تخجيل من حرف التوراة والإنجيل
صالح الجعفري
المجلد الأول
المجلد الأول مقدمة ... تخجيل مَن حرَّف التّوراة والإِنجيل دراسة وتحقيق: د/ محمُود عبد الرّحمن قدح المُقَدِّمة إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله1، وخاتم أنبيائه ورسله، وأنّ موسى كليم الله ورسوله، وأنّ عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حقّ والنار حقّ2. أما بعد: فإنّ القرآن الكريم - بجانب دعوته إلى التوحيد وبيان حقائق الإسلام وشريعته - قد عرض مقولات الأديان وآراء الملل والنحل المختلفة التي كانت منتشرة وقت التنزيل. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هَادُوا والصَّابِئِينَ والنَّصَارَى والمَجُوسَ والَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصُلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَة إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيْدٌ} . [سورة الحجّ، الآية: 17] . وقال تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ} . [سورة الجاثية، الآية: 24] . وقد ناقش القرآن الكريم الأديان المنحرفة والعقائد الباطلة، وبرهن على بطلانها وفسادها، ودحض كلّ فرية وردّ كلّ مزعم، وأبان عن الدّين الصحيح الذي هو دين الأنبياء جميعاً، وأمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم والمسلمين بتبليغ الدعوة الإسلامية
ومجادلة الخصوم. فقال الله عزوجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيْلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلُوهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ... } . [سورة النحل، الآية: 125] . لذلك كانت حياته صلى الله عليه وسلم جهاداً في سبيل الدعوة الإسلامية بالحجّة والبرهان في مجادلة الكفار على اختلاف الملل والأديان، ثم بالسيف والسنان بعد ظهور الحجّة والبرهان، وكذلك كان أصحابه - رضي الله عنهم - من بعده صلى الله عليه وسلم، فقد كان بعض الصحابة على اطِّلاع واسع وعميق على الأديان، وبخاصة اليهودية والنصرانية، كعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، ومسلمة أهل الكتاب مثل عبد الله بن سلام وتميم الداري وسلمان الفارسي وغيرهم - رضي الله عنهم -. وكذلك كان بعض التابعين وأتباعهم كمالك1 بن دينار، وكعب الأحبار، ووهب بن منبة، وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، وغيرهم - رضي الله عنهم - 2. وحينما نشطت حركة التأليف والكتابة عند العلماء المسلمين، أفردوا العلم الأديان كتباً ومؤلّفاتٍ خاصة به، ومن ذلك: الإمام محمّد بن إدريس الشافعي (توفي سنة 204هـ) له كتاب في
(تصحيح النّبوّة والرّدّ على البراهمة) 1، وآخر في (الردّ على أهل الأهواء) 2. عليّ بن ربن الطبري - كان نصرانياً فأسلم - (توفي سنة 247هـ) له (الرّدّ على أصناف النصارى) 3 و (الدين والدولة في إثبات بنوة النبي صلى الله عليه وسلم) 4. والإمام أبو الحسن الأشعري عليّ بن إسماعيل (توفي سنة 344هـ) له كتاب في مذاهب النصارى، وآخر في الكلام على النصارى5. والعلاّمة ابن حزم الظاهري (توفي سنة 456هـ) له (الفصل في الملل والأهواء والنحل) . ومحمّد بن عبد الكريم الشهرستاني (توفي سنة 548هـ) له (الملل والنحل) . والمفسر محمّد بن عمر الرازي (توفي سنة 606هـ) له (اعتقادات فرق المسلمين والمشركين) . والإمام ابن تيمية (توفي 728هـ) له (الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح) ، وغيرهم من العلماء الكثيرين الذين أسهموا في هذه السلسلة المباركة في علم الأديان التي استمرت إلى يومنا هذا. ولقد كانت جهود هؤلاء العلماء بتأثير مباشر من القرآن الكريم الذي وضع أسس علم الأديان، فكان لعلمائنا بذلك فضل السبق في تدوين هذا العلم مستقلاً
مستقلاً عن العلوم الأخرى، وفي وضع المنهج السليم له بالاعتماد على المصادر الأصلية لكلّ ديانةٍ بعيداً عن الأساطير والشائعات، وفي النقد البنَّاء الهادف لإظهار الحقّ وإزهاق الباطل. ومن هؤلاء العلماء الذين أسهموا بحظٍّ وافرٍ في هذا العلم القاضي الفقيه أبو البقاء صالح بن الحسين الجعفري الهاشمي المتوفى سنة 668هـ، الذي يعتبر من المتخصصين في هذا العلم، وذلك بحسب ما وقفت على ترجمته وبعض آثاره العلمية وهي: كتاب (تخجيل مَنْ حرَّف التوراة والإنجيل) و (البيان الواضح المشهود من فضائح النصارى واليهود) و (الرّد على النصارى) . لذلك كان اختياري دارسة وتحقيق كتابه (تخجيل مَنْ حرَّف التوراة والإنجيل) ليكون موضوع رسالتي المقدَّمة لنيل الشهادة العالمية العالية (درجة الدّكتوراه) ، نظراً لأهمية الكتاب في موضوعه الذي يتضمن الرّدّ على اليهود والنصارى، ولأنّه بمثابة الأصل لكتابيه الآخرين، ولاشتماله على الكثير من الأحاديث النبوية الشريفة، ولعدّة مميّزات أخرى سنتبيّنها - إن شاء الله تعالى - من خلال دراسته. إضافة على ما سبق فإن اختياري لهذا الموضوع له أسباب عديدة من أهمّها: 1- العمل بقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ، وتطبيق المنهج القرآني في المبادرة بالهجوم على العقائد الباطلة والمفاهيم الخاطئة بهتك أستارها وبيان فسادها وتناقضها، وذلك من أنواع الجهاد الذي قال عنه النّبيّ صلى الله عليه وسلم: " جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم"1.
2- إنّ في دراسة الأديان والفرق ومعرفة أسرارها فوائد عديدة منها: أنّها تمكن الدَّاعية من النجاح في دعوته - بعد توفيق الله وعونه - حيث إن معرفة الداعية بدين المدعو يساعدهكثيراً في التأثير فيه وتخليصه من رواسب العقائد الباطلة، فيكون ذلك أدعى لقبول الحقّ. ومنها: الوقوف على أسباب انحراف اليهود والنصارى وغيرهم، من باب معرفة الشرّ لتوقيه. ومنها: زيادة الإيمان بديننا، والحمد الشكر لخالقنا عزوجل، فمن الظلام نعرف قيمة النور ومن الباطل نعرف قيمةالحقّ. ومنها: أنّ بمعرفة حقيقة الأديان الباطلة يعرف بطلان ما يشبه أقوالهم من أقوال أهل الإلحاد والبدع. 3- إنّ في إبراز تراث علمائنا المسلمين في هذا العالم تأكيداً لأصالته وهويته الإسلامية واستمداده من الكتب والسنة، وتأكيداً لتأثير التراث الإسلامي في حركة النقد للتوراة والأناجيل المحرفة عند أحبار اليهود والنصارى ومفكِّريهم المتأخرين. ولإعطاء هذا الموضوع حقّه من البحث - حسب جهدي المتواضع وعلمي القاصر - وجلباً للفائدة التي يتوخاها الباحث قسمت عملي في دراسة الكتاب وتحقيقه إلى قسمين كالآتي: القسم الأوّل: دراسة المؤلّف وكتابه، ويشتمل على بابين هما: الباب الأوّل: التعريف بالمؤلِّف، ويندرج تحته فصلان: (الأوّل: عصر المؤلِّف، والثاني: حياة المؤلّف) .
الباب الثاني: التعريف بالكتاب وبيان منهج التحقيق، وتحته فصلان: (الأوّل: التعريف بالكتاب، والثاني: التعريف بالمخطوطة وبيان منهج التحقيق) . القسم الثّاني: نص الكتاب المحقَّق، ويشتمل على عشرة أبواب. ثم وضعت خاتمة ذكرت فيها أبرز الصعوبات التي واجهتها في البحث وأهمّ النتائج والتوصيات التي ارتأيتها، وقمت بوضع فهارس متنوعة للبحث ليسهل على القارئ الاستفادة منه. وفي ختام هذه المقدِّمة فإني أحمد الله عزوجل وأشكره كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه عزوجل على نعمه الظاهرة والباطنة، وأسأله العون على ذكره وشكره وحسن عبادته تبارك وتعالى. ثم أتوجه بالشكر والامتنان للوالدين الكريمين على حسن تربيتهما وتوجيههما، فجزاهما الله خير الجزاء وأجزل مثوبتهما في الدنيا والآخرة. ثم أشكر كلّ من أعانني في إتمام هذا البحث وإخراجه، وأخصّ بالذكر أستاذي فضيلة الأستاذ الدكتور محمّد ضياء الرحمن الأعظمي الذي أشرف على هذا البحث فأفادني من علمه وأخلاقه فجزاه الله عني خير الجزاء في الدنيا والآخرة. كما أسجل عظيم شكري وامتناني للجامعة الإسلاميّة بالمدينة المنوّرة التي نشأت في رعايتها منذ المرحلة الثانوية، حفظها الله وأدامها لخدمة الإسلام والمسلمين وسدد خطى القائمين عليها والمسؤولين فيها. وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدّين. المحقِّق: محمود بن عبد الرحمن قدح
القسم الأول: الباب الأول: التعريف بالمؤلف
القسم الأول: الباب الأول: التعريف بالمؤلف الفصل الأول: عصر المؤلف ... الفصل الأوّل: عصر المؤلِّف إنّ العصر الذي يعيشه الإنسان له دور بارز في حياته وتكوين شخصيته لذلك كان على الباحث الذي يدرس شخصية من الشّخصيات أو أثراً من آثارها أن يكتب - ولو على وجه الإيجاز - عن النواحي السياسية والعلمية والاجتماعية السائدة في ذلك العصر، ليقف على مدى تأثير وتأثر تلك الشخصية بأحداث عصرها. وقد عاش المؤلِّف القاضي الإمام صالح بن الحسين الجعفري في الفترة ما بين نهاية القرن السادس ومنتصف القرن السابع الهجريين. الحالة السياسية: كان القرن السادس ومنتصف القرن السابع الهجري من فترات العصر العباسي الثاني الذي ضعفت فيه الخلافة العباسية وتفككت إلى دويلات صغيرة، وظهرت ممالك مستقلة عنها، ولم يكن للخليفة العباسي إلاّ السلطة الاسمية على بغداد وما جاورها. أما السلطة الفعلية فكان للسلاجقة في بلاد فارس والمشرق وما رواء النهر، وللغزنويّين في بلاد الهند وخراسان، وللفاطميّين في مصر حتّى سنة 567هـ، ثم انتقلت إلى الأيوبيّين الذين بسطوا سلطانهم إلى بلاد الشام، والموحدّين في الأندلس والمغرب، والصليحيّين في
اليمن1. وكانت الصورة العامة في ذلك العصر اضطراب الأمن وعدم الاستقرار وانتشار الفتن والثورات والقلاقل وكثرة الحروب الداخلية بين الأمراء والملوك المتنازعين على السلطة والطامعين فيها، مما أدّى إلى ضعف قوّة المسلمين في مواجهة الحروب الخارجية ومن أبرزها الحروب الصليبية التي كانت تشنها دول أروبا على العالم الإسلامي، والغزو المغولي التتري الذي أدّى إلى القضاء على الخلافة العباسية وتدمير عاصمتها بغداد سنة 656هـ. ولم يكن الحال مختلفاً عن ذلك في مصر، حيث عاش المؤلِّف بداية حياته في كنف الدولة الأيوبية الفتية التي أسسها الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي سنة 569هـ، وورثها من بعده أبناؤه إلى أن انتهت الدولة الأيوبية وأفل نجمها سنة 648هـ، وكان عمر المؤلِّف حينئذٍ (57) ، عاماً، ثم عاش بعد ذلك بقية عمره في ظلّ دولة المماليك البحرية2. أما السلاطين والملوك الذين عاصرهم المؤلِّف فهم: 1- السلطان الملك الناصر صلاح الدّين الأيوبي ت سنة: 589هـ. 2- السلطان الملك العزيز عثمان بن السلطان صلاح الدين ت سنة: 595هـ. 3- السلطان الملك المنصور محمّد بن السلطان الملك العزيز عثمان، وقد خلعه الملك العادل سنة 596هـ. 4- السلطان الملك العادل أبو بكر بن أيوب، أخو السلطان صلاح الدين ت 615هـ. 5- السلطان الملك الكامل محمّد بن العادل الصغير أبو بكر ت 635هـ.
6- السلطان الملك العادل الصغير أبو بكر بن الكامل محمّد، وقد خلعه الأمراء سنة 637هـ. 7- السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل محمّد ت 647هـ. 8- السلطان الملك المعظم توران شاه بن الملك الصالح نجم الدين أيوب، وقد قتله المماليك سنة 648هـ. وبموته انتهت الدولة الأيوبية من ديار مصر وانتقلت إلى دولة المماليك الأتراك. 9- وتولت السلطنة من بعده الملكة شجرة الدر زوجة الملك الصالح نجم الدين أيوب وتزوجت الأمير عزّ الدين أيبك التركاني ونزلت له عن السلطنة وكانت مدة سلطنتها ثمانين يوماً. 10- السلطان الملك المعزّ أيبك التركاني ت سنة: 655هـ. 11- السلطان الملك المنصور نور الدين عليّ بن الملك المعزّ أيبك، تولى السلطنة وعمره خمس عشرة سنة، وقيل: عشر، وقد خلعه الأمير سيف الدولة قطز سنة 657هـ. 12- السلطان الملك المظفر سيف الدين قطز المعزي، وقد قتله الأمير بيبرس سنة 658هـ، واستولى على الحكم. 13- السلطان الملك الظاهر بيبرس البندقداري العلائي ت سنة: 676هـ بدمشق1 وفي عهده توفي المؤلِّف - رحمه الله - سنة 668هـ. ويلاحظ من خلال هذا العرض السريع كثرة من تولوا حكم مصر في هذه الفترة، ويرجع ذلك إلى أن منهم من قتل أو خلع من الحكم، إما لسوء تدبيره في الحكم، أو سوء سيرته، أو لطمع الطامعين في السلطة.
