تأملات

مالك بن نبي

مالك بن نبي مشكلات الحضارة تأملات دار الفكر المعاصر- بيروت لبنان دار الفكر-دمشق سورية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تأملات

مالك بن نبي تأملات بإشراف ندوة مالك بن نبي دار الفكر المعاصر-بيروت-لبنان دار الفكر-دمشق-سورية

جميع الحقوق محفوظة 1423هـ - 2002م ط1: 1979م.

بسم الله الرحمن الرحيم في عام 1971 ترك أستاذنا مالك بن نبي -رحمه الله- في المحكمة الشرعية في طرابلس لبنان، وصية سجلت تحت رقم 67/ 275 في 16 ربيع الثاني 1391 الموافق 10 حزيران 1971، وقد حملني فيها مسؤولية كتبه المعنوية والمادية. وتحملاً مني لهذه الرسالة، ووفاءً لندوات سقتنا على ظمأ صافي الرؤية، رأيت تسمية ما يصدر تنفيذاً لوصية المؤلف (ندوة مالك بن نبي). والتسمية هذه، دعوة إلى أصدقاء مالك بن نبي وقارئيه، ليواصلوا نهجاً في دراسة المشكلات، كان قد بدأه. وهي مشروع نطرحه كنواة لعلاقات فكرية، كان رحمه الله يرغب في توثيقها. وإنني لارجو من أصدقاء مالك وقارئيه، مساعدتنا على حفظ حقوق المؤلف في كل ما ينشر بالعربية أو الفرنسية مترجماً من قبل المترجمين أو غير مترجم. فقد حمّلني، رحمه الله، مسؤولية حفظ هذه الحقوق، والإذن بنشر كتبه. فإن وجدت طبعات لم تذكر فيها إشارة إلى إذن صادر من قبلنا، فهذه طبعات غير مشروعة، ونرجو إبلاغنا عنها. طرابلس لبنان في: 18 ربيع الأول 1399هـ 15 شباط (فبراير) 1979م عمر مسقاوي

تقديم

بسم الله الرحمن الرحيم تقديم كتاب (تأملات) كان قد صدر قسم منه عام 1960م تحت عنوان (حديث في البناء الجديد)، وقسمه الآخر صدر عام 1961م تحت عنوان (تأملات في المجتمع العربي). وحينما همَّ الاستاذ مالك رحمه الله بطبع كتبه من جديد، شاء أن يعطي لتأملاته شمولاً يتلاءم مع نطاقها. فهو إذا تحدث عن المجتمع العربي فإنما يعالج الظواهر المرضية التي انتظمت العالم المتخلف من أقصاه إلى أقصاه. وإذا تحدث عن بناء جديد فإنما يبرز الحاجة إلى حضارة تنقل البلاد المتخلفة إلى مستوى المشاركة في مسيرة العالم. لذا ... سميناه (تأملات)، يدخل في نطاقها المجتمع العربي، كما يدخل العالم الإسلامي والعالم المتخلف في عمومه. والتأملات هذه تجربة. إنها حصيلة ما أحاط بالمؤلف من أحداث في الخمسينات وبداية الستينات. فقد جاء مالك بن نبي إلى القاهرة عام 1956 يحمل أصول كتابه باللغة الفرنسية (الفكرة الافريقية الآسيوية. l'Afro-Asiatism) ، وعرفنا الاستاذ مالك في القاهرة، وعرفه القارئ العربي من خلال ما أصدر في العربيّة. حتى إذا كان عام 1959م زار دمشق في طريقه إلى لبنان، فوجد فيها رجال الجامعة والمثقفين والطلاب، يسبق إليهم فكر بن نبي فيحفزهم إلى مزيد منه.

فالمحاضرات التي نشرت تحت عنوان (حديث في البناء الجديد)، جاءت حصيلة تلك الزيارة عام 1959م، وقد اشتملت على أسلوب يوضح فكره المبثوث في مختلف الكتب. وقد خلفت هذه الزيارة صلات بين المؤلف وأهل الفكر في دمشق، فما عاد إلى القاهرة حتى دعته وزارة الثقافة والإرشاد في ذلك العهد إلى إلقاء محاضرتين في سورية، وتتابعت المحاضرات بعد ذلك، فإذا هي يكمل بعضها بعضاً، وإذا هي تأملات جديدة اتسع لها كتاب جديد صدر بعد فترة من مجموعة المحاضرات الأولى. وعلى الرغم من زمن طويل يفصلنا عن أفكار هذه المحاضرات، فإنها ما تزال تخاطبنا في مسيرتنا نحو المستقبل. وما تزال تأملات مالك بن نبي في صميم المشكلة، تحفزنا في السياسة كما تحفزنا في الإقتصاد والإجتماع، إلى تأصيل المنهج وبناء الثقافة القائمة على توظيف الطاقات الإنمائية في خدمة المجتمع. ولقد نرى مالكاً كاتباً إسلامياً، يختار الإسلام صيغة تعبير عن نهضتنا وثقافتنا المرتقبة، ولكنه أبعد ما يكون عن أولئك الذين يزينون الإسلام بزينة الحضارة المعاصرة. فقد انعكس على الفكر الإسلامي الحديث موقعنا من الحضارة الغربية وصلتنا بها بصفتنا مستسلمين لمعطياتها غير مشاركين فيها. وقد أسهم هذا اللبس في شائعة الشعور بأزمة الإسلام في العصر الحديث. وإذا كانت الشائعة هذه ظاهرة في كتابات الذين اختاروا العقائد الغربية المتصارعة، فإنها تبدو في العمق النفسي لكثير من أولئك الذين يطرحون الإسلام دينا ورسالة. فالمسلم في إطار الحضارة المعاصرة إما متهِم لها أو متهَم منها.

لذا اهتم بن نبي بدراسة التاريخ يرقب سير الحضارات ويستخلص القواعد الثابتة والسنن التي لا تبديل لها. وقد أضاف بمؤلمفاته ومخاضراته إلى فكرنا آفاقاً صافية، لا يشوبها ضباب الثقافة الغربية ونماذجها المستوردة. فالمؤلف بما أوسع لمحاضراته من تحليل، وبما أكثر من أمثال، قد شاء أن يحدد لتجارب الحضارة المعاصرة حجمها الطبيعي، نتيجة للعمل المشترك في مرحلة من مراحل تطور الإنسان. فالاستاذ مالك يطرح القواعد الأساسية لفعالية الإرادة الإنسانية وقوتها في صنع الحضارة. وإذا كنا ما نزال نراوح مكاننا في كل صعيد، وإذا كانت إرادتنا الاجتماعية قاصرة عن بناء مستقبلنا الإقتصادي والاجتماعي، فذلك لأن انحرافاً فكرياً أخرجنا عن الطريق. ولقد جاءت محاضرات بن نبي تؤازر مؤلفاته العديدة، في تحديد المنهج القادر على إخراجنا من أزمتنا الراهنة. فدراسات بن نبي تضيء لجهود التنمية الاجتماعية والإقتصادية في العالم المتخلف، زاوية الفعالية حين تتناول بناء الإنسان في إطار ثقافة، تستجيب لمعطياته وأصالته. تلك سمات نشهدها جلية في (تأملات) كما نلمسها في سائر ما كتب بن نبي. ولقد أعدنا طبع المحاضرات هذه بعد ما راجعنا أسلوبها العربي فصححنا بعض العبارات وجلونا بيان بعضها. والكتاب هذا هو الثاني نصدره بعد (ميلاد مجتمع)، ولسوف يتبعه ثالث إن شاء الله، حتى نعيد طبع كتب المؤلف جميعاً إن شاء الله. طرابلس- لبنان 1976/ 8/8 عمر مسقاوي

مقدمة

مقدمة كنا نشرنا في كتاب سابق (حديث في البناء الجديد) (1) خمس محاضرات، ولعله كان من المناسب أن نجمع المحاضرات، التي ننشرها اليوم، تحت العنوان نفسه، مع الترقيم اللازم، باعتبار هذا الكتاب جزءاً ثانياً للذي سبقه. ولكن مهما تكن الصلة بين الكتابين واضحة، بمقتضى وحدة الموضوع، لا من الناحية الشكلية ولكن من حيث النسيج المعقد، الذي تنسجه الأيام في حياة الشعوب، التي تواجه في القرن العشرين مشكلات خاصة بكيانها، ومشكلات مشتركة، تعبر عن امتداد كيانها في عالم الآخرين، فالنظرة إلى هذا الازدواج الحيوي، هي التي أوحت بجمع المحاضرات التي ننشرها هنا تحت عنوان مستقل (تأملات في بعض مشكلاتنا)، حتى يشعر القارئ أن هذا الكتاب يمثل حلقة جديدة في سلسلة (مشكلات الحضارة)، الحلقة التي تتضمن، بالإضافة إلى بعض ضرورات البناء في الداخل، ضرورات ناتجة عن التطورات الخاصة التي حدثت في حياة الشعوب تحت تأثير عوامل مختلفة مثل الإستعمار الذي ربط، بصورة غير مباشرة، حياة الشعوب الإفريقية الآسيوية، وتأثير العامل الفني الذي صاغ بالنسبة لكل شعب ضرورات من نوع خاص، تفرض على حياته إلتزامات ومسؤوليات جديدة في نطاق أوسع من نطاقه التاريخي الجغرافي المعتاد.

_ (1) طبع في بيروت عام 1960م، ونعيد طبعه ضمن هذا الكتاب مرجئين المحاضرات الخمس التي اشتمل عليها إلى آخر التأملات، على الرغم من سبقها التاريخي، وذلك حرصاً منا على تصدير هذه الطبعة بمقدمة المؤلف، رحمه الله، التي قدم بها لكتاب (تأملات في المجتمع العربي).

فهذا الكتاب يحاول مواجهة هذا الازدواج بالنسبة إلى المجتمع العربي، والمؤلف قد تناوله في نطاق هذه المحاضرات التي يتصل بعضها بكيان المجتمع العربي في حدوده التاريخية الخاصة، وبعضها الآخر يتصل بارتباطه بالعالم الإسلامي والمفاهيم الإسلامية، وبارتباطه بالبلاد التي ربطه بها الطوق الإستعماري في القرن التاسع عشر، أي الشعوب التي تعيش على محور طنجة- جاكرتا. فالمؤلف خصص هذه المحاضرات لهذه الجوانب المختلفة، التي يرتبط بها كيان المجتمع الذي نعيش فيه، وامتداد كيانه في عالم الآخرين. فالمحاضرة الأولى تواجه عقدة نفسية، قد أشرنا إليها في دراسة أخرى (1)، وهي في وجه من الوجوه صعوبة تعترض، في المجال النفسي، حركة النمو أو النهضة في مجتمعنا. ومن وجه آخر، هي في المجال الاجتماعي، علأمة هذا النمو وهذه الحركة. فالمحاضرة الأولى تناولت الموضوع من هذا الوجه، فهي محاولة لتوضيح الصعوبات التي يعانيها مجتمعنا اليوم في مواجهة ضرورات البناء الداخلي، وقد هدف فيها المؤلف إلى الإسهام في تخليص القارئ من مركب النقص، الذي يعتريه عندما يمنطق عن وعي الصعوبات التي تحيط بحياته الاجتماعية اليوم، إذ هو غالباً يعزو هذه الصعوبات إلى طبيعة المشكلات عوضاً عن أن يعزوها أولاً إلى نفسه من الناحية العقلية في إدراكه هذه المشكلات، ومن الناحية الأخلاقية في سلوكه إزاءها. فإسهام المحاضرة يكون قد تحقق في تصفية العقدة التي نشير إليها، بقدر ما يتمكن القارئ من فهم الخطأ الذي نقع فيه، عندما نقدر الصعوبات والمسؤوليات في ضرورات البناء.

_ (1) (وجهة العالم الإسلامي) حيث بين المؤلف ما يعاني المجتمع الإسلامي من عقد، من بينها العقدة التي تدفعه إلى استسهال الصعب واستصعاب السهل.

ويتبقى بعد ذلك أن ندرس كيف ولماذا تنشأ هذه الصعوبات في عالم نفوسنا أكثر مما تنشأ في عالم الأشياء؟ فهذا السؤال هو بالضبط موضوع المحاضرتين الثانية والثالثة، في أي ترتيب شئنا نتناولهما، سواء تناولنا موضوع (المسوّغات في المجتمع) أم لا، كما فعلنا أو تناولنا قبله موضوع (المفاهيم الإقتصادية والقيم الإنسانية). ولكن يبدو لنا أن موضوع (المسوّغات)، الذي خصصنا له المحاضرة الثانية، يسبق بحكم الطبيعة موضوع المحاضرة الثالثة، لأن الأول يدرس الأسباب العأمة التي تطلق الطاقات الاجتماعية وتوجهها نحو مشكلات البناء، بينما تدرس المحاضرة الأخرى- المفاهيم الإقتصادية والقيم الإنسانية- مصدر الطاقات الخاصة الي يتطلبها البناء الإقتصادي، في مجتمع لم يزوده بعد التطور بالجهاز العادي، الذي نجده في حوزة مجتمع بلغ درجة معينة من النمو وكون رصيده الإقتصادي من مصانع ومصارف. فالمحاضرة الثانية تكون إذن، بالنسبة للثالثة، كالمقدمة العأمة بالنسبة للنتيجة الخاصة في علم المنطق. أما المحاضرة الرابعة (الديمقراطية في الإسلام) فإنها تعالج مشكلة ذات طابع مزدوج: فهي تتناول موضوع بناء وموضوع اتصال أو اتجاه في وقت واحد، لأننا حاولنا أن نبين فيها للقارئ أن كل مشروع ديمقراطي: قبل أن يصبح بناء المؤسسات والمنظمات السياسية ذات الطابع الديمقراطي، فهو بناء الإنسان بناء خاصاً، حتى يكون شعوره نحو الـ (أنا) (1) ونحو الآخرين، الشعور الذي تنبعث منه كل المسوّغات الكفيلة بتحقيق هذه المؤسسات والمنظمات، والكفيلة بحايتها خلال التطورات التي يأتي بها التاريخ.

_ (1) الأنا بمصطلح علم النفس معناها الذات.

ومن ناحية أخرى فالموضوع الذي تطرقه هذه المحاضرات يتصل بجانب من مشكلات الاتصال، أي المشكلات المشتركة بين الشعوب الإسلامية التي خصصنا لها دراسة سابقة (1). فالجانب الذي نعنيه هنا يخص صياغة الشخصية الإسلامية حتى تفي بصورة موحدة بمسؤوليات المسلم في العالم، وهذا يعني توحيد النماذج التي تمثل المسلم اليوم، النماذج التي يمثل بعضها الرجل الذي لم تكيفه حضارة ولا زال على فطرته، مثل الملايين من المسلمين الذين يعيشون في إفريقيا السوداء، ويمثل بعضها الرجل الذي مرّ بدور حضارة وتبقت في نفسه رواسب انحلال حضارة، أي الفريقين اللذين يعيشأن على طرفي التطور الاجتماعي التاريخي، لأن الواحد يعيش في عهد ما قبل الحضارة والآخر في عهد ما بعد الحضارة. فإذا لاحظنا البعد النفسي بين هذين الرجلين، أدركنا الصعوبات التي لا تجعل من اليسير توحيدهما في مشروع حضاري واحد، أي أن نحدد لهما مسؤوليات موحدة في العالم. فهذه الصعوبات هي التي يجب أن يتغلب عليها مشروع ديمقراطي إسلامي جديد، يقوّم المسلم تقويما جديداً، فيضع في ضميره من جديد الشعور بالتكريم الذي أودعه فيه الله يوم خلق آدم، ويضعه هكذا في الطريق نحو الحضارة. أما المحاضرة الخامسة فإنها تتناول موضوع (التضامن الإفريقي الآسيوي)، فبأي شيء تدخل هذه المحاضرة في نطاق المحاضرات السابقة وبأي شيء ترتبط بها؟ إننا قدمنا في دراسة سابقة (2) أن للمسلم مسؤوليات في هذا العالم، وأن حضوره في الأحداث الكبرى التي تطرؤ فيه من الضرورات الملازمة لمسؤولياته.

_ (1و2) فكرة كومنولث إسلامي.

فأي دراسة تستهدف توضيح الشروط التي يقتضيها بناء المسلم وتحديد دوره، لابد أن تهتم بالمجالات المختلفة التي يجري فيها هذا الدور، سواء في ميدان السياسة أم الإقتصاد أم الأخلاق. فالمجال الذي حددته فكرة باندونج هو أحد هذه المجالات التي يرتبط بها حضور المسلم، أي أنه مجال لإلقاء القيم الإسلامية في معركة القرن العشرين، ولإقحام رسالة المسلم في هذه المعركة الكبرى التي ستحدد مصير الإنسانية ومستقبلها. ولكن لهذا المجال معطياته الخاصة، لا يمكن للمسلم أن يقوم بدوره فيه دون معرفة هذه المعطيات، التي تتضمن بالنسبة إلى مئات ملايين البشر، التي تمشي اليوم تحت لواء (التضامن الإفريقي الآسيوي)، معوقات رجل الفطرة الذي لم يدخل بعد في دورة حضارة، ورواسب الإنسان الذي خرج منها وسلبته الأيام، في الهند أو في الصين أو في البلاد العربية، مقومات حضارة اندثرت. وبما أن لهذه المعوقات ولهذه الرواسب أثراً سلبياً في صورة مركبات، تتعارض مع مقتضيات حضارة جديدة، لذلك يجب أن تدرس هذه المعطيات دراسة واقعية، وقد حاولنا أن ندرسها في هذه المحاضرة كي يعلم الشاب المسلم نصيبه من هذه المعوقات وهذه الرواسب، ونصيبه في مسؤولية التخلص منها، ضمن القوى التي تجمع جهودها في العالم للتخلص من الإستعمار، ولمناصرة الإنسانية في معركة السلام والحضارة. فالمحاضرة الخامسة هي محاولة لإجلاء حقيقة (التضامن الإفريقي الآسيوي) بوصفه مجالاً جديداً لإلقاء القيم الإسلامية ولامتداد رسالة المسلم فيه. القاهرة في1961/ 4/24 مالك بن نبي

الصعوبات بوصفها علامة نمو في المجتمع العربي

الصعوبات بوصفها علأمة نمو في المجتمع العربي محاضرة ألقيت في الاتحاد القومي في دمشق يوم الاثنين 29 أب (أغسطس) سنة 1960

سيداتي سادتي: اسمحوا لي أولاً أن أوجه شكري إلى وزارة الثقافة التي أتاحت لي فرصة الحديث معكم، فأشكرها في شخص الاخ الكريم الدكتور يوسف شقرا الذي تفضل عليّ إذ جعلني بينكم متحدثاً وإذ هو قدمني إليكم. وإني لاخشى أن يكون الدكتور قد قدمني في صورة ربما سوف يمحو لساني بعض معالمها. فقد وضعني أمامكم كمن يتناول الحديث العربي بكل سهولة، والواقع على خلاف هذه الصورة. ثم إني أشكر إخواني المشرفين على هذا المركز الذين حققوا هذه الفرصة للحديث، وإني أشكركم أيضاً أنتم الذين شرفتموني بحضوركم تشجيعاً لإنسان لا يتكلم العربية بسهولة. إنه حينما بلغتكم الدعوة التي شرفتموني بتلبيتها، بلغتكم بعنوان (من قضايانا العربية). ولا شك أنكم قد أدركتم بأن الموضوع- تحت عنوان كهذا- يتناول في مضمونه جوانب شتى من القضايا العربية. وهذا يجعلنا مضطرين إلى توضيح حدود الحديث تحت هذا العنوان العام، ولعلنا لا نخطئ إذا ما حددنا هذا الإطار الخاص حول نقطتين قد يتناولهما رجل الدولة في مناسبة الحديث إلى المثقفين فيقول: إننا نضع عليكم اليوم عبء المسؤولية، كما قد يقول في مناسبة أخرى حين يتوجه إلى الذين يهتمون بالصناعة: إنه يمكننا أن نستورد المصانع ولكن لا يمكننا أن نستورد البشر، فإذا أخذنا هذين الاعتبارين بالتحليل النفسي إذا سمح لي هذا التعبير، فإننا نقول إن رجل الدولة الذي يواجه ويوجه الاعمال من مرحلة إلى مرحلة من حضيض إلى عل، يعبر عن شعوره بثقل المسؤولية، وبصعوبات السير في الطريق الذي يخططه التاريخ، فإذن لابأس في

أن نضع أمامنا موضوعاً لهذا الحديث الصعوبات والشعور بالصعوبات، فعن أي شيء تعبر الصعوبات عندما تواجهنا أو نواجهها نحن؟ لو أننا راجعنا ذكرياتنا، أو أتيح لمن كان في سني أنا أن يراجع ذكريات طفولته، وعلى تقدير أنه قد اتصل بحياة جده وحياة أبيه، ليتذكر بعد خمسين سنة أن الحالة النفسية التي كان يعيش فيها مع جده ومع أبيه ومع جيله هو قد تغيرت حسب مراحل ثلاث. إنني أتذكر حياة جدي وقد كان شيخاً، وديعاً كريماً شأنه شأن العرب والمسلمين، الذين كانوا يعيشون في زمانه، غير أني أشعر الآن أن جدي كان يعيش في طمأنينة واستقرار لا يشعر بأية مشكلة، سواء كان ذلك من الناحية المادية التي لم يكن معها يريد من العيش إلا الكفاف، أومن الناحية النفسية لأنه لم يكن يواجه المشكلات ولا يشعر بوجودها. ثم مرت هذه المرحلة وجاء الجيل الذي منه نبت والدي، فإذا بي أراه قد دخل في جو جديد خاصة إبان الحرب العالمية الأولى، فقد بدأ يشعر بوجود مشكلات، ويرى أمامه أموراً لا يستطيع إلا أن يضع عليها نقط استفهام، ولقد أذكر في هذه الفترة التي تميزت بالشعور بهذا القلق، أن والدي كان يعيش في جيل فقد الطمانينة من نفسه، غير أنه لم يكتسب بعد روح الكفاح والبروز إلى المشكلات وجهاً لوجه. وغالب الظن أنه لم يكن يحاول تصنيف المشكلات حتى يستطيع مواجهتها بصورة واضحة. وهكذا ولّى هذا الجيل لا يعرف الاستقرار، ولكنه أيضاً لا يعرف الحركة والأندفاع، ثم أتى الجيل الذي نحن منه، الذي تفضل الاخ الدكتور يوسف شقرا فقدمني على أنني ممن واجهوا قضاياه، والحق أنني لم أكن في هذا الطريق وحدي بل كان جمع من الشباب كثير، والذي ذكره الدكتور من الحادثة التي جعلتني في قريتنا في مطلع الشباب، أقوم بتأييد ثورة الريف لم أكن فيها وحيداً، بل كنا

ثلة من الشباب أثارنا أن يستخدم الإستعمار مساجدنا وأئمتنا للدعاية ضد الثورة الريفية، فقمنا لصد هذه الدعاية بصورة صبيانية، وربما فيها كثير من المخاطر، بل لعلها لم تكن هي الطريقة المثلى التي كان علينا أن نتبعها، غير أنه مع ذلك فقد شعرنا بوجود مشكلة، وإن هذا الشعور ليعبر دون شك عن حالة نفسية جديدة، وهو القيام بالواجب، أعني الخروج من الركود أو الحيرة: ذلك الركود الذي كان فيه جدي وتلك الحيرة التي عاشها والدي. إذن فإنه يمكن لنا أن نعد الصعوبات (من ناحية نفسية) أوضح دليل على النهضة واليقظة للأمة العربية في هذا الجيل، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فليس علينا من بأس في أن نستفيد من دراسة من سبقنا في هذا المضمار لنقول مع توينبي ((إن الصعوبات هي تحدّ خلاق لأنه يستحث الرد عليه)). ولا شك أن الرد لا يمكن أن يكون بغير الكد والتفكير. ثم إنه بصفة عأمة يمكننا عَدّ هذه الصعوبات أزمة نمو تعيشها الأمة العربية، وطبيعي أنه ككل نمو لابد له من تعب وقلق وألم، ذلك أنه يقع في المجتمع وفي الفرد نفسه أيضاً شيء من التطاحن، بين قوات سلبية تدعوه إلى السكون، وهي دعوة تجد في طبيعة الإنسان عأمة قبولاً بسبب ميله الفطري إلى السهولة، وبين قوات إيجابية تدعوه إلى الكد والعمل، تحثه صعداً إلى الرقي، الذي هو رسالة الأمة، وإلى الدفاع عن كيان المجتمع؛ وبصورة عأمة إنها تدعوه إلى القيام بالواجبات .. وهكذا نرى أن الصعوبات هي أكبر مبشر بالحياة الاجتماعية الصحيحة. لذلك كان طبيعياً أن رجل الدولة الاستاذ والوزير والنائب الذي يمثل الأمة العربية، في الاتحاد القومي يشعرون جميعاً بالصعوبات لأنها علأمة دخولهم ودخول أمتهم حلبة الكفاح. ولكن هل تقنعنا هذه النظرة الوصفية للصعوبات؟.

إنه إذا كان مفيداً أن ننظر إلى الصعوبات بوصفها علامات تشير إلى مشكلاتنا، فإن هذه الفائدة لن تكتمل ما لم نجعل من هذه العلامات دليلا أيضا على أمراضنا الاجتماعية، التي لا مناص من مواجهتها. وليس من شك في أن سيادة الرئيس حينما توجه إلى الطلبة مرة وإلى حشود العمال مرة أخرى، شعر ببعض نقاط الضعف، فعبر عنها في المناسبتين كلتيهما بما ينبغي أن يعبر عنه رجل الدولة. فإذا ما قدرنا أن هذه الصعوبات تعبر عن أزمة نمو، أي عن حالات شبيهة بالحالات المرضية، أو هي مرضية فعلاً، فإنه ينبغي علينا أن نسلك إزاءها مسلك الطبيب أمام الأمراض، إذ يحدد مكان المرض أو مصدره. فما هو مصدر الصعوبات عأمة؟! إننا إذا أجبنا على هذا السؤال إجابة عأمة مجردة، بمعنى أنها تكون صالحة لجميع أنواع المجتمعات الراقية، سواء فيها الاتحاد السوفيتي أو الأمريكي أو الاوربي فإننا نجدها تنشأ من جهات أربع: فإما أنها تنشأ من خلل في عالم الأشخاص، وإما أنها تنشأ من خلل في عالم الأفكار، وإما أنها تنشأ من خلل في عالم الأشياء، وإما أنها تنشأ من خلل في علاقات هذه العوالم بعضها ببعض. ولكن كيف ينشأ الخلل في عالم الأشخاص فينتج عنه صعوبات في مستوى السياسة أو في مستوى الثقافة؟ إنه من الطبيعي أننا نتصور الخلل في عالم الأشخاص بكل سهولة، إذا ما كان في عشيرة فئة تدعو إلى الشر بمعنى أنهم مخربون. إذا كان جانب من الأمة يبني وآخر منها يخرب فهذا خلل كبير في عالم الأشخاص؛ فالسارق وشارب الخمر والذي يستغل إخوانه هو حجر عثرة في طريق المجتمع بل هو ذاته مرض متجسم.

أما الخلل في عالم الأفكار فنراه مثلاً في تاريخ الأمة الإسلامية، حيث وجدنا كثيراً من الصعوبات بسبب الخلل في عالم الأفكار، فلو أمكن- وأظن ذلك صعباً- أن نقوم بإحصائية للافكار التي أدت إلى الكوارث الاجتماعية فإن العد لا يحصيها. وليس التاريخ إلا نسيجاً من عمل الأشخاص وأفكارهم ومن عالم الأشياء. والخلل في عالم الأفكار، إما أنه ينشأ من الخطأ في تحديد المفاهيم أو في عدم ربط الأفكار بالطرق الصحيحة. فإذا ما اختلت المناهج المنطقية لدينا فأصبحنا نقول 2+ 2= 45، فإن هذا يعني أن ثمة خللا قد طرأ على عالم أفكارنا، وهذا ما حدث في تاريخنا. فمثلاً نعلم أن البوصلة هي التي أتاحت لكريستوف كولومبس اكتشاف أميركا، مع أنها لم تتح للعرب أن يقوموا بمثل هذا الاكتشاف، على الرغم من أنهم هم الذين اخترعوا ذلك الجهاز، لأن بعض المفسرين في ذلك الحين كانوا يؤمنون بأن الأرض قائمة على رأس ثور؛ فمثل هذه الأفكار تكبل المبادرات والجهود، وهي ليست خاصة بمجتمع، وكم كان بعض الأفكار المميتة مستولياً على كثير من المجتمعات حتى عاقها عن كثير من التقدم. ولنا أن نذكر منها في المستوى العلمي فكرة من الأفكار سادت مرحلة من التطور العلمي تلك هي: أن الطبيعة تأبى الفراغ، فقد كان علماء الفيزياء يقولون بها ويدينون، مع أنها فكرة مزيفة غير صحيحة، لأنها تؤدي إلى القول: إنه كلما وجد فراغ امتصته الطبيعة حتى يمتلئ. وهذا يعني بالتالي لو سرنا على قواعدهم المفاهيمية، أنه يمكننا نحن هنا في الأرض أن نتصل بالمريخ عن طريق الفراغ. ذلك أنه بفرض صحة هذه الفكرة، فإن الفراغ الكوني يمتلئ أولاً على حسابنا نحن إذ يمتص الهواء الذي حول الأرض. وهذا خطأ وقع فيه ضعف تصور الإنسان في مرحلة معينة. ولم ينقذه غير (ماريوت) حينما حقق الفكرة على قاعدة جديدة، فقال: إذا صعد الماء في فراغ قناة مفرغة، فذلك لا يعني أن الطبيعة تأبى الفراغ، وإنما شيء آخر هو التعادل بين ضغط الماء من ناحية وضغط الهواء في العلو المناسب من ناحية أخرى، لأن الضغط على سطح الماء 76 سنتيمتر من الزئبق.

أو يكون الخلل في عالم الأشياء فتنشأ ثَمَّ صعوبات أخرى. وهذه نراها ببساطة حينها تفقد الأشياء التجانس فيما بينها، فلا تؤدي أغراضها، وربما أحدثت الكوارث. فلو أننا أردنا تنوير مدينة بجهاز مولد للكهرباء تحت ضغط 220 فولت، ثم أخذنا مصابيح لهذا الغرض ذات 120 فولت فربما أحدث هذا التباين كارثة؛ وقس على هذا كثيراً من الامثلة التي نصادفها في حياتنا اليومية. فالصعوبات إذن في عمومها تنشأ من هذه النواحي الثلاث: من عالم الأشخاص ومن عالم الأفكار ومن عالم الأشياء، فإذا أدركنا هذه الحقيقة علمنا أن الصعوبات التي يشعر بها الرئيس، أو نشعر بها نحن، لابد وأن تكون صادرة من هذه الجهات الثلاث. غير أننا بعد هذا التحديد العام للصعوبات ينبغي لنا أن نحددها تحديداً خاصاً بتكويننا الاجتماعي، وبفطرتنا الاجتماعية. فلو أننا رجعنا على ضوء هذه الاعتبارات في حديثنا هذا، في المناسبتين اللتين افترضناهما آنفاً، لرأينا أن هذه الصعوبات التي نشعر بها، مردها إلى الفرد الذي له صلة خاصة بعالم الأفكار، وذلك حينما نتحدث إلى المثقفين؛ ومن ناحية أخرى ننسبه إلى الفرد الذي له صلة خاصة بعالم الأشياء، وذلك في حديثنا إلى العمال ورجال المصانع، وهكذا نجد أن صعوبتنا على ضوء التجربة التي نباشرها في مجتمعنا تنتج من عالم الأشخاص. ولكن على أنواع مختلفة: فمنهم الفرد الذي يتصل بعالم الأفكار، والآخر الذي يتصل بعالم الأشياء سواء كان صانعها أو مستهلكها. فإذا ما تساءلنا عما نستنتجه من هذا كله بوصفه نتيجة مؤقتة، فإننا لا نخطئ التقدير إذا قلنا في فقرة أولى: إن القضية منوطة أولاً بالثقافة التي تكون عالم الأفكار وتحدد علاقتنا به، وبالسياسة التي تكون عالم الأشياء وتحدد علاقتنا به. غير أننا حينما نقف عند هذه النتيجة المستعجلة، فسوف نجد أنفسنا أمام مناقضة صورية. ذلك أننا نحمل جميعا في أذهاننا صورة تربط الثقافة بأهداف

السياسة ارتباطاً تحدد معه الثقافة أهداف السياسة، وترتبط السياسة بالثقافة لأنها هي التي تمد الثقافة بالوسائل؛ فنتساءل: ترى أين الثور وأين المحراث؟ هل الثقافة هي المحراث أو الثور! .. وهنا نقف أمام هذا اللغز في حيرة ولكنها صعوبة شكلية فقط. إنه ينبغي لنا أولاً أن نحدد كلا من المفهومين (الثقافة والسياسة) تحديداً علمياً مستقلاً في ذاته وليس بنسبة أحدهما للآخر. وأن يكون هذا التحديد، فوق ما نريد له من الضبط العلمي والتدقيق، تحديداً تطبيقياً Pédagogique حتى يصبح صورة ذهنية واضحة في أفهامنا، وتستطيع أن تدركه أيدينا. ولابد لي هنا أن أدعو شبابنا المثقف لأن تكون كل محاولة في أذهانهم تهدف إلى تطبيق عملي. الأمر إذن هو أن نحدد الثقافة تحديداً كالذي أشرت إليه، وعلى هذا فلا بد لنا من أن نعرف الثقافة على أنها توجيه الطاقات الفردية، لتحقيق بناء الفرد في الداخل بالنسبة إلى مصلحته، ولتحقيق مكانه في المجتمع بانسجام تلك المصلحة مع مصلحة المجتمع. والتحديد هذا فيه ما يدخل في نطاق الأخلاق، وفيه ما يخرج من هذا النطاق ليدخل في نطاق العلم. والذي يدخل من تحديدنا في هذا النطاق الاخير قولنا: إن الثقافة هي توجيه الطاقات الفردية، وليست الثقافة في غنى عن هذا الشطر من التحديد مطلقاً. أما السياسة، فإننا نحددها على أنها توجيه الطاقات الاجتماعية، لتحقيق بناء المجتمع في الداخل وتحقيق مكانه في الخارج. على أننا حينما نحلل الطاقات الاجتماعية عأمة، نرى أنها تتضمن أولاً وقبل كل شيء الفرد أداةً وهدفاً، فالطاقات الاجتماعية تنبع من الفرد وتعود إليه. فالفرد الصالح حينما يشارك في بناء المجتمع، فإن عمله هنا يعود إليه في صورة ضمانات اجتماعية تكفل له توجيه طاقاته الفردية. إذن هناك تضامن بين الثقافة والسياسة وليس ترتيب وأسبقية.

فالبناء هنا كالبناء الطبيعي للكائن الحي. فالطبيعة لا تبني في الإنسان إصبعه أولاً ثم شعره ثانياً. فالقضية إذن في صورتها النهائية ليست في ترتيب القيم الاجتماعية، ولكن في بنائها متضامنة متكاملة كبناء الكائن الحي، الذي ينمو في جميع جوانبه في وقت واحد، حتى لا يكون له مثلاً رأس رجل وأعضاء جني. والتوفيق هذا بين الثقافة والسياسة يتحقق عن طريق الفرد، لأنه هو العنصر الواعي الموجه للطاقات الاجتماعية. وبهذا فإننا نرى أن مصدر الصعوبات كلها في تكوين الفرد أعني في عالم الأشخاص. فإذا ما أردنا دراسة هذا العالم لنستقصي أهم الصعوبات في مجتمع ما، فإن علينا أن نسلك مسلك المحلل الكيمائي الذي يأخذ عينة من المادة التي ينبغي دراستها، لأن ثمة استحالة في تحليل المادة كلها. وهكذا فإننا حينما نتحدث عن عالم الأشخاص في مجتمع ما، فإننا نتحدث عن فرد منه. فإذا ما أدركنا حقيقة هذا الفرد ومشاكله والصعوبات التي تنتج منه، أدركنا المشاكل التي تنتج من عالم الأشخاص، والصعوبات التي تقوم فيه. ونحن في بناء الفرد ينبغي أن نلاحظ أمراً لعله من تحصيل الحاصل، فإن الإنسان لا يتغير بوصفه كائناً حياً في حدود التاريخ؛ وإنما يتغير بوصفه كائناً اجتماعياً تغيره الظروف، فإن التاريخ يعجز عن أن يغير شعرة واحدة في الإنسان، ولكنه يستطيع أن يزيد أو ينقص من ميزاته الاجتماعية. وفعاليته من ناحية المنطق العملي. وفي رأيى أنه ينبغي للقرن العشرين أن ينظر إلى الأشياء هذه النظرة، ينبغي أن ينظر إلى المشاكل الاجتماعية من زاوية (الفعالية)؛ وليس معنى هذا أننا نغفل في الإنسان جوانبه الأخرى، بدعوى أنه قبل كل شيء آلة إنتاج وجهاز إنتاج. فإن معنى كلمة فعالية تجنح إلى التضييق

من معنى إنسانية الإنسان إلى حدٍ ما. وكثيراً ما نرى في منطق الغربيين حينما يتوجهون إلى خصومهم بالنقد مثل هذه الملاحظات، إذ نجدهم يقولون لهم إنكم تريدون أن تجعلوا من الفرد آلة إنتاج. إننا لا نعني بالطبع هذا المعنى ما دام لنا نحن العرب والمسلمين من أرصدتنا الروحية، ما يحول دون نزوعنا إلى هذه المبالغة. خاصةً أننا نجد القرآن الكريم يعلي من شأن الإنسان حينما يقول: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70/ 17] فالإنسان فوق كل هذا في تحديد مهمته في المجتمع، لأنه أولاً وقبل كل شيء الكائن المكرم من الله. إذن فنحن إذا ما توجهنا للفرد كي نعالجه على أنه هو مصدر الصعوبات ومصدر المشكلات، التي تنشأ في المجتمع ويعود تأثيرها عليه وعلى أسرته وأولاده، فإنه ينبغي لنا أن نلاحظ أن قيمته تتضمن معادلتين: معادلته بصفته إنساناً، أي معادلته كائناً طبيعياً خلقه الله ووضع فيه تكريمه، وهذه المعادلة لا تمسها يد التاريخ بتغيير، ومعادلته كائناً اجتماعياً، وهي هي التي تكون ميزة الفعالية فيه وتعلي من قيمته الاجتماعية في ظروف معينة. وهذه المعادلة الاخيرة تعترضها طوارئ التاريخ ونوائب الزمن: فلو أنه أتيح للفرد أن يعيش حياة سيدنا نوح أي ألف سنة إلا خمسين عاماً، لشاهد الاطوار التي تمر على معادلة الفرد بوصفه كائناً اجتماعياً كلها ولرآها تتغير تبعاً لمراحل مختلفة. فما هي هذه المراحل التي تغير من قيمة الإنسان الاجتماعي، فترفعه أحياناً إلى أعلى أو تلقي به في الحضيض أحياناً أخرى؟ لابد لي قبل الجواب على هذا السؤال أن أقص عليكم حادثة شاهدتها منذ زمن بعيد. ولعلها كانت سبباً في اتجاهي الفكري. فقد كان لي صديق جزائري أعرف فيه الصدق والإستقأمة والأخلاق النبيلة، وأعرف فيه العلم الواسع فقد كان من علماء الجزائر التقليديين، وكان إلى جانب هذا رقيق الحال لا يكاد كسبه يفي

بمطلوباته أباً. وحتى أعطيكم صورة عن مدى إخلاصه وقوة خلقه، فإني أذكر أنني زرته يوماً في مستشفى كان يعالج مرضاً ألم به، فوجدته متألماً ويبدو عليه التجهم، فلما سألته عما به قال لي: واحسرتاه إنني لم أعد أصلح للجهاد. وذات يوم كنت جالساً مع أخي الجزائري على سطح مقهى في مرسيليا، يحدثني عن نوائب الزمان التي ألمت به، والضيق المادي الذي هو محدق برزقه، فلما انتهى من حديثه ودعني وانصرف لبعض أعماله، وبقيت وحدي على سطح المقهى أفكر في أمر أخي، وبينما أنا كذلك إذا بامرأة عجوز شمطاء دخلت المقهى، وعلى وجهها أمارات حياة قذرة، قد يخيل من ملامح وجهها أن رائحة الخمر تنبعث من فمها، فوقفت وسط المقهى وغنت بأقبح الصوت وهي ترقص على رجل واحدة، فما إن انتهت من الذي هي فيه حتى مدت يدها إلى الجالسين، فجمعت من طيبة الفرنسيين ما يكفي أخي الذي كان معي وأهله أسبوعاً. وهكذا دار في ذهني هذا السؤال: لماذا هذا الرجل الفاضل المخلص يحرم من سعة العيش، وهذه المرأة المحرومة من كل ميزة خلقية يأتيها رزقها رغداً؟ ففهمت حينئذٍ أن حياة الفرد قبل أن تكون منوطة بذاته الخاصة وبموهبته الشخصية، هي منوطة أولاً وقبل كل شيء بصلته بمجتمع معين، فإذا كان المجتمع يقدم الضمانات للفرد، فإن كل فرد ولو كانت هذه المرأة الشمطاء لا يُحرم من الحياة، ولقد رأينا فعلاً نماذج كثيرة من هذا النوع في أوربا، تتمتع بالحياة ولا تحرم منها، بينما الرجل الفاضل الجزائري يُحرم من وسائل الحياة ولا يقدر على شيء منها. إن القضية قضية مجتمع وليست قضية فرد، وحتى يكون كلامنا أكثر وضوحاً، فإنني أرى أن المتاعب التي تهاجم الفرد والمصاعب التي تعترضه في الطريق، ليس مصدرها تكوينه الخاص ولكن صلته بمجتمع معين، فالمجتمع

المتحضر يكفل الضمانات للفرد مهما كانت قيمته، والمجتمع المتأخر لا يقدم الضمانات ولا يمكنه تقديمها، لأن الحياة تتكامل بوصفها كُلاًّ ولا يمكن للمجتمع أن يتحمل مسؤولية هنا ووسائله في مجال آخر قصيرة. إذن فحينما نقول إن كيان الفرد مرتبط بصلته بالحضارة، فإنه ينبغي لنا أن نلاحظ بأن صلة الفرد بالحضارة أو مكانه منها هي في ثلاث مراحل: فالإنسان إما أن يكون قبل الحضارة، وإما أن يكون في نعيم الحضارة، وإما أن يكون قد خرج من الحضارة. والمراحل الثلاث هذه تختلف تمام الاختلاف. فمن المفهوم أن الإنسان المتحضر يختلف إذا اقتصرنا على هذا التحديد عن الإنسان غير المتحضر. ولكن ينبغي أيضاً أن نقيم نسبة أخرى بين الذي خرج من الحضارة والذي لم يدخلها بعد، فالإنسان الخارج من الحضارة يحتوي على بعض الرواسب، ويكون أكثر مصدراً للمصاعب في المجتمع من ذلك الذي لم يدخل بعد إلى هذه الحضارة. إننا حينما ندرس قضية الفرد على هذه الطريقة، فإننا نرى أنه مهما تكن مرحلتنا نحن الأمة العربية من الحضارة اليوم، سواء كنا قبل الحضارة أم بعدها، لا بد لنا من تشييد حضارة، لأن التخطيطات التي دخلت فيها الأمة هي في نهاية التحليل تهدف إلى شيء واحد، سواء عبرنا عنه أو لم نعبر، هو تكوين حضارة، فحينما نقول إننا نريد أن نكون مجتمعاً يقدم الضمانات الاجتماعية للفرد ويؤيد الامن في العالم، أو أننا نريد أن ندرس قضايا مجتمعنا، إقتصادية كانت أم اجتماعية فإن شروط وصولنا إلى تحقيق هذا كله هي شروط الحضارة. بل إنه لا يمكن أن تنبع هذه الشروط إلا من الحضارة، ولا يمكن أن تتحقق إلا في إطارها. فحينما نفكر في مشكلة المصاعب التي تصدر عن الفرد وتواجهه فلا بد لنا أن نفكر في عودة الفرد إلى الحضارة أو دخوله إليها. وهنا نعلم لماذا نحن الآن نواجه صعوبات خاصة. ذلك لأننا في نقطة انتقال الفرد إلى الحضارة أو رجوعه

إليها. ولا شك فإن هذا الإنسان بين قوتين: قوى سلبية تريد إرجاعه إلى الوراء باستغلالها طبيعة الاستقرار في الإنسان، وقوى إيجابية تدفعه إلى الامام وإلى تحقيق مستقبله، فينبغي ألا تضعف القوى الإيجابية فينا عن الوصول إلى الحضارة. ولكن ما هي الطرق التي ندخل بها إلى الحضارة؟ أو نعود بها إليها؟ إن أول الابواب إلى الحضارة أن نواجه المشكلات مستبشرين لا متشائمين، فإذا ما واجهنا الامور متشائمين فقد أصبحت في حكم استحالة، ومن العبث أن نفكر بأننا نستطيع التغلب على المستحيل. وهذا ذهان مَرّ بنا نحن، فقد أصبحنا نقول مسبقاً إذا ما سئلنا لماذا لا تفعلون هذا الأمر؟ إنه مستحيل. ويقابل هذا في الخطورة نفسية التساهل، إذا ما نظرنا إلى الأشياء على أنها أمر تافه لا قيمة له. فقد نظرنا إلى اليهود ونحن في الجزائر نظرة احتقار، فلم نقدر قوتهم بينما هي واضحة وخاصة في المجال السياسي والإقتصادي، فقد نعلم أن دول أميركا وإنجلترا وفرنسا تؤيد اليهود. ومع ذلك فقد قلنا حثالة حقيرة، حينما ننفخ عليهم نفخة واحدة يطيرون، ولكنهم للاسف لم يطيروا. فينبغي علينا أن نتخلص من نفسية المستحيل ونفسية التساهل، فليس هناك شيء سهل وليس هناك شيء مستحيل. ثم إن الباب الثاني الذي ينبغي أن نعود منه للحضارة هو باب الواجب، وأن نركز منطقنا الاجتماعي والسياسي والثقافي على القيام بالواجب، أكثر من تركيزنا على الرغبة في نيل الحقوق، لأن كل فرد بطبيعته توّاق إلى نيل الحق، ونفور من القيام بالواجب، إذن لسنا نريد من الفرد أن يطالب بحقوقه، فالطبيعة بحقوقه كفيل. بل ينبغي على متثقفينا وسياسيينا ومن يمثل كل سلطة أن يوجهوا الهمم إلى الواجب ..

فالمجتمع الذي يرتفع وينمو فإن ذلك يعني أن لديه رصيداً من الواجب فائضاً على الحقوق. وحتى تشعروا بقيمة هذا الفائض يجب أن نتصور قضية قائمة اليوم: فالهند مثلاً لديها فائض من الإنتاج تستطيع أن تمول به المشاريع الجديدة بنسبة 2% من دخلها السنوي، بينما الصين تمول مشاريعها بنسبة 16%، مع أن غاندي هو الذي دعا للواجب قبل أن يدعو إليه شخص آخر. والقرآن الكريم قد دعا العباد من قبل إلى الطريق الواجب إذ أن الحقوق ستأتي هي بطبيعتها. هذه هي الملاحظات التي أردت أن أقدمها لكم عن مشكلة الصعوبات والسلام عليكم ***

المسوغات في المجتمع

المسوّغات في المجتمع محاضرة ألقيت ببيت الطلبة العرب يوم 8/ 4/ 1961

يجب أن نحدد أولاً الموضوع بطريقة منطقية واضحة، مستمدة من ملاحظاتنا البسيطة: إننا عندما نلقي نظرة فاحصة على المجتمعات المعاصرة في القرن العشرين، نجد أنها تختلف في نواح عدة وتتشابه في نواح أخرى، والإختلاف الذي يلفت نظرنا يتمثل في جانب أصيل من جوانبا المجتمع، ألا وهو ما يطبع نشاطه من فاعلية تتفاوت درجتها من مجتمع إلى آخر. هذا العنصر أصبح أساساً في فلسفة العصر، التي تعنى بتقدير الكم فتجعله فوق القيم الأخرى، وهو يختلف باختلاف المجتمعات حتى يمكن أن نتخذه مقياساً خاصاً لقياس المستوى التاريخي لهذه المجتمعات. فهناك مجتمعات أكثر فاعلية من مجتمعات أخرى، وإذا تقرر هذا في ذهننا، وقد يتقرر بمجرد النظرة إلى قائمة الإنتاج في العالم، فيجدر بنا أن نتساءل: ما السبب في هذا الاختلاف في درجة الفاعلية؟ والجواب يقتضي احتمالين في نطاق المنطق العام: فقد نقول: إن المشكلة تتصل بناحية عنصرية، كما ذهبت الفلسفة التي تمذهبت بالآراء التي كانت سائدة في سياسة (هتلر)، أو نقول إنها تتصل بناحية إقتصادية كما تفسرها مدرسة (ماركس). على أننا نجد أنفسنا هنا أمام لغز والتباس، ولا نستطيع الخروج منهما إلا عن طريق ملاحظات أخرى، فمن ناحية نلاحظ أن المجتمعات المعاصرة تختلف في كمية الإنتاج، وحين ندرس من ناحية أخرى مجتمعاً واحداً في عصور مختلفة، نرى أن إنتاجه الإجتماعي يختلف من فترة إلى أخرى، وإذن فالنظرية العنصرية تفقد مسوغاتها، ولابد لها من البحث عن مسوغات أخرى؛ على أنه مهما تكن الأسباب الكائنة وراء ظاهرة النشاط الاجتماعي فإنه يمكن حصرها في سبب عام نصطلح عليه بالفاعلية، وهذا لا يؤدي قطعاً إلى تفسير واضح، إنما يحدد نظرتنا لا في

منطوق الكلمة اللفظي بل في حقيقتها الاجتماعية ومضونها، أي تشخيص حقيقة اجتماعية نصطلح عليها هكذا ... ماذا نعني بالفاعلية: بوصفها قياساً لإنتاج المجتمعات؟ فلنبدأ بأبسط مجتمع: إن حياة الحيوان تتضمن صوراً مختلفة، فهناك حيوان يعيش بمفرده بعيداً عن نظام الاسرة، ونشاطه يسد فقط حاجات بيولوجية بسيطة، كالقط مثلاً فهو يسد حاجات فردية ولا نرى لنشاطه أثراً بعد سد تلك الحاجات، فإذا نظرنا بعد ذلك إلى حيوان أعلى مستوى، يعيش في جو أسري فإن نشاطه يأخذ صورة جديدة. فالعش البسيط الذي يبنيه الطير يعطي صورة للنشاط الاجتماعي في مستوى أرقى، ولكنه دون مستوى الحيوان الذي يعيش في نظام أوسع نطاقاً من الاسرة كالنحل، نجد إنتاجه الاجتماعي يختلف عن إنتاج الحيوان الذي يعيش في نطاق الاسرة فحسب، فإنتاجه يتسم بالفاعلية في صورتين: مادية ومعنوية. فمن الناحية الأولى: نرى أن نشاط النحل ينتج أكثر من حاجات سربه البسيطة، حتى إننا نستغل العسل الذي ينتجه كل سنة. ومن الناحية المعنوية: نرى أن هذا الإنتاج يفرض على خليته حياة منظمة خاضعة لقوانين معينة، فنجد في هذا المجتمع البسيط ظاهرة تقسيم العمل، وقد اتسمت بها حياة هذه الفرق من النحل، فتزيد مهامها عن عشرة أنواع من العمل، كل مهمة منها لها رصيدها من الطاقات الاجتماعية ومن عدد معين من النحل، وإذا جعلنا هذه المجتمعات الصغيرة موضع درس نظري لنعرف كيف يرتقي الإنتاج الاجتماعي فيها، نجد أن هذه الظاهرة تخضع لقانون هو: ((أن الفاعلية تنمو تدريجياً مع تعقد المصلحة))، أي أن الإنتاج الاجتماعي يرتقي بقدر ما يكون النشاط الفردي موجهاً لسد حاجات غير فردية، أو بعبارة أخرى،

بقدر ما يكون موجهاً لمصلحة عأمة. فإذا كانت المصلحة هي التي تفسر لنا الفاعلية، فما هي المؤثرات التي تختلف باختلاف المصلحة في عصور مختلفة أو في مجتمعات مختلفة؟ يمكن أن نصنف المجتمعات المعاصرة في فصيلتين: المجتمع المصنع الذي يمكن أن نعبر عن حدوده الجغرافية بخط (واشنطن- موسكو)، والمجتمع المتخلف الذي يعيش على خط (طنجة- جاكرتا)، فالمجتمع الأول تعرف المصلحة العأمة فيه، بأنها تلك التي تمد الفرد بالضمانات الاجتماعية في حدود معينة، بمعنى أن طاقة كل فرد يعيش في ذلك المجتمع مسخرة بصورة مباشرة أو غير مباشرة لمصلحة عأمة، وهذا يؤدي إلى أن يتكفل المجتمع للفرد بضمانات اجتماعية في مختلف مراحل حياته، منذ أن يكون صغيراً في المدرسة إلى أن يكون رجلاً في المصنع أو في المكتب ثم شيخاً في التقاعد، أي في حضانة المجتمع من جميع الوجوه. أما المجتمع الثاني المتخلف فإنه لا يقدم للفرد ولا يستطيع أن يقدم إليه أي ضمانات لأن إنتاجه الاجتماعي غير كاف لذلك. فإذا عبرنا على هذا بمصطلحنا نقول: إن الفاعلية في المجتمع الأول أكبر منها في المجتمع الثاني. فكيف يفسر المجتمع الأول ظاهرة الفاعلية أو صورة الحياة التي تمكنه من تقديم هذه الضمانات؟ إن هذا المجتمع يتمثل في مستويين أو أسرتين: رأسمالي واشتراكي، وكل طرف يفسر الضمانات الاجتماعية بطريقة معينة، فأحدهما يفسر هذه الضمانات بمصدرها فيعد (التنافس والصراع الفردي) هو المحرك للطاقات الاجتماعية، كما يرى عالم الاجتماع (آدم سميث)، والآخر يفسر تقديم الضمانات الاجتماعية بهدفها أي بالصالح العام، وهنا نجد تناقضاً واضحاً بين النظريتين، يلزمنا بأن نخرج بنظرية جديدة تفسر بوضوح أكثر الفعالية الاجتماعية، وتناسب أكثر واقع مجتمعنا.

