم" في "من"، وأم قيل: إنها بمعنى: "بل"، أي: بل الذي هو قانت: (يحذر الآخرة). وقيل: إنها "أم" التي تعادل ألف الاستفهام، وجوابه محذوف، وتقديره: كمن هو غير قانت. أو تقديره: أمن جعل الله أنداداً كمن هو قانت.

ومن خفف (أمن)، لا ينبغي أن [يقول]: إنها ألف الاستفهام، لأنه لا يستفهم بالألف في "من" إلا أن يكون بينهما "واو" أو "فاء" كقوله: (أو من ينشؤا في الحلية)، وقوله: (أفمن يتقي بوجهه). ويجوز أن نقول ألف النداء، أي: يا من هو قانت (قل هل يستوي) وأنشد الأخطل: 1062 - أبني أمية إن أخذت كثيركم ... دون الأنام لما أخذتم أكثر 1063 - أبني أمية لي مدائح فيكم ... تنسون إن طال الزمان وتذكر. (خسروا أنفسهم)

بإهلاكها في النار. (وأهليهم) بأن لا يجدوا في النار أهلاً مثل ما يجد أهل الجنة من [الحور] العين. (لهم من فوقهم ظلل من النار) وهي الأطباق والسرادقات. (ومن تحتهم ظلل) وهي الفرش والمهاد، وإنما سمي [ظللاً] وإن كانت من تحتهم، لأنها ظلل من تحتهم. (ثم يهيج) ييبس. (ثم يجعله حطاما) فتاتاً متكسراً.

(فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله) أي: القاصية قلوبهم. (كتاباً متشابهاً) [يشبه] بعضه بعضاً. (مثاني) ثني فيها أقاصيص الأنبياء وذكر الجنة والنار. وقيل: تثنى في القراءة فلا تمل. (متشاكسون) متضايقون متعاسرون، من الخلق الشكس. (رجلاً سالماً)

خالصاً ليس لأحد [فيه] شركة، ليوازي قوله: (رجلاً فيه شركاء)، و (سلماً) أيضاً قريب من هذا المعنى، وما هو من الصلح كما قال أبو عبيدة، ولكنه مصدر سلم يسلم سلامة وسلماً فوصف به، أي ذا سلم. (إنك ميت) الميت: هو الحيوان الذي يموت، والميت من قد مات، كما نظمه الخليل: 1064 - [أيا سائلي] إعراب ميت وميت ... فدونك قد فسرت إن كنت تعقل 1065 - فمن كان ذا روح فذلك ميت ... ولا ميت إلا من إلى القبر ينقل.

وفي خطاب الرسول بهذا، وجوه من الحكمة: من الحث على الطاعة والاستعداد للموت، ومن تسليم العالمين برسول الله. (والتي لم تمت في منامها) أي: يقبضها عن الحس والإدراك، مع بقاء الأرواح في الأجساد. (فيمسك التي قضى عليها الموت) أن تعود إلى الأجساد. قال علي رضي الله عنه: "فالرؤيا من النفس في السماء، والأضغاث منها بعد إرسالها قبل الاستقرار في الجسد [يلقيها] الشياطين". وقال ابن عباس: "بكل جسد نفس وروح، فالله يقبض الأنفس في المنام، دون الأرواح".

(اشمأزت) انقبضت. (إنما أوتيته على علم) أي: على علم أني سأصيبه. وقيل: بعلم علمنيه الله. وقيل: على علم يرضاه عني. (أن تقول نفس) لئلا تقول. وقيل: كراهة أن تقول.

(يا حسرتى) الألف بدل [ياء] الإضافة، لمد الصوت بها في الاستغاثة. (في جنب الله) ذات الله. وقيل: في قرب ثوابه في الجنة. (لمن الساخرين) أي: المستهزئين. (بمفازتهم) بما فازوا به من الإرادة. (والأرض جميعاً قبضته)

في حكمه وتحت أمره، يستبد لها [بغيرها]، كما قال: (يوم تبدل الأرض غير الأرض). (فصعق) مات. وقيل: غشي عليهم. (إلا من شاء الله) أي: من الملائكة والشهداء. (زمراً) أمماً.

وقيل: أفواجاً. (وفتحت أبوابها) واو الحال. أي: تجدونها عند المجيء مفتحة الأبواب، وأما النار فإنها مغلقة لا تفتح إلا عند دخولهم فيها. (وأورثنا الأرض) أي: أرض الجنة. (نتبوأ من الجنة حيث نشاء) أي: من منازلهم التي هي لهم، لأنهم مصروفون عن إرادة غيرها. (حافين) محدقين محيطين. [تمت سورة الزمر]

سورة حم المؤمن

سورة حم المؤمن (وقابل التوب) يجوز جمع توبة. ويجوز مصدراً، مثل توبة. (لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم) في [الخبر] "إن أهل النار يمقتون أنفسهم، ويقولون قد مقتنا أنفسنا، فيقال لهم: لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم". وعند البصريين: هذه لام الابتداء، وعند الكوفيين: لام اليمين، يدخل على مثل هذه الحكاية.

(يلقي الروح من أمره) أي: الوحي. وقيل: يرسل جبريل إلى من يشاء من عباده. (لمن الملك اليوم) يقوله بين النفختين. وقيل: في القيامة، فيجيبه الخلائق طراً (لله الواحد القهار). (يوم الأزفة) يوم القيامة. وقيل: يوم الموت الذي هو قريب. (كاظمين)

ساكتين مغتمين. وقيل: ممسكين لحناجرهم، من كظم القربة. (خائنة الأعين) قيل: هي مسارقة النظر. وقيل: إنها النظر إلى ما نهي عنه، كأن التقدير: يعلم الأعين الخائنة. (يعرضون) [تجلد] جلودهم في النار غدواً وعشية، ولا غدوة ولا عشية هناك، ولكنه بمقادير الساعات الدنيا. (ولتبلغوا أجلاً مسمى) أي: ليبلغ كل منكم أجله، من طال عمره ومن قصر.

(بل لم نكن ندعوا من قبل شيئاً) هذا كقولك ما أنت في شيء. [تمت سورة المؤمن]

سورة حم السجدة

سورة حم السجدة (لا يسمعون) لا يقبلون. قال المخزومي: 1066 - وخل كنت عين النصح [منه] ... ومستمعاً لما يهوى سميعا 1067 - أطاف بغية فنهيت عنها ... وقلت له أرى أمراً شنيعاً. فجمع بين المستمع والسميع، فكان أحدهما غير صاحبه. (خلق الأرض في يومين) ثم قال: (في أربعة) أي: الإكمال والإتمام في أربعة.

(ممنون) منقوص. (أقواتها) نباتها وأشجارها حتى أنهارها وثمارها. وقيل: جعل في كل أرض ما ليس في الأخرى. (قالتا أتينا طائعين) أي: لم [يمتنع] عليه [كونهما]، وكانتا [كما] أراد.

أو لو كان إجابتهما بكلام لكان بهذا القول: (أتينا طائعين). وقد مضى شواهده ونظائره. (فقضاهن) أحكم خلقهن. قال الهذلي: 1068 - وكلاهما في كفه يزنية ... فيها سنان كالمنارة أصلع 1069 - وعليهما ماذيتان قضاهما ... داود أو صنع السوابغ تبع. (أتينا طائعين)

جمعت جمع العقلاء، لأنها أخبرت عنها وعمن يكون فيها من العباد المؤمنين. (ريحاً صرصراً) باردة، وكانت الدبور. (نحسات) بكسر الحاء، صفة مثل حذر وفزع، وأبو عمرو يعترض عليه من جهتين: -إحداهما: بأنه لم يسمه نحس ينحس، حتى تبنى منه الصفة. -والثاني: أنه لا يضاف إلى الصفة، وقد قيل: (يوم نحس). فالأولى أن يكون مصدراً، ثم يجمع على "نحسات" ساكنة الحاء، لاختلاف أنواع النحس ومراته، كما يقال: ضربات وقعدات.

وذهب ابن بحر: أن نحسات هي الباردات، والنحس: البرد، كأنه يتحاشى ما يقوله أصحاب التنجيم من سعادة الأيام ونحوسها. (صاعقة) صيحة جبريل. (حتى إذا ما جاءوها)

قال المغربي: "ما" إذا جاءت بعد "إذا" أفاد معنى "قد" في تحقيق وقوع الفعل الماضي. (يوزعون) يدفعون. وقيل: يحبس أولهم على آخرهم. (وقالوا لجلودهم) كناية عن الفروج. (وقيضنا لهم)

خلينا بينهم وبينهم. (ما بين أيديهم) زينوا لهم الدنيا، وهونوا عليهم المعاصي. (وما خلفهم) أنسوهم [أمر] الآخرة، وأذهلوهم عنها. ([و] الغوا فيه) لغا يلغوا ويلغى لغاً ولغواً: إذا خلط الكلام وأكثر [فيه ما] لا يفهم ولا يفيد. وقيل: إن لغا بمعنى تكلم فقط، سواء كان تخليطاً أو بياناً وتفصيلاً، ومنه اللغة: فعلة من لغوت، مثل: كرة وثبة، لأن الثبة كأنها مقلوب ثاب يثوب، فيكون المعنى: تكلموا فيه بالرد والاعتراض.

و (لا تسعموا) لا تقبلوا. (أرنا الذين أضلانا) إبليس وقابيل فهما اللذان سنا الفساد وبدآ به. (ثم استقاموا) جمعت جميع الخيرات، وانتظمت كل الطاعات، مع فرط إيجازها. (ألا تخافوا) أي: ما أمامكم. (ولا تحزنوا) على ما خلفتم من الأسباب.

(لهم البشرى) يبشرون في ثلاثة مواضع، عند الموت وفي القبر ويوم البعث. و (ادفع بالتي هي أحسن) التبسم عند اللقاء، والابتداء بالسلام. (وما يلقاها إلا الذين صبروا) أي: دفع السيئة بالحسنة. (ذو حظ عظيم) أي: في الدين والعقل. (الذي خلقهن) غلب تأنيث اسم الشمس تذكير غيرها، لأنها أعظم. (خاشعة) غبراء متهشمة. (ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك)

قيل لهم ولك: (إن ربك لذو مغفرة) (ءاعجمي) أي: لو جعلنا هذا القرآن أعجمياً لقالوا -على وجه الإنكار-: أكتاب أعجمي وقوم عرب. (ينادون من مكان بعيد) لقلة أفهامهم، أو لبعد إجابتهم. (من محيص) من محيد. (ءاذناك) أعلمناك. (إليه يرد علم الساعة) كل من سئل عنها قال: الله أعلم. ([فـ]ـذو دعاء عريض)

كل عرض له طول، فقد تضمن المعنيين، ولأنه على مجانسة صدر الآية (أعرض ونئا بجانبه)، ومثله: (فأقم وجهك للدين القيم)، وقوله: (يا أسفى على يوسف)، (وجنى الجنتين)، (وأسلمت مع سليمان)، و (ليريه كيف يواري)، و (قال إني لعملكم من القالين)، و (فروح وريحان)، و (إن يردك بخير فلا راد لفضله). (وفي أنفسهم) بالأمراض والأسقام. (في الأفاق) بالصواعق.

وقيل: بظهور ما لا يعهد في السماء من الكواكب ذوات الأذناب والذوائب وغيرها. [تمت سورة فصلت].

سورة عسق

سورة عسق (يتفطرن) أي: تكاد القيامة [تقوم،] والعذاب يعجل لهم. ([و] يستغفرون لمن في الأرض) أي: ليدفع عذاب الاستئصال عنهم كيلا يهلك المؤمنون مع الكافرين. (ليس كمثله شيء) قال المغربي: والمراد به أنه لا مثل له، ولا ما يقاربه في المماثلة. وهذا مفهوم في قول الناس، يقولون: هو كزيد، إذا أرادوا التشبيه المقارب، وإذا أرادوا أبعد منه قالوا: هو كأنه زيد، كما قال الهذلي: 1070 - فوالله لا ألقى ابن عم كأنه ... نشيبة ما دام الحمام [ينوح]

أي: [لا] ألقى أخاً يشبهه، ولا شبهاً بعيداً. وقيل: إن "مثلاً" بمعنى "مثل" كشبه وشبه. والمثل: الوصف، كقوله: (مثل الجنة)، أي: وصفها/، فيكون معنى الآية: ليس كوصفه شيء، أي: ليس وصفه شيء. وذكر القاضي كثير -رحمه الله- أن الكاف أبلغ في نفي التشبيه، تقديره: أنه لو قدر له [مثل] في الوهم، لم يكن لذلك المثل شبيه، فكيف يكون لمن لا مثل له شبيه وشريك. وهذه المعاني أحسن من أن يطلق القول بزيادة الكاف، وإن جاء ذلك في الشعر، قال رؤبة:

1071 - لواحق الأقراب فيها كالمقق والمقق: الطول، أي: فيها طول. وعلى [لفظ] القرآن في شعر الهذليين: 1072 - فلا تجزعوا إنا رجال كمثلكم ... قدعنا ونجتنا المنى والعواقب. (يذرؤكم فيه) أي: على هذا الخلق المشتمل عليكم وعلى أنعامكم. (لا حجة بيننا وبينكم)

لا حجاج بعد الذي أوضحناه من البينات وتصديتم لها بالعناد. (أمرت لأعدل بينكم) أي: في التبليغ والإعلام. (ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها) أي: نؤتيه كما نؤتي غيره، لا أنه يجاب إلى كل ما سأله. (ولولا كلمة الفصل) الكلمة التي سبقت في تأخير عذابهم. (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا) هذه الكلمة مع فرط إيجازها، وقلة حروفها، متضمنة لمعاني أسفار من خطب وأشعار، في حكمة تقدير الأرزاق، وتضييق المعاش. والجاحظ كثير الإلهام بها في كتبه، وله فيها رسالة فريدة بديعة. وقد أحسن الأعرابي الإلغاز عنها فقال:

1073 - وفي البقل إن لم يدفع الله شره ... شياطين ينزو [بعضهن] على بعض. ومثله قال آخر: 1074 - أصابهم من مطلع الفجر الصبا ... والغيث حل عقود كل صلاح. وقال آخر: 1075 - أليس من بلاء وجيب قلبي ... وإيضاعي الهموم مع النجو 1076 - فأحزن أن يكون على صديق ... وأفرح أن يكون على عدو أي: السحاب، وهو النجو كما يفسره في الشرع إذا وقع بمكان بطر أهلها وبغوا، فأخاف من ذلك على صديق، وهو كالأصدقاء في كلام العرب.

(ويعلم) بالنصب، بإضمار "أن"، أي: وأن يعلم، والضمير للمجادلين. و (الذين) في موضع الرفع بالفاعل، وأن مع الفعل بمعنى المصدر، فعطف على مصدر الفعل الأول، وتقديره: إن نشأ يكن الهلاك وعلم المجادلين: أن لا محيص لهم. وقيل: إن نصبه على الصرف من [الجزم] عطفاً على قوله: (ويعف عن كثير). (وأمرهم شورى بينهم) يأمرهم بترك الاختلاف، [والتوفر] على الائتلاف، كقولك: أمرهم [فوضى] بينهم.

أي: لا يستأثر بعضهم على بعض، وأصل هذه الكلمة من [الشور] وهو العرض. (من طرف خفي) يسارقون النظر. (إلا وحياً) قيل: إنه داود عليه السلام، ألقي في روعه ونفث في قلبه فزبر الزبور. (أو من ورائ حجاب) موسى. (أو يرسل رسولاً) جبريل إلى محمد عليهم السلام. (روحاً من أمرنا)

أي: القرآن. [تمت سورة الشورى]

سورة الزخرف

سورة الزخرف (أم الكتاب) اللوح المحفوظ. (لعلي) في أعلى طبقات البلاغة. (حكيم) ناطق بالحكمة. (أفنضرب عنكم الذكر صفحاً) أي: أفنعرض عنكم، ولا نوجب الحجة عليكم. (أن كنتم قوماً مسرفين) وأن نصب إن كان التقدير: بأن كنتم، أو لأن كنتم. (لتستووا على ظهوره)

على التذكير، لأن الأنعام كالنعم، اسم جنس. (مقرنين) مطيقين. (من عباده جزءاً) نصيباً. وقيل: الجزء: البنات، وهو قولهم: إن الملائكة بنات الله، قال الشاعر: 1077 - إن أجزأت وهي مذكار فلا عجب ... قد تجزئ الحرة المذكار أحيانا. (براء)

مصدر، لا يثنى ولا يجمع. وبراء: على وزن فعلاء، جمع بريء. (كلمة باقية في عقبه) أي: التوحيد، والبراءة من الشرك. (بل متعت) أي: بلغ الإمتاع والإهمال مدته، فلم يبق إلا الإيمان أو العذاب. (نحن قسمنا بينهم معيشتهم) أي: فرحمة ربك وهي النبوة أولى باختيار موضعها. (من القريتين) مكة والطائف. والسقف: إما جمع سقيفة وهي كل خشب عريض، مثل لوح السفينة،

وإما جمع السقف، مثل: رهن ورهن على قلته، وإما جمع الجمع، فجمع السقف على السقوف، والسقوف على السقف، مثل نجم ونجوم ونجم. والمعارج: جمع المعراج. والآية تضمنت أن في إغناء البعض وإحواج البعض، مصلحة العالم، وإلا لبسط على الكافر الرزق. وتضمنت أيضاً تهوين أمر الدنيا حين يبذله الله لمن كفر به وعصاه. (ومن يعش) أصل العشو: السير في الظلمة، والأعشى: ضعيف البصر منه. (نقيض له) نعوضه عن إغفاله الذكر بتمكين الشيطان منه خذلاناً له.

(المشرقين) المشرق والمغرب، كما قيل: القمران. (ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون) قال ابن جني: سألت أبا علي عنه؟ فقال: لما كانت الدار الآخرة تلي الدار الدنيا ولا فاصل بينهما، إنما هي هذه فهذه، فصار ما يقع في الآخرة كأنه واقع في الدنيا، فلذلك أجرى اليوم وهو للآخرة مجرى وقت الظلم، وهو قوله: (إذ ظلمتم)، ووقت الظلم كان في الدنيا، ولو لم نفعل هكذا بقي (إذ ظلمتم) غير متعلق بشيء. ومعنى الآية: أنهم لا ينتفعون بسلوة التأسي بمن شاركهم في العذاب، لأجل ظلمهم فيما مضى، وإن كان التأسي مما يخف من الشدائد، ويقل من [عناء] المصائب، كما قالت الأخيلية:

1078 - ولولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي 1079 - وما يبكون مثل أخي ولكن ... أسلي النفس عنهم بالتأسي. (أفلا تبصرون* أم أنا خير) كأنه قال: أفلا تبصرون، أم أنتم بصراء، فقوله: أنا خير، بمنزلة قوله: أم أنتم بصراء، [لأنهم لو قالوا: أنت خير، كان كقولهم: نحن بصراء، ليصح معنى المعادلة في أم، والتقدير في المعادلة: على أي الحالين أنتم، على حال البصر أم على خلافه]. وعلى هذه القاعدة يجري باب الخطاب النحوي، يعني بناء السؤال والجواب أحدهما على صاحبه.

(أسورة) جمع سوار مثل عماد وأعمدة، وغراب وأغربة. وأساورة جمع أسوار، وكانت أساوير فحذفت الياء كقولهم: [في] إستار، وإسكاف: أساترة وأساكفة. وصرف الأساورة والملائكة، لأن لهما مثالاً في الواحد، مثل: العلانية والطواعية والكراهية. (أو جاء معه الملائكة)

قاله على قول موسى بملائكة الله، لأن من لا يعرف الله لا يعرف ملائكته. (ءاسفونا) أغضبونا. (ولما ضرب ابن مريم مثلاً) أي: لبني إسرائيل آية في القدرة على كل شيء بخلق إنسان من غير أب. (يصدون) يضجون، ومنه التصدية.

وقيل: إن يصدون ويصدون، واحد، من باب يعكفون ويعكفون ويعرشون ويعرشون. ولما قال هذا في عيسى، قال المشركون: آلهتنا خير منه. وأرادوا بذلك الجدل والخصومة. وأصل الجدل: الجدل وهو الفتل، فكل مجادل يفتل خصمه بالحق أو بالباطل. (لجعلنا منكم ملائكة) أي: خلقناهم على صوركم. (وإنه لعلم للساعة) أي: نزول عيسى، فإن نزوله من أشراطها.

وقال ابن بحر: هو القرآن، فإن فيه أن الساعة كائنة وقريبة. (فاختلف الأحزاب) اليهود والنصارى. (من بينهم) من تلقاء أنفسهم. (بعضهم لبعض عدو) أي: [المتحابون] في الدنيا على معصية الله. (أم أبرموا أمراً) في المعصية. (فإنا مبرمون) في الجزاء. (أول العابدين)

من عبد إذ [ا] أنف، فسره بعض علماء البصرة، فقال له ملحد: وما يشبه الآنف من العابد؟! فقال: إنما أنزل القرآن على العرب وهذا كلامها. قال خفاف بن ندبة: 1080 - وأعبد أن أسبهم بقومي ... وأترك دارماً وبني رياح 1081 - أولئك إن سببت كفاء قومي ... وأجدر أن أعاقب بالنجاح. وقال ابن عرفة: إنما يقال: عبد يعبد فهو عبد، [قلما] يقال: عابد، والقرآن لا يأتي بالقليل الشاذ من اللغة، ولا سيما في موضع الاشتباه. ولكن المعنى: فأنا أول العابدين على أنه واحد ليس له ولد.

ويجوز أن يكون معنى العابدين: الموحدين، لأن كل من يعبده يوحده، وكل من يوحده يعبده. (وقيله يا رب) من فتح قيله: عطفه على قوله: (أنا لا نسمع سرهم ونجواهم)، أي: ولا نسمع قيله. وقيل: معناه: لا يملكون الشفاعة ولا يملكون قيله. وقيل: نصب على المصدر: إلا من شهد بالحق وقال قيله.