وأما عن أبرز الأحداث التي حصلت في الفترة التي عاشها المؤلِّف فهي كالآتي: أوّلاً: - الجهاد الإسلامي الذي قاده ملوك الأيوبيّين ثم المماليك ضدّ غزوات الفرنجة (الأوربيّين) النصارى على العالم الإسلامي ضمن سلسلة ما يسمى بالحروب الصليبية التي بدأت منذ نهاية القرن الخامس الهجري وانتهت عسكرياً1 في نهاية القرن السابع الهجري، وقد كان الدافع لهذه الحروب الصليبية هو الحقد النصراني على العالم الإسلامي ثم الطمع والجشع في غزو ونهب ثروات البلاد الإسلامية واتّخاذ دعوى نصرة النصرانية واسترجاع بيت المقدس ستاراً لذلك، ولقد خاض المسلمون في هذه الفترة معارك ضارية ضدّ ثلاث حملات صليبية هي الحملة الخامسة والسادسة والسابعة. - أما الحملة الصليبية الخامسة فقد كانت في سنة 615هـ، وقام الصليبيّون2 بمهاجمة ومحاصرة مدينة دمياط بمصر، وكان سلطان الدولة الأيوبية إذ ذاك الملك العادل أبو بكر الذي مات أثناء حصار دمياط، فاضطربت أمور الدولة واستطاع الصليبيّون احتلال دمياط سنة 616هـ، ثم الانطلاق منها لغزو القاهرة، وكان الملك الكامل ابن الملك العادل قد تولى السلطنة بعد وفاة أبيه، ونادى بالنفير العام، واستنجد بأخويه الملك عيسى صاحب دمشق، والملك الأشرف صاحب حلب فحضرا بجيوشهما لخدمته، لما اجتمعوا ساروا إلى دمياط والتقوا مع الصليبيّين في المنصورة سنة 618هـ في معركة فاصلة كان النصر للمسلمين والهزيمة للكافرين واستسلامهم
وخروجهم من مصر صاغرين، وهكذا انتهت هذه الحملة بهزيمة منكرة وفشل ذريع1. وأما الحملة الصليبيّة السادسة فقد كانت أيضاً في عهد الكامل ابن الملك العادل، وكان قائدها الإمبراطور الألماني فريدريك الثاني الذي وصل بأسطوله الحربي إلى عكا سنة 626هـ، وفاوض فريدريك الملك الكامل - الذي كان آنذاك بالشام لخلاف بينه وبين أخيه الملك عيسى صاحب دمشق - على أن يرد المسلمون إلى النصارى ما كان صلاح الدين قد استرجعه منهم، فوقعت المصالحة بين الإمبراطور فريدريك والملك الكامل على أن يردوا لهم بيت المقدس وحده دون الأماكن المقدسة الإسلامية وأن تبقى بقية البلاد بأيدي المسلمين2. وعندما استولى الملك الصالح أيوب من الملك الكامل على السلطنة في مصر سنة 637هـ، كانت له عداوة مع بقية بني أيوب بالشام خاصة عمه الملك الصالح إسماعيل الذي تحالف مع الصّليبيّين وتنازل لهم عن بعض البقاع منها طبرية وصيدا لمساعدته في حربه ضدّ الملك الصالح أيوب فلم يكن أمام الملك الصالح أيوب (صاحب مصر) إلا الاستعانة بالقبائل الخوارزمية من وراء الفرات سنة 642هـ لمحاربة عسكر الشام المتحالف مع الفرنجة، وجرت معارك شديدة بين الفريقين انتصر فيها الملك الصالح أيوب على أعدائه جميعاً سنة 642هـ، وأعاد بيت المقدس إلى السيادة الإسلامية3.
كان استرجاع بيت المقدس من النصارى سبباً في قيام الحملة الصليبية السابعة التي قادها ملك فرنسا لويس التاسع1 سنة 647هـ، ضدّ البلاد المصرية - التي كانت لها السيادة على الأماكن المقدسة - وقامت أساطيله الحربية باحتلال مدينة دمياط، ولما وصلت الأخبار بذلك إلى الملك الصالح أيوب أمر بإشهار النداء في مصر والقاهرة بالنفير عاماً، وخرج الملك الصالح بجيشه لصدّ زحف الصليبيين المتّجهين نحو القاهرة وأثناء الحرب ونشوب المعارك توفي الملك الصالح إلاّ أنّ زوجته شجرة الدر أنقذت الموقف وأخفت موته إلاّ عن بعض خاصة القواد وقامت معهم بتدبير الأمور إلى حين وصول ولي العهد الملك توران شاه بن أيوب وتوليه السلطة سنة 648هـ، وقيادة الجيوش ضدّ الصليبيين في معركة فاصلة قاسية كنت الغلبة فيها للمسلمين والهزيمة المنكرة للصليبيين، وأسرّ فيها قائدهم الملك لويس التاسع الذي افتدى نفسه بمبلغ كبير وعاد إلى بلاده مدحوراً2، وبذلك انتهت هذه الحملة التي تعتبر آخر الحملات الصليبية على الشرق الإسلامي. أما عن جهاد ملوك دولة الممالك، فإن الملك الظاهر بيبرس لما تولى السلطنة في مصر أخذ يهاجم الصليبيّن ويحرر منهم الحصون والمدن كقيسارية3، وأرسوف صفد4، ويافا والشقيف5، وأنطاكية وغيرها عنوة أو مصالحة، وما إن توفي الظاهر بيبرس سنة 676هـ، حتى انحصرت الإمارات الصليبية في منطقة
ساحلية صغيرة لا تعدو عكا وطرابلس1. ثانياً: ومن أبرز الأحداث المؤلمة في هذه الفترة الزمنية الغزو المغولي على العالم الإسلامي الذي قضى على الخلافة العباسية ودمر عاصمتها بغداد سنة 656هـ، واستولى المغول التتار على بلاد الشام وغيرها من بلاد المسلمين وعاثوا في الأرض قتلاً وحرقاً ودماراً وفساداً مما لا مثيل له في التاريخ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم. ثالثاً: حينما عزم التتار على غزو مصر بعد استيلائهم على الشام، اتّفق الأمراء المماليك على تولية الملك المظفر قطز سنة 657هـ، الذي أعد العدة لملاقاة التتار وأعلن النفير العام في القاهرة وسائر الأقاليم بالخروج إلى الجهاد ومقاتلة التتار الذين انهزموا شرّ هزيمة في معركة عين جالوت2 بيان3 سنة 658هـ4، وكانت نهاية الخرافة السائدة بأن المغول لا ينهزمون، وبداية تحرير البلاد الإسلامية منهم. ولله الحمد. رابعاً: إعادة الخلافة العباسية في مصر على يد الملك ظاهر بيبرس سنة 659هـ، بعد هدمها وانقطاعها في بغداد، وتولية المستنثر بالله أحمد بن الإمام الظاهر
بالله محمّد الخلافة العباسية ومبايعته بالقاهرة1. تلك كانت أهمّ الأحداث وأبرزها في عصر المؤلِّف باختصار، ويهمنا الآن معرفة دور المؤلِّف فيها، وما مدى تأثيرها فيه؟ لم تذكر المصادر2 التي ترجمت للمؤلّف - رحمه الله - دوراً بارزاً له في تلك الأحداث، إلاّ أنّها ذكرت أنّ المؤلِّف صالح بن الحسين الجعفري كان قاضياً في مدينة قوص3 مدة وواليا عليها مدة أخرى، وقد استنجت من ذلك أنّ المؤلِّف كان له دور علمي أثناء الحروب الصليبية وغيرها - بحكم ما تولاه من الوظائف المهمّة في الدولة ومكانته الاجتماعية والعلمية والقيادية - في حثّ الناس على الجهاد والخروج لصدّ الغزاة وحماية الأعراض والبلاد، وترغيب الناس في الصدقة، وجمع الأموال لإعداد الجيوش، خاصة حينما أعلن الملك الكامل والملك الصالح والملك المظفر قطز النفير العام في مصر. وبجانب جهاد المؤلِّف بالسيف والسنان كان له أيضاً جهاد القلم واللسان والحجّة والبرهان ضدّ الصليبيّين وأعوانهم من اليهود، وبيان فساد دينهم وما هم عليه من الباطل والخذلان. ويظهر لنا هذا الجانب بحسب ما وقفت عليه من كتبه في الرّدّ على اليهود والنصارى ومنها: (تخجيل من حرَّف التوراة والإنجيل) و (الرّدّ على النصارى) ، و (البيان الواضح المشهود من فضائح النصارى واليهود) .
وقد أكد لنا المؤلِّف أداءه لهذا الواجب في ذكره سبب تأليف كتابه (البيان الواضح) أنّه كان من باب الذَّبِّ عن الدين والجهاد القامع للملحدين1. الحالة الاجتماعية: كان المجتمع المصري يتألف من عدة طبقات: طبقة أهالي البلاد الأصليّين السنيّين الذين يؤلفون الأغلبية الساحقة من المصريّين، ثم طبقة المغاربة الذين قامت الدولة الفاطمية على أكتافهم ويدينون بالمذهب الشيعي مذهب الفاطميّين، ثم طبقة الأتراك الذين كثر عددهم في مصر منذ أيام الدولة الطولونية سنة 254-292هـ، وظهر أمرهم في عهد الخليفة الحاكم الفاطمي، ثم طبقة السودانيّين الذين كثر عددهم في مصر منذ أيام كافور الإخشيد سنة 355-357هـ. وظهر أمرهم منذ أيام الحاكم الفاطمي الذي استعان بهم ضدّ الأتراك2، ثم ظهرت طبقة أخرى في عهد المماليك وهم التتار الذين قدموا إلى مصر في أوائل عهد السلطان بيبرس وازداد عددهم في عهد السلطان كتبغا سنة 695هـ3. كما كان يعيش في المجتمع المصري المسلم طائفة أهل الذّمّة (وهم اليهود والنصارى) التي تدفع الجزية للدولة الإسلامية مقابل حمايتها وتمتعها بحريتها الدّينية في ظلّ التسامح الإسلامي. وقد تعددت فرق أهل الكتاب وطوائفهم في مصر على النحو الآتي:
أما اليهود فكانوا أقلية بالنسبة للنصارى، وينقسمون إلى ثلاث فرق رئيسة هي: 1- فرقة الربانيّين: وهم جمهور اليهود، ومنهم يكون رئيس اليهود المشرف على الطوائف اليهودية الأخرى. 2- ثم يليهم في العدد فرقة القرائين. 3- ثم فرقة السامريّين (أو السامرة) وكانوا أقلية صغيرة العدد في مصر1. وقد كان لكلّ من فرق اليهود كنائسها الخاصّة بها، وقد أحصى المقريزي إحدى عشرة كنيسة في القاهرة والفسطاط وأقاليم البلاد المصرية، وكلّها محدث في الإسلام على حدّ قوله2. أما النصارى فقد انقسموا إلى ثلاث فرق رئيسة هي: 1- اليعاقبة (مذهب اليعقوبية) وهم الأقباط الذين يمثلون أغلبية النصارى في مصر. 2- الملكية أو الملكانية: وهم أقلية بالنسبة لليعاقبة كما أنهم في غالبيتهم من أصول غير مصرية كالروم وغيرهم، ومن ثمّ اشتدت العداوة بينهم وبين الأقباط. وكان لكل فرقة بطريرك خاص بها يتولى تنظيم الشؤون الداخلية لجماعته وفقاً لقوانينهم والإشراف على الكنائس والأديرة وما يتعلق بها، وتحديد مواعيد أعيادهم ومواسمهم وتنظيم علاقة أبناء طائفته بالدولة3.
3- النسطورية: وهم أقلية صغيرة العدد في مصر1. وقد انتشرت كنائس النصارى في كلّ أنحاء مصر، وكانت غالبيتها ملكاً لليعاقبة بحكم كونهم الأغلبية، فقد أحصى المقريزي ما يزيد على اثنتين وثمانين كنيسة لليعاقبة في الوجه القبلي، كما امتلك النصارى الملكية بعض الكنائس في القاهرة والفسطاط، ووجدت بعض كنائس للأرمن والنساطرة2. أما فيما يتعلق بالناحية الاقتصادية في مصر زمن الأيوبيّين وعصر المماليك البحرية فقد كانت منتعشة، وكان المال يأيتها من موارد عدّة، منها: الجزية التي كانت تصلها من الإمارت، والضرائب المعتادة التي تجبى من الشعب، إضافة إلى غنائم الحروب وغيرها، ولم تحدث في عهد الأيوبيّين إلاّ مجاعة واحدة في عهد السلطان العادل سنة596هـ استمرت نحو ثلاث سنوات، كان سببها انخفاض مياه النيل، فانتشر القحط، وهرب الناس من مصر إلى الشام وغيرها ومات الناس من التعب والجوع واشتدّ الغلاء3. تلك صورة موجزة عن المجتمع المصري زمن المؤلّف، نتعرف من خلالها بعض المؤثّرات في شخصية المؤلّف وتكوينه، إذ لا يخفى أن للبيئة الاجتماعية التي تحيط بالإنسان تأثيراً فيه بصورة مباشرة أو غير مباشرة، سلباً أو إيجاباً. وقد كان المؤلِّف - بحكم وظيفته قاضياً لمدينة قوص ووالياً عليها - على اتّصال وثيق بمختلف طبقات الشعب مسلمهم وذميهم، كبيرهم وصغيرهم، واطلاع على أمورهم ومشكلاتهم، وتحكيم شرع الله فيهم وإقامة العدل
والقسط بينهم، وقد كان للاحتكاك المباشر بين المؤلِّف القاضي واليهود والنصارى أثر في تأليف كتبه في الرّدّ اليهود والنصارى، خاصة إذا ما علمنا أن مدينة قوص من المدن الرئيسة التي كان يعيش فيها عدد كبير من الذّميّين، فقد ذكر بنيامين التطيلي - الذي قام برحلة إلى مصر في عصر الأيوبيّين - أنّه وجد بقوص حوالي ثلاثمائة يهودي1، كما ذكر المؤرخ المقريزي أنه كان بقوص وأسوان إحدى عشرة كنيسة للنصارى2، فقد كان من الطبيعي أن يقوم المؤلِّف الفقيه بجوابه في الدعوة إلى الإسلام بأن يبيّن لليهود والنصارى بطلان ما يعتقدونه من العقائد الفاسدة وما يتمسكون به من الشريعة المنسوخة والكتب المحرفة ويقدّم لهم النصيحة الواجبة المؤيّدة بالأدلة النقلية والبراهين العقلية لاعتناق الإسلام والانضمام إلى أهل الإيمان، وقد أوضح المؤلِّف أن من أسباب تأليفه لكتاب (التخجيل) هو القيام بما أُمِر به المسلمون في قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهِم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ، كما بيَّن المؤلِّف خلال كتابه بعضاً من نشاطه في مجال الدعوة عن طريق المناظرة والمحاورة لأحبار اليهود والنصارى بإبطال شبههم وإقامة الحجّة عليهم وإلزامهم بالاعتراف بنبوّة سيدنا محمّد صلى الله عليه وسلم.