فالقضية ليست منوطة بالناحية السياسية بقدر ما هي منوطة بالناحية النفسية، التي توجه هذا النشاط والطاقات الاجتماعية. فالحقيقة واحدة في المعسكرين على الرغم من التفسير السياسي الذي يختلف، إذ الأسباب والدوافع النفسية لا تختلف في المعسكرين، فالنتيجة الاجتماعية واحدة فيهما ما داما يكفلأن للفرد الضمانات الاجتماعية، إنما المنطق السياسي قد سيطر على العقول، حتى إن الناس يعطون لنتيجة اجتماعية واحدة تفسيرين، لأن كل حزب يفسر ذلك حسب نظرته السياسية. إذن علينا نحن بالخروج من هذا المأزق، بإعادة النظر في القضية، قضية الطاقات الاجتماعية، فنتساءل عن مفهومها في حقيقة الواقع الاجتماعي. إننا إذا حللناها إلى عناصرها الأولية البسيطة نجدها تنحصر في عناصر ثلاثة: اليد، القلب، العقل. لأن كل الطاقات الاجتماعية تنطلق منها، والعملية الاجتماعية نفسها لا تخرج عن هذه العناصر الثلاثة: فكل طاقة اجتماعية تصدر حتما من دوافع القلب ومن مسوغات وتوجيهات العقل ومن حركات الاعضاء، فكل نشاط اجتماعي مركب من هذه العناصر، والفاعلية تكون أقوى في الوسط الذي ينتج أقوى الدوافع وأقوم التوجيهات وأنشط الحركات. بعد أن أوضحنا معنى الفاعلية يمكن أن ننتقل إلى مرحلة جديدة من البحث. فعندما ننظر إلى اليد والقلب والعقل على أنها أساس الفعالية، يجب أن نحدد معنى هذا بالنسبة إلى مجتمعات متخلفة. وهنا يمكن لنا أن نقف على عنصر جديد وعلى مصطلح نتفق عليه، وهو أن نرد المسوغات والدوافع والأسباب القريبة والبعيدة، التي تدفع إلى خلق نشاط فعال إلى حالة خاصة هي التوتر. فالقلب والعقل واليد لا يؤدي كل منها إلى نتيجة واحدة في العمل، في كل

الظروف: فاليد تأخذ ببطش وعنف في حالة التوتر، وهي الحالة التي يشير إليها القرآن في قوله عز وجل: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12/ 19]. فلو لاحظنا نشاط العقل والقلب في ظروف مختلفة، لوجدنا أن فعالية كل منهما مع حركة اليد تخلق المعجزات في ظروف معينة تعبر عن حالة توتر. فهذه واقعة بسيطة في الجزائر حدثت سنة 1936 تقريباً. لقد حاول أحد المجرمين المدفوعين من قبل الإستعمار، وكان ذا غلظة وفظاظة وضخأمة جسم، أن يغتال بخنجر فضيلة الشيخ عبد الحميد بن باديس المصلح الاجتماعي في ذلك الحين، فأمسك هذا الشيخ بيده- النحيلة التي هي أضعف من إصبعي- الخنجر حتى أتته النجدة ومنعت المجرم من تنفيذ خطته الإجرامية، فهذا عمل من أعمال اليد في الحالة النفسية التي تكمن وراءها قوة الفعالية. ولا بد أن نأخذ في الاعتبار أن لها الفضل في الحركة التاريخية، إذ التاريخ قائمة إحصائية لحركات القدم والعقل واليد والقلب، إنه إحصائية لنبضات القلب وحركات اليد ومواهب العقل. لكن هذا التوتر يختلف من مجتمع إلى آخر، فنرى أن صورة الحياة لا تسير على نموذج واحد، فحركة اليد والقدم تختلف في عصر واحد من مجتمع إلى آخر، كما تختلف في مجتمع واحد من عصر إلى آخر. فالعجوز في بريطانيا تسير خمسة كيلو مترات في ساعة، والقاضي في مدن شمال إفريقيا يسير الكيلو متر الواحد في خمس ساعات، وهذا ما تعبر عنه فلسفة الشارع هنا ((فلأن يمشي مشي القضاة))، ومن هنا نفهم مدى بعد النظر في القرآن الذي ربما بدا لنظرتنا البسيطة شيئاً بسيطاً غير ذي أهمية عندما يقول {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} [الإسراء:37/ 17]. فنماذج المجتمع تعطينا مفهوم التوتر في صور مختلفة، فالمجتمع الماركسي الذي

أبدع منتجاته تبعاً لقواعد اجتماعية معينة- ينبغي علينا أن ندرسها ضمن القواعد العأمة بعد أن نخلصها من القيود السياسية- توضح فكرة التوتر في تجربة قريبة منا يمكن أن نتتبع تفاصيلها. ففي سنوات التخطيط الأول، سنة 1927 خلقت فكرة التصنيع الموجه، ووضعت له مقايس أساسية لتوزيع العمل، فقدر إنتاج الفحم بمقدار 5 أطنان من الفحم الحجري للعامل الواحد في اليوم، وهذا التقدير خاضع لعلم حركات اليد، كما رسمه (تيلر) وداخل في توزيع العمل اليومي، إذ التخطيط لا يترك للمصادفة والمجازفة، لكننا نجد (ستاخانوف) يكذب هذا التقدير فينتج يومياً عشرة أطنان، لأنه يعمل بأحشائه ذات الشحنة النفسية القوية والاستعدادات المتوترة، فخلق بذلك نظاماً إقتصادياً جديداً يعرف باسمه، وإذا قورن بأبيه في الجيل الذي سبقه فإنا نجد أباه لا ينتج شيئاً لفراغه النفسي وضعف توتره، فالتوتر في يد يختلف عنه في يد أخرى، ولذلك يجب إذا ما درسنا مجتمعاً أن ندرس حالة هذا المجتمع في ظروف معينة، فالمجتمع العربي قبل العهد القرآني يختلف اختلافاً كبيراً عنه بعد العهد القرآني، فإذا بحثنا عن إنتاجه قبل ذلك مثلا في الفترة التي تقدر بأربعة آلاف سنة من عهد إسماعيل إلى النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -، نجده ينحصر في عشر معلقات، وهذا معناه أن الطاقات الاجتماعية، طاقات القلب والعقل واليد، في حالة غير حالة التوتر الاجتماعي الذي يدفع إلى الإنتاج بقوة وحرارة، وحينما جاء الإسلام استطاع أن يخلق حضارة خلال نصف قرن، ومعنى ذلك أن الإسلام أتى بالمسوّغات الدافعة لليد والعقل والقلب لكي تحقق متساندة حضارة ذات إشعاع. ما هي مظاهر التوتر في هذا المجتمع الذي بزغ من جديد؟ هناك مظهر في السلوك تعبر عنه تلك المرأة ذات الضمير الممتلئ توتراً، حينما تأتي إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - وتطالب بإقأمة حد الزنا عليها على الرغم من الخفاء الذي أحاط بعملها، فأبى توترها إلا أن يلح في المطالبة بالحد بإصرار عجيب، فصدها النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنها

كانت حاملا وقال لها: حتى تضعي حملك، ولما وضعت حملها عادت إليه مطالبة بإقأمة الحد لاتصال اليقظة في الضمير والتوتر في القلب بعمق أصيل، حتى أقيم عليها الحد وخلدت هكذا ذكرى امرأة أعطت في مجتمع ناشئ صورة توتر الضمير. والمجتمع العربي نفسه لم يكن يفهم معنى هذا التوتر بكل وضوح، ويبدو هذا فيما أبداه الأفراد إزاء صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على جثمان تلك المرأة بعد حدّها، حتى أجابهم الرسول بما معناه «لقد تابت توبة لو وزعت على أهل المدينة لوسعتهم». لقد كان هذا التوتر مظهراً من مظاهر الحياة الناشئة مع الإسلام، نشاهد أثره في سلوك الحاكم، حين مطالبته الشعب بأن يقوِّم اعوجاجه ويعدل انحرافه، وفي ذلك اعتراف ضمني بإمكان صدور الاعوجاج عنه، كما نشاهده في سلوك الرعية في شخص ذلك الاعرابي البسيط، الذي يرد على هذا الحاكم بقوله: ((لو شاهدنا فيك اعوجاجاً لقومناك بسيوفنا)). وهناك توتر في الناحية الإقتصادية يتمثل فيما قدم أبو بكر وعثمان من أموال طائلة في سبيل الدعوة، وفي موقف عمر رضي الله عنه حينما أمر برد ما اقتصدته زوجته إلى بيت المال، ويبدو أيضاً في حرمان الذات وقطع الشهوات، في موقف هذين الرجلين اللذين اعتزم أحدهما أن يصوم الدهر وقرر الآخر أن يقوم الليل، فشكتهما زوجتاهما للرسول - صلى الله عليه وسلم - فنهاهما عن ذلك. كما يبدو في الجهد والعمل في موقف (عمار بن ياسر) الصحابي الجليل، في حمله حملين بدل حمل واحد، كما كان يحمل كل صحابي في مشروع بناء المسجد، الذي هو نموذج لبناء مجتمع جديد ورمز لكيان اجتماعي حديث؛ وفي الناحية العلمية أيضاً نرى توتراً آخر، فالمذاهب الاربعة التشريعية التي لا تخفى قيمتها الاجتماعية تعبر عن إنتاج العقل الإنساني في قمته في عصر التابعين، أو في العصر الذي تسود فيه الحاجة إلى تنظيم المجتمع الذي نشأ مع الدعوة والجهاد أيضاً، فكان صورة من صور بناء المجتمع الناشئ، وهو في حالة توتر ونشاط اجتماعي للدفاع عن النفس وعن هذا البناء

الداخلي، الذي أخذت معالمه ترسو قواعدها، فالخنساء التي ظلت في الجاهلية تسكب عبراتها على أخيها (صخر) سنين، أصبحت في صورة جديدة فريدة تحمد الله على أن شرفها باستشهاد أبنائها الاربعة في سبيل الدعوة، وهذا يعني انتقال مجتمع كامل من حالة (فتور إلى توتر وحركة)، وهذه الحركة حركة رقي في جميع النواحي: فظاهرة البطولة كانت في الجاهلية تهدف إلى الغزو والفخر، أي تدور على محور الـ (أنا)، فبدت في صورة جديدة هي الاستشهاد في سبيل مثل عليا، لأن الإسلام رفع المصلحة أو مسوّغات النشاط إلى أعلى مستوى، فجعلها في عالم الآخرين. فالبطولة في الجاهلية كانت تهدف إلى إعلاء شأن الـ (أنا)، لكن الإسلام حول محور البطولة لتجد مسوّغاتها في عالم الآخرين، أي أصبحت تعبر عن اهتمام اسمي، يرتبط بغريزة الـ (نحن) أكثر منه بالـ (أنا)، حتى إنهم {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9/ 59] فهذا تعبير كامل لمسوّغات البطولة. فإذا اتفقنا على أن المسوغات هي التي تحرك الطاقات الاجتماعية وتوجهها إلى مستوى أعلى من مستوى الحيوان، الذي يحيا حياة فردية، وهي التي تدفعها إلى مستوى مصلحة الآخرين، فإن فكرة الفاعلية أو التوتر تمس الواقع الاجتماعي في كل الظروف، مَسًّا يضعها معه كل مجتمع أو لا يضعها وراء أعماله وسلوكه. فالتوتر حالة نفسية اجتماعية دلّ التاريخ على أنها تنشأ في ظروف معينة ثم تزول في ظروف أخرى، وأن المسوّغات هي التي تكوّن الدوافع الإنسانية التي تدفع النشاط إلى أعلى قمة. إنما لهذا الواقع الاجتماعي صورته السلبية أيضاً، إذ يحدث أن مجتمعاً ما يفقد مسوّغاته، فاذا يحدث له في مثل هذه الحالة؟ يجب أن نتصور هذا السؤال بالنسبة إلى الفرد وإلى المجتمع، فالفرد في ظروف نفسية أو إقتصادية معينة، يشعر أحياناً أنه فقد مسوّغات وجوده، وقد تبدو

هذه الحالة في نواح شتى، حتى في الفن المسرحي، إذ يقع أحياناً هذا الفرد في حالة خاصة، هي التوتر المرضي الذي هو عكس التوتر الحيوي الدافع إلى مهام الحياة بقوة. فالتوتر المرضي يدفع الفرد الذي فقد مسوّغات وجوده إلى الأنتحار أحياناً. ولقد يبدو هذا مثلاً في الحالات الغرامية التي يتناولها الفن المسرحي أو القصصي، ولكن إذا أردنا أن نفهم التوتر السلبي هذا بصورة واقعية، فإننا نراها في حالة فرد ينتحر فعلاً، لأنه لا يستطيع أن يحتمل حياة فقدت مسوّغاتها، وقد نراها في سياق ظروف خاصة تحيط بأسرة أو فرد أو في سياق أحداث عأمة تغير مجرى حياة مجتمع. وهكذا يكون تأثيرها في بعض الأفراد أشد عمقاً لأنهم يشعرون خلال هذه الأحداث أنهم فقدوا مسوّغات الحياة. لقد خلقت الحرب العالمية الثانية في أوربا أحداثاً مماثلة، وانتحار وزير الدعاية جورنج مع كل أسرته يعبر بصورة مؤثرة عن هذا المظهر. وفي سنة ألف ميلادية أيضاً سادت أوربا حالة (فقدان المسوّغات)، لأن الناس اعتقدوا أنها سنة الفناء والقيأمة فحدثت بسبب هذه التوقعات حوادث انتحار كثيرة. هذه صورة القضية بالنسبة إلى الأفراد، أما بالنسبة إلى المجتمعات، فإن فقدان المسوّغات يؤدي إلى تغيرات تاريخية عميقة، نجد نموذجها في صورتين. إن العالم الإسلامي عندما قدم للإنسانية الحديثة نتاجه العقلي من علوم وتشريع يمثل خطوة جديدة في تطور القانون، الخطوة التي وضعت علم الاصول. وعندما قام بالدور الحضاري الذي وصل بين الحضارات العتيقة وحضارة عصرنا، إنما كان مندفعاً بالمسوغات التي أتى بها الإسلام ووضعها في حياته، وكانت في حالة توتر خلاق، التوتر الذي يصنع المعجزات؛ إنما الدوافع السلبية التي خلفتها (صِفّين) في المجتمع الإسلامي، تنمو فيه يوماً فيوماً، إلى أن

أتى القرن الثامن الهجري، فأخذت الحضارة الإسلامية في الافول وبدأت الظلمات تغمرها في الأندلس، لأنها فقدت مسوّغاتها فلم تستطع أن تدفع من جديد طاقاتها الاجتماعية، وانطفأت تدريجياً جذوتها الدافعة للضمير واليد والعقل، وأصبحت دوافع الحياة فاترة، وفقدت المصلحة سموها تدريجياً، وهي التي تهدف إليها الطاقات الاجتماعية، حتى أصبحت مسوّغات المجتمع الإسلامي حيوانية عليها غلاف من إنسانية بسيط، تعبر عنه فلسفة ساذجة أفرغت حكمتها الميتة في العبارة التي ترددها الجماهير بالشمال الإفريقي، حيث يقول الفرد عندما يسأل عن مهمة حياته ((نأكل القوت وننتظر الموت))، ولا يوجد تعبير أكثر وضوحاً من هذا التعبير عن مجتمع فقد تماماً مسوّغات الوجود. ولا شك أننا لو درسنا التاريخ الإسلامي في ضوء هذه الاعتبارات، لوجدنا أن المجتمع الإسلامي واجه أزمة فقدان المسوّغات منذ زمن مبكر، وأن الحركات الإصلاحية، التي نشأت فيه في مختلف صورها، تعبر عن هذه الازمة بما فيها الحركة الصوفية التي تمثل إلى حد ما الدوافع السلبية، التي تدفع إلى انتحار الفرد الذي فقد مسوّغات حياته، فالصوفي يخرج أيضاً عن النظام الطبيعي للحياة، ويتخلص من مسؤولياتها عن طريق الاوراد والسبحة، كما يتخلص المنتحر العادي عن مسؤولياته بوسيلة الخنجر، فالصوفي ينتحر بوسائل الروح. فهذه الازمة التي عاناها المجتمع الإسلامي منذ عهد مبكر، هي التي أوحت إلى الغزالي بمحاولته عندما كتب (إحياء علوم الدين). إن حجة الإسلام كان يشعر ولا شك أن المجتمع الإسلامي قد فقد مسوّغاته، وأراد هو أن يقدم له أو يعيد له المسوّغات الضرورية عن طريق كتابه. ولقد ندرك مقدار نجاحه أو فشله في محاولته هذه على ضوء التاريخ، إدراكاً لم نر معه العالم الإسلامي قد استعاد مسوّغاته المفقودة عن طريق التصوف أو عن طريق كتاب (إحياء علوم الدين).

وها نحن أولاء في القرن العشرين أمام مأساة أخرى، مأساة المجتمع الغربي، الذي يمر بدوره بأزمة فتور، لأنه فقد مسوّغاته التقليدية، المسوّغات التي أعطت للشخصية الاوربية في القرن التاسع عشر أقصى توترها، عندما كانت أوربا تؤمن بالتقدم العلمي وبالحضارة وبالإستعمار رسالة حضارية، فكانت هذه المسوّغات تحرك وتوجه كل الطاقات الاجتماعية: اليد والقلب والعقل في أوربا، وتوحد صفوفها في العالم، إذ كان الاوربي ينظر إلى التقدم العلمي ميزة يمتاز بها عقله، وإلى الحضارة على أنها فطرته، وإلى الإستعمار على أنه امتداد حضارته خارج حدود أوروبا. وقد كانت هذه الأشياء وعلى الاقل الشيئان الأولأن منها، تحقق الإجماع في الداخل في حدود أوربا والإعجاب في الخارج خارج حدودها. وحينما جاءت الحرب العالمية الأولى بدأت أوربا تفقد ثقتها في مسوّغاتها، وبدأت هذه المسوّغات تفقد قداستها، لأن التقدم العلمي لم يبق شيئاً مسلماً به، شيئاً فوق المناقشة، بل أصبح غير كاف بوصفه مسوّغاً يحقق الإجماع في الداخل والإعجاب في الخارج. ثم أتت الحرب العالمية الثانية فحطمت نهائياً وحدة أوربا المعنوية وقداسة مسوّغاتها، وكان من أعمق آثارها في الحالة النفسية الاوربية، أن الإستعمار قد فقد قيمته بوصفه مسوّغا لا من الناحية الأخلاقية الخاصة ببعض الضمائر الاوربية الممتازة فحسب، بل فقد حتى قيمته الواقعية، إذ لم يصبح في استطاعة الشاب الاوربي أن ينظر إلى خريطة الأرض كما كان ينظر لها في القرن التاسع عشر، عندما كان ينظر إلى كل بقعة بيضاء على الخريطة، على أنها من مجاهل الأرض التي تنتظر اكتشافه، أي على أنها البلاد المعدة لامتداد شخصيته في هذا الكون. فالاوربي أصبح يرى اليوم تلك البقاع البيضاء ملونة، وأهلها ثائرون على سلطته، ساخطون على حضارته، في الوقت الذي ينشر فيه كتاب لغاندي

بعنوان (حضارتهم وخلاصنا)، وهذا يعني أن الحضارة الغربية بعد أن فقدت الإجماع في الداخل خلال الحرب العالمية الأولى قد فقدت الإعجاب في الخارج بعد الحرب العالمية الثانية، التي قضت نهائيا على المسوّغات التقليدية التي صاغت التاريخ الاوربي في القرن الماضي، والآن فأوربا تعاني بدورها أزمة فتور لأن مسوّغاتها التقليدية أصبحت كلمات جوفاء وعملة مزيفة، وأصبح الاوربي يشعر شعوراً خفياً واضحاً أنه يتعامل بعملة مفلسة فقدت قيمتها. ولكن يجب أن نترجم هذه الصورة الرمزية المعبرة عن فقدان المسوّغات في المجتمع الغربي في واقع هذا المجتمع، وفي صميم نشاطه كي ندرك المعوقات التي يشعر بها الشاب الاوربي اليوم، وشعور الحرمان الذي بدأ يتفشى فيه، فهو يواجه أزمة الحيرة التي تنذر بتغير جذري، فهو في ساعة الخطر التي مر بها المجتمع الإسلامي، عندما كان الغزالي يبحث له عن مسوّغات جديدة، يجدد بها نشاطه الحضاري، وقد علمنا أن كتاب (الإحياء) لم يف بتلك الغاية، لأن المجتمع الإسلامي استمر في طريقه نحو الفتور، نحو الإفلاس سواء في الصورة الصوفية أو في الصورة الفوضوية. فالمجتمع الغربي يمر اليوم بهذه الساعة، وقد نجد أثر هذه الازمة حتى في الادب الغربي المنتشر اليوم أي الادب الوجودي، فهو في الواقع، وربما لا يشعر من يمثله، أنه في الواقع محاولة تدارك لفقدان المسوّغات، أو على الاقل تعبير عن هذا الفقدان. وهذه النزعة نجدها في كتب (ج ب سارتر) أكثر من غيره من الادباء، الذين يمثلون الوجودية اليوم، فسارتر يعبر بألسنة أبطاله وبصفة ملحة، عن هذه الحيرة، كما يبدو هذا في كتاب (الغثيان) حيث يقول أحد أبطاله: ((تأخذني الرغبة في السفر إلى مكان أجد فيه مكاني ... ولكنني لم أجد مكاناً في العالم)).

ويقول في قصة أخرى له على لسان بطله: ((إنني خرجت من هذا العالم فبقي ممتلئاً مثل البيضة، كأن كياني لم يكن له ضرورة)). ويقول أيضاً في موضوع آخر ((إنك في هذا العالم- يا مسكين- دخيل وزائد مثل شظية خشب تحت الجلد)). وليست العبارات الوجودية هذه إلا تعبيراً عن أزمة مجتمع لم يصبح فيه للأفراد مسوّغات لكيانهم. فالقضية إذن ليست خاصة بالمجتمع الإسلامي، فهي في كل مجتمع تنحصر في فقدان الشروط التي تحقق التوتر في نشاطه وبعثه إلى أسمى الغايات. والمجتمع الإسلامي يمرّ اليوم بحالة إرهاص، قد عبرت عنها أقلام الادباء بكلمة النهضة، فالعالم الإسلامي يجمع قواه للدخول من جديد في معارك الحياة وخضم التاريخ. وعلى هذا فهو في لحظة من لحظات التيه والحيرة، لأن ساعة الخطر تدق مرتين: فهي تدق في اللحظة التي يفقد فيها المجتمع مسوّغاته التقليدية، المسوّغات التي أطلقت طاقاته ووحدت جهوده، وتدق في اللحظة التي يبدأ يستعيد فيها مسوّغاته المفقودة أو يبحث عن مسوّغات جديدة. فالعالم الإسلامي اليوم في ساعة الخطر، لأنه يشعر بفقدان المسوّغات التي رفعت شأنه في القرون الأولى وحققت رسالته في التاريخ. وينبغي على كل مسلم أن يدرك هذه الأشياء، وأن يفكر جدياً في القضية، كي يدلي بالنصيحة الواقعية والإرشاد السليم، بالنسبة إلى اختيار المسوّغات الكفيلة بخلق توتر جديد في النشاط الإسلامي. ولا ننسى في مثل هذه الساعة الحاسمة أن أسمى المسوّغات هي التي تهبط من

السماء في قوله عز وجل {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56/ 51] شريطة أن نفهم هذا المسوّغ السامي السماوي بمعناه التاريخي، الذي أنار آفاق الإنسانية بنور الحضارة الإسلامية، لأن الإسلام أتى بالمسوّغات الكفيلة بتحقيق أقصى ما يمكن من التوتر في الطاقات الاجتماعية، وأسمى ما يمكن من المصلحة التي تخدمها تلك الطاقات. ***

قيم إنسانية وقيم اقتصادية

قيم إنسانية وقيم إقتصادية محاضرة ألقيت بنادي الطلبة الفلسطينيين سنة 1960

سادتي: إن لكل جيل مراكز تفكير معينة، تحددها ضرورات الحياة وروح العصر، أي الفلسفة العأمة التي تسيطر على الأفكار، لا في مستوى النخبات المثقفة فحسب، بل في مستوى المجاهير، فتتكون هكذا نقط تقاطع والتقاء، تتقاطع أو تلتقي فيها التيارات الفكرية التي تعبر عن روح العصر. فالجيل الذي عاش في القرن التاسع عشر اكتشف مع آدم سمث ومع كارل ماركس، قيمة الواقع الإقتصادي في تحديد الظاهرة الاجتماعية، فأصبح الإقتصاد أحد مراكز التفكير، المركز الذي تلتقي فيه الأفكار بحدة، إما لأنها أفكار عملية تبحث عن سبل جديدة لتيسير الحياة المادية، أو أنها أفكار نظرية تحاول فهم الظاهرة الاجتماعية في ضوء الإقتصاد، أو أحياناً لأنها هذا وذاك. ولقد نما هذا الروح في القرن العشرين، فتأكدت فيه مراكز التفكير الإقتصادي، حتى إنه يمكن تعريف هذا القرن بأنه يخضع لقانون التوسع الإقتصادي، كما كان القرن السابق يخضع لقانون التوسع الإستعماري، وحتى أصبح الإقتصاد ميزة ومقياساً تقاس به الأشياء، في داخل بلد معين، فنقول عنه إنه في حالة نمو إذا كان إقتصاده نامياً، أو بالقياس مع بلد آخر فنقول عن أحدهما إنه متخلف إذا كان إقتصاده كاسداً. ثم أتت الحرب العالمية الثانية فكان من بين المحصول الطائل الذي خلفته، من العلوم النظرية والتطبيقية ومن بين المفاهيم الجديدة التي أضافتها إلى عالم الأفكار، أنها خلفت بالنسبة إلى الشعوب الإفريقية الآسيوية مفهوم التخلف، الذي يعبر عن وضع اجتماعي خاص بهذه الشعوب ويمكن تصويره ببعض الأرقام.

فلو استعرنا من أحد المصادر المختصة (1) إحصائية متوسط الدخل السنوي للفرد في العالم، وقدرنا هذه الأرقام بالقيمة الاجتماعية لا بالقيمة المالية، أي لو قدرناها بما تكفل من ضمانات اجتماعية في وطن معين، ثم لو وزعنا هذه الأرقام على الخريطة، فإننا سنجد أنها تحدد قارتين: قارة تتمتع بمتوسط دخل سنوي للفرد يتراوح بين 1850 دولاراً و 200 دولار، والأخرى يتراوح متوسط الدخل السنوي فيها بين 200 و 38 دولاراً. فإذا قدرنا (2) أن الحد الادنى الذي يكفل الضمانات الاجتماعية لا يمكن أن يكون دون 200 دولار، أي متوسط الدخل في اليابان، فإننا نرى أن توزيع الأرقام على الخريطة يصور فعلا قارتين: قارة يُسْر تمتد من واشنطن إلى موسكو وطوكيو، وقارةُ عُسْر تمتد من طنجة إلى جاكرتا. فكلمة (عسر) ليست هنا إلا التعبير الادبي عن الواقع الاجتماعي الذي يعبر عنه مصطلح (تخلف)، وليست هذه الكلمة هي المهمة في حد ذاتها، وإنما الواقع الذي تعبر عنه. ولقد أخذ هذا الواقع مكانه في الدراسات الإقتصادية التي تخصصت فيها مؤسسات ومعاهد علمية، كما أخذ مكانه أيضاً في بعض الدراسات السياسية التي تهتم بمصير البلاد الإفريقية الآسيوية، مثل الكتاب الذي ألفه بهذا الشأن السفير الهندي (بانيكار) تحت عنوان (مشكلات الدول الجديدة). فمشكلات التخلف تهم إلى حد بعيد البلاد الإسلامية، سواء في الصورة السياسية أم في الصورة الإقتصادية، ويبدو الأمر أكثر أهمية في الصورة الثانية، لأن هذه البلاد تواجه الازمة الإقتصادية، لا من الناحية المادية التي تسد الحاجات الضرورية فحسب، ولكن من الناحية المعنوية أيضاً لأنها ترتبط روحاً وفكراً بالعصر الذي يجعل القيم الإقتصادية في الدرجة الأولى من سلم القيم.

_ (1) مثل جمعية الامم. (2) وهذا التقدير يقرره الواقع في البلاد التي ندرس أحوالها مثل اليابان.

والبلاد الإسلامية تواجه مشكلة البناء الإقتصادي، وهي في هذه الحالة لا تدرس فقط الموضوع، بل أصبحت هي ذاتها موضوع الدراسة، كما تدل على هذا بعض العناوين التي ظهرت أخيراً في المكتبات الاجنبية مثل كتاب (الإسلام أمام التطور الإقتصادي) للكاتب الفرنيسي (جاك اوستري). فالمشكلة إذن مشكلتنا نحن معشر الشعوب التي تعيش حول محور طنجة جاكرتا عأمة، والشعوب الإسلامية خاصة. ولا يمكن حل هذه المشكلة إلا على أساس التفكير الاجتماعي الجاد، لأنها مشكلة اجتماعية في صميمها. ويجب أن نلاحظ، أن تيار التفكير الاجتماعي الحديث له مدارس متعددة، ومناهج أحياناً متباعدة، ولكن لا يخلو في هذه الظروف كلها من أن يكون مركز هذا التفكير الإقتصاد، ولابن خلدون قصب السبق في الموضوع فقد فطن إلى هذه الظاهرة، فكان أول من رأى أهمية العامل الإقتصادي في الواقع الاجتماعي، وكأنه بذلك يحدد مركز تفكير جديد. أي المركز الذي سيأخذ في المدرسة الماركسية قيمة نادرة تستقطب الأفكار حول فكرة الإقتصاد. فالعالم الإسلامي يكتشف اليوم قيمة العامل الإقتصادي في ضروراته الحيوية، ليس فحسب فيما يتعلق بحياته المادية في المستوى القومي، بل فيما يتعلق بمقتضيات السياسة في المستوى الدولي أيضاً، لأن الإقتصاد أصبح يشارك الديبلوماسية في تحديد مكانة بلد ما في العالم. على أن العالم الإسلامي لا يملك نظرة أو نظرية خاصة في الإقتصاد تتواءم مع ضروراته ومع إمكانياته في وقت معاً. فتراه يندفع في مشروع إقتصادي يخططه إقتصاد أجنبي، على أسس أتقنتها تجربة في بلد مصنع، أي بلد لا يخضع فيه النشاط لعوامل التخلف، وهكذا يخفق المشروع في النهاية. ونحن نستحي أن نذكر عدد المشاريع الإقتصادية التي أخفقت في البلاد الإسلامية.

وأسباب الإخفاق هذا يعود لامرين: فقد يقدر الاختصاصي المشروع بصورة تتجاوز إمكانيات البلد المادية، وقد تكون شروط التنفيذ التي وضعها ذلك الاختصاصي، أي الاسس التي بنى عليها تتناقض مع بعض عوامل التخلف النفسية (1). وبعبارة أخرى فإن الاختصاصي يضع المشروع بعيداً عن عدة البلد أو فوق استعداداتها أو فوق الأمرين معاً. والخطأ من جانب الاختصاصي الاجنبي الذي يخطط المشروع، يعود إلى أنه يدلي بآراء تكون صحيحة في نطاق تجربته الشخصية كما حددتها ظروف بلاده، غير أنها تصبح نسبية أو دون جدوى في بلد تمر تجاربه في ظروف أخرى. أما الخطأ من جانب البلد الإسلامي الذي يلجأ إلى مثل هذا الاختصاصي الاجنبي، كما لجأت جمهورية إندونيسيا إلى الدكتور (شاخت) في السنوات الأولى بعد التحرير، فلأنه ككل مجتمع ناشئ يمر بمرحلة طفولة تفرض عليه سيطرة الأشياء أو عقلية الشيئية، لأن الاطفال يمرون بثلاث مراحل في طفولتهم، فهم يرتبطون أولاً بعالم الأشياء، قبل أن يدخلوا عالم الأشخاص وقبل أن يصلوا إلى عالم الأفكار الذي يمثل بالنسبة إليهم سن الرشد، فالمجتمع الإسلامي عأمة في سن الأشياء، تسيطر عليه العقلية الشيئية، حتى إن الأفكار التي يدلي إليه بها الاختصاصي الاجنبي، تفقد قيمتها بصفتها أفكاراً ترتبط بأصولها في نطاق نظرية تتيح تطويرها في سياق ظروف جديدة، بل تصبح أشياء تفقد المرونة مع الظروف، أو إذا شئت قلت إنها تصبح أفكاراً متحجرة فقدت إشعاعها، وبفقدها لإشعاعها تفقد إمكان مسايرة الحياة في حدود المبادئ وفي نطاق الاصول التي تمت إليها. فالبلد الإسلامي الذي يطلب ويقبل نصيحة من عالم إقتصاد أجني، يحجر

_ (1) إنني تناولت بالبحث هذا الجانب في كتاب الفكرة الإفريقية الآسيوية، فصل (مبادى إقتصاد إفريقي آسيوي فعال).

هذه النصيحة دون أن يشعر بذلك، فتفقد في متناوله كل ميزاتها لمسايرة ظروف الحياة المتغيرة، فالأفكار التي يدلي لنا بها هذا الاختصاصي لا تصبح في متناولنا حقائق يعطينا معناها الحياة، بما تكشف لنا ما وراء تلك الحقائق من أسباب أو أصول، بل تصبح كلمات نبحث عن معناها في القاموس. وهكذا لا نستطيع تطبيق الأفكار المستعارة في سياق حياتنا، وإنما نقلدها في الصورة التي يطبقها فيها غيرنا في حياته، وهذا يجعلنا نزهد في استخدام كل إمكانياتنا في بناء إقتصادنا، لأننا نريد أن نقلد إقتصاد الآخرين كما يضعونه بوسائلهم الخاصة المتطورة التي ليست في متناولنا في مرحلة تطورنا، وهكذا يضيع علينا بعض إمكانياتنا حين لا ندرك قيمتها وراء الكلمات التي أدلى بها الاختصاصي الذي خطط لنا، وهكذا يضيع الوقت أيضاً. إن الاختصاصي تكلم لنا عن مقومات الإقتصاد، فذكر وسائل الإنتاج، وسعة الإنتاج، وعن الإطارات الفنية، وعن تركيز رؤوس الأموال. فأخذنا بهذه المصطلحات بالحرف، وفق معناها في القاموس، وانزلقنا هكذا في التقليد الإقتصادي، كما انزلقنا وننزلق في التقليد في الادب وفي اللباس وفي الذوق، وأصبحنا نعمل في الحقل الإقتصادي بوسائل دون وسائل غيرنا لأننا لا نملك وسائلهم، ودون وسائلنا لأننا لا نعرف قيمتها الواقعية، في مشروع جرى تقديره بأفكار تحجرت حين تناولناها، وأصبحت لا تسير مع ظروف حياتنا الخاصة. يجب إذن أن نعيد النظر في القضية على أساس أن وسائلنا ليست في رصيد ثروة صناعية مجهزة بكل الطاقات الميكانيكية، وإنما في رصيد ثروتنا الطبيعية المجهزة بالطاقات البشرية. ولا بد أن نلاحظ من ناحية أخرى أن العوامل الإقتصادية كلها، مهما كانت

درجة تعقدها، هي في مرحلة أولى، نتيجة الإنسانية الأولية، وأنه من الممكن إذن لبناء الإقتصاد في بلد في مثل هذه المرحلة، أن نقدر القيم الإقتصادية بالقيم الإنسانية، أي أن نحدد المصدر الأول في الثروة الطبيعية التي تحت تصرفنا. يمكننا أن نضع على هذا المنوال القائمة التالية: الإنسان .......... الإقتصاد (1) اليد والوقت .......... وسائل إنتاج (2) عقول .......... إطارات فنية (3) تركيز العمل .......... تركيز رؤوس أموال فبالنظر إلى هذا الجدول البسيط يتبين من اللحظة الأولى، أن القيم الإقتصادية المذكورة في العمود الثاني صادرة كلها عن الأسباب المذكورة في العمود الأول، حتى بالنسبة إلى تركيز رؤوس الأموال، إذا لاحظنا أن المال ما هو إلا العمل المخزن في صورة متنقلة. بالإضافة إلى هذا، فالجدول يكشف لنا عرضاً، لأي سبب يعود الضعف، إلى درجة معينة، في المشروعات الإقتصادية المخططة على أساس الاعتبارات الفنية فقط، أي الاعتبارات الإقتصادية المجردة، التي لا تأخذ في حسابها العامل الإنساني مع جميع الظروف التي تحتويه. فمن الواضح أن الإنتاج الميكانيكي نفسه والإطارات الفنية، وفعالية رؤوس الأموال، وبكلمة أخيرة جميع القيم الإقتصادية، ترتبط من حيث التأثير والفعالية، بحالات خاصة تتصل بالعوامل الإنسانية، حتى إن الآلة الميكانيكية ذاتها يزيد أو ينقص إنتاجها حسب ما يعتري الوسط الإنساني، الذي تعمل فيه من حالات توتر أو فتور، أو بعبارة أخرى حسب قيمة المسوّغات الموجودة وراء نشاطه.

ولو حللنا بعض المشروعات الإقتصادية التي نفذت أو في حيز التنفيذ في البلاد التي تمر بمرحلة البناء لأدركنا قيمة العامل الإنساني في هذه المشروعات، كما ندرك هذا من خلال السياسة الديمغرافية التي اتبعتها الصين الشعبية في السنوات الأخيرة، نرى هذا البلد يحدد النسل أولاً ثم يتراجع فوراً عن هذه الخطة، لأن القيادة أدركت، في ضوء معلومات جديدة، قيمة العامل الإنساني في البناء الإقتصادي، الذي قام بالدور الأساسي في التخطيطات السابقة وفي التخطيط الذي يجري الآن. كما أنه بإمكاننا أن نستزيد من التوضيح بهذا الصدد لو عقدنا موازنة بين تجربتين: جرت الواحدة منهما ببلاد مصنعة، فقدت في ظروف معينة كل المقومات الإقتصادية المذكورة في العمود الثاني من جدولنا السابق، ثم استعادتها باستخدام المقومات الإنسانية الأساسية الموجودة في الثروة الطبيعية، التي هي في رصيد كل شعب، وجرت التجربة الأخرى في بلاد تقع في قارة التخلف، وشاء أن يتصنع بالطرق الفنية التي ينصح بها عالم في الإقتصاد كالدكتور شاخت. فهذه الموازنة بين محاولة جرت بأندونيسيا، ومشروع في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، تجعلنا نتساءل: لماذا أخفق تحقيق الدكتور (شاخت) في إندونيسيا، مع أنه صادر من عالم إقتصاد أجدر من غيره لتقديم النصيحة في هذا الصدد. فقد نجح تماماً المشروع الألماني تحت إشراف الدكتور (أهرارد)، بعد الحرب العالمية الثانية، أي في السنوات نفسها، مع اختلاف الظروف الأخرى من وجوه عديدة اختلافاً يؤيد وجهة نظرنا: 1 - فألمانيا لم تفقد على أثر الحرب العالمية الثانية المقومات الإقتصادية الخاصة بدولة مصنعة فحسب، بل فقدت معها المقومات السياسية، أي سيادتها حتى لم يبق بيدها إلا الوسائل البدائية الطبيعية الموجودة في ثروة كل شعب. 2 - ثم إن هذه الثروة الطبيعية ذاتها في ألمانيا التي تعد بلاداً ذات طبيعة

فقيرة، لا تساوي ثروة إندونيسيا التي تعد من حيث الطبيعة، أغنى بلاد الله في الأرض. فعندما نعقد الموازنة بين التجربتين، مع مراعاة الظروف التي أحاطت بكل واحدة، وفي ضوء ما قدمنا عن التجربة الصينية، فإن دور القيم الإقتصادية يتضاءل أمام القيم الإنسانية. فالتجربة الألمانية نجحت لا لأنها تصرفت في عدد أكبر من الوسائل الفنية، مما كان في رصيد التجربة الإندونيسية، ولكن لأنها تصرفت في وسائل وقيم إنسانية تتسم بفعالية أكثر. وإذا أردنا أكثر تفصيلاً عن سبب النجاح من ناحية والفشل من الناحية الأخرى نرى: أن مشروع الدكتور (شاخت) في إندونيسيا أخفق، لأن هذا الإختصاصي أغفل جانباً هاماً في العملية الإقتصادية، وعاملاً أساسياً فيها، ألا وهو الإنسان، فقد خطط مشروعه المذكور في ضوء معلوماته عن الإنسان الألماني، الذي يحمل في معادلته الشخصية معطيات تجربة اجتماعية سابقة، بينما لا يجد إنسان إندونيسيا في طوره الحاضر هذه المعطيات في معادلته الشخصية. إن عنصر الحركة الدافعة في الإنسان أو ما نطلق عليه اسم الفعالية، يدخل في بناء الشخصية عن طريق التمثل النفساني لعناصر ثقافية معينة، يمتصها الفرد في الجو الاجتماعي الذي يعيش فيه. كما يمتص الحيوان العناصر الحيوية عن طريق التنفس في الجو الطبيعي. ولا شك أن الفعالية تتركب في بناء الشخصية بكل بساطة، عن طريق تنسيق حركي تأليفي للمقومات الأولية: الفكر، اليد، المال بمعناه الصحيح أي باعتباره العمل المخزون.

فعندما نرى تجربة نجحت في بناء إقتصاد، فمعنى ذلك أن شخصية معينة نجحت، كالشخصية الألمانية في بناء الإقتصاد الألماني بعد الحرب العالمية الثانية، وعندما نرى الإقتصاد الروسي ينجح بعد ثورة 1917، وبعد الكساد الذي عرفته روسيا القيصرية، فهذا لا يعني أن آلات جديدة بدأت تنتج في روسيا، بقدر ما يعني أن شخصية جديدة بدأت تنتج، أي تنسيقاً جديداً لحركات العقل واليد والمال بدأت تظهر آثاره المحسوسة، فنجاح العامل السوفييتي (استاخانوف) في إنتاج الفحم الحجري يعني أولاً وقبل كل شيء ظهور شخصية جديدة تمتاز بفعالية أكثر من الإنسان الرويسي Moujik الذي كان قبله. ولا يقنع أن نقول عن (استاخانوف) إنه عبقري، فهذه الكلمة تصف فرداً ولكنها لا تفسر ظاهرة على جانب من الأهمية العملية، إذ أصبح نجاح هذا العامل السوفييتي قاعدة لمذهب يعطي للعامل الإنساني القيمة الرئيسية في الإنتاج. فالتفسير للظاهرة التي نشاهدها في عمل فرد مثل (استاخانوف)، أوسع من قضية هذا الفرد سواء كان عبقرياً أوغير عبقري. ويمكننا هنا أن نلاحظ ملاحظة عأمة عن تأثير الثورة في بلد ما، على المعادلة الاجتماعية التي تمثل القيمة التي يجب أن نقدر بها الإنسان من الناحية الاجتماعية. فالثورة الفرنسية مثلا وضعت الإنسان أمام ضرورات سياسية، تتطلب تغيير النظم والمؤسسات البالية بنظم ومؤسسات جديدة، في نطاق دستور جديد. أما ثورة مثل الثورة الروسية فإنها وضعت الإنسان أمام ضرورات نفسية، تتطلب تغييراً أساسياً في الإنسان ذاته.

وهذا الاختلاف يعود إلى أن المستوى الثقافي أو الحضاري الذي كان عليه الإنسان الروسي، لم يكن يدعو إلى تغيير كبير في نفسه، وإنما في محيطه الاجتماعي، بينما كان مستوى الإنسان الروسي قبل الثورة يدعو إلى تغيير عميق في معادلته الشخصية قبل كل تغيير خارجي. وهذه الملاحظة لها قيمتها بالنسبة إلى تشخيص المشكلات وكيفية مواجهتها، فالطفل لا يشعر بها، وإن واجهها فإنه يواجهها بمنطق الأشياء لا بمنطق الأفكار. فعمر الإنسان الروسي كان عمر الطفل من الناحية النفسية، فكان على الثورة أن تغير منطقه الاجتماعي، بتغيير معادلته الشخصية. فالمشكلة التي تواجه الإنسان المسلم هي هذه نفسها، فهي مشكلة الإنسان الذي يعيش في عهد ما قبل الحضارة، أي الإنسان الذي يحب وضعه أمام ضرورات نفسية قبل كل شيء، تلك الضرورات التي تتطلب تغيير المعادلة الشخصية. المعادلة التي تفرض عليه في حالته الراهنة منطق الأشياء: فالمسلم اليوم يضع مشكلاته في حدود الأشياء، أي الحدود التي لا تتسع لظروف الحياة المتغيرة، بينما الأفكار وحدها تستطيع مسايرة ظروف كالظروف القاسية التي أحاطت ببناء الإقتصاد الألماني بعد الحرب العالمية الثانية. يجب أن نوضح هذا الضيق في نطاق الأشياء بمثل محسوس، فلو افترضنا أن فرداً طلب منا العمل، لتصورنا الجواب على سؤال كهذا في صورتين: 1 - يمكن أن نلقي نظرة على قائمة تشغيل في مصنع معين، أو على أرقام ميزانية معينة، أي أن نستجوب (الأشياء) كي نصوغ جوابنا على سؤال الرجل، ويحتمل أن نقول له إنه لا يمكننا تشغيله لأننا وضعنا قضيته في حدود الأشياء - مصنع وميزانية- التي لا تتسع لتشغيله في ظروف معينة.

2 - ويمكن أن توضع القضية المعروضة في حدود الأفكار مباشرة، فنصوغ جوابنا لا حسب التقديرات الشيئية التي تقدر في نطاق المصنع والميزانية، وإنما حسب مقتضيات المبدأ الذي يقرر بصورة عأمة: هذا الرجل يجب أن يعمل. هكذا نرى بكل وضوح أن الجواب في الصورة الأولى قد ضيق نطاق الإمكانيات منذ اللحظة الأولى، لأننا وضعنا القضية في حدود ضيقة بطبيعتها، لأنها حدود الأشياء التي لا تتسع لمجرى الحياة المتنوعة في كل حين. أما الجواب في الصورة الثانية فإنه يفتح آفاقاً متسعة، تتسع لكل الاحتمالات، لأنها تشمل جميع الطاقات الاجتماعية التي يمكن توظيفها في بناء إقتصاد، إذ توظف مثلاً العوامل الإنسانية البسيطة- اليد، الفكر، المال- دون انتظار الشروط الفنية. أي الوسائل الميكانيكية، والإطارات الفنية بمعناها الضيق الذي نجده في قاموس إقتصادي عادي. ومما يجدر ذكره بهذا الصدد، أن النهضة الإقتصادية في اليابان سارت ونمت بوسائل بدائية، وضعها اليابان على نطاق متسع في الإنتاج المنزلي، الذي قام بدور رئيسي في بناء الإقتصاد الياباني الضخم. ولكن نعلم مما تقدم أن فعالية العوامل الإنسانية البسيطة ليست مضمونة في سائر الظروف. فهي مشروطة بظروف تاريخية نفسية معينة، يمكن أن نحددها سلبياً فنقول: إن هذه الشروط لا تتحقق في مجتمع لا زال في عمر الطفولة، أي لا زال مرتبطاً بمنطق الأشياء يعيش في المرحلة التي نطلق عليها ما قبل الحضارة. وهكذا يمكننا أن نحدد التخلف بعد أن حددناه بأرقام متوسط الدخل السنوي، على أنه الحالة الاجتماعية التي يكون عليها إنسان ما قبل الحضارة، الإنسان الذي يضع مشكلاته في حدود الأشياء.

ويترتب على هذا أن العلاج الجذري لمشكلات التخلف، ليس في مواجهة هذه المشكلات بوسائل جاهزة، أنتجتها حضارة شقت طريقها، وخرجت من المرحلة البدائية المتسمة بمنطق الأشياء ونفسية الشيئية، بل لابد من مواجهتها بإنشاء حضارة، توظف الطاقات الاجتماعية الموجودة، مهما كانت الظروف ((وتنشئ تدريجياً وسائلها الفنية بقدر ما تتخلص من رواسب ومعوقات ما قبل الحضارة)). ***

الديمقراطية في الإسلام

الديمقراطية في الإسلام محاضرة ألقيت بنادي الطلبة المغاربة سنة 1960

سادتي: ورثنا نحن معشر الشعوب الإسلامية، كما ورثت معنا وفي الظروف نفسها الشعوب الإفريقية الآسيوية، التي خضعت مثلنا للدول الإستعمارية، واحتكت بثقافتها وحضارتها في إطار الإستعمار، ورثنا من هذا الاتصال بحم القانون الذي يفرض على المغلوب عادات وتقاليد الغالب، ورثنا المقاييس المرتبطة بحياة العالم الغربي. وبتجربته التاريخية، وتقبلنا بعضها لنقشى بها الواقع الاجتماعي لدينا، ونوازن على ضوئها ماضينا بما يسحر أبصارنا في حاضر هذه الامم الغربية. هذه الامم التي فرصا علينا عاداتها ومفاهيهها ومصطلحا! اوأسلوب حياتها، وهكذا رأينا هذه الأشياء مس! ات يقتدي بها فكرنا ويهتدي بها اجتهادنا، ويستدل بها منطقنا، دون أن نحقق في درجتها من الصحة واتفاقها مع جوهر شخصيتنا، وفلسفة حياتنا. وكان أثرها في تفكيرنا أن أصبحنا نتناول! ني كتابتنا وفي حديثنا موضوعات جديدة، مثل موضوع هذا الحديث أي الديمقراطية في ال! سلام. إننا حينها نقدم عنواناً كهذا لا نشعر عادة بأنه يتميهن فسَلَّمة! يسلم بها أحد تسليم القتنع، وإنما نسلِّم بها خضوعاً لمسايرة العرف الذي فرضته علينا الحضارة الغربية، حتى أصبحنا نفم إلى الإسلام كل ما نعتقد أنه ذو قيمة حضارية، دون أي تمحيص ف! يربطه أو يحدد درجة ارتباطه بالإسلام أو يتره عنه الإسلام. فالديمقراطية من تلك العناصر التي نتقبلها لنضيفها إلى التراث الإسلامي، مقتنعين بما يسوّغ هذه الإضافة، ولو بصورة شكلية، حق يصبح الموضوع لا يفتح بابه على نقطة استفهام: " هل توجد ديمقراطية في الإسلام؟ " بل ندخل فيه مباشرة من باب الس! ات، فنقول: " صفوا لنا الديمقراطية الموجودة في الإسلام ".