ومن جر "قيله" كان المعنى: عنده علم الساعة وعلم قيله، أي: شهد بالحق وبقيله. [تمت سورة الزخرف]

سورة الدخان

سورة الدخان (إنا أنزلناه في ليلة مباركة) أي: ابتداء إنزاله فيها. (بدخان مبين) كان النبي صلى الله عليه قال: اللهم اشدد وطأتك على مضر، فأجدبوا وصاروا يرون بالجوع بينهم وبين السماء دخاناً. (أنى لهم الذكرى) أي: أنى لهم التذكر. (وقد جاءهم رسول) فكذبوه. (البطشة الكبرى)

يوم القيامة عن ابن عباس. ويوم بدر عن ابن مسعود. (وأن لا تعلوا على الله) لا تستكبروا عن أمره. (فما بكت عليهم السماء والأرض) أي: لم يلحق -بفقدهم- شيئاً من ذلك خلل ولا نقص، كما قال النابغة في ضده: 1082 - بكى حارث الجولان من هلك ربه ... وجولان منه خاشع متضائل 1083 - وآب مضلوه بعين سخينة ... وغودر بالجولان حزم ونائل.

(ما فيه بلاء مبين) إحسان ونعمة، كما قال أوس بن حجر: 1084 - لعمرك ما ملت ثواء ثويها ... حليمة إذ ألقي مراسي مقعد 1085 - وقد غبرت شهري ربيع كليهما ... بحمل البلايا والخباء الممدد. (فأتوا بآبائنا) لم يجابوا فيه، لأن النشأة الآخرة للجزاء لا لإعادة التكليف. (وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين) أي: لو بطل الجزاء على الأعمال، لكان الخلق أشبه شيء باللهو واللعب.

([فـ]ـاعتلوه) ادفعوه بشدة وعنف. والعتل: أن يأخذ بمجامع ثوب الإنسان عند صدره حتى يميل من شدة الجذب، وعنف الأخذ عنقه يجره على ذلك. وضم التاء فيه لغة إلا أن الكسر أشهر. [تمت سورة الدخان]

سورة الجاثية

سورة الجاثية (وفي خلقكم وما يبث من دابة ءايات) رفع آيات بالعطف على موضع "إن" لا على لفظه، كما تقول: إن زيداً قائم، وعمرو قاعد. وقال الكوفيون: الرفع في مثل هذا يكون معنى الفاعل، وكذلك ما ارتفع بعد الظروف، مثل قولك: في الدار زيد. وتقريبه من الفاعل تقديره: استقر في الدار زيد، وثبت في خلقكم آيات. وأما جرها فللعطف على الآيات الأولى، إما بالعامل الأول [أو] بتقدير عامل آخر، أي: وإن في خلقكم آيات.

(وسخر لكم ما في السموات) أي: من الشمس والقمر والنجوم والأمطار وغيرها، فكلها يجري على منافع العباد. (لا يرجون أيام الله) لا يطمعون في نصره في الدنيا، ولا في ثوابه في الآخرة. (سواء محيهم ومماتهم) الضمير في الكناية يجوز للمؤمنين وحدهم، وللذين اجترحوا السيئات وحدهم. ولو نظرت إلى قوله (ساء ما يحكمون) ترجح ضمير المجترحين. ولو قلت: إنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هم سواء محياهم ومماتهم، ترجح ضمير المؤمنين، لأنه يكون كالنص على استئناف ذكرهم للتشريف. (اتخذ إلهه هواه) أي: لا يعصيه، ولا يمنعه منه خوف الله. (إلى كتابها)

أي: كتابها الذي أنزل على رسولها، ويجوز أن يكون الكتاب اسم الجنس، أي: [تدعى] إلى صحائف أعمالها. (نستنسخ) ننسخ كقوله: (وإذا رأوا ءاية يستسخرون) أي: يسخرون. وقيل: نستدعي ذلك، أي: نأمر الملائكة بكتابته وحفظه، ليحتج عليهم بأعمالهم، كقوله: (بلى ورسلنا لديهم يكتبون). (فيدخلهم ربهم في رحمته) استعارة ومجاز، لتجليل الرحمة لهم ودخولهم فيها. وللمجاز ثلاثة أوصاف: الاتساع، والتأكيد، والتشبيه. وقد انتظم جميعها هذا اللفظ. أما الاتساع: فكأنه زيد في أسماء الجهات والمحال [اسم] هو الرحمة

وأما التشبيه، فلأنه شبه الرحمة -وإن لم يصح دخولها- بما يجري [مجرى] دخولها ووضعها موضعه. وأما التوكيد فلأنه [أخبر] عن المعنى بما يخبر به عن الجوهر المتصور المحسوس، ومثل هذا الموضع [في] انتظام/المعاني الثلاثة، قول الشاعر: 1086 - قرعت ظنابيب الهوى يوم عالج ... ويوم النقا [حتى] قسرت الهوى قسرا. وقول الآخر: 1087 - غمر الرداء إذا تبسم ضاحكاً ... غلقت لضحكته رقاب المال.

وقول الآخر: 1088 - تغلغل حب عثمة في فؤادي ... فباديه مع الخافي يسير. فوصف الحب بالتغلغل من مجاوزة مكان إلى آخر، فيكون ذلك بتفريغ الأول، وشغل الثاني، وهو من أوصاف الأعيان لا الأحداث. [تمت سورة الجاثية]

سورة الأحقاف

سورة الأحقاف (أو أثارة من علم) هي الخط. قال ابن عباس: هو شيء يخط في الأرض يستدل منه على الكوائن. (وشهد شاهد من بني إسرائيل)

عبد الله بن سلام عن الحسن، وأنكره الشعبي، لأن السورة مكية.

ولكنه يجوز أن يكون بعض آياتها مدنية. ويجوز أن يكون إخبار الرسول بشهاد [ة] عبد الله قبل شهادته من آياته ومعجزاته. (ووصينا الإنسان بوالديه حسناً) لا بد من إضمار، فإما أن تضمر: [ليأتي] أمراً ذا حسن، أو تضمر: [ليأتي] في أمره حسناً. وإنما لم يكن بد من الإضمار، لأن وصينا قد استوفى مفعوليه: (الإنسان) و (بوالديه)، فلا يبقى له عمل، فاحتيج إلى إضمار. (حملته [أمه] كرهاً) ثقل الحمل وأمراضه وأعراضه، وشدة الخوف على النفس وعلى الجنين. (وعد الصدق)

أي: وعدناهم ذلك وعداً صدقاً، لكنه أضاف الوعد إلى نفسه، كقوله: (حق اليقين). (قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك) أي: كذلك ينبغي أن يقول ويفعل. (والذي قال لوالديه) جوابه (أولئك الذين حق عليهم القول)، أي: كل من قال كذا حق عليه القول. (أذهبتم طيباتكم) إذهابها في الدنيا من الذهاب بالشيء على معنى الفوز به، هذا ظاهر الآية. ويحتمل أن ذلك في الآخرة بما فعلوه في الدنيا، فيكون من الذهاب بالشيء على معنى الفوت. (بالأحقاف)

الحقف نقاً من الرمل يعوج ويدق. (عارض) سحاب في ناحية السماء. (فيما إن مكناكم فيه) أي: في الذي ما مكناكم، فيكون "إن" بمنزلة "ما" في الجحد، فيكون في "إن" إصلاح اللفظ من وجهين: -أحدهما: سقوط تكرير "ما". -والثاني: الحجاز بين الميمين في "ما" و"مكناكم"، لأن الألف حاجز غير [حصين]، هذا، مع ما أحدثت من الغنة التي يزداد [بها] اللفظ

حسن ترنم يربي على حروف المد واللين، ولذلك يستعمل "ما" بعد "النون" لغير عوض قوي [إ] لا لتحسين اللفظ. كما قال: 1089 - وإنا لمما نضرب الكبش ضربة ... على رأسه تلقي اللسان من الفم. (أولوا العزم من الرسل) يجوز من لتبيين الجنس، ويجوز للتبعيض، لأنه ليس كل الأنبياء غلظت عليه المحنة والتكليف فبان عزمهم وظهر صبرهم. [تمت سورة الأحقاف]

سورة محمد عليه السلام

سورة محمد عليه السلام (أضل أعمالهم) أبطلها. وقيل: ضلت أعمالهم، كما قال الشاعر: 1090 - هبوني امرءاً منكم أضل بعيره ... له حرمة إن الذمام كبير. (حتى تضع الحرب أوزارها) أي: أهل [الحرب] آثامها، فلا يبقى إلا مسلم أو مسالم.

وقيل: أوزارها: أثقالها من الكراع والسلاح، كما فصلها الأعشى [بقوله]: 1091 - [و] أعددت للحرب أوزارها ... رماحاً طوالاً وخيلاً ذكورا 1092 - ومن نسج داود يحدى بها ... على أثر الخيل عيراً فعيرا. (عرفها) إذا دخلوها عرف كل منزله فسبق إليه. وقيل: عرفها: طيبها. قال الشاعر:

1093 - فتدخل أيد في حناجر أقنعت ... لعادتها من الخزير المعرف. (ويأكلون كما تأكل الأنعام) قاله وضعاً منهم، وتخسيساً لهم، كما قيل في معناه: 1094 - نهارك يا مغرور أكل وراحة ... وليلك نوم والردى لك لازم 1095 - تكدح فيما سوف تكره غبة ... كذلك في الدنيا تعيش البهائم. (مثل الجنة) صفتها. أي: الصفة التي مثلت الجنة بها، فصارت مثلاً لها.

(غير ءاسن) أسن الماء يأسن أسناً وأسوناً فهو آسن إذا تغير. ومعنى الآية على وجهين: صفة الحال: أي: من ماء غير متغير. وصفة الاستقبال: أي: غير صائر إلى التغير، وإن طال [جمامه]، ومقامه، بخلاف مياه الدنيا. (من لبن لم يتغير طعمه) لأن أحب الألبان عند [هم] الحليب الصريح المحض، وهو الأنفع والأمرأ. (من خمر لذة للشاربين) يسوغ كما يسوغ ماء العسل في حلاوته، والماء النمير في عذوبته. ولذة: معناه: لذيذة، كما قال مزرد:

1096 - إذ ألهو بليلى وهي لذ حديثها لطالبها مسئول خير فباذل. (ماذا قال ءانفاً) إما أنهم لم يعوا ولم يفهموا لقلة اعتنائهم به. أو أظهروا أنهم لم يفهموا تغافلاً عن الدين وتهاوناً به. ([و] ءاتاهم تقواهم) أي: ثواب تقواهم. وقيل: ألهمهم. (فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم) أي: من أين لهم، بمعنى: من أين الانتفاع بها في ذلك الوقت. (فاعلم أنه لا إله إلا الله)

دم عليه اعتقاداً وقولاً. (طاعة وقول معروف) أي: هذا قولهم في الأمن. (فإذا عزم الأمر) كرهوه. (إن توليتم) أي: وليتم أمور الناس، أن تصيروا إلى أمركم الأول في قطيعة الرحم والفساد. (وجوههم وأدبارهم) ما دبر منهم، وذلك أن الكافر عند موته يضرب وجهه وظهره. (لحن القول) فحواه وكنايته. (يتركم) يسلبكم، والوتر: السلب.

([فـ]ـيحفكم) يجهدكم في المسألة. [تمت سورة محمد عليه الصلاة والسلام]

سورة الفتح

سورة الفتح (إنا فتحنا) صلح الحديبية، وعده الله فتح مكة عند انكفائه منها. وقال ابن بحر: هو فتح المشكلات عليه في الدين، كقوله: (وعنده مفاتح الغيب). (ليغفر لك الله) ليس الفتح [كان] ليغفر له، بل لينصره نصراً عزيزاً، ولكنه لما عد عليه هذه النعمة وصله بما هو أعظم النعم.

(ما تقدم من ذنبك) ما كان قبل الفتح. وقيل: قبل البعثة. وقيل: ما تقدم قبل نزول هذه الآية، (وما تأخر) بعدها. وقيل: إن المراد بما تأخر: ذنوب أمته، كما تقول: وهبت لك هذه جرائم، وهي جرائم عشيرته. (أنزل السكينة) قيل: هي الثقة بوعد الله، والصبر على أمر الله. (ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم) يقيناً مع يقينهم. وقيل: عملاً مع تصديقهم. (ولله جنود السموات والأرض)

أي: لو شاء نصركم بها عاجلاً، ودمر على من منعكم الحرم، لكنه أنزل السكينة عليكم، ليكون ظهور كلمته بجهادكم، وثوابه لكم. (وتسبحوه) تنزهوه من كل ذم وعيب. وقيل: تصلوا عليه. وقيل: توقروا الرسول وتسبحوا الله. (إنما يبايعون الله) هذه بيعة الرضوان بالحديبية، بايعوه على أن ينصروه ولا يفروا، وسميت بيعة، لقوله: (إن الله اشترى من المؤمنين)، ولأنها في التواجب كالبيع. (يد الله) أي: في الثواب، (فوق أيديهم) في النصر.

(سيقول لك المخلفون من الأعراب) لما أراد النبي عليه السلام المسير إلى مكة عام الحديبية، استنفر من حول المدينة من الأعراب احتراساً من قريش. (ستدعون إلى قوم) يدعوكم المؤمنون بعد النبي. (أولي بأس شديد) الروم وفارس عن الحسن، وبنو حنيفة مع مسيلمة عن الزهري.

(لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) كان المبايعون يومئذ ألفاً وأربعمائة رجل. وهم المهاجرون مطلقاً. وطبقة أخرى المهاجرون منهم إلى الحبشة. وطبقة أخرى منهم الذين بايعوا عند العقبة الأولى، يقال للواحد عقبي. وأخرى المهاجرون الذين وصلوا إلى النبي عليه السلام، وهو بقباء قبل أن يدخل المدينة، وهم المهاجرون الأولون. وأخرى المهاجرون منهم بين بدر والحديبية. وأخرى المهاجرون بين الحديبية والفتح. فذلكم خمس طبقات بعد الأولى، أي: المهاجرين مطلقاً.

والشجرة التي بايعوا تحتها سمرة، ولذلك قال العباس يوم حنين: يا أهل السمرة. (وأثابهم فتحاً قريباً) هو فتح خيبر. ويقال: فتح مكة. (وأخرى لم تقدروا عليها) فارس والروم.

(قد أحاط الله بها) قدر عليها. (ولن تجد لسنة الله تبديلا) في نصرة كل نبي يأمره بالقتال. (والهدي معكوفاً) مجموعاً موقوفاً، عكف بعضه على بعض. (فتصيبكم منهم معرة) إثم. وقيل: شدة. (لو تزيلوا) تميزوا وتفرقوا حتى لا يختلط بمشركي مكة مسلم. (ولولا رجال مؤمنون)

أي: ولولا [وطؤكم] رجالاً مؤمنين، ونساء مؤمنات (لعذبنا الذين كفروا) بالسيف. (فأنزل الله سكينته) لما طالبهم سهيل بن عمرو أن يكتبوا باسمك اللهم. (كلمة التقوى) سمعنا وأطعنا. (إن شاء الله ءامنين) الاستثناء للتأديب على مقتضى [الدين]، أي: ليدخلنه بمشيئة الله. وقيل: إن الاستثناء في دخول جميعهم، [إذ] علم أن بعضهم يموت.

وقيل: إن (لتدخلن) من قول رسول الله لأصحابه، حكاية عن رؤياه، فيكون الاستثناء في الرؤيا لا في خبر الله. وقال أبو عبيدة:-"إن" [بمعنى] "إذ"، أي: [إذ] شاء الله. (والذين معه) رفع [بـ]ـالابتداء، والواو واو الاستئناف. (سيماهم في وجوههم) صفرة السهر و [غضاضة] النظر.

وقال ابن عباس: نور الصلاة. وقال الحسن: السمت الحسن. (مثلهم) صفتهم. (شطئه) الشطأ والسفا والبهمى: شوك السنبل.

وقيل: فراخه [الذي] يخرج في جوانبه. وهو من شاطئ النهر جانبه، [وأشطأ] الزرع: أفرخ. وفي الشطأ لغات أخر: الشطأ: بفتح الطاء والهمز. والشطا: مقصوراً، والشط بلا همز ولا ألف. (فئازره) قواه وشد أزره، أي: شد فراخ الزرع أصوله. قال الأسود بن يعفر: 1097 - ولقد غدوت [لعازب متناذر] ... أحوى المذانب مؤنق الرواد

1098 - جادت [سواريه] وآزر نبته ... نفأ من الصفراء والزباد. (فاستغلظ) غلظ، أي: باجتماع الفراخ مع الأصول. (فاستوى على سوقه) جمع ساق، وهي قصبه الذي يقوم عليه، ويكون ساقاً له. (ليغيظ بهم الكفار) أهل مكة. وهذا مثل ضربه الله للمؤمنين، إذ كانوا أقلاء فكثروا، وأذلاء فعزوا.

ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد الحديبية عشرين يوماً ثم خرج إلى خيبر فنصره الله، وفتح عليه خيبر. والحديبية بوزن تريقية تصغير ترقوة، ولا يجوز غيره. [تمت سورة الفتح]

سورة الحجرات

سورة الحجرات (لا تقدموا) لا تتقدموا، كما يقال: عجل في الأمر [وتعجل]. وقيل: معناه لا تقدموا أمراً على ما أمركم الله به فحذف المفعول. (أن تحبط أعمالكم) بمعنى فتحبط أعمالكم، أو معناه: أن لا تحبط، أي: لئلا تحبط. الإحباط في الحسنات في مقابلة الغفران للسيئات، فكما أن المغفرة تستر الذنوب، حتى كأنه لم يكن، فكذلك يعمل الإحباط بالطاعات. (امتحن الله قلوبهم للتقوى)

أخلصها. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أذهب الشهوات عنها". (الحجرات) والحجرات كلاهما جمع حجرة. ويجوز أن تجمع حجرة على حجر، ثم الحجرات جمعها.

وذكر الفرزدق هذه الحجرات في شعره، وعنى به بني هاشم فقال: 1099 - أما كان عباداً كفياً لدرام ... بلى ولأبيات بها الحجرات. (لعنتم) للقيتم مشقة، هذا أصله. ثم لفظ المفسرين مختلف: أثمتم، عن مقاتل.

وهلكتم، عن مجاهد. وحرجتم، عن الكلبي. (حتى تفيء إلى أمر الله) ترجع إلى الصلح الذي أمر الله به. وقيل: ترجع إلى كتاب الله. (فأصلحوا بين أخويكم) لفظها التثنية، ومعناها الجماعة. أي: كل اثنين فصاعداً من المسلمين، إذا اقتتلا فأصلحوا بينهما، ففيه [شيئان:] لفظ التثنية يراد به الجماعة، ولفظ الإضافة بمعنى الجنس، وكلاهما جاء، نحو: لبيك وسعديك، فليس المراد إجابتين، ولا إسعادين، ولكن معناه كما قال الخليل: أي: كلما كنت في أمر فدعوتني له أجبتك إليه، وساعدتك

عليه، ومنه قول جرير: 1100 - وما أنت إن قرما تميم تساميا ... أخا [التيم] إلا كالوشيظة في العظم 1101 - ولو كنت مولى العز أو في [ظلاله] ... ظلمت ولكن لا يدي لك بالظلم. ومعلوم أنه لا ينفي قوتين اثنتين، وإنما ينفي جميع قواه. وكذلك قوله عز وجل: (بل يداه مبسوطتان) فإن نعم الله أكثر من أن تحصى. وفي شعر الهذليين:

1102 - إذا شق برد شق بالبرد مثله ... دواليك حتى ليس للبرد لابس. أي: مداولة، كما قال العجاج: 1103 - ضرباً هذاذيك وطعناً [وخضا] أي: هذا بعد هذ، لا هذين اثنين. وأما إفادة المضاف لمعنى الجنس فكقولهم: "منعت العراق قفيزها ودرهمها"، أي: قفزانها ودراهمها، وكذلك قوله: (بل يداه). (لا يسخر قوم من قوم)

القوم: الرجال خاصة، كما قال زهير: 1104 - وما أدري وسوف إخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء. (ولا تلمزوا أنفسكم) لا تعيبوا إخوانكم. قال المبرد: اللمز باللسان وبالإشارة، والهمز بالإشارة لا باللسان. وقال ثعلب: الهمز في الوجه، واللمز في القفا، وأنشد: 1105 - إذا لقيتم عن شحط تكاشرني ... وإن تغيبت كنت الهامز اللمزة.

(ولا تنابزوا بالألقاب) قيل: إن النبز هو اللقب الثابت. وقيل: [القرف] بالقبيح الذي يثلم العرض. وهذا أصح، لأن النهي عن التنابز، لا عن الألقاب، مثل: [ألقاب] الملوك، وهذا كالقول: "لا تراموا بالحجارة" لا يكون نهياً عن البناء بالحجارة. (إن بعض الظن إثم) قيل: إنه ظن السوء، لما يوقع صاحبه فيه من الاهتمام في نفسه، وإلحاق الضرر بغيره. كما قيل: الحسن الظن مستريح، يغتم من ظنه قبيح.

وقيل: إنه الظن في موضع إمكان العلم، وإلا فالظن في موضع [الظن] كالعلم في موضع العلم، ولهذا قال: (إن بعض الظن) وقال بلعاء بن قيس في الظن الصائب: 1106 - وأبغي صواب الظن أعلم أنه ... إذا طاش ظن المرء طاشت مقادر [هـ]. وقال أبو الفضة: 1107 - فإن لا يأتكم خبر يقين ... فإن الظن ينقص أو يزيد.