الحالة العلمية: إنّ الحوادث المؤلمة والغزوات المتكررة على العالم الإسلامي من التتار والصليبيّين تركت آثاراً سيّئة وخطيرة على الحركة العلمية، فقد قتل الأئمة والعلماء وهدمت المساجد والمدارس وأحرقت المكتبات وأتلفت الكتب، ولكن على الرغم من ذلك فإن الحركة الفكرية والثقافية في ذلك العصر كانت مزدهرة ازدهاراً كبيراً، فقد ظهر الأئمة والعلماء والأعلام في مختلف العلوم منهم: محمّد بن عمر بن حسين الرازي المفسر ت سنة: 606هـ، وعبد الله بن أحمد بن محمّد بن قدامة المقدسي، ت سنة: 620هـ، وعلي بن محمّد الشيباني المعروف بابن الأثير المؤرخ ت سنة: 630هـ، وعلم الدين عليّ بن محمّد بن عبد الصمد السخاوي ت سنة: 643هـ، وابن التلمساني شرف الدين عبد الله بن محمّد الفهري ت سنة: 644هـ، وابن الحاجب عثمان بن عمر ت سنة: 646هـ، ونجم الدين مختار بن محمود الزاهدي الغزميني ت سنة: 658هـ، والعزّ ابن عبد السلام المعروف بسلطان العلماء ت سنة: 660هـ، ومحمّد بن أحمد بن أبي بكر الأنصاري القرطبي المفسر ت سنة: 671هـ، وأبو زكريا يحيى بن شرف الدين النووي ت سنة: 676هـ، وشهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي ت سنة: 684هـ، وغيرهم ممن يصعب حصرهم والإحاطة بهم. كما نشطت مراكز علمية في الأندلس وغيرها، وانتشرت المؤلَّفات النافعة في العلوم المختلفة وتنافس الناس على اقتنائها ودراستها وقد ساعد على هذه الحركة العلمية وازدهارها عدّة عوامل من أبرزها:
3- كثرة المدارس والمراكز العلمية التي تنشأ في البلاد الإسلامية. 4- توافر خزائن الكتب في المساجد والمدارس وانتشار المكتبات العلمية العامّة والخاصّة. وقد توافرت تلك العوامل في مصر، حيث عاش المؤلِّف رحمه الله، فقد عرف عن ملوك الأيوبيّين والمماليك حبهم وتقديرهم للعلم والعلماء، فكان السلطان صلاح الدين الأيوبي ت سنة: 589هـ، يحبّ العلماء وأهل الخير ويقربهم ويحسن إليهم، حتى صار لكثرة مخالطته بهم وأخذه عنهم من كبار الفقهاء1، وكذلك كان ابنه بعده الملك العزيز عثمان الذي سمع الحديث من الحافظ السلفي والفقيه أبي طاهر بن عوف الزهري وغيرهم2، وكذلك كان من بعده الملك العادل أبو بكر3. ثم كان الملك الكامل الذي يحضر مجلسه الفقهاء كلّ ليلة ويتحدث معهم ويشاركهم في علومهم ويبيت معهم كواحد منهم4، ويتنافس العلماء في إهداء كتبهم ومؤلَّفاتهم إليه، فقد أهدى إليه المؤلِّف صالح بن الحسين الجعفري كتابه: (العشر المسائل) وتسمّى أيضاً: (البيان الواضح المشهود من فضائح النصارى واليهود) الذي ألّفه في عهد الكامل سنة 618هـ، وأهداه إليه ليقمع به أشطان طاغية الروم الأبتر الشيطان الذي أرسل إلى السلطان الكامل عدّة
مسائل يطلب من المسلمين الجواب عنها، وكان ذلك سبب تأليف المؤلِّف لذلك الكتاب1. كما أهدى الإمام أحمد بن إدريس القرافي كتابه: (أدلة الوحدانية في الرّدّ على النصرانية) إلى السلطان الكامل2. وكذلك كان الملك الصالح نجم الدين يكرم العلماء ويحبّهم ويسمع منهم ويبالغ في إكرامهم ويجري على أهل العلم الجرايات3. أما عن ملوك المماليك فإن السلطان الظاهر بيبرس كان محبّاً للعلماء ومقرباً لهم، وبنى المدارس والجوامع الكثيرة4. أما عن المدارس والمراكز العلمية فقد كانت كثيرة جدّاً، نذكر منها5: 1- المدرسةالناصريةوقد بناها السلطان صلاح الدين في عام566هـ. 2- المدرسةالصلاحية وبناها السلطان صلاح الدين في عام572هـ. 3- المدرسة الفاضلية أسسها القاضي الفاضل عبد الرحيم ت سنة: 596هـ، وكان من أكابر العلماء في عصر الأيوبيّين. 4- المدرسة الشريفية وقفها الأمير الشريف فخر الدين أبو نصر إسماعيل بن ثعلب الجعفري الزيني أحد أمراء مصر في الدولة الأيوبية ت سنة: 612هـ. 5- المدرسة الكاملية وهي دار الحديث بناها الملك الكامل في عام 621هـ.
6- المدرسة الصالحية وهي أربع مدارس للمذاهب الأربعة بناها الملك الصالح نجم الدين أيوب في عام 639هـ. 7- المدرسة الظاهرية وبناها الملك الظاهر بيبرس في عام 662هـ. وكانت هذه المدارس وغيرها تعنى بتدريس العلوم الدينية والأدبية والعقلية، كما كانت تلك المدارس والمساجد والقصور تلحق بها خزائن الكتب (المكتبات) التي تحتوي على أمّهات الكتب وأنفسها وأوسعها في سائر العلوم. بذلك نرى أن البيئة العلمية المحيطة بالمؤلِّف ساعدته كثيراً في تكوينه العلمي وعلى تحصيل العلم والاجتهاد فيه حتى أصبح من العلماء البارزين الذين كانت لهم التصانيف العديدة المفيدة ونال ثقة الولاة والحكام في تعيينه قاضياً في مدينة قوص ووالياً عليها، خاصّة إذا ما علمنا أن مدينة قوص قد نشطت أثناء الحروب الصليبية حينما استولى الصليبيّون على فلسطين وعلى ثغورها فازداد خطرهم وأصبح الطريق المألوف لحجاج بيت الله الحرام غير مأمون، فأصبحت مدينة قوص من المدن الرئيسة المهمّة التي يمرّ بها حجاج بيت الله القادمين من الأندلس وشمال أفريقيا، فكثرت بها المدارس والمعاهد والمساجد وقصدها العلماء ونزلوا فيها، وبزغ منها علماء في مختلف العلوم، وكثر فيها الأدباء والشعراء؛ لأنّها أصبحت محط رحال الحجيج1. ومن هؤلاء العلماء الذين درسوا العلم ودَرَّسوه في قوص: شمس الدين أبو عبد الله محمّد بن محمود الأصفهاني توفي سنة: 688هـ2، وجلال الدّين أحمد بن عبد الرحمن الكندي الدشنادي توفي بقوص سنة 677هـ3، والقاضي
بهاء الدين القفطي هبة الله بن عبد الله بن سيد الكل، كان قيماً بالمدرسة النجيبية قوص توفي سنة 697هـ1، وتقي الدين بن دقيق العيد محمّد بن عليّ بن وهب القشيري، تفقه على والده بقوص وتفي سنة: 702هـ2، والحسين بن أبي بكر بن عياض بن موسى السبتي القوصي توفي سنة 682هـ3، وغيرهم.
الفصل الثاني: حياة المؤلف
الفصل الثاني: حياة المؤلف ... حياة المؤلِّف إنّ بعض الشّخصيات التّاريخية لا تحظى بما تستحقّه من الاهتمام والدراسة من المؤرخين على الرغم من تميز تلك الشّخصيات بمميزات وصفات عديدة تؤهلهم لذلك. وإنّ المؤلِّف صالح بن الحسين الجعفري من أولئك الذين قَلَّ حظّهم ونصيبهم عند المؤرخين. وقد بذلت ما في وسعي من الجهد والوقت سعياً وراء ترجمة وافية للمؤلِّف في بطون كتب المؤرخّين والتاريخ، وبعد توفيق الله عزوجل وقفت على بعض المصادر التاريخية1 التي ذكرت تاريخ ولادة المؤلِّف، ووفاته وبعض المعلومات المهمة عنه علماً بأن من سبقني إلى دراسة المؤلِّف وآثاره؛ وهو د. محمّد محمد حسانين الذي قام بدراسة شاملة وتحقيق كتاب (الرّدّ على النصارى، لصالح بن الحسين الجعفري) لم يذكر تاريخي ولادة ووفاة المؤلِّف، واكتفى في الترجمة بما في كتاب كشف الظنون لحاجي خليفة وتاريخ الأدب العربي لبروكلمان.
1- اسمه ونسبه: هو صالح بن الحسين بن طلحة بن الحسين بن محمّد بن الحسين الهاشمي الجعفري الزينبي1. ومن المعلوم أن لقب (الهاشمي) نسبة إلى بني هاشم القرشيّين، وأما لقب (الجعفري) فنسبة إلى جعفر بن أبي طالب، الملقب بالطيار وذي الجناحين، شهيد مؤتة رضي الله عنه وينتسب إليه جماعة، منهم أبو الحسن عليّ بن الحسن الجعفري السمرقندي2، ومحمّد بن إسماعيل بن جعفر بن إبراهيم بن محمّد بن عليّ بن عبد الله بن جعفر3، والأمير الكبير الشريف فخر الدين أبو نصر إسماعيل بن حصن الدولة فخر العرب ثعلب بن يعقوب بن مسلم الجعفري الزينبي4، ومحمّد بن الحسن بن العربي بن محمّد الحجوي الجعفري الزينبي5.
وقد سكن الجعافرة بمصر في إسنا1 بالصعيد الأعلى وهم قبائل كثيرة2، ولهم قرية تنسب إليهم3. وكانوا بادية أصحاب شوكة يحالفون الأمويّين المقيمين هنالك4. ويرى الأستاذ عبد الله خورشيد أن الجعافرة عاشوا في مصر منذ القرن الثالث على الأقل وأنهم هاجروا إلى أرض الأشمونيّين في هجرة قريش إلى تلك المنطقة5. وأما لقب (الزينبي) فنسبة إلى بطن من ولد عليّ الزينبي ابن عبد الله الجواد بن جعفر الطيار، نسبة إلى أمّه زينب6 بنت عليّ - رضي الله عنه -، وأمّها فاطمة الزهراء - رضي الله عنها -. 2- كنيته ولقبه: أجمعت المصادر التي ذكرت المؤلِّف على أن كنيته: (أبو البقاء) 7، ولكن لم تذكر تلك المصادر عدد أولاده أو أسماءهم. وقد اشتهر المؤلِّف بلقبين هما: الأوّل: (تقي الدين) ، ذكره اليونيني والذهبي والصفدي.
الثاني: (قاضي قوص) لتوليه القضاء بها مدّة، ذكره الذهبي والصفدي. 3 - ولادته ونشأته: ولد المؤلِّف في سنة إحدى وثمانين وخمسائة من الهجرة النبوية الشريفة1 بمصر، وكانت سنة ولادته في السنة الخامسة عشرة من ولاية السلطان صلاح الدين الأيوبي على مصر، وفيها أيضاً توفيت زوجة السلطان صلاح الدين2. وقد نشأ المؤلِّف في بيت سلالة النبوة والعلم والإمارة، فقد كان لآل جعفر الهاشميّين منزلة رفيعة في الدولة الأيوبية حيث كان منهم الأمراء والقضاء. 4- شيوخه وتلاميذه ومؤلَّفاته: مما لا شكّ فيه أن المؤلِّف قد طلب العلم على عدد من أهل العلم حتّى أصبحت له المكانة العلمية التي تؤهله لتولي القضاء في مدينة قوص التي تعتبر ثاني المدن المصرية أهمية في ذلك الوقت. ثم تولى ولايتها مدّة من الزمن، غير أن المصادر التاريخية لم تذكر لنا شيوخه وتلاميذه سوى ما ذكره الحافظ الذهبي في تاريخ الإسلام فقال: "إن المؤلِّف سمع من عليّ بن البناء3 وغيره وحدَّث ... ، وحدَّث عنه الدمياطي"4.
أما مؤلَّفاته؛ فقد اتّفق أبو الفتح اليونيني مع الحافظ الذهبي على القول بأن للمؤلِّف تصانيف عدّة مفيدة، لكنهما لم يذكرا أسماء مؤلَّفاته، وقد وقفت - بفضل الله عزوجل وتوفيقه - على ثلاثة من مؤلَّفاته المعروفة هي: 1- تخجيل مَن حرّف الإنجيل1. 2- البيان الواضح المشهود من فضائح النصارى واليهود2؛ (كتاب العشر المسائل) . 3- الرّدّ على النصارى3. 5- عقيدته ومذهبه الفقهي: قد يتبادر إلى ذهن القارئ لأوّل وهلة حينما يقرأ اسم المؤلِّف صالح ابن الحسين الجعفري4 أنه ينتمي إلى المذهب الجعفري الإمامي الرافضي، المعروف بمذهب: (الشيعة الاثني عشرية) ، وهذا وهمٌ باطلٌ، فإنّ المؤلِّف صالح بن الحسين الجعفري من أهل السنة على المعنى العام الذي يدخل فيه جميع المنتسبين إلى الإسلام عدا الرافضة، وهذا اصطلاح العامة، (لأنّ الرافضة هم
المشهورون عند العامة بالمخالفة للسنة، فجمهور العامة لا تعرف ضدّ السني إلاّ الرافضي، فإذا قال أحدهم: أنا سني، فإنما معناه لست رافضياً) 1. والأدلة على أنّ المؤلِّف من أهل السنة على هذا المعنى ما يأتي: 1- دعاؤه للصحابة - رضي الله عنهم - في مقدمة كتابه بعد البسملة والحَمْدَلة2، ثم دعاؤه بأن يرضى الله عن الصحابة جميعاً، وإقراره بأنهم أعيان الأمة، وإيراده لحديثين في فضل الصحابة3. 2- استدلاله بالأحاديث التي روواها الصحابة كأبي بكر وعمر وأبي هريرة وغيرهم - رضي الله عنهم - 4. 3- إيراده لمناقب بعض الصحابة كأبي بكر وعمر وأنس وسعد بن أبي وقاص وغيرهم5. 4- ذكره لكرامات أبي بكر وعمر وعليّ والعلاء بن الحضري والبراء بن مالك وعمران بن الحصين وأبي أمامة وابن عباس وغيرهم6 - رضي الله عنهم أجمعين -. 5- إثباته لخلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ - رضي الله عنهم - على الترتيب7.
وقد تقدم بيان أن لقب (الجعفري) نسبة إلى جعفر الطيار رضي الله عنه1. أما على المعنى الأخصّ لأهل السنة - الذي يراد به أهل السنة المحضة الخالصة من البدع، ويخرج به سائر أهل الأهواء والبدع كالخوارج والجهمية والمرجئة والأشاعرة وغيرهم، ويبين ذلك قول الإمام ابن تيمية: "فلفظ أهل السنة يراد به من أثبت خلافة الخلفاء الثلاثة، فيدخل في ذلك جميع الطوائف إلاّ الرافضة، وقد يراد به أهل الحديث والسنة المحضة، فلا يدخل فيه إلاّ من يثبت الصفات لله تعالى، ويقول: إنّ القرآن غير مخلوق وإنّ الله يرى في الآخرة، ويثبت القدر، وغير ذلك من الأصول المعروفة عند أهل الحديث والسنة"2، - فعلى هذا المعنى فإنّ المؤلِّف - غفر الله لنا له - متأثر بمنهج الأشاعرة فيما يبدو لي من خلال كتابه (التخجيل) في بعض المسائل المحدودة التي أشار إليها وهي كالآتي: 1- إثباته سبع صفات لله عزوجل، وهي التي يسمّيها الأشاعرة صفات المعاني3، ثم تأويله لصفات الاستواء، والنُّزُول، والوجه، والعين، واليد، والقدم4. 2- نفيه أن يكون لشيء من أفعال الله تعالى علّة مشتملة على حكمة تقتضي إيجاد الفعل أو عدمه5، وهذا الأصل تسمّيه بعض كتب الأشاعرة بـ: (نفي الغرض عن الله) ويعتبرونه من لوازم التَنْزيه.
3- قوله: (إنّ النُّزُول والصعود والحركة والسكون هي أدلة حدث العالم عند المحقّقين) 1، وهذه طريقة الأشاعرة في الاستدلال على حدث العالم ثم الاستدلال على وجود الله، ويسمّونه (دليل الحدوث والقدم) . ومع ذلك فإنّه لا يجدر بنا أن نسند الرأي إلى الشخص لمجرد أنه ذكره في كتاب له، بل ينبغي أن نعرف أوّلاًَ الظروف التي أحاطت بالمؤلِّف حين ألّف الكتاب الذي نحن بصدده، هل ألّفه لنفسه أو لغيره؟ وتحت أي تأثير عامل من العوامل ألّفه؟ 2. فما هو ظاهر أنّ المؤلِّف - رحمه الله - قد ألّف كتابه في الرّدّ علىاليهود والنصارى خاصّة، فهو يورد أحياناً على الخصوم كثيراً من الاعتراضات والآراء التي لا يرتضيها هو كدليل عقلي يمكن الاستدلال به على ما يريده، ولكن يورده على أنه يجوز أن يعارض بها الخصم ولا يستطيع الخصم أن يدفع معارضته بها، ومقصوده من ذلك أن يبيّن للخصم أن الآراء الباطلة كافية أن يدخض بضها بعضاً. كما يبدو لي أنّ سبب تأثر المؤلِّف - عفا الله عنا وعنه - بمنهج الأشاعرة يرجع إلى نشأته وحياته في كنف الدولة الأيوبية التي كان ملوكها وقضاؤها قد تلقوا العقيدة الأشعرية وحفظوها من أساتذتهم، فحملوا كافة الناس في أيام دولتهم على التزامه في مواجهة المذهب الفاطمي الشيعي، وكان هذا هو السبب في اشتهار مذهب الأشعري وانتشاره في أمصار الإسلام بحيث نسي غيره من المذاهب وجهل3.