إن مشكلة الربط بين هذين المصمطلحين هي في نظري المشكلة الأساسية في الموضوع: يجب أولاً أن نميز بينهما وأن نعطي لكليهما ما تستحق شخصيته من التعريف، حتى يتبين في ضوء هذا التعريف أي قرابة توجد بين الصطلحين. وعليه يجب في خطوتنا الأولى أن نوضمح وأن نرف مصطلحاتنا: ما هو الإسلام؟ وما هي الد يمقراطية؟ ولا بد هنا من ملاحظة: أن كل مصطلح كان في زمن ما كمة محدثة، وإننا نعرف بالضبط متى حدثت ك! ة (إسلام) في اللغة العربية وبمعناها الدارج، إنها لا شك من ابت! ر القرآن الكريم. ولكننا على جانبا أقل من العرفة ف! يخص مصطلح (ديمقراطية)، فنحن لا نرف متى درجت في اللغة الربية بو! مفها مفردة مستوردة، ولا نعرف حتى تاريخ حدوثه في لغته الاصملية، إنما نعرف أنه صيغ في اللغة اليونانية قبل ع! ر (بريكلاس)، إذ أن الؤرخ (توسديد) يذكره على لسان هذا القيصر في إحدى خطبه الوجهة إلى شعب أثينة، أي منذ خسة قرون قبل اليلاد. هكذا نرى المملة مفقودة بين الصطلحين بالنسبة إلى الزمان وإلى ال! ن، وربما أمكن القول مجازفة، نظراً لهذا التباعد من حيث التاريخ ومن حيثا الجغرافية، بأن لشى هناك " ديمقراطية في الإسلام ". ومن جهة أخرى فبقدرما يكون اللفظ مشحوناً بالتاريخ، أي بقدر ما تكون له من جذورفي واقع وتاريخ البشر، كما هو شأن الكمتين اللتين نحللهما، يكون شيء من التباس في هذا اللفظ التباساً يلبسه أحياناً معاني متعددة. يجب إذن أن نرفع هذا الالتباس باختيارأي هذه المعاني نقصد بالضبط: إن

كلمة إسلام وكمة ديمقراطية تحتوي كلا! اعلى مضون ثري، يجب من الناحية العملية تبسيطسه إلى أقم! ما يمكن حتى تتشر الوازنة بينهما. ما هي الديمقراطية في أبسط معانيها؟ إن أي قاموس اشتقاق في اللغة الفرنسية يدلنا على أن الكمة مركبة من مفردتين يونانيتين، وتعني (سلطة الشعب) أو سلطة الهاهير، كما تعودنا أن نقول اليوم، أي بتعبير تحليلي موجز (سلطة الإنسان). ومن جهة أخرى ما هو (الإسلام)؟ في أبسط معاني الك! ة لعلنا لا نجد جواباً أفضل على هذا السؤال، من أن نستعيره من جواب الني! ذاته على سؤال ورد في حديث مشهور رواه مسلم والترمذي، والإمام أحمد والبخاري عن أل! هريرة، في روايات هتقاربة قال أبو هريرة: كان الني ى! 2 بارزاً يومأ للناس فأفتاه رجل فقال: ما الإيمان؟ ... الخ .. إلى أن قال ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به، وتقيم الصملاة وتؤدي الز؟ ة وتصوم رمضان. فإذا قصرنا الأمر على ما يتصل بموضوعنا، ووضعنا أمام أعيننا في هذا النص الجواب، الذي يستحق ثقة أكثر جواباً للسؤال المطروح: نرى أن الإسلام هو الإيمان بالله وحده، والقيام بالصلاة وأداء الز؟ ة والصيام. وقد يقولط من يشرح هذا الحديث إنه! يذ! ر الحج لأنه ورد قبل أن يحدد فر! ط الحج. ومهما يكن في الأمر، فها نحن وضعنا للكمتين التحديد المتفق مع أبسط معانيهما. فهل يوجد وجه موازنة بينهما بعد هذا التبسيط؟ أي وجه موازنة بين مفهوم سياسي يفيد جمله تقرير (سلطة الإنسان) في نظام اجتماعي معين، وبين

مفهوم ميتافيزيقي يفيد جمله تقرير (خضوع الإنسان) إلى سلطة الله في هذا النظام أو في غيره؟ هكذا ينتهي الأمر فيما يبدو إلى مناقضة أوما يشبه مناقضة، كما لتي ظهرت بكل وضوح في الشعارات التي نادت بها الثورة الفرنسية في نضالها ضد الكنيسة الا نريد ربأ ولا سيداً)، فهذه الناقضة الصورية تزيد طبعاً في تباعد الصطلحين، وفي صعوبة الوازنة التي نريد عقدها بينهما. ولكن الصعوبة هذه ليست نتيجة الواقع الذي يدل عليه الصطلحان كلا! ا، بل!! اتنتج من كيفية تعبيرنا عن هذا الواقع: إننا قد اخترنا مثلاللتعبير عن الديمقراطية العق اللغوي؟ يعرفه لنا أي قاموس اشتقاق، وهو مرتبط بمَقاليد الثورة الفرنسية التي يعد هذا الصطلح من إنتاجها اللغوي في هذا العصر. ولكن ينبغي علينا في الواقع أن نعيد الكرة في تحديد الديمقراطية، ونحددها دون ربطها مسبقاً باي مفهوم آخر؟ لإسلام، فننظر إليها على أم وجوهها، أي في إطارممومياتها قبل أن نربط الموضوع باي مقياس مسبق. ففي مثل هذا الإطار، الذي ستتضح مسوّغاته ف! بعد، يجب أن ننظر إلى الديمقراطية من ثلاثة وجوه: 1 - الديمقراطية بوصفها شعورأ نحو الى (أنا). 2 - الديمقراطية بوصفها شعورأ نحو الآخرين. 3 - الديمقراطية بوصفها جموعة الشرووو الاجتماعية السياسية الضرورية لتكوين وتنهية هذا الشعورفي الفرد. فهذه الوجوه الثلاثة تتفمن بالفعل مقتضيات الديمقراطية الذاتية والموضوعية، أي كل الاستعدادات النفسية ال! يقوم عليها الشعور الديمقراطي

والعدة التي يستند عليها النظام الديمقراطي في المجتمع، فلا يمكن أن تتحقق الديمقراطية واقعاً سياسياً إن اتكن شروطها متوافرة في بناء الشخصية وفي العادات والتقاليد القائمة في البلد. فهذه الاعتبارات تكوِّن العموميات التي تتحدد في نطاقها المشكلة بما تقتضيه من الوضوح، فهي تدلط خاصة على أن الشعور بالديمقرا! ية مقيد بشروط معينة لا يتحقق بدونها، وهذه الشروط ليست من وضع الطبيعة ولا من مقتضيات النظام الطبيعي، على خلاف ما؟ فت تتصوره الفلسفة الرومنطيقية في عهد جان جاك روسو، بل هي خلاصة ثقافة معينة وتتويج لحركة الإنسانيات وتقدير جديد لقيمة الإنسان: تقديره لنفسه وتقديره للآخرين. فالشعور الديمقراطي هو نتيجة لهذه الحركة عبر القرون، ولهذا التقدير الزدوج لقيمة الإنسان. إن الؤرخ الفرنسي (جيزو) يمّيح لنا في كتابه (تاريخ أوربا من نهاية الإمبراطورية الرومانية إلى الثورة الفرنسية) تتبع هذه الحركة، أي التطور الذي أدى إلى ظهور الد يمقراطية في أوربا. ونمو الشعور الد يمقراطي في البلاد الاور بية. فالؤرخ الكبير يبين أكانت أصول الديمقراطية الغربية بعيدة وبسيطة، وكيف تكون الشعور الديمقراطي ببطء، قبل أن يتفجر بالتالي في التصريح بحقوق الإنسان والواطن، ذلك التصر يح الذي يعبر عن التقو يم الجديد للإنسان، وعن التتو يج الاسطوري والسياسي للثورة الفرنسية. فالشعور الديمقراطي الغربي، قد بدأ يعبر عن نفسه، وهو ايتخلص بعد من الغموض اللازم لكل ما هو في حالة تخلق ونشوء، خلال الحركتين التاريخيتين الكبيرتين: حر! ة الإصلاح وحركة النهضة، بل إن هاتين الحركتين

هما أول تصريح بقيمة الإنسان الاوربي في مجال الروح وفي مجال العقل. فن الواضح أن هذا الدرس عن تاريخ أوربا الذي نقرؤه في! تاب (جيزو)، نجد الواقع الاجتماعي مطبوعا ومغلفا بخصالًص المجتمع الغربي، مثل حركة الإصلاح والنهضة. ولكن الحقيقة العأمة بالنسبة إلى الشعور الديمقراطي، مهما يغشاها من قلة وضوح تلبس معها هنا ظواهر التاريخ الغربي وخصائصه، التي لا يمكن أن تتكرر في تاريخ الاجناس والشعوب الأخرى، فإنها تبرز على الرغم من ذلك تحت هذا الغلاف الخاص، أي عندما نخلص الموضوع من قيود التاريخ والسياسة ونعبر عن الأشياء بمصطلح علم النفس وعلم الاجتماع. إن الشعور الديمقراطي في أوربا كان النتيجة والاَل الطبيعي لحركة الإصلاح والنهضة. فهذا هو معناه التاريخي الصحيح، ولكن هذا العنى لا يفصل عن تاريخ أوربا ليطبق على أمم أخرى. ولكن القانون العام بالنسبة إلى طبيعة الشعور الديمقراطي، سواء في أوربا أو في بلد آخر، هو أن هذا الشعور نتيجة لاطراد اجماعي معين: فهو بالصطلح النفسي الحد الوسط بين طرفين، كل واحد منهما يمثل نقيضاً بالنسبة للآخر، النقيض العبر عن نفسية وشعورالعبد السكين من ناحية، والنقيض الذي يعبر عن نفسية وشعورالستعبد الستبد، من ناحية أخرى. فالإنسان (الحر) أي الإنسان الجديد الذي تكثل فيه قيم الديمقراطية والتزاهاتها، هو الحد الإيجابي بين نافيتين تنفي كل واحدة منهما هذه القيم وتلك الالتزامات: نافية العبودية، ونافية الاستعباد. ولهذا التطورناحية شكلية لها دلالتها عندما يضفى على هذا الإنسان (الحر) لقب يعبر عن قيمته الجديدة، فبعد أن كان يعد، ءؤدا 3 أي التابع إلى الملك

أو مولاه، تسميه الثورة الفرنسية! ح لا 45 أح المواطن، وتحا أالملك لو يس السادس عشر فتسميه (الواطنكأنيه) أثناء المحاكة، وبعد أن كان الفلاح الروسي يسس (موجيك) في العهد القيصري، أصبح (الرفيق) بعد ثورة أكتوبر سنة 1917. التي علقت على باب العهد الجديد صورة (الرفيق) ستالين. ومن أثر هذه الشكليات أن يكون من بين أكبر الاسماء التي حلقت في سماء الثورة الفرنسية ايمم (روبسبييرح 3! س! أ"3 س!؟ هـ ")، حفيد أولئك الذين كانوا من قطيع 3،!! 3 أي الخدم. و (ميرابو ول! س!؟! 3 أ 7) حفيد أولئك الإقطاعيين 3 م داس! + "أس! 3 الذين مثلوا العهد البائد جمما فرنسا قبل الثورة. فهذه هي الحقيقة العأمة، الخالصة من ظروف البيئة، والطابقة لكل وسط إنساني مهما كانت ظروفه التاريخية الخاصمة. وهذا هو القياس العام الذي تقاس به الأشياء بالنسبة إلى أي تطور ديمقراطي. سواء بوصفه واقعاًا ندثر في طيات التاريخ، أو مشروعاً نريدى تحقيقه في واقع مجغ. فكل تطورمن هذا النوع هو في جوهره مملية تصفية تصفي الإنسان، حتى يصبح الإنسان الجديد في صورة (الواطن) أو صورة (الرفيق)، أي الإنسان الذي تخلص من رواسب العبودية ومن نزعاقما الاستعباد، التي تكون الصورة السلبية للشعور الد يمقراطي. والتاريخ يعطينا نماذج كثيرة من هذه الصور السلبية أي الصور العبرة عن نفسية العبد ونفسية الستعبد. إنه لا يخلو من الفائدة أن نذكر بعض هذه النماذج توضيحاً ل! موضوع وربما وجدنا بعضها تهما في الادب:

-71 - فالإرشاداتا التي يعطيها شخص أو رسول إلى شخص (جوينبلين) في قصمة فيكتورهوجو (الرجل الذي يفمحك)، هي في الواقع إرشادالا تنطق فيها روح العبد. حيث يقول أرسوس لزميله: " هناك سنة يتهسك بها الكبار، فإضهم لا يعملون شيئاً، وسنة يكسك بها الصغار، فإضهم لا يقولون شيئاً: إن الفقير ليس له صديق إلا صديق واحد: الصت، إنه لا يجوزله أن يتفوه إلا بكمة واحدة: نعم، فالاعتراف والرضا هو كل حقه: نعم إلى القاضي، نعم إلى اللك ". فالكبار ينهالون عليه ضربا بالعصا، إذا ما حدثتهم نفوسهم .. " إن هذا من حقهم، وإنهم لا يخسرون شيئا من عز 33 إذا ما دكوا عظامنا ضربا .. ". فن البين أن فيكتورهوجو وصف في هذا اطوار بكل دقة نفسية العبد، الذي يقول " نعم،) في كل الظروف، ونشر أفي هذه الك! ة الإيجابية في لفظها من سلبية في معناها، إذ إن (نعم) هنا تساوي نافية، تلغي قيمة الى (أنا)، أي أنها تنفي القاعدة الأساسية التي تبنى عليها الديمقراطية في نفس الفرد. ولا يخلو الادلب العرد! من هذه الاذج العبرة عن نفسية العبد، إننا نجدها خاصة في كتاب (ألف ليلة وليلة)، حيث نرى جما كل صفحة الامير يأمرأو يهدد بصرب عنق، والجلاد يقول: (نعم) السمع والطاعة يا مولأنا. وإننا لنجد صورة أخرى للنافية التي تنفي الشعور الديمقراطي، في صورة الستعبد الستبد، كما يصفه القرآن الكريم لنا في الحوار الشهور الذي دار بين فرعون وموسى حيثا يسأل الأول: - (فَمَنْ رَبكما يَا مُوسَى؟! أطه: 49/ 20) فيرد الثاني: - (رَئنا الذي أعْطى كلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى! أطه: 50/ 20)

- 72 - إننا نرى أيعبر هذا السؤال عن نفسية الجبارالستبد، الذي يريد استعباد الخلق، وكان ينتظر من موسى الاعتراف بمزاممه في الربوبية، حتى أقى جواب الرسول فأثار غضبه لأنه كان رفضاً لزاعه. ولكن المشهد يسكر فيزيد وضوحا في تصوير المستبد، فنراه يندفع في كبريائه، ويرجئ الرسول إلى يوم الزينة ليكون موعداً له وللسحرة، فيتزايد غضب الطاغية الستبد عندما رأى! يد الشيطان مهزومأ والسحرة سجداً: (قالوا آمنّا بِرَباِّ هرونَ ومويى! أطه: 70/ 20). فغضب الطاغية: (قال آمَنْتمْ لَة قبل أنْ آذَنَ لم، إئهُ لكبيرآُ الذي علَّمكُم السِحر، فلاقطّعَنّ أيديَم وأرجلَم من خِلاف، ولاصلبنَّمُ في جذوعِ النخْلِ، ولتعلَمُنَّ أيُّنا أشدّ عذاباً وأبقى! أطه: 171/ 20. لشى من الضروري أن نتابع الشهد إلى آخره، فقد أعطانا صورة؟ فية للاستبداد في شخص فرعون، بقدرما يزداد غضبه على الرسول وعلى السحرة، فالوقف لا يعبر هنا عن (نافية) إزاء ال (أنا)، بل عن نافية إزاء الآخرين أي أنه ينفي جانباً من الشعور الديمقراطي. ولكن قد نجد أحيانآَ موقفاً يعبر عن النافيتين معاً. إن تاريخ روسيا القيصرية ترك لنا قصة ذات دلالة في الموضوع، إذ نرى أحد القياصرة، وهو ف! أعتقد القيصر إسكندر الاكبر، وقد كان في ضيافته أمير من الغرب، فأراد القيصر أن يبرهن لضيفه عن مقدارسلطانه على رعيته، فأشار بأصبعه إلى جندي كان يقوم بدور حراسة بأحد ممرات الدوريات الشرفة على هاوية سحيقة، فبهجرد الإشارة ألقى الجندي بنفسه من ذلك العلو، كانه آلة تحركت بالضغط على زر ... فهذا الشهد يتفحن بكل وضوح موقف العبد وموقف الرجل الستبد، أي نافيتي الشعور الد يمقراطي.

- 73 - ويمكن جمع الكثير من هذه الكاذج، مثل رئيس الحشاشين، حسن السفاح، أو شيخ الجبل؟ كان يلقب، فإنه كان أيضاً يتصرف في حياة أتباعه فيقوم أحد! لمجرد الإشارة ليلقي بنفسه في هاوية معنوية، يلقى فيها كيره. وعلى كلِ فإن ما ذكرنا يكفي لتكو ين إطار العموميات التي تحيط بالموضوع، وتكون مرجعاً يرجع إليه في هذا السياق. فالقضية إذن عندما نتحدث عن الديمقراطية في الإسلام منوطة بهذه العموميات وهذا الرجع، أي بالعناصر الثلاثة التي قدمناها على أنها الشروط العأمة لوجود الشعور الديمقراطي في أي بيئة. وبالتالي فالسؤال هو: هل الإسلام يتضن ويتكفل هذه الشروط الذاتية والموضوعية، أي هل يكون نحو (الأنا) ونحو (الآخرين) ال! عور الذي يطابق الروح الديمقراطي؟ بينا، وهل يخلق الظروف الاجماعية الناسبة لتكية هذا الشعور؟ وعلينا من وجهة علية، وقبل الجواب على السؤال " هل يخلق الإسلام الشعور الديمقراطي؟ ا) أن نتساءل: هل يخفف الإسلام حقيقة من كلية ومن وحدة الدوافع السلبية، والنزعات النافية للشعور الديمقراطي، التي تطبع سلوك العبد وسلوك الستعبد؟ لابد إذن في البداية خاصة أن نقدر كل مشروع يهدف إلى تأسيس ديمقراطية، على أنه مشروع تثقيف في نطاق أمة ب! ملها، وعلى منهج شامل، يشمل الجانب النفسي والأخلاقي والاجتماعي والسياسي. فالديمقراطية ليست إذن، كانفهمها فهما سطحياً عندما نتناول معناها الدارج أي في حدود اشتقاق الفردة، ليست مجرد علية سياسية، علية تسليم سلطات إلى الجاهير، إلى شعب يصرح بسيادته نص خاص في الدستور.

وقد يكون هذا النص نفسه غير موجود في بلد معين، إما لآن هذا البلد ايوضع في دستوره نظام دستوري، وإما لأن جباراً مستبداً جاء يلغيه، مثل نابليون في فىنسا؟ ومع ذلك لا تفقد الديمقراطية معناها في هاتين الحالتين، لآ! معناها مرتبط بشعور وبعادات وتقاليد لا يكونها نص ولا يلغيها جبار. فإنجلترا تكتع بحياة ديمقراطية ممتازة، دون أن يكون في آساسها نص دستوري خاص، يحمي الحقوق والحريات التي يكتع بها فعلاًا ل! عب الإنجليزي، وإنما تحميها تقاليد الشعب ذاته وعاداته وآوضاعه النفسية وعرفه الاجماعي. آي في نهاية التحليل يحميها ما يمكن أن نسكيه الروح الإنجليزي بالذات. فليست الديمقراطية إذن في أساسها علية تسليم سلطات تقع بين طرفين معينين، بين ملك وشعب مثلا، بل هي تكوين شعور وانفعالات، ومقايش! ذاتية واجتماعية تشكل جموعها الاسس التي تقوم عليها الديمقراطية في كير شعب. قبل أن ينص عليها أي دستور. والدستور ما هو غالباً إلا النتيجة الثكلية لمشروع الديمقراطي عندما يصبح واقعاً سياسياً، يدل عليه نص توحي به عادات وتقاليد، ويمليه شعور في ظروف معينة، ولا يكون أي معنى لهذا النص إن! تسبقه التقاليد والعادات التي أوحت به، أو بعبارة أخرى السوّغات التاريخية التي دلت على ضرورف. ومن هنا تبدو بكل وضوح تفاهة تلك الاستعارات الدستورية التي تستعيرها اليوم بعض الدول الإفريقية الآسيوية الناشئة، التي تريد إنشاء الوضع الجديد في بلادها،! القياس على النوال الذي تستعيره من بعض البلاد ذات التقاليد الديمقراطية العريقة، إن هذه الاستعارة تكون تارةً ضرورية ولكنها لن تكون بكل تأكيد وحدها؟ فية، إن اتصحبها الإجراءات الناسبة لبث ما يستعار في نفسية ال! عب الذي يستعيره. ومهما يكن في الأمر، فقد تبين من الآن، أن الجواب على السؤال العروض

-75 - في هذا البحث- هل توجد ديمقراطية في الإسلام- لا يتعلق ضرورة بنص فقهي مستنبط من السنة والقرآن الكريم، بل يتعلق بجوهر الإسلام عأمة، وخاصة من الوجهة التي تهمنا هنا، فإنه لا يسوّغ لنا أن نعد الإسلام دستوراً يعلن سيادة شعب معين، ويصرح بحقوق وحريات هذا الشعب، بل ينبغي أن نعده في سياق حديثنا صثروعاً ديمقراطياً تفرزه المارسة، وترى من خلاله موقع الإنسان السلم من المجتمع، الذي يكون محيطه وهو في الطريق نحو تحقيق القيم والثل الديمقراطية، تحقيقاً ترتبط معه حركته التاريخية بالبادئ العأمة التي أقرها الإسلام، في صورة بذور غرست في الوعي الإسلامي، وفي صورة شعور عام ودوافع تكون العادلة الإسلامية في كل فرد من المجتمع. ويجب أن نعد هذه الحركة الناشئة والنشئة في لحظة بدايتها، أي في اللحظة التي تبتدئ تتحقق شروط الشروع الد يمقراطي الأولية، لأنها الشروط التي تتحقق بمقتضاها كل النتائج الاجماعية القبلة لهذا الشروع. غيرأننا أوضحنا فما سبق أن مرحلة التخلق والنشوء ترتبط بصورة شكلية، بتعبير جديد نطلقه على الإنسان، أي بتقو يمه تقو يماً جديدأ ليصبح (الواطن) في الثورة الفرنسية، أو (الرفيق) في الثورة الروسية، وتظهر طبقاً لهذا التقو يم، الاختلافات الأولى بين النماذج الديمقراطية العروفة في التاريخ، حتى في الصطلح السياسي حيث نصبح نتكلم اليوم على (الديمقراطية الغربية) بأوربا (والديمقراطية الشعبية) في الشرق (والديمقراطية الجديدة) في الصين. فبصورة تزيد أو تنقص وضوحأ، نجد أنفسنا أمام نماذج ديمقراطية يختلف بعضها عن بعض، بمقدارتقويمها الجديد للإنسان بالقيمة التي تعطى له في صورة شكلية، تعبر بصورة رمزية عن بداية أو تدشين المشروع الديمقراطي في البلد ووضعه في الطريق نحو القيم والثل الديمقراطية. وهذا التقويم الجديد للإنسان يطبع من البداية فعالية الشروع وأثره في

المجال النفسي، بالنسبة إلى الدوافع السلبية التي تقاوم القومات الديمقراطية في نفس العبد ونفس الستعبد، فهو يكون إذن مقياساً تقاس به الأشياء في هذا السياق، وتميز به الماذج العروفة في التاريخ، من النموذج الذي حققته أثينة منذ ثلاثة آلاف سنة، إلى النموذج الذي تحققه الصين اليوم. ولكننا عندما نرصد هذه الماذج، عدا النموذج الإسلامي بالنسبة إليه، نجد أنها تستهدف في أساسها إما منح الإنسان بعض الحقوق السياسية التي يتهتع بها (الواطن) في البلاد الغربية، وإما الفمانات الاجماعية التي يكتع بها (الرفيق) في البلاد الشرقية. أما الإسلام فإنه يمنح الإنسان قيمة تفوق كل قيمة سياسية أو اجتماعية، لأنها القيمة التي يمنحها له الله في القرآن في قوله: (ولَقدْ كرَّمنا بَني آدَم! أالإساء: 17/ 170 فهذا التكريم يكون- أ! ثر من الحقوق أو الفمانات- الشرط الاساسي للتعبير اللازم في نفس الفرد، طبقاً للشعور الديمقراطي سواء بالنسبة للأنا أم بالنسبة للآخرين، والآية التي تنص على هذا التكريم تبدو وكأنها نزلت لتصدير دستور ديمقراطي يمتاز عن كل الماذج الديمقراطية الأخرى، دون أن تعبر عنه نصوص قانونية محددة، فنظرة النموذج الإسلامي إلى الإنسان، هي نظرة إلى التكريم الذي وضعه الله فيه، أي نظرة إلى الجانب اللاهوتي فيه، بينها الاذج الأخرى! تمنحه النظرة إلى الجانب الناسوتي والجانب الاجتماعي، فالتقو يم الإسلامي يضفي على الإنسان شيئاً من القداسة، ترفع قيمته فوق كل قيمة تعطيها له النماذج الدنية. والفرق لش! في الفردات ولكن في معناها، في واقع الأشياء بالنسبة إلى شعور الإنسان نحو نفسه ونحو الاَخرين. فالإنسان الذي يحمل بين جانبيه الشعور بتكريم الله له، يشر بوزن هذا

التكريم في تقديره لنفسه وفي تقديره للآخرين، لأن الدوافع والنزعات السلبية المنافية للشعور الديمقراطي تبددت في نفسه. ثم إن الإسلام الذي وضع في نفسية السلم هذا التوجيه العام، قد وضع عن طريقه- يمينا وشمالاً- حاجزين،! يلا يقع في هاوية العبودية أو هاوية الاستعباد. وهذان الحاجزان مذكوران بالإشارة إلى آيتين تذكر الواحدة الهاوية ذات اليهين والأخرى تذكر الهاوية ذات الشمال، فيقولط عز وجل: (تلكَ الدارُ الآخرةُ نجعفها للذينَ لا يريدونَ علُوّاً في الأرضِ ولافَساداً والعاقبةُ ل! تَّقين! أالقصص 83/ 28) فهذا الحاجز وضع بكل وضوح على حافة الاستعباد حتى لايقع فيه السم، أما الحاجز الآخر الذي يحفظه من هاوية العبودية فهو مذكور في قوله عز وجل: (إن الذينَ توّفا! الملائكةُ ظالي أنفسهم قالوا: فيمَ كنتُم؟ قالوا: كنّا مستضعَفين في الأرضِ، قالوا ألم تكنْ أرض اللهَ واسعةً فتهاجروا فيها، فأولئكَ مأواهم جهنم وساءت مَصيراً، إلا الستضع! نَ من الرجال والنساء والوالدان، لايستطيعونَ حيلةَ ولايهدون سبيلاً، فاولئك عسى الله أَن يعفوَ عنفم وكان الله عَفوّأ غَفورأ! أالنساء96/ 4 - 98). وجمل القول إن المسلم محفوظ من النزعات النافية للشعور الديمقراطي، الوجودة أو الدسوسة في طينة البشر، بما وضع الله في نفسه من تكريم مقدس، وما جعل عن يمينه وشماله من معا ا، ترشد طريقه حق لايقع في وحل العبودية أو وحل الاستعباد. ومع ما يدم شعوره بهذا التكريم العام الذي ئنِحَه بوصفه إنسانا، فإنه يشر بتكريم خاص قد منحه بوصفه مؤمنا في قوله عز وجل: (ولئهِ العزةُ ولرسولِهِ ول! ؤمنين! أالمنافقون 8/ 63)

- 78 - وهذه العزة الوهو بة ل! ؤمن لاتعرضه للكبر ياء، لآنها لاتعني المجد التالف التصل بالأشياء الادية، بل هي العزة في عو الآخلاق، وعلو الهمة. وهكذا نرى آن الدوافع السلبية التي من شآنها أن تدفع السلم إلى الهاوية، من ناحية آو من آخرلى، يسيطر عليها ال! عور أالإيجابي الذي وضعت في نفسه بذوره بصفته مسماَ. وعليه فإن (الديمقرأطية) مغروسة أولآَ في كير السلم، مع التقو يم الجديد الذي حدد في نظره قيمته وقيمة الآخرين. ولا شك أن عبارة (الديمقراطية الجديدة) في الصين الشعبية، تعني أولاً هذا التقو يم الجديد للإنسان، قبل آن تعني قوانين جديدة ومصانع جديدة وطرقاً جديدة ... فهي! م ((أولاً عا االآشخاص قبل أن تهم عا أالأشياء)). وإذا أردنا أن نعرف شيئاً هو الديمقراطية الإسلامية، فإن هذأ الشيء يعني أولاً (تطعيم) الإنسان، وتحصينه ضد النزعات المنافية للشعور الد يمقراطي، وتصفية هذه النزعات في نفسه. أما الديمقراطية العمانية أو (اللاييكية)، فإنها تمنح الإنسان أولاًا لحقوق والضانات الاجتماعية، ولكنها تتركه عرضة لامرين: فهو إما أن يكون ضحية مؤامرات لنافع معينة، ولتكتلات مصالح خاصة ضخمة، وإما لأن يجعل الآخرين تحت ثقل دكتاتورية طبقية، لأنها! تصفّ في نفسه دوافع العبودية والاستعباد، لأن كل تغيير حقيقي في المجتمع لا يتصوردون تغيير ملائم في النفوس. طبقاً للقانون الاعلى: (إن اللهَ لا يغيّر مابقوم حتّى بُغَيّروا مابِأنفسِهم،! أالرعد 12/ 13). وهكذا تظهر بوضوح أكثر العلاقة العفمو ية بين الإسلام والديمقراط! ية، العلاقة التي ايكن من الس! ل توضيحها في صدرهذا الحديث، عندما كنا نحاول

تحديد وجه التشبيه والوازنة بكمة ديمقراطية مأخوذة في معناها الاشتقاتما، أي باعتبار الشروع الديمقراطي على أنه مجرد مشروع تسليم سلطات إلى الشعب بمقتفى نصوص دستورية معينة. وهكذا يظهرأيضاً بوضوح أكثر، الخطأ الذي نقع فيه عندما نستعير من بلاد معينة دستوراً ديمقراطياً جاهزاً، لأننا في مثل هذه الحالة لأننقل مع النصوص الدستورية الستعارة كل الاسس النفسية والتجربة التاريخية، التي أملت هذه النصوص في بلاد مولدها، كانما نقوم بمتنروع ديمقراطي على غير أساس في صيم الواقع. إن هذه الملاحظات تتيح لنا، منذ الآن، التقرير بشرعية الحديث عن (الديمقراطية في الإسلام)؟ وردت عبارتها في عنوان هذا الحديث. ولكن يجب أن نتساءل، كيف تتحقق هذه الديمقراطية الؤسسة بالصورة التي بيناها في عالم النفس التصل بالضير والشعور؟ كيف تتحقق في عا! الواقع المحسوس، في الاعالط الخاصة والعأمة، في نطاق الأفراد والحكومات، وفي حياة النظم والنظمات؟ وعلى وجه الخصوص يجب أن نتساءل هل تكفل هذه الديمقراطية، ماتكفله الديمقراطية (اللاييكية) للفرد من حقوق وحريات سياسية ومن ضمانات اجماعية؟. هذا هو الجانب الآخر الجانب الموضوعي، وقد يلاحظ أن مسوغات هذا الفصل، يحب أن تكون مستقاة من واقع السمين اليوم، لا من نصوص دينهم. ولكن ليس لهذه الملاحظة إلا قيمة شكلية، لأننا عندما ندرس ديمقراطية أثينا، على وجه الثال، فإننا لأنبحث عن مسوغاتها في واقع الشعب اليوناني اليوم، دون أن يعني هذا أن الجيل اليوناني العاصر قد فقد القيم التي تميزت بها الديمقراطية في عصر أفلاطون.

-80 - فلا حرج إذن في اعتبار الديمقراطية في الإسلام، لا في الزمن الذي تحجرت فيه التقاليد الإسلامية وفقدت فيه إشعاعها، كما هو شأنها اليوم بصورة عأمة، ولكن في زمن تخلقها ونموهافي المجتمع. فما يتعارف عليه الناس ويؤكده التاريخ، أن التقاليد الإسلامية نشأت في زمن الرسول عكه وفي عهد الخلفاء الراشدين. فإذا اتفقنا على وجهة النظر هذه، وهي وجهة نظر فقهاء الإسلام، فالشروع الديمقراطي الذي وضعه الإسلام، قد أخذ طريقه للتحقيق نحو أربعين سنة تقريبأ. ففي هذه الدة وضعت الاصول النفسية كلها التي تقدم ذ! رها، تكلها وتدعها مقدمات جديدة، لتكون الا! ساس العنوي للديمقراطية الإسلامية. فإحدى هذه القدمات يجب ذكرها خاصة، لأنها تكل تقويم الإنسان في نقطة رئيسية تتصل بالعبد في المجتمع الإسلامي. إننا نعلم أن ديمقراطية أثينة اتعط أي أ! ية لهذه القضية قضية الرقيق إلا من الوجهة الأنتفاعية، فقد كان الرقيق من مقومات النظام الإقتصادي، حتى إن أحدأ أيفكر في إطار هذا النظام في وضع مبدأ لتحرير الرقيق فيكتل بذلك تقو يم الإنسان فيه. بيكا يأتي الإسلام فيقرر هذا البدأ بكل وضوح: فيشمل بذلك تقويمه الإنسان الذي وقع في قيد الرق، بمقدمات أوأصول فقهية نجدها في القرآن وفي السنة، وتكون في الواقع تشريعأ لعتق الرقيق بصورة تدريجية. ومن بين هذه القدمات التي يمكن ذكرها، قوله عز وجل: (وهديناه النَّجدَين، فلا اقتحَمَ العقَبَة، وما أدراكَ ما العقَبَة، فَك رقَبة ... ! االبلد 13 - 10/ 90).

فهذا التقريع للإنسان اطركأنما يهدف إلى وضع قضية الرقيق في كيره،! تأخذ هكذا طريقها إلى الحل، أي طريق التحرير التدريجي. وهذا التوجيه العام يظهر في آيات أخرى، كما لآية التي تحدد موضوع الصدقات حيث يقول عز وجل: (إنّما الصدقاث للفقراء والسا! ين والعاملين عليها والؤلَّفة قلوبُهم، وفي الرقابِ والغارِمين وفي سبيلِ الله ... ! أالتوبة 61/ 9). ؟ يظهر أيضاً في الاحاديث مثل قولهء!: ((من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضواً من أعضائه من النار ". وفي قوله عليه الصلاة والسلام: " من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته أن يعتقه ". وفي حديث آخرأوءك! عكهشند بشأن الرقيق: " إضهم إخوانم وضعهم الله تحت أيديم، فأطعمو! مما تأكلون، واكسوهم مما تلبسودما ". وفي حديث يقول فيه رسول الله!: ((أوصافي حبيي جبريل بالرفق بالرقيق، حتى ظننت أن الناس لاتُستعبد ولا تستخدم ". فهذه النصوص كلها تكل، من نواح مختلفة، التقويم الاساسي للإنسان، التقو يم الذي يقوم عليه-؟ قدمنا- الشروع الديمقراطي، تكيلاً يجعل هذا المشروع يفم في خطوطه العأمة مصير الرقيق إلى مصير الإنسان الحر، ضأ يضيف معه الرقيق إلى عا! الآخرين أي عا االأشخاص، بعد أن كان من عالم الأشياء وذلك لاول مرة في التاريخ. ثم يذ! ر الني عليه الصلاة والسلام، هذه التوجيهات كلها في حجة الوداع، في خطبته بهذه الناسبة. وهي الخطبة التي وضعت فيها ظروف هذه الحجة وملابسات التاريخ معنى الوصية الروحية، التي خلفها الرسول لن ياتي بعده من أجيال الس! ين. ومعنى التصريح بحقوق الإنسان فيقول عليه الصلاة والسلام:

" يا أيها الناس إن ربم واحد. وإن أبا أواحد.! لمم لآدم وآدم من تراب. إن أكرمم عند الله أتقا أ. ليس لعرل! على عجمي، ولا لعجمي على عرل!، ولا لاحمر على أبيض، ولا لابيض على أحمر فضل إلا بالتقوى ... " فهذا الحديث يكل في مناسبة يملؤها الجلال والتأثير، فلسفة ومنهج الإنسان في المشروع الديمقراطي الإسلامي. ولكن إذا كانت لهذا المشروع هذه الاسس النظرية، فلا بد أن يكون له من ناحية أخرى آثاره ال! وسة في صيم الواقع: في الاممال الفردية والحقوق والضانات التي يتهتع بها الفرد، وفي الاعال الصادرة من الحم وفي اميتازاته، وحدود سلطته، وفي! يفية تكو ينه أو صورة شرعيته، أي في جميع الصفات الظاهرة للد يمقراطية. ولا شك أن لهذه الآثار وضوحاً أكثر، في فترة التخلق الدستوري، التي تمميب خلالها النصوص النظرية في الحقائق الاجتماعية، في أعال وسلوك الجيل الذي وضع الشروع الديمقراطي الإسلامي في طريق التحقيق، من اليوم الذي أشرقت فيه الهداية المحمدية إلى يوم صفين. وتأثير البادئ في هذا المجتمع الناشئ يظهر أكلثر ما يظهر في الجانب المحسوس، ؟ تظهر حدودها التصلة بهذا الجانب في واقع الحياة الاجتماعية. فدى تأثير البادئ يظهر فعلاً مع حدودها في وامع الجاة في الفترة الطابقة لطور التخلف والتكوين الديمقراطي، وإذا راجعنا هذا الطور فسنجد عدة مبادئ نظرية مع حدودها في التطبيق، كما لمبدأ الذي يؤسس الحم الإسلامي على طاعة المحكومين لاولي الأمر؟ ورد في الآية الكريمة: (يا أيها الذينَ آمنوا، أطيعوا اللهَ، وأطيعوا الرسولَ، وأولي الأمرِ منكم،

فإنْ تنازعْتم في شيءٍ فَردّوه االى اللهِ والرسولِ إن كنتم تؤمنون بالئهِ واليوم الآخر .. ! أالنساء59/ 4) فهذا البداْ يقرر، طبقا للنص، امتيازات الحم. ولكن في اليوم ذاته الذي يستلم فيه عر رضي الله تعالى عنه مقاليد هذا الحم نراه يبين هو نفسه الحدود الواقعية ل! بدأ النظري، إذ يبين ل! ؤمنين الذين بايعوه، أي عاهدوه على الطاعة، حدود هذه الطاعة في خطبته الشهورة: " ... من رأى منم في اعوجاجا فليقومني ". فنرى هكذا، كيف تتصورفكرة اطم، في كير حا آفي اللحظة البارزة من التاريخ الإسلامي، التي يستم فيها مقاليد الديمقراطية الإسلامية. ولكن هذه اللحظة تعطيأ أيضاً صورة لفكرة الطاعة في كير محكوم، إذ نرى أعرابياً يرد على الخليفة فيقول: " والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناك بسيوفنا". إننا نرى الطاعة والحم محدودين بالاعتبارات نفس! افي كير الواطن البسيط وضير رجل الدولة. وهكذا تبرز في صيم الواقع الذي سجله التاريخ فكرة الحاجزين، اللذين وضعهما الإسلام على يمين وشمال السم، في طريقه نحو تحقيق الديمقراطية الإسلامية، كما بينا، حتى إنه في مقابل الشعار الذي رفعته الثورة الفرنسية الأنريد ربا ولا سيدأ) يمكنه أن يعلن شعار الثورة الإسلامية الأنريد عبودية ولا استعبادأ). وكذلك تبرز في هذه الفترة الخلاقة البادئ التي تحمي الحريات العنو ية، فحرية الضير تبرزفي هذه الاية (لا إكراهَ في الديني، قذ تبَّينَ الرشذ من الغَيّ! أالبقرة 256/ 2)

أما حرية العمل والتنقل فإضها مقررة في قوله عز وجل: (هوَ الذي جعلَ لئم الأرضَ ذَلولاً فامشوا في مناكِبِها وكلوا من رِزقِه! أاللك 15/ 67). أما حرية التعبير، فإنها دخلت في العرف منذ الأيام الأولى من العهد الإسلامي، فالني عليه الصلاة والسلام كان يعود أصحابه على مناقشة آرائه وتقاريره، ففي يوم بدر نراه! ين! ر يحدد ميدان العركة في ال! ن الذي ظهر له الأنسب لذلك، ولكن أحد أصحابه من الأنصار اقترح م! نأ غيره، قد ظهر له أصلح بالنسبة إلى الحاجة اطربية، وتقول السنة التي تروي لنا هذا الخبر أن الني عليه الصلاة والسلام قد عدل رأيه طبقاً لوجهة نظر صاحبه، وقد كثرع هكذا سنة نجد أثرها البليغ في توجيه الرأي الإسلامي فيها بعد، كانرى ذلك في قضية تحديد الصداق مثلا، عندما أراد عر في أيامه أن يضع حداً أعلى لتقدير الهور، حتى يتشر الزواج لكل مسم، فأبدى رأيه في الموضوع من النبر، ولكن امرأة عجوزاً خالفته في الرأي مستشهدة بآية تترك تحديد الصداق إلى تقدير الزوجين أنفس! ما، وما كان موقف الخليفة إلا أن قال: " أصابت امرأة وأخطأ ممر ". وكذلك يقرر القرآن مبدأ حصانة النزلط، في الاَية الكريمة: (يا أيها الذينَ آمنوا لاتَدْخُلوا بيوتاً غيرَ بيوتِم حتّى تستأنِسوا وتُسَلِّموا على أهلِها! أالنور 27/ 24). ولكن هذا التوجيه العام الذي يقرر الحريات الفردية ويحميها في كل اتجاه، يضع في الوقت نفسه اطدود اللائمة لهذه الحريات في حد! هـ مش! ور إذ يقول عليه الصلاة والسلام؟ رواه البخاري: " مثل القائم في حدود الله والواقع فيها، كثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الاء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا

خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركو! وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا ". فهذا الحد الموضوع لكل حرية فردية في ظروف معينة، يكون أساسا مهماً في التشريع الإسلامي تقدم فيها مصلحة المجتمع على مصلحة الأفراد. ولكن العمل يجري على أساس التخفيف الادل! والمادي من حدة الاستثناء السلط على حريات الفرد في مثل هذه الظروف. ومما يح! بهذا الصدد أن امرأة حهودية أرادت أن تحتفظ بملك لها يقع داخل الحدود التي عينها التخط! يط لبناء مسجد ممر في بيت القدس، فأراد القائم بالشروع تنفيذ الخطط دون التفات إلى وجهة نظر المدعية، على اعتبارأسبقية الصلحة العأمة، ولكن المدعية رفعت قضيتها إلى الخليفة الذي أوفاها رغبتها، وربما؟! اوجهة نظره مقررة على أساس أن بناء مسجد لايكون مصلحة عأمة بالنسبة إلى يهودية. وهذه المعاملة في القضاء الإسلامي، تدخل أولا في نطاق التقويم العام للإنسان، بصفته إنسانا وضع في طينته التكريم، بقطع النظر عن كونه رجلاً أو امرأة، مس! اً أو! هوديا، ثم يحددها ماورد في نطاق القضاء، في قوله عز وجل:! وإذا حكتم بينَ الناسِ أن تحكموا بالعَدْل! أالنساء58/ 4). ولا ريب أن آثار البادئ الظاهرة بكل وضوح في الاممال والمواقف، تظهر خلال الفترة التي يدخل فيها الشروع الديمقراطي الإسلامي في قيد التحقيق. فإذا وجدنا في الآية السابقة النص النظري الذي تقوم عليه عدالة القضاء الإسلامي، فإننا نجد في وثيقة أنجرى الصورة الواقعية لهذه العدالة، فهذه الوثيقة التاريخية التي من شأن القضاء الإسلامي أن يعتز بها، هي وصية عر رضي اللْه عنه للقاضي أل! موصى الاشعري، الذي كان بمثابة النائب العام للجمهورية في أيامنا، إذ يقول له:

- 86 - " آسِ- أوساوِ- بين الناس في وجهك ومجلسك وقضائك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييشى ضعيف من عدلك ". إن هذه الوصية لم تبق رسالة مهملة، بل كان أثرها بليغاً في الواقع؟ تدل على ذلك الامثال الكثيرة في عهد التخلق الديمقراطي الإسلامي. وهذه التفاصيل! لمها تكون في الحقيقة السمات العأمة لا يسمى ديمقراطية سياسية، أي سمات النظام الذي يمنح الفمانات الناسبة ضد كل تعد من جانجا الحم. والإسلام نظام من هذا النوع حتى في الصورة الشكلية التي يتكون عليها الحم، تكوّنأ يستلم معه رئيس الدولة سلطاته بمقتفى مبايعة الأمة- أو الشعب كانقول اليوم- ممثلة في بعض الرجال البارزين خلقاً وعقلاً، يمثلون هيئة على نمط مجلس شيوخ، يعينون الخليفة بالبايعة طبقاً لبدأ الشورى، الذي يقرره القرآن الكريم خاصة، عندما يومي الني! 2 (وشاورْفم في الأمر! (آل عران: 4/ 3 1) أو عأمة (وأمزهُم شورى بينَفم! أالشورى: 38/ 42) فعلى هذه الاعتبارات يصح القول إن الحم الإسلامي ديمقراطي في مصدره وفي عله، كما قدمنا. والإسلام يت! بهن كل السماتا التي تطبع الديمقراطية السياسية، التي تمنح الفرد مسؤولية في تأسيس اطم، والضانات الضرورية التي تحميه من جورهذا الحم. ولكن التجربة التي تجري للديمقراطية السياسية في العالم منذ! د الثورة الفرنسية، تدل على ضعف حريات الفرد في الواقع، عندما لا تحميه في الوقت نفسه الضانات الاجقاعية التي تكفل حريته الادية. ولقد رأينا في البلاد التطورة! يف يصبح (الواطن الحر) عبداً مجهولاً لصالح كبيرة تتحد ضده، وآتضيع عليه بهذا السبب النافع النتظرة التي يمنحها إياه بصورة نظر ية، تصر يح بحقوقا الإنسان ودستورلا يكون لهما أثرظاهرفي حياته.

كما رأينا كيف أن البلاد التي يحدث فيها هذا الاختلاف بين القيم السياسية والقيم الاجماعية، تعاني صراع الطبقات ربما ينتهي إلى تأسش! نوع من الديمقراطية يعطي (الواطن) الضانات الاجتماعية اللازمة، ولكن على حساب حرياته السياسية. ولكن الإسلام تلافى هذا العوق، لأنه أقى لمشكلات الحياة الادية التصلة بالنظام الإقتصادي، بالحلولط الناسبة، دون أن يمس الفرد في حرياته الذاتية. وعليه فالإسلام يبدو وكانه جمع موفق بين مزايا الديمقراط! ية السياسية والد يمقراطية الاجماعية. فالتشريع الإسلامي يكم فعلا ال! مات السياسية التي قدمناها، بم! مات ديمقراطية أخرى، متصلة بالجانب الإقتصادي. فالشروع الديمقراطي في المجال الإقتصادي، يقوم على مبادئ عأمة، تهدف إلى توزيع الثروة حتى لا تصبح ذولة بين أيدي بعض الترفين. فعندما يقرر القرآن الكريم الز؟ ة فإنه يضع أساس تشريع اجتماعي عام، قبل أن تدرج في العالم الأفكار الاجماعية التي ألفناها فيه اليوم. فعندما يصف الرسولء! -! ضرورة هذا البدأ، فإنه يصفه بمسوّغات تزم الاشتراكية أنها تنفرد بها اليوم، يقول عليه الصلاة والسلام: " إن الله اقتطع من أموال الس! ين الاغنياء نصيباً هو نصيب الفقراء) لأن الفقراء لا يجوعون ولا يعرون إلا بسبب الاغنياء ". وهذا المبدأ، كما لبادئ التي يقررها القرآن والسنة، لا تحققه أممال! الأفراد فحسب- لأن كل مسلم يحاول القيام بهذا الواجب حتى في أيامنا- بل أممال الحم أيضا، وآثاره المرئية تظهر في التوجيهات الحكومية في صد التخلق الديمقراطي،

وفي السيرة حيث نجد هذه الآثار واضحة، فعمر رضي الله تعالى عنه حمع مولوداً يبيم، وقد علم أنه يبيى لأن أمه قد فطمته، ي تحصل على منحة يدفعها بيت الال للامهات اللواتي فطمن أولادهن، فأذاع الخليفة في الدينة لائحة خاصة بالامهاتا المرضعات، يقول لهن: " ألا لا تعجلوا صبيانم عن الفطام، فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام ". فهذه اللائحة تعطينا عرضا فكرة عن تنظيم اطضانة الرحمية للاطفال، هذه الحضانة التي اتتحقق بهذه الصورة حتى اليوم في أوربا، إذ أن مثل هذه النح عندما تدفعها حكومة أوربية، فإخها لا تكون باسم الطفل مباشرة، كما لنحة التي يقدمها بيت الال في زمان عر، وإنما تقدمها باصم (منحة الامومة)، فالنتيجة واحدة لا شك، ولكن بين الطريقتين شيء من الاختلاف يميز الطريقة الإسلامية في العهد الديمقراطي. ولا شك أننا نعجبا بهذا الثل لا يبدوفيه لرجل الدولة مثل عر من حمو الضير، ومن اهتهام بواجباته نحو الجهور، ولكن في مناسبة أخرى نرى أن المجهور نفسه يشعر بحقوقه؟ يتبين من خلال قصة المرأة السكينة، التي أبدت استياءها من الفقر رامية عر بأسبابه، فتتهمه دون أن تدري أنها تتحدث معه بال!! ال في شؤونما الأمة. إننا في الواقع لسنا أمام كير خليفة في حالة وكير امرأة مسكينة في حالة أخرى، بل نشعر بأننا أمام الضير الديمقراطي الذي صاغه الإسلام. وإن ما يتحرك في هذا الضير أو ذاك إنما هو الشعور بالقيمة الأساسية التي قدر بها الإنسان، ووضعت في كير السلم أساساً لكل البناء الإسلامي في الجانب الأخلاقي والسياسي والاجتماعي. ثم يقرر الإسلام مبدأ آخر يضعه أساساً لبناء الإقتصاد وهو مبدأ تحريم الربا. ف! ن لهذا التحريم الاثر الكبير في تحديد صورة الإقتصاد الإسلامي، أضفى عليه من اللحظة الأولى الط! ابع الديمقراطي ... لأنه لم يسمح بالتجارة في

المال والنقود التي تقوم على مبدأ الربا، وتحتكرها بعض البنوك. وبذلك! يتح لمال أن يحقق لطبقة معينة أو لبعض الأفراد، السلطة الطلقة على الحياة الإقتصادية؟ يحدث في النظام الرأسمالي، إذ يتيح الربا السلطة التأمة للاحت! ر على التجارة، وللتكتل الالب على الصناعة بواسطة الصرف الذي يحقق تر! يز رأس الال، أي سلطة الال إلى أكبر درجة ممكنة، بالنسبة إلى إم! نيات عصر معين. فالتشريع الإسلامي أعفى الإقتصاد من سلطة الدر! الطلقة، تلك السلطة التي أحدثتا في البلاد التطورة أزمات اجتماعية تواجهها أحياناً بالثورات العنيفة. وربما مجب القولط إن هذا التشريع! يخفف من حدة الدرهم في مجال الإقتصاد فحسب، بل خفف من حدته في المجال الروحي إذا صح التعبير، حتى إنه يعفي المجتمع من الازمة الأخلاقية التفشية اليوم في الحياة التي تستضيىء بأضواء الحضارة الغربية .. فالإسلام ايقاوم فقط الاحت! ر الكبير الذي يقلل كية النتجات حتى ترتفع أسعارها في السوق، بل يقاوم كل احت! ر يؤدي على أي طريقة إلى ارتفاع الاسعار. إن كل وسيط بين النتج والستهلك يخفي صورة الاحت! ر الذي يكون الستهلك ضحيته، فالوسيط ضرب من الطفيلية في مجال الإقتصاد. ولكن الت! ثريع الإسلامي يدين كل ضرب من الطفيلية، يدل على ذلك الحديث الروي عن أبي هريرة رضي اللْه تعالى عنة، حيث يقول: " خهى النيء! عن التلقي، وأن يبيع حاضر لباد ". فهذا الحديث يفيد، بروحه إن/ يكن بحرفه، استن! ر الاحت! ر حتى في صورته الصغرة، لأن البادي لو باع بضاعته بنفسه، لباصا بسعر اليوم، أما

الحاضر فإنه يمكنه إرجاء البيع إلى ما بعد، لأنه من س! ن الدينة وفي إم! نه عرض البضاعة في السوق في الوقت الناسبا أي في الوقت الناسب له على حساب الستهلك. فالإسلام يدين هذه الطفيلية، ولا يمهكح كذلك ببيع الاكولات التي ليست بعد في حوزة البائع، كما يدل على ذلك الحديث الروي عن أنس بن مالك، إذ يقول إن رسول الله عكالل! حما عن بيع المارحتى تزهرأي تحمر فقال: ((أرأيت إذا منع الله البهرة بمَ يأخذ أحد! مالط أخيه؟)). فهذه العناصر التشريعية التي تكونما الجانب الاجماعي في الديمقراطية الإسلامية، قد كان لها أثرها الظاهر في الواقع المحسوس الخاص بالمجتمع الإسلامي، وقد أثرت على نموه الادي، طبقأ للهدف الزدوج الذي استهدفه الشرع، حتى لا يقع السلم في وضع العبد الذي تستعبده الاوضاع الإقتصادية، أو أن يصبح الرجل الستبد وبيده صولجان الذهب .. وهكذا يتبين أن البادئ التي قررها الإسلام في المجال السياسي والمجال الاجتماعي، ووضعها في أساس ما يمكن أن نطلق عليه (الديمقراطية الإسلامية)، قد تحققت فعلاً في واقع المسمين. وقد كان أثرها حقيقياً في سلوك الأفراد وفي أعال الحم، على الاقل في فترة التخلق الديمقراطي التي عرفنا فما سبق حدودها الزمنية في التاريخ الإسلامي. ولا شك أن التقو يم الاساسي للإنسان الذي قام عليه الشروع الديمقراطي في الإسلام، هو السبب الجوهري في هذا التحو يل الذي حول البادئ النظرية إلى حقائق اجتماعية م! وسة. فقبل أن يذيع عر اللائحة الخاصة بالامهات الرضعات التي أشرنا إليها، أي قبل أن يممدرالحا! أمره، فقد كان الإنسان الذي يعود إلى نفسه في لحظة يراجع

فيها ضيره، فترتفع منه تلك الصرخة التي سجلها التاريخ في آثار ابن الخطاب، إذ صرخ يا بؤساً لعمرأ قتل من أولاد المس! ين (1) فليم نعطي هذا الفصل قيمته يجب ألا نتصور اطراده في الزمان، تصوراً يبدو معه أن العامل الحكومي قد سبق، بإصدار اللائحة التي أشرنا إليها، العامل الأخلاقي، بل أن نتصوره أولا في الضير الذي كان يحتوي صرخة عر قبل أن يصدرأمره اطكومي، الذي يسجل في النظام الإداري في صورة لائحة، الاثر الظاهر لنظام خلقي خفي تحويه نفسه. فهذا الاطراد هو في الواقع اطراد للشعور الاساسي نحو الى (أنا! ونحو الآخرين، الشعور الذي وضعت بذوره في الضير الإسلامي في صورة تقو يم جديد للإنسان؟ بيّنا. فالطفل الذي لا زال في ثدي أمه، لشى في نظر عر، سوى الرجل المجرد أو (الواطن) المتوقع: فالخليفة لا يرى فيه مجرد إنسانيته أو مجرد حضور المجغ في شخصه، بل يرى فيه أكثر من ذللث، يرى فيه حضورالقيمة التي لا تقدر، والتي وضعها الله في جوهره قبل أن يولد في هذا العالم، وقدرها عز وجل يوم كرم آدم. يجب أن نعترف، بان الشيء الذي يمكن التعبير عنه، بمصطلح اليوم بالروح الديمقراطي الإسلامي، إنما يحمل في جوهره حمة القداسة، والتاريخ قد يبين تأثير المبادئ عندما يضفى عليها شيء من القداسة. ولقد لاحظ القارئ لا شك، أن الامثال التي أوردناها هنا قد انتقيناها من الفترة التاريخية التي بينا حدودها الزمنية بين الهجرة وصفين.

_ (1) من أراد أن يطلع على هذه القصة باكلها يجدها في (طبقات ابن سعد)، الجز 3 قم واحد ص 217، ونفتنم هنا الفرصة للتعبير عن شكرنا للاْستاذ الكبير عود ثاكر الذي دلنا على هذا النص؟ دلنا على نصوص الاْحاديث الواردة هنا.

وربما تساءلنا عا حدث بعد صفين؟ وهل التفاصيل التي قدمناها ترتبط بصورة ما بواقع الس! ين اليوم؟ فهذان السؤالأن ليسا في نطاق هذا الحديث الذي يقتصر فقط على وصف الطابع الخاص بالعهد الديمقراطي الإسلامي، أي بالفترة التي تنتهي مع الخلفاء الراشدين مع واقعة صفين، التي تمثل نقطة التحول في تاريخ العالم الإسلامي، والفاصل الذي منع الشروع الديمقراطي الإسلامي من أن يواصل سيره في التار يخ. ولكن هذا التحول لم يمح آثار هذا الشروع في النظام الإسلامي. لقد دامت ظاهرة فيه فترة طويلة، نجدها حتى بعد صفين في سلوك الأفراد وفي أعال اطم أحياناً. لاشك أن عهد معاوية مثلا كان، من الوجهة التي تهمنا هنا، عهد تقهقر الروح الديمقراطي الإسلامي. ولكن إذا لاحظنا أن الطاغية الستبد قد ظهر من جديد في ت خص الحا أ، يجب أن نلاحظ أن العبد لم يظهر بعد في شخص المحكوم مادام متهس! بالروح الإسلامي، كما يدل على ذلك تفاصيل كثيرة خاصة بتلك الفترة، كما طوار الغريب الذي نثأ بين أل! ذر الغفاري ومعاوية، عندما كان هذا الاخير قائماً ببناء قصر الخضراء بدمشق، ف! ن الصحالما الش! ور يؤنب الخليفة تأنيبأ شديداً، فيقولط له بهذه الناسبة: فإما أنك تبني هذا القصر بأموال السمين من دون حق لك فيها، وإما أن تبنيه من مالك وهو تبذير 1). فهذه الرقابة التي يفرضها الضير الإسلامي على أعال اطم قد اسكر أثرها في التاريخ الإسلامي، حتى بعد التقهقر الذي أشرنا إليه، ويمكن تفسير أحداث

_ (1) أوردنا هذا القول بمعناه لابلفظه.