وقال البرجمي: 1108 - وفي الشك تفريط وفي الحزم قوة ... ويخطئ في الظن الفتى ويصيب. (ولا تجسسوا) لا تتبعوا عثرات الناس. وقيل: لا تبحثوا عما خفي، كما قال الشاعر: 1109 - تجنبت سعدى أن يشيد بذكرها ... إذا زرت سعدى الكاشح المتجسس. (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا)

أي: كما يكره لحم أخيه الميت بطبعه، ينبغي أن يكره اغتيابه بعقله، بل أولى، لأن داعية الطبع عمياء جاهلة، وداعية العقل بصيرة عالمة. وفي معناه للمقنع الكندي: 1110 - إذا ضيعوا غيبي حفظت غيوبهم ... وإن هم هووا غيي هويت لهم رشدا 1111 - وإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم ... وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا. (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا) نبه تعالى على علة اختلاف القبائل أنها للتعارف لا للتفاخر.

والشعوب: جمع شعب، وهو اسم الجنس لأنواع الأحياء، ثم أخص منها القبائل، ثم العمائر، ثم البطون، ثم الأفخاذ، ثم الفصائل، ثم العشائر. فالشعب: مثل مضر، والقبيلة: مثل كنانة، والعمارة: [مثل قريش]، والبطن: مثل هاشم، والفخذ: مثل بني المطلب، والفصيلة: مثل العلوية والعباسية، والعشيرة: مثل الحسنية والحسينية. (قالت الأعراب ءامنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا) معناه: أنهم وإن صاروا ذوي سلم، وخرجوا من أن يكونوا حرباً بإظهار الشهادتين، فإنهم لم يصدقوا، ولم يثقوا بما دخلوا فيه، فكأن الإسلام من السلم، والإيمان من الثقة والتصديق. (لا يلتكم) ولا يألتكم، يقال: ألت يألت ألتاً، وولت يلت ولتاً، ولات يليت ليتاً، وألت

يؤلت إيلاتاً، ومنه "ليت" للمتمني، لأنها [تقال عند انتقاص] المراد، فمعناها: لا ينقصكم ولا يظلمكم من أعمالكم شيئاً. [تمت سورة الحجرات]

سورة ق

سورة ق (والقرآن المجيد) جوابه محذوف. و [تقديره] قيل: ليبعثن، بدليل قوله: (أءذا متنا). وقيل: إنك رسول الله، بدليل قوله: (بل عجبوا أن جاءهم منذر). (قد علمنا ما تنقص الأرض منهم) أي: من يموت منهم. وقيل: علمنا الأجزاء التي تأكل الأرض منهم.

قال أرطاة بن [سهية]: 1112 - رأيت المرء تأكله الليالي ... كأكل الأرض ساقطة الحديد 1113 - وما [تجد] المنية حين [تأتي] ... على نفس ابن آدم من مزيد. (مريج) مختلف مختلط. (وما لها من فروج) [شقوق وفتوق]. (وحب الحصيد) كل ما يحصد من الحبوب، ومثل هذه الإضافة قول ذي الرمة:

1114 - والقرط في حرة الذفرى معلقة ... تباعد الحبل منه فهو يضطرب. أي: في أذن حرة الذفرى. (باسقات) طوال. (لها طلع) كل ما يطلع من ثمر النخل. والنضيد: المنضود، المتراكب بعضه فوق بعض. وقال الحسن: هو الطبيع في كفراه. والطبيع: أم الطلع، وكفراه: وعاؤه. (كذلك الخروج) أي: من القبور.

وقيل: من بطون الأمهات. (أفعيينا) عجزنا عن إهلاك الخلق، من تقدم ذكره ها هنا. (من حبل الوريد) هو [حبل العاتق]، وهو الوتين، ينشأ من القلب، فينبث في البدم، والله أقرب منه، وعلمه أقرب إليه من علم القلب. (المتلقيان) ملكان يتلقيان عمل العبد. (قعيد) رصد. (رقيب) وهو خبر واحد عن اثنين، كأنه عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد، أو كل واحد منهما قعيد، كما قال البرجمي:

1115 - من يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني وقيار بها لغريب. (وجاءت سكرة الموت بالحق) لهذه الباء تقديران: إن شئت [علقتها] بنفس (جاءت)، كقولك: "جئت بزيد" أي: أحضرته وأجأته. وإن شئت علقتها بمحذوف وجعلتها حالاً، أي: جاء [ت] سكرة الموت ومعها [الحق]، كقولك: "خرج بثيابه"، أي: خرج وثيابه معه أو عليه. وقراءة أبي بكر رضي الله عنه": "وجاءت سكرة الحق بالموت"، لاتحادهما في الحال، ولا ينفصل أحدهما من صاحبه. وروي أن عائشة كانت عند أبي بكر وهو يقضي فأنشدت:

1116 - أماوي ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوماً وضاق [بها] الصدر. فقال أبو بكر: بل قول الله: "وجاءت سكرة الحق بالموت". (ذلك ما كنت منه تحيد) تحيد: [تميل]، قال طرفة: 1117 - أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض.

(معها سائق وشهيد) سائق من الملائكة، وشهيد من أنفسهم. (فبصرك اليوم حديد) علمك نافذ. (وقال قرينه) أي: الملك [الـ]ـشهيد عليه، عن الحسن.

وعن مجاهد: قرينه الذي قيض له من الشياطين. (هذا ما لدي عتيد) هذا عمله محصي عندي. وعلى قول مجاهد: المراد به العذاب. وقال الزجاج: "ما" في موضع رفع بقوله: (هذا)، و (عتيد) صفة "ما"، على قولهم: هذا حلو حامض، فيكون صفة بعد صفة، أو يجعل "ما" نكرة والمعنى: هذا شيء لدي عتيد. (ألقيا)

خطاب للملكين على قول من يقول: إن السائق والشهيد كلاهما [من] الملائكة. وقيل: [ألقين] بالنون الخفيفة، فأجرى الوصل فيه مجرى الوقف، كقول الحجاج: يا حرسي اضربا عنقه. وقيل: هو خطاب [لمالك] على مذهب العرب في تثنية خطاب الواحد، وقد مر شاهده. (مريب)

شاك متهم، قال جميل: 1118 - بثينة قالت يا جميل أربتنا ... فقلت كلانا يا بثين مريب 1119 - وأريبنا من لا يؤدي أمانة ... ولا يحفظ الأسرار حين يغيب. (قال قرينه ربنا ما أطغيته) على قول مجاهد: يقول شيطانه: ما أغويته. وعلى قول الحسن: يقول الكافر: رب إن الملك قد زاد علي في الكتابة. يقول الملك: ربنا ما أطغيته، أي: ما زدت عليه. فيقول الله: (لا تختصموا لدي)

(ما يبدل القول لدي) ما يكتب غير الحق، ولا يكذب عندي. (ادخلوها بسلام) أي: مع سلامة من الزوال. (فنقبوا في البلاد) ساروا في طرقها، [وطوفوا] في مسالكها. والنقب: الطريق في الجبل. وقيل: [أظهروا] آثارهم فيها من نقب الخف والحافر، إذا ظهر الحفار فيهما، قال: 1120 - ذريني أصطبح يا هند إني ... رأيت الموت نقب عن هشام

1121 - وعن عمر [و] وعمرو كان قدماً ... يؤمل للملمات العظام. (أو ألقى السمع وهو شهيد) أي: ألقى سمعه نحو كتاب الله، كما نقول: ألق سمعك إلي. "وهو شهيد": حاضر قلبه معه. (وأدبار السجود) بفتح الألف جمع دبر، مثل: قفل وأقفال، أو جمع دبر، كطنب وأطناب. وبالكسر على [المصدر]، وفيه معنى الظرف، (فسبحه) في وقت (إدبار السجود)، وهو ركعتان بعد المغرب.

(وإدبار النجوم): ركعتان قبل الفجر. (من مكان قريب) عن قتادة: ينادى من صخرة بيت المقدس، فتأتيها العظام البالية. (وما أنت [عليهم] بجبار) يجبرهم على الإيمان، ولا يأتي "فعال" من باب الإفعال إلا الجبار والدراك. [تمت سورة ق]

سورة الذاريات

سورة الذاريات (والذاريات) الرياح. (فالحاملات) السحاب. (فالجاريات) السفن. (فالمقسمات) الملائكة. وقد حمل بعضهم الذاريات والحاملات على الرياح، فتكون مقدمة السحاب [تثيرها] وتسوقها، والثانية تدرها. والجاريات والمقسمات حملها على السحاب، لأنها تقسم الحظوظ والأرزاق وتجري بيسر وسهولة في مسير، كما قال الأعشى:

1122 - غراء فرعاء مصقول عوارضها ... تمشي الهوينا كما يمشي [الوجى الوحل] 1123 - كأن مشيتها من بيت جارتها ... مر السحابة لا ريث ولا عجل. وهذه أقسام، والواو التي فيها واو القسم، وجاز أن يقسم الله بها، ولا يجوز أن يقسم الخلق إلا بالله، لأن قسم الخلق استشهاد على صحة قولهم بمن يعلم السر والعلانية، وليس ذلك إلا الله. وقسم الخالق إرادة تأكيد الخبر في نفوسهم مما جرت به العادة بينهم، فيقسم ببعض خلقه على وجه يوجب الاعتبار، وإحضار القلب عند التنبيه على عجائب الفطرة وبدائع القدرة. (ذات الحبك) طرائق الغيم، وأثر حسن الصنعة فيه، وهو في البيض الحبيك، وفي الشعر، وجماح الحمام: الحباك. قال الشماخ:

1124 - قد وكلت بالهدى إنسان ساهمة ... كأنه من تمام الطميء مسمول 1125 - حتى استغاث بأحوى فوقه حبك ... تدعو هديلاً به [العزف العزاهيل]. (إنكم لفي قول مختلف) أمر مختلف، واحد مؤمن، وآخر كافر، وواحد مطيع وآخر عاص، وواحد يقول إنه ساحر، وآخر يقول: شاعر، وآخر: مجنون. (يؤفك عنه من أفك)

يصرف عن هذه الأفعال من صرف. وقيل: يصرف عن الجزاء. (قتل الخراصون) لعن الكذابون. (على النار يفتنون) [يحرقون]، كما يفتن الذهب بالنار. (ءاخذين ما آتاهم ربهم) من الفرائض. وقيل: من الثواب. (كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون) أي: قليلاً هجوعهم، إذ "ما" مع "الفعل" بمعنى المصدر.

(والمحروم) الذي لا يسأل تعففاً وحياءً فيحرم. وقالت عائشة: "هو [المحارف] الذي نبا عنه مكسبه". (وفي السماء رزقكم) الأمطار. أو تقدير رزقكم، وما قسم لكم.

(وما توعدون) من خير أو شر. (مثل ما أنكم تنطقون) لو جاء: "مثل ما تنطقون"، لفهم منه أنه حق مثل ما أن نطقكم حق، [ويكون] في نطقهم غير حق. وإذ قال: (مثل ما أنكم تنطقون)، كان معناه: مثل صحة كونكم ناطقين، كاذبين أو صادقين. ونصب (مثل): على الحال، أي: إنه لحق مماثلاً لكونكم ناطقين، أو على أنه وصف مصدر محذوف، أي: إنه لحق حقاً يقيناً مثل [نطقكم]، ويجوز أن يبني مثل مع ما.

(قوم منكرون) غرباء لا يعرفون. (فراغ [إلى] أهله) [مال] في خفية. والصرة: الرنة. وقيل: الصيحة من الصرير. (حجارة من طين) محجر، كقوله: (من سجيل). (وفي موسى) أي: آية فيه، عطف على قوله: (وتركنا فيها آية).

(فتولى بركنه) أعرض بجموعه وجنوده. وقيل: بجانبه، ومنه الركون بمعنى الميل، لأنه يكون إلى جانب. (الريح العقيم) هي الدبور: لأنها لا تلقح بل تقشع السحاب، وهذا أصح مما روى ابن أبي ذئب: "أنها الجنوب"، ومما روى ابن جريج عن مجاهد: "إنها

الصبا"؛ لأن كل واحدة من الصبا والجنوب تلقح وتدر ولا تعقم، ولذلك [تحب وتؤثر،] كما قال حميد بن ثور: 1126 - فلا يبعد الله الشباب وقولنا ... إذا ما صبونا صبوة [سنتوب] 1127 - ليالي أبصار الغواني وسمعها ... إلي وإذ ريحي لهن جنوب. وقال الأعشى: 1128 - وما عنده فضل تليد ولا له ... من الريح فضل لا الجنوب ولا الصبا. أي: لم ينل نائلاً، فيكون كالجنوب في مجيئه بالمطر، ولم ينفس عن [أ] حد كربة فيكون كالصبا في التنفيس، هذا قول أبي علي فيه، [وأن] الظاهر منه: أمر الصبا الإلقاح والإثارة، ومن الجنوب: الإمطار والإدرار.

(كالرميم) كالتراب. وقيل: كالرماد. وقيل: هو الشيء البالي الفاني. ويشهد للجميع قول أبي حية النميري: 1129 - رمتني وستر الله بيني وبينها ... عشية آرام الظباء رميم 1130 - ألا رب يوم لو رمتني رميتها ... ولكن عهدي بالنضال قديم.

(فما استطاعوا من قيام) أي: ما نهضوا بعذاب الله، وما قدروا على دفاع. (وإنا لموسعون) أي: ذو سعة وقدرة. وقيل: قادرون على أوسع من السماء. وقيل: لموسعون الرزق على الخلق. وقيل: [لموسعون] ما بين السماء والأرض. (ومن كل شيء خلقنا زوجين) أي: ضدين غنى وفقراً، وحسناً وقبحاً، وموتاً وحياة، ونحوها. (بل هم قوم طاغون) هذا هو الموضع الذي يقول البصريون: إن "أم" المنقطعة بمعنى "بل"، للترك والتحول، إلا أن ما بعد "بل" متيقن، وما بعد "أم" مشكوك فيه ومسؤول عنه.

(ذو القوة المتين) المتين: القوي. ولا يفسر بالشديد، لأن الشديد ليس في أسماء الله، والقوي منها، فكأن القول: ذو القوة التي يعطيها خلقه، القوي في نفسه، فخولف بين اللفظين والمعنى واحد -وإن كان المراد بها مختلفاً- لتحسين النظم. (ذنوباً) نصيباً، وأصله الدلو فيها ماء. كما قال حسان:

1131 - لا يبعدن ربيعة بن مكدم ... وسقى الغوادي قبر [هـ] بذنوب. [تمت سورة الذاريات]

سورة الطور

سورة الطور (في رق منشور) قيل: إنه صحيفة الأعمال، كقوله تعالى: (وإذا الصحف نشرت). وقيل: إنه اللوح المحفوظ. وقيل: إنه كتاب من كتب الله في رق. وهو إما التوراة بسبب اقترانه بالطور، أو القرآن بسبب [الـ]ـبيت المعمور، وهو الكعبة.

وهذا القول أولى، لمكان "الرق"، وسمي به لرقة حواشيه، وقد عرفت العرب ذلك. قال التغلبي: 1132 - لا بنت حطان بن عوف منازل ... كما نمق العنوان في الرق كاتب 1133 - ظللت بها أعرى وأشعر [سخنة] ... كما [اعتاد محموماً] بخيبر [صالب]. (والبحر المسجور) في الخبر: "أنه جهنم"، وبذلك فسر مجاهد المسجور، وقال: "إنه الموقد ناراً"، كقوله: (وإذا البحار سجرت).

وقال ابن كيسان: المسجور: المجموع. وأنشد للنمر بن تولب:

1134 - إذا شاء طالع مسجورة ... ترى حولها النبع و [الساسما]. وقال لبيد: 1135 - فتوسطا عرض السري فصدعا ... مسجورة متجاوراً قلامها. (تمور السماء مورا) تدور طوراً فترجع رجعاً. قال ذو الرمة:

1136 - موارة الرجع مسكات إذا رجلت ... تهوي انسلالاً إذا ما اغبرت البيد 1137 - نظارة حين تعلو الشمس راكبها ... [طرحاً] بعيني لياح فيه [تجديد]. (فويل يومئذ) دخلت الفاء على معنى المجازاة، لأنه بمنزلة إذا كان كذا. (دعاً) دفعاً عنيفاً، قال [الراجز]: 1138 - يدعه بضفتي حيزومه 1139 - دع الوصي جانبي يتيمه.

(أفسحر هذا) [إذ] كانوا يقولون لآيات الله إنها سحر. (يتنازعون) يتعاطون، ويتساقون. وهذه اللفظة تداولتها العرب "معاطاة الكؤوس، ومجاذبة الأعنة"، قال الأخطل: 1140 - وشارب مربح بالكأس نادمني ... لا [بالحصور] ولا فيها [بسوار] 1141 - نازعته طيب الراح الشمول وقد ... صاح الدجاج وحانت وقعة الساري. وقال بشر في مجاذبة الأعنة، وليس [لفصاحة] قوله نهاية:

1142 - وما يسعى رجالهم ولكن ... فضول الخيل ملجمة صيام 1143 - [ينازعن] الأعنة مصغيات ... كما يتفارط الثمد الحمام. وقال آخر: 1144 - منازعة العنان بغصن بان ... على كتفين كالقتب الشميم. وقال أيضاً:

1145 - بكل قياد مسنفة عنود ... أضر بها المسالح والغوار 1146 - منازعة العنان كأن فيها ... جرادة هبوة فيها اصفرار. (لا لغو فيها ولا تأثيم) أي: لا سباب ولا ملاحاة، مثل ما يكون في خمور الدنيا، كما قال بعض الصحابة: 1147 - من يقرع الكأس اللئيمة سنه ... فلا بد أن يلغو ويؤذي ويجهلا 1148 - فلم أر [مطلوباً] أخس غنيمة ... وأوضع للأشراف منها وأخملا

1149 - وأجدر أن يلقى كريماً يذمها ... ويشر بها حتى يخر [مجدلا]. وقال ذو الرمة في قريب من هذا المعنى، وإن عكسه إلى المدح في قصيدته لبلال بن أبي بردة: 1150 - فلا الفحش فيها يرهبون ولا الخنا ... عليهم ولكن هيبة هي ماهيا 1151 - بمستحكم جزل المروءة مؤمن ... من القوم لا يهوى الكلام اللواغيا. (كأنهم لؤلؤ مكنون)

أي: مصون لنفاسته. واقتبسه عبد الرحمن بن حسان فقال لرملة بنت معاوية: 1152 - وهي زهراء مثل لؤلؤة الغو ... اص ميزت من جوهر مكنون 1153 - وإذا ما نسبتها لم تجدها ... في سناء من المكارم دون. (نتربص به ريب المنون) ننتظر به صرف الدهر.

قال أبان بن عثمان في ابنتي معاوية أيضاً: 1154 - تربص بهند أن يموت ابن عامر ... ورملة يوماً أن يطلقها عمرو 1155 - فإن صدقت [أمنيتي كنت] مالكاً ... لإحداهما إن طال بي وبها العمر.

(أم هم المصيطرون) المسلطون. وقيل: الحفظة الكتبة من السطر. وإنما تقلب صاداً لأجل الطاء، طلباً لمجانسة الإطباق. (أم لهم سلم يستمعون فيه) أي: يرتقي إلى السماء. (أم عندهم الغيب) بأن محمداً يموت قبلهم.

سورة النجم

سورة النجم (والنجم إذا هوى) قيل: إنها النجوم المنقضة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، انقضاضاً على أحد. وقيل: إن المراد جنس النجوم، فأقسم بها إذا هوت للمغيب، لما فيه من الدلالة على التوحيد، كما في قصة إبراهيم عليه السلام. وقيل: إن النجم [في] لغة العرب: الثريا، [قال]:

1156 - إذا شالت الجوزاء والنجم طالع ... فكل مخاضات الفرات معابر 1157 - وإني إذا ضن الأمير بإذنه ... على الإذن من [نفسي] إذا شئت قادر. وتخصيص القسم بالثريا، لأنهم كانوا يستدلون بها على أمور، ونوءها أغزر، ولما أراد عمر الاستسقاء بالعباس قال: "يا عم رسول الله كم بقي من نوء الثريا".

وهو بعد تصغير ثروى، لأن مطرها تكون منه الثروة، أو الكثرة من الندى عند نوئها. قال الزجاج في كتاب "الأنواء": وزعم بعض المؤمنين من المنجمين أن الثريا إذا هوى للغروب طلع رقيبه الإكليل من العقرب. أي: إن صاحبكم هو الذي دل عليه برج قران الملة، فهو النبي حقاً. وظنه آخرون من طالع مولده [إذ] كان الميزان، فإن الهوي للغروب ليس بنفس الغروب، وإنما هو الذهاب إليه، وحينئذ يكون الميزان طالعاً، وهذا هو الهذيان الذي لا يحل سوداء جالينوس.

(ذو مرة) ذو حزم في قوة، كما قال جرير: 1158 - وما زادني طول المدى نقص مرة ... ولا رق عودي للضروس العواجم. (فاستوى) ارتفع إلى مكانه. وقيل: استوى على صورته، وذلك أنه رأى جبريل على صورته في الأفق الأعلى. وقوله: (بالأفق الأعلى) أي: استوى جبريل ومحمد عليهما السلام بالأفق الأعلى، وحسن الحذف لئلا يتكرر "هو"، كما قال الشاعر:

1159 - ألم تر أن النبع يصلب عوده ... ولا يستوي والخروع المتقصف. أي: لا يستوي هو والخروع. وقيل: إن (وهو بالأفق) جبريل، وهذا القول أظهر. (ثم دنا فتدلى) يعني جبريل على هذا القول. أي: نزل بالوحي في الأرض. وعلى [الأول] محمد عليه السلام دنا من جبريل عليه السلام. والتدلي: النزول والاسترسال. قال لبيد:

1160 - فتدليت عليه قافلاً ... وعلى الأرض غيايات الطفل. (فكان قاب قوسين أو أدنى) قدر قوسين. قال مجاهد: أي: بحيث الوتر من القوس مرتين. وفي معناه لأبي حية النميري: 1161 - إذا ريدة من حيث ما [نفحت] له ... أتاه برياها خليل يواصله 1162 - وفي الجانب الأقصى الذي ليس ضربة ... برمح بلى حران زرق معابله

أي: ليس بين القانص وبين الآتن إلا قدر رمح. وقال الزجاج: إنما لم يقل: "فكان أدنى من قوسين"، لأنه لا شك في الكلام، لأن المعنى فكان [على] ما تقدرونه أنتم قدر قوسين أو أدنى. وقد مر نظيره. (فأوحى إلى عبده ما أوحى) أي: أوحى إلى جبريل ما أوحى جبريل إلى محمد. (ما كذب الفؤاد ما رأى) أي: ما كذب فؤاده ما رآه، وهو من رؤية القلب بمعنى: علمه ويقينه، لأن محل الوحي القلب، كما قال عز وجل: (فإنه نزله على قلبك).