وفي ختام الحديث عن عقيدة المؤلِّف - رحمه الله تعالى - نقول كما قال الإمام الذهبي في حقّ المفسّر قتادة بن دعامة الذي كان يرى القدر، قال: "لعلّ الله يعذر أمثاله ممن تلبس ببدعة يريد بها تعظيم الباري وتنْزِيهه، وبذل وسعه، والله حكم عدل لطيف بعباده، ولا يسأل عما يفعل، ثم إنّ الكبير من أئمة العالم إذا كثر صوابه، وعُلم تحريه للحقّ، واتّسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعرف صلاحه وورعه واتّباعه، ويغفر له زلَلُه، ولا نضلله ونطرحه وننسى محاسنه، نعم. ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك"1. أما مذهبه الفقهي فإنّه كان شافعي المذهب فيما يبدو لي، حيث كان مؤسّس الدولة الأيوبية صلاح الدين شافعياً، وعمل على القضاء على الدولة الفاطمية الشيعية، فصرف جميع القضاة الشيعيّين وعين بدلهم قضاة من الشافعية السنيّين وفَوَّض القضاء لصدر الدين عبد الملك بن درباس الشافعي، فلم يستنب عنه في أقاليم مصر إلاّ من كان شافعي المذهب مثله، ومن ثم انتشر المذهب الشافعي في مصر وما تبعها من الأقاليم2. وبقي الأمر كذلك في مصر طوال عهد الأيوبيّين وطرفا من عهد المماليك إلى أن ولي أمر مصر السلطان بيبرس الذي وَلَّى بمصر والقاهرة أربعة قضاة: شافعي ومالكي وحنفي وحنبلي واستمر ذلك من سنة خمس وستين وستمائه3.
6- شخصيته العلمية وثناء العلماء عليه: لقد كان المؤلِّف - رحمه الله - شخصية علمية فذّة متعددة الجوانب وذا ثقافة واسعة متنوعة، يدلّنا على ذلك بعض آثاره العلمية التي وقفت عليها وما ذكره المؤرّخون في ترجمته، وموجز القول في ذلك أنّه كان مُتخصِصاً في العلوم الآتية: 1- علم الفقه وأصوله، يدلّ على ذلك توليه القضاء في مدينة قوص، فإنّ من شرط القاضي أن يكون من أهل الاجتهاد1. 2- علم الأديان وخاصّة اليهودية والنصرانية، ويبدو لنا اهتمام المؤلِّف بهذا العلم وبروزه فيه واشتهار ذلك عنه بين العلماء فيما صَرَّح به المؤلِّف في مقدمة كتابه: (تخجيل مَنْ حرَّف الإنجيل) 2، إضافة إلى بعض مؤلَّفاته التي عثرت عليها وهي: (البيان الواضح المشهود في فضائح النصارى واليهود) ، و (الرّد على النصارى) وقد تقدم الحديث عنها. 3- علم المناظرة والجدل، وهو ظاهر في كتبه السابقة التي تبيّن أنّ المؤلِّف ذو نفس طويل في المناظرة والإقناع، فإذا أراد إثبات مسألة أو نفيها وبيان بطلانها فإنه يأتي بالأدلة النقلية العقلية ويأخذ بمجامع القول والمسألة ويسدّ على خصمه الطريق ويواصل البحث والنقاش من جميع الوجوه والجوانب المحتملة حتّى يلزم الخصم ويفحمه. وقد ذكر لنا المؤلِّف في كتابه: (التخجيل) بعض المناظرات والمجادلات التي جرت بينه وبين أحبار اليهود والنصارى في بيان بطلان ما يعتقدونه3، وهذا
دليل آخر على تمكنه في المناظرة ومقارعة الخصوم. 4- علم الأدب، ويبيّن لنا اهتمام المؤلِّف بالأدب وبروزه فهي أيضاً ما ذكره أبو الفتح اليونيني في ترجمة (بأنه كان أحد الفضلاء العارفين بالأدب وغيره ... وله خطب حسنة ونظم جيد) . وقال فيه الذهبي: "بأنه كان عارفاً بالأدب وله خطب ونظم ونثر ... ". ونقل ذلك عنه صلاح الدين الصفدي في كتابه: (الوافي بالوفيات وأراد أن يضيف على ما نقله من الذهبي بعض الأبيات الشعرية للمؤلِّف إلاّ أنّ النسخة المخطوطة لكتاب الوافي بالوفيات فيها بياض بمقدار خمسة أسطر في المكان الذي ذكرت فيها تلك الأبيات الشعرية1. ومما يدل على سعة اطلاع المؤلِّف على الأدب والشعر استشهاده بالأبيات الشعرية في كتابه: (التخجيل) 2 وكثرة إيراده لها. وقد عثرت على منظومة نثرية للمؤلِّف، تظهر الناحية الأدبية فيه، وهي صيغة يمين مغلظة كتبها المؤلِّف ليحلف بها اليهود والنصارى في الشيء الخطير ونصّها كالآتي: قال المؤلِّف - عفا الله عنه -: "يمين مغلظة يحلف بها النصارى في المال الخطير: يحضر النصراني إلى الكنيس في أوّل الصوم الكبير ويجتمع عليه مشائخ دينه فإن كان ذلك بحضرة الجاثليق3، أو نائبه فهو أولى، ويقال له: قل: والله إله إبراهيم ماسك الكلّ، خالف ما يرى وما لا يرى، صانع كلّ شيء ومتقنه، الرّبّ لا أعبد سواه، ولا أعتقد إلاّ إيّاه ما تستحقّ عليّ شيئاً مما تدعيه على
مقتضى عقدك وموجب شرعك وإلاّ فبرئت من الثالوث وجحدت الأب وكذبت الابن وكفرت بروح القدس، وخلعت دين النصرانية والتزمت دين الحنيفية، وضمخت الهيكل1 بحيضة يهودية، ورفضت مريم وقرنت مع الإسخريوطي2 في جهنم، وقلت إنّ المعمداني3 فيما شهد به ليسوع كذاب، وأنّ المسيح كآدم خلقه الله من تراب، وكفرت بإحياء العازر4 ومجيء الفارقليط5 الآخر، وتبرأت التلاميذ الاثني عشر6، وعلى جزم الثلاثمائة والثمانية عشر، وإن كانت ذمتي لك مشغولة ونيتي في حلفي هذا مدخولة، فكسرت الصلبان ودست برجلي القربان7، وبصقت في وجوه الرهبان عند قولهم: (كرياليصان) 8، واعتقدت أنّ مجمع نقية كفر وفجر، وأن يوسف النجار زنى بأم يسوع وعهر، وإن كنت في إنكاري متأولاً وفي دعوى براءة الذّمّة متقولاً، فعطلت الناقوس ورجعت إلى ملّة اليهود والمجوس، وكسرت صليب الصلبوت، وطبخت به لحم الجمل وأكلته في أوّل الصوم الكبير تحت الهيكل بحضرة الآباء، ونقضت حجارة قمامة9، وبنيت بها بيعة اليهود ومزقت عفارة أم الرّبّ، وشاركت الشّرط في سلب ثيابه، وأحدثت تحت صليبه، وتجمرت بخشبته، وصفعت الجاثليق، وهذه اليمين في عنقي وأعناق عقبي إلى الأبد".
يمين مغلظة يحلف بها اليهود في الشيء الكثير: يحضر اليهود إلى بيعتهم وهو صائم أو في يوم عيدهم ويجمع عليه جمع كبير من شيوخ دينهم وإن كان ذلك بحضرة المثيبة1 أو نائبه فهو أولى، ويقال له: قل: والله الأزلي الذي لم يزل ولا يزال الإله الذي برأ العالم وخلق حواء من آدم، وأرسل ماء الطوفان وتقبل من هابيل القربان، وكلّم موسى من الشجرة ونصره على فرعون والسحرة، وغرف فرعون في بحر سوف، وأهلك قورح ومن معه بالخسوف، ونَجَّى بني إسرائيل بيد القوية وأطعمهم منّاً وسلوى بالبرية، ما يُستحق على شيء من مطلبك على مقتضى مذهبك وإلاّ فرفضت موسى المكلَّم واتّبعت عيسى بن مريم، وإن كان لك في ذمتي مثقال ذرّة ونيتي في حلفي هذا غير برة، فعبدت الصلبان وعظمت الأوثان، وهدمت قبة الزمان2، وبنيت بها دير الرهبان، وكذبت التوراة وصدّقت الإنجيل، وفضلت يسوع الراوي على موسى وشمؤيل، وإن كنت قد جنحت لتأويل في هذه الأقاويل فقذفت مريم النبية3، وانسللت من اليهودية، والتزمت المجوسية وفارقت الملة الإسرائيلية بالكلّيّة، وكفرت بالعشر الآيات4، وبقيت محروماً إلى الممات، وحشرت في اليوم المعلوم بين عامورا وسدوم5، وهذه اليمين في عنقي وأعناق عقبي إلى الأبد". أهـ. قال المؤلِّف: "لا تستبعد منا نظم هذه الكلمات وإلزامهم بها فقد قال الفقهاء من أئمتنا - رضي الله عنهم - إنّ اليهود والنصارى والمجوس - أبعدهم الله -
يغلظ عليهم اليمين بإحضارهم بيوت متعبداتهم عند الحلف، مع أنه لا حرمة لها، وكأن المطلوب من ذلك حمل الذمي على الخروج من الحقّ بتكليفه التلفظ بما يعظم موقعه في قلبه ليكن أدعى إلى حصول المقصود، كما يكلف المسلم حضور المسجد الجامع يوم الجمعة بعد صلاة العصر عند المنبر بحضرة جمع من المسلمين وزيادة ألفاظ معظمة كقوله: الطالب الغالب جل وعلا". ا. هـ1. وقد ظهر لي من خلال ما ذكره الحافظ الذهبي في ترجمة المؤلِّف بأنه سمع من المُحَدِّث عليّ بن البنا، ثم تحديثه للعلامة الدمياطي، ومن خلال كثرة استشهاده واستدلاله بالأحاديث النبوية والآثار في كتابه التخجيل وكتبه الأخرى، أنّ المؤلِّف - رحمه الله - كان له اهتمام كبير وحرص شديد على طلب الحديث وسماعه وروايته. تلك بعض الجوانب العلمية لشخصية المؤلِّف - رحمه الله - التي استعطت إثبات أدلتها، وقد تكون هناك جوانب أخرى نجهلها. فإنّ المؤلِّف بلا شكّ من الشخصيات العلمية المرموقة في عصره، ومن أصحاب المواهب والاهتمامات المختلفة، والله أعلم. أما ثناء العلماء عليه، فقد كان المؤلِّف متخلقاً بأخلاق القاضي العدل والعالم الجاد الوقور، مما دعا المترجمين أن يثنوا عليه ثناءً حسناً، ويكفيه في ذلك شهادة إمامين وعالمين من ثقات المؤرّخين: أوّلهما: الشيخ الإمام العالم بقية السلف2
قطب الدين أبو الفتح موسى بن محمّد اليونيني الذي قال عنه: "صالح بن الحسين، أبو البقاء، تقي الدين، كان أحد الفضلاء العارفين بالأدب وغيره، والرؤساء المذكورين بالفضل والنبل، وتولى قضاء قوص مدّة، ونظرها أيضاً مدّة أخرى ... ". وثانيهما: مؤرّخ الإسلام وشيخ المُحدِّثين والحفاظ الحافظ شمس الدين أبو عبد الله محمّد بن عثمان الذهبي الذي ترجم له بقوله: "صالح بن الحسين، القاضي الجليل، الإمام تقي الدين، أبو البقاء الهاشمي، كان رئيساً نبيلاً عارفاً بالأدب، ولي قضاء قوص مدّة، وله خطب، ونظم، ونثر، وتصانيف، وأبخس نفسه بولاية نظر قوص وفاعل ذلك منقوص ... ". 7- وفاته: عاش المؤلِّف سبعة وثمانين عاماً قضاها في القضاء والولاية والتأليف والدعوة إلى الله، فقد مرّ بنا أنّ ولايته كانت سنة: (581هـ) ، وكانت وفاته سنة: (668هـ) 1 بالقاهرة في مستهل ذي القعدة، ودفن من الغد بسفح المقطم2. رحمه الله تعالى رحمة واسعة.
القسم الأول: الباب الثاني: دراسة الكتاب وبيان منهج التحقيق
القسم الأول: الباب الثاني: دراسة الكتاب وبيان منهج التحقيق الفصل الأول: دراسة الكتاب ... الفصل الأوّل: التّعريف بالكتاب 1- اسم الكتاب: ذكر للكتاب اسمان بينهما اختلاف يسير: الأوّل: (تخجيل مَنْ حرَّف الإنجيل) وقد نصّ عليه المؤلِّف في المقدمة والخاتمة، وكتب على الصفحة الأولى من المخطوطة، كما نصّ عليه أيضاً في مقدمة كتابه: (الرّدّ على النصارى) 1، وذكره أبو الفضل المالكي في مقدمة مختصره المسمَّى: (المنتخب الجليل من تخجيل مَنْ حرَّف الإنجيل) 2، وأورده بهذا الاسم كلّ من حاجي خليفة في كشف الظنون، والبغدادي في هداية العارفين وبروكلمان في تاريخ العربي. الثاني: (تخجيل مَنْ حرَّف التّوراة والإنجيل) ، وقد نصّ عليه المؤلِّف في مقدمة كتابه: (البيان الواضح المشهود من فضائح النصارى واليهود) 3، وقد رجحت هذا الاسم على الاسم السابق واخترته عنواناً للكتاب؛ لأنه يطابق موضوع الكتاب وهو الرّدّ على اليهود والنصارى، ويدلّ عليه دلالة واضحة، إذ إنّ تحريف التوراة ينسب لليهود، وتحريف الإنجيل إلى النصارى، وقد غلب على ظنّه أنّه الاسم الذي ارتضاه المؤلِّف أخيراً لكتابه حيث نصّ عليه في كتابه (البيان الواضح) الذي ألّفه بعد كتاب (التخجيل) ، وفي أيام الشيخوخة كما يفهم منه في المقدمة.