- 93 - لمجرى في الضاريخ الإسلامي كظهور المرابطين والوحدين في ا! ضمال الإفريقي على أنها الصدى لاحتجاج الضير الإسلامي ضد الاستبداد. ويمكن القول إن هذا الصدى! ينقطع من الأحداث، التي عبرت بصورة أو بأخرى عن اسيهرار الروح الديمقراطي الإسلامي عبر التاريخ قروناً طو يلة، حتى حدث فاصل آخر لا يمكن تحديد تاريخه بالضبط، ولكنه بلا ريب يتفق مع نهاية الحضارة الإسلامية. أي عندما ينتهي الإشعاع، الذي كونه التقو يم الاساسي للإنسان، إذ بعدما انتهى أثره في أممال الحكومة أي في السياسة، قد انتهى أيضاً في سلوك الأفراد أي في الأخلاق. فإشعاع الروح الديمقراطي الذي بثه الإسلام، ينتهي أيضاً في العالم الإسلامي عندما يفقد أساسه في نفسية الفرد، أي عندما يفقد الفرد شعوره بقيمته وبقيمة الآخريخما. ويجب أن نلاحظ أن الحضارة الإسلامية انتهت منذ الحين الذي فقدت في أساسها قيمة الإنسان. ولشى من التطرف في شيء القول بصفة عأمة إن الحضارة تنتهي عندما تفقد في شعورها معنى الإنسان. لعله يمكن أن نستخلص من هذه الاعتبارات رأياً فما يخص مستقبل الديمقراطية في البلاد الإسلامية، فهذه البلاد تمر قطعاً بحالة إرهاص تبشر بنهضة الروح الد يمقراطيه في هذه البلاد، حيث تجري تجارب د يمقراطية ملحوظة. ولكن هذه المحاولات لاتنجح إلا بقدر ماتضع في كير السلم تقو يماً جديداَ للإنسان، أي بقدرماتضع في كيره قيمته وقيمة الآحرين حتى لا يقع في هاوية العبودية أو هاو ية الاستعباد. ***

التضامن الإفريقي الآسيوي

التضامن الإفريقي الآسيوي محاضرة ألقيت بمدينة حلب يوم 29/ 12/ 1960

تعليق على هذا الفصل إنني لم أفكر- عندما أعددت هذا الكتاب للطبع- أن أضع شبه مقدمة خاصة بهذا الفصل، إذ كان من الأولى لو بدت لي هذه الفكرة أن أسجلها في المقدمة العأمة، ولكن بعد أن أخذ الكتاب طريقه إلى الطبع، تغيرت بعض الظروف بالنسبة إلى هذا الفصل، وكثيراً ما يغير الطريق ظروف الصراع الفكري ويكشف عن ضروراته الجديدة. إنني أدركت هذه الحقيقة خاصة في اليوم الذي كنت أعد للطبع كتاباً آخر هو (فكرة الإفريقية الآسيوية) الذي نشرته منذ بضع سنين، فأدركت الصراع الفكري العنيف الذي سينشأ حول هذه الفكرة التي ولدت، كما يعلم كل أحد، في مؤتمر باندونج. فرأيت من مصلحة الفكرة التي خصصت لها كتابي المذكور أن أضع في صدره هذا التنبيه: ((لجأ المؤلف أثناء هذا التأليف إلى تصريحات لبعض المسؤولين وإلى شخصيات سياسية، بدت له آراؤها صالحة لتدعيم موضوعات فكرة الإفريقية الآسيوية، ومع ذلك فهو لم يعمد إلى ربط هذه الموضوعات بالأشخاص، وإنما بالأفكار وحدها: فإن الأشخاص قد تدفعهم بعض الأسباب- وخاصة ما يسمى مصلحة الدولة- إلى أن يتوقفوا في الطريق أو يتراجعوا، وعلى الرغم من هذا، فالتاريخ لا يقف ولا يعود أبداً للوراء، إلى المواقف التي سبق أن شغلها. ففكرة باندونج هي أحد هذه المواقف، التي لن يتخلى عنها التاريخ، فهي تمثل - بالنسبة لجزء من الإنسانية- قاعدة الإنطلاق نحو تقرير مصيره)). القاهرة في 1956/ 11/3

فعندما كنت أحرر هذا التنبيه كنت أشعر بمسؤوليتي كاتباً، نحو فكرة أدرك ما سوف يجند ضدها الإستعمار من الوسائل الجبارة، وكنت من خلال تجربة ربع قرن، أدرك أن الإستعمار سوف يحاول قتل تلك الفكرة بكل ما لديه من الوسائل. ومرت أيام ومرت معها فعلاً بعض معارك الصراع الفكري، كان الإستعمار يستهدف خلالها الاستيلاء على حصون الفكرة، ولكن أبت الاقدار أن تتركهما لشراسته .. حتى تغيرت الظروف وأتت في أفق السياسة الدولية بادرة نستبشر بها، ألا وهي مؤتمر الدول غير المنحازة. وكما ذكرت في كتاب (الصراع الفكري في البلاد المستعمرة)، فإن الإستعمار لا يخرج من معركة لقتل فكرة، إلا ليدخل ضدها في معركة ثانية في صورة مجددة. وقد تعودنا أن الإستعمار يحاول قتل الأفكار بكل ما لديه من الوسائل، ولكن يبدو أنه جدد خطته، وقرر هذه المرة أن يوحي بطرقه لأحد الأقلام، كي يكتب على هامش مؤتمر عدم الإنحياز- كي يخلق منه مسوّغا وحجة- أن فكرة باندونج ماتت. وكتب سعادة الصحفي أن باندونج مرحلة مرت بدياجي التاريخ. وهكذا كشفت لنا الأيام صورة جديدة في الصراع الفكري. ولكن كما قلنا في التنبيه الذي نقلناه إلى القارئ، إن فكرة باندونج دخلت التاريخ وهي حية ترزق .. بل تلد أفكاراً مثل التي عبر عنها مؤتمر عدم الإنحياز ... فهل يقال على أم ولدت وليدا أنها ماتت .. وأن الوليد هو الذي أصبح يقوم بدوره التاريخي ... يا سعادة الصحفي. مصر الجديدة في 1961/ 6/15

سيداتي سادتي اسمحوا لي أن أشكر أولا وزارة الثقافة والإرشاد القومي، لأنها تتيح لي أن أتحدث إليكم، وأريد أن أشكر خاصة السيد الوزير الذي وضع هذا الحديث تحت إشرافه وشرفه بحضوره الشخصي، بعد أن اختار هو نفسه أن يكون موضوعه في (التضامن الإفريقي الآسيوي)، معبرا بذلك عن القيمة التي يعطيها رجل الدولة مثله، إلى هذا التضامن بوصفه مركزا من أهم مراكز استقطاب القوات السياسية في العالم اليوم. وإنني لأشكر أيضاً حضراتكم شكرا شرفتموني معه بحضوركم. ولا شك أن موضوع حديثنا اليوم، يكون في نطاق الصراع الفكري حلقة مهمة من حلقات هذه المعركة، إلا أن جدة موضوع كهذا يحفه، في النظرة الأولى إليه، شيء من الغموض نود توضيحه بقدر الإمكان في هذا الحديث، حتى يتيسر للشباب العربي أن يدرك محتواه الاجتماعي والفكري، أي أن يدرك (التضامن الإفريقي الآسيوي) تعبيرا عن واقع إنساني، هو واقع الشعوب الإفريقية الآسيوية اليوم، ومفهوماً يحاول منذ مؤتمر باندونج، الدخول في عالم المفاهيم. إن العواصف الجوية والأعاصير تجر معها غالبا سيولاً هائلة من الماء، سيولاً تترك وراءها في البلد الذي تجتاحه الخراب والموت، ولكنها تترك أيضاً على وجه الأديم طمياً تتجدد به الحياة في هذا البلد، فتنشط وتنمو فيه الطبيعة الجديدة بأنواع النبات والحيوان المتجدد. فكذلك شأن الأحداث الكبرى في التاريخ: إنها تجر وراءها الموت والخراب، وتخلف طميا مخصبا، طميا من دماء الشهداء والابطال، ولكنها

تخلف أيضاً طمياً من نوع آخر تخلفه في العقول، حيث تترك بذوراً تنبعث منها الأفكار التي تغير مجرى التاريخ ووجه العالم. فهكذا شأن الحرب العالمية الثانية: إنها حصدت عشرات الملايين من البشر وتركت على الأديم سيلا من الدماء في ساحات القتال، وفي المدن المحطمة، ولكنها خلفت أيضاً في العقول بذور أفكار بدأت تظهر آثارها في اتجاه العالم اليوم. إن التضامن الإفريقي الآسيوي من هذه الأفكار وهذه الأحداث التي انطلقت إثر الحرب العالمية الثانية، وظهرت في حلبة السياسة الدولية منذ مؤتمر باندونج، الذي كشف للرأي العالمي عن وجود قوى جديدة دخلت التاريخ لتغير مجراه، كما كشف عن الشعور العميق في العالم إزاء هذه القوى كشفاً بدأ أثره يظهر غداة المؤتمر، عند بعض الكتاب في الغرب، حتى إن أحدهم عبر، أو على الأصح، ترك لمؤرخ في سنة 2000 ميلادية أن يعبر عن وجهة نظره في الموضوع، فيقول المؤرخ ((إن مؤتمر باندونج لم يحقق أي نتيجة عاجلة، ولكنه كان المركب للقوى التي خطت الطريق لتطور التاريخ، وشكلت العالم الذي نعيش فيه اليوم)) (1). وعلى فرض أن باندونج ((لم يحقق أي نتيجة عاجلة)) كما يقول هذا الكاتب، ونحن على خلاف ذلك نرى أن شعوره نفسه يعبر بكل وضوح عن (نتيجة عاجلة)، حققها المؤتمر في المجال النفسي على الأقل، فإننا نعد باندونج من الوجهة الشكلية أول تعبير صريح عن دخول القوى الإفريقية الآسيوية في التاريخ وفي حلبة النضال السياسي العالمي، وإذا ما أضفينا على هذا الحادث التقدير، الذي يعيره له مؤرخ سنة 2000 في الجملة التي ذكرناها، أدركنا أن

_ (1) ولا شك أن القوى التى تجمعت تحت راية عدم الإنحياز هي من هذه القوى.

موضوع حديثنا يتضمن جوانب كثيرة، تفرض علينا في خطوة أولى ترتيب عناصره وتحديد إطاره حتى لا نتيه في رحابه المتسعة، ينبغي إذن أن نتناوله من زاوية معينة، وهذا يعني أن يجب في الخطوة الأولى أن نوضح حدود هذا الحديث. فلو أننا وجدنا وجهاً لموازنة كي نتخذ منه مقياساً نقدر به المفهوم الذي يتضمنه حديثنا، والذي عبر عنه مؤتمر باندونج بالمصطلح السياسي، أعني مقياساً بمفهوم آخر من الفاهيم التي لديها أسبقية في إدراكنا وفي ثقافتنا، لو استطعنا ذلك لكنا على جانب من التوفيق، وإنني أعتقد أن القانون يعطينا هذا المقياس في بعض مصطلحه مثل (العقد) و (التعاقد) حيث يمكننا القياس عليه. إن أهل القانون يعرفون العقد بصفة عأمة بأسبابه وبغاياته، أي بالأسباب التي يجري بمقتضاها التعاقد بين طرفين أو بين أطراف متعددة، وبالغايات التي تمثل مصلحة مشتركة بين هذه الأطراف التي يتم بينها إبرام العقد. فلو أضفينا هذا المعنى القانوني على عنوان حديثنا، أي على مصطلح (التضامن)، لوجدنا أن عناصره تترتب، طبقاً لموازنة التي نريدها، في عمودين يتضمن أحدهما أسباب التضامن الإفريقي الآسيوي، ويتضمن الآخر غاياته، مع العلم بالفوارق التي يجب مراعاتها بين ما يقتضيه مفهوم قانوني بسيط، تنتج كل خصائصه أي كل أسبابه وغاياته، عن إرادة الأطراف المتعاقدين، وبينما يقتضيه مفهوم معقد كونته ظروف تاريخية واجتماعية مختلفة، ولا تصدر أسبابه كلها وغاياته عن إرادة معينة، حتى إنه يمكننا من الآن القول إن مؤتمر باندونج الذي كان- كما ذكرنا- أول تعبير عن (التضامن الإفريقي الآسيوي) في التاريخ، لم يكن واعيا الأسباب التي دعت إليها كلها، ولا الغايات التي اجتمع من أجلها كلها، لأنه لم يكن معداً لتناول القضية الإفريقية الآسيوية

من الوجهة النظرية، أي من أجل وضع فلسفة عأمة تدرس وتعالج في ضوئها تلك القضية. ومهما يكن الأمر، فإن الخطوة الأولى التي خطوناها تدعونا إلى ترتيب موضوعنا، حسب العناصر التي يتضمنها المصطلح المألوف عند أهل القانون، كما ذكرنا، مع ما يجب مراعاته من الفوارق التي أشرنا إليها، أي مراعاة الجانب الذي لا يقع تحت إرادة وإدراك الأطراف التي يشكلها مفهوم التضامن الإفريقي الآسيوي. فهذه الملاحظة تجعلنا نعد الأسباب التي دعت إلى التضامن الإفريقي الآسيوي من نوعين: 1 - الأسباب التي تتصل مباشرة بواقع الشعوب الإفريقية الآسيوية ذاتها. 2 - الأسباب التي تتصل بالحالة العأمة في العالم بعد الحرب العالمية الثانية. ويجب علينا، من ناحية أخرى، اعتبار الغايات التي يهدف إليها هذا التضامن من نوعين أيضاً: 1 - الغايات التي تتصل بمصير الشعوب الإفىريقية الآسيوية كما تحدده هي لنفسها، بإرادة واضحة، صادرة عن واقعها مباشرة أي عن ظروف حياتها اليومية. 2 - الغايات التي تتصل بمصير العالم وبتوقعات التاريخ بصورة عأمة أي بالتوقعات التي لا تدخل في نطاق الإرادة مباشرة. فهذه في نظري هي صورة الموضوع إذا ما حللناه إلى عناصره النظرية، ولكن كل عملية تحليل تؤدي بالشيء المحلل إلى أن يفقد جانباً من حقيقته، وإذا كان موضوع التحليل كائناً حيا من شأنه أن يفقد هذا الكائن صورته الحية بهذا

التحليل، فربما يفقد كذلك موضوعنا حيويته، وتفقد الفكرة التي يتضنها قيمتها بوصفها تعبيراً عن ملحمة الشعوب الإفريقية الآسيوية، التي بدأت تشعر منذ باندونج بقيمة دورها في العالم، وبالدوافع التي تحركها في هذه الملحمة. وعليه فمن الصواب أن نخصص خطوتنا الثانية لعرض العناصر النظرية، التي يشملها الترتيب التحليلي السابق في صورة أخرى، تشكلها مع روابطها العضوية التي تربطها بواقع الحياة مباشرة، وتعبر عن تفاعلها المباشر في عملية التاريخ ذاتها، حتى تدرك مباشرة قيمتها في حياة الشعوب الإفريقية الآسيوية، ومعناها في مصيرها وفي مصير الإنسانية عأمة. إنني أعتقد أن هذه الصورة قد يمكننا اقتباسها من أسطورة الغار الشهورة، التي وضعها أفلاطون للتعبير بطريقة رمزية عن اختلاف الإدراك عند الأفراد في مراحل فكرية معينة، فنحن نريد صورة رمزية تعبر عن اختلاف المجتمعات في أطوار تاريخية مختلفة. يمكننا أن نقتبس بهذه الطريقة ما يعطي للترتيب التحليلي الذي قدمناه قيمته في واقع الحياة مباشرة. فلنتصور إذن زائراً من السماء هبط للاستكشاف في الأرض، فمن الطبيعي أن جميع المصطلحات الخاصة بتنظيم الأرض تكون غريبة عنه، إذ أنه في عالم مجهول لا يعرف عنه شيئاً، ولكي نعطي لفرضنا زيادة من الدقة، يمكننا أن نتصور فضلا عن ذلك أن زائرنا أصم وأخرس، فمن البين في هذه الحالة أنه لن يدرك أي اختلاف اصطلح عليه أهل الأرض، أو أي حقيقة تاريخية أو شيئاً من الحقائق الدينية والسياسية واللغوية، وعأمة هو لا يدرك الخصائص الطارئة على الحياة الإنسانية، الخصائص التي تميز في نظرنا- نحن- أهل الأرض بلغاتها وأديانها وتاريخها، إنه لا يرى في الأشياء الأرضية ما يعبر عن تاريخها

ومصيرها، وإنما يراها مجرد موجودات في الصورة التي تقع تحت نظره مباشرة، دون أي تعليق مجرد، فكل الأشياء التي ندركها عن طريق التجريد، لا تلفت نظره ولا تخاطب فكره، كما لا تلفت نظره، في حدود فرضنا- أي في زيارته الأولى- الأوضاع الأخلاقية والسياسية وحدود الأنفس والدول، فهذه الأشياء كلها لا مفهوم لها عنده، فهو لا يرى من وراء الأشياء ماضيها أو مستقبلها، وإنما يراها في واقعها، كما هي الآن، ولا يرى في هذا الواقع نتيجة عمليات تاريخية مطردة مترابطة كما يراها ابن الأرض، فهو لا يكتشف في كل ما يقع تحت بصره تطورا وأسبابا، وإنما يراه مباشرة في حالة معينة، فنظرته لا تتجاوز الشكل السطحي أو الجلدي- إن صح التعبير- ولا تصل (بطبيعة الحال ومقتضى الفرض) إلى اللب الداخلي للمشهد الأرضي الذي يمر تحت بصره مر السحاب. وخاصة، فالنظر البشري على سطح الأرض لا يوحي له بأي مضمون روحي بطبيعة الحال، إن بصره لا يرى من واقع البشر إلا صورته الاجتماعية، فجميع ملاحظاته ومذكراته لا يمكن أن تتصل إلا بغلاف الأشياء: فهو على هذا الفرض لا يميز بين الأشياء التي تعترض بصره إلا بالاختلاف الرئيسي، بالتباين الصريح الذي يثير اهتمامه. ومما يقتضيه فرضنا: أنه ما كان لزائرنا السماوي خاصة أن يلتفت إلى لون علم يرمز به عن خط صوري يمثل في مصطلح أهل الأرض الحدود السياسية لبلد معين: فهو لا يرى أمماً ولا دولاً، وإنما يشاهد ريفاً ومدناً وخطوطاً للمواصلات بينها وتجمعات بشرية، ولا شك أنه يسجل التغيرات التي تطرؤ على المنظر من مكان إلى آخر كلما تغير ما يسمى (اللون المحلي). ولكن الأنتقال الذي يثير انتباهه بلا ريب، هو التحول الذي ينتج عن انفصال حقيقي في النظر الواقعي، بالنسبة له أي تبعاً لمعادلته الشخصية-كما

يحددها فرضنا- أي عندما يحدث في نفسه انفصال داخلي، لأن كل تغيير خارجي في مظهر الحياة وفي نسق هذا المظهر وفي أشكاله، يؤدي حتما إلى تغير داخلي في نفوسنا. ولنفترض الآن، وفي محيط هذا الفرض الذي وضعناه، أن زائرنا السماوي يقطع المسافة بين واشنطن وموسكو، على طبق طائر أو بوسيلة أخرى، فمن الواضح أن المشهد البشري على طول هذا الطريق لا يحتوي على أي فاصل جوهري، بالنسبة إلى معادلته الشخصية كما حددناها: فربما تستلفت نظره لحظة رؤية ناطحات السماء الرائعة في شوارع نيويورك عندما يمر فوقها، ولكن هذه التفاصيل ستذوب حتما في مجموعة تفاصيل من النوع نفسه، إذ أنه سيرى في موسكو أيضاً (الناطحات) التي أنشأها ما سمي بعد الحرب العالمية الثانية (أسلوب ستالين). فمكتشفنا سيصادف إذن، من أول الخط إلى نهايته اللوحة نفسها التي سجل فيها الإنسان، الذي يعيش على هذا الخط نتائج كفاحه وعبقريته. فمن أقصى هذا الخط غرباً إلى أقصاه شرقاً يرى زائر السماء شبكات الطرق الحديدية والنهرية والجوية نفسها. والطابع نفسه الذي يكسو وجه الريف الذي تتدفق منتجاته على المدن الصناعية، المدن الكبيرة ذات الشوارع الواسعة، التي يخيل له أنها تنشط فيها الحياة في ساعات النهار نفسها وتتحرك فيها المجموعات البشرية نفسها، من أطفال ذاهبين إلى مدارسهم، ومن رجال ذاهبين إلى مصانعهم وورشهم ومكاتبهم. ويبدو فيها التنظيم نفسه للوقت تدل عليه هذه الحركة التنظيمية، التي تحتل الشوارع وتغادرها في ساعات محددة، والتنظيم المدني نفسه بمداخن مصانعه، ومدنه العمالية وقطارات المترو التي تلي حاجة هذا النشاط الزاخر إلى السرعة، ونظم التنوير وكيفية التنوير وكيفية الإضاءة في شوارع التجارة والملاهي بالليل.

وموجز القول إن نظرة زائر السماء ستصادف الدرجة نفسها من واشنطن إلى موسكو. فهو يرى خاصة هذا العامل في مصانع فورد في مدينة Détroit بأميركا، وزميله في مصانع رونولت بباريس، وزميلهما في مصانع كروب Krupp بمدينة إيسن أو في مصانع مولوتوف بموسكو. فقبل أي تمييز سياسي أو ديني وقبل أي اعتبار خاص بالعنصر وبالصنف البشري الذي يصادفه نظره، فإنه يرى وجهاً واحداً في كل هؤلاء العمال، لأنهم يمثلون النموذج الاجتماعي نفسه، ولو أنه مد خطواته واستكشافه في الاتجاه نفسه حتى ضواحي طوكيو، فإنه لا يرى العنصر الأصفر في ملامح العامل الذي يشتغل في مصانع ميتسوي، بل يرى النموذج الاجتماعي نفسه الذي يتحرك داخل اللوحة، التي رسمها نشاط الإنسان على طول الخط من واشنطن إلى موسكو. وحتى الآن ليس لدى زائرنا أي سبب يدفع عقله إلى أن يعقد أي صلة سببية، بين هذا النموذج الاجتماعي والنظر الذي يحوطه، إذ ليس لديه حتى الآن مقياس منطقي يربط هذين العنصرين في ذهنه، أي يربط بين صورة الفرد في محيط معين وبين هذا المحيط، ولكن ستسجل في ذاكرته بصفة آلية، هذه المطابقة في صورة فكرة تضم هذين العنصرين في وحدة معينة، ربما تتبلور في ذهنه بوصفها مقياسا وسوف يرجع إليها بصفتها قاعدة تمييز بعد أن تتم مشاهداته لظروف الأرض وخصائص الحياة على سطحها، فتصبح إذن هذه القاعدة مميزة في نظرية لتنوع هذه الظروف وهذه الخصائص. وبالفعل فلنتبع الآن خطوات زائرنا في اتجاه آخر على طول الخط الممتد من طنجة إلى جاكارتا: إن النظر البشري سوف يتغير فجأة وبصورة كلية في نظره، إنه سوف يرى منذ الخطوات الأولى في هذا الاتجاه (مدن الأكواخ) المتناثرة هنا وهناك في ضواحي الدار البيضاء، وضواحي بومباي مثلاً، فتغير هذه الأكواخ تأثراته وانطباعاته جذريا، كأنه عبر الحدود الفاصلة بين عالمين مختلفين

اختلافاً، يحدث في نفسه انفصالا تاماً عن تأثراته وانطباعاته السابقة، ويأخذ هذا الأنفصال يتأكد في نفسه كما تابع مشاهاداته في الاتجاه الجديد، يتأكد بقدر ما يجمع في نفسه من آثار المشهد الجديد، الذي يراه الآن بمختلف ألوانه المعبرة عن صورة الحياة البشرية الجديدة على طول هذا الخط. إن النظر الإنساني لم يعد هو الأول، فلا مصانع هنا ولا مداخن، ولا مدنا صناعية ناشطة في ساعات معينة من النهار، ساهرة بالليل من أجل الدعاية واللهو؛ والإنسان في المنظر الجديد يبدو ساكنا لم يطبع إرادته في تنظيم إطاره اليومي طباعة ينظم معها التراب والوقت؛ فعلى مساحات شاسعة يبدو التراب وكأن اليد البشرية لم تسيطر عليه قط، فهو بقي في سلطة الطبيعة أو عاد إليها، كأنه بكر لم يمس، والوقت يبدو لا شكل له فيمضيى تائهاً مبعثراً خامداً، فهو ير سدى فوق رؤوس جماهير عاطلة، لا تشعر بقيمة الساعات الضائعة؛ واللون المحلي تغير كله. ولقد أصبح الإنسان الذي يتحرك داخل المنظر الجديد من نموذج اجتماعي يختلف الاختلاف كله عن النموذج الأول. هنا تنتهي رحلة زائرنا ولا أدري هل سيجعل منها موضوع تأمل ودراسة، أو هو أتى لمجرد التفسح والتسلية، لا أدري هل توحي له مدن الأكواخ وناطحات السماء بموازنات يستنتج منها بعض الاستنتاجات، إذا عد الكوخ وناطحة السماء أدوات تعريف لبيئتين تختلف فيهما الحياة تمام الاختلاف. إنني لا أدري كيف سيتصرف في ملاحظاته، لأنني أجهل طرق التفكير لدى أهل السماء، ولكن لنفترض أن زائرنا أراد أن يتفضل علينا، فترك لنا بجانب الطريق- قبل عودته إلى مقره- كراسة ملاحظاته لنتصرف فيها كيفما نشاء، حسب إدراكنا الخاص لشؤون الأرض وتاريخها. إنه يمكننا أن نستفيد مما في الكراسة مباشرة، ومما يمكننا استنتاجه من

محتواها طبقاً لطريقة التفكير الخاص بأهل الأرض، ولا في أيدحهم من وسائل التحليل. لا شك أن زائر السماء بدأ يشعر بأنه قد تخطى فعلاً حدوداً فاصلة، عندما انتقل من خط واشنطن موسكو إلى خط طنجة جاكارتا، وأنه قد دخل عالماً تعد (مدن الأكواخ) فيه عنصر تعريف في غاية الأهمية بالنسبة إليه، وعنصر تمييز أيضاً لأنه يمثل حد التمييز بينه وبين النظر الأول، الذي يتميز بناطحات السماء ومدن العمال. وربما نزيد على ملاحظة زائرنا طبقاً لمنطقنا الخاص، أن عنصر التعريف هذا يستمد قوته من النموذج الإجتماعي: قد يتساءل زائر السماء عما إذا لم يكن الإنسان الذي التقط صورته في ضواحي كلكتا، هو الذي يراه الآن- وكأنه أضناه بعد السفر- مستنداً إلى حائط هذا الكوخ، يسترد أنفاسه في ضواحي مدينة من مدن إفريقيا الشمالية. وعلى كل، فلا يمكننا نحن، طبقاً لما يتطلبه صب هذه الملاحظات في قضية عقلية، لا يمكننا إلا أن نربط بين هذين الرجلين مهما كانت الفروق اللغوية والعنصرية والسياسية والدينية التي تفصل بينهما. إن وجه القرابة بينهما واضح حتى لنظرة زائر السماء، لأنه يتذكر أنه لم يصادف نموذجهما في أي بقعة من بقاع رحلته الأولى. إن هذا النموذج الاجتماعي الذي يتمثل فيهما هو صورة الإنسان الإفريقي الآسيوي، الرمزية في مرحلته الراهنة، أي صورة الإنسان الذي يتضمن واقعه ومصيره معطيات التضامن الإفريقي الآسيوي كلها، ويتضمن كيانه خاصة العناصر النظرية كلها التي جمعناها- من أسباب وغايات- في الجدول التحليلي الذي قدمناه في صدر هذا الحديث. إن تلك الأسباب والغايات التي أشرنا إليها، ما هي بعد التحليل سوى الدوافع التي تحرك هذا الإنسان، عندما يفكر في

شؤونه الخاصة أو في شؤون وطنه أو في شؤون العالم، أي عندما يفكر في مشكلاته بوصفه أبا يكدح من أجل قوت أبنائه، ومواطنا يناضل من أجل. تحرير بلاده، ورجلاً يعمل ما في استطاعته لتأييد قضية من قضايا العالم الكبرى كقضية السلم على وجه المثال. ولكن هذه المشكلات ليست- في صورتها العأمة- خاصة بالإنسان الإفريقي الآسيوي، فالإنسان الذي يعيش على محور واشنطن موسكو يواجه أيضاً المشكلات نفسها، فهو يكدح من أجل قوت أبنائه، ويناضل في سبيل وطنه، ويعمل بصورة ما لتدعيم السلم حسب منطقه الخاص، وإنما قد أدركنا من خلال مشاهدات زائر السماء أن مواقف الطرفين إزاء هذه المشكلات تختلف بنتائجها: فهذا يسكن كوخاً في إحدى مدن الأكواخ، والآخر يتمتع ببيت في إحدى مدن العمال، والأول عاطل في نسبة كبيرة لا يجد من يشغله، بينما يجد الثاني في المكتب أو المصنع ما يعطيه الشغل، وواحد يرى الأجنبي مستقراً في بلاده بحكم يفرضه الإستعمار على البلاد المستعمرة، والثاني لا يتوقع عدواناً إلا على حدود بلاده، وهذا يرى أن قضية السلم في العالم منوطة بالضمير العالمي والآخر يراها منوطة بقوة السلاح. يجب إذن أن نغير وجهة نظرنا في الدوافع العأمة التي تحرك نشاط الإنسان، وأن نعدها من الوجهة الواقعية لا من الوجهة النظرية، كي نزيد فكرة التضامن الإفريقي الآسيوي وضوحاً، أو بعبارة أخرى كي نزيد تعريفاً لأسبابه وأهدافه الواقعية. فلنعد إلى ملاحظات زائر السماء مرة أخرى، كي نتقدم خطوة جديدة في حديثنا. إن زائر السماء قد ترك لنا من بين ملاحظاته عن حياة أهالي المحورين، وعن النموذجين اللذين يمثلأن صورتي الحياة على هذين المحورين، ما يكفينا من

المسوّغات كي نوحد كليهما بالمحيط الإنساني الذي يعيش فيه، فيكون هكذا لدينا مقياس نقيس به الأشياء من حيث تشابهها النظري واختلافها الواقعي، تشابها ندركه في وحدة المصير التي يبدو أنها مقررة على كل محور، واختلافا ندركه عندما ننتقل مثل زائر السماء من محور إلى آخر، إن ملاحظات زائرنا تجعلنا نقرر- قبل أي تفسير تاريخي- أن رباطا عضويا يربط بين مصير الإنسان والمحيط الذي يحيط بحياته، حتى إنه يمكن مسبقا تقدير نسبة البشر الذين سيولدون في محيط معين، معرضين للأمراض الإجتماعية مثل الفقر والجهل والعطلة، أو الأمراض الجسمية مثل الرمد والبلهارسيا، ونسبة الذين سيولدون في محيط آخر متمتعين بكل الضمانات الإجتماعية، التي تقدم إليهم أحيانا حتى قبل مولدهم، في صورة منحات تقدمها الحكومات إلى النساء الحوامل. وإذن فإن حظ الفرد مقدر إلى حد ما قبل مولده، تقدره أوضاع عأمة خارجة عن نطاقه الشخصي أو العائلي، تكون في الوقت نفسه حتمية اجتماعية. ولكي تكون هذه الملاحظة مفيدة من الناحية النظرية، يجب أن نستنتج منها سؤالاً في صميم موضوعنا: يجب أن نسأل لماذا يولد الإنسان الإفريقي الآسيوي محروماً؟ إن ملاحظات الزائر ستهدينا إلى الجواب. لنتصور قبل أن نترجم هذه الملاحظات إلى لغة التاريخ والاجتماع، وقبل أن نفسر نوع (الوحدة) التي قررنا وجودها من خلال مشاهدات الزائر، وأدركنا أنها تربط بين مصير الإنسان والمحيط الذي يعيش فيه، لنتصور زائرنا - فضلاً عن وجوده في كل مكان طبقا لفرضنا الأساسي، أن لديه أيضا القدرة على أن يكون موجودا في كل زمان، ولنفرض أنه رجع ألف سنة إلى الوراء، مع الرجاء أن يتفضل علينا هذه المرة مثل الأولى بملاحظاته، إنه سيرجع على طول

الطريقين الأولين، وسيرى من النظرة الأولى أن المنظر الإنساني الذي شاهده في المرة السابقة قد تغير كلية، ولكنه بقي محتفظا بشيء ثابت: فهو يتمثل مرة أخرى في صورة وحدتين محددتين تماما في المكان، بالتوزيع الجغرافي نفسه، أي في صورة قارتين يحدد كليهما محور جغرافي، الأولى محدودة بمحور طنجة جاكرتا، والثانية بمحور واشنطن موسكو. وسيشعر الزائر هذه المرة مثل الأولى بانفصال داخلي يحدث في نفسه، عندما ينتقل من محور إلى آخر كأنه عبر حدودا تفصل بين عالمين مختلفين: إن الأنطباعات التي ينطبع بها الزائر تتغير تماماً تبعاً للاوضاع التي تتغير فعلاً مع النموذج الاجتماعي الذي يعيش فيها. ولكن الظاهرة تبدو الآن في ضوء جديد: إن نسبة الحظ والشر المادي، أو مستوى المعيشة كما نقول اليوم، كانت في المرحلة الأولى لحساب الإنسان الذي يعيش على محور واشنطن موسكو، فها هي ذي الآن لحساب الإنسان الذي يعيش على محور طنجة جاكرتا، فقبل ألف سنة نجد التوزيع الجغرافي نفسه في صورة قارتين، ولكن التوزيع الاجتماعي في المرة الثانية يختلف تماما عن الصورة التي رآها الزائر في المرة الأولى، وكأن هذا الاختلاف الذي وقع اليوم لحساب النموذج الاجتماعي، الذي يعيش في القارة الشمالية، كان قبل ألف سنة لحساب النموذج الذي يعيش في قارة الجنوب: إنه كان من الأنسب أن يولد الإنسان على محور طنجة- جاكرتا، إذ كان يجد في مهده حظاً أسعد وعيشاً أرغد ومصيراً أضمن، لأن الأوضاع الموجودة إذ ذاك على هذا المحور، كانت تحقق للفرد الذي يولد هناك الضمانات الاجتماعية، التي يتمتع بها الفرد الذي يولد اليوم على المحور الشمالي، وقد تزداد هذه الملاحظة دلالة إذا ما ذهب الزائر في استكشافه أبعد من ذلك على هذا المحور، إذ يشاهد أميركا الجنوبية قبل كريستوف كولومب، عندما كان يعيش فيها النموذج الاجتماعي، الذي صنع حضارة المكسيك وحضارة

البيرو، بينما معاصره الذي يعيش في الاراضي التي تكون اليوم الولايات المتحدة، كان على غاية من الأنحطاط الاجتماعي في درجة البداية. وبهذه الملاحظات المكانية والزمانية، ندرك الآن بوضوح أكثر أن الفرد مقيد مقدما وإلى حد كبير بالظروف التاريخية والجغرافية، التي تفرض شروط حياته قبل أن تشرطها مواهبه الشخصية، وأن حظه مرتبط مقدما بالقانون العام الذي يسيطر على حياة كل فرد ينتسب إلى (الوحدة) التاريخية التي ينتسب إليها هو، وذلك مهما كانت معادلته الشخصية، وهذا يعني خاصة أن الإنسان الإفريقي الآسيوي، يعاني اليوم مهما كانت مواهبه الشخصية، العوامل السلبية كلها التي يفرضها على كيانه انتسابه إلى خطه الجغرافي، إلى وحدة تاريخية معينة، إلى قارة محددة بظروف اجتماعية متشابهة، تسيطر على حياة الإنسان من طنجة إلى جاكرتا، وتكون بالتالي الصورة السلبية للتضامن الإفريقي الآسيوي، لأنها تضع على كاهل الإنسان الذي يولد على هذا المحور، جميع أعباء الحرمان التي تنزل عليه المحن وتحرمه من النعم، ولكنها تكون في الوقت ذاته وعيه الجماعي، أي العلأمة الأولى على كيان موحد في بعض الحدود، التي عبر عنها بشيء من الوضوح مؤتمر باندونج ومؤتمر القاهرة. كما ندرك أيضاً- من خلال مشاهدات زائر السماء- أن هذه الحتمية التاريخية الجغرافية، تتغير تبعاً للزمن في مكان واحد، وتبعاً لمكان في زمن واحد. وبالتالي فإن هذه المشاهدات كشفت لنا بعض الحقائق العأمة التي يجب الوقوف عند مضمونها القانوني، في نطاق القوانين والسنن التي يسير بمقتضاها التاريخ العام، كي ندرك بوضوح أكثر معناها بالنسبة إلى التضامن الأفريقي الآسيوي، وخاصة بالنسبة إلى الأسباب التي بعثته وإلى الغايات التي تحدد مصيره في التاريخ. إن رحلة الزائر الأولى كشفت لنا عن وحدتين متقابلتين من واشنطن إلى

موسكو ومن طنجة إلى جاكرتا، وأدركنا دون أن نحدد طبيعة هاتين الوحدتين، أن كلتيهما تفرض قانونها العام على كيان ومصير الأفراد المرتبطين بإطارها، وهكذا يتحدد في نظرنا التضامن الإفريقي الآسيوي في صورته الاجتماعية، أي في صورة النموذج الموحد للحياة، وللمنظر الإنساني الذي يحيط بها من طنجة إلى جاكرتا، كما شاهده زائر السماء في رحلته الأولى. أما الرحلة الثانية فإنها أكدت لنا وجود ظاهرة ذات أهمية بالغة، بالنسبة إلى معنى الأحداث التي تؤثر على مجرى التاريخ، فالظاهرة هي وجود محورين، تنتقل معها من الواحد إلى الآخر القيم الحضرية بصورة دورية، كأنما تاريخ الإنسانية يصنع على محورين بينهما حركة مد وجزر مستمرة، تنقل القيم الحضرية المنوطة بهذا حظوظ الإنسان كما قدمنا، وكأنما التاريخ حوار مستمر بين المحورين، حوار ندرك معناه في بعض الأحاديث وفي بعض الأحداث: في بعض الأحاديث عندما ينشر مثلاً كتاب لغاندي بعنوان (حضارتهم وخلاصنا)، أو كتاب لرشاردوريت بعنوان (أنت أيها الرجل الأبيض). وكأنما المهاتما غاندي والكاتب الزنجي كانا يعبران عن التضامن الإفريقي الآسيوي في أبسط صورته، وكأنهما كلاهما بلغته الخاصة يقومان بدور رجل محور طنجة جاكرتا عندما يخاطب رجل محور واشنطن موسكو، من أمثال (رويد يارد كيبلنج) شاعر النزعة الإستعمارية والتفرقة العنصرية عندما يتعالى على الإنسانية الملونة، فلم يتصور- على حد قوله- أن قرداً يستر عورته بقطعة قماش، سيصعد يوماً درجات السلم المرمري الأبيض، الموجود في مدخل قصر نائب جلالة ملك إنجلترة بنيودلهي، ليطالب بالحقوق، وهو يشير بكل وضوح إلى صورة غاندي المشهورة، وقد كان فعلاً لا يضع عليه إلا قطعة قماش أبيض يستر بها عورته، ولم يدرِ ذلك الشاعر المتكابر أن الأقدار كانت تهيئ لغاندي أن يصعد فعلاً ذلك السلم بعد الحرب العالمية الثانية، ليتحدث مع اللورد ماونتباتن

في شأن حق بلاده في الحرية والاستقلال، بل كانت تهيئ له أكثر من ذلك، وقد رأيناه يصعد قبل موته وبموته السلم الذهبي في ضمير الشعوب المهتمة بقضية السلام، كي يكون في قمة ذلك الضمير، رمز السلام في القرن العشرين. إنما هذه الأحاديث لا تعبر وحدها عن هذا الحوار المستمر، بل نجده أحياناً في لغة أخرى هي لغة الأحداث الكبرى، التي علمت طريق الإنسانية عبر القرون، من غزو الفرس بلاد اليونان إلى فتوحات الإسكندر المقدوني، ومن ملحمة هانيبال إلى انتصار غريمه سبيون الإفريقي، ومن الفتوحات الإسلامية إلى الموجة الصليبية والموجة الإستعمارية. إنه الحوار في صور مختلفة .. الحوار الطويل بين محوري التاريخ .. وما الإستعمار إلا فقرة منه تقابل فقرة أخرى هي القابلية للاستعمار!! وفي وسعنا أن نذكر فقرات أخرى منه سجلها التاريخ بعد الحرب العالمية الثانية، وأن نضع أمام كل جملة تعبر عن إرادة إنسان محور واشنطن موسكو، جملة تعبر عن إرادة إنسان محور طنجة جاكرتا، بل بصورة أشمل إن المشكلات التي يعبر عنها الكبار على المحور الشمالي، والمشكلات التي تعبر عنها شعوب المحور الجنوبي، هي المتناقضات الرئيسية التي تصوغ جدلية القرن العشرين، وكل واحد من هاته التناقضات تعبر عن حلقة من الحوار، الذي تتتابع حلقاته في ترتيب منطقي، يتضمن أزواجا متقابلة الاجزاء كما تترتب الأسباب ونتائجها في اطراد تكويني معين، تبعاً للتطور الذي حدث في العالم منذ عام 1945؛ حتى إننا لو سجلنا هذه المتناقضات متقابلة في الترتيب الزمني، لصورنا وجه التاريخ وديناميكيته في الفترة التي نعيش فيها هكذا:

كبار شعوب المحور الشمالي .......... شعوب إفريقية آسيوية التضامن الإستعماري الذي عبر عنه .......... التضامن الإفريقي الآسيوي الذي عبر مؤتمر برلين في القرن الماضي .......... عنه مؤتمر باندونج لأول مرة مشاكل القوة .......... مشاكل البقاء سياسة القوة التي تمثلت في شخص دلاس .......... سياسة اللاعنف التي تمثلت في شخص نهرو منطقة الحرب الباردة .......... منطقة السلم الأحلاف العسكرية، استراتيجية التطويق .......... الحياد الإيجابي فهذا الجدول يرسم في الواقع الصورة الراهنة للعالم، ويكشف عن جميع القوى التي توجه التاريخ وتكيف مصير الإنسان؛ والنظرة المتأملة فيه يمكنها أن تستخلص منه بعض الاستنتاجات، المتصلة بإمكان تلاقي التيارين اللذين يصورهما هذا الجدول، واجتماعها في تيار يوحد الإنسانية، أي في النقطة التي يبدو أنها قطب التاريخ، أي النقطة التي تتوق إليها كل قوى التاريخ على الرغم مما فيها من متناقضات، وإذا أدركنا أن التضامن الإفريقي الآسيوي في صورته السياسية، التي عبر عنها مؤتمر باندونج، هو إحدى هذه التناقضات التي تعبر عن البناء المزدوج للعالم، في الصورة التي كان ينظر إليها (جول فرن) عندما كان يكتب قصته المشهورة (ميشل ستروجف)، القصة التي كان يؤلفها هذا الكاتب الفرنسي لتمجيد البطولة في موجة الإستعمار الروسي، عندما انطلقت روسيا القيصرية تتوسع في القارة الآسيوية، فإذا كان التضامن الإفريقي الآسيوي في النظرة الأولى، يبدو وكأنه قوة تواجه التضامن الإستعماري، ويعيد هكذا للعالم بناءه المزدوج، فإن النظرة الفاحصة تبين أنه يعيد له هذه الصورة في نقطة انتقال فقط، أي في صورة مؤقتة ينتقل منها إلى صورة متحررة، من الإستعمار ومن القابلية للاستعمار، في مرحلة تطورية معينة، لابد أن تجتازها الإنسانية التي تهدف إلى توحيد بنائها.

فالتضامن الإفريقي الآسيوي لحظة معينة من الحوار التاريخي الذي أشرنا إليه، ولكنه اللحظة التي تغير مجرى هذا الحوار وتوجهه في اتجاه جديد، بين شعوب تواجه مشكلات البناء والبقاء، ودول تقدس القوة وتراها الحل الوحيد لجميع المشكلات القائمة في العالم. ولكن لو تأملنا مرة أخرى جدول التناقضات الذي قدمناه، لأدركنا جانب الضعف في التضامن الإفريقي الآسيوي، لنرى من خلال هذا الجدول أن الوعي الذي يتمثل في ردود أفعاله، يتكون ويتطور طبقا للأسباب التي نشأت على محور واشنطن موسكو، المتصلة بمشاكل القوة، أكثر من الأسباب الناشئة على محوره، المتمثلة في مشاكل البقاء، أي أن هذا الوعي يتصل أكثر، بالأسباب السياسية الناتجة عن الحالة العأمة في العالم، كما تشكلها الأوضاع القائمة على المحور الآخر، أكثر مما يتصل بالأسباب التاريخية الاجتماعية المتكونة على محوره، وقرارات باندونج والمبادئ الخمسة، التي تكون التوجيهات الأساسية للتضامن الإفريقي الآسيوي، تعبر عن هذا الاتجاه المنحرف، انحرافا يجعل الأسباب الاجتماعية الماثلة في صورة النموذج البشري، الذي اكتشفه زائر السماء في رحلته من طنجة إلى جاكرتا في المرتبة الثانية من الأهمية، بينما يجب أن تكون هي المشكلات الأساسية التي يواجهها الوعي الإفريقي الآسيوي. ويبدو فعلاً أن هذا الاتجاه لا زال قائماً، وأن الاهتمام لا زال منصرفاً إلى المشكلات السياسية منذ مؤتمر باندونج أكثر من المشكلات الاجتماعية، فنرى أن الأولى تدرس وتعالج على أعلى مستوى في المؤتمرات التي تعاقبت، وأعطت فعلاً مفهوم التضامن الإفريقي الآسيوي أقصى معناه في الاتجاه السياسي، بينما نعالج الثانية في نطاق الرسميات أو عن طريق المبادرة الفردية، أي في نطاق محدود الإشعاع من الناحية الأيديولوجية، أو بعبارة أوضح بوسائل لا تشكل التضمامن الإفريقي الآسيوي في أكمل معناه، وربما ينجر هكذا الوعي الإفريقي

الآسيوي، إلى الاهتمام بمشكلات القوة، أكثر من مشكلات البقاء، أي إلى الإنحراف ذاته الذي نؤاخذ عليه قادة السياسة على المحور الشمالي، الذين يكادون في كل لحظة يدفعون الإنسانية إلى كارثة عالية. وهذا الإنحراف يسبب بالتالي تحويلاً للطاقات الاجتماعية وصرفها إلى القضايا الشكلية على حساب القضايا الحيوية، فيضيع هكذا الوقت الثمين الذي أصبح المادة الأولية في تنمية أي مجتمع، وخاصة إذا كان المجتمع في نقطة الإنطلاق، وتضيع بالتالي الحلول المناسبة لطبيعة المشكلات التي يواجهها اليوم الإنسان الأفروسيوي على المحور الجنوبي، أعني الحلول التي تحقق وحدها كيان ومصير هذا الإنسان ورسالته في العالم. فلو كان لنا أو علينا، بموجب هذه الملاحظة، أن نعيد النظرة في الموضوع، لرجعنا مرة أخرى إلى كراسة زائر السماء، إلى ملاحظاته الوصفية، أي المجردة من كل تعليل، لنعطيها هذه المرة ما تستحق من التعليل في نطاق القوانين الاجتماعية. إن هذه الملاحظة أعطتنا صورة صحيحة للإنسان، الذي يعيش اليوم على محور طنجة جاكرتا، ولكنها لم تعطنا معنى الواقع الذي يتجلى في هذه الصورة، بالكيفية التي تتيح لنا معالجته بطريقة منهجية وعلى أعلى مستوى، أي في نطاق التضامن الإفريقي الآسيوي في أقصى معناه. فلا جدوى أن نذكر مرة أخرى ملاحظات زائر السماء، ولكن فلنتصرف في معناها في ضوء التاريخ وعلم الاجتماع. فنحن نرى أولا أن هناك مشكلة خاصة للإنسان الإفريقي الآسيوي بالذات، أي مشكلة تخصه دون غيره من البشر في القرن العشرين، لأن المشكلات التي تواجه المجتمعات الأخرى سواء في أوربا أو في أمريكا تحدها حدود الدولة، ويمكن حلها في نطاقها، بينما المشكلة التي نضعها هنا موضوع الدراسة

تخص المصير المشترك الذي يخيم من طنجة إلى جاكرتا، وفي وضع عام يسود على طول هذا الخط وقد يسميه بعض الدارسين (التخلف)؛ وهو على كل حال وضع الفرد المحروم من الضمانات الاجتماعية، في نطاق وحدة تاريخية اجتماعية، تتجلى في النموذج الاجتماعي الذي اكتشفه زائر السماء على المحور الجنوبي. ثم إننا مضطرون إلى أن نلاحظ أن هذا الوضع العام، وهذه الوحدة التي تفرض قانونها على مصير الفرد، مستقلان عن الظروف السياسية، والحدود القومية، والإطارات العنصرية، باعتبار أنها في مكان معين تتغير مع الزمن، وفي زمن معين تتغير حسب المحور الجغرافي. فلو أننا- علاوة على الظروف التي تحدد مكانها بالنسبة لمحور أو لآخر- نأخذ في اعتبارنا طبيعة العلاقة التي تربط حياة الفرد بهاته الوحدة، نكون مضطرين، بسبب خاصتها الجغرافية التاريخية وطابعها الاجتماعي، فيما يتعلق بالحتمية التي تفرضها على حياة الفرد المرتبط بها، ونكون مضطرين على اعتبار هاته (الوحدة) - التي لاحظها زائر السماء في صورتها القشرية، دون أن يفسرها لأنه يجهل ظروف الأرض- هي مجموعة الشروط التي تكون في المكان وفي الزمان حضارة معينة، أي الحضارة التي تطبع جميع حقائقها الثقافية، وخصائصها الأخلاقية والجمالية والصناعية، في أسلوب حياة يشمل النظر الإنساني، ويحدد سلوك النموذج الاجتماعي الذي يتحرك فيه. وعليه فكل تفكير في مشكلة الإنسان بالنسبة إلى حظه في الحياة، هو في أساسه تفكير في مشكلة الحضارة، والمشكلة القائمة من طنجة إلى جاكارتا، وهي في جوهرها مشكلة حضارة، وهذا هو ما يفسر التغيير الجذري، الذي يشعر به زائر السماء عندما ينتقل من المحور الشمالي إلى المحور الجنوبي، فيرى الإنسان المعطل والتراب المعطَّل والوقت التائه، إنه يرى في الواقع حضارة معطلة، أو كما نقول بمصطلح العصر: إنه يرى مجتمعات متخلفة.

والآن يمكننا تفسير الحرمان الشامل الذي يطبع اليوم حياة الإنسان من طنجة إلى جاكرتا وتفسير عجز هذا الإنسان في مواجهة المشكلات العادية كما سبق أن بينا. فمن البديهي إذن القول إن الإنسان الإفريقي الآسيوي يواجه اليوم أزمة حضارة، يجب عليه أن يحققها على محور تاريخه، أي أن يحقق وضعاً عاماً يتفق مع الشروط الفنية، التي من شأنها أن تخوله الضمانات الاجتماعية، التي يتمتع بها إنسان المحور الشمالي، فيتغير بذلك وضع الحياة البشرية من طنجة إلى جاكرتا، وتتغير معه كل القيم الحضارية، وينتج بالتالي تغيير كلي في طبيعة العلاقات ذاتها، بين المحورين تلك العلاقات التي يمكننا وصفها اليوم سياسياً وإقتصادياً واجتماعيا، بأنها علاقات الإستعمار بالقابلية للاستعمار، وعلاقات الإنتاج الصناعي بالزراعة والمادة الخام، وعلاقات مشكلات القوة بمشكلات البقاء، فتتغير هذه العلاقات حتى لا يبقى الحوار التاريخي بين الطرفين حواراً بين سيد ومسود، بين قوي وضعيف، بين متحضر دون مستوى الإنسانية الأخلاقي، ومتخلف دون مستوى الحضارة الاجتماعي، لأن كل تغيير اجتماعي على محور طنجة جاكرتا، يفرض تغييراً أخلاقياً وسياسيا على محور واشنطن موسكو، كما يمكننا أن ندرك ذلك من خلال تاريخ اليابان الحديث، إذ نراه على أثر الهجوم الإستعماري سنة 1853 يبادر منذ بداية العهد اليجي سنة 1868 بتغيير كل أوضاعه الاجتماعية بدخوله في دور حضارة جديدة. وإذا بهذا التغيير الداخلي يغير كل علاقاته السياسية بمحور القوة. فتأتي دول هذا المحور ترغب في صداقة ومحالفة الميكادو، وتعد إنجلترا معه فعلاً معاهدة صداقة دامت بين الدولتين ولم تلغها بريطانيا إلا سنة 1925. بعد أن كان لها أثرها الفعال في الحرب العالمية الأولى. وبعد ما بدأت المنافسة الإقتصادية القاسية التي شرع فيها اليابان، عندما اكتسح أسواق جنوب آسيا، وهدد مراكز بريطانيا الإقتصادية في تلك النواحي، بما أطلق عليه الدنبنج الياباني Dumping.

ومهما يكن في هذه الطفرة من انحراف جذري لم نر معه اليابان يتطور في نطاق التضامن الإفريقي الآسيوي، بل على العكس نراه يتطور إلى دولة استعمارية، مندفعة في هذا الاتجاه بنزوع الروح القيصريه التي كانت تسيطر على الثقافة والسياسة في اليابان، الروح الذي يمثل في شخص الميكادو وفي شخصية الساموراي؛ ولكن على الرغم من هذا الإنحراف يبقى في تطور اليابان دلالة واضحة، على أن كل تغيير يحدث في الاوضاع الاجتماعية في صورة بناء حضارة، يؤدي حتما إلى تغيير في طبيعة العلاقات السياسية بين المحورين، كما يدل على ذلك مرة أخرى تاريخ اليابان، عندما نزلت بأرضه الجيوش الاجنبية على أثر الحرب العالمية الثانية، إنها نزلت للاحتلال العسكري، لا من أجل الاستغلال الإستعماري، لأن العهد الميجي قد محا نهائياً من النفس اليابانية، كل الاستعدادات السلبية التي نسميها القابلية للاستعمار. فالطريقة إذن ناجحة مع التعديل الضروري، حتى لا تنجر الشعوب الإفريقية الآسيوية إلى انحراف اليابان الذي نشير إليه. والطريقة تكون ناجحة بالنسبة إلى الشعوب الإفريقية الآسيوية من نواح متعددة، لأنها ترفع أولاً قيمة التضامن الإفريقي الآسيوي، من مستوى المفهوم السياسي المحدود الإشعاع، لأنه يخص في كل بلد القيادة السياسية، إلى مستوى المفهوم المطلق الذي لا يخص إشعاعه طائفة معينة، بل كل الأفراد في المجتمع الذي تبق فيه الحضارة بما فيهم الراعي ورجل العلم. والحضارة تحقق هذا الشمول من وجهتين: 1 - من الوجهة الديناميكية أولا، لأنها بوصفها فكرة سوف تضيف إلى الأسباب الناشئة على المحور الشمالي، التي تكوّن وحدها تقريباً كما بينا مضمون التضامن الإفريقي الآسيوي اليوم، تضيف إليها الأسباب الناشئة على المحور الجنوبي، التي بقيت تقريباً خارج هذا المضمون.