(أفتمارونه على ما يرى) أي: أتجحدونه على علمه ويقينه. وقال المبرد: أفتدفعونه عما يرى. (ما زاغ البصر) ما أقصر عما أبصر. (وما طغى) ما طلب لما حجب. (أفرءيتم اللات) صنم لثقيف. (والعزى) سمرة لغطفان.

(ومناة) صخرة لهذيل وخزاعة. وإنما أنثوا أسماء هذه الأصنام تشبيهاً لها بالملائكة، على زعمهم أنهم بنات الله، فرد الله عليهم بقوله: (ألكم الذكر). (قسمة ضيزى) جائرة، وبالهمز: ظالمة. أنشدت في الأول: 1163 - ضازت بنو أسد بحكمهم ... إذ يعدلون الرأس بالذنب. وفي الثاني:

1164 - إن تنأ عنا ننتقصك وإن تقم ... فحظك مضؤوز وأنفك راغم. ووزن "ضيزى" فعلى، لأنه ليس في النعوت فعلى، إلا أنه كسر الضاد للياء. ومثله: "حيكى" مشية فيها تفكك وتبختر. و"الكيسى" و"الضيقى" في "الكوسى" و"الضوقى"، تأنيث الأكيس والأضيق، ولهذا قالوا: "بيض"، و"عين"، وكان ينبغي: "بوض" مثل: "أحمر" و"حمر". (أم للإنسان ما تمنى) أي: من الذكور. (إلا اللمم) أي: الصغائر.

وقيل: هو الإلمام بالذنب من غير معاودة. وقيل: إنها ما دون الوطء من المضاجعة والمغازلة. وأنشد لوضاح اليمن: 1165 - إذا قلت يوماً نوليني تبسمت ... وقالت: معاذ الله من فعل ما حرم 1166 - فما نولت حتى تضرعت حولها ... وأقرأتها ما رخص الله في اللمم. (أفرءيت الذي تولى) أي: [ا] لعاص بن وائل.

(وأعطى قليلاً) من الخير بلسانه. (وأكدى) منع ما أعطى وقطع. (إبراهيم الذي وفى) هذا على تسمية السبب باسم مسببه، فإن معناه: إذا قال [فـ]ـقد فعل، أو وقع ما يقوله، وهذا كقول بعض المولدين: 1167 - مبارك إذا رأى فقد رزق وأصله لامرئ القيس: 1168 - إذا ما غدونا قال ولدان أهلنا ... تعالوا إلى أن يأتي الصيد نحطب 1169 - نمش بأعراف الجياد أكفنا ... إذا نحن قمنا عن [شواء] مضهب.

(ثم يجزاه الجزاء الأوفى) جزيته الجزاء، أفصح من جزيته بالجزاء، وقد جمعهما الشاعر في قوله: 1170 - إن أجز علقمة بن سيف سعيه ... لا أجزه ببلاء يوم واحد 1171 - لأحبني حب الصبي [ورمني ... رم] الهدي إلى [الغني الواجد]

(أضحك وأبكى) ساء وسر. وقيل: خلق الإنسان ضاحكاً باكياً. وقيل: أضحك الأرض بالنبات، وأبكى السماء بالمطر. واقتبسه بعض من جمع أنواعاً من الاقتباسات، في بيتين فقال: 1172 - أما والذي أبكى وأضحك عبده ... وأطعم من جوع وآمن من خوف 1173 - لما كان لي قلب سوى ما سلبته ... وما جعل الرحمن قلبين في جوف.

(من نطفة إذا تمنى) تسال وتصب. وقيل: تخلق وتقدر. كما قال الهذلي: 1174 - لا تأمنن وإن أصبحت في حرم ... إن المنايا بجنبي كل إنسان 1175 - ولا تقولن لشيء سوف أفعله ... حتى تبين ما يمني لك الماني. (أغنى وأقنى) أعطى الغنية والقنية، وهي أصل المال. (وأنه هو رب الشعرى)

خصت بالذكر [لتفردها] بالعظم والنور، فليس في الكواكب الثابتة ما يدانيها، ولذلك ابتدع أبو كبشة عبادتها، وشبه رسول الله به، ونسبت وأضافت العرب شدة الحر إليها. وكذلك لأوباش المنجمين وسوسة فيها، حتى قال بعض المذكورين منهم: إذا بلغ أوج الشمس إلى درجتها، استولت هي بقوتها وتأثيرها على الدنيا، فيرتفع الجزر والفساد، وينعدم التعب والكد، ويتغير طباع التحسين.

وهذا القائل ينظر في التنجيم من وراء حجاب، ويؤذي أصحاب تلك الصناعة، فإن أوج الشمس عندهم ثابت ألبتة. وقد نظم ذلك بعض كتاب هذه الدولة في الأمير الماضي -رحمه الله- فقال: 1176 - تجاوزت أوج الشمس عزاً ورفعة ... وذللت قسراً كل من يتملك 1177 - فما حركات متعبات تديمها ... تأي [فأوج] الشمس لا يتحرك.

وكذلك ما يدرى كيف اختار هذا القائل الشعرى على قلب الأسد الملكي، الذي هو على ممر الأوج، أن لو كان يتحرك، وما دام هذا العالم موسوماً بالموت والحياة، والسباع بالأنياب والبراثن، والأعمال بالمحاولة والمزاولة، كان ما قاله هذا القائل محالاً.

وفي الاختلاف بين الناس ائتلاف مصالحهم، فإنهم إذا تساووا في السعة والدعة هلكوا. (والمؤتفكة) أي: المنقلبة، مدائن قوم لوط. (أهوى) رفعها جبريل إلى السماء ثم أهوى بها. (أزفت الأزفة) اقتربت القيامة. (ليس لها من دون الله كاشفة)

أي: من يكشف عن [علمها] ويجليها. وقيل: من يكشفها ويدفع شدائدها وأهوالها. ... والهاء: من أجل أن "كاشفة" مصدر مثل: عاقبة [وعافية]. (سامدون) [حائرون]. وأنشد: 1178 - رمى الحدثان نسوة آل حرب ... بمقدار سمدن له سمودا

1179 - فرد شعورهن السود بيضاً ... ورد وجوههن البيض سودا. [تمت سورة النجم]

سورة القمر

سورة القمر (وانشق القمر) قال الحسن: أي: ينشق. فجاء على صيغة الماضي وهي للمستقبل، إما لتحقيق أمره ووجوب وقوعه، أو لتقارب وقته. أو لأن المعنى مفهوم أنه في المستقبل، فلا يلتبس، وعلى هذا نظائر هذا القول، كقوله: (وإذ قال [الله] يا عيسى ابن مريم)، وقوله: (ونادى أصحاب الجنة)، وغيرهما. قال الحطيئة:

1180 - شهد الحطيئة يوم يلقى ربه ... أن الوليد أحق بالعذر. والذي يدل على هذا القول: أنه لو انشق لما بقي أحد إلا رآه. وقال القاضي الماوردي، وهذا على طريق الاستعارة والمثل لوضوح الأمر، كما يقال في الأمثال: (الليل طويل وأنت مقمر). قال الشنفري:

1181 - أقيموا بني أمي صدور مطيكم ... فإني إلى أهل سواكم لأميل 1182 - وقد حمت الحاجات والليل مقمر ... وشدت [لطيات] مطايا [وأرحل]. وقال الجعدي: 1183 - فلما أدبروا ولهم دوي ... دعانا حين شق الصبح داعي

وأكثر الناس على ظاهر الأمر، وأن القمر انشق بنصفين حين سأله حمزة بن عبد المطلب. وعن ابن مسعود قال: "رأيت القمر منشقاً شقين، شقة على أبي قبيس، وشقى على السويداء، فقالوا: سحر القمر".

(خاشعاً أبصارهم) ثم الفعل إذا تقدم على المؤنث والجمع جاز تذكيره وتوحيده، فكذلك الصفة الجارية مجراه، كما قال الشاعر: 1184 - وشباب حسن أوجههم ... من إياد بن نزار بن معد. [وأما] قراءة "خشعاً"، فعلى هذا الأصل كان من حق "خاشع" أن يجمع على "الخاشعين" جمع التصحيح، أي: يشابه الفعل، لأنك تقول في الفعل: "يخشعون"، ولكنه بالأسماء التي ليست بصفة، فوقع (خشعاً أبصارهم) موقع "خاشعة" ليدل على تأنيث الأبصار.

وانتصاب/القراءتين من الضمير في يخرجون، فتقدمت الحال. والمعنى بهما: ذلة الأبصار؛ فإن هذه العوارض إنما [تظهر] في البصر، كما قال زهير في موضعين من شعره، أحدهما: 1185 - لسانك لي حلو ونفسك مرة ... وخيرك كالمرقاة في جبل وعر 1186 - تبين لي عيناك ما أنت كاتمي ... ولا جن بالبغضاء والنظر الشزر. والآخر: 1187 - فإن تك في عدو أو صديق ... يخبرك العيون عن القلوب

1188 - فلا تكثر على ذي الضغن عتباً ... ولا ذكر التجرم للذنوب. (مهطعين إلى الداع) مسرعين. وقيل: ناظرين. وقيل: مستمعين، كما قال الشاعر: 1189 - بدجلة دارهم ولقد أراهم ... بدجلة مهطعين إلى السماع.

(فالتقى الماء) أي: التقى المياه، لأن الجنس كالجمع. (على أمر قد قدر) أي: في أم الكتاب، وذلك الأمر إهلاكهم. (ودسر) المسامير التي يدسر بها السفن ويشد، واحدهما دسار. وقيل: صدور السفن، لأنها تدسر الماء، أي: تدفعها. (تجري بأعيننا) بمرأى منا. وقيل: بوحينا وأمرنا. (جزاء لمن كان كفر) جزاءً لهم لكفرهم بنوح.

[فاللام] الأولى التي هي مفعول بها محذوفة، واللام الثانية الظاهرة في قوله: (لمن كان كفر) [لام المفعول له، وهنا مضاف محذوف، أي: جزاء لهم، لكفر من كفر]، أي: لكفرهم، من كفروا به، فهذا واضح، وقول الزجاج أوضح، أي: فعلنا ذلك جزاء لما صنع به. (مدكر) مفتعل من الذكر، وكان متذكراً فأدغم. (يوم نحس) يوم ريح، والدبور من بين الرياح يسمى النحس، كما قال أوس بن حجر: 1190 - بجنبي [حبي] ليلتين كأنما ... يفرط نحساً أو يفيض بأسهم 1191 - فجلجلها طورين ثم أجالها ... [كما] أرسلت [مخشوبة] لم تقرم

(تنزع الناس) تخلعهم [ثم] ترمي بهم على رؤوسهم. (أعجاز نخل) أصولها التي قطعت فروعها. (منقعر) منقلع من مكانه، ساقط على الأرض. سئل المبرد عن "المنقعر" في هذا الموضع، و"الخاوية" في موضع آخر؟!

فقال: للقائل في هذا الباب اختياران، إن شاء رده إلى اللفظ تذكيراً، وإن شاء إلى المعنى تأنيثاً. (ضلال وسعر) أي: إن فعلنا ذلك كنا على خطر عظيم، كمن هو في النار، أي: النار التي تنذرنا بها، كأنهم قالوا تركنا دين آبائنا، أو التعير بذلك كدخول النار. وقيل: إن السعر: الجنون، كما قال امرؤ القيس: 1192 - وسالفة كسحوق الليا ... ن أضرم فيها الغوي السعر

وأنشد أبو عبيدة: 1193 - [تخال] بها سعراً إذا العيس هزها ... ذميل وتوضيع من السير متعب. فيكون على هذا حركة عين السعر، كما قال الأعشى: 1194 - وإذا الغيث صوبه وضع القد ... ح وجن التلاع والآفاق 1195 - لم يزدهم سفاهة شرب الخمـ ... ـر ولا اللهو فيهم والسباق. (المحتظر) [31]

صاحب الحظية [التي] فيها الهشيم، وتفسير الهشيم والحاصب قد مضى. (أم يقولون نحن جميع) أي: يدلون بكثرتهم فسيهزمون. (خقلناه بقدر) قال الحسن: قدر الله لكل خلق قدره الذي ينبغي له. (وما أمرنا إلا واحدة) أي: مرة واحدة، أو كلمة واحدة، أو إرادة واحدة. (أشياعكم) أشباهكم. (ونهر) أي: سعة العيش، كما قال ابن الخطيم:

1196 - ملكت بها كفي فأنهرت فتقها ... يرى قائم من خلفها ما وراءها. [تمت سورة القمر]

سورة الرحمن

سورة الرحمن (الشمس والقمر بحسبان) أي: يجريان بحساب. (والنجم والشجر يسجدان) [والنجم]: النبات الذي نجم في الأرض وانبسط فيها، ليس له ساق. والشجر: ما قام على ساق. وسجودهما: ما فيهما من آثار الصنعة الخاضعة لمن أخرجها. وقيل: إمكانهما من الجني والريع، وتذليل الله إياهما للانتفاع بهما. وقيل: سجودهما دوران ظلهما مع الشمس [كيفما دارت].

كما قال الحطيئة: 1197 - بمستأسد القريان حو [تلاعه ... فنواره] ميل إلى الشمس زاهره. (والسماء رفعها ووضعها الميزان) أي: العدل. (ألا تطغوا في الميزان) في هذا الميزان يتزن به الناس. (ولا تخسروا الميزان) [ميزان] الأعمال يوم القيامة. [فتلك] ثلاثة موازين، فلا تحسبه ميزاناً واحداً.

ويندفع على هذا التأويل قول الطاعن: ما معنى الجمع بين آلة الوزن والسماء؟ وأين الميزان من السماء؟ وإنما يوصل الشيء بحسبه وشبهه. فالعدل الذي أولنا به الميزان شبه السماء في اللفظ، به قامت السموات والأرض، وعلى أن هذا القائل إنما أتي من قبل نظره في شخص الميزان وصغره، ولو نظر إلى مبلغ الحاجة إليه، لاستعظم من أمره من استصغر، مع ما في النفوس من الظلم ما يبعد عن العدل في التعامل لولا الميزان، ألا ترى إلى قوله تعالى: (أنزل الكتاب بالحق والميزان)، [إذ] كان الكتاب يتضمن حفظ العدل، والميزان: يظهر العدل، فقرن آلة العمل إلى آلة العلم، ومن اعتبر حال الميزان بحجمه دون منافعه، كان كمن اعتبر القلم بشخصه إذ رآه قطعة قصب، وقد عظمه الله في قوله: (ن والقلم)، وقوله: (الذي علم بالقلم). وأيضاً فإن للميزان مشاركة مع معرفة السماء في خاصية؛ فإن [دوران] السيارات يعرف بنسبة أبعادها من الثوابت كما في كتب الهيئة،

والميزان الذي يقال له: القرسطون، وهو القبان، سوي على النسبة أيضاً، فإن أحد رأسي عمود القرسطون طويل بعيد من المعلاق، والآخر، قصير قريب، فإذا علق على رأسه الطويل ثقل قليل، وعلى رأسه القصير ثقل كثير، تساويا أبداً، متى كانت نسبة الثقل القليل إلى الثقيل الكثير، كنسبة بعد رأس القصير إلى بعد رأس الطويل من المعلاق. (والنخل ذات الأكمام) أي: الطلع المتكمم، قبل أن ينفتق بالتمر، وخصه بالذكر للانتفاع به وحده. (والحب ذو العصف والريحان) [والريحان] هنا الحب المأكول، والعصف: ورقه الذي [ينفى] عنه، ويذرى في الريح كالتبن.

وعن الحسن: أنه الريحان المشموم. وإذا رفعت (الريحان) ظهر هذا القول. ورفع هذا جميعه على الابتداء، والخبر مقدم عليها، وهو (فيها) عند البصريين. وعند الكوفيين: رفعها بالظرف، أي: في الأرض كل ذلك. (تكذبان) خطاب الجن والإنس. وقيل: خاطب الإنسان بلفظة التثنية على عادة العرب، وقد مضى. وكذلك تكرر هذه الكلمة في عدة مواضع من السورة على عادة العرب، كما قالت الأخيلية:

1198 - [و] لنعم الفتى ياتوب كنت إذا التقت ... صدور الأعالي واستشال الأسافل 1199 - ونعم الفتى ياتوب جاراً وصاحباً ... ونعم الفتى ياتوب حين تطاول 1200 - ونعم الفتى ياتوب كنت لخائفٍ ... [أتاك] لكي يحمى ونعم المحامل 1201 - لعمري لأنت المرء أبكي لفقده ... ولو لام فيه ناقص الرأي جاهل 1202 - لعمري لأنت المرء أبكي لفقده ... إذا ذكرت بالملحمين البلابل 1203 - أبى لك ذم الناس ياتوب كلما ... ذكرت أمور محكمات كوامل 1204 - أبى لك ذم الناس ياتوب كلما ... ذكرت سماح حين تأوي الأرامل 1205 - فلا يبعدنك الله ياتوب إنما ... لقيت حمام الموت والموت عاجل 1206 - ولا يبعدنك الله ياتوب إنها ... كذاك المنايا عاجلات وآجل

1207 - ولا يبعدنك الله ياتوب والتقت ... عليك الغوادي المدجنات الهواطل. وقالـ[ـت] أخرى أيضاً ترثي أخاها: 1208 - وحدثني أصحابه أن مالكاً ... أقام ونادى صحبه برحيل 1209 - وحدثني أصحابه أن مالكاً ... ضروب بنصل السيف غير نكول 1210 - وحدثني أصحابه أن مالكاً ... جواد بما في الرحل غير بخيل 1211 - وحدثني أصحابه أن مالكاً ... صروم كماضي الشفرتين صقيل.

(رب المشرقين) مشرق الشتاء، ومشرق الصيف. وقيل: مطلع الفجر ومطلع الشمس، والمغربين: مغرب الشمس ومغرب الشفق. (المرجان) الجوهر المختلط صغاره بكباره. من مرجت الشيء خلطته. والمارج من هذا، وهو ذؤابة لهب النار الموقدة الذي يعلوها فيرى أخضر وأصفر [مختلطاً]، وقد ذكرناه.

(المنشئات) المرسلات في البحر، المرفوعات الشرع. (كل يوم هو في شأن) أراد يومي الدنيا والآخرة، فإن الدهر يومان: دنيا وآخرة، وشأنه عز وجل في يوم الدنيا: الابتلاء والاختبار، وفي يوم الآخرة الجزاء والحساب. وفي الخبر: " (كل يوم هو في شأن): يجيب داعياً، ويفك عانياً ويتوب على قوم ويغفر لقوم". (سنفرغ لكم) قال مقاتل: هذا تهديد بمعنى سأقصدكم وأعمد إليكم، كما قال جرير في الموضعين، أحدهما:

1212 - الآن وقد فرغت إلى نمير ... فهذا حين كنت لكم عذاباً. والآخر: 1213 - ولما اتقى [القين] العراقي باسته ... فرغت إلى [القين] المقيد في الحجل. (شواظ من نار) لهيب منها. وقيل: قطعة تأجج لا دخان فيها. (ونحاس)

قيل: إنه دخان [النار]. وقيل: الصفر المذاب. وقيل: إنه المهل. وأيها كان فالمراد تضعيف العذاب، أي: بهذا مرة وبذاك أخرى، أو بهما نعوذ بالله. (فإذا انشقت السماء فكانت وردة)

أي: حمراء مشرقة. وقال عبد بني الحسحاس: 1215 - يرجلن لمات ويتركن جمتي ... وذاك هوان ظاهر قد بداليا 1216 - فلو كنت ورداً [لونه] لعشقنني ... ولكن ربي شانني بسواديا. وقيل: [متغيرة] مختلفة الألوان، كما تختلف [ألوان] الفرس الورد، يصفر في الربيع، ويحمر في الشتاء، أو يحمر عند الانتفاش، ويغبر إذا دحا شعره وسكن، كما وصفه المرار بن منقذ:

1217 - قارح قد فر عنه جانب ... ورباع جانب لم يثغر 1218 - فهو ورد اللون في [ازبئراره] ... وكميت اللون ما لم يزبئر. وإنما يختلف لون السماء بسبب التظاء نار جهنم من الأرض إلى السماء، ولون النار إذا قابل اللون الأزرق يختلف في الحمرة [اللون] الأزرق، بحسب قرب النار وبعدها. كما يجد [برق] السحاب مختلفاً في الحمرة، والسحابة نفسها مختلفة الألوان في الصفرة والحمرة، على اختلاف الخصائص والأعراض. (كالدهان)

أي: صافية كالدهن. أو مختلفة الألوان، كالدهن على كونه حديثاً أو عتيقاً أو متوسطاً. وقيل: تمور كما [يمرج] الدهن في الزجاج. وقيل: إن الدهان الأديم الأحمر، وإن لون السماء أبداً أحمر، إلا أن الزرقة العارضة [بـ]ـسبب اعتراض الهواء بينهما، كما ترى [الدم في] العروق أزرق، وفي القيامة يشتعل الهواء ناراً فترى السماء على [لونها]. (فيومئذ لا يسئل عن ذنبه) أي: لا يسألون سؤال استعلام، ولكن يسألون سؤال تبكيت وإلزام. (ءان)

بلغ إناه وغايته في حرارته. وقيل: حاضر. ومنه سمي الحال "الآن"، لأنه الحاضر الموجود. فإن الماضي لا تدارك [له]، والمستقبل على أمل، وليس لنا إلا الآن، ولا ثبات للآن طرفة عين. فيا بعداً لمتثبت منا على غير ثابت. وإنما امتن بالآلاء في ضمن ذكره العذاب، لأنها تحذير وتبصير. قال الحسن: "من خوفك حتى تبلغ الأمن، أرحم بك وأنعم عليك ممن أمنك حتى تقع [في] الخوف"، في معناه:

1218 - فقسا ليزد جروا ومن يك حازماً ... فليقس أحياناً على من يرحم. (جنتان) جنة في قصر [هـ]، وجنة خارج قصره، كما يكون [لملك] الدنيا. وقيل: إنه على الجنس، فجنة للجن، وجنة للإنس. (فيهما عينان) إحداهما التسنيم، والأخرى السلسبيل.