2- توثيق نسبة الكتاب إلى المؤلِّف: إنّ الأدلة التي تثبت صحّة نسبة كتاب التخجيل إلى القاضي صالح ابن الحسين الجعفري، أدلة متنوعة ومتعددة، لا تدع مجالاً للشّكّ في صحة تلك النسبة، ومن تلك الأدلة: 1- تصريح المؤلِّف بتأليفه للكتاب في مقدمة كتبه الأخرى (البيان الواضح المشهود من فضائح النصارى واليهود) ، و (الرّدّ على النصارى) . 2- تأكيد الشيخ أبي الفضل المالكي السعودي صحّة تلك النسبة في مقدمة مختصره للكتاب والمُسمَّى (المنتخب الجليل من تخجيل مَنْ حرَّف الإنجيل) 1. 3- اتّفاق المصادر التي ذكرت المؤلِّف وكتبه على نسبة الكتاب إليه تلك المصادر هي: أ- كشف الظنون 1/379، للعلامة حاجي خليفة. ب- هداية العارفين 5/422، لإسماعيل البغدادي. ج- معجم المؤلِّفين 5/6، لعمر رضا كحالة. د- الأدب الجدلي والدفاعي في اللغة العربية بين المسلمين والنصارى واليهود ص 36، 141، 409، للمستشرق مورتز شتاينشيندر (باللغة الألمانية) . هـ- تاريخ الأدب العربي 1/553، وفي ذيله 1/766، للمستشرق بروكلمان.
يضاف إلى ما سبق ذكر اسم المؤلِّف على الصفحات الأولى لنسخ المخطوطة وتصريح المؤلِّف بتأليفه للكتاب في المقدمة. 3- موضوع الكتاب: لقد بين المؤلِّف موضوع الكتاب بقوله في المقدمة: "كتاب تخجيل مَنْ حرَّف الإنجيل، يتضمن الرّدّ على النصارى واليهود من كتبهم التي بأيديهم"1. قد تحدّث المؤلِّف في مقدمة كتابه عن عدّة أمور منها: 1- سبب تأليف الكتاب. 2-بيان منهجه في التأليف. 3- بيان بعض الفوائد التي اشتمل عليهاالكتاب ومنهافوائد دراسة الأديان. 4- بيان حكم قراءة كتب أهل الكتاب كالتوراة والأناجيل وغيرها. أما موضوعات الكتاب فقد قسمها المؤلِّف في الأبواب الاتية: الباب الأوّل: في كون المسيح عبداً من عبيد الله لقوله وفتواه: وقد ذكر المؤلِّف فيه عشرين دليلاً على عبودية المسيح من أقواله وأفعاله في الأناجيل. الباب الثاني: في إثبات نبوّة المسيح عليه السلام وتحقيق رسالته: وقد صدّره ببيان ضلال اليهود والنصارى في أمر المسيح عليه السلام وأنّ في إثبات نبوّته وتحقيق رسالته ردّاً عليهم وإبطالاً لزعمهم، ثم ذكر اثنين وثلاثين دليلاً من معجزات المسيح وأقواله وأفعاله الشاهدة بنبوّته من الأناجيل.
الباب الثّالث: في تأويل ظواهر الإنجيل: وقد بيّن فيه تفسير الألفاظ التي ضلّ فيها النصارى وهي: الأب، والابن، والإله، والرّبّ، ما تحتمله من المعاني الواردة في التوراة والأناجيل وإيراد الشواهد على ذلك، ثم إبطال ما يدعيه النصارى من اختصاص المسيح بظواهر تلك الألفاظ. الباب الرّابع: في تعريف مواطن التحريف في الأناجيل: وقد ذكر فيه خمسين موضعاً من مواضع التحريف في الأناجيل بدلالة تناقض بعضها ببعض وتعارضه وتكاذبه وتهافته ومصادمته بعضها بعضاً. الباب الخامس: في أنّ المسيح عليه السلام وإن قصد وطلب فما قتل وصلب: افتتحه بذكر رواية الأناجيل في قتل المسيح وصلبه، ثم أبطلها بدليل عام وأبتعه بعشر حجج مفصلة نقلية وعقلية، ثم أورد بعدها عشر مسائل مفحمات للنصارى، ثم أبطل دعاوى للنصارى فيما يقصدون من ادعاء قتل المسيح وصلبه وألوهيته. الباب السّادس: في الأجوبة المسعدة عن أسئلة الملحدة: أجاب المؤلِّف فيه على تسعة عشر سؤالاً واعتراضاً من النصارى على المسلمين، ثم أبطل المؤلِّف سبعة أدلة للنصارى استدلوا بها على ألوهية المسيح من أسفار العهد القديم. الباب السابع: في إفساد دعوى الاتّحاد: وذكره فيه اختلاف فرق النصارى في دعواهم اتّحاد اللاهوت بالناسوت في
المسيح عليه السلام، ثم ردّ على فرقه منها وأبطل دعواها بأدلة عقلية ونقلية، ثم تناول بالرّدّ والإبطال عقيدة التّثليث عند النصارى. - الباب الثّامن: في الإبانة عن تناقض الأمانة: حيث بيّن فيه بطلان ما يسمّيه النصارى بالأمانة بأدلة نقلية وعقلية وأنّها تناقض بعضها بعضاً وتخالفها من خمسة عشر وجهاً. - الباب التّاسع: في إثبات الواضح المشهود من فضائح النصارى واليهود: وقد ذكر فيه ثلاثاًوتسعين فضيحة من فضائح اليهودوالنصارى مأخوذة من كتبهم المقدسة لديهم واعتقاداتهم الباطلة وعباداتهم المنحرفة. - الباب العاشر: في البشائر الإلهية بالعزّة المحمّدية: وقد قسمه المؤلِّف إلى قسمين: الأوّل: ذكر فيه أربعاً وثمانين بشارة من البشارات الواردة في النبي صلى الله عليه وسلم من الكتاب المقدس عند اليهود والنصارى. الثاني: ذكر فيه معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ودلائل نبوّته وما أظهره الله على يد أصحابه وأمّته صلى الله عليه وسلم من الكرامات والآيات البيات. أما خاتمة الكتاب فقد ناقش فيه ادعاء النصارى بأنه لا نبي بعد المسيح وبيّن تكذيب ما بأيديهم لدعواهم. 4- سبب تأليف الكتاب: ذكر المؤلِّف في المقدمة أن سببين قد دفعاه إلى تأليف هذا الكتاب هما: 1- سؤال بعض أهل العلم له أن يؤلِّف كتاباً في الرّدّ على النصارى وبيان
ما هم عليه من الضلال وإزالة الشبهات التي أعانت على ضلالهم، لعلّ ذلك يكون سبباً في هدايتهم. 2-القيام بواجب الدعوة إلى الله عملاً بقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيْلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلُوهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ... } . [سورة النحل، الآية: 125] . ولعلّي أضيف سبباً ثالثاً وهو أنّ الأحداث السياسية التي عاصرها المؤلِّف والبيئة الاجتماعية المحيطة به كان لها دور أيضاً في تأليف هذا الكتاب كما سبق الحديث عنه. 5- زمن تأليف الكتاب: لم يذكر المؤلِّف زمن تأليف هذا الكتاب، إلاّ أنّه ذكر في نهاية المجلد الأوّل من المخطوطة أنّ الفراغ من نسخها كان يوم السبت الثالث من شهر صفر نم سنة سبع وثلاثين وستمائة من الهجرة النّبوّية الشريفة، وقد ظهر لي من مقدمة الكتاب أنه من أوّل مؤلَّفات المؤلِّف - رحمه الله - في هذا العلم، ويؤكّد ذلك تصريح المؤلِّف في مقدمة مؤلَّفاته الأخرى (البيان الواضح) و (الرّدّ على النصارى) باقتباسه من كتابه (التخجيل) واختصار أبوابه فيهما. 6- منهج المؤلِّف في الكتاب: 1- استدل المؤلِّف على كلّ باب في الكتاب بآيات من القرآن الكريم تكون له منهجاً ونبراساً فيما يريد إثباته من القضايا أو نفيها. 2- أنه لم يبدأ في تأليف هذا الكتاب حتّى قرأ التوراة والأناجيل وبقية أسفار العهد القديم والعهد الجديد قراءة متأنية متفحصة عدّة مرات، وكانت طريقته في النقل من تلك الأسفار أن منها ما نقله بنصه، منها ما أوجزه لركاكة نصّه، وقد كان استدلال المؤلِّف بهذه النصوص لإلزام اليهود والنصارى من باب
التسليم لهم بصحة كتبهم المقدسة لديهم، ومن باب التنزيل في الجدال مع الخصم. 3- إنّ موضوع الكتاب الرّدّ على اليهود والنصارى، غير أنّ الرّدّ على النصارى قد استأثر بمعظم أبواب الكتاب نظراً لأنهم كانوا سبب تأليف للكتاب. ويتخلص منهج المؤلِّف في الرّدّ على اليهود بالآتي: أ- إثبات جواز النسخ عقلاً ونقلاً من التوراة وبقية أسفار العهد القديم، وإبطال شبههم في أبدية شريعة التوراة وعدم نسخها من كتبهم المقدسة لديهم. ب- ذكر فرق اليهود واختلاف عقائدهم، وإن كلّ فرقة تضلِّل الأخرى وتبدِّعها وإن من فضائحهم فسادهم وكفرهم بما هو ثابت عنهم في توراتهم وكتبهم المقدسة لديهم. ج- نقد التوراة المحرفة التي بأيدي اليهود والنصارى بأدلة متنوعة هي: 1- ذكر ما فيها من صفات التجسيم والتشبيه والنقائص التي نسبوها إلى الله عزوجل كالتعب والندم والجهل وغيرها. 2- ذكر ما فيها من صفات العيب والنقائص التي نسبوها إلى أنبياء الله عزوجل كالشرك بالله والظلم والغشّ وشرب الخمر والزنا بالمحارم والقتل المحرم وغيرها. 3- بيان ما فيها من التناقض ومخالفة الحقائق التاريخية والعلمية. د- إثبات نبوّة المسيخ عليه السلام بإثبات معجزاته بالطرق التي ثبتت بها معجزات موسى وغيره من الأنبياء.
هـ- إثبات نبوّة النّبيّ محمّد صلى الله عليه وسلم بالبشارات الواردة فيه صلى الله عليه وسلم. أما منهجه في الرّدّ على النصارى فكالآتي: أ- أنه اطلع على كثير من مصنفات النصارى في نصرة دينهم واحتجاجهم لأغاليطهم وما ردّت به كلّ فرقة من الفق الثلاث: الملكية والنسطورية واليعقوبية على الأخرى وما نصرت به مذبها. ثم إنه قرأ عدداً من مؤلَّفات علماء المسلمين في الرّدّ على النصارى وسيأتي بيانها في المصادر التي اعتمد عليها المؤلِّف. ب- اهتم المؤلِّف بنقد أسس العقيدة النصرانية وهي: 1- التّثليث، واتّحاد اللاهوت بالناسوت في المسيح. 2- صلب المسيح تكفيراً عن خطيئة آدم الأزلية. 3- محاسبة المسيح للناس يوم القيامة. 4- شريعة إيمان النصارى (قانون الأمانة) المشتملة على الأسس السابقة والتي لا يعتبر الإنسان نصرانياً دون الإقرار بها. وكانت طريقته في الاستدلال بالأدلة النقلية كالآتي: 1- ذكر النصوص الدالة على عبودية ونبوة المسيح عليه السلام من الأناجيل وما يتبعها من أسفار العهد الجديد. 2- إيراد النصوص المصرحة بوحدانية الله عزوجل، ونفي التعدد والشريك عنه تعالى من أسفار العهد القديم والجديد. 3- مقارنة معجزات المسيح عليه السلام في الأناجيل بمعجزات من سبقوه
من الأنبياء في أسفار العهد القديم، وأنّ هذه المعجزات دليل نبوته وليست دليلاً على ألوهيته كما يزعم النصارى. 4- ذكر النصوص الأناجيل الدالة على نجاة المسيح من القتل والصلب، وأنّ المصلوب هو مَنْ أُلقي عليه شبه المسيح. 5- ذكر نصوص الأناجيل التي غلط النصارى في فهمها وفي نسبة المسيح إلى الألوهية، والاستدلال على تفسيرها بنصوص أسفار العهد القديم والعهد الجديد. 6- نقد الأناجيل المحرفة ببيان انقطاع سندها وعدم تواتر رواتها، ثم ببيان مواطن التناقض والتكاذب والتهافت في الأناجيل ومصادقة بعضها بعضاً. كما بيّن المؤلِّف بالأدلة العقلية استحالة العقائد النصرانية وعدم معقوليتها ورفض العقل الصحيح والفطرة السليمة لها، ومخالفتها للواقع المعاين المحسوس لأمر المسيح، وتناقضها مع الأناجيل. كما ناقش المؤلِّف أدلة النصارى وشبهاتهم حول ألوهية المسيح وبنوته لله، وبَيَّن بطلان ما استدلوا به وأوضح الحقّ الذي يجب أن يعتقدوه. ج- تطرق المؤلِّف إلى نقد بعض شعائر النصارى وعبادتهم كالقربان المقدس، والاعتراف بالذنوب للقسيس، وصلواتهم وما يتعلق بها كالقبلة والطهارة والقراءة فيها، والصوم، والأعياد، والسجود للصور والتماثيل، وعدم الختان، والحجّ، وتعظيم الصليب وأكل لحم الخنْزِير. د- ذكر فضائح القسيسين ومخاريق رهبانهم وما يروجونه من الحيل على ضعفاء النصارى ليقووا به واهي أباطيلهم.
هـ- ذكر فرق النصارى واختلاف عقائدهم وتكفير كلّ فرقة منهم الأخرى، وذكر ما ردت به كلّ فرقة على الأخرى في دعواهم اتّحاد اللاهوت بالناسوت في المسيح، ليكون أبلغ في بيان الفساد والباطل الذي هم عليه. 4- اهتم المؤلِّف بالغاً بدلائل نبوّة نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم، حيث إنّ المقصود من كتابه دعوة اليهود والنصارى إلى الإسلام بعد بيان بطلان عقائدهم وكتبهم. لذلك استطرد في ذكر البشارات الواردة في النّبيّ صلى الله عليه وسلم في التوراة والأناجيل وبقية أسفار العهد القديم والجديد، ثم ذكر بعض المعجزات الكثيرة للنّبيّ صلى الله عليه وسلم والإرهاصات التي بشِّرت ببعثته صلى الله عليه وسلم والكرامات التي كانت لأصحابه صلى الله عليه وسلم وأمّته من بعده صلى الله عليه وسلم. وقد كان ذلك بمثابة خاتمة الكتاب والنتيجة الحتمية التي يتوصل إليها كلّ منصف عاقل من اليهود والنصارى بعد قراءة الأبواب السابقة من الكتاب. 5- وخلاصة القول في منهج المؤلِّف أنه جمع مناهج من سبقه من علماء المسلمين في الرّدّ على اليهود والنصارى ويتركز في الآتي: أ- المنهج التفسيري: الذي يقوم على افتراض صحة الأناجيل، ثم تفسير الألفاظ التي زلّ فيها النصارى وبيان ما تحتمله من المعاني الصحيحة بشواهد من الأناجيل والتوراة وغيرها. ب- منهج المحدِّثين: الذي يستند على نقد السند والمتن أيضاً، وبيان ما فيها من التهافت والتناقض والتكاذب. ج- المنهج العقلي: الذي يبيّن استحالة عقائد النصارى وعدم معقوليتها وتناقضها.