وهذا يعني أنها تعطي للتضامن الإفريقي الآسيوي أقصى معناه الفعال في إدراك الشعوب، لأنها تغرس روحه في كيانهم، محققة بذلك القاعدة الإيديولوجية التي لا كيان لسياسة بدونها. 2 - ومن الوجهة العملية التطبيقية فإنها- بوصفها مشروعاً لعمل مخطط- تحرك أقصى ما يمكن من الطاقات الاجتماعية، لمواجهة أكثر ما يمكن من المشكلات الحيوية، المتصلة بواقع النموذج الاجتماعي، الذي اكتشفه زائر السماء على هذا المحور، فتغير بذلك وجه العالم كما يتوقع ذلك الكاتب الغربي الذي ذكرناه في صدر هذا الحديث. لكن على شرط أن هذا العمل المخطط يحمل كل معناه، على أن يكون عمل بناء لاعمل تكديس، لأن الحضارة لا تصنعها (كومة) من الأشياء المستوردة، وإنما هي بناء تطبعه فكرة معينة، كما تطبع فكرة المهندس المعماري العمارة التي شرع في بنائها، وإننا لنترك جانباً الحديث عن الشروط الفنية التي يقوم على أساسها هذا البناء. ولكن إذا ما توافرت هذه الشروط كلها في تخطيط البناء الإفريقي الآسيوي، وفي المفهوم الأيديولوجي الذي تعبر عنه كلمة التضامن، فإن موجة جديدة ستغمر تاريخ الإنسانية من طنجة إلى جاكرتا، الموجة التي تدفعها ملحمة الإنسان الإفريقي الآسيوي في القرن العشرين، لتكون الكلمة الفاصلة في الحوار التاريخي بين المحورين. حلب 29/ 12/ 1960 ***

الفعالية

الفعالية محاضرة ألقيت في بيروت يوم 8/ 7/ 1959

إنني لم آت لأحاضركم، وإنما لأتحدث معكم، فإن المحاضرة تتطلب مني التهيؤ لها والاستعداد، وكرم الاستاذ محمد عمر الداعوق قد حرمني هذا كله، فهو قد أخذني منذ أمس ولم يسلمني إلى نفسي إلا منذ قليل. لقد كنت الآن في القاعة التي أنتظر فيها موعد الحديث، أستمع إلى أحد إخواننا المهندسين وكان يدرس في جنيف. ولقد استفدت من حديثه إذ أتاح لي أن أستيقن من ظاهرة نعيشها اليوم، وهي ظاهرة النهضة العربية في مختلف المجالات حتى في مجال الفن المعماري، والفن المعماري لا شك يتصل كبقية الفنون بأرواحنا وقلوبنا. ولقد عبرت عن إعجابي بما شاهدته من نموذج جديد لصورة المنبر في المساجد التي أشرف على بنائها الأخ المهندس. غير أني شعرت في أثناء حديثه أنه يواجه مشكلات، وخاصة مشكلة يعبر عنها بالرموز، لأنه مؤدب ويتحاشى إن أفصح القول أن يسيئنا فقال: ليت لنا هيئات علمية أو معاهد فنية تقوم بنشر ما نعده اليوم تجديداً لثورتنا الفنية. وهكذا في كل خطوة من خطواتنا في طريق الحياة نرى أنه تواجهنا مشكلات، وتعلق على رؤوسنا عدداً عديداً من نقط الاستفهام والألغاز، تحثنا للجواب عليها. وأحياناً نجد أنفسنا مضطرين إلى الاعتراف بأننا لا نجيد التصرف بها أو توجيه إمكانياتنا التوجيه المناسب لحلها. فالمشكلة بالنسبة لكل عربي يعيش هذه المرحلة الخطيرة التي نسميها النهضة العربية، والتي- والحمد لله- أصبحت رايتها مرفوعة في كثير من البلدان العربية وفي مقدمتها الجمهورية العربية المتحدة، أقول إن المشكلة بالنسبة لكل فرد عربي يعيش هذه المرحلة الخطيرة، أن يحاول فهم الصعوبات التي تواجهنا في صورة مشكلات متنوعة سواء في ناحية الإقتصاد أو الثقافة، وبعبارة أخرى أن يصوغ حياته صياغة جديدة تطابق حاجاته وما يحس به. إن الأخ المهندس حينما عبر عن هذه المشكلة عبر عن حالة نفسية يمكن أن نسميها

بأنها قلق؛ والحمد لله فقد أصبحت نفوسنا تشعر بهذا القلق، لأنه هو علأمة الحياة الأولى، هو علأمة الولادة الجديدة، إن الطفل يستبشر أهله بولادته ولادة سليمة حينما يبكي. فنحن إذ يعترينا القلق في حياتنا نشعر بأنا قد ولدنا ولادة جديدة، فقد عشنا قروناً طويلة لا نشعر فيها بأي قلق. فحياة جدي رحمه الله كان يحتويها جو من الطمائينة، فقد كان رجلاً فاضلاً مؤمنا يقوم بواجباته مسما، ولكنه لا يشعر في يوم من الأيام بوجود مشكلة في حياته. ثم أتى من بعده جيل هو جيل أبي فبدأت المشكلات تواجهه رويداً رويداً وبدأ يشعر شيئاً ما بالقلق. ثم أتى جيلنا فتعلقت على رأسه آلاف من المشكلات ونقط الاستفهام ملحة للجواب عليها، ملحة لدراستها لأنها تتصل بجوهر الحياة، بجوهر كياننا. فمثلا الآن وأنا أحدثكم أشعر بأن هناك مشكلة قائمة تنصب على رأسي نقطة استفهام خطيرة، نقطة استفهام حمراء، وهي مثلاً الثورة الجزائرية. لأنني بالطبع أفكر في هذا وأرجو من الله أن يحلها. ثم أرى مشكلة أخرى قريبة من مشكلة الثورة الجزائرية وهي مشكلة فلسطين، فهي أيضاً تمس حياتي في الصميم بصفتي مواطناً عربياً وبصفتي مسلماً، ثم إنى أرى مشكلة أخرى تواجهني حينما أقرأ في صحيفة عن قضية برلين، فهذه المشكلة وإن كانت بعيدة عني ظاهراً فإنها تمس حياتي من جانب آخر وفي مستوى آخر طبعاً، إذ أن هذه المشكلة إذا لم تحل حلاً سلمياً تورطنا نحن مع بعدنا عن برلين وواشنطن وجنيف وموسكو، تورطنا في ساحة المعركة، لأن القنبلة الذرية الأولى إذا انفجرت فإن وراءها سلسلة من القنابل الذرية والصواريخ الموجهة، تستطيع القضاء على كيان البشرية. فأنا إذن تواجهني المشاكل كل يوم في صور مختلفة، غير أني إذا رتبتها ترتيبا منطقياً لأعرف أي قيمة أعطي لكل نوع منها، فإنني أرى أن هذه المشكلات تترتب في فصلين: مشكلة تهمني بصفتي مواطناً عربياً، ومشكلات أخرى تواجهني بصفتي إنساناً يعيش في مجتمع أوسع من المجتمع العربي والإسلامي، إنه

المجتمع الإنساني، فإن هذا المجتمع قد أصبح يفرض كيانه اليوم. ولعلنا كنا من قبل هذا التاريخ لا نشعر بحتمية هذا المجتمع ولا باتصاله في حياتنا اتصالاً دقيقاً، أما اليوم فإننا بمجرد الضغط على زر في جهاز الراديو نستطيع أن نسمع صوت موسكو وواشنطن والعالم أجمع، فكأنه بهذا قد وقع بيني وبين العالم صلة شخصية. وهذه الصلة الشخصية ليست صلة معنوية فحسب، ولكنها صلة إقتصادية أيضاً، فإن ظروفنا الإقتصادية الكبرى تخضع اليوم لقوانين عالمية، فالقضايا الحيوية كقضية السلام أو الحرب، لا تتعلق برأي مسيو خروتشوف أو رأي أيزنهاور، وإنما تتعلق بكياني أنا بوصفي فرداً مسلماً جزائرياً عربياً إلخ .. فأنا إذن أواجه دائماً وفي كل لحظة من حياتي المشكلات من نوعين: مشكلة المواطن ومشكلة الإنسان. غير أن الحياة لا تخطئ في صياغة المشاكل، لأنها تأتي بالنتائج طبقاً للمسببات. ولكنني بعد تجربة طويلة أشعر للأسف بأنني أخطئ في فهم المشكلات، أخطئ في نطاق جوهر المشكلات. ولقد نتج عن هذا أنني أواجه المشكلات وخاصة مشكلاتي بصفتي مواطناً ببديهيات: فأجمع المشكلات تحت عناوين مسبقة. إنه قد أصبح من الشائع في صحافتنا وكتبنا التكلم مثلاً عن الفقر في البلاد المتخلفة، ونحن بالطبع قطعة من هذه البلاد، فنجعل عدداً معيناً من المشكلات التي تواجهنا يومياً تحت عنوان الفقر، ثم نقتنع بهذا صياغة للمشكلة، واقتناعنا هذا يؤدي إلى حل ضمني، فكلمة فقر تقابلها كلمة غنى؛ ثم نجعل عدداً آخر من المشكلات تحت عنوان آخر هو الجهل مثلا، والحل المتبادر إلى الذهن هنا العلم. وكذلك المشاكل التي نضعها تحت عنوان الإستعمار فإن علاجه ما يناقضه من الاستقلال. فنقتنع هكذا بهذه الصياغة السهلة لمشكلات وبالحل البديهي لها. ولكن النظرة الفاحصة تكشف لنا عن ضعف الحلول. ودليل ضعفها أنني

بعد تجربة ثلانين سنة، أرى أننا ما حصلنا طائلاً في وضعنا المشكلات تحت هذه العناوين البديهية، ذلك لأننا لم نضع المشكلات في وضعها الصحيح، ولم نتأملها في جوهرها؛ فإن جوهر المشكلات ليست في حوادث خارجية. فنحن إذا تصورنا المشكلات في إطار اجتماعي فقلنا هي الجهل، أو في إطار إقتصادي فقلنا هي الفقر، أو في إطار سياسي فقلنا هي الإستعمار، فإننا في هذا كله إنما نبحث نتائج لأسباب سابقة أصولها في أنفسنا. ومن هنا كان الضعف في ثمرات أعمالنا وجهادنا وكفاحنا المرير، إذ هي ثمرات لا تقنعنا في النهاية. فإذا ما وضعت مشكلة ما تحت عنوان فقر، فإنني خلال الطريق يأتيني أخ كريم ويقول لي مثلاً: والله إننا نتمنى أن تكون هناك هيئات علمية تقوم بنشر الأفكار والثقافة، وبتشجيع الجانب الفني في نهضتنا. فهذه المشكلة يمكن أن نضعها تحت عنوان فقر، فنقول إننا لا نستطيع ذلك لأننا فقراء، غير أنه سرعان ما يعقب الأخ ويقول لنا- وهنا صورة أخرى لمشكلة- إن أثرياءنا الذين بأيديهم ثروات طائلة، يصرفونها في اللهو ويبخلون بالقرش في سبيل حل هذه المشكلة؛ فهل نضع هنا المشكلة تحت عنوان فقر، أو تحت عنوان ثروة لا نحسن التصرف بها؟ المشكلة هنا مزدوجة. فأحياناً تضطرنا الظروف أن نجعلها عنوانما فقر، وأحياناً حينها نستمع إلى الأخ نجعلها تحت عنوان ثروة معطلة. فالقضية إذن ليست قضية إمكانيات، ليست قضية فقر أو غنى، لأننا لو قدمنا عنوان الغنى فإننا سنستمر عشر خطوات، فتضطرنا الظروف أن نجعل المشكلة تحت عنوان فقر، فنحن إذن في مناقضة ضرورية لأن تفكيرنا لم يتصل بجوهر القضية. فما هي القضية إذن؟ إن القضية سواء كانت في إطار إقتصادي أو إطار اجتماعي أو إطار سياسي تتصل بموقفنا نحن أفراداً. تتصل بموقفي مواطناً أمام المشكلات، إنني عاجز عن صياغتها فكرياً، وإذا صيغت فكرياً بصورة ما فإنني

عاجز عن التصرف في الإمكانيات لحلها، فعجزي إذن مزدوج وليس عجزاً بسيطا. فحينما نعالج مشكلة النظافة في الشوارع مثلاً، فإننا نرجعها إلى إهمال المواطنين وتهاونهم، وهذا صحيح ومن ثم فإنني أشعر بنصيبي في التفريط. فانا أحد المسؤولين الذين يحملون جزءاً من هذا التفريط، غير أني حينما أعالج هذه المشكلة بزيادة عدد سلال المهملات في الشوارع فقط، فإنني أشعر بخطئي في حل المشكلة حلاً صحيحاً. فإن السلال الزائدة إذا كانت تصلح لمجتمع معين، فإنها في مجتمع كالمجتمع العربي مثلاً، أرى بعد خبرة دامت ثلاثين عاماً أن هذا الحل حل نظري، فهو تكديس لعدد آخر من سلال الهملات. ودليلي على ذلك أنني شاهدت في كثير من شوارعنا عددا كبيراً من سلال المهملات، ولكنها شبه فارغة ومن حولها الأرض ملأى بالمهملات. فالقضية إذن ليست قضية أدوات ولا إمكانيات، إن القضية كانت في أنفسنا، إن علينا أن ندرس أولاً الجهاز الاجتماعي الأول وهو الإنسان، وليست السلال وغيرها؛ فإذا تحرك الإنسان تحرك المجتمع والتاريخ، وإذا سكن سكن المجتمع والتاريخ (1). ذلك ما تشير إليه النظرة في تاريخ الإنسانية منذ أن بدأ التاريخ، فنرى المجتمع حيناً يزخر بوجود النشاط وتزدهر فيه الحضارة، وأحياناً نراه ساكناً لا يتحرك يسوده الكساد وتغمره الظلمات. وهل هذه المظاهر غير تعبير عن حركة الإنسان أو ركوده؟ على أنني حينما أرى في حركة التاريخ حركة الإنسان وفي ركودِه ركودَه، فإن ذلك يضعني أمام مشكلة تتصنف تحت عنوان الفعالية، فعالية الإنسان في التاريخ. فما هي شروط هذه الفعالية؟ وللجواب على هذا السؤال لا بد أن نوضح ما نعني بالتاريخ وبالإنسان.

_ (1) إلى هنا ينتهي الجزء المسجل.

إن نظرتنا إلى التاريخ لا تؤدي إلى نتائج نظرية فحسب، بل إلى نتائج تطبيقية تتصل بسلوكنا في الحياة، فهي تحدد مواقفنا أمام الأحداث، وبالتالي أمام المشكلات التي تنجم عنها. ذلك أننا إذا نظرنا إلى التاريخ باعتباره مجرد حوادث تتعاقب، دون ما ربط جدلي بينها، فإن هذه النظزة تؤدي إلى نتائج معينة، ليست هي التي تنتج عن نظرنا إليه، حينما نعده سيراً مطرداً، تترتب فيه الحوادث ترتيباً منطقياً كما تترتب عن الأسباب مسبباتها. فإن النظرة الأولى تؤدي إلى تسجيل ما يطرؤ من حوادث في أنفسنا وفي مذكراتنا، على أنه من حكم القضاء والقدر، أي من حكم لا يد للإنسان فيه، ولا يسعه أمامه سوى الإذعان ومسايرة الظروف، أو كما يعبر عنه بعضهم الاستسلام للواقع. فهذه النظرة تجعلنا نطأطئ الرؤوس أمام الأحداث، لأن جهلنا بأسبابها ونتائجها يؤدي بنا إلى أن نحني لثقلها ظهورنا، فإذا ما وضعتها عن ظهورنا يد الموت ألقتها على كاهل الأجيال من بعدنا. أما نظرتنا الثانية إليه فإنها بدلاً من أن تلقي على أكتافنا ثقل الأحداث تجعلنا نحدد إزاءها مسؤولياتنا. فبقدر ما ندرك أسبابها ونقيسها بالقياس الصحيح، نرى فيها منبهات لإرادتنا وموجهات لنشاطنا، وبقدر ما نكتشف من أسرارها نسيطر عليها بدلاً من أن تسيطر علينا، فنوجهها نحن ولا توجهنا هي، لأننا حينئذٍ نعلم أن الأسباب التاريخية كلها تصدر عن سلوكنا وتنبع من أنفسنا، من مواقفنا حيال الأشياء، أعني من إرادتنا في تغيير الأشياء تغييراً يحدد بالضبط وظيفتنا الاجتماعية، كما رسمها القرآن الكريم في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110/ 3]. والمعروف في أعم صوره والمنكر في أشمل معانيه، يكونان جوهر الأحداث التي تواجهنا يومياً كما يكونان لب التاريخ.

هذا هو المعنى العام للفعالية، وشرطها الأول: هو الذي يحدد موقف الإنسان إزاءها بصفته صانعا للتاريخ ومحركا له. غير أننا إذا راجعنا الآن على ضوء هذه الملاحظة الفترة الطويلة التي قضيناها في معركتنا مع الإستعمار منذ قرن مثلاً، وجدنا أننا قد أضعنا وقتاً طويلا، إذ لم نضع مشكلاتنا خلال هذه الفترة بمنطق الفعالية. فنحن لو تأملنا في حقيقة الكلمة نفسها، كلمة استعمار التي جعلناها عنواناً لصراعنا منذ ما يزيد عن نصف قرن، نرى أن الشعوب العربية الإسلامية قد تصارعت مع الإستعمار صراع الأبطال لتتخلص منه، ولكنها كانت في الواقع تتصارع مع ظل وليس مع واقع بالمعنى الصحيح، كنا نتصارع مع وهم من الأوهام ومع شبح من الأشباح لا مع حقيقة. والصراع مع الأشباح ينهك القوة، والنصر فيه قليل الجدوى أو عديمها، لأن فيه شيئا من الخيال الذي كان يحيط بالصراع. هذا ما تكشف عنه النظرة الفاحصة في معنى الإستعمار. وقد كان علينا أن نفعل ذلك منذ عهد بعيد، حتى ينجلي عن صراعنا الغبار سواء في المستوى السياسي أو الاجتماعي. واسمحوا لي أن أبسط الموضوع ببعض صور توضح لنا معنى الإستعمار وحقيقته، وتقفنا على خطئنا في فهمه بوصفه حدثاً من أحداث التاريخ، مما أدى بنا إلى البذل في صراعه بالجهود الكبيرة، من أجل نتائج غالباً ما تكون هزيلة ناقصة، كتلك التي نراها اليوم من خلال الوضع السياسي في بعض البلاد التي حصلت على استقلالها أخيراً. أما الصور فثلاث؛ أولاها: تعرض لنا صورة طفل صغير وجَمَل قوي كبير. فمن الطبيعي أن نرى الصبي على الرغم من حداثة سنه يسيطر على الجمل القوي، يقوده كيفما شاء يميناً ويساراً بعصاه أو بدون عصا. فلو أننا وضعنا هذه الصورة في مجال تأملنا، فلسوف نرى في الواقع حيوانا ضعيفاً يتصرف في حركات

وسكنات حيوان أقوى منه، وإذا تساءلنا عن هذه الظاهرة الغريبة فالجواب بديهي معلوم، إن الجمل القوي يفقد بطبيعته، ومن فضل الله علينا نحن الآدميين، شيئاً بسيطاً هو الإرادة. أما الصبي فإنه قوي بالإرادة التي يمتاز بها جنسه على جنس الجمال. وهذا واضح تمام الوضوح، وتشعرون أن الحديث فيه ضرب من تحصيل الحاصل ولكننا سنجد أنه مفيد فيما بعد. أما ثانيتها: فإنها ترينا الطفل نفسه الذي كان يتصرف مع الجمل تصرف السيد مع مسوده، يتصرف هذه المرة مع حيوان من جنسه جنس الآدميين، وهو رجل أكبر منه سنا وأقوى عضلا، ولكنه لا يتمتع بقواه العقلية فهو مجنون أو معتوه. فإن الطفل سوف يتصرف معه كما كان يتصرف مع الجمل، من أمره بالقيام أو القعود أو السير أو الوقوف. والرجل يمتثل للصبي في هذا كله، وما ذلك إلا لتمتع الصغير بإرادته مع خلو الكبير منها بحكم فرضنا. أما ثالثة الصور: فإنها الشعب الهندي مثلا والشعب الإنكليزي في القرن التاسع عشر. فإن تعداد الأول بالنسبة للثاني، يمثل قوة الرجل الضخم فاقد الإرادة والجَمَل في صورتينا السابقتين، بالنسبة إلى ضعف الصغير الجسمي في كلتا الصورتين، فنرى أن الشعب الإنكليزي الذي تفصل بينه وبين الشعب الهندي الابعاد- إذا استعملنا اصطلاح الصورتين السابقتين- نرى بالاحرى الطفل الإنكليزي، على الرغم من حداثة سنه يتصرف في الرجل الهندي على الرغم من قوة جسمه. إذ أن إنكلترا قد كونت جهازها الصناعي خلال القرن التاسع عشر باحتلالها للهند. كما أن الطفل الهولندي- إذا اعتبرنا ستة الملايين من سكان هولندا كأنها طفل صغير لم يتجاوز السنين الست من عمره يتصرف في الثروة التي حص الله بها البلاد الإندونيسية دون غيرها فصنعت بها بلادها ومدت فيها شبكة الخطوط الحديدية الخ ...

فلو أننا جعلنا هذه القضية تحت نظرنا لنصدر فيها حكمنا، فهل يجوز أن يكون مخالفا للذي طبقناه على الصورة الأولى والصورة الثانية؟ لا فإن مقتضيات الصورة الثالثة تتطلب الحكم نفسه، بمعنى أن القضية تمثل في الصورة الأولى حالة طبيعية أوردناها للقياس، لنكون منها مقياساً نطبقه في الصورة الثانية، التي تمثل حالة مرضية ليس المريض فيها الصبي الذي يتصرف في المعتوه كما كان يتصرف في الجمل، إنما المريض هو المعتوه، وحالته تتطلب أن نعالجه علاجاً يعيد له إرادته ورشده. أما لو أننا بقينا نوجه للصبي اللوم والاستنكار على سلوكه مع المجنون مثلاً، فإنني أشك في أن استنكارنا هذا وإلحاحنا، يعيد للمريض رشده وإرادته، ولو قضينا نصف قرن أو أكثر في هذا الطريق. فإذا كان حكمنا في الصورة الأولى، أعني في مستوى الاعتبار صحيحاً وكان صحيحاً في الصورة الثانية- أي في مستوى حالة نفسية مرضية- فإن الحكم بالصحة ينسحب على الصورة الثالثة، التي هي في مستوى حالة سياسية مرضية، حيث التشابه بينها وبين الحالتين الأوليين واضح ظاهر. ولكننا في تاريخنا القريب، أي منذ نصف قرن لم نتبع هذا التحليل المنطقي في معالجة مشكلة الإستعمار- وإنما نحن قد صرفنا وقتنا في التعبير بكل وسيلة وبكل صيغة عن استيائنا من سلوك الإستعمار، كأننا نطالب إبليس أن يعدل من تصرفاته، ويصبح ملكا كريماً. أما المريض الحقيقي أعني الإنسان المستعمَر، الإنسان الذي أصابه داء القابلية للاستعمار، فقد تركناه يستفحل فيه المرض من غير أن نحاول محاولة جدية في فهم حالته المرضية حتى نعالجه منها. وما ذلك إلا لأننا- خلال صراعنا مع الإستعمار- لم نعبر عن الأشياء بلغة الفعالية، ولكن بلغة العاطفة التي أدت بنا أحياناً إلى تصرفات ومواقف هزلية، تتفق تماماً مع الخطط الإستعمارية في بلادنا. وهذا ناتج عن أننا لا نقدر حوادث التاريخ كما ينبغي لنا تقديرها، أعني أن نقدرها بصفتها أفعالاً وردود أفعال بين

عوامل اجتماعية ونفسية معينة، توجب علينا فحصها بالجهد الدقيق ودراستها دراسة مدققة. فلو أننا قد عدلنا هكذا فهمنا للتاريخ، لحققنا تلقائياً الشرط الأولي للفعالية، سواء بالنسبة للاستعمار أو بالنسبة لأي حدث آخر من أحداث التاريخ. ولو أننا قد صححنا معنى الإنسان في أذهاننا، إذن لأدركنا مباشرة السبب في أنه يحرك التاريخ أحياناً، وأحياناً أخرى لا يحرك ساكناً، في حين أن الإنسان في كل الظروف هو الإنسان الذي كرمه الله عز وجل، يوم خلق آدم عليه الصلاة والسلام، ذلك أن هناك حقيقة اجتماعية هأمة، أرى من حُسن شرحها أن أضرب المثل الآتي: لو أخذنا قطعة من معدن الزنك مثلاً، سواء أكانت في حالتها الخام، أو في حالة مخلفات تلقى في المهملات، أي في حالة فقدت فيها صلاحيتها فما أعدت له أو تكتسب بعد تلك الصلاحية. فإن هذه القطعة في كلتا الحالتين تفقد قيمتها العملية. ومن البديهي أننا لن نستطيع أن نعيد إليها هذه القيمة، ما لم نعد إليها أولاً صلاحيتها المفقودة، أو نخلق فيها شروط تلك الصلاحية التي لم تكتسبها بعد. ولقد سنحت لي الفرصة صباح اليوم أن أزور المصنع الذي يشرف عليه الأستاذ (أبو عمر الداعوق)، ورأيت بعض تلك العمليات التي تحول قطعة معدن الزنك، بعد أن فقدت صلاحيتها وألقيت في المهملات، تحولها من الشيء التافه الذي يلتقط في الشارع، إلى الشيء الذي أعيدت إليه صلاحيته، بما طرأ عليه من العمليات الصناعية. فقد تتبعت هذه المراحل كلها، منذ أن كانت هذه القطعة شيئاً ذا قيمة إقتصادية زهيدة، إلى أن أصبحت شيئاً لا يثمن بما فيه من المادة، ولكن بما فيه من العمل. وإنكم لتعلمون أن قيمة هذه القطعة الحقيقية، ليست غير تلك التي قدرتها الأقدار، عندما حددت ميزاتها الخاصة بوصفها عنصراً من عناصر الطبيعة. ولم

يكن للمصنع أن يعطيها أي قيمة إقتصادية، لولم تكن فيها أولاً وقبل كل شيء قيمتها الطبيعية. فلو أننا نقلنا هذه البديهيات إلى مستوى الإنسان، فإنها تفسر لنا لماذا نجده أحياناً عنصراً حياً في التاريخ ويسيطر على الأحداث، وأحياناً نجده ساكناً تسيطر عليه الأحداث. إن الملاحظة تجبرنا على أن نقدر للإنسان قيمتين: قيمته إنساناً، وقيمته كائناً اجتماعياً، قيمة توهب له في طينته الأولى بما وضع الله فيها من تكريم، وليس لظرف من الظروف ولا لأحد من الناس أن يغير منها شيئا، كما أنه لا يمكن لأي ظرف أن يغير شيئاً من خصائص عينة الزنك. وقيمة أخرى تعطى له بعمليات اجتماعية معينة، تماماً كما تعطى العمليات الصناعية لعينة من الزنك قيمتها العملية. وبعبارة أخرى إن الإنسان يمثل معادلتين: معادلة تمثل جوهره إنساناً صنعه من أتقن كل شيء صنعه، ومعادلة ثانية تمثله كائنا اجتماعياً يصنعه المجتمع. ومن الواضح أن هذه المعادلة الأخيرة هي التي تحدد فعالية الإنسان. إنسان في جميع أطوار التاريخ لا يتغير فيه شيء، بل تتغير فعاليته من طور إلى طور. وهذا يعني أن شخصيته ليست بالبسيطة، وإنما هي مركبة تشتمل على عنصر ثابت يحدد كيانه إنسانا وعنصر متغير يحدد قيمته كائناً اجتماعياً. وهذا يجعلنا نصوغ مشكلته صياغة جديدة وأن نتساءل: ما هي الظروف التي تجعل المجتع يخلق في الفرد القيمة التي تبعث فيه الفعالية.؟ إننا حينما ندرس مجتمعا ما في حقبة من الزمن كافية لتعطينا خبرة بشؤون المجتمعات في مختلف أطوارها، نرى أن المجتمع نفسه يكون أحياناً في حالة ركود وكساد. ولو أننا قد حللنا في مثل هذه الحالة الوضع النفسي، الذي يكون عليه الفرد، فإننا نراه يتمتع بصورة واضحة بشعور الاستقرار. فلا يحتويه أي قلق

وبالتالي فإنه لا يبذل أي محاولة لتغيير الوضع من حوله، إذ تسير الأشياء والحوادث دونما تدخل من إرادته. وهنا يصبح التاريخ سيلاً يجرفه إلى حيث لا يدري مستسماً له الاستسلام المطلق. فإذا ما حدثت في المجتمع حالة جديدة غيرت هذه الأوضاع كلها، فإن موقف الإنسان هنا يتغير أمام الحوادث والأشياء، وبالتالي يتغير مجرى التاريخ. وهذا لا يحدث إلا في حالات معينة من تاريخ المجتمعات. ولو أننا أخذنا بالتحليل هذه الحالات، لوجدنا أنها أولا وقبل كل شيء حالة قلق، يسودها الشعور بالخطر، سواء أكان الخطر واقعياً أم مجرد فكرة خامرت العقول. وهكذا يسود المجتمع وضع جديد نستطيع تسميته بحالة إنقاذ. وأول ما يكون من أثر هذه الحالة في نفس الفرد، أنها تحرمه الشعور بالاستقرار، بما يعتريه ويسيطر على مشاعره من قلق، لا يمكن دفعه إلا بتغيير الوضع، بتغيير الأشياء، بالوقوف أمام الحوادث لتوجيهها لغايات واضحة وقريبة في شعور الفرد، سواء أكان الواقع يؤيد هذا الشعور أم لا يؤيده. فلقد رأينا إحدى صورها تحققت في تاريخ بني إسائيل، الذين كان فرعون يسومهم من العذاب ألواناً، يستحي نساءهم ويقتل أبناءهم ويسخرهم لأحقر الاعمال وأشقها، من غير أن يجد بنو إسائيل المخرج من هذا العذاب، حتى استسلمت أنفسهم له ورضوا به وهم كارهون. ولقد ظلوا على ذلهم حتى جاءهم موسى عليه السلام، فأثار قضية بني إسرائيل أول ما أثارها في أذهان بني جلدته أنفسهم، فصور لهم حالة خطر أو بالضبط حالة إنقاذ، لا تستطيع معها النفوس أن تعمد إلى الاستقرار بما يسودها من القلق الدائم، وتتعلق أنظارها في الأفق مرتقبة الحدث الذي يغير وضعها،

مرتقبة صوتا يرشدها إلى الطريق، بعد أن لم تعد يطيب لها المقام. وهكذا شعر بنو إسرائيل أنه لا بد من السير إلى حيث تدعوهم الأقدار، ورأوا في موسى ذلك النقذ الذي يستطيع أن يقوم بهذه المهمات جميعها، فارتفع صوته أولاً في بني إسرائيل، ليصور لهم حالة الإنقاذ التي لم يكونوا يشعرون بها من قبل، فدكّ صوته الارواح الساكنة المستسلمة، فحركها وأشاع فيها القلق؛ ثم صور لهم ضرورة السير معه في الطريق. ولكن أين نهاية هذا الطريق؟ ذلك مالم يكونوا يعلمونه، ولكنهم مع ذلك ساروا معه، لأن شعور بني إسرائيل بحالة الإنقاذ كان أقوى لديهم من غريزة المحافظة على الحياة. ولذلك فإنهم لم يترددوا في الدخول معه في اليم مستسلمين للخطر. ولكن وراء هذا الخطر الذي تحداه موسى بمعجزة يقصها علينا القرآن الكريم، كان بنو إسرائيل يرون رأي العين الغاية التي يسيرون إليها.، وقد تجسدت في شخص المنقذ الذي شق الطريق أمامهم بعصاه. وهذه الصورة النفسية قد تكررت مع نتائجها الاجتماعية أكثر من مرة في تاريخ الإنسانية، مع اختلاف الغايات التي تسير إليها الشعوب حينما يهزها الشعور بحالة إنقاذ، فتسير وراء خطوات منقذ يشخص لها الغايات، حتى تصبح وكأنها تراها وتلمسها، كما رأى أصحاب بدر الجنة على مقدار شبر منهم، حتى إن بعضهم ليلقي بحفنة تمر كان يأكلها ليدخل المعركة، لأنه كان يرى الجنة أقرب إليه من التمرات التي كانت بيده. والحالة النفسية هذه قد تكررت في عصرنا ولكن في اتجاه آخر، ولغايات أخرى في حياة الشعب الألماني مثلاً. فإن التاريخ قد حقق جميع شروط حالة إنقاذ ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى. فلقد كان الشعور بالقلق يسيطر على الحياة، ويسود جميع الأوساط، مما دفع المارشال هندنبرج إلى توجيه ندائه التاريخي ليطلب الخبرة من أميركا حوالي سنة 1925. وهكذا تهيأت جميع الشروط التي فيها يظهر النقذ. ولقد كان منقذ الشعب

الألماني هتلر الذي خاض به اليم ... ولكن اليم قد ابتلعه لأنه لم تكن بيده عصا النبوة؛ إلا أن هتلر قد خلف وراءه موضوعاً هاماً للدراسة، يعتني به كل مهتم بشأن المجتمعات التي تغمرها موجة القلق، ويهزها الشعور بحالة إنقاذ فتتشخص أمامها الغايات وتعنو لها المصاعب، وهكذا ينطلق الفرد الذي كان من قبل مكبلاً بكساده، ينطلق لأنه يشعر فجأة بانفجار ذاتي في نفسه، انفجار يطلق طاقاته المكبلة فتغير وجه التاريخ. وإن هذه الشروط- في أبسط صورها ودونما خوض في التفاصيل المدققة- لهي الشروط النفسية الاجتماعية التي تحرك المجتمعات، وتفرض على الأفراد الانسجام مع قانون تلك الحركة. بما لديهم من المؤهلات المكتسبة التي تكون ما سميناه المعادلة الاجتماعية، أعني المعادلة التي تحدد فعاليتهم أمام المشكلات وتعطيهم قيمتهم في المجتمع وفي التاريخ. ***

الثقافة

الثقافة ألقيت في ندوة خاصة في طرابلس- لبنان يوم الأحد 28 من حزيران (يونيو) سنة 1959 ثم أعيدت كتابتها فيما بعد

سادتي: ما هي الثقافة؟ إنني حينما أضع أمام عيني هذا السؤال فإن كثيرا من التجارب التي مرت بي، والذكريات التي سجلتها في حياتي تمر بخاطري. ذلك أن هذه الخواطر الذاتية هي التي تحدد موقفي أمام هذا السؤال. ولعلي في هذا الاعتراف أبدو أمام المستمعين الكرام، وكأنني أقف من المشكلة موقفاً غير موضوعي. ولكنني في الواقع أرى أن موقفي سوف يكون أقل موضوعية، حينما أحدده بأشياء خارجة عن نطاق حياتي وعن مجال تجربتي الشخصية. لقد خصصت كتاباً لدراسة هذا الموضوع نفسه، ولم تكن المصادفة هي التي جعلتني أهتم بمثل هذا الموضوع، ولكن بعض الظروف التي لا أرى من المبالغة وصفها بأنها مرة هي التي أثارته في نفسي. فلقد كنت قبل أن أكتب عن الثقافة قد كتبت في مواضيع أخرى، منها خاصة كتاب عن (الظاهرة القرآنية) كتبت بهذا العنوان، وتمنيت لو ترجمته إلى العربية لسببين: أولهما أنني وجهته للشباب المسلم المتعرض لبعض الأفكار الهدأمة، وكنت أقدر أنه لن يصل إليه فعلا ما لم يترجم إلى العربية. وثانيهما أنني كنت أريد ذلك من أجل تحصين الكتاب نفسه، لأن بعض الظروف التي لا مجال لشرحها هنا كانت تقتضي مثل هذا التحصين حتى لا يضيع الكتاب بعد موت الكاتب. فهذان السببان قد جعلاني أبحث عن وسيلة الترجمة في بلاد كل وسائلها، إما في يد الإستعمار، وإما هي في يد من لا يحسن التصرف فيها. ولقد بعثني هذا كله، أن أقدم كتابي إلى بعض الشخصيات في العالم العربي الإسلامي، لعله يكون في إحدى هذه الشخصيات من يقوم بإنجاز الترجمة على

نفقته ولحسابه أو لحساب من يهمه الأمر. فأرسلت نسخة من الكتاب مع التفاصيل اللازمة إلى ملك عربي أعلم أنه كان يتقرب إلى الله. وأخرى إلى ملك آخر كان يبدي حبه للكتب والكتاب. وزدت على ذلك أنني سلمت عدداً لا بأس به من النسخ إلى بعض السفارات الإسلامية والعربية في باريس، وانتظرت وطال الانتظار، ومرت أكثر من عشر سنوات، ولكن دون أن يأتيني رد من تلك الأطراف العالية، ولا من تلك السفارات، ودون أن تظهر ترجمة الكتاب في السوق. فالتجربة هذه قد عشتها بنفسي، عشتها بفكري مرات، لأنني كلما وضعت مشكلة الثقافة أمام عيني عادت تفاصيلها إلى ذهني. وهي في كل مرة تزداد تفاصيلها وضوحا، وأرى فيها جانباً من المشكلة مفيدا لا يسعني طرحه منها مهما يكن من سلبيته. فهي تعبر عن اختلال واضح في الحياة الثقافية في البلاد الإسلامية العربية، تعبر عن افتقارنا لبعض الشروط الأولية البسيطة، افتقاراً لا يوجد معه في هذا المجتمع شبكة للعلاقات الثقافية اللازمة تحيا فيها الأفكار، كما لا يوجد فيه الدفء الإنساني الذي يشعر به الكاتب، حينما يأتيه على الأقل جواب شكر يشجعه على المثابرة، في حين أن هذين الشرطين أساسيان للحياة الثقافية في أي بلد؛ غير أني لن أهتم في حديثي هنا إلا بتوضيح الشرط الأول الذي يتضمن قيماً اجتماعية، يمكن أن ندرك أهميتها من وجهة فنية، كما يمكن لنا أن نتخذ للدلالة على أهميتها مقاييس من حوادث التاريخ. إن عصر النهضة في أوربا يزخر ببعض المظاهر ذات الدلالة في الموضوع. فالمطبعة مثلا حينما استوطنت البلاد الأوربية على يد (غوتنبرغ) أحدثت فيها مشاريع مطبعية هأمة. أسهمت في صورة مباشرة في تعميم العلم ونشر الأفكار، ومن بين تلك المشاريع مشروع طبع (كتاب العهد القديم).

فقد قامت بطبعه مطبعة يشرف عليها في مدينة (أنفرس) ببلجيكا مستوطن فرنسي، تخصص في الطباعة العلمية المتقنة. ولقد كانت هذه المحاولة تهدف إلى نشر الكتاب المقدس باللغات القديمة، التي كتبتها ونطقت بها الأجيال في صدر المسيحية: مثل الآرامية والسريانية واليونانية واللاتينية. ومن الطبيعي أن مثل هذا المشروع يعتمد على مشاركة علماء هذه اللغات في تنفيذه. وهكذا اشترك فعلاً علماء من روما ومدريد ولندن وباريس وبرلين حتى أنجزوا العمل. فلو أننا رسمنا خريطة نحدد فيها بلاد العلماء المشتركين في هذا المشروع، فإننا نرى مدينة (أنفرس) من خلال إنجاز المشروع قد أصبحت وكأنها مركز هاتفي، تصل إليه من مختلف البلاد الأوربية خطوط تمثل شبكة الاتصالات الهاتفية، وصورة العلاقات هذه التي ربطها مشروع نشر ما يسمى طبعة اللغات من كتاب (العهد القديم)، هي في الواقع صورة لشبكة الثقافة في عصر النهضة مرسومة على الخريطة. على أننا لو تساءلنا اليوم: هل تغيرت هذه الصورة في القرن العشرين، نرى أن الجواب سوف يكون بالنفي. ودليلنا على ذلك أننا لو وضعنا مكان طبعة كتاب العهد القديم إنتاجاً فكرياً آخر كجهاز الراديو مثلاً، فإننا لا نرى على الخريطة شيئاً يختلف كثيرا في خريطة العلاقات التي أنتجت جهاز الراديو، عن صورة العلاقات التي أنتجت طبعة اللغات للعهد القديم. فهي الخريطة نفسها تمثل شبكة العلاقات الثقافية في البلاد الاوربية. وهكذا فإنني حينما أقيس الآن تجربتي الشخصية بهذا القياس الذي استعرته من الحضارة الغربية، فإنني أرى فيها ما يشير إلى أن شبكة العلاقات الثقافية لم تتكون بعد في المجتمع الإسلامي. وإن محاولتي البسيطة في ترجمة أحد كتبي لا تدل على فقدان هذا الشرط

الأساسي للحياة الثقافية فحسب، ولكنها تدل أيضا على أنه ليس هناك لدى الشخصيات التي حاولتُ الاتصال بها أي اهتمام بالموضوع. هذا هو معنى تجريبي في حقل الثقافة، ومن هنا كان اقترانها بالسؤال الذي صدرت به الحديث أمراً ضرورياً. ولكن هذا الجانب السلبي ليس بالجانب الوحيد الذي يجعلني أقف أمام القضية موقفا خاصاً. بل هناك أشياء أخرى تستدعيها ذاكرتي، كلما حاولت الخوض في مشكلة الثقافة. هناك صورة أخرى تعبر أيضاً عن جانب سلبي، وهي صورة أخذت هذه المرة من الحياة العأمة. فإن ذاكرتي إذ تمتد في هذا الحقل إلى أكثر من ربع قرن، فإنها بذلك تتضمن تجربة لا بأس بها. فلقد شاهدت خلال بعض المواقف السياسية في الجزائر جيلاً من السياسيين، يقفون من قضية مهمة بالنسبة للشعب الجزائري، وهي قضية الأمية، يقفون منها موقفاً جديرا بالملاحظة. فقد كتب هؤلاء السياسيون المقالات الطويلة لشرح هذا المرض الاجتماعي الخطير، موضحين نتائجه المنكرة في حياة الفرد، بما يضربون من الامثال المدعمة بالأرقام. وهم في هذا كله يهاجمون الإستعمار في خطب ملتهبة بالحماسة متقدة بالوطنية، لأنه يُجرم في حق الشعب الجزائري، إذ يتركه إلى جهله. وهكذا يستمرون في خطبهم ومقالاتهم حتى تنقطع أنفاسهم عن الكلام، ولا يبقى تحت أيديهم ورق يكتبون عليه. وتمر الأعوام تلو الأعوام، والمشكلة لا تجد في مجهوداتهم حلها، وإنما تستفحل في التعقيد، ذلك أنهم لم يدخلوا إلى المشكلة من طريق حلها. ولقد استطاعت الحرب العالمية الثانية، أن تعطينا مثلاً للموازنة مما يوضح خطأ موقفنا السلبي أمام القضية. فقد كان من أول نتائج هذه الحرب، أنها قد غيرت الوضع السياسي بالنسبة ليهود الجزائر، على أثر سقوط المجهورية الثالثة

سنة1940م، وقيام حكومة فرنسية تساير طواعيةً أو كرهاً الموقف الذي حدده هتلر إزاء اليهود. فقد أصدرت هذه الحكومة قوانين استثنائية قاسية في تنظيم التعليم في مختلف مراحله بالنسبة للطائفة اليهودية. وهكذا شعرت هذه الطائفة بأن أطفالها قد أصبحوا مهددين بالأمية، غير أنها لم تكتب مقالة واحدة تستنكر هذا الإجراء، ولم يلق واحد منها محاضرة عن هذا الأمر .. وإنما اجتمعت النخبة فيها ودرست المشكلة لكي تحدد موقفها منها، ولقد حددت فعلاً موقفها، بأن يتطوع كل ذي علم بقدر ما عنده من العلم، فيقوم بحصته من التعليم الابتدائي أو الثانوي أو العالي. وهكذا أصبح كل بيت من بيوت المتعلمين مدرسة في ساعات معينة. ولما وضعت الحرب أوزارها وأسفرت عن نتيجتها المعلومة، وارتفعت القوانين الاستثنائية التي صاغتها حكومة المارشال (بيتان) ضد الأطفال اليهود، ارتفعت دون أن تحقق أغراضها في المجتمع اليهودي، لأنه عرف كيف يتحصن ضدها. هذه هي الصورة الثانية التي تمر بخاطري حينما أضع مشكلة الثقافة نصب عيني. فإن هذه الصورة توضح لي أي فرق بين موقف النخبة العربية الجزائرية، وموقف النخبة اليهودية من قضية واحدة يتمثل فيها خطر الأمية. ولا نستطيع في حال من الأحوال أن نعزو الاختلاف في الموقفين إلى شروط مادية، فإن القوانين في هذه الحقبة كانت قاسية على كلا الجانبين. كما أننا لا نستطيع أن نرجعه إلى مجرد قضية علم وتعليم، لأنه ليس لنا أن نفترض مثلاً أن الطبيب أو الصيدلي أو المحامي اليهودي، علمه أغزر من علم زميله العربي الجزائري، فبرامج التعليم والكتب التي درسا عليها واحدة، وأحياناً كان أساتذهما موحدين. فالاختلاف في موقفهما الاجتماعي إزاء مشكلة معينة لا يمكن أن يعزى إلى شيء من ذلك في قليل أو كثير. وإذن إلى أي شيء نرده؟

إننا في الواقع أمام حالتين تتصف إحداهما- طبقا للظروف التي تحيط بها كما ذكرنا- باللافعالية وتتصف الأخرى بالفعالية. وجوابنا على هذا السؤال إذن يمس بالضرورة قضية هأمة في حياة أي مجتمع، أعني بالضبط قضية الفعالية. فالصورة الأولى التي ذكرتها تدلنا على أن المجتمع الإسلامي يفقد شبكة الاتصالات الثقافية. فالشخصيات التي يمكنها المساهمة ماديا في القيام بمشروع كهذا لا تشعر بأهيته، بل إنها لتقدم قضية شراء سيارة كاديلاك على مشروع ثقافي. أما الصورة الثانية فإنها تكشف لنا عن ضعف الطبقة المثقفة نفسها في البلاد العربية والإسلامية أو في بعضها على الأقل. وإن هذا ليعني إذا قسنا بالقياس الذي نجده في مواقف طبقة مثقفة أخرى مثل يهود الجزائر، أن التعليم والعلم شيء والثقافة شيء آخر. فنحن نرى أن الطبيب الجزائري يتساوى مع زميله اليهودي أو يفوقه أحياناً فيما يتصل بالجانب المهني. ولكن الطبيب اليهودي يقف أمام مشكلة اجتماعية معينة غير الموقف الذي يقفه منها الأول. وهذا يعني بالتالي أنهما يتساويان في العلم ويختلفان في الثقافة. وأرجو ألا يتبادر إلى أذهان المستمعين أنني- بعدما تحدثت عن أهمية شبكة الصلات الثقافية في مجتمع معين وعن فعالية الفرد فيه- إنما أضع القضية في سؤالين أو أكثر. فأنا حينما ذكرت هذه الأمثلة ذكرتها شاهداً فقط يوضح الموضوع، فأنا لم أذكرها لأدرس قضايا جزئية. فالقضية واحدة لأن الكائن الإحتماعي كأي كائن حي يكون تلقائيا وسائله وأفعاله. فالثقافة إذا ما تكونت في مجتمع نشأت فيه تلقائيا شبكة الصلات الثقافية، وتحددت فيه فعالية الفرد. وإذن فالسؤال الذي نضعه أمام أعيننا واحد: ماهي الثقافة التي تنشئ

الصلات الثقافية في المجتمع وتخلق الفرد الفعال؟ وبهذه الصيغة الجديدة للسؤال الذي صدرت به الحديث أدخل إلى الموضوع. لاشك أننا لاحظنا في أثناء الحديث أن الثقافة ليست مجرد علم يتعلمه الإنسان في المدارس ويطالعه في الكتب، فإن الصورة الثانية التي أوردناها أظهرت اختلافاً في السلوك لا في المعرفة .. والملاحظة تفرض علينا هنا أن نقدر هذا السلوك بوصفه نتيجة للوسط الذي تتكون فيه شخصية الفرد، ومن الطبيعي أن الوسط اليهودي في الجزائر يختلف عن الوسط العربي في هذا البلد، يختلف عنه بعاداته وأذواقه وأوضاعه النفسية والخلقية الخاصة به. ونحن إذا عددنا هذه العوامل هي التي تؤثر في تكوين الشخصية، لأنها تكون الجو العام الذي يحدد دوافع الفرد وانفعالاته، وصلاته بالناس والأشياء، فإننا نكون بهذا عرفنا الثقافة على أنها ذلك الجو المتكون من عادات وتقاليد وأذواق. وإذا نحن قد حللنا شيئاً ما هذه الكلمات فإننا- مع اعتبارنا لكل ما يطبع الشخصية في ظاهرها وباطنها- نقول بالتالي: إن الثقافة هي الجو المشتمل على أشياء ظاهرة، مثل الأوزان والألحان والحركات وعلى أشياء باطنة كالأذواق والعادات والتقاليد. بمعنى أنها الجو العام الذي يطبع أسلوب الحياة في مجتمع معين وسلوك الفرد فيه بطابع خاص، يختلف عن الطابع الذي نجده في حياة مجتمع آخر. هذا هو معنى الثقافة، غير أن تحديدنا لها على هذه الصورة يجعلها في صورة غير مركبة. أعني في صورة لا تعطي أي فكرة عن تطبيقها في حين أن الغرض من الجهد الذي نبذله في موضوع كهذا، ليس هو مجرد المعرفة لمفهوم من الفاهيم ولكن من أجل تحقيقه في مجتمعنا. وإذن فلا بد لنا من أن نصنف عناصر الثقافة الذي ذكرناها من عادات، وتقاليد، وأذواق الخ .. تصنيفاً ينتهي إلى تطبيقه، كما يجب أن تنتهي كل عملية تحليلية ضرورية لفهم الأشياء، إلى عملية تركيبية ضرورية لتحقيق هذه الأشياء.

والحقيقة الأولى التي تبادر إلى أذهاننا هي أن الثقافة لا تستطيع أن تكون أسلوب الحياة في مجتمع معين كما ذكرنا، إلا إذا اشتملت على عنصر يجعل كل فرد مرتبطاً بهذا الأسلوب، فلا يحدث فيه نشوزاً بسلوكه الخاص. ونحن إذا دقتقنا النظر في هذا العنصر، فإننا نرى أنه لابد أن يكون خلقياً. فإذا قررنا وجود هذا العنصر بوصفه ضرورة منطقية اجتماعية، فإننا نكون بهذا قد وضعنا فصلاً هاماً من فصول الثقافة، وحققنا شرطاً أساسياً من شروطها وهو: المبدأ الأخلاقي. ولو أننا اتخذنا الآن هذا المبدأ مقياساً يوضح لنا بعض الظواهر الاجتماعية، التي تعترضنا أحياناً في صورة ألغاز لا ندرك معناها، فسوف نجد مثلاً أن العلاقات الشخصية لا تقوم في أي مجتمع على غير أساس أخلاقي. ولا كانت شبكة الصلات الثقافية عبارة عن تعبير عن العلاقات الشخصية في مستوى معين، فإن هذه الشبكة لا يمكنها أن تتكون دون مبدأ أخلاقي. وهذا الجانب من القضية قد أصبح واضحاً الآن، فإن شبكة الصلات الثقافية تختل حتما في بلد ما، إذا اختل فيه المبدأ الأخلاقي، وإن هذه الحقيقة هي وحدها التي تفسر فشل التجربة التي ذكرتها في الصورة الأولى. وهي أيضاً تفسر لنا كيف أن فعالية المجتمعات تزيد أو تنقص بقدر ما يزيد فيها تأثير المبدأ الأخلاقي أو ينقص. فإن مواقفها إزاء المشكلات محددة بذلك المبدأ الذي يكون الشرط الأساسي لأفعالها، تحديداً ينظم فيها علاقات الأشخاص تنظيماً يناسب المصلحة العأمة، وليس ثمة أساس آخر يقوم بهذه المهمة. فالمبدأ الأخلاقي يقوم بالضبط ببناء عالم الأشخاص، الذي لا يتصور بدونه عالم الأشياء، ولا عالم المفاهيم. ومن هنا كانت أهميته الكبرى في تحديد الثقافة في مجتمع ما. وفي توضيح الخلاف الجوهري بين الثقافة التي تتضمن بوصفها شرطاً أولياً تحديد الصلات بين الأفراد وبين العلم الذي لا يهتم إلا بالصلات الخاصة بالمفاهيم

والأشياء. فالرجل العالم قد يكون عنده إلمام بالمشكلة كفكرة، غير أنه لا يجد في نفسه الدوافع التي تجعله يتصورها عملاً. في حين أن الرجل المثقف يرى نفسه مدفوعاً بالمبدأ الأخلاقي الذي يكون أساس ثقافته إلى عمليتين: عملية هي مجرد علم، وعملية أخرى فيها تنفيذ وعمل. وبهذا يتضح لنا الخلاف الجوهري الذي يفسر لنا الصورة التي أوردتها شاهداً في صدر هذا الحديث (1). غير أن المبدأ الأخلاقي في الثقافة لا يحدد الصلات داخل عالم الأشخاص فقط فيغذي فيه نزعته الإنسانية، بل نراه يبعث بإشعاعه إلى الخارج لتشمل نزعته الإنسانية أحياناً عالم الحيوان الذي يعيش مع الإنسان. فنجد في المجتمع المثقف شعراً رقيقا يعبر عن عواطف الإنسان إزاء رفيقه غير الناطق، كما نجد فناً يحاول أن يترجم بالنحت أو بالريشة عن عواطف الحيوان، كما يحدث في أحيان أخرى مبالغات في هذا الاتجاه حينما نرى مطاعم للكلاب وحمامات ومقابر. وهذه المبالغات تعبر في الواقع عن انحراف يحدث في المبدأ الأخلاقي لسبب سوف نحلله فيما بعد. على أن الصلات الاجتماعية لا يحددها المبدأ الأخلاقي فقط بل إن الذوق الفطري يجعلها في صورة معينة. تتدخل فيها الاعتبارات الشكلية. ونحن نجد في أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - أكثر من مرة أثر هذه الاعتبارات. فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - يريد أن ينقل حقيقة إلى من حوله، فنراه يعبر عنها أحياناً بصورة تتفق مع ما يتطلبه الذوق. والإعتبارات الأخيرة هذه تعبر عن الأساس الثاني الذي تقوم عليه الثقافة، أعني ذوق الجمال الذي يطبع الصلات الاجتماعية بطابع خاص. فهو يضفي على

_ (1) نستطيع أن ندرك معنى فعالية المبدأ الأخلاقي في المجتمع حيث يدفع إلى تحقيق الأشياء من الآية التي يصف الله بها المؤمنين فيقرل: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [الموًمنون 62/ 23].