(بطائنها من استبرق) ذلك ليستدل بالبطانة على شرف الظهارة من طريق الأولى. وهذا الاستبرق الذي وصف الله أنهم يلبسونه، -وإن كان الجنس واحداً-، [يختلف] كما يختلف أصناف الديباج والسقلاطون في جنس واحد. (وجنى الجنتين دان) يناله النائم كما يناله القائم. (لم يطمثهن) لم يجامع الإنسية إنسي، ولا الجنية جني.

(ومن دونهما جنتان) أي: أقرب، فجعل عز وجل لمن خاف مقام ربه، [وهو الرجل] يهم بالمعصية، ثم يدعها من خوف الله أربع جنان، ليتضاعف سروره بالتنقل. (مدهامتان) [مرتويتان] سوداوان، وهي كما قال قايل مسعود في قيل كسرى النعمان: 1219 - إن يك قد أصابك الدهر يوماً ... بعد ملك مؤيد بذنوب 1220 - فقديماً أصاب بالغدر مخلوقاً ... فكان الرضاح رب الشروب

من النضرة والخضرة ارتواء يضرب به لونهما إلى السواد، كما وصفه ذو الرمة [في] شعره، منها قوله: 1221 - حتى إذا [وجفت] بهمى لوى لبن ... وابيض بعد سواد الخضرة العود 1222 - وغادر الفرخ في المثوى تريكته ... وحان من حاضر الدحلين تصعيد. وقال: 1223 - حواء [قرحاء أشراطية] وكفت ... فيها [الذهاب] وحفتها البراعيم

وقال أيضاً: 1224 - كسا الأكم بهمى غضة حبشية ... تؤاماً و [نقعان] الظهور [الأقارع]. وقيل: وصف الخضرة بالسواد، كما وصف الشماخ سواد الليل بالخضرة، وقال: 1225 - فراحت رواحاً من زرود فنازعت ... [زبالة] جلباباً من الليل أخضرا 1226 - وأضحت على ماء العذيب [وعينها ... كوقب] الصفا جلسيها قد تغورا

(نضاختان) فوارتان، والنضخ دون الجري فلذلك كانتا دون الأوليين. (فيهن خيرات حسان) أي: خيرات الأخلاق، حسان الوجوه، وكانت "خيرة" فخففت. (رفرف) مجلس مفروش [يرف] بالبسط والوسائد أي: يبرق. والعبقري: الطنافس المخملة. وقيل: إنها منسوبة إلى "عبقر" بلد، وهي أرفع ثياب الدنيا فنسب إليها للتقريب والتفهيم. والعبقري في شعر الطرفة: الرقم الفاخر الأحمر. قال:

1227 - عالين رقماً فاخراً لونه ... من عبقري [كنجيع] الذبيح. [تمت سورة الرحمن]

سورة الواقعة

سورة الواقعة (الواقعة) القيامة. وقيل: الصيحة. (كاذبة) تكذيب، ومثله (لاغية) أي: لغواً. (رجت) زلزلت، فينهدم كل بناء عليها رجة واحدة. (وبست) هدت. وقيل: دقت وفتتت، والبسبسة: السويق.

قال بعض اللصوص: 1228 - لا تخبزا خبزاً وبسا بسا 1229 - ولا تطيلا بمقام حبسا. (أزواجاً ثلاثة) أصنافاً متشاكلة. وفسرها ابن عباس بما في سورة الملائكة من الظالم والمقتصد والسابق. وروى النعمان بن بشير: أن النبي عليه السلام قرأ: (وكنتم أزواجاً)

إلى قوله: (والسابقون السابقون) [فقال: "هم] الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان". وتكرير السابقين، لأن التقدير: السابقون إلى الطاعة، هم السابقون إلى الرحمة. فيكون الأول: مبتدأ، والثاني: خبره. و (أولئك المقربون) من صفتهما. (ثلة) جماعة. (وقليل من الأخرين)

لأن الذين سبقوا إلى الإيمان بالنبي عليه السلام قليل من كثير ممن سبق إلى الإيمان بالأنبياء قبله. (موضونة) مضفورة متداخلة. (مخلدون) مسورون. وفي "تاج المعاني": إنهم روحانيون، لم يتجسموا، من قولهم: "وقع في خلدي" أي: نفسي وروحي. (إلا قيلاً سلاماً) نصب سلاماً على البدل من قيل، أي: لا يسمعون إلا سلاماً.

ويجوز نصبه بالقيل بتقدير: إلا أن يقال يسلمك الله سلاماً. (في سدر مخضود) لين لا شوك عليه، ولا عجم فيه، كأنه خضد منه الشوك، قال الشماخ: 1230 - إن تمس في عرفط صلع جماجمه ... من الأساليق عاري الشوك مخضود 1231 - تصبح وقد ضمنت ضراتها غرقاً ... من طيب الطعم حلو غير مجهود. (وطلح منضود) أي: قنو الموز، نضد بعضه على بعض، أي: وضع وجمع. قال:

1232 - إذا دعت غوثها ضراتها فزعت ... أطباق نيء على الأثباج منضود. (وظل ممدود) أي: في الزمان والمكان، فلأنه غير متناه إلى حد يفنى فيه، لكنه ظل ظليل، لا شمس تنسخه، ولا حرور ينغصه، ولا برد يفسده، كما قال عز وجل: (لا يرون فيها شمساً ولا زمهريرا). (وفرش) العرب تكني بالفراش عن المرأة. (مرفوعة) أي: على السرر. (أنشأناهن)

أعدناهن صبايا أبكاراً. (عرباً) العروب: الحسنة التبعل، الفطنة بمراد الزوج، كفطنة العرب. (أتراباً) لدات، فيكون أتم لحسنهن واستوائهن، قال أبو زبيد الطائي: 1233 - نراك أيامنا بالنعف من ظلم ... إذ لست باحسب ظل العيش [منجابا] 1234 - لا أحسب الدهر إلا نشوة اندا ... ر مسمعاً [ ... ] الله أترابا. (ثلة من الأولين* وثلة من الأخرين)

لما نزل في السابقين: (وقليل من الأخرين)، [عز] ذلك على الصحابة، فنزلت هذه، وفسرها رسول الله صلى الله عليه فقال: "من آدم إلينا ثلة، ومنا إلى يوم القيامة ثلة". (وأصحاب الشمال) العرب تتشاءم بالشمال، [وتعبر] به عن الشيء الأخس، والحظ الأخيب الأنقص. كما قال: 1235 - رأيت بني العلات لما تضافروا ... يحوزون [سهمي] دونهم في الشمائل

1236 - فأنزلني ذات اليمين ولم أكن ... بمنزلة الملقى شمال الأراذل. قال الهذلي: 1237 - أبالصرم من أسماء حدثك [الذي] ... جرى بيننا يوم استقل ركابها 1238 - زجرت لها طير الشمال فإن يكن ... هواك الذي [تهوى] يصبك اجتنابها. (وظل من يحموم) اليحموم: الدخان.

وقيل: نار سوداء. ولما كان فائدة [الظل]، التروح من كرب الحر والسموم، فإذا كان الظل من الدخان كان غير بارد ولا كريم. (شرب الهيم) الهيم: الإبل العطاش. والهيام: داء تشرب معه الإبل فلا تروى. كما قال الأعرابي: 1239 - وما وجد [ملواح] من الهيم حلئت ... عن الماء حتى جوفها يتصلصل 1232 - تحوم وتغشاها العصي وحولها ... أقاطيع أنعام تعل [وتنهل] 1233 - بأكثر مني غلة وتعطفاً ... إلى الورد إلا أنني أتجمل.

(تمنون) منى وأمنى واحد. والإمناء: الإراقة، ومنه [منى] لإراقة الدماء بها، فسمي لذلك الماء [الذي] منه الولد منياً. (حطاماً) هشيماً. (تفكهون) تندمون في لغة تميم. وقيل: تعجبون. وذكر أبو عمر الزاهد عن ثعلب أن التفكه [والتفكن: التندم] على النفقة. (تورون)

الإيراء: استخراج النار من الزند. (تذكرة) تذكركم النار الكبرى. (ومتاعاً) للاستضاءة بها، والاصطلاء والإنضاج، [والتخليل] على مذهبنا، وغير ذلك من إذابة الجوهر، وتعقيدها وتكليسها [وكل ذلك لمنافع] العباد. والماعون الأكبر، المتاع الأعم: هو الماء والنار، ثم الكلأ والملح، وليس للماء وغيره -وإن كان متاعاً للمقوين- ما للنار من التذكرة بعذاب الله الزاجرة من معاصيه. وأقوى: من الأضداد، أغنى وافتقر فلذلك اختلف تفسيره إلى المسافرين وإلى [المستمتعين].

(بمواقع النجوم) مطالعها ومساقطها. وقيل: انتشارها يوم القيامة. وقيل: إنها نجوم القرآن، نجمه جبريل على النبي عليهما السلام. وقيل: إنها قبور الأخيار الأبرار.

وقوله: (وإنه لقسم لو تعلمون عظيم)

اعتراض بين القسم وجوابه، تضمن اعتراضاً بين الموصوف الذي هو "قسم"، وبين صفته التي [هي] (عظيم)، وهو قوله: (لو تعلمون)، فذانكما اعتراضان، أحدهما في الآخر. (مدهنون) منافقون أدهن وداهن إذ [ا] لاين ونافق. كما قال أبو [قيس] بن الأسلت الأنصاري: 1242 - بز امرئ مستبسل حاذر ... للدهر جلد غير مجزاع 1243 - الكيس والقوة خير من آل ... إدهان [والفكه] والهاع.

(وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) أي: تجعلون جزاء رزقكم الكفر والتكذيب، فيدخل فيه قول العرب: مطرنا بنوء كذا. ويدخل فيه ما كان يأخذه بعض العرب من مال أبي سفيان وأمثاله، ليكذبوا رسول الله ولا يؤمنوا به. (فلولا إذا بلغت الحلقوم) كناية عن النفس وإن لم تذكر. كما قال حاتم: 1244 - أماوي ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوماً وضاق له الصدر 1245 - أماوي إما مانع فمبين ... وإما عطاء لا ينهنهه الزجر.

(غير مدينين) [الدين] في هذا الموضع الطاعة والعبادة، لا الجزاء كما ذهب إليه كثير من الناس. أي: فهلا إن كنتم غير مملوكين مطيعين مدبرين، وكنتم كما زعمتم مالكين حلتم بيننا وبين قبض الأرواح، ورجعتموها في الأبدان، فهذا صحيح، [وإلا] [فلا] معنى للعجز عن رد الروح في الإلزام [على] إنكار الجزاء والإعادة. (فروح)

راحة. وفي قراءة النبي عليه السلام [من] رواية عائشة، وقراءة ابن عباس، والحسن، وقتادة، والضحاك، والأشهب، ونوح القاري، وبديل، وشعيب

ابن [الحربي]، وسليمان التيمي، والربيع بن خثيم، وأبي عمران الجوني، وأبي جعفر محمد بن علي، و [الفياض]: (فروح) [بضم] الراء.

ومعناه: حياة لا موت بعدها. (وريحان) استراحة عن ابن عباس. ورحمة عن الضحاك. [تمت سورة الواقعة]

سورة الحديد

سورة الحديد (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) أي: ورثكم من قبلكم وجعلكم خلفاء عنهم. وقيل: معناه يخلف بعض عن بعض، ولا يبقى لأحد، وفي معناه: 1246 - الرمح لا أملأ كفي به ... واللبد لا [أ] تبع تزواله 1247 - والدرع لا أبغي به ثروة ... كل امرئ مستودع ماله

ومثله لتميم بن مقبل: 1248 - فأتلف وأخلف إنما المال عارة ... وكله مع الدهر الذي هو آكله 1249 - فأيسر مفقود وأهون هالك ... على الحي من لا يبلغ الحي نائله. فقوله: عارة، كالقول: خلفة. (ولله ميراث السموات والأرض) أي: فيم لا تنفقون، وأنتم ميتون وتاركون ما تجمعون. (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح) أي: هم على سبقهم لغيرهم متفاوتون في الدرجات. (من ذا الذي يقرض الله)

كل عمل خير أو شر، إذا كان بمثابة الجزاء، فهو قرض عند العرب، فلذلك وصفه بالحسن، [إذ] كان فيما يجزى ما ليس بحسن. قال الشنفري: 1250 - جزينا سلامان بن مفرج قرضها ... بما قدمت أيديهم وأزلت 1251 - سقينا بعبد الله بعض غليلنا ... وعوف لدى المعدى أوان استهلت. (يسعى نورهم بين أيديهم) نور أعمالهم المقبولة. أو نور الإيمان. (وبأيمانهم) وهو نور آخر عن أيمانهم بما أنفقته أيمانهم.

(بشراكم اليوم) أي: النور بشراهم بالجنات. (انظرونا) انتظرونا كما شوى واشتوى، وحفر واحتفر. قال الشاعر فجمع بين اللغتين: 1252 - ما زلت مذ أشهر السفار أنظرهم ... مثل انتظار المضحي راعي الغنم. (قيل ارجعوا وراءكم) [إذ] لم يتقدم بهم الإيمان. (فضرب بينهم بسور) وهو الأعراف.

قال عبد الله بن عمرو [بن] العاص: "هو سور بالمسجد الأقصى، وراءه وادي جهنم". وعن كعب: "أن السور هو الباب الذي يسمى باب الرحمة في المسجد الأقصى". (فتنتم أنفسكم) أهلكتم وأضللتم. يقال: فتنه وأفتنه. قال الشاعر -فجمع بين اللغتين-:

1253 - لئن فتنتني لهي بالأمس أفتنت ... سعيداً فأمسى قد قلى كل مسلم. وقيل: فتنتم: ادعيتم الفتنة، لتقعدوا عن الجهاد، أي: قلتم: إئذن لي ولا تفتني. (وتربصتم) قلتم: (نتربص به ريب المنون). (الغرور) الشيطان. وقيل: الدنيا.

(هي مولاكم) أولى بكم. (ألم يأن) يقال: أنى يأني، وآن يئين، بمعنى: حان. فجمع بين اللغتين: 1254 - ألم يأن لي أن تجلى [عما يتي] ... وأقصر عن ليلى؟ بلى قد أنى ليا. (إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله) أي: الذين تصدقوا، وأقرضوا الله بتلك الصدقة، [فلذلك] عطف بالفعل.

ومن خفف الصاد، كان المعنى قوله تعالى: (إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات)، لأن التصديق إيمان، وإقراض الله من العمل الصالح. (أعجب الكفار) الزراع. ويجوز الكافرين، لأن [الدنيا] أفتن لهم وأعجب عندهم. (من قبل أن نبرأها) نخلقها، أي: الأرض والأنفس، ولما حمل سعيد بن جبير إلى الحجاج، بكى بعض أصحابه، فسلاه سعيد بهذه الآية. (لكيلا تأسوا على ما فاتكم) أي: أعلمناكم بذلك لتسلوا عن الدنيا، إذا علمتم أن ما ينالكم في كتاب قد سبق، لا سبيل إلى تغييره.

قال ابن مسعود: "لجمرة على لساني تحرقه جزءاً جزءاً، أحب إلي من أن أقول لشيء كتبه الله: ليته لم يكن". وحدث قتيبة [بن] سعيد قال: هبطت وادياً، فإذا أنا بفضاء مملوء من جيف الإبل، لا يحصى عدداً، وشيخ على تل كأفرح ما يكون، فقلت: أكانت كلها لك؟ فقال: كان باسمي فارتجعها مالكها، وأنشد: 1255 - لا والذي أنا عبد في عبادته ... والمرء في الدهر نصب الرزء والمحن 1256 - ما سرني أن إبلي في مباركها ... وأن شيئاً قضاه الله لم يكن.

(فإن الله هو الغني) "هو" في مثل هذا الموضع فصل في عبارة البصريين، [وعماد] في عبارة الكوفيين. قال سيبويه: إنما يدخل، ليعلم أن الاسم قبله قد تم، ولم يبق نعت ولا بدل، فينتظر الخبر. ومثله: (إني أنا ربك)، (أنهم هم الفائزون)، (إنا نحن نزلنا الذكر)، فكلها فصول مؤكدة لا موضع لها من الإعراب. وهذا أصوب وأقرب ممن قال: إنه مبتدأ، و"الغني": خبره، و"الحميد": خبر بعد خبر، والجملة من المبتدأ والخبر، خبر، لأن كونهما خبري إن من

غير واسطة أقصد [وأقسط] من أن [يجعلا خبرا] مبتدأ، ثم "هو" وهما: خبر "إن". (وأنزلنا الحديد) قيل: إن آدم هبط إلى الأرض بالسندان والمطرقة والكلبتين. وقيل: إنها من الأرض، ومعنى الإنزال: الإظهار، [فالماء] ينزل من السماء، ثم يغور في الأرض، ثم ينعقد في المعادن جواهر، مثل: الكبريت والزئبق، فيكون بامتزاجهما على الأيام الحديد ونحوه، ومثلها قوله: (وأنزل لكم [من] الأنعام).

(وليعلم الله من ينصره ورسله) أي: أزيحت العلل في خلق الأشياء وتيسير المنافع والمصالح، ليعلم الله من ينصره. (بالغيب) أي: سره مثل علانيته. (رهبانية) تقديره: وابتدعوا رهبانية. (ما كتبناها عليهم) [أي: ما كتبنا عليهم] غير ابتغاء رضوان الله. (كفلين من رحمته) نصيبين، أحدهما لإيمانهم بالرسل الأولين، والثاني لإيمانهم بخاتم النبيين. (لئلا يعلم أهل الكتاب) قيل: إن يعلم هنا بمعنى: "يظن" كما جاء "الظن" في مواضع بمعنى "العلم".

وقيل: معناه: لأن يعلم، قال الراجز: 1257 - ولا ألوم البيض ألا تسخرا 1258 - وقد رأين الشمط [ا] لقفندرا [تمت سورة الحديد]

سورة المجادلة

سورة المجادلة (قد سمع الله) نزلت في خولة بنت ثعلبة بن خويلد وزوجها أوس بن الصامت، قال لها: أنت علي كظهر أمي، وكان الظهار طلاق الجاهلية. (ثم يعودون لما قالوا) توهم بعض الناس من هذا أن الظهار لا يقع في أول مرة حتى يعود إليه مرة أخرى.

وقد يكون العود في كلام العرب أن يصير إلى [شيء]، وإن لم يكن عليه قبل، ومنه يقال للآخرة: المعاد، وهو في شعر الهذليين شائع، قال ساعدة بن جؤية: 1258 - حتى يقال وراء الدار منتبذاً ... قم لا أبالك سار الناس [فاحتزم] 1259 - فقام يرعد كفاه بميبله ... قد عاد رهباً [رذياً طائش] القدم وقال أبو خراش:

1260 - وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل ... سوى الحق شيئاً واستراح العواذل 1261 - وأصبح إخوان الصفاء كأنما ... أهال عليهم جانب الترب هائل. وإذا ثبت هذا فقد قال [عبيد الله بن الحسين]: معنى (ثم يعودون لما قالوا): أي: يعودون إلى المقول، أي: إلى نسائهم. كأن التقدير: والذين يظاهرون من نسائهم فتحرير رقبة لما قالوا، ثم يعودون إلى نسائهم. وصرف هذا التأويل، أن "ما قالوا" بمعنى المصدر، والمصدر بمعنى المفعول، مثل قولهم: هذا ضرب الأمير، ونسج بغداد، أي: مضروبه ومنسوجها. وقد قال كثير في المقالة بمعنى المفعول:

1262 - وإن ابن ليلى [فاه] لي بمقالة ... ولو سرت فيها كنت ممن ينيلها. فإن المعنى: ولو سرت في طلبها كنت ممن ينيله إياها، وإنما يطلب ما يعد به الملوك من جوائزها، لا ما تلفظ به. (ذلك لتؤمنوا بالله) تطيعوه، ولا تذهبوا إلى طلاق الجاهلية. وقيل: تقديره: ذلك لإيمانكم بالله، فيقتضي أن لا يصح ظهار [الذمي]. (كبتوا) أي: في يوم الأحزاب. (كما كبت الذين من قبلهم)

في يوم بدر. (نهوا عن النجوى) أي: السرار. وقيل: إن النجوى أخص من السرار، فإن الإنسان يسر في نفسه ولا يناجي نفسه، وإنما النجوى: إجالة الرأي: مع القلب [المحتار]، كما قال نصيب: 1263 - من النفر البيض الذين إذا انتجوا ... أقرت لنجواهم لؤي بن غالب 1264 - يحيون بسامين طوراً وتارةً ... يحيون عباسين شوس الحواجب. [تمت سورة المجادلة]

سورة الحشر

سورة الحشر (هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب) يهود بني النضير، أجلاهم النبي عليه السلام من الحجاز إلى أذرعات، وهي أعلى الشام بعدما حاصرهم [ثلاثة] وعشرين يوماً. (لأول الحشر) الخلق يحشرون أول حشرهم بأرذعات من الشام. (يخربون بيوتهم بأيديهم)

لما يئسوا من المقام، شعثوا منازلهم. وعن الضحاك: أن المؤمنين يخربون حصونهم، وهم يخربون بيوتهم ليسدوا بها الخراب من الحصون. (لعذبهم في الدنيا) بالسبي والقتل كما فعل ببني قريظة. (من لينة) نخلة أيها كانت. وقيل: إنها العجوة منها خاصة. وقيل: إنها الفسيل للينها.