7- مصادر الكتاب: لقد كان المؤلِّف من القلائل الذين ذكروا بعض مصادرهم وذلك من المميّزات العديدة التي تسجل للمؤلِّف - رحمه الله -، على الرغم من أنه لم يحدد المواضع التي نقلها من تلك المصادر إلاّ نادراً، كما كانت عادة المؤلِّفين المتقدمين، وتنقسم المصادر التي ذكرها المؤلِّف أو أشار إليها من خلال كتابه إلى قسمين رئيسين هما: مصادر شفهية، ومصادر كتابية. أما المصادر الشفهية: فهي التي سجل المؤلِّف معلوماته عن طريق المشافهة بالسؤال أو المناظرة لأحبار اليهود والنصارى ومن أمثلة ذلك: - قال المؤلِّف: "سألت حبراً من أحبار اليهود عن هذا المزمور (يقصد النصّ الوارد في مزمور داود وهو: "قال الرّبّ لربِّ"، قال: (قال الرّبّ لربّي) تفسيره عندنا بالعبرانية: "قال الرّبّ لوليّي"، قال: "والرّبّ"، عندنا يطلق على المعظَّم في الدين، ثم تلا قول إبراهيم ولوط الذي حكيناه". أهـ. - وقال المؤلِّف: "سألت حَبْراً من أحبار اليهود عن قوله داود: "ثقبوا يدي" بالمزمور، فأجابني بنحو ما ذكرته في الوجه الأوّل على الفور من غير توقف، فتعجبت من اتّفاقه لنصّ ما عندهم". أهـ. - قال المؤلِّف: "لقد فاوضني بعض الرهبان ممن يدعي بناناً في البيان فأفضى الحديث معه إلى ذكر الابن والبنوة، فألزمته قول التوراة: "ابني بكري"، وقلت له: لعلّ البكر يكون أحظى عند والده بطريف بره وتالده، فما تقول في بنوة إسرائيل، فقال: إسرائيل وغيره ابن النعمة والمسيح ابن على الحقيقة، فعكست عليه كلامه، فتلبد واختزى ولجأ إلى ضعف العبارة لا واختزى". أهـ.
ويلاحظ على هذه المصادر عدم ذكر المؤلِّف لأسماء من سألهم أو ناظرهم من الأحبار والرهبان أو ذكر رتبتهم الدينية خاصّة، وأنّ أولئك الأحبار لا بدّ أن يكونوا من رؤساء أهل ملتهم وممن يحتج بقولهم نظراً إلى مكانة المؤلِّف العلمية والاجتماعية. وأما المصادر الكتابية: فمما هو معلوم أن القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة من المصادر العامّة التي لا يستغني كلّ مسلم عن الرجوع إليهما في جمع أموره العلمية والعملية. وأما المصادر الأخرى الخاصّة فقد ذكر المؤلِّف في مقدمة المخطوطة بعض مصادره الأساسية في مجال الرّدّ على اليهود والنصارى، وذكر بعضها خلال كتابه، وبعضها الآخر مما لم يصرح به المؤلِّف ولكن وقفت عليها عن طريق مقارنة النصوص في الكتب الأخرى. المصادر التي ذكرها المؤلِّف في مقدمة المخطوطة فهي: قال المؤلِّف: "كتاب تخجيل مَنْ حرَّف الإنجيل، يتضمن الرّدّ على النصارى واليهود من كتبهم التي بأيديهم كتوراة موسى الخمسة الأسفار، والأربعة الأناجيل متَّى، ومرقس، ولوقا، ويوحنا، ومزامير داود، ونبوة أشعيا، ونبوة هوشاع، ونبوة ميخا، ونبوة حبقوق، ونبوة دانيال، ورسائل فولس الرسول، وسفر الملوك وسير التلاميذ"1. قال مؤلِّفه - عفا الله عنه -: "وقد وقفت على كثير من مصنفاتهم وتواليفهم في نصرة دينهم، واحتجاجهم لأغاليطهم، وما ردّت به كلّ فرقة من الفرق الثلاث: الملكية والنسطورية واليعقوبية على الأخرى وما نصرت به مذهبها وقرأت عدّة
ردود لأصحابنا عليهم مثل: كتاب الرهاي1، وكتاب عمرو بن بحر الجاحظ2، وكتاب عبد الجبار المعتزلي3، ومقالة أبي بكر4، وكلام الجويني5، وكتاب لبعض المغاربة6، وكتاب لابن الطيب7، وكتاب للطرطوشي8، وكتاب لابن عوف9.
وكتاب الدمياطي1، وكتاب لعض معاصرينا2، ثم نظرت جزءاً من كتاب لابن ربن من المتقدمين3، وأرجو أن يكون هذا المختصر - إن شاء الله- قد جمع شتاتهم واستدرك ما فاتهم، والله الموفِّق بحمده"4.أهـ. وأما المصادر الكتابية التي أشار إليها المؤلِّف ضمن كتابه فهي: 1- بعض أسفار العهد القديم التي قد تقدم ذكر بعضها وهي: سفر صفنيا، وسفر زكريا، وسفر أرميا، وسفر حزقيال. 2- بعض الأناجيل غير المعتمدة عند النصارى وهي: إنجيل الصبوة ويسمّى (إنجيل بطرس) 5، ونسخ أخرى للأناجيل. 3- كتاب (الملل والنحل) لأبي الفتح محمّد بن عبد الكريم الشهرستاني. وأما المصادر التي وقفت عليها عن طريق مقارنة نصوص الكتاب في الكتب الأخرى فهي:
1- كتاب (الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم) للقاضي عياض بن موسى اليحصبي (توفي سنة: 544هـ) . وقد تبيّن لي أنّ المؤلِّف قد اعتمد على كتاب الشفا اعتماداً كلّيّاً، حيث نقل الباب الرابع مع القسم الأوّل من كتاب الشفا وهو: "فيما أظهره الله على يديه (النبيّ محمّد صلى الله عليه وسلم) من الآيات والمعجزات وشرَّفه به من الخصائص والكرامات وفيه ثلاثون فصلاً" نقله المؤلِّف في القسم الثاني من الباب العاشر من كتابه نقلاً حرفياً مع حذف واختصار بعض الأحاديث الواردة فيه1. 2- كتاب (حلية الأولياء وطبقات الأصفياء) - للحافظ أبي نعيم الأصفهاني توفي سنة 430هـ. 3- كتاب (صفة الصفوة) للإمام جمال الدين أبي الفرج ابن الجوزي توفي سنة 597هـ، وقد استفاد المؤلِّف من هذين المصدرين في نهاية الباب العاشر في ذكر ما أظهره الله على يد أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأمّته من الكرامات والآيات البيّنات. 8- قيمة الكتاب العلمية: إن من مواصفات الكتاب العلمية البارز أن يحوز على ثناء العلماء واهتمام المتخصصين منهم باختصاره أو بالاعتماد عليه في كتبهم ومؤلَّفاتهم، أو بالإشارة إليه والنقل منه، وأن يحرص العلماء والأمراء على اقتنائه وقرائته. وإنّ الكتاب الذي بين أيدينا قد جمع - بحمد الله - تلك الصفات السابقة، مما يؤكِّد قيمته العلمية والعالية والبارزة، وإليكم الأدلة على ذلك:
أوّلاً: لقد سجّل لنا المؤلِّف مدى تأثير كتابه عند العلماء ومدى اهتمامهم به في مقدمة كتابه: "البيان الواضح المشهود من فضائح النصارى واليهود) الذي يعتبر اختصاراً لكتاب (التخجيل) فقال: "وعمدت إلى تكابي الملقَّب بـ: (تخجيل مَنْ حرَّف التوراة والإنجيل) وهو كتاب وضعته في أيام الشباب والنشاط، وجودة القريحة والانبساط فأكب على نقله علماء أهل الفسطاط واغتبطوا به غاية الاغتباط، ولا شكّ أنّ علماءنا - أيّدهم الله - يردّون عليهم بالحجج العقلية والطرق الكلامية، وعقول النصارى قاصرة عن المعقول مائلة إلى المنقول، وكنت قد طالعت التوراة الخمسة الأسفار والأناجيل الأربعة وإنجيل الصبوة ومزامير داود المائة وخمسين مزموراً ورسائل فولوس وسير التلاميذ ونبوات الأنبياء الأوّل والأمانة التي ألفها قدماؤهم، وقرأت كتب اليعاقبة والروم والنسطور، وتلوت عليهم من كتبهم وخاطبتهم باصطلاحهم، فجاء الكتب ندرة في فنّه، غاية في باب لا يسمع به أمير أو مأمور إلاّ حصله واقتناه وبلغ من مناظرة أهل الكتاب مناه، فجردت منه عشر مسائل مسألة من كلّ باب من أبواب الكتاب ... "1 الخ. اهـ. ثانياً: إنّ مما يؤكِّد كلام المؤلِّف في اهتمام العلماء بكتابه اعتماد الإمام أحمد بن إدريس القرافي (توفي سنة 684هـ) في كتابه (الأجوبة الفاخرة في الرّدّ على الأسئلة الفاجرة) 2، اعتماداً مباشراً عليه، فقد نقل منه نصوصاً كثيرةً جدّاً بحيث يشبه
أن يكون اختصاراً له، ولى الرغم من أن الإمام القرافي لم يصرِّح بنقله من كتاب التخجيل، إلاّ أنّ ذلك يبدو واضحاً بمقارنة النصوص1. ثالثاً: اختصره الشيخ أبو الفضل المالكي السعودي بعنوان: (المنتخب الجليل من تخجيل مَنْ حرَّف الإنجيل) 2، وقد فرغ من اختصاره في شوال سنة 942هـ، إلاّ أنّ أبا الفضل المالكي قد حشا مختصره بمخاريق الصوفية وخزعبلاتهم3، وخرافاتهم. رابعاً: نقل منه محمّد بن عبد القادر الشهير بابن الصلف المحلي المالكي في كتابه: (المنقذ من الضلالة الشاهد لمحمّد وعيسى - عليهما الصلاة السلام - بالرسالة) 4. خامساً: اعتمد عليه الشيخ رحمة الله الهندي (المتوفى سنة: 1308هـ) في مناظرته
الكبرى مع القسيس فندر في بلدة أكبر آباد بالهند1، واستشهد فيها بثلاثة نصوص من كتاب التخجيل من الباب الثاني والتاسع2. كما نقل منه الشيخ رحمة الله الهندي في كتابه القيم: (إظهار الحقّ) 3 الذي يعتبر من خير ما ألّف في العصر الحديث في الرّدّ على النصارى وافتراءاتهم، وأصبح من المراجع التي لا يستغني عنها أي باحث في الرّدّ على اليهود والنصارى4. وإن قراءة الشيخ - رحمه الله - الهندي لكتاب التخجيل ونقله منه ليدل دلالة قوية على مدى أهمية كتاب التخجيل وقيمته العلمية الكبيرة. ويوجهنا ذلك إلى إبراز بعض مميّزات كتاب التخجيل وهي: أ- حسن ترتيبه لأبواب الكتاب وتناسقها. ب- اعتماده في مجادلة أهل الكتاب على ما جاء في كتبهم المقدسة لديهم وفي كتب فرقهم وأحبارهم ليكون أبلغ في الحجّة وأفحم للخصم.
ج- إحاطته بالموضوع وشموليته في إبطال أهمّ العقائد الباطلة لأهل الكتاب. د- قوّة مناقشته وكثرة استدلالاته وتنوعها، وطول نفسه في المناظرة. هـ بساطة أسلوب الكتاب وسلاسته. تلك أبرز المميّزات في نظري. والله أعلم. 9- المآخذ على الكتاب: لقد تبيّن لنا مما سبق قيمة الكتاب العلمية الكبيرة ومكانته البارزة بين كتب الرد على اليهود والنصارى بما يروي الغليل ويشفي العليل ويثلج صدور قوم مؤمنين، ومع ذلك فإنّ كلّ إنسان يؤخذ من كلامه ويُرَدُّ إلاّ الأنبياء والمرسلين، وإنّ المؤلِّف مع سعة علمه لم يخل كتابه هذا من بعض المآخذ التي ارتأيتها - رغم قصر باعي وقلة اطلاعي - ومنها: 1- التكلف في السجع-في بعض المواطن وخاصة في خطبة الكتاب-الذي يؤدّي إلى غموض المعنى وصعوبة فهمه. (ر: ص:89-92) . 2- التكرار لبعض المسائل والقضايا الواردة فيه، مثال ذلك:
3- إيراد بعض الأحاديث والآثار الموضوعة والضعيفة دون بيانها، مع أنّ في الأحاديث والآثار الصحيحة التي أوردها المؤلِّف ما يغني عنها، (ر: ص: 733، 766، 767، 773، 821، وغيرها) . 4- ذكر بعض البشارات التي فيها تكلف ظاهر لإثباتها في نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم. (ر: ص: 665، 678، 679، 687، 688، 697) . 5- عدم ذكر المؤلِّف لكتاب (الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم - للقاضي عياض -) من بين المصادر التي اعتمد عليها، مع أنّه قد نقل من كتاب الشفا جزءاً كبيراً كما سبق بيانه.