الأشياء الصورة التي تتفق مع الحساسية والذوق العام ألواناً وأشكالا. فإذا كان المبدأ الأخلاقي يقرر الاتجاه العام للمجتمع بتحديد الدوافع والغايات، فإن ذوق الجمال هو الذي يصوغ صورته. وهنا وجه آخر للفرق بين العلم والثقافة: فإن الأول تنتهي عمليته عند إنشاء الأشياء وفهمها، بينما الثانية تستمر في تجميل الأشياء وتحسينها. ومن هذه الناحية يعد ذوق الجمال من أهم العناصر الديناميكية في الثقافة، لأنه يحرك الهمم إلى ما هو أبعد من مجرد المصلحة، وهو في الوقت نفسه يحقق شرطاً من أهم شروط الفعالية، لأنه يضيف إلى الواقع الأخلاقي عند الفرد دوافع إيجابية أخرى، من شأنها أحياناً أن تعدل من بعض الدوافع السلبية، التي ربما يخلقها المبدأ الأخلاقي الجاف في سلوك الفرد، حينما يصطدم هذا السلوك الصادر عن مبدأ أخلاقي مجرد من الحساسية الإنسانية مع الذوق العام، كما تدلنا على ذلك بعض الأحاديث التي لا تعبر عن حقيقة الأشياء فقط، ولكن تعبر عنها في صورة مقبولة أيضا. ونحن أيضاً نرى خلال مشاهداتنا اليومية أن كل نوع من النشاط يقوم على أساس الحركة. والتاريخ نفسه ليس إلا قائمة إحصائية لعدد معين من الحركات والأفكار، ولذلك فإنه من البديهي أن المجتمع الذي يسجل يومياً أكبر عدد ممكن من الحركات والأفكار، يكون لنفسه محصولاً اجتماعياً أكبر، فالفرد الذي يسير عشر خطوات، ويحرك يده عشر مرات، يقدم للمجتمع من الثمرات أكثر مما يقدمه فرد يسير خطوة واحدة ويحرك يده مرة واحدة. والاعتبارات البديهية هذه هي التي أدت إلى تحديد فكرة تبلور فيما يخص الإنتاج الصناعي، وإنها لتؤدي- في مستوى آخر- إلى تحديد مبدأ يخص الإنتاج الاجتماعي وهو مبدأ المنطق العملي. وعندما نضيف هذا المبدأ الثالث إلى مفهوم الثقافة، فإننا نكون به شرطا هاماً من شروط الفعالية في الفرد وفي المجتمع. ولا بد لنا أن نلاحظ أن تطبيقه، يتضمن فكرة الوقت والوسائل البداغوجية لبث هذه الفكرة في سلوك الفرد وفي

أسلوب الحياة في المجتمع. ولا شك في أن هذا المبدأ سيزيد في وضوح الخلاف البعيد بين الثقافة والعلم، وبالتالي بين الفرد المثقف ومجرد العالم والمتعلم. على أننا حتى هذه النقطة من حديثنا لم نشر إلا إشارة عابرة إلى عالم الأشياء، بينما نحن لا نتصور حياة الإنسان دون جانبها المادي. كما لا نتصور شيئاً لا يصدر عن فكرة معينة تتصل بطبيعتها بعالم المفاهيم. وإن هذا ليفرض علينا أن نحدد عنصراً رابعاً في الثقافة. فالمبدأ الأخلاقي وذوق المجال والمنطق العملي لا تكون وحدها شيئا من الأشياء إن لم تكن في أيدينا وسائل معينة لتكوينه، والعلم هو الذي يعطينا تلك الوسائل. فالعلم أو الصناعة- حسب تعبير ابن خلدون- يكون عنصراً هاماً في الثقافة لا يتم بدونه تركيبها ومعناها، فهو إذن عنصرها الرابع. وهكذا يتم تحديد الثقافة بطريقة لا ينبغي لنا فيها أن نفكر في عنصرآخر. وأية إضافة على هذه العناصر الأربعة سوف تكون من فضول الحديث ولا حاجة بنا إليها. فالمبادئ الأربعة التي قررناها كفيلة بجمع شروط الفعالية، التي- كما بينا- هي الشيء الذي نريده من وراء كلمة (ثقافة)، ذلك أننا لو حللنا عملا ما على أنه كائن مركب ومشتمل على دوافع نفسية، فإننا نرى أن هذه الدوافع يبعثها المبدأ الأخلاقي في النفس، بعثاً لا يمكن معه أن يتصور هذا العمل بدونها عملا إرادياً. وهذا العمل يأتي بصورة معينة يحددها ذوق المجال، وبهذا يتم جزء من فعاليته؛ كما أن هذا العمل سنجده يؤدي للمصلحة الاجتماعية بقدر ما فيه من المنطق العملي الذي يحدد سعة إنجازه، وبه تمام جزء فعاليته الآخر. وهو أخيراً يطلب تطبيق أصول نظرية ووسائل مادية يقدمها العلم. وهل بعد تحديد دوافع العمل وصورته وسعة إنجازه ووسائله شيء يبقى دون أن يستكمل العمل صورته التأمة؟ لاشك أنه من الفضول تحديد العمل بشيء أكثر من هذا. وكل فضول في

تحديد أي شيء من الأشياء فإنه لا يزيد ذرة في وضوح معناه، بل لعله يخلق التباسا وبلبلة. فيجب علينا إذن أن نقول: إن الثقافة تشكل على أربعة فصول: فصل أخلاق، وفصل جمال، وفصل منطق عملي، وفصل علم. على أننا لو تأملنا أخيراً في الموضوع، لوجدنا أن الترتيب بين هذه العناصر يختلف باختلاف الدوافع التي تدفع إلى العمل، وليس باختلاف الأصول النظرية والوسائل الفنية. وهذا يعني أن ذاتية الثقافة في نوعها تقوم على تقديم أو تأخير مبدأين اثنين منها: هما مبدأ الأخلاق ومبدأ الجمال. فالأولوية التي يمثلها أحد المبدأين في تركيب الثقافة يحدد ذاتيتها، كما يتحدد به اتجاه عام للحضارة التي تستند إلى تلك الثقافة. فلو حللنا على ضوء هذه الإعتبارات الإتجاه العام للحضارة المعاصرة، لعلمنا أن دوافعها تصدر عن ذوق الجمال أكثر مما تصدر عن المبدأ الأخلاقي. وهذا يعني تقديماً وتأخيراً بين مبدأين أي ترتيبا ضمنيا لفصول الثقافة. ولعل هذا الترتب الذي حدد نوع الحضارة الغربية، يعود إلى عصر النهضة في أوربا. فمن المعلوم أن ذلك العهد قد نصب الجمال مثلا أعلى في أفق الثقافة الغربية. وهذا ما لاحظه تولستوي في كتابه (ما هو الفن) الذي يرى فيه أن فكرة الجمال بدأت تحتل المكان الأول في عصر النهضة، وأنها أستولت نهائيا على الشعور الغربي حوالي منتصف القرن الثامن عشر، عند ظهور دراسات (وينجهمان) التي تشير إلى أن المبدأ الأخلاقي قد اضمحل في الفن وسلم مكانه للجمال. وإن هذه الإعتبارات لتدعونا إلى كثير من التأمل، في الوقت الذي بدأت فيه البلاد العربية الإسلامية تحدد نوع ثقافتها، في محيط من علاقاتها الثقافية مع البلاد المتحضرة بالحضارة العصرية. فإن التصرف الحكيم ينبغي ألا يفوتنا في مثل هذه الفترة، وذلك حتى لا يكون في البلاد حمامات للكلاب وفيها بعض الناس يموتون جوعاً، كما هو حاصل الآن في المجتمعات التي يستولي الجمال فيها على شعور القوم ويسيطر على ثقافتهم.

كيف نبني مجتمعا أفضل؟

كيف نبني مجتمعاً أفضل؟ ألقيت هذه المحاضرة في طرابلس لبنان في نادي جمعية مكارم الأخلاق الإسلامية، وذلك في يوم الأربعاء أول تموز (يوليو) سنة 1959 وقد نقلت عن الشريط المسجل بأكملها.

سادتي: اسمحوا لي أولاً أن أقدم شكري إلى جمعية مكارم الأخلاق التي أتاحت لي هذه الفرصة النادرة الثمينة، التي يجب علي أن أقدرها بثمنها. والإبن عمر مسقاوي قد أشعرني بقيمة هذه الفرصة النادرة في كلماته الأخيرة، ووصل بيني وبينكم أنا بوصفي متحدثا بسيطا، وأنتم بوصفكم مستمعين كراما تربطني بكم صلة المحبة وصلة الأخوة والزمالة في الطريق. إنني لم آت لأحاضركم، فالمحاضرة تتطلب شروطا لم يوفرها لي لساني، ولكني سوف أتحدث معكم بكل بساطة، كما يتحدث الأخ إلى أخيه في موضوع، تمليه على كل مسلم ملابسات التي نراها في العالم، والتطورات التي تجري في العالم العربي، حيث نرى نهضة كبرى يرفع رايتها زعيم كريم هو الرئيس جمال عبد الناصر. إنني أريد أن أدرس معكم بعض الملابسات العالمية، حتى نتجنب التناقض بين سلوكنا ونشاطنا أفراداً وجماعات وبين سير العالم. فإنني أرى العالم وكأنه يطوي الصفحة الأخيرة من العصر الذي سماه جيلنا نحن كبارا بالعصر الجديد. فإن هذا العصر قد أصبح قديماً وبدأ التاريخ اليوم يمحو معالمه. ولقد كنا- نحن الذين عشنا بوادر هذا العصر منذ أربعين سنة- نرى من معالم هذا العالم الجديد انتشار ضوء الكهرباء مثلاً وشبكة الخطوط الحديدية، غير أننا اليوم بعد أربعين سنة أو أقل من ذلك، نرى أن هذا العالم قد بدأ يدخل في ظلام التاريخ، وبدأت الخطوط الحديدية التي كانت تمثل في أعيننا علأمة العصر الحديث، بدأت هذه المخترعات تبدو لنا شيئاً قديماً أودع ضمير الماضي.

ففي بعض الأقطار اليوم عطلت فيها هذه الخطوط وأصبحت آثاراً، ولعله يأتي يوم نرى فيه هذه المصابيح الكهربائية التي أضاءتنا قرابة أربعين سنة منذ اكتشاف أديسون، وقد أصبحت هي الأخرى آثاراً تدل على طور من أطوار العالم، فقد دخلنا عهداً جديداً: عهد الصاروخ الموجه الذي اكتشف الفضاء، عهد الصاروخ الكوني الذي ربما سيحمل الإنسان إلى ما وراء الأرض وربما إلى وراء القمر. فالملابسات هذه تدعنا في حيرة أمام المستقبل القريب، المستقبل العاجل الذي نرى التاريخ يتمخض ليلده عما قريب. فما حظ العالم من هذا المستقبل؟ إن هذه قضية لا شك تهمنا، ولكن الذي يهمني أكثر من ذلك أن أعلم أنا بوصفي عربياً ماذا سوف يكون مصيري في هذا المستقبل، وما هو حظي من هذا الغيب القريب المؤكد. فلقد وقفنا على الأهداف التي حققها العصر الذي سميناه بالعصر الحديث ... ولكن ما هي الأهداف التي سوف يحققها عالم الصاروخ الموجه؟ وعالم القنبلة الهيدروجينية؟ إننا لا نعلم منها شيئاً. ولكن الذي ينبغي علينا أن نعلمه ونفكر فيه منذ اليوم، هولون الواجبالا التي يلقيما على؟ هلنا بناء النهضة،! مة مجتمعنا. ذلك المجتمع الذي أصبحنا نشعر بوجوب بنائه وتحريك طاقاته التي عطلهما التاريخ منذ قرون، قرون التدهور والأنحطاط التي كان حظ العالم الإسلامي منها كب! يرأ بعد ازدهارحضارته. فليس من الترف الفكري إذن أن نختارموضوعأ كهذا الوضموع عنوانه (كيف نبني مجتمعاً أفضل). فالظروف واللابسات هي التي تملي هذا الموضوع. ولوأننا تأملنا شيئاً فشيئاًا لمجتمعات الحيوانية التي تعيش كجتهعنا، كما لنحلة مثلاً، فإننا نرى أن النحلة لا يمكنها أن تعيش بعسلها ونشاطها، ولا أن تحقق أهداف حيا! اوكيانها، لو! يكن نشاطها هادفاً إلى فكرة عأمة ومستقرة في حياة المجتمع الذي هي جزء منه، أي في حياة ثلاثة آلاف أوأربعة آلاف من الحشراتا

التي تعيش معها في الخلية. فلو أنها انفصلت يوماً من الأيام أوفصلاً من الفصول عن الخلية، فإنها ستموت حتما مهما يكن في الطبيعة من زهور، ومهما يكن فيها من طاقات للعمل، لأن الله عز وجل قد ربط كيانها بهذا المجتمع، وأودع في نفسها وفي غريزتها سر الحياة الاجتماعية. فعلينا إذن أن نتعلم معنى الحياة الاجتماعية حتى من الحشرات، لأن في حياتها دروساً لنا قيمة. ففي مستوى حشرة بسيطة كالنحلة، نرى أن الحياة الاجتماعية ضرورة بالنسبة لكيان الفرد، فهو يلقي نفسه إلى التهلكة إذا ما انفصل عنها. والإنسان شأنه في هذا شأن النحلة، إنه لا يستطيع أن ينعزل عن المجتمع ويحاول العيش بجهده الخاص فمصيره من غير شك إلى الموت. على أننا إذا سلمنا بهذه البديهة فإن علينا أن نتساءل: هل الفرد يعيش ويحقق قسطه من الحياة ومصلحته فيها، بمجرد اتصاله بشيء نسميه المجتمع أي بعدد من الأفراد؟ هنا: سادتي، يبتدئ عندنا لبس أدى للاسف؛ في التاريخ القريب أي في الاربعين سنة أو الخمسين سنة التي مضت، أدى بنا إلى غلطات ارتكبناها لأننا لم ندقق في مصطلحات الاجتماع، ففهمنا أن المجتمع إنما هو عبارة عن عدد من الأفراد، يعيشون كما يشاؤون مهما كانت الصلات بينهم ليس هذا هو المجتمع. هذا يمكن أن نسميه بقايا مجتمعات أو بداية مجتمعات قبل أن تقوم بوظيفتها التاريخية. أما المجتمع الذي يقوم بوظيفته التاريخية، المجتمع الذي يقوم بوظيفته نحو الفرد ويحقق راحة الفرد، فإنه لابد أن نفهم معناه فهماً دقيقا. فهو ليس عددا من الأفراد، وإنما هو شيء خاص، هو بنيان وليس تكديسا من الأفراد، بنيان فيه أشياء مقدسة متفق عليها. فقبل أن تتجمع الأفراد تكون هناك فكرة عأمة هي التي تؤلف بين أفراد المجتمع. فإذا فقدت هذه الفكرة فقد فقدت الصلات بين الأفراد، وتفكك المجتمع وضاعت المصلحة التي كانت تتمثل فيه. فكما أن النحلة لو انفصلت عن خليتها ماتت، فإن المصلحة التي تجمع وتنسق سلوك كل نحلة من الخلية لو انعدمت لسبب لا أعلمه فإن الخلية ستتمزق، أي يضيع المجتمع ويضيع أفراده أيضاً.

فالقضية إذن ليست قضية تكديس لأفراد، فنسيمي كل تكديس مجتمعا. ولقد تورط أهل العلم أنفسهم، أهل علم (الأتنولوجي) في أوربا في هذه التعبيرات الزائفة، فسموا التجمعات البدائية مجتمعات، ولا بأس في هذا إن كان المراد به التعليم وتبسيط الأشياء. أما إذا أردنا أن نعلم الأشياء ونعمل بها فالمفاهيم تتطلب فحصاً أكثر. فلا يجوز لي أن أقول مجتمع بدائي وثقافة بدائية لمجرد أنني سمعت الكلام عن حضارة بدائية وهذا خرافة. إذن سادتي إذا قررنا أن المجتمع وظيفته حفظ كيان الفرد، وتحقيق أهداف جماعته، فإن هذه الأهداف في مستوى الحشرات حفظ النوع، ولكنها في مستوى الإنسان تفوق ذلك. فالقضية عن المجتمع الإنساني ليست قضية حفظ النوع، لأن التناسل قد وفرته الحياة الطبيعية، فالإنسان يعيش لأهداف أخرى، والمجتمع الإنساني يقرر فكرته في مستوى آخر ليس مستوى البقاء، ولكن مستوى تطور النوع ورقيه، هذه هي حقيقة المجتمع التي ينبني عليها كيانه. فما هي الأهداف التي من أجلها يتكون المجتمع بالمعنى والاصطلاح الذي نعنيه؟ إننا إذا عبرنا عتها بالنسبة للفرد المسلم، وجدنا القرآن الكريم يعبر عنها بقوله: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77/ 28] فالحياة الاجتماعية بالنسبة للمسلم لا تنفصل فيها الحياة الدنيوية عن الحياة الأخروية، فالرسول يقول «الدنيا مطية الآخرة» فنحن بالطبع لا نفصل الدنيا عن الأخرى، إذ هي المطية التي نمتطيها للوصول إلى أهداف هي أبعد من الموت. فإذا كانت هناك بعض المجتمعات الحديثة اليوم، تبني المجتمع لغايات اجماعية بحتة ولحياة أرضية بحتة- وأنا لا أقلل من شأن هذه الغايات وإنما أعلم أنها تقف في منتصف الطريق- فإن مجتمعنا يبني لما بعد الحياة، كما يبني لأهداف يحققها لحياة كل فرد. وهذا بالطبع يتطلب من المسلم ومن العربي جهدا أقدر من جهد الآخرين وجهادا أكبر من جهادهم.

غير أني أحب أن أعبر عن المشكلة لا بلسان الدين، ولكن باللسان البسيط، بلسان الأدب. فما هي المشكلة وكيف نعبر عنها؟ ولماذا يحيا الفرد؟ ولماذا يتصل بالمجتمع؟ ولماذا لا يستطيع أن ينفصل عنه؟ وهنا سأجيب بكل بساطة فأقول: إن الغاية من ذلك كله تحقيق سعادته. فالفرد إذ يتصل بالمجتمع فإنما ليحقق سعادته، وما أتت الأديان والفلسفات إلا لتحقق السعادة، وما خططت السياسات إلا لهذا الغرض. ولكن ما هي هذه السعادة التي نتطلع إليها؟ وما هو الشيء الذي يحققها؟ لو أردنا أن نستخدم لغة العصر، وهي لغة الإقتصاد الذي يسيطر اليوم على عقولنا وعلى سير التاريخ، لو أردنا أن نقبس من هذا المنطق لندخل في موضوعنا فإننا نقول: إنه متوسط الدخل السنوي للفرد؛ فلو أنني أخذت قائمة متوسط الدخل السنوي للفرد عالميا، فإنني سوف أجد فيها مئات الأرقام طبعا، ولكني سأكتفي منها بأرقام ثلاثة. فمتوسط الدخل السنوي للفرد في العالم يتراوح بين 1850 دولارا في أميركا إلى 38 دولارا في جمهورية ليبريا. هذا هو سلم الدخل السنوي في العالم، من أول درجة فيه إلى أسفل درجة. ولو أني أمسكت بطرفي السلم وبحثت عن نقطة الوسط لا من جهة الأرقام بل من جهة المستوى الإقتصادي، وبالنسبة للحقائق الأخرى كتجنيد الطاقات الاجتماعية وحل مشكلة البطالة، وحل مشكلة الأمية، وبكلمة واحدة بالنسبة لتحقيق سعادة الفرد، فإننا نرى حسب ما نعلم عن الحياة وعن توزيع الثروة العالمية والمستوى الاجتماعي في العالم، أن متوسط الدخل في العالم هو 200 دولار سنوياً. وهذه النقطة تتفق بالضبط مع حياة ودخل اليابان. فمتوسط الدخل الفردي في اليابان 200 دولار، وبه يتحقق للفرد الياباني جميع الضمانات. أعني 200 دولار تحل جميع مشكلات المجتمع الياباني، فإنه لا أمية فيه ولا مرض وبائياً ولا فقر بصفة وبائية. فالحياة الإجتماعية منظمة تحقق للإنسان ما نسميه السعادة

بالمنطق الإقتصادي. وهذا يعني أننا دون ذلك سنسقط في الحضيض، في مستوى الشقاء. والآن سادتي، لو أعود فأوزع هذه الأرقام على خريطة العالم فإنني أرى شيئا يدعو إلى الملاحظة. أرى أن الأرقام التي تكون السلم من 200 دولار إلى 1850 دولاراً تمتد من سان فرنسيسكو إلى طوكيو- أي في القطاع الشمالي من العالم بين القطب الشمالي ومستوى جنوب أوربا، على طول خط العرض حتى جزر اليابان ... فالأرقام التي تكون السلم من 200 إلى 1850 دولاراً تكون هذه القارة التي نسميها قارة السعادة. والأرقام التي تكون السلم من 200 إلى 38 دولاراً تكون القارة التي تسمى الآن بالمصطلح السياسي الدولي البلاد المتخلفة؛ أي الحياة الإقتصادية لـ 29 دولة، وهي الدول التي اجتمعت في مؤتمر باندونج. إذن فنحن أمام ظاهرة غريبة. فإن شرط السعادة أن نحقق مستوى للدخل الفردي فوق الـ 200 دولار؛ والمسألة هكذا تبدو بسيطة، ولكن هذه البساطة صورة فقط. إن هذا ظاهر الشيء، وسوف يكون من الخطأ أن نفكر هذا التفكير السطحي. ولكي ندرك هذا الخطأ ونشعر به سوف أوضحه من ناحيتين: أ- في صورة إنسانية شاهدتها بعيني، وكانت هي الحافز الذي حفزني على هذا الاتجاه. فقد كنت جالساً على ظهر مقهى في مرسيليا وبجاني رجل فاضل، عالم كريم، أخلاقه سامية وهو من العلماء التقليديين الجزائريين. وقد كان شديد البنية متكاملا من جميع النواحي جسماً وعقلاً وخلقاً. وكان يشكو لي الزمن، وهو أب ذو عائلة، وله أبناء كثر، يقص لي قصة مؤسفة حدثت له، ثم لم يلبث أن انصرف. وبقيت بعده مدة، وفي تلك المدة التي بقيت فيها على سطع المقهى أتت امرأة فرنسية، أتصور فيها كل معاني الانحطاط الأخلاقي لو كان لنحات أن ينحته، هذا إلى قبح في الخلقة كبير. ثم وقفت على رجل واحدة ورقصت وهي

مخدرة بالسكر وغنت أقبح الصوت ومدت يدها للجالسين وبقيت أنظر. فرأيتها أخذت من سخاء الجالسين ومن طيبة الفرنسيين ما كان يزود أخي الذي كانت تتمثل فيه الفضيلة، وأهله أسبوعا. هذه القصة توضح لنا ناحيتين: 1 - فالإنسان لا تسعفه خصائصه، وإمكانياته الشخصية في تحقيق سعادته. وليس يعني هذا أنني أغض من قيمة هذه الخصائص، ولكني أرى أن القيم الأخلاقية هنا أصبحت عاجزة أمام ظاهرة أخرى. فإن هذا الرجل الذي تتوافر فيه الصحة والفضيلة والكرم والعلم والنشاط لا يملك قوت يوم. والمرأة التي تصورت فيها الرذيلة يأتيها عيشها رغدا. فإن هذا السر عميق يدعونا إلى كثير من التأمل إذ هنا بيت القصيد. فقضية تحصيل السعادة ليست بلا قيد ولا شرط، بل هناك أمور أخرى. فقد سبق أن قلت إن ارتباط الفرد بالمجتمع هو الذي يحقق السعادة. والآن أرى هذه الواقعة تؤيد صحة هذا المقياس. 2 - غير أن هناك جانبا آخر تدل عليه هذه القصة. فلو كان المقياس الإقتصادي الذي سبق أن أوضحته لكم أعني مقياس متوسط الدخل صحيحا، فمن الطبيعي أن يحقق أوتوماتيكيا وبلا قيد وشرط، شروط الحياة لذلك الرجل الفاضل أيضا، لأنه يعيش في بيئة متوسط دخلها 600 دولار. فلماذا هو قد حرم وتوافرت سبل المعيشة لهذه المرأة؟ فالملاحظة إذن تدعونا أن نقرر هذين المبدأين: القياس الإقتصادي ليس صحيحا بدون استثناء وإنما بشروط. الفرد لا يحصل على قوته بمجرد نشاطه فهناك شروط أيضا وإنه لمفيد لنا أن نتخذ من هذه الملاحظات دليلاً يوصلنا إلى سعادة الفرد حينما نتكلم على مجتمع أفضل.

ب- أما دليلنا الثاني على ضعف المقياس الإقتصادي فهو منطقي. فإنه لو كان المقياس صحيحا فإنه لا يجوز لي حينما أتساءل عن سبب السعادة، أن أقول إنه تحقق دخل سنوي فوق المئتين من الدولارات، لأن هذا السبب وراءه أسباب أخرى. وعلي دائما أن أبحث عن السبب الأول وليس عن سبب ثان أو ثالث أو رابع. وإن لم أفعل ذلك فسوف أقع في الخطأ حتما، لأن تحقيق السبب الخامس حينئذ يقتضي تحقيق السبب الرابع، والرابع شأنه في ذلك شأن الخامس. فالسبب الأول هو غايتي في البحث لأنه هو الذي يحقق لي الأسباب الأخرى آلياً. فحينما أضع العدد الذي أشرت إليه من نقط الاستفهام، فأين أجد الجواب عليها؟ إنني أجده في رجوعي إلى الخريطة التي سميتها السعادة. فقد سميت خريطة السعادة الرقعة الجغرافية التي يتوزع فيها الدخل السنوي فوق مئتي دولار للفرد الواحد. ولكن حينما أنسلخ عن منطق الإقتصاد وأتكلم بمنطق التاريخ ثم الاجتماع، وأتساءل ما هي هذه الرقعة التي تمتد من سان فرنسيسكو إلى طوكيو؟ فإن الجواب على هذا السؤال سوف يعطيني الجواب على جميع المسببات الثانية التي أتت بمتوسط الدخل السنوي للفرد وخلافه. هنا أصبح أمام مشكلة تاريخية واجتماعية. فلو أني رجعت إلى الوراء خمسين سنة أو مئة سنة وطبقت هذا المنطق، منطق الاجتماع. ومنطق الاجتماع ليس منطق الاستقرار، ليس منطق دراسات الحالات الساكنة بل المتحركة والمتطورة. فلو أني أخذت خريطة سنة 1848 واستخرجت متوسط الدخل فيها، ثم خريطة سنة 1900واستخرجت متوسط دخلها أيضاً. وفعلت مثل ذلك سنة 1950، والخريطة فيها شيء جوهري، فقط نسبة الأشياء كمّاً ومساحةً. فخريطة سنة 1848 التي تشير إلى عهد بداية التصنيع في العالم، متوسط الدخل السنوي المرتفع فيها مكانه في الرقعات المصنعة. أي في ألمانيا

الغربية وسييسيا وإنكلترا وإلى حد ما في أميركا. ولو أني سرت مع التاريخ قليلا ووقفت عند سنة 1900م ونظرت نظرتي السابقة، فإني سأجد البقعة لم تتغير وإنما اتسعت. فكأن الظاهرة بدأت تتسع لأن الإقتصاد في حركة لا تعرف الجمود. فهو قد انتشر شرقا في روسيا وغربا في أميركا. والأمر في سنة 1905 قد انتشر قليلاً عن ذي قبل ولكنه بلغ مساحة كبيرة جداً في سنة 1950. فلو أني رسمت خريطة سنة 1905 لوجدت أن متوسط الدخل السنوي المرتفع قد انتشر من سان فرنسيسكو إلى طوكيو مثلاً. فمتوسط الدخل السنوي فوق 200 دولار لم يتزحزح عن مكانه، وإنما اتسع فقط. فكأنه زلزال حدث في منتصف القرن الثامن عشر أو بدئه، في وسط أوربا بين برلين وباريس ولانكشير ولندن، وامتدت تموجاته واتسعت، ولكنها لم تتسع في جميع الاتجاهات، فكأن التمهوجات موجهة لتتجه في اتجاهات معينة، لو دققنا النظر لوجدناها اتجاهات الحضارة الغربية، فقد اتسع الإقتصاد واتسعت رقعته في خريطة الحضارة الغربية. ودليلي على ذلك أنني لو رجعت إلى الوراء، لأستخرج هذه المرة خريطة الحضارة الغربية لا خريطة الإقتصاد لسنة 1848 و1900 و1940، لوجدت تطابقا تاما بين الخريطة الإقتصادية وخريطة فكرة الحضارة الغربية، وما ذلك إلا لأن الظاهرة الإقتصادية صورة للحضارة الغربية. فمراحل الظاهرة الإقتصادية هي مراحل الحضارة الغربية فقط. ونستطيع أن نستنتج من هذا التحليل شيئا: فالإنسان الذي لا يكون مجتمعه مجتمع حضارة، معرض للحرمان من الضمانات الاجتماعية. فأنا حينما أحاول تحديد مجتمع أفضل فإننى أحاول تحديد أسلوب حضارة. إذ أنني حينما أحقق الحضارة، أحقق جميع شروط الحياة، والأسباب التي تأتي بمتوسط الدخل المرتفع، بمعنى أنني أحقق الخريطة الإقتصادية، ونتائجها الاجتماعية والثقافية أيضا. ومن هنا نرى أنه ينبغي أن نبحث المسألة من زاوية واحدة. ولقد كنا من

قبل منذ مئة سنة نخطئ إذ نبحث المسألة من زوايا متعددة، فتشعب علينا الأمور. وأحيانا نترك الطريق ونخرج عن الجادة. على أننا اليوم نتوقع بفضل ما يطرؤ ويدور في المجتمع العربي الناشئ من نهضة جديدة تحقيق مجتمع أفضل. وعلى ضوء هذه الكلمات نفهم ما عنى به الزعيم جمال عبد الناصر في تصريحاته أمس حينما قال: إن بناء المجتمع يتطلب تنمية إقتصادية وطاقات روحية. ولم يقل تنمية إقتصادية فقط. ولقد عدنا والحمد لله نقرن الأشياء ولا نمزقها، لأن الحقائق العلمية والاجتماعية والرياضية إذا مزقت فإنها لا تكون من الأجزاء حقيقة. فينبغي علينا أن نحتفظ بكيان الحقائق. لأن الحقائق لا تؤدي مفعولها في التاريخ إلا بوصفها أشياء كاملة. فإذا أردنا أن نبني مجتمعا أفضل فهذا يعني أننا نبني مجتمعاً متحضراً، وهو بدوره أيضاً يعني أنه لابد أن نعمل لتكوين حضارة. وإن نظرة واحدة إلى نهضتنا البعيدة، حينما نهضنا على صوت زعمائنا الأقدمين كجمال الدين ومحمد عبده والشيخ رشيد رضا، حينما سمعنا هذه الأصوات الجليلة وأيقظتنا من سباتنا فأين توجهنا؟ إننا توجهنا بالطبع في طريق الحضارة. ولكنا بكل أسف من غير أن نحدد الهدف ونوضح معالم الطريق. فلو أننا وازنّا سيرنا الحضاري بسير حضارة أخرى، فسوف نشعر في عصر السرعة، في العصر الذي يخضع فيه التطور الاجتماعي إلى عوامل التاريخ، إلى عوامل التسريع، بأننا نسير في بطء. وهذه الحقيقة تتجلى بكل وضوح في مقارنة بسيطة. فحينما استمعنا لأول مرة لمنادي النهضة العربية الإسلامية وهو جمال الدين الافغاني سنة1858 نهضنا وبدأنا السير. ولكن فلنوازن سيرنا ونتائجه الاجتماعية بسير مجتمع آخر استيقظ بعد عشر سنوات سنة 1868 وهو مجتمع اليابان. أيقظه الإستعمار كما أيقظنا نحن، فقد دقت على بابه يد الإستعمار الحمراء وشعر بأن كيانه مهدد، ففتح الأبواب له ولأفكاره

الإستعمارية، غير أن الياباني أدرك أن واجبه أن ينهض وأن يقوم بدور حاسم قبل أن يسيطر عليه الإستعمار ويمحو شخصيته. فقام وسار في الطريق نفسها التي حاولنا أن نسير فيها. والغريب أن هذا المجتمع الذي نهض بعدنا بعشر سنوات قد سار إلى الحضارة ووصل إليها، وأصبح خلال أربعين سنة دولة قوية تناهض دولة من العصر الإستعماري، وهي دولة روسيا في ذلك الحين. فإنه حينها وقعت حرب سنة 1905 وجد المجتمع الياباني في نفسه وفي عبقريته السلاح الكافي لمقاومة أكبر دولة استعمارية في ذلك العهد. بينما لو نوازن إنتاجنا الحضاري سنة 1905 بالإنتاج الحضاري للمجتمع الياباني، فإنكم تعترفون بأنه لا مجال للموازنة. وهذا يعني أن القانون الذي طبقه المجتمع الياباني في سيره ليس هو القانون الذي طبقناه في سيرنا. فنحن قد مررنا في طريقنا مر الكرام، تستوقفنا الزهور التي في جنباتها مرة، ونتسلى بالطيور أخرى ونصغي إلى صوت أوربا أحيانا، ونشيد البلابل الأوربية. أما الياباني فقد فكر في خطته تفكيراً علميا، وخطط لها تخطيطا فنيا، وبعث في الأنفس حقيقة فكرة عأمة، جعلت كل ياباني يتصل بالمجتمع الياباني، كما تتصل النحلة بخليتها، فلقد أصبح المجتمع الياباني في خلال المرحلة من سنة 1868 إلى سنة 1905 كخلية النحل، كل نحلة تعمل لمصلحة عأمة في إطار فكرة عأمة، بينما نحن كنا ممزقين: جزائريون يفتح بهم الإستعمار المراكشيين، ومراكشيون يفتح بهم الإستعمار التونسيين، وتونسيون ومراكشيون يفتح بهم الإستعمار بعد الحرب العالمية الأولى لبنان وسوريا إلخ ... وهكذا مرت البلاد العربية في تجربة مؤلمة قاسية، وعاشت مرحلة غريبة، عاشتها في يقظتها لا في نومها وهنا كانت الغرابة. وذلك أننا لو أرخنا للعالم الإسلامي، لأرّخنا له من سنة 1858 من معركة (السيباي) في الهند، التي حركت الوعي في العالم

الإسلامي، عندما حركت الوعي في روح طاهر نقي هو روح جمال الدين الأفغاني. غير أنه للأسف لم تحرك فينا ساكناً، فسرنا في الطريق رويداً رويداً ولا نصل بعد. فإذا فعلنا في الطريق وماذا فعلت اليابان؟ إن اليابان قد بنى مجتمعاً متحضراً، فهو قد دخل الأشياء من أبوابها. وطلب الأشياء بوصفها حاجة، درس الحضارة الغربية بالنسبة لحاجاته، وليس بالنسبة لشهواته. فلم يصبح من زبائن الحضارة الغربية يدفع لها أمواله وأخلاقه. أما نحن فقد أخذنا منها كل رذيلة، وأحياناً نأخذ منها بعض الأشياء الطيبة التي قدرها الله لنا. فما هو معنى سيرنا؟ وما هو معنى سير اليابان؟ إننا إذا عبرنا بالتعبير الصحيح، أعني بمصطلح له معنى اجتماعي، فإن اليابان قد سارت في الطريق لعمل نسميه البناء. فقد قامت خلال نصف قرن من سنة 1868 إلى سنة 1905 ببناء مجتمع، ونحن كدّسنا عناصر مجتمع. ولسائل هنا أن يسأل: ترى ما معنى التكديس وما الفرق بينه وبين البناء؟ هناك فروق كبيرة وهي عظيمة، أظنكم بعد الذي قدمت من الحديث تشعرون بها، تشعرون بالفرق بين البناء الذي يحقق النتائج عاجلاً والتكديس الذي ربما يأتي بنتيجة. فلعله يصادف يوم يخرج من التكديس شيئاً، والتكديس في الحقيقة ظاهرة اجتماعية، فإنه يحصل أن تكدس المجتمعات في مرحلة من مراحلها، ولكنها ليست في مراحل نهضتها، وإنما في عصور انحطاطها، لأنها في هذه المرحلة لا تفكر ولا تنظم أعمالها طبق أفكار وقوانين، وإنما تكدس الأشياء: وحتى ندرك أثر التكديس في المجتمع نفترض أننا كدسنا عناصر البناء لعمارة معينة: كدسنا من الحجر والإسمنت والخشب والحديد مئات

الأطنان، فإننا لا نستطيع أن نقيم من هذا التكديس البناء ولو بعد مئات السنين. بينما لو سلكنا طريق البناء فإننا في شهر واحد نبني على الأقل شقة واحدة. وهذا يقتضينا أن نفكر في المجتمع تفكير بناء وليس تفكير تكديس: لأن التكديس في المجتمع ظاهرة مضرة، وهي تظهر حتى في الأفكار. فقبل خمسين سنة نتكاتب ونتراسل في رسائلنا الأدبية والودية، فنبتدئ بعد الحمد لله بعشرة أسطر من الديباجات التقليدية والألقاب، ثم نقول: والحمد لله أنا بخير وأرجو أن تكونوا بخير والسلام عليكم: وهكذا تنتهي رسائل عالمنا. ومجتمعنا هذا نموذج من رسائلنا. أو إن شئت فقل رسائلنا نموذج من مجتمعنا. ولقد ظلت هذه الظاهرة في تفكيرنا حتى حينما استيقظنا، فإنا نرى حتى في بعض كتبنا هذا النوع من التكديس: فقد قرأت كتاباً تحت عنوان (مشكلاتنا الإجتماعية)، وتحت هذا العنوان رأيت فصولا أربعة أو خمسة تعالج موضوعات الفقر والجهل والمرض: فتحت عنوان الفقر نرى كل ما يتعلق بالحياة الإقتصادية من الحديث عن المصارف والبضاعة والأسواق، أي بكل ما يتصل بكلمة فقر وما يقابلها من غنى وثروة. ذلك لأن كلمة فقر توحي بهذه المعاني جميعاً. فهذا ضرب من تداعي المعاني والأفكار، إذ أضع كلمة وآتي تحتها بكل الأفكار التي تدخل تحتها. ومن الطبيعي أن هذا ليس ببناء، ولكن تكديس وجمع للمفردات لا يؤدي إلى حل المشكلات ولا يأتي بنتيجة، إذ القارئ لا يشعر بأنها قدمت له حقيقة. ثم نراه بعد ذلك يأتي إلى فصل الجهل فيتحدث عن المدارس وما يتعلق بها ويأتي بالإحصائيات في هذا المضمار، وكذلك الحالة الصحية وما يدخل تحت هذا العنوان من معان. فهذا النوع من الدراسات اسمه دراسات تكديس أو دراسات جزئية لا تأتينا بالحلول للقضايا، وإنما فقط تعطينا تلميحات لقضايا جزئية

معينة. وهذا ليس بالحل الصحيح الجذري الذي يقتلع المرض من جذوره. فلو أنني استخدت طريقة رد الفعل في حل المشكلات فقلت الفقر علاجه الغنى، فإن النظرة الفاحصة تكشف عن فساد القياس. ذلك لأننا لو نظرنا إلى العالم الإسلامي وحددنا إمكانياته المالية والإقتصادية، فهل نراه يتصرف طبقاً لإمكانياته أو دون ذلك؟ إنه لاشك يتصرف دون إمكانياته بكثير. وحتى أدلل لكم على ذلك أقص لكم هذه القصة: فقد كنت ذات يوم أتناقش مع أحد أصدقائي في مدينة تبسة، فقال لي نحن فقراء، فأجبته ليس الفقر فينا بل أشياء أخرى أجل من الفقر وأعظم. وقد كان هذا في معرض الحديث عن ميزانية مدرسة في المدينة لجمعية العلماء الجزائريين، كان يقوم على أمرها ويبذل من جهوده وإمكانياته في سبيلها الشيء الكثير، لأن المجتمع لا يؤدي الواجب عليه نحو هذا المعهد. فسألته عن ميزانية المدرسة فقال إنها 600 ألف فرنك، والمجتمع فقير لا يستطيع تسديد هذا المبلغ، وهو مبلغ زهيد، فقلت له إن المجتمع ليس بفقير ولكن به مرض اجتماعي آخر. وإن شئت التأكد من صحة هذا القول فاخرج معي إلى المدينة لنقف على مبلغ فقر الشعب. فخرجنا وبعد جولة قصيرة وجدنا في تلك الليلة قاعتي سينما ومسرحاً للحيوانات وكان زيادة على ذلك زبائن الخمارات، فقدرنا مصاريف تلك الليلة بـ 250 ألف فرنك. أي أكثر من ربع ميزانية سنة لمشروع خيري. فالقضية إذن ليست قضية فقر ولكن عدم شعور بالمسؤولية. فالمجتمع الإسلامي عندنا لم يشعر بعد بمسؤوليته، وهناك أمثلة كثيرة تؤكد هذه الحقيقة.

فحينما نراجع مأساة فلسطين فإن لها بالنسبة للعرب دلالة وبالنسبة لليهود دلالة أخرى. أما بالنسبة لليهود فقد كان اليهودي يؤدي واجبه منذ سنة 1932. فاليهود عندنا في الجزائر كانوا يؤدون ضريبة يومية لقضية فلسطين، وللأسف فقد أشركوا معهم بعض المسلمين من حيث لا يعلون. إذ جعلوا صناديق في المقاهي والخمارات. والمسلم الذي يدخل إلى هذه الأماكن يدفع في الصندوق ثمن فلسطين اليهودية، وهكذا كانت أموالنا تذهب. فالقضية إذن ليست قضية فقر، وإنما هي أمر يتعلق بأساس مشكلاتنا. فعلينا أن نفكر في جذور المشكلات، وندرك أن القضية قضية حضارة. وما الفقر والغنى، ولا الجهل والمرض إلا أعراض لتلك المشكلة الأساسية. إن علينا أن نكون حضارة، أي أن نبني لا أن نكدس. فالبناء وحده هو الذي يأتي بالحضارة لا التكديس ولنا في أمم معاصرة أسوة حسنة. إن علينا أن ندرك بأن تكديس منتجات الحضارة الغربية لا يأتي بالحضارة، والاستحالة هنا إقتصادية واجتماعية. أما الاستحالة الإقتصادية فنحن لو أردنا أن نكدس عناصر حضارة لنكون منها حضارة، لأصبحنا أمام أشياء للحضارة لا تعد ولا تحصى. ولو أننا قدرنا ثمنها فلا نستطيع تسديده خلال ألف سنة. ثم إن هناك مغالطة منطقية، فالحضارة هي التي تكون منتجاتها وليست المنتجات هي التي تكون حضارة. إذ من البديهي أن الأسباب هي التي تكون النتائج وليس العكس. فالغلط منطقي ثم هو تاريخي لأننا لو حاولنا هذه المحاولة، فإننا سنبقى ألف سنة ونحن نكدس ثم لا تخرج بشيء. من هنا فقد وجب علينا أن نشعر بخطورة المشاريع التي نراها تقوم في

الجمهورية العربية المتحدة. فإن هذه المشاريع هي التي تجعلنا لأول مرة في التاريخ نقف على باب الحضارة. فنحن قد بدأنا بالتخطيط لأننا بدأنا بالبناء وليس بالتكديس. ولكن حتى نفهم هذه الأشياء في عمقها فإن علينا أن ندركها في معناها الصحيح، يجب علينا أن نتساءل: من أي شيء يبتدئ بناء الحضارة؟ وهذا السؤال يفرضه المنطق، فأنا إذا فكرت في بناء فإن علي أن أعلم بأي شيء أبتدئ. إن أول ما يجب علينا أن نفكر فيه حينما نريد أن نبني حضارة، أن نفكر في عناصرها تفكير الكيماوي في عناصر الماء إذا ما أراد تكوينه. فهو يحلل الماء تحليلاً علمياً، ويجد أنه يتكون من عنصرين عنصر الإيدروجين وعنصر الأوكسجين. ثم إنه بعد ذلك يدرس القانون الذي يتركب به هذان العنصران ليعطيانا الماء، وهذا بناء ليس بتكديس، ذلك لأنه لو كدس ملايين من الأطنان من الإيدروجين والأكسجين ثم بقي ينتظر أن يتكون الماء، فإنه لا يتكون وحده إلا بأن يبعث الله إليه شرارة من عنده. فحينما نحلل منتجات الحضارة ولنأخذ أياً منها ولتكن هذه الورقة، فإننا نجدها تتكون من عناصر ثلاثة: الإنسان، لأنه هو الذي ولدها بفكره وصنعها بيده في بغداد في العهد العباسي حيث اخترع الفكر الإنساني الورق. فالعنصر الأول إذن الإنسان أما العنصر الثاني فهو التراب. إذ من التراب كل شيء على الأرض وفي باطنها. ومعنى التراب هنا ليس هو المعنى المتبادر إلى الذهن، فقد تعمدت ألا أستخدم كلمة مادة لأسباب فقلت التراب. لأن التراب يتصل به الإنسان بصورتين: صورة الملكية أي من حيث تشريع الملكية في المجتمع الذي يحقق للفرد الضمانات الاجتماعية، فالتراب هنا شيء حيوي في المجتمع من حيث التشريع. وهو يتصل به بصورة أخرى، من ناحية علم التراب والمعلومات التي تتصل به كالكيمياء وغيرها، فالتراب نعني به هذين الجانبين جانب التشريع

وجانب السيطرة الفنية والإستخدام الفني. فالتراب بهذا المعنى يدخل في عناصر هذه الورقة. وأما العنصر الثالث فهو الزمن، لأنه إذا صح ما أقول، فلماذا يخترع الفكر الإنساني الورق قبل هذا التاريخ؟ إن الجواب على ذلك هو نقص تجاربه في هذا المضمار، في مضمار علم التراب والنباتات. فالزمن قبل ذلك التاريخ لم يكف لتخمر فكرة ابتكار الورق. إذن يجب أن تجتمع عناصر ثلاثة حتى يتكون منها الورق: الإنسان- التراب- الوقت وهذا التحليل يوجب علي أن أقول: منتوج حضارة (وهنا ورقة) = إنسان+ تراب+ وقت. منتوج حضارة أول = إنسان + تراب + وقت منتوج حضارة ثان = إنسان + تراب + وقت منتوج حضارة ثالث = إنسان + تراب + وقت إلخ إلى ما هنالك من منتجات. حتى الكلمة فإنها تعد منتوجاً حضارياً، وتساوي المعادلة السابقة، لأنها بنت هذه العناصر الثلاثة جميعاً. فلو لم تتوافر فالكلمة نفسها لا توجد .. فأنا إذن أمام كل منتوج حضاري أكتب معادلة كما يكتب الكيماوي حينما يحلل الماء إذ يقول: ماء = إيدروجين + أوكسجين. وأظل هكذا حتى أنتهي من قائمة المنتجات الحضارية كلها. ولسوف أستخلص من هذا التكديس النظري لمنتجات الحضارة حقيقة عأمة إذ أقول في النهاية: حضارة = رجل + تراب + وقت.

فأنا إذن حينما أحاول التخطيط لحضارة فليس علي أن أفكر في منتجاتها، وإنما في أشياء ثلاثة: في الإنسان والتراب والوقت. فحينما أحل هذه المشاكل الثلاثة حلا علميا، بأن أبني الإنسان بناء متكاملاً، وأعتني بالتراب والزمن فإنني حينئذ قد كونت المجتمع الأفضل، كونت الحضارة التي هي الإطار الذي فيه تتم للفرد سعادته، لأنه يقدم له الضمانات الكافية الاجتماعية والسلام عليم ورحمة الله وبركاته. وبعد أن انتهى الأستاذ من المحاضرة وجه إليه سؤالان: س 1:- ماذا نأخذ من الحضارة، وماذا ندع حتى نستطيع النهوض؟ ج: إنه ليس من شك في أننا لا نستطيع أن نعيش منعزلين عن العالم. فحينما نقول: إنه ينبغي أن نوجه أبحاثنا إلى هذه العناصر الثلاثة التي بها تبنى الحضارة، فإن هذا لا يعني أن ندع ما انتهى إليه الآخرون لنبدأ الطريق من أوله. إن علينا أن نأخذ من الحضارة الغربية الأدوات التي نحتاجها في بناء حضارتنا. فإذا لم نكن نستطيع صنع الآلات مثلاً فعلينا أن نستورد هذه الآلات من الخارج، حتى يأتي يوم نستطيع فيه الاستغناء عنها بمنتجاتنا. على أنه إذا كان من العبث أن أركب الجمل في العصر الذي انتشرت فيه السيارات، فإنه من العبث الأكبر والتبذير للأموال، أن أقتني أفخر السيارات وأعظمها، لأنه لا حاجة بي إلى هذا النوع من السيارات، طالما أستطيع الاكتفاء بأقل منها درجة. فنحن في مرحله البناء ينبغي لنا أن نقتصد في إمكانياتنا حتى نستخلص منها أقصى ما نستطيع من فائدة. ولكننا اليوم في صلتنا بالحضارة لا نضع هذه القاعدة في حسابنا، ولذلك فإن علاقتنا بالحضارة الغربية لن تستطيع أن تأتينا بالحضارة، طالما وجد في

مجتمعنا من يستورد فرو السيدات الباهظ الثمن وهو في صحراء العرب، حتى إذا ما أراد استعماله جعل داخل القصور مكيفا للهواء في درجة الصفر لتستطيع السيدات استعماله. فإن هذا عبث وصبيانية وإتلاف لإمكانيات المجتمع. س 2:- إذا كانت الحكومة في الجمهورية العربية المتحدة تبني المجتمع بناء حضارياً كما بينتم فما هو واجبنا حيال هذا البناء؟ ج: إن علينا أن نقوم بمؤازرة كل عمل بناء، فلا تتضارب جهودنا وإنما تتضافر من أجل البناء. وإنما تؤتي الجهود ثمارها ويرتفع البناء، إذا قام كل فرد في حدود مهنته بواجبه على أتمه. فالقاضي يقوم بواجبه والزارع والتاجر أيضاً. لأن أي تهاون في هذا السبيل يعني تحطيم إمكانيات المجتمع وتخريبها. وعلينا واجب آخر، هو أن نكشف عن كل ما يخرب المجتمع ويعرقل سيره. فإنه إذا كان الحرام بيناً والحلال بيناً، فإنه في بعض الأحايين يتخفى الحرام في أثواب كثيرة، فإذا كان بعضنا يبني فإن علينا ألا ندع الآخرين يخربون. ***

خواطر عن نهضتنا العربية

خواطر عن نهضتنا العربية ألقيت على مدرج جامعة دمشق يوم الاحد في 26 تموز (يوليو) سنة 1959

سادتي: إنني أشكر الجامعة أن أتاحت لي فرصة الحديث معكم وتفضلت بوضعه تحت إشرافها، وإنني أوجه شكري خاصة إلى السيد المدير وإلى هيئة الأساتذة المحترمين، الذين تفضلوا بتحقيق هذه الفرصة، كما أشكر المستمعين الكرام الذين شرفوني بحضورهم، ملتمساً منهم العذر عن قصوري في التعبير العربي تعبيراً صحيحاً، يناسب ما يقتضيه موضوع الحديث من الوضوح. سادتي: إن الأمة العربية تمر اليوم بتجربة تتضمن نتيجتها مصير كل عربي، وربما تتضمن نصيباً من مصير كل إنسان بمقتضى التفاعلات الموجودة اليوم بين الكتل البشرية التي تؤلف الإنسانية، وبمقتضى الترابط الموجود بين الحوادث، التي تجري اليوم في عالم غيرته في جذوره التطورات العلمية والفنية، خلال الخمسين سنة الأخيرة، حتى أصبح من الصعب تقدير الأشياء والأحداث بالمقاييس، التي تصوغها الاعتبارات المحلية فقط. لاشك أن التجربة التي تقوم بها الأمة العربية اليوم، تأخذ معناها أولاً من الاعتبارات الخاصة الناتجة من صميم حياة العرب، المتصلة باطراد تاريخهم، ثم إنها تأخذ أيضاً معناها من اعتبارات أخرى تتصل بالاطراد العام، الذي يكون تاريخ الإنسانية ويربط أطوارها بعضها ببعض، لأن هذا الاطراد وذاك يلتقيان اليوم في نقطة أصبحت تمثل قطب التاريخ، القطب الذي كانت تتجه إليه تطورات العالم بصورة غامضة وأصبحت تتجه إليه بكل وضوح .. أعني أنه يفرض اليوم على سير التاريخ حتمية، دخلت في نطاق حسنا وشعورنا، حتى إننا نرى أثرها في التفكير الحديث عند بعض المؤرخين مثل (توينبي).