وقال الأخفش: [هو] من اللون لا من اللين، فكان أصلها: "لونة"، فقلبت ياء لانكسار ما قبلها. وهذا قول صحيح عجيب، متناول لجميع ألوان النخل، مأخوذ لفظه من معناه، أي: من تلون ينعه من أول ما يبدو إلى أن يدرك، ألا ترى إليها في أول حالها [بيضاء] كأنها صدف مليء دراً نضد بعضه إلى بعض، ثم تصير غبراء، ثم خضراء كأنها قطع زبرجد خلق منها النشؤ، ثم حمراء كأنها قطع يواقيت رص بعضها ببعض، ثم صفراء كأنها شذر عقيان، وكذلك إذا بلغ

الإرطاب [نصفها] سميت مجزعة، لاختلاف لونيها، كأنها الجزع الظفاري. قال امرؤ القيس في تشبيه العيون إذا كانت ذوات ألوان: 1265 - كأن عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب. (أو جفتم عليه) وجف الفرس وجيفاً، وأوجفته، وهو الإسراع في السير.

نزلت في مال بني النضير، أي: الفيء الذي يكون من غير قتال، يكون للرسول يضعه حيث وضعه أصلح، فوضعه صلى الله عليه في المهاجرين. (كي لا يكون دولة) الدولة -بالفتح- في الحرب، والدولة -[بالضم]- في غيرها مما يتداوله الناس من متاع الدنيا. وقال أبو عبيدة: الدولة بالفتح في الأيام [و] بالضم في الأموال. (والذين تبوءو الدار والإيمان من قبلهم). هم الأنصار من أهل المدينة، آمنوا بالنبي عليه السلام قبل مصيره إليهم. (ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا) أي: لا يجدون حسداً على إيثار المهاجرين بمال بني النضير. (ومن يوق شح نفسه) [9]

قال النبي عليه السلام: "وقي الشح من أدى الزكاة، وقرى الضيف، وأعطى في النائبة". (تحسبهم [جميعاً] وقلوبهم شتى) أي: اجتمعوا على عدوانكم ومع ذلك اختلفت قلوبهم، لاختلاف أديانهم، وفي هذا اللفظ [قال] الشاعر: 1259 - إلى الله أشكو نية شقت العصا ... هي اليوم شتى [وهي] [أمس] جميع

(كمثل الذين من قبلهم) أهل بدر. (نسوا الله) تركوا أداء حقه. (فأنساهم أنفسهم) بحرمان حظوظهم. -أو بالعذاب الذي مني به [أن يذكر] بعضهم بعضاً.

-أو بخذلانهم حتى تركوا طاعته. (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً) أي: لو أنزلنا [هـ] على جبل -والجبل مما يتصدع إشفاقاً وخشية- لتصدع مع [صلابته] [وقوته]، فكيف بكم مع ضعفكم وقلتكم. وقد أوضح هذا التأويل قوله: (وتلك الأمثال نضربها)، وله نظائر من كلام العرب مثل قول الشاعر: 1267 - ولو أن ما بي بالحصى قلق الحصى ... وبالريح لم يسمع لهن هبوب. وقول آخر:

1268 - سلمى أحبك حباً لو تضمنه ... سلمى سميك ذاك الشاهق الراسي. وقول هدبة: 1269 - أصبت بما لو أن سلمى أصابها ... [لسهل] من أركانها ما توعرا. (القدوس) الطاهر المنزه عن أن يكون له ولد، أو يكون في حكمه وفعله ما ليس بعدل. (السلام) ذو السلام [على] عباده، أو السلام: الباقي. والسلامة: البقاء، والصفة منها للعبد: السالم، ولله: السلام. (المؤمن)

المصدق، أي: يصدق الموحدين له على توحيدهم إياه. وقيل: إنه المؤمن عذابه من لا يستحقه. (المهيمن) سبق ذكره. (العزيز) هو الممتنع المنتقم. (الجبار) العالي العظيم الذي يذل من دونه. والسحوق العالية [من] النخيل يسمى جباراً. قال سويد: 1270 - على كل جبار كأن فروعها ... طلين بقار أو بحمأة ماتح 1271 - فليست بسنهاء ولا رجبية ... ولكن عرايا في السنين [الجوائح]

(المتكبر) المستحق لصفات الكبر والتعظيم. [تمت سورة الحشر]

سورة الممتحنة

سورة الممتحنة (أسوة حسنة) قدوة. وقيل: عبرة. (وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء) العداوة بالفعال والبغضاء بالقلوب. (إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك) أي: [تأسوا] به إلا في استغفاره لأبيه المشرك. (ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا) أي: لا تظهرهم علينا فيظنوا أنهم على حق. وهذا من دعاء إبراهيم، وإنما تكررت الأسوة بهذا، [إذ] كان من إبراهيم فعل حسن: وهو التبرؤ من أبيه وقومه الكافرين، وقول حسن، وهو هذا الدعاء.

(عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم) قال الزهري: "نزلت في أبي سفيان، وكان النبي عليه السلام استعمله على بعض بلاد اليمن، فلما قبض عليه السلام أقبل فلقي ذا الخمار مرتداً، فقاتله، فكان أول من قاتل على الردة، فتلك المودة بعد المعاداة". (عن الذين لم يقاتلوكم) خزاعة. و (الذين قاتلوكم)

أهل مكة. (فامتحنوهن) استحلفوهن ما خرجن إلا للإسلام دون [بغض] الأزواج. (فلا ترجعوهن إلى الكفار) حين جاءت سبيعة الأسلمية مسلمة بعد الحديبية، فجاء زوجها مسافر فقال: يا محمد قد شرطت لنا رد النساء، وطين الكتاب [لم] يجف، اردد علي امرأتي.

(وءاتوهم ما أنفقوا) أي: ما آتوهن من المهور، وجب ذلك بسبب الشرط ثم نسخ. (وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم) أي: غزوتم [بعقب] ما يغزونكم فغنمتم. وله معنيان، وفيه لغتان: عاقب وعقب، وأحد المعنيين من المعاقبة، التي هي: المناوبة.

والثاني، من الإصابة في العاقبة [سبياً واغتناماً]. (ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن) ما تلقطه المرأة بيدها من لقيط فتلحقه بالزوج. (وأرجلهن) ما تلحقه به من الزنا. [تمت سورة الممتحنة]

سورة الصف

سورة الصف (مرصوص) مكتنز، ملتصق بعضه ببعض، كأنه رص بالرصاص، قال الراعي: 1272 - ما لقي البيض من الحرقوص 1273 - يفتح باب المغلق المرصوص. (وأخرى تحبونها) يجوز في موضع الجر عطفاً على (تجارة). ويجوز في موضع الرفع بتقدير ولكم تجارة أخرى. [تمت سورة الصف]

سورة الجمعة

سورة الجمعة (وءاخرين منهم) أي: ويعلم آخرين، وهم العجم. (لما يلحقوا بهم) لم يدركوهم، قال عليه السلام: "رأيت في المنام غنماً سوداً بينهم غنم عفر"، فقال أبو بكر: تلك العجم تتبع العرب، فقال عليه السلام: " [كذلك] عبرها لي الملك". (حملوا التوراة ثم لم يحملوها) أي: طوقوا الأمانة في إظهار صفة محمد. (كمثل الحمار يحمل أسفارا)

كتباً، واحدها سفر. وأنشد أبو سعيد الضرير على معنى هذه الآية: 1274 - [زوامل] للأسفار لا علم عندهم ... بجيدها إلا كعلم الأباعر 1275 - لعمرك ما يدري البعير إذا غدا ... لحاجته أو راح ما في الغرائر. (فاسعوا إلى ذكر الله) قال السدي: السعي إجابة الداعي إليها. وقال غيره: هو التأهب لها والمشي إليها.

(أو لهواً انفضوا إليها) واللهو طبل يضرب إذا وردت العير. [تمت سورة الجمعة]

سورة المنافقون

سورة المنافقون (كأنهم خشب مسندة) أي: في طول قوامهم كخشب أسندت إلى الجدار. وقيل: بل في سكوتهم عن الحق [وجمودهم] عن الهدى. قال الثعالبي في تفسيره: "أشباح بلا أرواح، وأجسام بلا أحلام". وفي معناه:

1276 - أضحت قبورهم من بعد عزهم ... تسفي عليها الصبا والحرجف الشمل 1277 - لا يدفعون هواماً عن وجوههم ... كأنهم خشب بالقاع منجدل. (يحسبون كل صيحة عليهم) أي: لجبنهم وخوفهم. [و] قول جرير فيه لما سمعـ[ـه] الأخطل: 1278 - حملت عليك حماة قيس خيلها ... شعثاً عوابس تحمل الأبطالا 1279 - ما زلت تحسب كل شيء بعدهم ... خيلاً تكر عليكم ورجالا. فقال: أخذها من كتابهم: (يحسبون كل صيحة عليهم).

وقريب من هذا قول [متمم] بن نويرة في أخيه: 1280 - وقالوا أتبكي كل قبر رأيته ... لقبر ثوى بين اللوى [فالدكادك] 1281 - فقلت لهم: إن الأسى يبعث الأسى ... دعوني فهذا كله قبر مالك. (فأصدق وأكن)

وأكن عطف على موضع "فأصدق"، وهو مجزوم لولا الفاء، لأن قوله: (لولا أخرتني) بمنزلة الأمر، لأن "لولا": للتحضيض، فتضمن معنى الشرط، أي: [فأخرني] إلى أجل قريب أصدق. [تمت سورة المنافقون]

سورة التغابن

سورة التغابن (فمنكم كافر) بأنه خلقه. (ذلك يوم التغابن) سمي [بالتغابن]، لأن الله أخفاه. والغبن: الإخفاء، ومغابن الجسد: ما يخفى عن العين، والغبن: في البيع، لخفائه على صاحبه. ويجوز أن يكون التغابن في يوم القيامة، لا من إخفاء الله إياه، بل من [إخفاء] أمر المؤمن على الكافر في الدنيا، فكأن الكافر والظالم يظنان أنهما غبنا المؤمن بنعيم الدنيا، والمظلوم بما نقصه من حقه وتلمه من ماله، وقد غبنهما المؤمن والمظلوم على الحقيقة بنعيم الآخرة وجزائهما، فلما صار الغبن من وجهين أحدهما ظن والآخر حق، جرى على باب التفاعل.

(وأولادكم عدواً لكم) كانوا يمنعونهم من الهجرة. (وإن تعفوا وتصفحوا) كان من المهاجرين من قال: إذا رجعت إلى مكة لا ينال أهلي مني خيراً، لصدهم إياي عن الهجرة، فأمروا بالصفح. ويكون العفو بإذهاب آثار الحقد عن القلوب، كما تعفوا الريح الأثر. والصفح: الإعراض عن المعاتبة. [تمت سورة التغابن]

سورة الطلاق

سورة الطلاق (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء) أي: قل لأمتك إذا طلقتم النساء، لأن الطلاق نسخ [منه] حكم النبي بقوله (ولا أن تبدل بهن). فطلقوهن لعدتهن). أي: عند عدتهن، كقوله: (لا يجليها لوقتها إلا هو)، أي: عند وقتها. وتؤيده القراءة المروية عن النبي عليه السلام وابن عباس وعثمان،

وأبي، و [جابر] بن عبد الله، ومجاهد، وعلي بن [الحسين]، وزيد بن علي، وجعفر بن محمد: "لقبل عدتهن". (بفاحشة مبينة) بزنى فيخرجن لإقامة الحد.

وقيل: الفاحشة أن [تبذوا] على أحمائها وتفحش في القول. (فإذا بلغن أجلهن) قاربن انقضاء العدة. (وأشهدوا ذوى عدل) أي: على الرجعة. (إن ارتبتم فعدتهن) لما نزلت عدة ذوات الأقراء في البقرة ارتابوا في غيرهن. (وإن تعاسرتم) تضايقتم، وهو إذا امتنعت المرأة من إرضاع الولد يستأجر الزوج أخرى ولا يجبرها.

(قد أنزل الله إليكم ذكراً* رسولاً) أي: رسولاً ذكركم به وهداكم على لسانه. (ومن الأرض مثلهن) أي: سبع طباق أو سبعة أقاليم، وهي سبع قطع من الأرض بخطوط متوازية، حاصرة لبلدان كثيرة، [تمر] على بسيط الأرض فيما بين المشرق والمغرب طولاً، وما بين [الشمال] والجنوب عرضاً، ويزداد النهار الأطول الصيفي، في الخط المجتاز بالطول -على وسط كل واحد منها- على مقداره في خط وسط الذي هو عنه أجنب بنصف ساعة. (يتنزل الأمر بينهن) أي: يترتب القضاء والقدر بينهن منازل من شتاء وصيف، ونهار وليل، ومطر ونبات، ومحيا وممات، وملك ودول، ومحبوب ومحذور، واختلاف وائتلاف، كما في شعر الأعشى:

1282 - شباب وشيب وافتقار وثروة ... فلله هذا الدهر كيف [ترددا] [تمت سورة الطلاق]

سورة التحريم

سورة التحريم (لم تحرم) أصاب النبي عليه السلام من مارية في بيت حفصة وقد خرجت [لزيارة] أبيها، فلما علمت عتبت، فقال: "حرمتها علي". ويقال: إنه كان في يوم [عائشة]، وكانت وحفصة [متصافيتين]، فأخبرت عائشة -وكان قال: لا تخبري عائشة، فقد حرمتها علي- فطلق حفصة، واعتزل سائر نسائه شهراً، فنزلت هذه الآية، فراجع حفصة، واستحل مارية، وعاد إلى نسائه.

(عرف بعضه وأعرض عن بعض)

أعلمها بعض الأمر أنه وقف عليه، وأعرض عن بعض حياءً وإبقاءً. وعرف بالتخفيف، معناه عند الفرداء: جازة عليه، وغضب منه، كقولك لمن تهدده: عرفت ما عملت، ولأعرفنك ما عملت، أي: لأجازينك عليه. (قوا أنفسكم) يقال ق، وقيا، وقوا، وقي للمرأة، وقيا، وقين، فإن جئت بالنون الثقيلة للتوكيد، قلت: قين يا رجل وقيان وقن، وقن يا امرأة، وقيان وقينان يا نسوة. (توبة نصوحاً) كل فعول إذا كان بمعنى الفاعل استوى فيه المذكر والمؤنث، فمعنى (توبة نصوحاً): توبة ناصحة صادقة، وهي التي لا يهم معها الفتى بمعاودة المعصية.

وقيل: هي التي يناصح المرء فيها نفسه، فيعلم بعدها ما لها وما عليها. (جاهد الكفار) أي: بالقتل. (والمنافقين) بالقول الغليظ، والوعظ البليغ. وقيل: بإقامة الحدود، فكانوا أكثر الناس مواقعةً [للكبائر]. [تمت سورة التحريم]

سورة الملك

سورة الملك (سموات طباقاً) يجوز جمع طبق كجمال وجمل، فيكون المعنى: بعضها فوق بعض. ويجوز اسماً من التطابق على وزن فعال، فيكون المعنى: متشابهاً من قولهم: هذا مطابق لذلك. (من تفاوت) وتفوت لغتان، مثل: تعهد وتعاهد، وتجوز وتجاوز. وقيل: التفوت مخالفة الجملة ما سواها، والتفاوت: مخالفة بعض الجملة بعضاً، كأنه الشيء المختلف لا على نظام.

ومن لطائف أبي سعد الغانمي: إن الفوت: هو الفرجة بين الإصبعين، والفوت والتفوت واحد، فكأن معنى (من تفوت) معنى (هل ترى من فطور). والفطور: الصدوع. قال: 1283 - [شققت] القلب ثم ذررت فيه ... هواك فليط فالتأم الفطور 1284 - تغلغل حيث لم يبلغ شراب ... ولا حزن ولم يبلغ سرور.

(ثم ارجع البصر كرتين) أي: ارجع البصر، وكرر النظر أبداً، وقد أمرناك بذاك كرتين إيجاباً للحجة عليك. (خاسئاً) صاغراً ذليلاً. (وهو حسير) معيى كليل، قال: 1285 - تطاولت كيما أبصر الروح خاسئاً ... فعاد إلي الطرف وهو حسير 1286 - وددت من الشوق المبرح أنني ... أعار جناحي طائر فأطير. (شهيقاً) زفرة من زفرات جهنم.

(تفور) تغلي. تنقطع وتتفرق. (يخشون ربهم بالغيب) أي: بالخلوة، إذا ذكروا في الخلوة ذنبهم استغفروا ربهم. (جعل لكم الأرض ذلولاً) أي: سهلة، ذات أنهار وأشجار، ومساكن مطمئنة. (في مناكبها) أطرافها وأطرارها. (ءأمنتم من في السماء) أي: من الملائكة. أو من في السماء عرشه أو سلطانه.

أو يكون "في" بمعنى "فوق"، كقوله: (فسيحوا في الأرض)، فيكون المراد: العلو والظهور. أو من هو المعبود في السماء، وخص السماء للعادة برفع الأدعية إليها، ونزول الأقضية منها. (صافات) أي: صافات أجنحتها في الطيران، ويقبضنها عند الهبوط. وقيل: يقبضن: يسرعن، من القبيض، وهو شدة العدو. قال تأبط شراً: 1287 - لا شيء أسرع مني ليس ذا عذر ... [أو ذا] جناح بجنب [الريد] خفاق 1288 - حتى نجوت ولما ينزعوا سلبي ... بواله من قبيض الشد غيداق.

(ما يمسكهن إلا الرحمن) أي: لو غير الهواء، والأجنحة، عن الهيئة التي [تصلح] لطيرانهن لسقطن. وكذلك العالم كله، فلو أمسك قبضه عنها طرفة عين لتهافتت الأفلاك، وتداعت الجبال. (لجوا) تقحموا في المعاصي. واللجاج: تقحم الأمر مع [كثرة] الصوارف عنه. والعتو: الخروج إلى فاحش الفساد. (مكباً على وجهه)

ساقطاً. يقال: كبتـ[ـه] على وجهه فأكب، بخلاف القياس. ومثله: نزفت ماء البئر، وأنزفت البئر [نضب] ماؤها، ومريت الناقة، وأمرت إذا در لبنها. (زلفة) قريباً. (سيئت) قبحت، أي: ظهر السوء في وجوههم. (تدعون)

تتداعون بوقوعه، بمعنى الدعوى التي هي الدعاء. وجاء في التفسير تكذبون. وتأويله في اللغة: تدعون الباطيل والأكاذيب، كما قال: 1289 - فما برحت خيل تثوب وتدعي ... ويلحق منها أولون وآخر 1290 - لدن غدوة حتى أتى الليل وانجلت ... عماية يوم شره متظاهر. (ماؤكم غوراً) غائراً ذاهباً، فوصف الفاعل بالمصدر، كقولهم: رجل عدل، أي: عادل. والمعين: سبق ذكره. [تمت سورة الملك]

سورة ن

سورة ن (غير ممنون) غير مقطوع، مننت الحبل: قطعته. (بأييكم المفتون) مصدر مثل الفتون، كما يقال: ما به معقول أي عقل، قال الراعي: 1291 - حتى [إذا] لم يتركوا لعظامه ... لحماً ولا لفؤاده معقولاً. (مهين) وضيع بإكثاره من الفساد. (عتل) قوي في كفره، فاحش في فعله، والوقف على (عتل) ثم (بعد ذلك زنيم)، أي: مع ذلك كله زنيم، معروف بالشر، كما يعرف التيس [بزنمته].

قال الضحاك: كان للوليد بن المغيرة أسفل من أذنه زنمة كزنمة الشاة. وقال محمد بن إسحاق: نزلت في الأخنس بن شريق.

. ... ... 1292 - زنيم تداعاه الرجال زيادة ... كما زيد في عرض الأديم الأكارع. وقال آخر: 1293 - وأنت زنيم نيط في آل هاشم ... كما نيط خلف الراكب القدح الفرد. (ءأن كان ذا مال وبنين) فيه حذف وإضمار. الإضمار في أوله: أي: ألأن كان ذا مال.

والحذف في آخره: أي: ألأ [ن] كان ذا مال يطيعه أو يطاع. (سنسمه على الخرطوم) سنقبح ذكره، ونصفه [بخزي] يبقى عليه عاراً. كما قال جرير: 1294 - لما وضعت على الفرزدق ميسمي ... [وضغا] البعيث جدعت أنف الأخطل وقال في قصيدة أخرى: 1295 - نبئت تغلب بعدما جدعتهم ... يتعذرون وما لهم من [عاذر]

وقيل: إن ذلك في الآخرة، يوسم على أنفه بسمة [يعرف بها]. وقيل: إن الخرطوم الخمر، أي: سنحده على شرب الخمر، قال الفرزدق: 1296 - أبا حاضر ما بال برديك أصبحا ... على ابنت فروخ رداء ومئزرا 1297 - أبا حاضر من يزن يظهر زناؤه ... ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكرا. واستشهد من قال: إن الخرطوم الأنف، بقول الراعي: 1298 - إذا سدرت مدامعهن يوماً ... [رأت] إجلاً تعرض أو صوارا

1299 - بغائرة نضا الخرطوم عنها ... [وسدت] من خشاش الرأس غارا. (فطاف عليها طائف) قال ابن جريج: خرجت عنق من النار من واديهم. (كالصريم) كالرماد الأسود. وقيل: كالليل المظلم. وقيل: كالنهار المشرق، أي: بيضاء لا شيء فيها.