الفصل الثاني: التعريف بالمخطوطة وبيان منهج التحقيق
الفصل الثّاني: التّعريف بالمخطوطة وبيان منهج التّحقيق أوّلاً: وصف المخطوطة: لقد بذلت ما وسعي من الجهد في سبيل جمع نسخ المخطوطة حسب ما يقتضيه التحقيق العلمي، فاطلعت على معظم فهارس المخطوطات الموجودة بمكتبات العالم، وسافرت إلى تركيا ومصر، وراسلت مكتبة المخطوطات بجامعة لندن بهولندا، ومكتبة المتحف البريطاني بلندن وغيرهما من المكتبات، وقد كانت نتيجة تلك الجهود - بعد عون الله عزوجل وتوفيقه - ما يأتي: 1- وقفت على نسخة خطيةكاملةللكتاب مكونةمن مجلدين كبيرين في مكتبة السليمانية بتركيا، وهي نسخة فريدة حصلت على ميكروفيلم لها، وقدكتبت هذه النسخة بخط نسخ واضح، ولم يذكر الناسخ اسمه عليها. وأما تاريخ نسخها، فقد كتب في نهاية المجلد الأوّل أنّ الناسخ انتهى من النسخ في يوم السبت في شهر صفر من سنة 637هـ. وكتب في نهاية المجلد الثاني عبارة: "نظر فيه مؤلِّفه صالح بن الحسين عفا الله عنه برحمته". مميّزات النسخة: تتميّز بأنها نسخة كاملة كتبت في عصر المؤلِّف وقرأت عليه وراجعها1، كما تتميّز أيضاً بقلة الأخطاء وندرة السقط فيها، ووجود التصحيحات والتعليقات واستدراك النقص على الهامش. إنّ تلك المميّزات تجعلها بحقّ النسخة الأم أو الأصل التي يسعى للحصول عليها كلّ باحث في مجال التحقيق، وقد رمزت لها بالرمز (ص) ووصفها
كالآتي: أ- وصف المجلد الأوّل: هو نسخة خطية موجودة بمكتبة رئيس الكتاب مصطفى باشا تحت رقم (6) بمكتبة السليمانية، وتحتوى على مقدمة الكتاب إلى منتصف الباب السادس منه. عدد الأوراق والأسطر: تتكون من (184) ، ورقة، وتحتوي كلّ صفحة منها على (17) سطراً في المتوسط، ويتراوح عدد الكلمات في السطر الواحد ما بين 7-9 كلمات تقريباً. وصف الصفحة الأولى والأخيرة: كتب على الصفحة الأولى ما يأتي: "الجزء الأوّل من تخجيل مَنْ حرَّف الإنجيل - تصنيف الشيخ الفقيه الإمام الفاضل تقي الدين صالح - وفقه الله لما يرضيه برحمته"، وعليها ختم مكتبة رئيس الكتاب مصطفى، وكتب في أعلى الصفحة العبارة الآتية: "من كتب العبد ويسما سنة 1021هـ". وأما الصفحة الأخيرة فقد كتب في نهايتها: "ولله الحمد والمنّة، تَمَّ الجزء الأوّل ويتلوه الجزء الثاني من كتاب تخجيل مَنْ حرّف الإنجيل، ووافق الفراغ منه في يوم السبت في شهر صفر الثالث من سنة سبع وثلاثين وستمائة". ب- وصف المجلد الثاني: هو نسخة خطية بمكتبة دماد إبراهيم باشا تحت رقم: (4) ، بمكتبة السليمانية، وتشتمل على منتصف الباب السادس - من حيث ما انتهى إليه المجلد الأوّل - إلى خاتمة الكتاب. عدد الأوراق والأسطر: تتكون من (188) ورقة، وعدد الأسطر فيها (17) سطراً في المتوسط، وعدد الكلمات في السطر الواحد ما بين 7-9 كلمات تقريباً. ووصف الصفحة الأولى والأخيرة: لم يكتب على الصفحة الأولى اسم الكتاب
والمؤلِّف، وإنما كتب في أعلاها عبارة: "من كتب العبد ويسما سنة 1020هـ) . وفي منتصفها ختم مكتبة دماد إبراهيم باشا. وأما الصفحة الأخيرة من الكتاب فقد كتب فيها: "والله أعلم وأحكم نجز الكتاب الملقب بتخجيل مَنْ حرَّف الإنجيل. ولله الحمد. رحم الله من قرأه ودعا لمؤلِّفه بالرحمة والرضوان وكاتبه وجميع المسلمين. وصلى الله على محمّد وآله وسلم". وكتب على الصفحة الأخيرة من المجلد الثاني (ورقة 188/أ) العبارة الآتية: "تَمَّ الكتاب وحسبي الله وبه التوفيق برحمته، وصلواته على خير خلقه سيدنا محمّد وآله وسلم تسليماً كثيراً. الحمد لله وحده". وكتب فيها أيضاً ما نصُّه: "نظر فيه مؤلِّفه صالح بن الحسين - عفا الله عنه برحمته - ". وكتب تحته الاسم الآتي: "ذو النون المصري رضي الله عنه". ثم كتب في أسفل الصفحة دعاء نصّه: "لك سجدت الحيتان في البحار الزاخرات، ولعظمتك اضطربت الأمواج في البحار والمتلاطمات، وبقدرتك قامت السماوات العاليات، ولهيبتك تدكدكت الجبال الراسيات، لك سجد سواد الليل وضياء النهار والنجم الزهار والبحر الزخار وكلّ شيء عندك بمقدار، لبيك أنت الله المتكبّر. تَمَّ الدعاء والحمد لله وصلى الله وسلم". اهـ. 2- وقفت على نسخة خطية للمجلد الثاني من المخطوط في مكتبة عارف حكمت تحت رقم: (130توحيد) بالمدينة المنورة وتوجد لها مصورة ميكروفيلم بمكتبة المخطوطات بالجامعة الإسلاميّة تحت رقم: (6188) . وتشتمل هذه النسخة الناقصة على منتصف الباب السادس من الكتاب إلى نهايته، وفي ظني أنها نسخة منقولة عن المجلد الثاني بمكتبة دمار إبراهيم باشا
التي تقدم وصفها، وقد رمزت لهذه النسخة بالرمز: (م) في المقابلة على النسخة الكاملة. اسم الناسخ وتاريخ النسخ: كتب فيها أن اسم الناسخ: فضل الله، دون ذكر بقية نسبه، وقد كتبت النسخة بخط نسخ جميل، وانتهى من نسخها في العاشر من شهر ذي الحجة سنة 1177هـ. عدد الأوراق والأسطر: عدد أوراق هذه النسخة (121) ، ورقة، وعدد الأسطر في الصفحة الواحدة (17) سطراً، ويتراوح عدد الكلمات في السطر الواحد ما بين 10-14 كلمة تقريباً. وصف الصفحة الأولى والأخيرة: كتب في منتصف الصفحة الأولى عبارة: "رد فرق النصارى"، وفي أعلاها عبارة: "من كُتُب الفقير مصطفى بهجت - رئيس الأطباء السلطاني". وأما الصفحة الأخيرة فقد كتب فيها عبارة: "تَمَّ الكتاب بعناية الملك الوهّاب من نسخة مؤلِّفه وهو الشيخ صالح بن الحسين عفا الله عنه برحمته ورضوانه، في عاشر ذي الحجة سنة 1177هـ". 3- حصلت على ميكروفيلم لثلاث مخطوطات، اثنتان منها مختصرتان من كتاب التخجيل للمؤلِّف نفسه، والأخرى لأبي الفضل المالكي السعودي، وقد رجعت إلى هذه المخطوطات لتأكيد قراءة نص في النسخة الأصلية أو إكمال بعض السقط فيها، وقد أشرت في الهامش إلى ذلك، ولم أضع رموزاً لهذه المخطوطات نظراً لقلة اعتمادي عليها ووضوح النسخة الأصلية، وهذه المخطوطات هي: أ- نسخة خطية لكتاب "البيان الواضح المشهود من فضائح النصارى
واليهود - للمؤلِّف نفسه) وتسمّى أيضاً بكتاب: (العشر المسائل) توجد في المتحف البريطاني بلندن ضمن مجموع يحمل رقم: (أ. د. د 16661) ، ولم يذكر الناسخ اسمه عليها ولا تاريخ النسخ، وقد كتبت بخط نسخ جميل، وعدد أوراقها (74) ورقة، في كل صفحة منها 18 سطراً، في كل سطر منها ما بين 6-9 كلمات تقريباً. ب- نسخة خطية لكتاب (الرّدّ على النصارى - للمؤلّف نفسه) في مكتبة مسجد أيا صوفيا تحت رقم: 2246م، وتقع في (115) ورقة، في كل صفحة منها ما بين 11-12 سطراً، وفي كل سطر ما بين 6-7 كلمات، وقد كتبت بخط نسخ جميل جداً، ولم يذكر الناسخ اسمه عليها ولا تاريخ النسخ. ج- نسخة خطية لكتاب (المنتخب الجليل من تخجيل مَنْ حرَّف الإنجيل - لأبي الفضل المالكي السعودي) في مكتبة أحمد الثالث تحت رقم: (1765) بتركيا، وتوجد مصورة ميكروفيلم عنها بمكتبة مركز البحث العلمي، تحت رقم: (68/15 عقيدة) بجامعة أم القرى، وقد نسخها إسماعيل بن محمّد الزرقاني الحنفي المصري بخط نسخ جميل، وانتهى من نسخها عام 989هـ، وتقع في (134) ورقة، في كل صفحة منها 19 سطراً تقريباً. وقد طبعت هذه النسخة في مكتبة الحلبي بمصر بدون تحقيق. ومما تجدر الإشارة إليه أنّ ناسخ المخطوطة الفريدة الكاملة الأولى - التي رمزتُ إليها بالرمز (ص) - كان ناسخاً عادياً، لم تكن له ثقافة واسعة ورفيعة، مما أدى به إلى الوقوع في الكثير من الأخطاء النحوية واللغوية والإملائية، وكان يرسم بعض الكلمات رسماً دون إدراك أو فهم لمعناها، إضافة إلى صعوبة قراءة خطِّه في بعض المواضع، مما أرهقني كثيراً في قراءة المخطوطة.
ثانياً: منهجي في التحقيق: يتلخص عملي في تحقيق الكتاب بالأمور الآتية: 1- ضبط النّصّ وتقويمه، وذلك بتصحيح ما اعتراه من تصحيف أو تحريف، وإكمال ما سقط منه، وإضافة ما يقتضي السياق إضافته، واعتمدت في ذلك على مقابلة النسخ الناقصة للنسخة الفريدة الكاملة، وعلى مخطوطات الكتب الأخرى للمؤلِّف، وهي الرّدّ على النصارى والبيان الواضح المشهود من فضائح النصارى واليهود، وعلى مختصر الكتاب المسمّى: (المنتخب الجليل من تخجيل مَنْ حرَّف الإنجيل) لأبي الفضل المالكي السعودي، وعلى كتاب الشفا للقاضي عياض، وعلى المصادر الأخرى التي نقل منها المؤلِّف في كتابه. 2- عزوت الآيات القرآنية الكريمة إلى سور القرآن الكريم مُبيِّناً اسم السورة ورقم الآية. 3- خرَّجتُ الأحاديث النبوية الشريفة من مظانِّها في كتب السنة المطهرة، فإن كان الحديث في الصحيحين اكتفيت بالعزو إليهما وقد أزيد عليهما، وإن كان في غيرهما عزوته إلى مظاّنه ما أمكن، وأجتهد في النقل عمن تكلم على إسناده من العلماء، وإن لم أجد اجتهدت في بيان رأيي في إسناده بالنظر في تراجم رجال الإسناد إلاّ في القليل منها. 4- عزوت الآثارإلى مظانِّها من الكتب الحديثية أوالتأريخية أو التراجم. 5- عزوت نصوص التوراة والأناجيل وبقية أسفار العهد القديم والجديد إلى مصادرها مُوَضِّحاً رقم الإصحاح والفقرة، مُشيراً إلى اختلاف النصوص في النسخة الحالية للكتاب المقدس عند اليهود والنصارى وبين النسخة التي كانت بين يدي المؤلِّف.
6- ترجمت للأعلام والأماكن الواردة في الكتاب، مشيراً إلى مصادر الترجمة باختصار. أما أعلام الصحابة - رضي الله عنهم - فلم أترجم للمشهورين منهم، ولكني قد أشير إلى عدد الأحاديث المروية لهم في كتب السنة معتمداً في ذلك على مقدمة مسند الإمام بقي بن مخلد - بتحقيق د. أكرم ضياء العمري، وأما مَنْ عَدَا المشهورين من الصحابة ومن اختلف في صحبته فإني أجتهد في ترجمته ترجمة مختصرة. 7- ترجمت الأديان والفرق الواردة في الكتاب، مشيراً إلى مصادر الترجمة بإيجاز. 8- رقمت الأدلة والشواهد التي أوردها المؤلِّف. 9- شرحت المفردات اللغوية التي بدت لي غريبة، والمصطلحات اليهودية والنصرانية شرحاً واضحاً. 10- نسبت الأبيات الشعرية إلى قائلها وعزوت ما أمكن منها إلى مظانّها من دواوين الشعر وكتب اللغة إلاّ في القليل منها. 11- علقت على بعض فقرات الكتاب لاستكمال جوانب البحث، مراعياً عدم الإكثار من التعليقات نظراً لضخامة حجم الكتاب. 12- صحَّحت الأخطاء النحوية والكتابية المخالفة لقواعد الكتابة والإملاء الحديثة. 13- بيَّنت في خاتمة البحث أهمّ النتائج التي توصلت إليها والصعوبات التي عانيتها في البحث والتوصيات التي ارتأيتها. 14- وضعت في نهاية البحث جملة من الفهارس التي تسهِّل على القارئ الوصول إلى ما يريده من الكتاب بأسرع السبل وأسهلها وهي:
أ- فهرس الآيات القرآنية. ب- فهرس الأحاديث الشريفعة. ج- فهرس الآثار. د- فهرس نصوص أسفار العهد القديم والجديد. هـ فهرس الأبيات الشعرية. وفهرس الأعلام. ز- فهرس الأماكن. ح- فهرس الأديان والفِرق. ط- فهرس المصادر والمراجع. ي- فهرس الموضوعات. ثالثاً: المصطلحات والرموز المستخدمة في التحقيق: ص: نسخة الأصل. ش: تعليقات على هامش نسخة الأصل. م: نسخة مكتبة عارف حكمت بالمدينة المنورة المجلد الثاني. [] : ما بين المعقوفتين من إضافات المحقِّق وزياداته على النصّ. توجد رموز وأرقام وسط المتن تشير إلى ما يقابلها من نسخة المخطوطة فمثلاً:
القاموس: القاموس المحيط (قاموس لغوي) . قاموس: قاموس الكتاب المقدس. فتح: صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري للحافظ ابن حجر. ر: راجع أو انظر.
القسم الثاني: خطبة الكتاب
القسم الثاني: خطبة الكتاب ... خطبة الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد الذي لا يتكثر بالأعداد، الماجد1 الذي لا تضارعه الأشكال والأنداد، المقدس عن الشريك والصاحبة والأولاد، المنَزَّه الذات والصفات عما يقول أهلُ الإلحاد، الصمد المتعالي عن الأكل والشرب كما اعتقد من حاد، القديم2 لا بِكُرور العصور ومرور الدهور والآباد، العظيم لا بِكبر أجسام وأجساد، القيوم الذي لو نام فشا في الكون الفساد، خالق الآباء والأبناء والأزواج والأحفاد، سامك السماء بالملائكة الكرام وماسك الأرض بالأطواد، مظلم الليل ومضيء النهار ومفجِّر الأنهار من الصلد الجماد، مقدِّر الأقوات
ومدبِّر الأوقات الانتقاص والازدياد، مالك السماوات والأرض وواهب الرفع / (1/3/أ) والخفض والبسط والقبض الملك الجواد، مرسل أنبيائه بلطائف أنبائه لإرشاد العباد، مهلك كسرى1 وقيصر2 وتبع3وحمير4 وعاد5 وشداد6، واهب موسى النصر والعون وخاذل فرعون ذي الأوتاد7، جاعل بنَ مريم
وأمَّه آية للعالم وما هما بأعجب من حواء وآدم، فتعسا لعباد الأنداد، ضلّوا بالمشي على الماء، وصعود السماء وإحياء الموتى وتكثير الأزواد، هذا موسى قد فلق وإدريس قد صعد وإلياس قد أحيا من أنتن وداد1، ولم يكونوا أرباباً بذلك، فكيف يغلط فيما هنالك لولا الشقاء والعناد؟!. أحمده على ما أسدى وأفاد، وأمدحه على ما أبدى وأعاد، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له شهادة تضمن للصدر الثَّلَج، وكلمة تعصم المهج بأوفى الدَّرَج2 وأقوى الحجج، وأشهد أنّ محمّداً عبده الذي نصّ عليه موسى، ونبيّه الذي طرق بين يديه عيسى، وصفيه الذي أخدمه جبريل، ونجيّه الذي رسمه في التوراة والإنجيل، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة/ (1/3/ب) تزيدهم تبجيلاً إلى تبجيل وتخلد جيلاً بعد جيل. قال من عفا الله له3 عن ذنبه وحباه بحبّه: "حضرت محفلا تحفَّل بالمعارف [أخلافه] 4 وتكفَّلبالعوارف5 [أُلاَّفُه] 6، فأذاعوا مزائد الفوائد وأعادوا ودائع العوائد وأفاضوا في العلوم الدينية، وأضافوا إلى ذلك ذكر الأمة النصرانية
فتعجب مَنْ حضر كيف زلت بهم القدم، حتى اعتقدوا اتّحاد العَدَم بالقِدَم؟ ومن أين قادهم الخبيث إلى القول بالتثليث وروَّج عليهم المحال، فدانوا بعبادة الرجال؟ واستعبدوا أن يعتقد لبيب أن الإله يصلب على صليب، أو يستقرّ في الأحلام أن تشتمل على القديم الأرحام!!!. فقلت: إن من المستحيل أن يضلّ السالك مع وجود الدليل، وعيسى عليه السلام فهو خِرِّيت1 عارف بالطريق، وله من ربّه تعالى أوفى رفيق، وقد شهد له المصطفى - وهو المُزكَّى المعدَّل - بأنه بلغ عن الله، ولم يبدِّل، قال ربّنا جلّ اسمه حكاية عنه: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُم وَكُنْتُ عَلَيْهُم شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِم ... } . [سورة المائدة، الآية: 117] . لكن ربما خلف من بعده خُلُوف2 كالخلوف3 واستعوص4/ (1/4/أ) عليهم كلامه فتناولوا بأيدي التحريف الحروف، وأتاهم العدوّ من قبل الألفاظ فغلظهم وجرأهم على الكفر بإجرائها على الظاهر فورطهم. ومعلوم أنّ كلّ تنْزِيل [لا يخلو] 5 عن جملة من الظواهر لعرض التأويل يضلّ بها الجاهلون وما يعقلها إلاّ العالمون.