إن التجربة العربية تأخذ أيضا معناها من الوسائل الفنية الضخمة، التي أصبحت اليوم تحت تصرف الإنسانية، تفتح أمامها عهداً جديدا، وتعلق في وقت واحد على مصيرها كل التوقعات. إن العهد الحديث الذي مدّ شبكة الخطوط الحديدية في العالم وأضاء مدنه بنور الكهرباء، إن هذا العهد الحديث الذي بهر جيلنا منذ خمسين سنة أصبح قديماً، وبدأ يولي مدبراً إلى ظلمات التاريخ، وبدأت تذهب معالمه شيئاً فشيئاً، وتصبح آثاراً ومخلفات من بينها خطوط حديدية معطلة في أوربا، وبعض الخطوط الهاتفية التي أصبحت دون جدوى في قعر البحار. إن التطور العلمي خلف هذا كله وراءه، وكأن التاريخ يطوي الصفحة الأخيرة من الفصل الذي كتبه الجيل في عهد البخار، وأصبحنا على أبواب عهد جديد لا نعرف اسمه بعد، وإنما بدأنا نرى علاماته في الآفاق وفي أنفسنا، في عالم جديد تبصر فيه عيوننا إلى بعد المئات من الكيلو مترات، وتسمع فيه آذاننا إلى بعد الآلاف من الكيلو مترات، ويمتد حضورنا إلى أي مكان من العالم بسرعة الضوء، وننتقل فيه بسرعة الطائرة النفاثة اليوم وبسرعة الصاروخ الموجه غداً. إننا نعيش اليوم في عالم صاغه العامل الفني صياغة ذات أثر عميق في أنفسنا، لأن العوامل الجغرافية التي كان لها الجانب الأكبر في التأثير على سير التاريخ تفقد اليوم شيئاً فشيئاً مفعولها. إن العالم الذي نعيش فيه أصبح صغير الحجم، وبقدر ما يقل فيه تأثير الأبعاد الجغرافية، تزيد فيه سرعة التطور بفعل عوامل التسريع التي ذكرناها من TV و SF وأجهزة النقل. فالعالم اليوم يختصر الطريق ويختزل التاريخ، ويعيش تحت قانون اجتماعي وتاريخي جديد، هو قانون السرعة في جميع وجوه النشاط، لا يظهر أثره في عالم الأشياء والاعتبارات العسكرية فقط، بل يظهر أثره في عالم النفوس، التي بدأت تشعر به شعوراً واضحاً، كما يتبين ذلك من خلال دراسات حديثة مطبوعة بطابع خاص، يمكن

أن نسميها السياسة المقارنة أو الإقتصاد المقارن، مثل الدراسات التي خصصها (تيبور موند) للحالة في جنوب آسيا الشرقية، فإننا نفاجأ في مثل هذه الدراسات باعتبارات ذات طابع نفسي جديد، يترجم عن روح العصر وعن الاتجاهات والدوافع الخفية الجديدة، التي سجلها التطور في أعماق الأنفس، فنكون مثلاً نقرأ صفحة عن الإصلاح الزراعي في الهند، وإذا بجملة عن الإنتاج الزراعي في الصين تعترضنا فجأة، إن هذا يعني أن الحقائق الاجتماعية والإقتصادية في بلد ما، لا تصاغ في ضوء الأرقام التى تعبر عن حاجات وضرورات البلد فحسب، بل تسلط عليها أضواء من الخارج، وتقاس بمقاييس وأرقام تأتي من بلد بعيد، وليس في هذا الاتجاه إلا ضرورة من نوع جديد تعبر عن تصغير العالم وسعة التطور فيه، وعن وحدة المصير الذي يتجه إليه اليوم التاريخ، كما تتجه الإبرة المغناطيسية إلى قطبها في مجال المغناطيسية. وكل هذه الاعتبارات مسجلة اليوم في شعورنا وفي لا شعورنا، مسجلة بأي صفة كانت في أنفسنا، حتى إنه لا يمكن لأي شعب أن يفصل حياته عن هذا القانون العام، الذي صاغه العامل الفني خلال نصف القرن الأخير، لا يمكنه أن يفصل حياته عنه دون أن يتعرض إلى خطر النشوز في العالم والخروج من التاريخ، لأن التاريخ يعزل من لا يسير في اتجاهه، وكل من عزله التاريخ فإنه يدخل حتما في حظيرة الشعوب البدائية أو في حظيرة العدم، مثل الشعوب التي اكتشفها (كولومب) في أميركا. فهذه هي الظروف العامة الجديدة التي تدخل فيها النهضة العربية في عهدنا، الذي لا نعرف اسمه بعد وإنما نرى علاماته في الآفاق وفي أنفسنا، وهكذا تدخل نهضتنا عهد الصاروخ لتحقق مصير كل عربي ونصيبا من مصير الإنسانية. وهكذا يجب علينا حينما نضع قضية النهضة العربية نصب أعيننا أن ندرس مقتضياتها من جانبين: بنظرة إلى الخارج لنحدد واجباتها نحو العالم أي لنحدد

شروط انسجامها مع ضرورات السير العام، ثم بنظرة إلى الداخل لنحدد الطاقات التي يمكن توظيفها، من أجل المحافظة على البقاء في الداخل، والمحافظة على الاتجاه الصحيح في الخارج. فأما من الجانب الأول فإن كل عربي يعلم أن نظرة الرئيس جمال عبد الناصر، خطّت للنهضة العربية الاتجاه الصحيح، الذي يحقق الشرط الأول للانسجام مع القانون العام، وهو الشرط الذي يخص وحدة المصير، لأن قضية وحدة المصير في الظروف التي نمر بها في صميم قضية السلام. ومن يخط سياسته الخارجية على مبدأ الحياد الإيجابي مثل ما فعل عبد الناصر- وقد كشفت الحوادث الأخيرة عن شدة تمسكه بهذا المبدأ- من يرسم سياسته الخارجية هكذا، فإنه يضمن للأمة العربية ولنهضتها شروط الانسجام مع القانون العام فيما يتصل بوحدة المصير. ومن ناحية أخرى فإننا نجد في التخطيطات التي تجري الآن في الجمهورية العربية المتحدة، تحقيقاً لانسجام النهضة العربية مع ما يتصل بالجانب الثاني من القانون العام، وهو ما يتعلق بعوامل الشريع في التاريخ وسعة التطور في العالم: فإن فكرة التخطيط تلعب دوراً هاماً في العالم الحديث، لأنها تؤثر في الأوضاع النفسية والاجتماعية معا، إذ أنها تشخص الغايات قبل تحقيقها، فتزرع بذلك الأمل في النفوس الطامحة وتبث فيها روح التضحية والعمل. ولنا في تاريخنا القديم مثال ندل به على ذلك الأثر النفسي الذي ظهر واضحاً في نفس عمار بن ياس، حينما كان يقوم بمجهود عاملين في بناء أول مسجد في الإسلام. وفي تاريخنا الحديث مثال آخر يرينا الأثر النفسي عند (ستاخانوف) إبان النهضة السوفييتية، حينما قام بمجهود عاملين في التخطيطات الصناعية الأولى. فإن الأول حينما رأى غايته في الحياة قد تمثلت له وكأنه يراها رأي العين، سعى إليها بدافع نفسي عجيب. ولا يختلف الثاني عن الأول في رؤيته لأهدافه وسعيه

إليها السعي الحثيث، حتى أصبح سلوكه عنواناً لنظرية في الإنتاج (استاخانوفية). وأما من الناحية الفنية فإن فكرة التخطيط تكتل الوسائل وترب ضمناً - بدافع تفرضه طبيعة العمل المخطط- بين بعض المشاكل، التي قلما نفكر في ربطها بصفة منهجية، لأن العادات الفكرية لا تتغير بسرعة التطورات التي يحدثها العامل الفني في الأشياء. فقلما نفكر في العمل غير المخطط أن نربط بين مشكلة اليد ومشكلة العقل، أو بين مشكلة العمل ومشكلة الوقت، بينما يكون الربط بين هذه المشكلات ضرورة حتمية في العمل المخطط: ضرورة تفرضها طبيعة العمل نفسه دون إجهاد في التفكير، لأن التخطيط عملية تفكير، تفكير مسبق في عمل محدد من ناحية، ومن ناحية أخرى هو توقيت هذا العمل في مدة معينة وتوزيعه على عدد معين من السنوات. وبهذا فإنه يربط بين عوامل اجتماعية فعالة، ويحل ضمناً المشكلات التي تتضمنها، مثل مشكلة الربط الضروري بين العمل والفكر من ناحية العمل والوقت من ناحية أخرى، حتى تسير الوسائل بأسرع ما يمكن إلى أهدافها، وتنتج أكبر ما يمكن إنتاجه في وقت معين. فالتخطيط: هو، جملة، تعميم لنظرية (تايلور) الذي فكر في المشكلة في مستوى المصنع، بينما يرفع القرن العشرين هذه النظرية من مستوى المصنع، الذي يصنع منتوجاً حضارياً معيناً مثل السيارة والطائرة، إلى مستوى المجتمع الذي يصنع حضارة. فكما كان تطبيق نظرية (تايلور) من العوامل التي أثرت تأثيرا عميقاً في تسريع العمليات الصناعية منذ القرن التاسع عشر، فإن التخطيط يؤثر اليوم تأثيراً عميقاً في تسريع العمليات الاجماعية التي تقوم عليها الحضارة، فالتخطيطات القائمة اليوم في الجمهورية العربية المتحدة، تكون في النهضة العربية عنصراً أساسياً لانسجامها مع القانون العام من حيث سرعة التطور.

فيمكن إذن أن نقول إن النهضة العربية أخذت، تجاه الضرورات الخارجية، الإتجاه الصحيح بفضل سياسة الحياد الإيجابي التي يلتزمها الرئيس عبد الناصر، كما بدأت أيضاً تتجه الإتجاه الصحيح إزاء ضرورات الداخل بفضل المشروعات المخططة، التي أخذت طريقها إلى التنفيذ في الجمهورية العربية المتحدة. ولكن نظرتنا إلى هنا في الموضوع إنما هي نظرة إلى المستقبل، أي أنها تتصل بالشروط النظرية التي يجب أن تستجيب إليها النهضة العربية، كي تحقق مصير الأمة العربية وتسهم في تحقيق نصيب من مصير الإنسانية. ولا شك أن هذه النظرة كافية إلى حد ما بالنسبة إلى ضرورات الخارج، لأن مبدأ الحياد الإيجابي لا يتوقف تنفيذه إلا على إرادة فولاذية، لا تحيد عن سياسة الحياد، ولا شك أن الرئيس عبد الناصر برهن على أنه لا يحيد مهما تكن الظروف. ونرى إذن أن نظرتنا إلى المستقبل كافية بالنسبة إلى ضرورات الخارج، لأن تقرير المبدأ النظري يكفي في هذا المجال ولكنه لا يكفي وحده بالنسبة لضرورات الداخل، أي بالنسبة إلى مشروعات البقاء الاجتماعي المختلفة، بل لابد هنا من نظرة إلى الماضي لأن مقتضيات النهضة لا تنفذ بقرار من إرادة فولاذية، ففي المشكلات الداخلية جانب نفسي لا تعبر عنه الأرقام مهما تكن دقيقة، ولا يمكن في أي بناء اجتماعي أن نهمل هذا الجانب لأنه يصور معادلة شخصية، تتدخل ضمناً في أي حل تمليه الاعتبارات الفنية. إنه يجب ألا ننسى أن الإنسان لا يدخل العمليات الاجتماعية بوصفه مادة خاماً، بل يدخل في صورة معادلة شخصية، صاغها التاريخ وأودع فيها خلاصة تجارب سابقة وعادات ثابتة، تحدد موقف الفرد أمام مشكلات بما يكون هذا الموقف من القوة أو الوهن، من الاهتمام أو التهاون، من الضبط أو عدم الضبط الخ .. وإذن فلا تكفي هنا نظرة مجردة إلى المستقبل، لأن الإنسان جهاز دقيق، أدق من كل شيء نتصوره في الميكانيك الدقيق، ولكنه جهاز تخضع

حركاته وسكناته إلى قانون صاغه ماضي أسرته ومجتمعه وثقافته، ولا بد من نظرة إلى ماضي هذا الجهاز، لنعرف مدى صلاحيته في العمليات الاجماعية والمشروعات المخططة القائمة عليه. ولكن هذا الإنسان ليس قضيباً من الحديد نضعه تحت المجهر أو تحت تأثير مادة مشعة لنختبره، إذا ما أردنا استعماله في تركيب ميكانيكي معين. إن اختبار الإنسان لا يمكن أن يكون من النوع الستاتيكي، مثل قضيب الحديد في الظروف العادية، بل يجب أن يكون من النوع الديناميكي، أعني أنه يجب أن نختبره في حركاته لا في سكناته، وإذا اعتبرنا أن التاريخ إنما هو تسجيل لحركات مجتمع معين، فأي قطعة منه نحللها نجد في نهاية التحليل: إما الصورة الحقيقية لحالة الفرد بالنسبة إلى ضرورات المجتمع، وإما- على الأقل- بعض المعلومات عن معادلته الشخصية، أي عن مدى صلاحيته في العمليات الاجتماعية، كما يمكننا في نهاية التحليل أن نقرر ما يجب تعديله في تلك المعادلة، حتى تصبح منسجمة مع ضرورات الخارج وحاجات الداخل. وإذن فأي قطعة من التاريخ العربي تدلنا على مواطن الضعف في مجتمعنا، حتى يمكننا أن ندخل التعديل المناسب في المعادلة الشخصية التي تخصنا؟ فلنفرض أننا أخذنا صورة شمسية للعالم العربي خلال العقد الأول من القرن التاسع عشر مثلاً .. فإننا لا نرى شيئاً فيها، وكأنها صورة التقطت في ليل مظلم، ذلك الليل الطويل، الطويل جداً، الذي أشار إليه المستشرق (كوتييه) في كتابه (القرون المظلمة في الغرب). فهذه الصورة لا تفيدنا شيئاً في موضوع الحديث، لأنها لا تصور لنا حركة المجتمع العربي في ذلك العقد وإنما نومه وسكونه. فلنأخذ صورة شمسية أخرى حوالي سنه 1868 .. إننا لن نجد فيها معلومات

أكثر من الأولى. ولكننا نرى خلال الشريط ما يدل دلالة غامضة على فجر بدأ بصيصه يظهر في أفق العالم العربي. ولناخذ الآن صورة شمسية ثالثة حوالي سنة 1905. إننا سوف نجد العالم العربي يعيش الآن في ضوء النهار، وسوف نحكم بمقتضى ما رأينا في الصورة الثانية والثالثة، أن النهضة العربية بدأ فجرها يطلع حوالي سنة 1868 وأن نهارها أصبح واضحا سنة 1905. ولو أننا حللنا الصورة الثالثة، لوجدنا أن النهار الجديد يضيء أشياء حديثة لم يألفها العربي في مسكنه ولباسه وشوارعه، أشياء نرى عليها طابع حضارة الغرب. نرى لا شك هذه الأشياء، علامة بينة على وجود نهضة لم نتبين أثرها في الصورة مثلاً، ولكننا لم نستنتج من تلك العلامة غير المنتظرة سوى دلالة عامة على أن التاريخ العربي قد تحرك من جديد بين سنوات (1868 - 1905)، دون أن نعرف شيئا آخر عن سرعة حركته ومدى التطور في هذه الحقبة التي اخترتها عن قصد، لأنها تطابق في تاريخ القرن التاسع عشر ما يسمى في اليابان بعهد (الميجي) من بدايته، أي عندما طرق C.perry ( بيري) قائد الأسطول الأمريكي إذ ذاك أبواب اليابان سنة 1868، فاضطرت لفتحها صاغرة حتى نهاية الحرب ضد روسيا القيصرية، وانتصار تلك الدويلة الآسيوية الناشئة على هذه الدولة الإستعمارية الكبرى سنة 1905، انتصارا بهر بعض الشعوب المستعمرة التي بدأت تنظر إلى اليابان كالبطل الآخذ بثأرها. إنه لا يهمنا الحدث نفسه وإنما تهمنا دلالته على أن النهضة التي يسمونها العهد الميجي في اليابان، قد حققت فيه ما لم تحققه في البلاد الإسلامية عامة وفي البلاد العربية خاصة. إننا نجد أنفسنا أمام حقيقة يشهد بها التاريخ، وليس في وسعنا إلا الإعتراف بأن النهضة كان نشرها أعق في اليابان منه في البلاد العربية في أواخر القرن الماضي. وهذا يعني دون ريب أن سير بلاد الشمس المشرقة خلال الحقبة التي

اخترتها للموازنة، كان سيراً يتواءم مع ضرورات الداخل والخارج، أكثر من السير في البلاد العربية، وهذا يعني في التحليل أن المعادلة الشخصية اليابانية، كانت أرجح في كفة التاريخ من المعادلة الشخصية التي كونتها النهضة في البلاد العربية. وهذا يجعلنا نتساءل: لماذا رجحت كفة اليابان في أواخر القرن التاسع عشر إلى هذا الحد؟ إنه يجب علينا، للجواب على مثل هذا السؤال، أن نحدد معنى النهضة هنا، حتى لا نخالف منطق التاريخ في استنتاجاتنا ضمن هذا البحث. إذا راجعنا تاريخ القرن التاسع عشر وجدنا أن (النهضة) كانت ظاهرة عامة في مختلف البلاد الستعمَرة، وأن أسبابها تتصل بالظروف النفسية والإقتصادية والسياسية الجديدة، التي كونها المستعمر في تلك البلاد، فالنهضة كانت الفعل الذي ردت به الشعوب المستعمرة في تلك الظروف. فلماذا اختلفت النتيجة إذا كانت الأسباب التاريخية واحدة؟ إننا نضع هنا نقطة الاستفهام في صميم الموضوع، لأننا إذا حددنا النهضة بصفتها رد فعل إزاء الإستعمار، فإننا في خطوة ثانية مجبرون على أن نحدد رد الفعل لهذا النوع، من العلة الخاصة التي ربطها الشعب الناهض بالحضارة الغربية. إننا نجد (الهند) مثلاً تحدد صلتها بالحضارة الغربية في صورة فكرة دينية متعالية، تتجلى في حياة (راما كريسما) وفي حياة تلميذه (كناندا)، الذي قام بجولة إلى أوربا وأميرما في غرة هذا القرن، كأنه يريد أن يشعر الحضارة الغربية المتجبرة، أن روح (الفيدا) أي روح الهند الناهضة لا تخضع ولن تخضع للقوة المادية. وهذا الموقف هو الذي وقفه (غاندي) نفسه في بدء حياته العامة، الذي لا يزال يقفه اليوم بعض تلامذة (كناندا) مثل (أوروبدا) المفكر الهندي المعاصر لنا، فهو موقف على جانب من السلبية كما رآه (طاغور) نفسه، عندما

عبر عن موقف بلاده إزاء الحضارة الغربية، الموقف الذي يمكننا وصفه بموقف الضعيف المتكبر أمام القوي المتجبر. وهذا النوع من الصلة لم يكن لينفع النهضة في الهند، لو لم يأت غاندي الذي عدّل الجانب السلبي فيها بالإضافات الإيجابية، فغير اتجاه النهضة الهندية تغييرا نراه اليوم يتم على يد تلميذه (نهرو). ومن الواضح لمن تتبع سياسة الهند منذ عشر سنوات، أن النهضة الهندية نزلت من السحاب وبدأت تسير سيرا حثيثا للإنسجام مع القانون العام، انسجاما يستحق أحيانا الإعجاب فيما يتصل بضرورات الخارج خاصة، حتى أصبحنا نشعر أن الهند لم يعد يطيب لها الجلوس على مقعد المتفرج، الذي يتتبع الأحداث على شاشة التاريخ معلقا عليها، بل اختارت لنفسها- وليس لديها الكثير من الوسائل- أن تصنع الأحداث العالمية أو تشارك في صنعها بصفة جدية. ومهما يكن في هذا الاستطراد فإننا نريد أن نقول: إن النهضة الهندية كانت تحدد نوعاً من الصلة بالحضارة الغربية، فيه ما فيه من نزعة الكبرياء، التي ما برحت فيما أظن تطبع موقف الهند في العالم، ولا تعطينا الموازنة مع النهضة العربية سوى شيء واحد، هو أن الفكر الهندي لما رأى خلال القرن الماضي، أنه لا يستطيع حل مشكلات البقاء، ومشكلات الاتجاه الخاصة بالهند، انفصل عن الأرض وارتفع إلى السحاب مكابراً. أما النهضة في اليابان خلال الحقبة التي اخترناها للموازنة، فإنها عبرت عن صلة بالحضارة الغربية من نوع آخر. فإننا لو أخذنا صورة شمسية لمجتمع الياباني كما فعلنا للمجتمع العربي بين سنوات (1868 - 1905)، فسوف نجد فيها من أشياء حضارة الغرب، ما نجده قطعاً في صورة شمسية نلتقطها في الوقت نفسه لمجتعنا نحن، ولكننا لو حللنا الصورتين بالمجهر الدقيق، لوجدنا الصورة الشمسية الخاصة بالنهضة العربية زاخرة بالأشياء الغربية الحديثة، ولا نجد معها سوى أشياء أخرى من مخلفات حضارتنا التي ولت إلى ظلمات التاريخ.

أما لو حللنا الصورة الشمسية الخاصة بنهضة، ليابان، فإننا نجد فيها أيضا مع الأشياء الغربية الحديثة أشياء عتيقة من مخلفات حضارة (الميكادو، والساموراي)، وإننا سوف نجد فيها إلى جانب عالم زاخر بالأشياء، عالما آخر زاخراً بالأفكار الجديدة: الأفكار التي نبعت من عبقرية اليابان لما اصطدم بواقع القرن التاسع عشر. وهذه الملاحظة جديرة بالتأمل، لأنها تكشف لنا عن الفارق العظيم، بين الصلة التي ربطها اليابان بالحضارة الغربية وبين صلتنا بها. إن اليابان وقف من الحضارة الغربية موقف التلميذ، ووقفنا منها موقف الزبون. إنه استورد منها الأفكار خاصة ونحن استوردنا منها الأشياء خاصة ... إنه كان خلال- سنوات (1868 - 1905) ينشئ حضارة، وكنا نشتري بضاعة حضارة، وكان البون بيننا شاسعاً والخلاف جوهرياً، يؤدي حتما إلى ترجيح كفة اليابان كما بينا في الموازنة التي عقدناها لسنة 1905. إن هذه النظرة إلى الماضي أفادتنا شيئين: إن حركة النهضة العربية كانت تسير على بطء، ثم إنها لم تكن تتجه نحو إنشاء حضارة، أو على الأقل إنها لم تنظم اتجاهها نحو الحضارة. ومن الطبيعي إذن أن نفترض فيها أولاً وجود عوامل تعطيل نفسية، أثرت في سيرها خلال الحقبة التي جعلناها عن قصد موضوع البحث. وثانياً وجود عوامل أخرى فكرية أثرت في اتجاهها تأثيراً سلبياً. والمشكلة في صورتها الجديدة إذن هي أن نتساءل: هل زال مفعول هذه العوامل المعوقة للنهضة العربية أم لا؟ ومن الواضح أننا لا نملك في أيدينا شيئا يتيح لنا الجواب عن هذا السؤال جواباً يقنعنا، لأنه يتطلب دراسة موضوعية لم نقم بها ولا نعلم أن أحداً قام بها. إنه بلغنا أن القضية دخلت أخيراً إلى المختبر لتدرس، وأن لجنة تأسست بالقاهرة لدراسة هذا الجانب النفساني في إطار التخطيطات القائمة اليوم. ولكننا قبل أن تصلنا نتيجة هذه الدراسة الموضوعية،

نجد أنفسنا مضطرين إلى تقدير نظري، وهو أن عوامل التعطيل التي نتحدث عنها، لا يزال بعضها عالقاً بعالم النفس عندنا، في صورة رواسب خلفها في نفوسنا عهد الكساد، الذي أشرنا إليه بعنوان كتاب المستشرق (كرتييه)، ولا أشعر أن هذا التقدير النظري يخرج من نطاق الواقع، إذا أخذنا باعتبارنا أننا لم نقم إلى الآن في العالم الإسلامي عامة والعالم العربي خاصة، بما يسميه علماء النفس عملية تصفية للرواسب التي نتحدث عنها. وفيما يخص هذا الحديث فإنني أقنع بالحديث عن هذا الجانب المرضي في النهضة العربية، تاركا جانب العلاج إلى من يقوم بهذا الأمر مباشرة في إطار التخطيطات، مع اعتقادي أنه يتصل بقضية (الثقافة) والتوجيهات الثقافية في البلاد العربية، على شرط أن نعطي لكلمة ثقافة معناها الصحيح، لتقوم أولا بالدور الخلاق للإنسان العربي الجديد، الذي يتواءم مع ضرورات النهضة في الخارج وفي الداخل. هذا من جانب الاعتبارات التي تمس ضعف النهضة من حيث النفس. وأما الاعتبارات التي تمس ضعفها من حيث الفكر، فإننا أيضاً مضطرون إلى التقديرات النظرية حتى تأتينا نتائج الدراسات الموضوعية للقضية، فإننا نقدر جملة أن الضعف الذي نشاهده في اتجاه النهضة العربية، من الجانب الفكري خلال الفترة التاريخية، التي اخترناها للموازنة أي فترة (1868 - 1905) إنما يرجع إلى أسباب منطقية معينة لا نتصور أنها تخرج عنها. ويمكن أن نرتب هذه الأسباب كما يأتي: 1 - عدم تشخيص غاية النهضة تشخيصا واضحا. 2 - عدم تشخيص المشكلات الاجماعية تشخيصاً صحيحاً. 3 - عدم تحديد الوسائل تحديدا يناسب الغاية المنشودة والإمكانيات. إننا نكون بهذا الترتيب قد صغنا ثلاث مشكلات تكون الحلقة الجديدة لهذا الحديث:

1 - فأما بالنسبة للسبب الأول- وبقدر صحة الملاحظة- فالضعف يتصل بقانون الحركة عامة. إن كل حركة تفقد غايتها، أعني أن غايتها لم تتحدد بوضوح، فإن شأنها التيه في السبيل والتبذير في الوسائل والخطأ في الهدف، وبالتالي فإنها حركة تخضع لقانون المصادفة، أي أنها لا تأتي بنتيجة في اتجاه معين وفي وقت معين. هذا من وجهة نظرية بحتة أي بالنسبة لكل نوع من الحركة. ولكن النهضة العربية والنهضة عامة (باعتبارها حدثاً يحدث في تاريخ أمة في ظروف معينة مثل النهضات المعاصرة لنهضتنا في آسيا كما ذكرنا، أو مثل نهضة أوربا في منتصف القرن الخامس عشر) هي حركة من نوع خاص تحدد غايتها طبقاً لنوعيتها: هل الحضارة هي تلك الغاية، وبالتالي هل هي غاية كل سير في التاريخ؟ سواء أكان عن طريق التحديد والتوجيه والتوقيت أم عن طريق الصدفة؟. إن الجواب على هذا السؤال يستوجب أولاً اعتبار التاريخ لا بصفته مجرد تسلسل حوادث على شاشة الزمن، بل بوصفه عملية اجتماعية محددة الأسباب والنتائج، ومرتبطة بمصير الإنسان تقدر حظه أو تلقيم في الحضيض. ويأتي إذن السؤال في هذه الصورة: في أي ظروف يحقق التاريخ حظ الفرد، ويرفع شأنه في بلده ويعزز مكانه في العالم؟ إننا لو وزعنا بعض الأرقام على خريطة العالم، لوجدنا الجواب للسؤال المطروح في صورة جغرافية ذات دلالة. فلنأخذ مثلاً قائمة متوسط الدخل السنوي للفرد في العالم، فإن أرقامها تتراوح من 1850 دولاراً في الولايات المتحدة إلى 38 دولاراً في جمهورية ليبريا. وإذا اعتبرنا في هذه القائمة أن متوسط الدخل السنوي في اليابان 200 دولار هو الرقم الوسط في العالم، لا بوصفه عدداً ولكن بوصفه منحى إقتصادياً، ثم وزعنا أرقام القائمة على الخريطة، فإننا سوف نرى أنها تصور لنا رقعتين جغرافيتين، تتمتع إحداهما بمتوسط دخل سنوي فردي فوق

200 دولار، والأخرى يقع الدخل الفردي فيها دون هذا الرقم. ومن الطبيعي أن نقول إن الفرد الذي يولد في الرقعة الأولى، يحصل بمجرد ولادته على حظ أكبر في الحياة من نظيره الذي يولد في الرقعة الأخرى. ولو لاحظنا بعد هذا أن الرقعة الأولى هي بالضبط رقعة الحضارة الغربية وامتدادها الجغرافي التاريخي شرقاً وغرباً، أي امتدادها من أقصى الغرب من سان فرانسيسكو مثلاً إلى طوكيو في الشرق، ولاحظنا في الوقت نفسه أن الرقعة الأخرى هي بالضبط رقعة الشعوب التي تعيش من طنجة إلى جاكرتا، في حالة نسميها ما قبل الحضارة، وربطنا القضية بالجغرافية من ناحية وبالتاريخ من ناحية أخرى، فإن هذه الاعتبارات تُملي الجواب على السؤال المطروح .. أي أن الشروط التي تحقق للإنسان حظه في الحياة هي عامة شروط حضارة، وأن مصيره مقيد بها يُرزق غداً إنما تحققت، ويحرم إن اختلت أو انهدمت. ولو اتخذنا قائمة أخرى ووزعنا أيضاً أرقامها على الخريطة، لوجدنا الظاهرة نفسها في صورة قارتين: قارة يسودها الرخاء لأن حضارتها تتكفل بحياة الفرد، وتقدم له جميع الضمانات الاجتماعية، وقارة يسودها الحرمان لأن الحياة الاجتماعية فيها في مرحلة دون الحضارة. فلو وزعنا مثلاً أرقام قائمة استهلاك الكهرباء أو الفحم الحجري فإننا سوف نصل للنتيجة نفسها. وعلى سبيل المثال فقط نذكر أرقام استهلاك الفحم في العالم للفرد: 8 أطنان للفرد في الولايات المتحدة الأمريكية. 4 أطنان للفرد في السويد 2،5 من الأطنان للفرد في فرنسا 1 طن للفرد في إيطاليا 110 كيلو للفرد في الهند أي لبلاد واقعة في محور طنجة- جاكرتا. وإذا رجعنا الآن إلى قضية النهضة العربية في ضوء هذه الاعتبارات، فإننا

نرى أنه من الضروري أن تحدد غاية سيرها بوصفها محركة في التاريخ، ثم أن تتخذ، بصفتها عملية اجتماعية، الحضارة غاية لها. وبقدر ما يصح هذا التشخيص في ضوء الاعتبارات الاجتماعية والتاريخية كما سبق، نكون قد تداركنا جانباً من عوامل التعطيل الذي كشفته لنا الموازنة مع نهضة اليابان. 2 - هذا بالنسبة للسبب الأول، وأما بالنسبة للسبب الثاني أي بالنسبة لتشخيص المشكلات، فإن الضعف يتسرب في تقدير مشكلات النهضة من حيث ضرورات الداخل وضرورات الخارج تقديراً سليما، لأننا كنا نفكر حتى عهد قريب، وإلى حد ما، لازلنا نفكر، لا حسب طبيعة الأشياء، ولكن حسب عادات فكرية توجه فكرنا مبدئياً في اتجاه معين، سواء أكان هذا الاتجاه صالحاً يناسب فعلا ما تقتضي المشكلات من الحلول أم لا يناسب. هذه العادات الفكرية تعمل مفعولها أحياناً في صورة البديهيات التي تطبق دون أي تحفظ، والبديهيات في التاريخ كثيراً ما قامت بدور سلبي كعوامل تعطيل مثل بديهية: الأرض مسطحة، فإنها عطلت إلى حد ما سير التاريخ وحالت دون اكتشاف أمريكا قروناً طويلة حتى عهد كولومبو، بينما كان العلم القديم نفسه ينشد كروية الأرض كما يشهد بذلك كتاب (بطليموس) .. إن أجيالاً كثيرة من البحارة لم تكتشف أمريكا، لأنها لم تكن تواجه مشكلة المواصلات البعيدة بفكرها بل بعاداتها الفكرية. وهذه العادات تؤثر فعلاً في سرعة التطور، لأنها تجعلنا نعد المشكلات طبقاً لبديهيات لا يدل شيء على أهميتها، بدل أن نفكر فيها حقيقة، وكثيراً ما نغتر بالصورة بدلاً من أن يكشف عن المرض نفسه، ومن الواضح أن علاجاً يتجه في حالة معينة إلى الحمى، عوضاً عن الاهتمام بسببها، قد يؤدي إلى زيادة المرض، وأحياناً إلى موت المريض نفسه، إذا ما فات وقت التدارك. إن كثيراً من المشكلات تعرض لنا، فلا نتعرض لها بفكرنا ولكن بعاداتنا الفكرية. وقد يكون نصيبنا من النجاح قليلاً دون أن نشعر بذلك أحياناً لأننا

نفقد وسائل الرقابة، وليست بين أيدينا المقاييس لتقدير النتيجة تقديراً صحيحا. قد نكون مثلاً مهتمين بقضية (الأمية) وهي تمس في الصميم قضية النهضة بوصفها عملية اجتماعية تتضمن الطاقات الفكرية مع الطاقات الأخرى، ومن الطبيعي أن نفكر في الجهل بوصفه مشكلة أساسية لا بد من حلها، ولكننا في الواقع قلما نفكر فيها تفكيرا جذرياً. فكثيراً ما نؤتي المشكلة الحلول التي اعتدناها في عاداتنا الفكرية، مع بعض الطقوس الاجتماعية التي لا تخلو من الرياء، فنقرر طبقاً لعاداتنا أن (العلم) هو العلاج النافع، ونميل أيضاً إلى هذا النوع هن العلاج بمقتضى الطقوس الاجتماعية القائمة في البلاد، بينما النتيجة أحيانا دون ما نريد، وأحياناً خلاف ما نريد، عندما نرى النتيجة في إحدى صورتيها: إما في صورة العالم الذي لا ينفع المجتع إلا قليلا، أو في صورة العالم الذي يضر المجتمع أحيانا بعلمه، لأن أساسه الخلقي لم يتكون، ولم نفكر في تكوينه مقتنعين بشكلية الأشياء دون اهتمام جدي بحقيقتها، وبصلتها بضرورات الداخل وضرورات الخارج .. وربما تزيد الحالة سوءاً، حين تتدخل الطقوس الاجتماعية في تشخيص المشاكل، فإن العلم يصبح إذن صنفاً من الرياء، وسبباً للتنافس بين الأسر البشرية، فيفقد بهذا كل فعاليته الاجتماعية، لأننا لم نفكر فيه على أساس اجتماعي نفسي وإنما على أساس مدرسي وجامعي .. فنكيف التعليم ليكون عملية تهدف أساساً إلى إضافة المعلومات بعضها إلى بعض، لا ليكون عملية تصفية نفسية في مستوى الفرد وفي مستوى المجتمع، أي بوصفه صياغة للإنسان صياغة جديدة، تتواءم مع ضرورات الداخل وضرورات الخارج، أي مع القانون العام الذي يفرض في الداخل سرعة السير وفي الخارج وحدة المصير، ولا نشعر بالخطأ في المنهاج القائم على مبدأ إضافة المعلومات، أو إذا سمح لي بهذا التعبير- تكديس المعلومات- لأننا لا نقدر تطورنا بالمقياس الذي يصوغه السير العام في العالم، وإنما نقدره بمقياس نسبي تصوغه ظروفنا الخاصة.

فحين يدخل العالم في عهد القمر الصناعي، ندخل نحن في عهد الكاديلاك، ونشعر أننا حققنا خطوة لا بأس بها في التقدم، لأننا كنا في عهد الحمار في بعض البلاد العربية. إنني لم أذكر هذا المثل للشعور بحاجتنا إلى القمر الصناعي والصاروخ الموجه، وإنما ذكرته لتوضيح الموقف، بل أشعر أن حاجتنا الأساسية في عالم النفس أكثر منها في عالم الأشياء. إن حاجتنا الأولى هي الإنسان الجديد .. الإنسان المتحضر .. الإنسان الذي يعود إلى التاريخ الذي خرجت منه حضارتنا منذ عهد بعيد. وصياغة هذا الجهاز الدقيق الذي يسمى الإنسان، لا تتم بمجرد إضافة جديدة إلى معلوماته القديمة لأنه سيبقى هو قديماً في عاداته الفكرية وفي مواقفه أمام المشكلات الاجتماعية، وفي فعاليته إزاءها، وخاصة في لافعاليته التي نجد أكثرها عندما تفاجئنا الظروف أحياناً ببعض الفضائح أو ببعض المآسي، مثل غرق السفينة (دندرة) في النيل، أو عندما نحلل صورة شمسية تكشف لنا موطن الضعف في المجتمع، كما كشفت لنا الصورة التي أتاحت لنا موازنة النهضة في اليابان مع النهضة في البلاد الإسلامية عموماً والعربية خصوصا، كما سبق. وإذن فإن قضية اجتماعية مهما كانت ظروفها لا تعالج بالبديهيات التي ترى العلاج النافع في وضع النقيض أمام كل داء. فقد كان من حكم الطب القديم أن الحرارة مثلاً دواؤها الرطوبة، ولا بأس بهذه الحكمة ما لم تكن قيداً يقيد التفكير وعادة تحجّر الفكر. فلو استسلم الطب لحكة كهذه مع رشدها وصلاحيتها في بعض الظروف، لما وجد (باستور) طريقاً لاكتشاف العلاج النافع لداء الكلب مثلاً، لأن هذا الطريق المبتكر كان في اتجاه يخالف تماماً حكمة النقيض، إذ نرى (باستور) يعالج الداء بالداء نفسه. فيجب إذن أن نحترز، قدر الإمكان في معالجة المشكلات الاجتماعية، من الطريقة التي تتخذ لكل داء نقيضه دواء، فنضع مثلاً العلم أمام الجهل دون قيد أو شرط، ونجد أنفسنا أحياناً وبالتالي أمام عالم نفعي غير نافع، يعيش على جسم المجتمع مثل النبات الطفيلي على الأشجار.

فقضية الجهل لا تعالج إذن بمجرد وضع البرامج التعليمية، والتعليم لا ينفع بمجرد إضافة معلومات، بل يجب أن يكون أولاً عملية تصفية نفسية .. وتعديل معادلة شخصية زيفتها عهود الكساد. وبكلمة واحدة أن يكون التعليم بناء الشخصية الجديدة في المجتمع العربي المتجدد، طبقاً لضرورات النهضة في الداخل والخارج. وهذا يعني ألا توضع برامج التعليم لما يسمى (العلم)، ولكن طبقاً لشيء أعم بكثير هو: الثقافة. أي أن توضع برامج تتصل بعالم النفس والدوافع الأساسية ثم بعالم العقل والمفهومات، وبعالم الأشياء والحاجات. 3 - وأما من وجهة المشكلة الثالثة التي ذكرناها في الترتيب السالف، أي تحديد الوسائل، فإن تحليلنا للصورة الشمسية قد كشف لنا عن جانب سلبي في النهضة العربية، يتصل بضعف منطقي فيها، باعتبارها حركة تاريخية لم تعرف بالضبط أو لم تحدد غايتها. ولكن لابد أن نضيف بجانب هذا ضعفاً آخر متفشيا فيها باعتبارها عملية اجتماعية، لم تعرف بالضبط أو لم تحدد وسائلها. فإننا لو تتبعنا سيرها خلال فترة معينة، كما فعلنا، فسوف نجد فيها- على الرغم من كل الضعف في تحديد غايتها- اتجاها نحو حضارة، مهما يكن في هذا الاتجاه من الغموض: ولكننا إذا حللنا مرة أخرى الصورة الشمسية المذكورة، فإنها ستكشف لنا أن النهضة العربية كانت تحاول تحقيق غايتها، بالأشياء التي تستوردها من الحضارة الغربية. فالخطأ يتصل هذه المرة بقضية الوسائل؛ والسؤال: هل يصح أن تكون الأشياء التي نستوردها من الخارج وسائل لتشييد حضارة معينة، أومنتوجاً حضارياً بصفة مطلقة؟ فأما من حيث إنه منتوج حضارة معينة، فإنه قد يتفق مع مصلحة البلاد التي استوردته، أو لا يتفق معها أحياناً من الجانب الإقتصادي، وأحياناً من الجانب النفساني أيضاً. فاستيراد (الويسكي) مثلاً قلما يتفق مع مصلحة بلاد إسلامية عامة وبلاد عربية خاصة، وكذا استيراد سيارات الكاديلاك غالباً واستيراد فرو السيدات في البلاد التي تشرق عليها شمس المناطق الحارة.

هنا نلمس جانباً من الضعف المنطقي لا نكاد نختلف فيه، لأنه واضح تمام الوضوح، وهو يتصل بقضية نفسية وخلقية. ولكن هناك جانباً آخر يتعلق بسلوك المجتمع نفسه وموقفه، أمام الشيء المستورد باعتباره منتوجا حضارياً بصفة مطلقة، فلا بأس طبعا أن نستورد من الأشياء ما نسد به حاجاتنا الأساسية مؤقتاً، ولا بأس أن نستورد الطب والطبيب والمطبعة والأستاذ ومعلوماته، والصيدلي وأدواته والمهندس وآلاته، مادمنا نحن لا ننتج هذا كله. وإنما على شرط ألا تكوّن عندنا بعض العادات الفكرية، فتقلب ضمنا دون أن نشعر منطق الاجتماع، أن تكون عندنا بعض العقد النفسية فتربط اتجاهاتنا ودوافعنا بالشيء والشيئية. فإننا إذا صغنا جملة مثل هذه: " إن المنتوج لا يكوّن المنتج بل المنتج هو الذي يكوِّن المنتوج "- فلن نختلف في مضمونها لأننا صغناها صياغة عامة واضحة، لا يختلف فيها اثنان، وسوف نتفق لا شك على أن هذه القاعدة المنطقية صحيحة دوماً، وعليه فلنتخذها مقياساً عاماً في الموضوع. إننا حين حللنا الصورة الشمسية التي استخدمناها خلال حدينا، وجدنا في النهضة العربية بين سنوات (1868 - 1905) (عالم أشياء) جديداً، لم يعرفه آباؤنا في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر مثلاً، ووجدنا الأشياء في اليابان نفسه استوردها كما استوردناها نحن من الحضارة الغربية، ولكن كشف لنا التاريخ أن تلك الأشياء لم تؤد في نهضتنا الدور الذي أدته في نهضة اليابان. فنستنتج من هذا أن الأشياء لا تؤدي مفعولها الاجتماعي تلقائياً، ولا تؤثر وحدها في صياغة العملية الاجتماعية، وإنما تؤثر بقدر ما يضاف إلى مفعولها من دوافع نفسية وتوجيهات فكرية معينة، فالشعب الياباني كان يريد بالأشياء التي استوردها خلال العهد الميجي، وسائل يواجه بها بناء حضارة: والبناء لا يتم بالأشياء مهما كانت صلاحيتها وثمنها، وإنما يتم بالدوافع التي تحرك تلك الأشياء،

والفكرة التي تربطها في العملية الاجماعية .. وعندما لا يكون في هذه العملية سوى الأشياء وحدها، فالنتيجة تصبح في حكم الصدف لا في حكم التقدير. وهذا ما وقع في نهضتنا العربية خلال النصف الأول من هذا القرن، فكنا كأننا نحاول بناء حضارة بمنتوجاتها. ومثل هذه العملية تتناقض بكل وضوح مع القاعدة المنطقية البسيطة، التي صغناها لتوضيح هذا الجانب مع التحفظ بنسبية الأشياء وطبيعتها، على أن القاعدة المنطقية في الرياضيات مثلاً تفصل بين الخطأ والصواب بمقدار الشعرة، أي المقدار الذي يسميه أهل الفن (الابسلون) .. أما القاعدة المنطقية في الاجتماع فإنها تفصل بين الخطأ بمقدار الشبر. وهذا الشبر يفصل في الحقيقة موضوع حديثنا بين خطئين: أي بين الإفراط والتفريط؛ وللنوعين من الخطأ كليهما معنى اجتماعي يفيد توضيحه هنا. فأما التفريط فهو ترك العملية الاجتماعية لقانون المصادفة مطلقاً، أي ترك العنان للأشياء تفعل ما تريد بتصرفها الاعمى. وهذا التصرف يقلب أولاً الوضع المنطقي الطبيعي معبراً عن عملية، تقوم على مبدأ تكوين المنتج من منتوجات، أي في مصطلح موضوعنا تكوين الحضارة ابتداء من المنتوجات الحضارية، فإن العملية صريحة المخالفة للمنطق البسيط من الجهة النظرية، ولكنها تخالف أيضاً ما يسمى المنطق العملي لأنها قائمة على استحالة مزدوجة: تنتج الاستحالة الأولى من عجزنا عجزا مسبقاً عن وضع قائمة للأشياء أو المنتجات الحضارية التي نحتاج لاستيرادها، لأن إحصاء عددها يفوق ما نتصور من الصعوبة، بمجرد عملية إحصائية، فضلاً عن أن عملية كهذه لا تنتهي لأن عدد الأشياء الحضارية يتزايد كل يوم، فالمحاولة إذن ضرب من العبث في هذا الوجه أولاً، ثم هي مستحيلة من وجه آخر. فلو قدرنا أننا انتهينا بنجاح من عملية الإحصاء- وإنني أكرر عبث مثل هذا الفرض- فسوف نجد أنفسنا أمام استحالة أخرى، تتصل بتمويل المشروع، لأن الميزانية التي يقتضيها تنفيذه تفوق إمكانيات أي مجتمع ناشئ، وتصعب حتى

على مجتمع متقدم مزوّد بالخبرة، كما نرى ذلك خلال (تجربة ألمانيا) بعد الحرب العالمية الثانية، التي حطم جهاز إنتاجها تحطيهاً كاملاً شاملا، من مصنع الإبرة إلى مصنع الصاروخ الذي كان يشرف عليه (برون) على شواطن بحر البلطيق. واليوم- أي بعد عشر سنوات فقط- استرجعت ألمانيا عالم أشيائها بالجملة، بل زادت فيه آخر المنتوجات الصناعية، ولكن لم يفكر من أشرف في ألمانيا على عملية البعث الجديد في استيراد هذه الأشياء، لأن العملية مستحيلة من وجهة تصورها الفكري، ومن جهة تمويلها، ولو عززنا مشروع مارشال بالمليارات من الدولار. ولكن أثر خطأ التفريط لا ينتهي عند هذه الاستحالة الفكرية والمادية، بل يتعدى إلى الجانب النفسي، لأن الشيء يفرض على الإنسان سيطرة خفية، تتجلى في حاجتنا إليه أو في إعجابنا به، وقلما تتجاوز سلطة الشيء حدود الإعجاب الفني عند من صنعه، لأن روح الصانع تشعر دوماً بعزتها أمام المصنوع، أما عند من يستورد الشيء فإن الوضع ينعكس: فإما أن يفقد الشيء تماماً فعاليته الاجتماعية لأننا لا نقدر قيمته، مثل جهاز ألكتروني دقيق يقع مصادفة في أيدي قوم بدائيين في أواسط إفريقيا، وإما أن يجد الشيء عندنا كل تقدير، ولكن يتجاوز تقديرنا له حدود الإعجاب الفني إلى إعجاب صوفي، فتطغى علينا سيطرة الشيء سيطرة يقترب معها من التقديس اللاشعوري، لأن الصلة النفسية بيننا وبينه ليست صلة الصانع بالمصنوع. وهكذا تتكون في المجتمع نزعة يمكن أن تؤدي في نهاية الأمر إلى ظهور حضارة شيئية، أي حضارة يطغى فيها الشيء على الإنسان. وربما تنتهي هذه النزعة تدريجياً إلى نزعة مادية بحتة. فهذا هو الجانب الخفي من حيث التفريط في عملية إنشاء حضارة ابتداء من منتوجاتها وأشيائها. ولكن هنا، إلى الجانب الآخر جانب الإفراط كما ذكرنا. وهذا الخطأ

يكشف عنه تاريخ الحضارات التي سبقتها، فالحضارة المسيحية مثلاً لم تنشأ في أنبوبة مغلقة، أعني أنها لم تكوّن كل عناصرها من نفسها، في بادئ أمرها خاصة، فإن أحدث اختراعاتها من القمر الصناعي إلى الصاروخ الموجه، قائم على تطور علمي لا يمكن أن نتصوره، لولا علم الجبر أو علم المثلثات أو الحساب العشري، الذي يقوم على استخدام الصفر رقماً أساسياً .. فلولا هذه المقدمات العلمية التي هيأتها الحضارة الإسلامية للحضارة المسيحية، لما استطاعت هذه أن تغزو الفضاء اليوم. ولكن الحضارة المسيحية لم تستورد من البلاد العربية البضاعة العالمية فحسب، بل كانت تستورد معها أيضاً بعض الأشياء من منتوجاتها خاصة في بادئ أمرها. كما أن الحضارة الإسلامية أيضاً كانت تتغذى وتتفاعل بثقافة اليونان وأشياء من الهند بحكم التاريخ، لأنه لا يمكن لحضارة أن تنشأ في أنبوبة مغلقة لا يأتيها شيء من الخارج. فالصواب إذن في الشبر الذي يفصل بين الإفراط والتفريط، وتحديده يتوقف على عملية تحليل للحضارة نفسها، باعتبارها مركباً لا يتكون في أصله من أشياء ومنتوجات حضارية، بل من أصول تفرضها طبيعة المنتوجات وشروط تطور الإنتاج. فلنسلك هنا مسلك الكيميائي، الذي يريد أن يصنع مركب الماء مثلاً فإنه يأخذ منه مقداراً كافياً لإجراء عملية التحليل. فالمقدار الكافي بوصفه عينةٌ من الحضارة هو مانسميه المنتوج الحضاري، فأي شيء ينتجه المجتمع هو منتوج حضارة سواء أأنتجه بوسائل الإنتاج العادية أم أنتجه بالتفكير البحث، فكل مفهوم من عالم المفهومات وكل شيء من عالم الأشياء، وكل شخص من عالم الأشخاص باعتباره معادلة شخصية أنتجتها ظروف التاريخ وشروط التطور، كل عينة بين هذه العينات هي منتوج حضارة .. أي أن هذه العينات كلها- مع اختلاف

صورها وأشكالها وطبائعها- تكون من حيث تركيبها الاجتماعي نوعاً واحداً، هو نوع المنتوجات الحضارية، فلا غرابة إذن عندما أقول: إن القلم الذي يكتب هذه الكلمات مثلاً، والشخص الذي يكتبها، والكلمات نفسها والورقة التي تكتب عليها كلها من نوع واحد، من حيث تركيبها الاجتماعي. ولكنني إذا ماحللت القلم بوصفه عينة، والصفحة التي يكتب فيها، فإنني سأجد في العينتين كلتيهما ثلاثة عناصر مركبة: الإنسان- التراب- الوقت وهكذا تكون النتيجة دوماً كما استمرت عملية التحليل من عينة إلى أخرى، من منتوج حضاري إلى آخر. يمكن إذن أن نعبر عن كل منتوج حضاري بهذه المعادلة الأساسية: منتوج حضاري = إنسان + تراب + وقت ويجب الآن أن أكتب هذه المعادلة لكل منتوج من منتوجات الحضارة من الإبرة إلى ما بعدها، وإلى ما بعد الصاروخ، حتى أكوّن جدولاً كاملاً من المعادلات، الواحدة تحت الأخرى في هذا الترتيب مثلاً: منتوج حضاري أول = إنسان + تراب + وقت منتوج حضاري ثان = إنسان + تراب + وقت إلخ ......... = .......... منتوج حضاري أخير = إنسان + تراب + وقت وحين أنتهي من ترتيب المعادلات بهذه الصورة، يمكن أن أجمعها عمودياً على الطريقة المستخدمة في الجبر، وأنتهي حينئذ إلى هذه النتيجة الشاملة: جموع منتجات حضارية = جموع إنسان + جموع تراب + جموع وقت.

ولكن جمع منتوجات حضارية هو الحضارة نفسها في صورة غير مركبة، وجمع إنسان هو الإنسان نوعاً، وجمع تراب هو التراب نوعاً، وجمع وقت هو الوقت نوعاً. وبالتالي يمكن أن أكتب النتيجة التحليلية في صورتها النهائية: حضارة = إنسان + تراب + وقت ومن هذه المعادلة النهائية يمكن أن نستنتج استنتاجات نظرية مختلفة تدل أولاً على أن الحضارة ليست، أساساً، تكديس منتوجات حضارية بل هي بناء مركب اجتماعي يشمل ثلاثة عناصر فقط، مهما كانت درجة تعقيدها كحضارة القرن العشرين. ثم إنها تزيل عن موضوع بناء هذا المركب الشبهات التي تعلق به من حيث الإمكانيات، إذ نرى أن هذه الإمكانيات بالنسبة لأي شعب محفوظة في رصيد الطبيعة، لا في رصيد البنك، يعني أن إمكانيات الشعوب تتساوى في أصلها. ولكن المعادلة التي كتبناها في صورتها الأخيرة لا تتفق مع واقع التاريخ دون قيد أو شرط، لأن العملية لا تنتج تلقائياً كلما اجتمع الإنسان والتراب والوقت. إذ نرى في تاريخ الشعب الواحد فترات خالية من الحضارة، لأن الشعب لم يدخل في عملية التحضير، بل خرج منها في ظروف معينة، يقع فيها الأفول. إن المعادلة التي انتهينا إليها ليست صحيحة إلا بشروط بينها التاريخ، لأنه هو مختبر التجارب والعمليات الاجتماعية. إننا عندما سلكنا في التحليل مسلك الكيميائي الذي يحلل عينة من الماء، وجدنا في جهاز التحليل كمية من غاز الهيدروجين وكمية من غاز الاوكسجين، ولكن عندما نحاول الرجوع من هذين العنصرين إلى الأصل نجد أنفسنا أمام استحالة، تدل على أن العملية صحيحة في التحليل وربما غير صحيحة في

التركيب. ولكن الكيميائي يرفع من ذهنه هذا الشك، لأنه متمسك بمبدأ عام، يقضي بأن المركب يتركب حتماً من العناصر التي ينتهي فيها تحليله، فيدرك بداهة أن الاستحالة التي وقف عندها هي صورية لا تمس بجوهر المركب. فالماء يساوي هيدروجين وأوكسجين سواء من حيث التحليل أو من حيث التركيب .. ولكن يجب اتباع طريق خاص في التركيب، وفعلاً لا يلبث الكيميائي أن يكتشف أن عملية تركيب الماء، تخضع لقانون المركب الذي يتدخل فيها في صورة شرارة كهربائية مثلا. وهكذا يجب أن نلتفت نحن إلى مختبر التاريخ ليدلنا على المركب الذي يتدخل في تركيب العناصر الثلاثة: الرجل، التراب، الوقت، كيما يكون بها حضارة. ولا أريد هنا إطالة الكلام على تأثير الدين بصفته عاملاً مركباً للحضارة، فمن يدرس تاريخ الحضارة الغربية (تويني) أو (ماسيس) يرى أثر الفكرة المسيحية في تركيبها، وكذلك من يدرس الحضارة الإسلامية يرى في تركيبها أثر الشرارة التي نزلت من السماء على غار حراء .. وكذلك يرى من يدرس الحضارة البوذية أثر فكرة (كوتاما) بوصفها ديناً، في تركيبها. ولكن حسب الاعتبارات الاجتماعية التي تنتج ما انتهى إليه التحليل، يتبين أن المعادلة العامة التي وصلنا إليها تدل على أن مشكلة الحضارة لا تحل باستيراد منتوجات حضارية موجودة- مع الاحتفاظ بالصواب بين الإفراط والتفريط كما بينا- ولكنها تستوجب حل ثلاث مشكلات جزئية: 1 - مشكلة الإنسان وتحديد الشروط لانسجامه مع سير التاريخ. 2 - مشكلة التراب وشروط استغلاله في العملية الاجتماعية. 3 - مشكلة الوقت وبث معناه في روح المجتمع ونفسية الفرد. إنه يمكننا الآن في ضوء هذه الاعتبارات النظرية أن نقدر تقديراً سليما وضع النهضة العربية، من حيث غايتها ووسائلها وطبيعة مشاكلها.