فالصريم من الضداد، ومعناهما في هذا الموضع صحيح قريب، لأن المكان الخراب الوحش كما يشبه بالليل المظلم، يشبه [القفر الجادب] بالنهار. قال أوس: 1300 - على دبر الشهر الحرام بأرضنا ... وما حولها جدب سنون تلمع. (يتخافتون) يسار بعضهم بعضاً، لئلا يسمع المساكين. (وغدوا على حرد) غيظ وغضب، كما قال الفرزدق: 1301 - وقالت أراه واحداً لا أخاله ... يؤمله في الأقربين الأباعد 1302 - لعلك يوماً أن تريني كأنما ... بني حوالي الأسود الحوارد.

وقيل: على منع، كما قال عدي بن زيد: 1303 - ولنا خابية موضونة ... جونة يتبعها برزينها 1304 - فإذا ما بكأت أو حاردت ... فك عن جانب أخرى طينها.

(إنا لضالون) أي: ضللنا الطريق. (أيهم بذلك زعيم) كفيل. قال المخزومي: 1305 - قلت كفي لك رهن بالرضا ... وازعمي يا هند قالت قد وجب. أي: [اكفلي]. (يوم يكشف عن ساق) عن غطاء. قال رؤبة: 1306 - عجبت من نفسي ومن إشفاقها 1307 - ومن طرادي الطير عن أرزاقها 1308 - في سنة قد كشفت عن ساقها 1309 - والموت في عنقي وفي أعناقها

وقيل: عن شدة وعناء، كما قال تأبط شراً: 1310 - ... نفسي فداؤك من سار على ساق. وقال آخر: 1311 - كشفت لهم عن ساقها ... وبدا من الشر الصراح

المكظوم: المحبوس على الحزن فلا ينطق، ولا يشكو، من كظم القربة. وقد مر ذكره. (ليزلقونك بأبصارهم) أي: يعينونك، ويصيبونك بها. أي: يفعلون بك فعلاً تزلق منه قدمك، كما قيل: 1312 - يتقارضون إذا التقوا في منزل ... نظراً يزيل مواقع الأقدام [تمت سورة القلم]

سورة الحاقة

سورة الحاقة (الحاقة) فاعلة من الحق، وهي القيامة التي يحق فيها الوعد والوعيد. (وما أدراك ما الحاقة) [إذ] لم يكن هذا الاسم في لسانهم. أو معناه: إنك لا تدري ما يكون في الحاقة. (بالقارعة) بالقيامة، لأنها تقرع القلوب بالمخافة. (بالطاغية) بالصيحة العظيمة، كقوله تعالى: (طغا الماء)، أي: عظم ارتفاعه، وجاوز حده، ومنه الطغيان في مجاوزة الحد.

(حسوماً) متتابعة، من حسم الكي: إذا تابعت عليه [بالمكواة]. وعن مقاتل: قاطعة أدبارهم، فيكون التقدير: تحسمهم حسوماً. (خاوية) ساقطة. خوى النجم سقط في المغرب. (من باقية) مصدر، أي: من بقاء.

وقيل: تقديره: من نفس باقية. (ومن قبله) ومن يليه من أهل دينه. قال سيبويه: هو لما ولي الشيء. تقول: ذهب قبل السوق، ولي قبله حق. ونصبه على ظرف المكان. (والمؤتفكات) المنقلبات بالخسف. (رابية) زائدة. (وتعيها أذن واعية) أي: حملناكم في السفينة، لأن نجعلها لكم تذكرة، ولأن تعيها.

فلما توالت الحركات، اختلست حركة العين، وجعلت بين الحركة والإسكان. (ثمانية) أي: ثمانية صفوف، أو ثمانية أصناف. (فأما من أوتي كتابه بيمينه) العرب تجعل اليمين [للمحبات] والمسار، والشمال بخلاف ذلك. قال: 1313 - [أبيني] أفي يمنى يديك جعلتني ... فأفرح أم صيرتني في شمالك

وقال ابن ميادة: 1314 - ألم [تك] في يمنى يديك جعلتني ... فلا تجعلني بعدها في شمالكا. (هاؤم اقرءوا كتابيه) أي: خذوا، تقول للمذكر: هاء بفتح الهمزة، وفي التثنية: هاؤما، وفي الجميع: هاؤم، وللمرأة: هاء بكسر الهمزة، وهاؤما كالمذكرين، وللنسوة: هاؤن، وفيه لغات أخر يلطف عنها هذا الكتاب. (ظننت أني ملاق حسابيه) ظننت أن الله يؤاخذني بذنوبي فعفا عني. (عيشة راضية) ذات رضى، كقولهم: ليل دائم، وماء دافق، وامرأة طامث وطالق.

(يا ليتها كانت القاضية) أي: موتة لا بعث بعدها. (هلك عني سلطانيه) ما كان من تسليط على نفسه. [و] مثل هذه الهاءات لبيان الحركة، قول عبد الله بن قيس الرقيات: 1315 - إن الحوادث بالمدينة قد ... أوجعنني وقرعن مروتيه 1316 - وجببنني جب السنام فلم ... يتركن ريشاً في مناكبيه. (حميم) صديق، وهو الذي إذا أصابك مكروه احترق لك. (غسلين)

على وزن فعلين، غسالة جروحهم وأجوافهم. وقيل: إنه العرق والصديد. وفي معناه قال الطرماح: 1317 - [يبل] بمعصوم جناحي ضئيلة ... [أفاويق] منها هلة ونقوع. وقال آخر: 1318 - وليس بها ريح ولكن وديقة ... يظل لها الساري يهل وينقع. (إنه لقول رسول) أي: تلاوته، أي: محمد صلى الله عليه. (لأخذنا منه باليمين)

أي: لقطعنا منه يمينه. وقيل: لأخذنا منه بالقوة القاهرة. وقيل: لأخذنا منه بالحق، وبذلك يفسر بيت الشماخ: 1319 - إذا بلغتني وحملت رحلي ... عرابة فاشرقي بدم الوتين 1320 - إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين. أي: بالاستحقاق. والوتين: عرق بين العلباء والحلقوم، كما في شعر الشماخ. [تمت سورة الحاقة]

سورة المعارج

سورة المعارج (سأل سائل) دعا داعٍ، وهو النبي عليه السلام، دعا عليهم. وقيل: النضر بن الحارث، قال: (إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء)، فقتل يوم بدر. (ذي المعارج) ذي المعالي والدرجات لأوليائه.

وقيل: إنها معارج السماء للملائكة. (تعرج الملائكة والروح إليه) هو روح المؤمن حين يقبض، رواه قبيصة بن ذؤيب عن النبي عليه السلام. (في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) أي: لو صعده غير الملائكة، وقد مر ذكره. (كالمهل)

كذائب الصفر، ويكون أحمر. وقيل: إنه دردي الزيت. والعهن: الصوف المصبوغ، والمراد: لين الجبال بعد شدتها واجتماعها. (وفصيلته) عشيرته، وتكون من العشيرة كالفخذ. (تئويه) يلجأ إليها فتلجئه، ويشكو فتشكيه. وقيل: إن الفصيلة هي أمه التي أرضعته وفصلته، فعيلة بمعنى فاعلة، وفي معنى الآية قال الشاعر:

1321 - سائل مجاور [جرم] هل جنيت لهم ... حرباً تزيل بين [الجيرة] الخلط. (كلا) ليس كذلك، أي: لا [ينجيه] شيء. (إنها لظى) لا ينصرف [للتأنيث والتعريف]، وهي من الالتظاء، أي: الاتقاد: 1322 - هم ردوا النقائد يوم حسي ... يقودون الجياد على وجاها 1323 - وبيضة طيء نضواً وكانت ... قديماً تلتظي [بـ]ـمن اصطلاها.

(نزاعة للشوى) لجلدة الرأس. والضمير في (إنها) اسم "إن"، و (لظى) خبره، و (نزاعة) خبر بعد خبر، من باب [إنه] حلو حامض. (تدعوا من أدبر) لما كان مصيره إليها، كانت كأنها دعته. (وجمع فأوعى) أي: جعله في وعاء، فلم يفعل زكاة، ولم يصل [رحماً].

(خلق هلوعاً) سأل محمد بن عبد الله بن طاهر ثعلباً: عن الهلوع؟ فقال: ما فسره الله، ولا يكون تفسيراً أحسن منه: (إذا مسه الشر جزوعاً* وإذا مسه الخير منوعاً). (والذين هم على صلاتهم يحافظون) أي: النافلة، لتقدم قوله: (على صلاتهم دائمون) وهي: الفريضة. (مهطعين) مسرعين، ذم إسراعهم، لأن قصدهم تسمع الحديث، ليتفرقوا بالتكذيب. (عزين)

جماعات في تفاريق، واحدها عزة. قال الشاعر: 1324 - ترانا عنده والليل داج ... على أبوابه حلقاً عزينا. (إلى نصب) إلى شيء منصوب، مصدر بمعنى المفعول، مثل نسج بغداد، وضرب الأمير. (يوفضون) يسرعون. [تمت سورة المعارج]

سورة نوح

سورة نوح (يغفر لكم من ذنوبكم) ما سلف منها، أو ما استغفرتموه عنها. (ويؤخركم إلى أجل مسمى) في الدنيا. (إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر) أي: يوم القيامة. وقيل: إن الأجل الأول الموت، والثاني: العذاب. (واستغشوا ثيابهم) تغطوا بها، وقالوا لا ننظر إليك ولا نسمع منك. (ثم إني دعوتهم جهاراً)

دعاهم على ضروب من الدعاء، دعاهم فوضى متفرقين بدداً، ودعاهم سراً فرادى، ودعاهم جهراً مجتمعين في المحافل، والمقامات المشهودة. (أطواراً) تارات: نطفة ثم علقة، ثم مضغة، ثم رضيعاً، ثم طفلاً، ثم يافعاً مترعرعاً، ثم شاباً، ثم سوياً قوياً، ثم شيخاً كبيراً، ثم هماً فانياً، ثم هدماً بالياً.

(وجعل القمر فيهن نوراً) قال ابن عباس: أحد وجهيه يضيء لأهل الأرض، والثاني لأهل السماء.

(وجعل الشمس سراجاً) فيه إشارة إلى أن نور القمر من الشمس مكتسب، حيث جعل الشمس بمنزلة نفس السراج، والقمر بمنزلة ضوئه ونوره. (والله أنبتكم من الأرض) جعل أصلكم من الطين، وغذاكم بما ينبته الأرض.

(دياراً) أي: أحداً يدور في الأرض، فيعال من الدوران. [تمت سورة نوح]

سورة الجن

سورة الجن (تعالى جد ربنا) سلطانه وعظمته. عن أنس: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جد فينا، أي عظم. (سفيهنا) إبليس. (شططاً) كفراً وكذباً [لبعده] عن الحق. (يعوذون برجال) كان الرجل في الجاهلية إذا نزل بوادٍ نادى:

إني أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه. (رهقاً) فساداً وإثماً. قال الأعشى: 1325 - لا شيء ينفعني من دون رؤيتها ... هل يشتفي عاشق ما لم يصب رهقا أي: زاد الإنس الجن باستعاذتهم غياً وإثماً. (وأنا لمسنا السماء) طلبنا، بمعنى التمسنا. (ملئت حرساً) ملائكة. (وشهباً)

كواكب الرجم. وعن الزهري، وغيره: أن النجوم كانت تنقض قبل المبعث، إلا أنه زيد عند البعث زيادة لا إلى حد.

واستشهد بقول الأفوه الأودي: 1326 - إن يجل مهري فيكم جولة ... فعليه الكر فيكم والغوار 1327 - كشهاب الرجم يرميكم به ... فارس في كفه للحرب نار. والصحيح أن الرجم كان على عهد رسول الله إرهاصاً لنبوته، وتمهيداً لدعوته. ورأيت عدة نسخ من ديوان الأفوه: كشهاب القذف ... ... ... وهو النار التي يرمي بها البحريون في الحرب. وما في كتب أهل الحساب من علله وأسبابه، فذلك من زيادة المترجمين، فإنهم [ضموا] إلى كلام صاحب المنطق أشياء كثيرة، توسعاً في القول وتصرفاً، وكذلك من بعدهم عليهم.

(طرائق قدداً) فرقاً شتى، جمع قدة. وقيل: أهواء مختلفة، كما قال الراعي: 1328 - ضافي العطية معصيه وواعده ... سيان أفلح من يعطي ومن يعد 1329 - القابض الباسط الهادي لطاعته ... في فتنة [الناس] إذ أهواؤهم قدد. [(القاسطون)

الجائرون]. قال الشاعر: 1330 - قوم [هم] قتلوا ابن هند عنوة ... ظلماً وهم قسطوا على النعمان. (تحروا رشداً) [ا] لتحري: تعمد الصواب. (وألو استقاموا على الطريقة) أي: طريقة الكفر، لزدنا في نعيمهم وأموالهم فتنة. قال عمر: حيث كان الماء كان المال، وحيث كان المال كانـ[ت] الفتنة.

وقيل: على عكس ذلك، أي: على طريقة الإسلام، [لوسعنا] عليهم. وقيل: إنه كناية عن إدرار مواد [الهوى] عليهم، فتكون الفتنة بمعنى التخليص، كقوله: (فنجيناك من الغم وفتناك فتوناً). والغدق: العذب والعين. وقيل: الغمر الغزير. وذكر بعضهم أن كل ما في السورة من "إن" المكسورة المثقلة فهو حكاية قول الجن، وكل ما فيها من "أن" المفتوحة مخففة [أو] مثقلة فهو ابتداء قول الله.

(صعداً) شديداً شاقاً. (وأن المساجد لله) ما يسجد على الأرض من جسد المصلي. (لبداً) جمع لبدة، و"لبداً" جمع لبدة، مثل: حذوة وحذوة، وربوة وربوة. أي: ازدحم الجن على النبي عليه السلام، [حتى] [كاد] يركب بعضهم بعضاً كتراكب اللبد. (من رسول) [يعني] جبريل. (رصداً)

طريقاً. أي: نجعل له إلى علم بعض ما كان قبله، وما يكون بعده طريقاً. وقيل: إن ["الرسول"]: النبي عليه السلام، "والرصد": الملائكة يحفظونه من الجن والإنس. (ليعلم أن قد أبلغوا) على القول الأول: ليعلم محمد أن جبريل أبلغ، وما نزل جبريل بشيء إلا ومعه أربعة من الملائكة حفظة. وقيل: ليعلم محمد أن الرسل المتقدمين أبلغوا. وقيل "ليعلم الله" -وإن كان عالماً من قبل- ولكنها لام العاقبة، أي: ليتبين علم الله.

وهذا أوجه لا تصالـ[ـه] بقوله: (وأحاط بما لديهم) [تمت سورة الجن]

سورة المزمل

سورة المزمل (المزمل) أصله المتزمل، ومثله (المدثر)، تزمل وتدثر إذا تلفف بغطاء. قال امرؤ القيس: 1331 - في بجاد مزمل. (قم الليل) اسم الجنس، أي: كل ليلة. (إلا قليلاً)

من عدد الليالي، فقاموا على ذلك سنة فرخص بعدها بقوله: (فاقرءوا ما تيسر). (ورتل)

بين وفصل، من الثغر الرتل: وهو الحسن الرصف. (قولاً ثقيلاً) راجحاً ليس بسخيف مهلهل. وقيل: ثقيل المحمل. وكان إذا أوحي إليه ثقل عليه الحركة فلا يستطيع شيئاً. (ناشئة الليل) الصلاة التي ينشأ فيه. وقيل: [ساعته] التي تنشأ.

(وطاءاً) مصدر كالمواطأة، مثل: الوفاق والموافقة. أي: قيام الليل أبلغ في مواطأة قلبك لعملك ولسانك. وقيل: معناه أن ما ينشأ في حفظك من القرآن بالليل أشد موافقة لك، لمكان الخلوة، وإمكان التفهم لها. وكذلك تفسير وطئاً. (سبحاً طويلاً) فراغاً للعمل والاستراحة. والسبح: سهولة الحركة. (وتبتل) انقطع إلى عبادته.

(وكيلاً) ولياً معيناً. (أنكالاً) قيوداً واحدها نكل. (غصة) تأخذ بالحلق فلا تدخل ولا تخرج. (كثيباً مهيلاً) رملاً سائلاً، مفعول هلت الرمل: [حركت] أسفله فانهال أعلاه. (وبيلاً) ثقيلاً شديداً. (يجعل الولدان شيباً) مثل لصعوبة الأمر، أي: هم كالشيب في الانكسار وتخاذل القوى. (السماء منفطر)

السماء يذكر ويؤنث. قال الفرزدق: 1332 - ولو رفع السماء إليه قوماً ... لحقنا بالسماء مع السحاب. (علم أن لن تحصوه) أي: إحصاء نصف الليل وثلثه. [تمت سورة المزمل]

سورة المدثر

سورة المدثر (وثيابك فطهر) قيل: إن المراد بالثياب: النفس، كما قال عنترة: 1333 - فشككت بالرمح الأصم ثيابه ... ليس الكريم على القنا بمحرم 1334 - وتركته جزر السباع ينشنه ... ما بين قلة رأسه والمعصم. وقال ابن عباس: معناه لا تلبسها على غدر ولا إثم. واستشهد بقول غيلان الثقفي:

1335 - فإني بحمد الله لا ثوب غادر ... لبست ولا من جزاية أتقطع. وهذا القول أظهر فائدة، وأكثر نظيراً. وقال امرؤ القيس: 1336 - ثياب بني عوف طهارى نقية ... وأوجههم بيض المسافر غران أي: طهارى من العار والغدر. وقال أبو الأسود الدؤلي: 1337 - أطهر أثوابي عن الغدر والخنا ... وأنحو الذي قد كان خيراً وأعوداً 1338 - ألم تر أني والتكرم عادتي ... وما المرء إلا لازم ما تعودا.

وعلى ضده -وهو في معناه- قول جرير: 1339 - وقد لبست بعد الزبير مجاشع ... ثياب التي حاضت ولم تغسل [الدما]. وأنشد ابن السكيت وثعلب: 1340 - وبالبشر قتلى لم تطهر ثيابها. وأنشدا [لـ]ـلفرزدق: 1341 - بني عاصم لا تلجئوها فإنكم ... ملاجئ للسوءات دسم العمائم 1342 - [بني] عاصم لو كان حياً أبوكم ... للام بينه اليوم قيس بن عاصم

وفسراه بأنه لم يطلب ثأرهم: وقريب منه قول أوس: 1343 - نبئت أن دماً حراماً نلته ... وهريق في برد عليك محبر 1344 - نبئت أن بني جذيمة أدخلوا ... أبياتهم تامور نفس المنذر. وقول الهذلي: 1345 - تبرأ من دم القتيل وبزه ... وقد علقت دم القتيل إزارها

(والرجز فاهجر) قال مجاهد: الرجز بالكسر العذاب، وبالضم الأوثان. (ولا تمنن تستكثر) لا تعط شيئاً، لتصيب أكثر منه. وقال الحسن: معناه لا تمنن لعملك تستكثر على ربك. وقال مجاهد: لا تمنن: لا تنقص من الخير تستكثر الثواب. أي: يكثر ثوابك. (فإذا نقر في الناقور) الناقور: أول النفختين، فاعول من النقر.

(فذلك يومئذ يوم عسير) "ذلك" إشارة إلى النقر، كأنه قال: فذلك النقر يومئذ نقر يوم عسير. (ذرني ومن خلقت وحيداً) يعني الوليد بن [الـ]ـمغيرة. أي: خلقته وحيداً لا مال له ولا بنون. (مالاً ممدوداً) المال النامي الذي له مادة من الزيادة. (وبنين شهوداً) كان له عشر [ة] بنين لا يغيبون عن عينه، زيناً له في النادي، [وعزاً] على الأعادي. (سأرهقه) الإعجال بالعنف.

(صعوداً) عقبة في النار. (إنه فكر وقدر) فكر [في] القرآن، فقال: ليس بشعر، وله حلاوة وتأثير في القلوب، فقدر في نفسه أنه سحر. (ثم عبس وبسر) فكر حتى ضاق صدره بالفكر، فبدا أثر العبوس والبسور في وجهه.

وقيل: إن العبوس يكون مع المحاورة والمنازعة، والبسور مع الإعراض والصدود، فلذلك جمع بينهما، قال توبة: 1346 - وكنت إذا ما جئت ليلى تبرقعت ... فقد رابني منها الغداة سفورها 1347 - وقد رابني منها صدود رأيته ... وإعراضها عن حاجتي وبسورها. (لواحة للبشر) مسودة للجلود، وقال الأخفش: 1348 - تركنا صياكلة عراة ... يسارون الوحوش ملوحينا.

وقال الأخفش: معناه معطشة للناس. واللوح: العطش. قال الشاعر: 1349 - وأي فتى صبر على الأين والظمأ ... إذا اعتصروا للوح ماء فظاظها. (عليها تسعة عشر) ذكر الله هذا العدد في الكتب [المتقدمة]، ثم ذكره كذلك في القرآن؛ (ليستيقن الذين أوتوا الكتاب). وذكر القاضي الماوردي في "تفسيره": أن التسعة نهاية الآحاد، والعشرة بداية العشرات، فكان أجمع الأعداد، فجعلت بحسابها خزنة النار. وذكر أيضاً أن البروج اثنا عشر، والسيارة سبعة فتلك تسعة عشر، فإذا لم [يستبعد] عدد النجوم السيارة والبروج، محصوراً في تسعة عشر فكذلك خزنة جهنم.

(وما يعلم جنود ربك إلا هو) أي: من كثرتهم. (وما هي إلا ذكرى للبشر) أي: هذه النار التي في الدنيا تذكير وتحذير بنار الآخرة. (والليل إذا أدبر) جاء بعد النهار، دبر الشيء وأدبر، وقبل وأقبل. (إنها لإحدى الكبر) أي: الساعة، أو سقر، لتقدم ذكرها. قال الحرمازي:

1350 - يا ابن المعلى نزلت إحدى الكبر 1351 - داهية الدهر وصماء [الغبر]. (مستنفرة) بكسر الفاء: نافرة. وبفتحها: منفرة مذعورة. والقسورة: الرماة. وقيل: إنه الأسد، فعولة من القسر.

(هو أهل التقوى) أهل أن يتقى محارمه أو عذابه. [تمت سورة المدثر]

سورة القيامة

سورة القيامة (لا أقسم) دخول "لا" لتأكيد القسم، لأن الإثبات من طريق النفي آكد. قال امرؤ القيس: 1352 - فلا وأبيك ابنة العامري ... لا تدعي القوم أني أفر. وقيل: إن المراد نفي القسم لوضوح الأمر، وأن لا حاجة إلى القسم، كما قال الهذلي: 1353 - فلست بمقسم لوددت أني ... غداتئذ [ببيضان] الزروب

1354 - إذاً لغدوت أرهقه بصدق ... حسام الحد [مطروراً خشيباً]. وقيل: إنه [لأقسم] على أنها "لام" الابتداء. وقيل: لام القسم، إلا أنه لم يسمع "لا أضرب أخاك"، وأنت تريد: لأضربن. (بالنفس اللوامة) كل أحد تلومه نفسه على الشر لم عمل؟ وعلى الخير لم لم [تستكثر] منه؟. (بلى قادرين)

أي: نجمعها قادرين، فنصبه على الحال من ضمير في فعل محذوف. (نسوي بنانه) نجعلها [مع] كفه صحيفة مستوية، لا شقوق فيها بمنزلة خف البعير، فيعدم الارتفاق بالأعمال اللطيفة. ومن أيمان العرب: "لا والذي شقهن خمساً من واحدة". وللجاحظ رسالة في منافع الأصابع، عد فيها أشياء كثيرة من الإشارة وتقويم العلم، والتصور، والعقد، والدفع بأصناف السلاح، على أنواع الاستعمال، وتناول الطعام، والتضوء، وانتقاد الورق، وإمساك العنان وتصريفه وغير ذلك. (ليفجر أمامه) قال مجاهد: يمضي أمامه راكباً رأسه في هواه.

وقيل: إنه تقديم الحوبة وتأخير التوبة. وقيل: يتمنى العمر ليفجر منه. (فإذا برق البصر) بالكسر: دهش وتحير، وبالفتح: شخص. (وخسف القمر) ذهب ضوؤه حتى كأنه في خسيف، وهي: البئر القديمة. (وجمع الشمس والقمر) في طلوعهما من المغرب، أو في ذهاب ضوئهما، أو في التسخير بهما. (أين المفر) أي: الفرار، مصدر كالفرار.

والمفر -بكسر الفاء- الموضع الذي يفر إليه. والمفر -بكسر الميم-: الإنسان الجيد الفرار، كما قال: 1355 - مكر مفر مقبل ... ... أي: الإنسان الجيد الفرار لا ينفعه الفرار. (لا وزر) لا ملجأ ولا منجا. (بما قدم) أي: من عمل. (وأخر)

من سنة. (بصيرة) شاهدة، الهاء للمبالغة. أو تقديره عين بصيرة، كما قيل: 1356 - كأن على ذي العقل عيناً بصيرة ... [بمقعده] أو منظر هو ناظره 1357 - يحاذر حتى يحسب الناس كلهم ... من الخوف لا يخفى عليهم سرائره. (ولو ألقى معاذيره) أي: جوارحه [تشهد] عليه، ولو اعتذر ذب عن نفسه.

وقال ابن عباس: ولو ألقى ثيابه، [فأخرى] ستوره. أي: ولو خلا بنفسه، والمعذار: الستر بلغة اليمن. (إن علينا جمعه) أي: في صدرك، (و) إعادة (قرآنه) عليك أي: قراءته، حتى تحفظ وتضبط، ثم إنا نبين لك معانيه إذا حفظته. (ناضرة) حسنة مستبشرة. (فاقرة) داهية تكسر الفقار. (من راق) أي: تقول الملائكة من يرقى بروحه أملائكة الرحمة أم العذاب.

وقيل: هو قول أهله: من راق يرقيه، وطبيب يشفيه. كما قال [يزيد بن خذاق]: 1358 - هل للفتى من بنات الدهر من واق ... أم هل له من حمام الموت من راق 1359 - قد رجلوني وما رجلت من شعث ... وألبسوني ثياباً غير أخلاق. (والتفت الساق بالساق) أهوال الدنيا بأهوال الآخرة.

وفسر ذلك أيضاً بكرب [الموت] وهول المطلع. وقال الضحاك: اجتمع عليه أمران، أهله يجهزون جسده، والملائكة يجهزون روحه. (يتمطى) يتبختر، ويختال، [والمطيطاء] مشية يهتز فيها المطا وهو الظهر. (أولى لك فأولى) قاربك ما تكره، ووليك، وأنشد في الياقوتة: 1360 - فإني إن أقع بك لا أهلل ... كوقع السيف ذي الأثر الفرند

1361 - فأولى ثم أولى ثم أولى ... وهل للدر يحلب من مرد. (أن يترك سدىً) مهملاً لا يؤمر ولا ينهى. (يمنى) يراق. وقيل: يقدر ويخلق من المنا، وهو القدر، كما قال الهذلي: 1362 - لعمر أبي عمرو لقد ساقه المنى ... إلى جدث [يوزى] له بالأهاضب

1363 - لحية جحر في وجار مقيمة ... تأمل إلى سوق المنى [والجوالب] [تمت سورة القيامة]

سورة الإنسان

سورة الإنسان (هل أتى على الإنسان) يمكن تقدير هل على وضعه في الاستفهام [ها هنا]، كأنـ[ـه] سؤال عن الإنسان: هل أتى عليه هذا؟ فلا بد في جوابه من "نعم" ملفوظاً أو مقدراً، ثم يكون المعنى:/إن الأمر كما أنه كذلك، فينبغي للإنسان أن يحتقر نفسه، ولا يرتكب ما قبح له. ويبين هذا ما عدد عليه من النعم بعده. وقوله: (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج) المشج: الخلط وهي ماء الرجل والمرأة.

قال صلى الله عليه: "أي الماءين سبق أو علا فمنه يكون الشبه".

(نبتليه) نختبره حالاً بعد حال. (إما شاكراً وإما كفوراً) الفعول للمبالغة والكثرة، وشكر الإنسان قليل بالإضافة إلى كثرة النعم عليه. وعلى العكس فإن كفره [وإن قل] كثير بالإضافة إلى الإحسان إليه. (إنا أعتدنا للكافرين سلاسلاً) بالتنوين بمشاكلة قوله: (أغلالاً وسعيراً). أو أجرى السلاسل مجرى الواحد، فيكون الجمع "سلاسلات"، كما في الحديث: "إنكن صواحبات يوسف".

وكذلك قوله: (قواريرا)، إذ جمعها قواريرات، ولأنها خاتمة الآية، فصرفت ليتفق النظام. وليس هذا المعنى في (قواريرا) الثانية. قال أبو عبيد: رأيت حك الألف في "قوارير" الثانية في المصحف الإمام.

(كان مزاجها كافوراً) أي: في طيب الجنة. قال قتادة: "مزج بالكافور، وختم بالمسك". (يفجرونها) يجرونها كيف شاؤوا. (مستطيراً) منتشراً. (قمطريراً) شديداً طويلاً. (لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً) أي: حراً وبرداً. قال المتلمس:

1364 - من القاصرات سجوف الحجال ... لم تر شمساً ولا زمهريراً. (قواريرا من فضة) أي: كأنها في بياضها من فضة، على التشبيه بالفضة، وإن لم يذكر حرفه، كما قال: 1365 - حلبانة ركبانة صفوف 1366 - تخلط بين وبر وصوف. أي: كأن يديها في إسراعها يدا خالط وبراً بصوف.

وعن ابن عباس: إن قوارير كل أرض من تربتها، وأرض الجنة فضة، فقواريرها من فضة". (كان مزاجها زنجبيلاً) أي: في [لذاذة] المقطع، لأن الزنجبيل [يحذي] اللسان، وهو عند العرب من أجود الأوصاف للخمر، قال الأعشى: 1367 - كأن القرنفل والزنجبيلا ... باتاً بفيها وأرياً [مشوراً]. وقال ابن مقبل: 1368 - مما تفتق في الحانوت ناطفها ... بالفلفل الجون والرمان مختوم.

وقال حسان: 1369 - كأن فاها قهوة مزة ... حديثة العهد بفض الختام 1370 - من خمر بيسان تخيرتها ... درياقة تسرع فتر العظام. (سلسبيلاً) سميت به لسهولتها وسلاستها. (عاليهم) نصبه على أنه صفة جعلت ظرفاً، كقوله تعالى: (والركب أسفل منكم).

(وشددنا أسرهم) خلقهم. [تمت سورة الإنسان]

سورة المرسلات

سورة المرسلات (والمرسلات عرفاً) الملائكة ترسل بالمعروف. وقيل: السحائب. وقيل: الرياح. و (عرفاً) متتابعاً. (فالعاصفات) الملائكة تعصف بأرواح الكفار. وقيل: الرياح العواصف وهي الشديدة الهبوب.

(والناشرات) الرياح أيضاً تنشر السحاب. وقيل: المطر لنشرها النبات. وقيل: الملائكة تنشر الكتب. (فالفارقات) الملائكة تفرق بين الحق والباطل. (فالملقيات ذكراً) الملائكة تلقي الوحي. (عذراً [أ] ونذراً) نصب على الحال، كقوله: (رسلاً مبشرين).

ويجوز على المفعول له، أي: عذراً من الله إلى عباده، ونذراً لهم من عذابه، أي: لذلكما تلقي الملائكة الذكر. (إنما توعدون لواقع) جواب الإقسام. (طمست) [محيت]. (فرجت) فتحت وشقت. (نسفت) قلعت من أصولها. (أقتت) جمعت لوقت. (كفاتاً)

كناً ووعاءً. وأصله: الضم، في اللغة. نظر الشعبي إلى الدور فقال: "كفت الأحياء، وإلى القبور فقال: "كفت الأموات". فكان قوله: (أحياءً وأمواتاً) تفسير قوله: "كفاتا". (ذي ثلاث شعب) قيل: إنها اللهب والشرر والدخان. وقال المبرد: إنما قال ذلك، لأن النار ليس لها إلا ثلاث جهات: يمنة ويسرة وفوق.

والأولى أن يقال: إن الوراء وإن كان من جهاتها، ولم يباينها في الصفة المكروهة، فإنها لا تدرك قبل الالتفات، وكذلك الفوق والتحت، بخلاف الشعب الثلاث من اليمنة واليسرة والأمام، لأنها ترى أول وهلة، ولأن الشكل الحسكي يلقب بالناري، فيجوز أن يقال: إنه ليس لها فوق ووراء وتحت [يدرك] بالبصر. (بشرر كالقصر) قال أبو علي: القصر بمعنى القصور، وهي: بيوت من أدم كانوا يضربونها إذا نزلوا على الماء. (جمالات) جمع [جمالة]، وهي الشيء المجمل.

ويقال: جمع جمال. والصفر: السود، لأن سود الإبل فيها شكلة من صفرة، أي: خلطة. وقيل: هي [قلوس] السفن. (فبأي حديث) إذا كفروا بالقرآن (فبأي حديث بعده يؤمنون). [تمت سورة المرسلات]

سورة النبأ

سورة النبأ (نومكم سباتاً) قطعاً لأعمالكم وراحة لأبدانكم. وابن الراوندي قال: بأن السبات النوم، فكأنه قيل: وجعلنا نومكم نوماً. والسبات ليس من أسماء النوم، وإنما هو من صفاته، كما قلنا: إنه قطع الأعمال، كما يقال: يوم السبت إذ كانوا يقطعون فيه العمل. ويقال لنوع من النعال الحسنة التخصير والتقطيع: سبت على وجه الوصف لا الاسم، كما قال الشاعر: 1371 - [فليت] قلوصي حليت من مجاشع ... إلى جعفر في داره وابن جعفر

1372 - إلى معشر لا يخصفون نعالهم ... ولا يلبسون السبت ما لم يخصر. فهذا واحد. [ويجوز] أيضاً أن يكون أصل هذه الكلمة التمدد، كما [يقال]: سبتت المرأة شعرها، إذا مدت عقيصتها المفتولة. ويقال: الليل والنهار أبناء سبات، لامتداد اختلافهما في العالم، كما قال ابن أحمر: 1373 - وكنا وهم كابني سبات تفرقا ... سوى ثم كانا منجداً وتهاميا

1374 - فألقى التهامي [منهما] بلطاته ... [وأحلط] هذا لا [أريم] مكانيا. فمعنى السبات على هذا: النوم الممتد الغرق، وكان وجه الامتنان بأن لم يجعل نومنا تقويماً وعزاراً. وهذا الجواب أولى، لأنه يقال: سبت الرجل بمعنى: قطع العمل واستراح، كما يقال: سبت إذا نام نوماً طويلاً. (من المعصرات) السحاب التي دنت أن تمطر، كالمعصرة التي دنت من الحيض. قال أبو النجم: 1375 - جارية بسفوان دارها 1376 - تمشي الهوينا مائلاً خمارها

1377 - قد أعصرت أو قد دنا إعصارها. (ألفافاً) مجتمعة بعضها إلى بعض، واللف الشجر الملتف بالثمر. (ميقاتاً) منتهى الأجل المضروب. وقيل: ميعاد البعث المشهود. (مرصاداً) مفعال من الرصد، وهو [الارتقاب]. وقيل: الحبس.

(لا يذوقون فيها برداً) قيل: نوماً. وقيل: برد الماء والهواء. (جزاءً وفاقاً) جارياً على وفاق أعمالهم. (كذاباً) يقال: كذب يكذب كذباً وكذاباً، وكذب كذاباً، ومثله: كلم كلاماً، وقضى قضاءً. (مفازاً)

مواضع الفوز والنجاة. (دهاقاً) ملاءً ولاءً. (عطاءً حساباً) كافياً. وقيل: كثيراً، قالت امرأة من بني قشير: 1378 - [و] نقفي وليد الحي إن كان جائعاً ... ونحسبه إن كان ليس بجائع [تمت سورة النبأ]

سورة النازعات

سورة النازعات (والنازعات) الملائكة تنزع الأرواح. (غرقاً) إغراقاً في النزع. (والناشطات) أيضاً الملائكة [تنشط] الأرواح كنشط العقال. (والسابحات) الملائكة تنزل من السماء بسرعة وسهولة كالسبح.

وقيل: النجوم تسبح في الأفلاك. وقيل: الفلك في البحر. وقيل: الخيل السوابق. (فالسابقات) الملائكة تسبق [الشياطين] بالوحي إلى الأنبياء [عليهم] السلام. وقيل: المنايا تسبق الأماني. وقيل: الآجال تسبق الآمال. (الراجفة) النفخة الأولى تميت الأحياء. و (الرادفة)

التي تحيي الموتى كأنها من الأولى في موضع الردف من الراكب. (واجفة) خافقة مضطربة، من الوجيف في السير. (في الحافرة) في الأمر الأول، رجع في حافرته: إذا ذهب في الطريق الأول. (نخرة) بالية متآكلة. وناخرة: صيتة صافرة، كأن الريح تنخر فيها، والنخير: الصوات. (بالساهرة)

أرض القيامة، وهي الصقع الذي بين جبلي أريحا وجبل حسان، يمده الله مداً كيف [يشاء]. وسميت بـ"الساهرة"، لأنه لا نوم فيها ولا قرار. ويكون في غير هذا الموضع الساهرة وجه الأرض، على طريقة السلب، [إذ] كان النوم والقرار على وجه الأرض، قال الهذلي في الساهرة: 1379 - والدهر لا يبقى على حدثانه ... قب يردن بذي شجون مبرم 1380 - [يرتدن] ساهرة كأن [جميمها ... وعميمها] أسداف ليل مظلم

(وأغطش ليلها) بعد مظلماً. (والأرض بعد ذلك) أي: مع ذلك، كقوله (عتل بعد ذلك). (دحاها) بسطها، ومنه أدحي النعام لبسطها موضعه. (الطامة الكبرى) الداهية العظمى. [تمت سورة النازعات]

سورة عبس

سورة عبس (الأعمى) ابن [أم] [مكتوم]. (تصدى) تعرض، وبتشديد الصاد، تتعرض. (تلهى)

تشاغل وتغافل. (تذكرة) تبصرة، أي: هذه السورة. (فمن شاء ذكره) أي: القرآن. (بأيدي سفرة) ملائكة يسفرون بالوحي. وقيل: كتبة. وقيل: أراد القراء والمفسرين. والجميع من تبيين الشيء وإيضاحه، ومنه: أسفر الصبح، وسفرت المرأة: كشفت نقابها. (قتل الإنسان) لعن.

وقيل: عذب، وهو أمية بن خلف. (فأقبره) جعل له قبراً يدفن فيه، ولم يجعله جيفة ملقاة. [قالت] بنو [تميم] لابن هبيرة، لما قتل صالح بن عبد الرحمن: أقبرنا صالحاً، قال: فدونكموه.

(أنشره) أحياه: أنشره الله فنشر. قال الأعشى: 1381 - لو أسندت ميتاً إلى نحرها ... عاش ولم ينقل إلى قابر 1382 - حتى يقول الناس مما رأوا ... يا عجباً للميت الناشر. (وقضباً) القت، وكل رطب يقضب مرة فينبت ثانيةً. (غلباً)

[غلاظ] الأشجار، ملتفة الأغصان، جمع [غلباء]. [ويقرب] أن يكون الغلباء اسم النخلة العظيمة، كما يقال لها: الجبارة والمجنونة. ألا ترى إلى [جمع] الشاعر بين الأغلب والمجنون: 1383 - هر [المقادة] من لا يستعد لها ... واعصوصب الشر وارتد المساكين 1384 - من كل أغلب قد مالت عمامته ... كأنه من حذار الضيم مجنون

والفاكهة: الثمرة الرطبة. واليابسة منها: الأب، لأنه يعد للشتاء والأسفار. والأب: الاستعداد. وقال الأعشى: 1385 - صرمت [ولم] أصرمكم وكصارم ... أخ قد طوى كشحاً وأب ليذهبا. (الصاخة) صيحة القيامة، وهي التي تصك [الأسماع] وتصخها. (شأن يغنيه) يكفيه ويشغله عن غيره. (ترهقها قترة)

تغشاها ظلمة الدخان. [تمت سورة عبس]

سورة التكوير

سورة التكوير [التكوير]: [التلفيف] على جهة الاستدارة، من كور العمامة. أي: طويت الشمس. (انكدرت) انقضت. (وإذا العشار) جمع العشراء، وهي الناقة أتت من لقاحها عشرة أشهر، وهي أعز أموالهم، قال: 1386 - فإن تنكحوني بنت هند فإنني ... سأمنحها ألفي مشوف على الصدر

1387 - وأنحر من كوم العشار قلائصاً ... تفري المدى منها الملوى من النحر. (عطلت) أهملت. (سجرت) ملئت ناراً. (زوجت) ضم الشكل إلى شكله. قال عمر رضي الله عنه: "الفاجر مع الفاجر، والصالح مع الصالح".

وقيل: قرنت بجزائها وأعمالها. (وإذا الموءودة) المثقلة بالتراب. قال قتادة: "كان أحدهم يقتل بنته، ويغذو كلبه، فأبى الله ذلك عليهم". (كشطت) الكشط: النزع عن شدة التزاق. (علمت نفس ما أحضرت) أي: عملت من خير وشر. (فلا أقسم بالخنس) الخمسـ[ـة] السيارة، لأنها تخنس في سيرها و [تتردد] في

مواضعها، وربما [وقفت] مدة، أو رجعت القهقرى. ومعنى رجوعها: مسيرها إلى خلاف التوالي في أسافل التدوير، فترى متحركة إلى خلاف التدوير. ومعنى وقوفها: إبطاؤها في حالتي الاستقامة والرجوع حتى يبلغ حد الوقوف على الحركة بالرؤية [شكاً] في ما يرى من مسير جرمها على محيط التدوير إلى خلاف التوالي، ومسير مركز التدوير إلى التوالي.

(الجواري الكنس) ويستتر العلوي منها بالسفلي عند القرانات، كما تستتر الظباء [في] كنايسها، كما قال أوس: 1388 - ألم تر أن الله أنزل مزنة ... وعفر الظباء في الكناس تقمع. لفظ (الكنس) تضمنت أبواباً عظيمة من علم التنجيم. منها: باب الاجتماع، وباب الكسوف، وباب القرانات، وباب اختلاف

المناظر، وباب مقادير الأقطار في المناظر، وباب دقائق السقوط والمكث،

وباب الانحرافات، وباب الحال المسماة طرف الليل، وباب الاحتراق، وباب التصميم، وباب تحت الشعاع، إلى غير ذلك مع كثرة الفصاحة، وحسن الموازنة بين "الخنس" و"الكنس".

(والليل إذا عسعس) أظلم وأدبر، من الأضداد. قال الراجز: 1389 - حتى إذا ما ليلهن عسعسا 1390 - ركبن من حد الظلام حندسا [وقال]: 1391 - حتى إذا الصبح لها تنفسا 1392 - وانجاب عنها ليلها وعسعسا.

(وما هو على الغيب بظنين) بمتهم، كما قال الشماخ: 1393 - كلا يومي طوالة وصل أروى ... ظنين آن مطرح الظنين 1394 - وما أروى ولو كرمت علينا ... بأدنى من [موقفة حرون]

وقيل: معناه ليس بضعيف، كما قال الرياحي: 1395 - وإن علالتي وجراء حول ... لذو شق على الضرع الظنين 1396 - عذرت البزل إن هي صاولتني ... فما بالي وبال ابني لبون. [تمت سورة التكوير] وبها تم الكتاب بعون الله وتوفيقه.

§1/1