إننا نعرف الآن أن المشررعات المخططة القائمة اليوم في الجمهورية العربية المتحدة، تهدف أساسا إلى تركيب حضارة وإلى تسريع السير نحو هذا الهدف، وإن وسائلها للوصول إليه هي الإنسان والتراب والوقت. ونعلم أنها حين تأتي بالحلول المناسبة للمشكلات التي تتصل بهذه العناصر الثلاثة، تكون قد حققت شروط الانسجام مع سير التاريخ بالنسبة إلى ضرورات الداخل وضرورات الخارج. وتكون بذلك قررت مصير كل عربي وأسهمت إسهاما جديا في تقرير مصير الإنسانية. إن النهضة العربية بلا شك دخلت في طور جديد منذ ثورة 23 تموز (يوليو) سنة 1952، ولا شك أن المشروعات التي وضعت للتنفيذ ستحقق طفرة استثنائية في تاريخ الأمة العربية. ولكنني أريد لو يسمح لي الوقت قبل كلمة الختام، أن أعبر عن وجهة نظري في ترتيب الصعوبات حسب درجتها وأهميتها، فإنني أرى أن توضع (مشكلة الإنسان) في الرتبة الأولى لأنه هو الذي يوجه الأشياء ويصنع الحضارة. وختاماً أكرر شكري للذين أتاحوا لي فرصة الحديث معكم، وفي مقدمتهم حضرة السيد مدير الجامعة والسادة عمداء الكليات وهيئة التدريس. وإنني لأرجو أن يجد الشباب العربي في رحاب هذه الجامعة خير مصنع، يصنع في عقله عدة الحضارة، وفي نفسه الاستعداد لبناء الحضارة العربية بناءها الجديد والسلام. 26/ 7/ 1959 ***

رسالتنا في العالم

رسالتنا في العالم هذه المحاضرة ألقاها الأستاذ مالك يوم الإثنين في 22 من حزيران (يونيو) 1959 في نادي الطلبة المغاربة في دمشق. وقد أعيدت كتابتها من جديد فيما بعد

أبنائي الطلاب: ما كنت أرى في هذه الزيارة مناسبة للحديث. ولكني أشعر بأن ذلك الشاب الذي قدمني إليكم، قد أوقعني بلطفه في الشبك إيقاعاً لا مناص معه من الحديث. ولو أني لم أعد له عدته أو أجعل في ذهني موضوعاً خاصاً. وعليه فإني سوف أتحدث إليكم بوصفي زميلاً يدلي بوجهة نظره فيما يمر بخاطره، أو أباً يغتنم الفرصة السانحة حتى يقدم لأبنائه نصيحة عسى أن تفيدهم، ولكن النصيحة لا تنفع إن لم تكن مستمدة من صميم الواقع، وإذن: فما هو الواقع الذي يواجهنا اليوم؟ كأني في الجواب على هذا السؤال أسمع الآن صوتا يصعد من قلوبكم، من قلوبنا جميعاً ويقول لي: إن الواقع اليوم هو أولاً كفاح الشعب الجزائري في سبيل الحرية والاستقلال. وإنه لموضوع آسر تغري بالحديث عنه هذه الزيارة، لأنه موضوع تهتز لذكره أرواحنا، وتتواضع عليه قلوبنا وعقولنا. غير أني لن أزيدكم فيما تعلمون شيئاً لو جعلت حديثي إليكم مثل هذا الموضوع. وإن هذا الشعور ليدفعني إلى واقع آخر أرى الحديث فيه، يسجل الموضوع الأول لأنه يسجل مصير الإنسانية. فإن الإنسانية قد دخلت عهداً جديدا منذ الحرب العالمية الثانية، وأصبح لزاماً على كل شعب أن يقدم ما يملك من إمكانيات حتى يعلم حظه بين الشعوب. ولا شك في أن هذا سيجعلنا أمام نقطة استفهام تعترض طريقنا وتطلب بقوة الجواب على هذا السؤال: ماهو حظنا في هذا العالم الجديد؟ ربما كنتم في اللحظة التي دخلت فيها إلى بيتكم، تستمعون إلى حديث المذياع، وتتلقون الأنباء من القاهرة أو لندن أو واشنطن أو باريس أو

موسكو. وربما في اللحظة التي دخلت فيها مر فوق رؤوسنا أحد الأقمار الصناعية، التي تدور حول الأرض عشر مرات أو ما يزيد على ذلك في اليوم. وإن هذا لهو العالم الجديد الذي نتساءل فيه شرقا وغربا شمالاً وجنوبا، بسرعة الكهرباء أو سرعة الصاروخ. ولهذه الظاهرة نتائج لم نكن نتوقعها قبل عشرين سنة. فنحن نعيش اليوم في عالم أصبح كأنه عمارة واحدة تسكنها الشعوب. كأنه عمارة تشبه ما يسمى (المجمّع) في القاهرة. ترى كيف توزع السكنى في هذا المبنى على الشعوب؟ إن هذا السؤال يرد بطبيعة الحال على شفاهنا، وهو يعبر بصورة أخرى عن السؤال الأول الذي جعلناه موضوعا لحديثنا. وإن أهميته تبدو ظاهرة لكل شعب يتساءل عن مكان له في هذا العالم. فحينها توزع السكنى على الشعوب (في المجمّع العالمي)، ترى أين يكون مسكننا نحن الشعب الجزائري؟ وبأي دور من أدوار المبنى يكون مقرنا نحن الشعوب العربية عامة؟ إن علينا أن نتصور القضية في بساطتها، وأن نتخذ من استعارة (المجمع) ما يفيدنا في توضيح الموضوع، فنحن نعلم بداهة أن الحاجة هي الأساس الذي يقوم عليه توزيع الغرف على (السكان)، وتحديد مكانها في المبنى المعد لمصلحة عامة مثل المجمع. فإن عدد الغرف لابد أن يناسب أهمية المصلحة الإدارية التي أعدت من أجلها، واعتبار الحاجة أو المصلحة هو الذي يحدد عدد الغرف ومكانها. وكل حاجة أو (مصلحة) بالتعبير الإداري، تستمد أهميتها من المصلحة العامة التي بني من أجلها المبنى.

فإذا ما اقتضى هذا الاعتبار أن يكون قسم معين من الدور الأول، فإنه يكون ضربا من الهوى إذا جعلنا مقره في الدور العاشر والعكس بالعكس. هذا هو المقياس الذي يمكننا استخراجه من استعارة (المجمع) لنقيس به في موضوعنا. فإن الشعوب تعيش اليوم في (مجمع) عالمي، وحظها فيه يقدر حتما على أساس تخصصها بالنسبة إلى مصلحة تمثل الهدف الذي تسير إليه الإنسانية خلال التطورات، التي حدثت في تاريخها منذ الحرب العالمية الثانية. فلا بد لنا إذن من توضيح فكرة التخصص في التاريخ، حتى نكون على بينة من مداها في حياتنا. فإن هذه الفكرة قد دخلت التاريخ منذ ستة أو سبعة آلاف سنة، حينما حدثت الثورة الزراعية التي غيرت جميع الأوضاع الاجتماعية، التي كانت تعيش عليها الإنسانية من قبل. ولقد كان من بين نتائج هذه الثورة أنها أحدثت ما يسمى في علم الاجتماع (تقسيم العمل)، الذي أدى بالتالي إلى التخصص المهني، أي التخصص الذي يجعل كل فرد يعرف مواهبه في الحصول على مهنة معينة تجلب له قوته، وتضعه بالتالي في مركز معين في المجتمع. ومن المعلوم أن هذه المهن كلها تعبر عن مختلف الحاجات في المجتمع، ولا نستطيع أن نتصور مهنة دون حاجة معينة .. وهذا يعني أن مركز الفرد في المجتمع يحدد على أساس الحاجة، التي تلبيها مهنته ويسدها تخصصه. هذا هو معنى التخصص في مستوى الفرد، غير أن الفكرة اليوم أصبحت تهم المجتمعات ذاتها باعتبارها أفراداً من نوع خاص. فنحن نعيش اليوم في عالم تتخصص فيه كتل بشرية. وتمثل كل كتلة حاجة معينة من الحاجات التي تقتضيها حياة الإنسانية اليوم. فإن الحاجات التي دعت الأفراد إلى التخصص مند عهد الثورة الزراعية، كان معظمها إن لم نقل كلها حاجات مادية، تعرض تخصصاً فنيا كتخصص الفلاح والبناء والحداد والنجار والخباز والخياط الخ .. أما الحاجات التي أصبحت اليوم تفرض تخصصاً على الكتل البشرية، فإنها حاجات

غير مادية. إنها معنوية وبالضبط (إيديولوجية)، فإذا كانت الأولى تعبر عن كل ما يتصل بالجسم، فإن الثانية تعبر عن كل ما يتصل بالروح. إن الإنسانية أصبحت تشعر بحاجات تعبر عنها في الدساتير المختلفة التي تبنى عليها حياتنا السياسية. وتعبر عنها أيضاً في صحافتها وفي شعرها. فلو أننا تصفحنا أي دستور تقوم عليه حياة أي شعب اليوم، فسوف نجد في الأسطر الأولى أن المبادئ التي يبغي الشعب إقرارها في حياته العامة والمعاني التي يريد أن يسير على مقتضاها، والمثل التي تكون دوافعه الجماعية والفردية، تعبر عنها كلمة واحدة هي كلمة الديمقراطية. فقد أصبحت هذه الكلمة وكأنها قطب يتجه إليه تاريخ الإنسانية على مختلف أصنافها، بما فيها من تنوع من حيث التقدم والتخلف. فإذا كانت هذه المجتمعات على ما بينها من اختلاف، تهفو إلى هذه الكلمة وتعلي من شأنها، فإن هذا يعني أنها تعبر عن حاجة كبرى من حاجات الإنسانية في القرن العشرين. فقد أصبح من المعروف دوليا أن كل دولة تدعي لنفسها زعامة الفكرة الديمقراطية في العالم، وأن كل داعية سياسية يستند عليها فيما يدعيه مهما كانت نواياه الحقيقية. فربما كان هتلر أو موسوليني من ألد أعداء هذه الفكرة، ولكن لسانه ما كان يدعها كأكبر حجة فيما يدعيه. فقد كان يعلم ما لها من المكانة في نفوس الجماهير، لذلك فقد كان يتألف بها هذه الجماهير حتى تسير وراءه. وليس لنا هنا أن نتبع سير الفكرة الديمقراطية في التاريخ، منذ عهد جمهورية أثينا وروما حتى نحدد منشأها، إنما الذي نريد أن نقوله إن عصرنا قد ورثها من الثورات التي غيرت النظام الملكي في إنجلترا إلى نظام دستوري وفي فرنسا إلى نظام جمهوري. إلى هذا ينتهي أصل هذه الفكرة في القرن العشرين. والثورات التي جاءت من بعد إذ اقتبست من هذه الأصول التاريخية فكرتها،

فإنما هي في هذا تستجيب لحاجة دعتها إلى ذلك، وليس لمجرد الاقتباس. وهذه الحاجة قد نتجت عن التطور الذي حدث منذ قرنين في بناء الشخصية الإنسانية الجديدة. فإن هذا البناء قد أصبح يقوم على أساسه على الحريات الفردية التي نص عليها إعلان حقوق الإنسان والمواطن، إبان الثورة الفرنسية، حتى بات لا ترتفع راية حكم ولا يستقر وضع سياسي من دون أن تكون هذه الحريات في أسسه. وليست الديمقراطية غير تطبيق لهذه الحريات في النظم الاجتماعية وفي المنظمات السياسية وفي دستور الحكم، ولو أننا حللنا من ناحية أخرى التطورات التي حدثت منذ ثلاثين أو أربعين سنة في الإطار الإقتصادي، لوجدنا أنها مطبوعة بنزعة جديدة تحتوي على جوهر لا نجد له أثراً كبيرا في الإقتصاد القديم. ولقد أصبحت هذه النزعة من الميزات الخاصة للقرن العشرين، تطبع اتجاهه العام في الميدان القومي والميدان الدولي بطابع الإشتراكية. والنزعة هذه وثيقة الصلة بالديمقراطية لأنها نتيجة الحريات الفردية وخاتمتها في الأوضاع الإقتصادية، فإنه لا يمكن لهذه الحريات أن تستقر في وضع سياسي معين ما لم تساندها أوضاع إقتصادية مناسبة. أي إن الحاجة التي دعت في الميدان السياسي إلى الديمقراطية تدعو في الميدان الإقتصادي إلى الإشتراكية. فالإشتراكية، تعبر أيضاً عن حاجة أكيدة في القرن العشرين .. فإن شعور الإنسانية بهذه الحاجة لا يقل أبداً عن شعورها بالديمقراطية. حتى لقد أصبحت الكلمة شائعة .. نجدها في كل الشعارات القومية وفي كل التوجيهات التي تمس من قريب أو بعيد الحياة الإقتصادية .. نجدها حتى في النظم المتباعدة المتباينة، ولم يكن من محض الصدفة أن النظام الذي أقامه هتلر في ألمانيا كان يدعي (الاشتراكية القومية)، كما أن النظام الذي تقيمه اليوم البلاد العربية يحمل طابع واسم (الاشتراكية التعاونية). ولقد رأينا خلال الحرب العالمية الثانية كيف كان

يموت عدوه الجندي الروسي أيضا في سبيل اشتراكيته الدولية. اختلفت صور الاشتراكية والتعبيرات عنها حسب المكان، ولكنها تعبر جميعها عن شيء واحد، عن الاشتراكية بوصفها حاجة للإنسانية في القرن العشرين. فلقد أصبح للكلمة نفوذ في توجيه الإحساسات الجماهيرية .. ! إنها تحرك الاعصاب وتهز القلوب، شاع صيتها حتى أصبح لها دوي في العالم كدوي الديمقراطية، وأصبحت إحدى الشعارات الكبرى التي توحد الجهود في مجالات العمل وتحشد الجنود في ساحة القتال .. وإنها في المجال الثقافي اليوم ذات قيمة من أرفع القيم ومثل من المثل العليا. وفي مجال السياسة حجة ومسوغ وبرهان .. فقد انتشر إشعاع الكلمة في العالم ودخل هكذا في مجال السياسة في البلاد العربية والإسلامية نفسها، بل بدأ يؤثر في توجيه حياتها الفكرية إلى حد ما. ثم نرى من ناحية أخرى فكرة ثالثة بدأت دورا كبيراً لا تنقص أهميتها عن دور الديمقراطية والاشتراكية في العالم .. فنحن نرى فكرة السلام قد دخلت المجال القومي والدولي، وأصبحت في كل مكان شعارا للسياسة ومنبهاً للافكار في مختلف البلدان. نرى صوتها يرتفع في كل مناسبة، ونرى الأفراد والشعوب تصغي إليه بكل خشوع، لأنه يعبر أيضاً عن حاجة للإنسانية في القرن العشرين. فقد باتت اليوم كل سياسة ترفع لواء السلم مهما كانت النوايا وراء الكلمات والمواقف الظاهرة. إنها كحاجة تفرض نفسها .. سواء في المجال السياسي أو المجال الأدبي. فكل لسان اليوم حينما يتكلم، وكل قلم حينما يكتب فإنما ليعبر عنها طوعا أو كرها. ولا يقوم من يهدد السلام بتصرفاته إلا باسم السلم في أقواله. هذا هو واقع العالم اليوم، الواقع الجبار الذي يجذب إليه طاقات الإنسانية، وقوى التاريخ إلى مستقر لا يعلمه إلا الله.

والآن ينبغي لنا أن نتساءل: ما هو موقفنا من هذا الواقع، حتى نعلم ما هو مركزنا وما سوف يكون عليه في العالم الجديد؟ إن علينا أن نفكر في طريقة تصوغ الجواب على هذا السؤال في صورة محسوسة بقدر الإمكان. ونحن نستطيع أن نصل إلى هذا الهدف إذا جعلنا للكلام الذي تقدم صورة جغرافية .. فنعطي لكل حاجة من الحاجات الثلاث التي كشف عنها بحثنا لونا خاصاً. وذلك بأن نجعل اللون الازرق مثلاً يعبر عن الديمقراطية، واللون الأحمر عن الاشتراكية، واللون الاخضر عن السلام. فإذا ما وضعنا هذه الالوان الثلاثة على الخريطة متبعين مبدأ الأولوية، اتباعا يكون معه في المكان الواحد لون واحد يعبر عن الحاجة الشائعة هناك، أو على النزعة السائدة في ذلك المكان، ثم استفتينا معلوماتنا العادية في هذه الامور والتاريخ والصحافة اليومية أيضا في توزيع هذه الالوان، فإن الجواب سيجعل كل لون يستقر في رقعة معينة. ويحدد لنا قارة أيديولوجية معينة مطابقة لمبدأ من المبادئ الثلاثة التي وزعنا بمقتضاها الالوان. وهكذا نرى في النهاية أن لون الديمقراطية قد استقر على مساحة الرقعة الجغرافية التي تطابق رقعة الحضارة الغربية، أي الرقعة التي تشمل أوربا الغربية وأميركا. وأن اللون الاحمر لون الاشتراكية قد جعل من الرقعة التي تنتشر عليها البلاد الشيوعية مقاماً. وأن لون السلام الاخضر قد أوى إلى شبه القارة الهندية. وليس هذا يعني بالطبع أن روح الديمقراطية الخالصة تقطن البلاد الغربية وأميركا .. تلك البلاد التي انبعثت منها روح الإستعمار الخبيث ورائحته. وأن روح الاشتراكية لا توجد إلا في البلاد الشيوعية، فلقد نعلم أن بلاداً أخرى كالبلاد الاسكندنافية قد تحققت فيها أروع التجارب الاشتراكية، دون أي تعد على حريات الفرد ودون أي عنف. كما أننا لا نعترف أن الهند تمثل روح السلم الصرف دون استثناء، فلقد انبعثت

منها أحياناً أنفاس لا تليق بروح المهاتما غاندي، روح اللاعنف، وذلك في بعض المشاكل كمشكلة كشمير. ومع ذلك فإنه لا مجال للإنكار في أن الإنسانية اليوم تشعر بأنها تصغي لصوت السلام حينما يرتفع صوت نهرو في نيودلهي، أو صوت كريشنا مينون في الأمم المتحدة. ولقد أظهرت الأزمة الأخيرة التي أثارتها السياسة الصينية على حدود الهند أن الإنسانية لم تخطئ في شعورها هذا، بل إننا لندهش إذ نرى الهند لم تغير موقفها إزاء الصين في الوقت الذي تطأ فيه الجنود الصينية ترابها. وليس من خطأ التقدير أن نقول أيضاً إن البلاد العربية تمثل الديمقراطية في العالم الجديد، مع علمنا بما في هذا التقدير من نسبية. وإن البلاد الشيوعية تمثل اليوم الفكرة الاشتراكية مع التنبيه أيضاً على نسبية هذا التقدير. هذا هو واقع العالم اليوم، فإذا أردنا أن نعلم مكاننا الآن منه فإن علينا أن نرجع إلى الخريطة الايديولوجية التي رسمناها ونبحث عن لوننا أي هو؟ ولن نلبث حتى نجد رقعتنا على هذه الخريطة بيضاء كتلك الساحات التي كانت تبقى بيضاء على خرائط القرن التاسع عشر. إشارة إلى أنها لا تزال مجاهيل، لم يكتشفها علماء الجغرافية ولم يمسحوها. فرقعتنا إذن بحسب منطق حديثنا ذات لون أبيض، لأنها لا تمثل حاجة من حاجات الإنسانية الكبرى في القرن العشرين. فنحن في حالة تغيب عن العالم الجديد لأننا لا نرى لوناً على الخريطة يدل على وجودنا فيه. فإذا ما شئنا الجواب على السؤال الذي أوردناه في صدر الحديث، فإننا سنعترف بأن مكاننا في المجمع العالمي سوف يكون تافهاً، لأننا لا نمثل مصلحة ذات أهمية عالمية. وهنا يبدو سؤال جديد: هل هناك مخرج من مأزق كهذا؟ أم لا بد أن

نستسلم لليأس فنطأطئ الرأس أمام هذا الواقع؟ ونقتنع بوظيفة فراش في المجتمع العالمي؟ ويبدو لي أنه من اللائق أن نفكر في الأسباب التي أدخلتنا إلى هذا المأزق، قبل أن نفكر في الأسباب التي يمكننا بها الخروج منه. إن دوافع الحياة هي التي ورطتنا في الازمة التي نحاول منها الخروج. ورطتنا منذ أكثر من نصف قرن، حينما استيقظت الشعوب العربية الإسلامية على خطر الإستعمار، فقد كنت يقظتنا الفجائية دافعا من دوافع الحياة وفي الوقت نفسه دافعاً من دوافع الخطأ. فكان مثلنا كنائم استيقظ فجأة فوجد النار في غرفته، ودون أي تفكير ألقى بنفسه من نافذة الغرفة التي هي في الدور الرابع أو الخامس لينجو من النار. فنحن قد ألقينا بأنفسنا من حيث لا نريد في هوة التقليد حتى ننجو من الإستعمار. إننا نفكر في الخلاص تفكيراً معقداً: وإنما دفعتنا دوافع لا شعورية لتقليد حضارة الإستعمار حتى نعمم أنفسنا منه. ولقد دعانا هذا إلى السير في الطريق التي شقته الشعوب الغربية أمامنا على أنه يوصلنا إلى ما وصلوا إليه. ولاشك أن هذا ممكن لو أننا نسير جميعاً دون دخل للوقت والتطور في حياتنا. ولكننا نتطور نحن ومن نقلده. وعليه فإذا سرنا على مبدأ تقليده فسوف نقلده إلى ما لا نهاية. وهكذا كان الدافع الذي دفعنا في مطلع هذا القرن إلى الحياة قد دفعنا في الوقت نفسه إلى الخطأ، فبتنا نسير في هذا الطريق، لأن السابق إلى الشيء دائماً أولى به. ومن المسلم به أن من نقلده أسبق منا في هذا المضمار. فلو أننا افترضنا أن الصاروخ هو في النهاية الغاية التي تريد الإنسانية تحقيقها وهذا افتراض لا نسلم به إلا جدلاً، فإن المجتمعات التي سارت قبلنا على طريق الحضارة المادية سوف تصل حتما إلى تلك الغاية قبلنا. وهكذا نصبح في النهاية نسير إلى غير غاية حققها غيرنا قبلنا. فالخطأ إذن بين، ويزيده وضوحاً أن نخرج القضية من إطار المنطق

البسيط إلى منطق الواقع الصحيح: فنحن لا نرى أن الذي قد حصل على الصاروخ قبلنا ونقتفي أثره عن طريق الحياة المادية، حقق بذلك غاية الإنسانية، فأشبع حاجة من الحاجات الكبرى التي نريد إشباعها، بل نراه هو نفسه يخشى الصاروخ الذي في يمينه والقنبلة الذرية التي في يساره، فهو يلوح بها لخصومه وأعدائه بيد ترتعش خوفا مما تحمل، فهل نؤمن- والحالة كما ذكرنا- أنه بما حصل عليه في طريق الحضارة المادية، قد أسعد نفسه أو أسعد الإنسانية؟ فالخطأ واضح إذن من الجانب النفسي والأخلاقي والمنطقي معا. وبهذا يتبين لنا كيف دخلنا في المأزق وبقي أن نتساءل: كيف تخرج منه؟ قد وضح مما بينا أننا دخلنا إليه عن طريق التقليد، فلم نفكر في مسلكنا حينما استيقظنا بل سرنا مقلدين لا مبتكرين؛ وأرى الآن أن نتمهل فنراجع أنفسنا، فإن الاعتبارات التي قدمناها لا تدلنا على أنه ينبغي علينا أن نستغني عن نتائج الحضارة المادية، وإنما أن نقدرها بالنسبة لوضعنا، في عالم أصبح فيه نوع جديد من التخصص. لا تتخصص فيه الأفراد فحسب كما كان الأمر من قبل، لإشباع حاجات الحياة المادية، ولكن تتخصص الكتل البشرية لتسد كل حاجة من الحاجات التي تتضمنها الحياة الإنسانية الايديولوجية .. وتحقق لها في المجتمع العالمي مكانا .. فإذا ملكنا الصاروخ فمرحبا به لخدمة الإنسانية، ولكن مع العلم أنه قد وصل إلى يد غيرنا قبلنا. وإنه مع ذلك لا يشبع حاجة من الحاجات الإنسانية. وعلى ضوء هذه الاعتبارات، علينا أن نراجع أنفسنا ونتساءل: ما هو المخرج؟ إنه في أن يكون في نشاطنا الروحي ما تعترف به الإنسانية كحاجة مثل الديمقراطية والاشتراكية والسلم، حاجة لا بد من إشباعها. ونحن حين نضع المشكلة هكذا فإنه يبقى أن نعلم هل لهذه المشكلة حل في

هذه الصورة؟ وبتعبير آخر، هل في أنفسنا بصفتنا عرباً وفي أرواحنا بوصفنا مسلمين منبع ينبع منه خير للإنسانية؟ إنه يمكن الخطأ في الجواب، ولكن هذا لن يقلل من أهمية السؤال. يمكن لي أن أخطئ في رأيي الخاص أمام هذا السؤال، ولكن هذا لا يغير من صورة القضية، فإنه يجب أن يكون في نشاطنا شيء تعترف به الإنسانية بوصفه حاجة من حاجاتها، شيء يضمن لنا مركزاً كريماً في المجمع العالمي. وأنا هنا سوف أبدي مجرد رأي .. ولا ضير أن يأتي غيري برأي أحسن منه شريطة أن نظل في صلب القضية، فإن حاجة الإنسانية لا تتمثل في الديمقراطية وحدها، التي فيما يبدو قد استأثر بها الغرب، ولا الاشتراكية وحدها التي- فيما يبدو- قد تخصصت بها البلاد الشيوعية ولا السلم وحده الذي قد رفعت رايته الهند، فهناك في نظري مجال نستطيع فيه أن نسجل بلون خاص وجودنا على الخريطة الايديولوجية. إن الإنسانية في حاجة- عامة- إلى صوت يناديها إلى الخير، وإلى الكف عن جميع الشرور، وإنها لحاجة أكثر إلحاحا من سواها، لأن الإنسان توَّاق إلى الخير بفطرته، وإنما تحرمه منه معوقات مختلفة تكونها الظروف الاجتماعية والسياسية والإقتصادية أحياناً، غير أنه حينما تؤثر هذه المعوقات في سلوكه فتجعله يكذب أو يسرق أو يظلم أو يقتل فإنه يشعر بالحرمان. إن الطيار الأمريكي الذي ألقى القنبلة الذرية الأولى على هيروشما، قد دفعته إلى عمله دوافع مختلفة يسميها البطولة الوطنية، دوافع كونتها في نفسه ثقافته وبيئته. غير أنه حينما انجلى الانفجار الهائل في الأفق، وكشف عن أطلال مدينة كاملة، وظهرت الأكداس من الجثث الممزقة الموقوذة المشوهة، ظهر بين تلك الأطلال الحزينة وفوق تلك الأكداس الرهيبة وجه الشر، وكأنما ارتفعت

منه ضحكة نكراء، إنها ضحكة الشر المنتصر، قد وصل صداها إلى أذني ذلك (البطل) الذي سحق المدينة بقنبلته الفتاكة. ولقد حاول أن يتوارى عن ذلك الوجه المفزع، وأن يُصم أذنيه عن تلك الضحكة المزعجة، فأطلق لطائرته سرعتها حتى يغير من ذلك المنظر ويبدل من ذلك الصوت، ولكن هيهات أن يزايل المشهد مخيلته أو يهدأ رنين الصوت في أذنه، فإنه يحمله في نفسه، في فطرته، في ضميره الذي تحرك حينما رأى سوء عمله .. لقد فر وأمعن في الفرار، ولكن ذلك لم يجعله في نجوة من شعوره بالإثم، ومن رؤيته لوجه الشر سافراً فوق الاطلال المحطمة، ومن سماع ضحكته الصاخبة فوق الجثث الهامدة. فر من الجيش، من الحياة العائلية، من الأصدقاء، من الملذات، وأوى أخيراً إلى دير عله يجد في العزلة تسلية. إن في هذه الحادثة لعبرة. إنها تشير إلى أن الإنسان لا يفقد من نفسه معنى الخير كله مهما أحاطت به دوافع الشر. لأن الأصل في قلبه الخير والشر عارض. وإن هذا ليعني أن الخير حاجة تشعر بها النفس شعوراً عنيفا، كذلك العنف الذي تجلى في سلوك الطائر الأمريكي بعد عودته من هيروشما. ونحن حينما ندقق الأشياء نرى أن الدوافع النفسية التي تعبر عنها فكرة الديمقراطية أو فكرة السلام، إنما هي في الواقع دوافع واحدة في صور مختلفة: إنها دوافع الخير في نفوس مختلفة. وإن هذا يعني " بعدما تصح هذه الملاحظة " أن في النفس مجالاً لفكرة الخير، وأن من يرفع راية الخير قد يسد حاجة تشعر بها الإنسانية في أعاقها، ويحقق لنفسه مكانا كريماً في المجمع العالمي. وفي هذا المجال يمكن أن يكون مجالنا إذا حققنا في سلوكنا معنى الآية الكريمة: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} إلخ [آل عمران 3/ 104].

فإذا ما تحققت هذه الآية في سلوكنا- العام، بوصفها تخصصاً لمجتمعنا بالنسبة لحاجة الإنسانية، فسوف نكون قد لقينا على الخريطة الإيديولوجية لوناً يجعلنا من أكرم سكان المجمع العالمي. وأنا أتعمد شيئا حينما أقرن الخير بالسلوك، فالسلوك هو الذي يحقق في الواقع معنى الخير المجرد. فليس الخير مجرد حقيقة نعلمها أو نقولها، مجرد حقيقة تقبلها العقول، وربما تنفر منها الأنفس أحياناً إذا لم يكن الخير في صورة محببة للناس، إذ ربما يحدث دوافع سلبية لا تشبع في أنفسهم حاجة لخير، بل تحدث فيها حالة حرمان. وقد كرر القرآن الكريم النصائح في هذا الاتجاه إذ يقول للنبي: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران 159/ 3]. أو حينما يقول له بصفة عامة {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت 34/ 41]. فهذا هو- فيما أرى- شرط دخولنا في المجمع العالمي. ونحن حينها ندخل إلى هذا المجمع غير مقلدين، فإننا سنكون أسبق من غيرنا إلى وظيفة، تسد حاجة من حاجات الإنسانية الكبرى في القرن العشرين، ولحققنا بذلك لأنفسنا مكاناً كريماً في العالم الجديد. مالك بن نبي ***

مسارد كتاب (تأملات) 1 - مسرد الآيات القرآنية 2 - مسرد الأحاديث النبوية 3 - مسرد الأعلام (يشمل الأشخاص والدول والأمكنة) 4 - مسرد المذاهب والجماعات والشعوب 5 - مسرد المعاهدات والمؤتمرات والمنظمات 6 - مسرد المراجع والمصادر 7 - مسرد الموضوعات

1 - مسرد الآيات القرآنية الآية .......... رقمها .......... الصفحة سورة البقرة (2) {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} .......... 256 .......... 84 سورة آل عران (3) {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} .......... 14 .......... 87 {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} .......... 104 .......... 216 {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} .......... 110 .......... 130 {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} .......... 159 .......... 217 سورة النساء (4) {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} .......... 58 .......... 86 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} .......... 59 .......... 83/ 84 {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} .......... 96 - 98 .......... 78

الآية .......... رقمها .......... الصفحة سورة التوبة (9) {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} .......... 61 .......... 82 سورة الرعد (13) {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} .......... 12 .......... 79 سورة الإسراء (17) {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} .......... 37 .......... 39 {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} .......... 70 .......... 27، 77 سورة مريم (19) {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} .......... 12 .......... 39 سورة طه (20) {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى؟} .......... 49 .......... 72 {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} .......... 50 .......... 72 {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} .......... 70 .......... 73 {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} .......... 71 .......... 73 سورة المؤمنون (23) {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} .......... 33 .......... ح149 (1) سورة النور (24) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} .......... 27 .......... 85

_ (1) ح: حاشية

الآية .......... رقمها .......... الصفحة سورة القصص (28) {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} .......... 77 .......... 158 {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} .......... 83 .......... 78 سورة فصلت (1) {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} .......... 34 .......... 217 سورة الشورى (2) {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} .......... 38 .......... 87 سورة الذاريات (51) {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} .......... 56 .......... 48 سورة الحشر (59) {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} .......... 9 .......... 42 سورة المنافقون (63) {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} .......... 8 .......... 78 سورة الملك (67) {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} .......... 15 .......... 85 سورة البلد (90) {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ} 10 .......... -13 .......... 81

2 - مسرد الأحاديث النبوية الحديث .......... الصفحة (طلبت امرأة من الرسول - صلى الله عليه وسلم - إقامة الحدّ عليها) .......... 40 رواه مسلم رقم (1695) وأبو داود رقم (4433) و (4434) و (4449) من حديث بريدة رضي الله عنه قال: إن ماعز بن مالك الأسلمي- فذكر الحديث إلى أن قال: فجاءت الغامدية، فقالت: يا رسول الله إني قد زنيت، فطهرني، وأنه ردّها، فلما كان من الغد قالت: يا رسول الله، لم تردني؟ لعلك أن تردني كما رددت ماعزا، فوالله إني لحبلى، قال: «إمّا لا، فاذهي حتى تلدي»، فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة، قالت: هذا قد ولدته، قال: «فاذهي فأرضعيه حق تفطميه»، فلما فطمته، أتته بالصبي في يده كسرة خبز، فقالت: هذا يانبي الله قد فطمته، وقد أكل الطعام، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها، فيقبل خالد بن الوليد بحجر، فرمى رأسها، فتنضّح الدم على وجه خالد، فسبّها، فسمع نبي الله - صلى الله عليه وسلم - سبّه إياها، فقال: «مهلاً يا خالد، فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكسٍ لغفر له»، ثم أمر بها فصلّي عليها ودفنت. ورواه مسلم رقم (1696) والترمذي رقم (1435) وأبو داود رقم (4440) و (4441) والنسائي (63/ 4) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه قال: إن امرأة من جهينة أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي حبلى من الزنا، فقالت: يا رسول الله، أصبت حدّا فأقمه عليّ، فدعا نبي الله وليّها فقال: «أحسن إليها، فإذا وضعت فأتني، ففعل، فأمر بها نبي الله فشدّت- وفي رواية: فشدّت عليها ثيابها- ثم أمر بها فرجمت، ثم صلي عليها، قال عمر: أتصلي عليها وقد زنت؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله عز وجلّ؟».

_ (1) خرجها عبد الله محمد الدرويش (أبو الفداء الناقد).

الحديث .......... الصفحة (شكوى الزوجتين إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ... ) .......... 41 لم أجده من شكوى الزوجتين، وإنما هو من أخبار امرأة عثمان بن مظعون، من حديث أبي أمامة قال: كانت امرأة عثمان بن مظعون امرأة جميلة، تحب اللباس والهيئة لزوجها، فرأتها عائشة وهي تفلة فقالت: ما حالك هذه؟ فقالت: إن نفرا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم علي بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة وعثمان بن مظعون قد تخلّوا للعبادة، وامتنعوا من النساء وأكل اللحم، وصاموا النهار، وقاموا الليل، فكرهت أن أريه من حالي ما يدعوه إلى ما عندي لما تخلّى له، فلما دخل النّبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرته عائشة، فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - نعله، فحملها بالسبابة من أصبعه اليسرى، ثم انطلق سريعاً، حتى دخل عليهم، فسألهم عن حالهم، قالوا: أردنا الخير، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إني إنما بعثت بالحنيفية السمحة ولم أبعث بالرهبانية البدعة، ألا وإن أقواماً ابتدعوا الرهبانية، فكتبت عليهم، فما رعوها حق رعايتها، ألا فكلوا اللحم وأتوا النساء، وصوموا وأفطروا، وصلّوا وناموا، فإني بذلك أمرت». رواه الطبراني في الكبير رقم (7715) بإسناد ضعيف، وله شواهد صحيحة من حديث عائشة وأحمد (226/ 6، 268)، وابن حبان في صحيحه رقم (9)، والبزار رقم (1457) و (1458)، ومن حديث أبي موسى الأشعري صحيح ابن حبان رقم (316)، وانظر مجمع الزوائد رقم (7612)، ومن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في البخاري ومسلم وغيرهما. (الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به ... ) .......... 67 رواه مسلم رقم (8)، والترمذي رقم (2738)، وأبو داود رقم (4695)، والنسائي (97/ 8) من حديث ابن عمر بلفظ: " أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا". ورواه أحمد (426/ 2) من حديث أبي هريرة بلفظ البخاري (1/ 106/ 115)، ومسلم رقم (9) و (10)، وأبو داود رقم (4698)، والنسائي (8/ 101) من حديث أبي هريرة وأبي ذرّ، بلفظ: "أن تعبد الله، لاتشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة المكتوبة،

الحديث .......... الصفحة وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان ". (من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضواً من أعضائه من النار) .......... 82 رواه النسائي (26/ 6)، وأبو داود رقم (3966) بإسناد صحيح، من حديث عمرو بن عبسة رضي الله عنه، بلفظ: " ... من أعتق رقبة مؤمنة كانت فداءه عن النار عضواًعضواً". " من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته أن يعتقه " .......... 82 رواه أبو داود رقم (5168) بإسناده عن زاذان قال: أتيت ابن عمر وقد أعتق مملوكا له، فأخذ عودا- أو شيئاً- وقال: مالي فيه من الأجر ما يسوى هذا، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: فذكره. ورواه مسلم رقم (1657): أن ابن عمر قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من ضرب غلاما له حدّاً لم يأته، أو لطمه، فإن كفارته أن يعتقه ". " أوصاني حبيي جبريل بالرقيق ... " .......... 82 لم أقف عليه بهذا اللفظ، ورواه ابن حبان بالمجروحين (234/ 1)، وابن الجوزي في العلل المتناهية رقم (1255) بلفظ: " مازال جبريل يوصيني بالمملوك حتى ظننت أنه يضرب له أجلاً ثم يعتقه ". وقال ابن حبان: هذا حديث باطل، والحسن بن علي يروي المناكير عن المشاهير. وقد ثبت في الحديث الوصية بالرقيق، من إطعامهم مما يأكلون، وكسوتهم مما يلبسون، وعدم ضربهم. وروى أبو يعلى في مسنده رقم (3383) بإسناد صحيح من حديث أنس أن الني - صلى الله عليه وسلم - أعطى علياً وفاطمة غلاماً وقال: " أحسنا إليه، فإني رأيته يصلي". وبنحوه من حديث أبي أمامة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ... أعطى أبا ذر غلاما وقال: " استوصي به خيراً "، وفي رواية: " استوصي به معروفاً ". رواه أحمد (250/ 5، 358) بإسناد ضعيف. وانظر مجمع الزوائد رقم (7221).

الحديث .......... الصفحة " إنهم إخوانم وضعهم الله تحت ايديكم ... " .......... 82 رواه البخاري (80/ 1 - 81)، ومسلم رقم (1661)، وأبو داود رقم (5157) و (5158) و (5161) من حديث المعرور بن سويد رضي الله عنه. قال: رأيت أبا ذز وعليه حلّة، وعلى غلامه مثلها، فسألته عن ذلك؟ فذكر أنه سابّ رجلا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعيّره بأمه، فأتى الرجل النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إنك امرؤ فيك جاهلية " قلت: على ساعتي هذه من كبر السن؟ قال: " نعم، هم إخوانكم وخولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس، ولا تكلّفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم عليها، واللفظ للبخاري. وانظر مجمع الزوائد، كتاب العتق، باب الإحسان إلى الموالي والوصية بهم (16 - 3). " يا أيها الناس إن ربكم واحد .. " .......... 83 رواه أحمد (411/ 5) من حديث أبي نضرة قال: حدثني من سمع خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - في وسط أيام التشريق، فقال: " يا أيها الناس، ألا إن ربّكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أسود على أحمر، ولا أحمر على أسود، إلا بالتقوى، أبلغت؟ "، ورجاله رجال الصحيح كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد رقم (5622). ورواه الطبراني في الكبير (12/ 18 - 13) بأسانيد ضعيفة من حديث شعيب بن عمر عن رجل له صحبة، قال: " إن الله تعالى يقول: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [سوة الحجرات، الآية: 113] فليس لعربى على عجمي فضل، ولا لعجمي على عربي فضل، ولا لأسود على أبيض فضل، ولا لأبيض على أسود فضل إلا بالتقوى ". وانظر مجمع الزوائد رقم (5641). " مثل القائم في حدود الله ... " .......... 85 رواه البخاري (94/ 5) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه بلفظ: " فأصاب

الحديث .......... الصفحة بعضهم " بدل: " فصار ". (أخذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - برأي صحابي لتحديد مكان معركة بدر) .......... 85 الصحابي هو الحباب بن النذر. وفي إسناده من لا يعرف، روى الحاكم في المستدرك (426/ 3 - 427) بإسناده عن الحباب بن المنذر الأنصاري قال: أشرت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر بخصلتين فقبلهما مني: خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزاة بدر فعسكر خلف الماء، فقلت: يا رسول الله أبوحي فعلت أو برأي؟ قال: " برأي يا حباب "، قلت: فإن الرأي أن تجعل الماء خلفك، فإن لجأت لجأت إليه، فقبل ذلك مني. ولم يتكلم الحاكم على إسناده، وقال الذهبي في تلخيصه: حديث منكر. ورواه ابن هشام في السيرة (66/ 2) عن ابن إسحاق قال: فحدثت عن الرجال من بني سلمة أنهم ذكروا أن الحباب جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه، ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: "بل هو الرأي والحرب والمكيدة "، قال: يارسول الله فإن هذا ليس بمنزل: امضِ بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم، فنعسكر فيه، ثم نغوّر ما وراءه من الآبار، ثم نبني عليه حوضاً فنملأه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لقد أشرت بالرأي ". (إن الله اقتطع من أموال الأغنياء ... ) .......... 88 رواه الطبراني في الصغير رقم (453) والأوسط، من حديث علي رضي الله عنه مرفوعاً بلفظ: " إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الذي يسع فقراءهم ولن تجهد الفقراء إذا جاعوا وعروا إلا بما يضيع أغنياؤهم. ألا وإن الله عز وجلّ يحاسبهم يوم القيامة حسابا شديدا، ثم يعذبهم عذابا أليما "، وقال الطبراني: تفرد به ثابت بن محمد الزاهدي وقد روي عن علي عليه السلام من وجوه غير مسندة، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد رقم (4324): ثابت من رجال الصحيح، وبقية رجاله وثقوا وفيهم كلام. ورواه الخطيب البغدادي في تاريخه (308/ 5)، وابن الجوزي في العلل المتناهية رقم (813) من حديث علي مرفوعا بلفظ: " إن الله فرض للفقراء في أموال الأغنياء قدر

الحديث .......... الصفحة ما يسهم فإن منعوهم حتى يجوعوا ويعروا ويجهدوا، حاسبهم الله حساباً شديدا، وعذبهم عذاباً نكراً ". وقال ابن الجوزي: هذا حديث لا يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما يروى نحوه عن علي عليه السلام. (نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التلقي، وأن يبيع حاضر لباد) .......... 90 رواه البخاري (313/ 4)، والنسائي (257/ 7) من حديث أبي هريرة. " أرأيت إذا منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟ " .......... 91 رواه مالك في الموطأ (2/ 618) بهذا اللفظ، ورواه البخاري (278/ 3) و (302/ 5)، ومسلم رقم (1555)، والنسائي (264/ 7) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمار حتى تزهو، فقلنا لأنس: ما زهوها؟ قال: تحمرّ وتصفرّ، قال: أرأيت إن منع الله الثمرة، بم تستحل مال أخيك؟ وفي رواية: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إنْ لم يثْمرها الله، فيم تستحل مال أخيك؟ ". (الدنيا مطية الآخرة) .......... 158 لم أقف على هذا اللفظ، وذكره السخاوي في المقاصد الحسنة بلفظ: " الدنيا مزرعة الآخرة"، وقال: لم أقف عليه مع إيراد الغزالي له في الإحياء. وقال ابن الفرس: لا يعرف. ورواه في الفردوس بلا سند عن ابن عمر مرفوعاً بلفظ: " الدنيا قنطرة الآخرة". وذكره الصفاني بإسقاط الآخرة. " فاعبروها ولا تعمروها". وفي الضعفاء للعقيلي ومكارم الأخلاق لابن لال، عن طارق بن أشيم رفعه: " نعمت الدار الدنيا لمن تزود عنها لآخرته ... "، وانظر كشف الخفاء للعجلوني رقم (1320)، وذكره الحاكم في المستدرك (4/ 312)، وصححه وقال الذهبي: بل منكر، وعبد الجبار لا يعرف ... وكذلك رواه ابن الجوزي في العلل المتناهية رقم (1333) وقال: هذا حديث لا يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنما يروى نحو هذا الكلام عن علي عليه السلام وعبد الجبار مجهول والحديث غير محفوظ.

3 - مسرد الأعلام ((أ)) أدم (عليه السلام) 14 آدم سميث 37، 51 ابن خلددن 53 أبو بكر (رضي الله عنه) 41 أبو ذر الغفاري 92 أبو موسى الأشعري 86 الاتحاد السوفيتي 22 أثينة 66، 77 أديسون 156 أرسوس 72 الاسكندر الاكبر (قيصر روسيا) 73 الاسكندر المقدوني 114 إسماعيل (عليه السلام) 40 إفريقيا 14 أفلاطون 80 ألمانيا 57 المانيا الغربية 162، 197 أميركا 30، 106، 117، 137، 159، 163، 179، إنجلترا 30، 39، 119، 132، 163 إندونيسيا 54، 57، 58، 132 أنس بن مالك 91 أنفرس 143 أهرار (عالم الماني) 57 أوربا 28، 43، 45، 46، 69، 70، 76، 117، 142، 178،158، 211 أوروبدا (مفكر هندي معاصر) 185 أيزنهاور 127 إيسن (مدينة) 106 إيطاليا 190 ((ب)) باريس 143، 163، 205 باستور 193 بانيكار (سفير هندي) 52 بدر (معركة) 85 برلين 126، 143، 163 برون (مشرف على صنع الصواريخ في ألمانيا) 197 بريكلاس (قيصر) 66 بطليموس 191 بغداد 170 بلجيكا143 بومباي 106 بيتان (المارشال) 145 البيرو 112 بيروت ح 11، 123 بيري (قائد الأسطول الأمريكي) 184

((ت)) تايلور 40، 181 توسديد (مؤرخ) 66 تولستوي 152 تويني (مؤرخ) 177، 201 تيبورموند 179 ((ج)) جاكرتا 52، 106، 112، 118،113، 119، 190 جان اوستري (كاتب فرنسي) 53 جان جاك روسو 69 الجزائر 30، 39، 144 جمال الدين الأفغاني 164، 166 جمال عبد الناصر 164،155، 180، 182 الجهورية العربية المتحدة 125، 170، 173، 080، 181، 182، 202 جنيف 125، 126 جورنج (وزير الدعاية الهتلرية) 43 جول فيرن 115 جوينبلين (إحدى شخصيات قصة لفيكتور هوجو) 72 جيزر (مؤرخ فرنسي) 69، 70 ((ح)) حسن السفاح (رئيس الحشاشين وهو شيخ الجبل) حلب 121،95 ((خ)) خروتشوف 127 الخنساء43 ((د)) الدار البيضاء106 دلاس (وزير خارجية أمريكي سابق) 115 دمشق 8، 17، 93، 203 دمشق (جامعة) 175 ((ر)) راما كريس (مفكر هندي) 185 رشارد ويت (مؤلف) 113 رشيد رضا164 روبسبير (من رجال الثورة الفرنسية) 71 روسيا 163، 165 روسيا القيصرية 59، 73، 115، 184 روما 143 ((س)) سارتر 46 سان فرنسيسكو 160، 163،162، 190 سبيون 114 ستاخانوف 40، 59، 180 ستالين 71 ستالين (أسلوب) 105 سوريا 8، 165 السويد 190 السيباي (معركة) 165 سيييا 163 ((ش)) شاخت (عالم اقتصادي ألماني) 54، 57، 58 ((ص)) صخر (أخو الشاعرة الخنساء) 42 صفين 43، 92، 93

الصين الشعبية 57، 76، 79، 212 ((ط)) طرابلس (لبنان) 5، 9، 139، 153 طنجة 190،119،118،113،112،106،52 طنجة- جاكرتا (محور) 12، 37، 53، 108، 111، 113، 114، 117، 190 طوكيو 106، 160، 162، 163، 190 ((ع)) عبد الحميد بن باديس 39 عثمان (رضي الله عنه) 41 عمار بن ياسر 41، 180 عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) 41، 84، 85، 86، 89، 91، 92 عمر مسقاوي 9، 155 ((غ)) غاندي 45، 113، 185، 186، 212 الغزالي 44، 46 غوتنبرغ 142 ((ف)) فرنسا 208،190،30 فلسطين 169 فيكتور هوجو 72 ((ق)) القاهرة 7، 8، 15، 97، 187، 205، 206 ((ك)) كارل ماركس 51 كريستوف كولومبس 23، 111، 179 كولومبو 191 كريشنامينون (سياسي هندي) 212 كشمير 212 كلكتا 108 كناندا (مفكر هندي) 185 كوتاما (مفكر بوذي) 201 كوتييه (مستثرق) 183، 188 كيبلنج (شاعر) 113 ((ل)) لانكشير 163 لبنان 165،8 لندن 143، 163، 205 لويس السادس عشر (ملك فرنسا) 71 ليبريا 159، 189 ((م)) ماريوت (عالم) 23 ماسيس201 مارشال (مشروع) 197 ماونتباتن (اللورد) 113 محمد عبده 164 محمد عمر الداعوق 125 (أبو عمر الداعوق) 134 محمود شاكر ح 92 مدريد 143 المدينة 89 مرسيليا 160 مصر الجديدة 98 معاوية 93 المكسيك 111 موسكو 52، 105، 106، 113، 126، 206 موسوليني 208

موسى (عليه السلام) 137 ميرابو (من رجال الثورة الفرنسية) 71 الميكادو 187 ((ن)) نهرو 115، 186، 212 نيودلهي 212،113 نيو يورك 105 ((هـ)) هانيبال 114 هتلر 35، 138، 145، 208، 209 الهند 31، 132، 165، 179، 185، 186، 190، 211، 212 هندنبرج (المارشال) 137 هولندا 132 هيروشيما 216 ((و)) واشنطن 52، 105، 106، 112، 126، 205 واشنطن- موسكو (محور) 37، 109، 111، 113، الولايات المتحدة 112، 189، 190 وينجهمان 152 ((ي)) اليابان 2/ 52 ح، 61، 119، 130، 159، 160، 164، 166، 184، 185، 187، 189، يوسف شقرا 20،19 اليونان 114

4 - مسرد المذاهب والجماعات والشعوب ((أ)) الاشتراكية القومية (مذهب هتلر) 209 إسرائيل (بنو) 136، 137 الإنكليزي (الشعب) 132 ((س)) الساموراي 120، 186 ((ف)) الفرس 114 ((م)) ماركس (مدرسة) 35 المرابطون 94 الموحدون 94 ((هـ)) الهندي (الشعب) 132 ((و)) الوجودية 46 ((ي)) اليهود 30، 145 يهود الجزائر 144، 146، 169 5 - مسرد المعاهدات والمؤتمرات والمنظمات ((أ)) الاتحاد القومي 17 ((ب)) بيت الطلبة العرب 33 ((ج)) جمعية الأمم ح52 جمعية العلماء الجزائريين 168 جمعية مكارم الأخلاق الإسلامية 155 ((م)) مؤتمر القاهرة 112 مؤتمر باندونج 97، 98، 99، 100، 115، 117 مؤتمر برلين 115 نادي الطلبة الفلسطينيين 49 نادي الطلبة المغاربة بدمشق 63، 203 هيئة الأمم المتحدة 312

6 - مسرد المراجع والمصادر ((أ)) إحياء علوم الدين 44، 46 الإسلام أمام التطور الاقتصادي 53 ألف ليلة وليلة 72 أنت أيها الرجل الأبيض 113 تاريخ أوربا من نهاية الإمبراطورية الرومانية إلى الثورة الفرنسية 69 حضارتهم وحضارتنا 46، 113 الرجل الذي يضحك 72 الصراع الفكري في البلاد المستعمرة (من كتب مالك) 98 ((ط)) طبقات ابن سعد ح 92 ((ظ)) الظاهرة القرآنية (من كتب مالك) 141 ((ع)) العهد القديم 142، 143 ((غ)) الغثيان 46 الفكرة الإفريقية الآسيو ية (من كتب مالك) ح54، 97 ((ق)) القرون المظلة في المغرب 183 ما هو الفن 152 مشكلات الدول الجديدة 52 مشكلاتنا الاجتماعية 167 ميشل ستروجف 115 ((و)) وجهة العالم الإسلامي (من كتب مالك) ح 12

7 - مسرد الموضوعات الموضوع .......... الصفحة تقديم .......... 7 مقدمة .......... 11 الصعوبات بوصفها علامة نمو في المجتمع العربي .......... 17 المسوّغات في المجتمع .......... 33 قيم إنسانية وقيم اقتصادية .......... 49 الديمقراطية في الإسلام .......... 63 التضامن الإفريقي الآسيوي .......... 95 الفعالية .......... 123 الثقافة .......... 139 كيف نبني مجتمعاً أفضل؟ .......... 153 خواطر عن نهضتنا العربية .......... 175 رسالتنا في العالم .......... 203

§1/1