وهذا كما هفا1 قوم في لفظ الاستواء2 والنُّزُول إلى سماء الدنيا3 ولفظ الوجه4 والعين5 واليد6 والقدم7 وغير ذلك فحملوا الأمر في هذه
التّسميات على ما يبتدر إلى أفهامالعوام1 فزلوا. وإذا كان النصارى إنما أتوا2 من قبل الألفاظ وعدم الحفَّاظ فيتعين على من له دُرْبة3 بهذا الشأن حل إشكالهم وفكّ الشبهات التي أعانت على ضلالهم، فزعم الجماعة أني عارف بكتبهم خبير بمخاريقهم وكذبهم دَريّ بمرادهم بالجوهر والأقنوم، دَرِب بالفَرق بين فِرَق النسطور واليعاقبة والروم، وقالوا: لو أَنرتَ لَمعا تكون على الحق علما فرب كلمة واحدة تهدي أمماً، فأجبتهم لوجوب حقّهم ورجوت الحيا4 عند رميض برقهم، واستخرت الله تعالى وشجعت جنانا جبانا وأطلقت من ضعيف / (1/4/ب) العناية ودأبت5 في تحصيل ما لم أقف عليه من كتب القوم ولم أجتز6 بما كان في يدي منها حتى استكملت
التوراة1 الخمسة الأسفار
ونبوة داود1، ونبوة
أشعيا1، ونبوة ميخا2، ونبوة حبقوق3،
ونبوة صفنيا1، ونبوة زكريا2، ونبوة أرميا3، ونبوة حزقيال4،
ونبوة دانيال12، والأناجيل
الأربعة1، ورسائل
التلاميذ المعروف
بفراكسيس1، ورسائل فولس2 الرسول وصلوات النصارى وشريعة إيمانهم
الملقبة بالأمانة وسير الحواريّين، فقلبتها ظهراً لبطن دفعات، فإذا ظواهرها مأولة، وكلماتها على غير النحو الذي صار إليه أربابها منْزِلة. فأجدت في تأويل ما أجراه النصارى على الظاهر، وبينت بالدليل من التوراة والنبوات والإنجيل غلط الكافر، بعد أن قدرت صحّة كتبهم وإن كانت سقيمة وسلمت وجودها وإن كانت في حكم العديمة، وأظهرت من كتبهم فساد معتقدهم وكشفت ما أخفوه من بشارة الأنبياء عليهم السلام بمحمّد صلى الله عليه وسلم، وأكذبتهم فيما نسبوه إلى المسيح صلى الله عليه وسلم من نقائص ورذائل / (1/5/أ) يجل قدره عنها، وأوضحت أن ما جاء به من الخوارق والمعجزات قد سبقه بها من تقدمه من إخوانه الأنبياء، ونبهت على إنكاره قول من غلا فيه ونسبه إلى ما لا
يليق من الربوبية، وأكذبت اليهود في تخرصهم عليه وعلى والدته العذراء البتول بما حققت من معجزاته. وأديت تناقض الأناجيل الأربعة التي بأيدي النصارى وتكَاذُبَها وفضائح القسيسين ومخاريق الرهبان وما أحدثه النصارى بعد المسيح عليه السلام في صلواتهم ومتعبداتهم [وروجوا] 1 به من المدكات2 والمخاريق على ضعفائهم ليقووا به واهي أباطيلهم، وبينت بالأدلة الواضحة تناقض شريعة إيمانهم التي يزعمون أنه لا يتمّ لهم حرب ولا سلم ولا عيد ولا قربان إلاّ بها ومجانبتها لما كان عليه المسيح عليه السلام وتلاميذه، وأفسدت عليهم ما أجمعوا عليه من القول بالثالوث بما أبديته من التوحيد المحفوظ عن المسيح وأصحابه وأبديت عوار صلواتهم الثمانية3 وما اشتملت عليه من الكفر والضلال وعبادة غير الله تعالى، وأوضحت زللهم فيما صاروا إليه من قتل / (1/5/ب) المسيح وبينت من الإنجيل أن المفعول به ذلك غير المسيح تحقيقاً لقوله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُم} . [سورة النساء، الآية: 157] . فاشتمل الكتاب على فوائد منها: رسوخ الإيمان للمسلم بموافقة ما في أيديهم للكتاب العزيز كما نبه عليه قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} . [سورة الشعراء، الآية: 196] . وقوله: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى} 4. [سورة الأعلى، الآية: 19] . وقوله: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُم فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} . [سورة الأعراف، الآية: 157] . وكثرة الأدلة توجب
الطمأنينة وتثلج الصدور. ومنها: تعلم الحجّة عليهم من كتبهم وإلزامهم على مقتضى أصولهم وذلك أفحم لهم. ومنها: قصد إرشادهم ببيان احتمال الألفاظ التي اقتضت غلطهم، فعسى الله أن يقدر هداية بعضهم، ونحن مأمورون بدعائهم إلى سبيل ربنا بالحكمة والموعظة الحسنة1. ومنها: الوقوف على سرّ قول نبيّنا عليه السلام وقد رأى في يد بعض أصحابه صحيفة من كتبهم فغضب عليه السلام وقال له: "ألقها فوالله جئتكم بها بيضاء نقية"2.
وأنت - رحمك الله - إذا شاهدت ما انطوت عليه كتب القوم من التكرار / (1/6/أ) والتطويل واشتمال اللفظ الكثير على المعنى القليل وضرب الأمثال بالكلمات الركيكة السوقية عرفت سرّ قوله عليه السلام: "لقد جئتكم بها بيضاء نقية" إلى غير ذلك كما يوضحه الكشف. فإن قيل: كيف استجزت النظر إلى هذه الكتب وصحبتها محظورة والأمّة بالنظر فيها غير مأمورة، وقد نهى الصحابي عنها وبحر منقوله عجاج وبنية معقولة مركبة من أعدل مزاج؟ قلنا: المحظور هو النظر فيها على وجه التعظيم والتفخيم وإجراؤها على ظواهرها الموهمة لاسيما للعامي الغر والحدث الغمر، فأما من نظر فيها على المقصد الذي قصدته والنحو الذي أردته وأوردته فهو إن شاء الله من أمهات القربات. فأما نهيه عليه السلام الصحابي عن ذلك فلأن الأمر كان في ابتدائه والشرك بعد لم يمت بدائه1، فلعل رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى أن غير ذلك أولى بالصحابة في ذلك الوقت، ولأن الصحابة - رضوان الله عليهم - هم أعيان الأمّة فلو أكبوا على تلك الكتب المبدلة والصحف المحرفة لا شكّ / (1/6/ب) أن يتابعهم الناس في ذلك وقد قال عليه السلام لأصحابه: "إنكم أئمة يقتدى بكم"2.
وقال أصحابي كالنجوم ... "1. فلهذا نهى الصحابي وندبه إلى الاشتغال بالكتاب العزيز بقوله: "لقد جئتكم بها بيضاء نقية". قلت: وقد ذكر الفقهاء تردداً في جواز استصحاب هذه الكتب للوقوف عليها وتوجيه وجوه الرد إليها، وبالجملة فالأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى2، والحكمة ضالة المؤمن حيث وجدها خطبها،3 ومطية تنهج سواء السبيل بمن ركبها، وربنا المسؤول أن يصحح منا المقاصد ويبعث رائد التوفيق فيقف لنا بالمراصد4.
وقد كنت وقفت لجماعة من العلماء على عدة كتب في الباب وأرجو ألاّ يكون هذا المختصر مقصراً عن شأوهم وقد سمَّيته: (تخجيل مَنْ حَرَّفَ الإنجيل) ورتّبته في عشرة أبواب. والله الموفِّق للصواب. الباب الأوّل: في كون المسيح عبداً من عبيد الله بقوله وفتواه لقول ربنا جلّ اسمه حكاية / (1/7/أ) عنه: {قَالَ إِنَّي عَبْدُ اللهِ ... } 1. {إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} . [سورة الزخرف، الآية: 59] .
{لَنْ يَسْتَنْكِفَ المَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ ... } . [سورة النساء، الآية: 172] . ونظائرها. الباب الثّاني: في إثبات نبوة المسي عليه السلام وتحقيق رسالته نذكر فيه من أقوال المسيح وأفعاله ما يشهد له بالنبوة والرسالة ويخصم اليهود في افترائهم عليه وعلى والدته لقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ الله إِلِيكُم ... } . [سورة الصف، الآية: 6] . وقوله: {آتَانِيَ الكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً ... } . [سورة مريم، الآية: 30] . ونظائرها. الباب الثّالث: في تأويل ظواهر الإنجيل نبدأ بعون الله تأويل لفظ الأب والابن والإله والرب والسجود والغفران وغير ذلك ومساوة المسيح غيره من أنبياء الله تعالى وأصفيائه لقوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَه ... } . [سورة المؤمنون، الآية: 41] . {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَم} . [سورة المائدة، الآية: 17، والآية 72] . {وَلاَ تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ انْتَهُوا خَيراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} . [سورة النساء، الآية: 171] . ونظائرها. الباب الرّابع: في تعريف مواضع التحريف نحكي فيه تكاذيب الأناجيل الأربعة التي بأيدي النصارى يومنا هذا1 وتناقضها / (1/7/ب) بحيث يقطع من وقف على ذلك أنه ليس الإنجيل المنَزَّل من الله ليتحقق قوله تعالى: {يُحَرِّفُونَ الكَلْمَ عِن
مَوَاضِعِهِ} . [سورة النساء، الآية: 46، والمائدة، الآية: 13] . {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تَبْدُونَهَا وَتَخْفُونَ كَثِيراً} . [سورة الأنعام، الآية: 94] . {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالهُدَى} . [سورة البقرة، الآية: 159] . {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} . [سورة آل عمران، الآية: 77] . ونظائرها. الباب الخامس: في بيان أنّ المسيح وإن قصد وطلب فما قتل وما صلب نذكر فيه حماية الله تعالى نبيّه المسيح عيسى بن مريم من أعدائه، واشتباه أمره على اليهود الذين أرادوا قتله ووقوع شبهه على رجل سواه شغلوا به عنه فقتلوا ذلك الرجل وصلبوه ورفع الله نبيّه المسيح ليتحقق قوله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ... } . الآية، [سورة النساء، الآية: 157] . ونظائرها. الباب السّادس: في الأجوبة المسعدة عن الأسئلة الملحدة نسطر أسئلة عبثوا بالسؤال عنها ونشفعها بالجواب لينتفع بذلك من أحبّ مكالمتهم عملاً بقول ربنا جل اسمه: {إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ ... } . / (1/8/أ) . [سورة محمّد، الآية: 7] . {وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} . [سورة الحجّ، الآية: 40] . {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَونَ ... } . [سورة آل عمران، الآية: 139] . ونظائرها.
الباب السّابع: إفساد دعوى الاتّحاد، نحكي فيه مقالات فرقهم في اتّحاد اللاهوت بالناسوت وتناقض الروم والنسطور واليعاقبة، ثم نعكر على الجميع بالإبطال ليتضح قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ... } . [سورة المائدة، الآية: 72] . {لَقَدْ كَفَرَ الَّّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ ... } . [سورة المائدة، الآية: 73] . ونظائرها. الباب الثّامن: في الإبانة عن تناقض الأمانة، نبيّن فيه فساد أمانتهم التي يلقبونها بشريعة إيمانهم ويسمّونها التسبيحة، وهي التي لا يتم لهم عيد ولا قربان بدونها، وكيف أكذب بعضها بعضاً وناقضه وعارضه، وأنه لا أصل لها في شرع المسيح البته، وإنما ألفها قوم من بعده بدهر طويل، قال ربنا تعالى: {يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِيْنِكُم غَيْرَ الحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَومٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ} . [سورة المائدة، الآية: 77] . ونظائرها / (1/8/ب) . الباب التّاسع: في الوضع المعهود من فضائح النصارى واليهود، نذكر فيه حيل القسيسين ومخاريق الرهبان ومدكاته وما يقرؤونه في صلواتهم الثمانية من السخف والهذيان وما افتراه اليهود على أنبياء الله الأبرار وصفوته الأطهار مما ذلك مزبور مسطور في توراتهم، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ ... } . [سورة التوبة، الآية: 34] . وقال: {اتَّخَذُوا
أَحْبَارَهُم وَرُهبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ والمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً ... } . [سورة التوبة، الآية: 31] . ونظائرها. الباب العاشر: في البشائر الإلهية بالتسمية المحمّدية، نذكر في هذا الباب ما اشتملت عليه التوراة والإنجيل ونبوات الأنبياء من البشرى بسيِّدنا محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم والتنصيص على اسمه وأرضه التي يبعث منها وبلده ودينه وملته وأنه خاتم الأنبياء، وأنّ أمته خير أمةٍ وملته أفضل ملة وأن / (1/9/أ) شريعته تدوم إلى قيام القيامة ليتحقق قول ربنا تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُم فِي التَّورَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُم عَنِ المُنْكَرِ وَيَحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ ... } . [سورة الأعراف، الآية: 157] . ونظائرها. فصل: أعلم أنّ الكتاب الذي بأيدي النصارى اليوم ليس هو إنجيلاً واحداً1 بل أربعة أناجيل: إنجيل مَتَّى - وهو من الاثني عشر حوارياً2، كتبه بالعبراني
بفلسطين، وكتبه بعد صعود المسيح إلى السماء بثمان سنين1. وإنجيل مرقس - هو من السبعين كتبه بالرومية، بالروم بعد صعود المسيح إلى السماء باثنتي
عشرة سنة1. وإنجيل لوقا - وهو من السبعين، كتبه باليونانية بالإسكندرية2. وإنجيل يوحنا - وهو من الاثني
عشر [حوراياً] 1 كتبه باليونانية، بمدينة2 أفسس بعد صعود المسيح بثلاثين سنة3.
وعدة هذه الأناجيل تسعة آلاف واثنان وستون آية1. وعدة فرخس2 أربعة ألف ومائة وتسع وأربعين آية. وعدة كتاب فولوس3 ستة آلف وأربع مائة وإحدى وسبعون آية / (1/9/ب) وقد ذكر أن لهم إنجيلاً خامساً ولم أقف عليه، وذكر لي بعض النصارى أنه يسمى إنجيل الصبورة ذكر فيه الأشياء التي صدرت من المسيح عليه السلام في حال طفوليته4.
الباب الأول: في كون المسيح عبدا من عبيد الله بقوله وفتواه
الباب الأوّل: في كون المسيح عبداً من عبيد الله بقوله وفتواه ولندل على ذلك من كتبهم كما شرطنا في صدر الكتاب: 1- قال متى الحواري في الفصل الثامن من إنجيله: "قال الله في نبوة أشعيا - يعني المسيح - هذا1 فتاي الذي اصطفيت وحبيبي الذي ارتاحت له نفسي أنا واضع روحي عليه ويدعو إلى الحقّ"2. قلت: سمّاه الله عبداً مصطفى على لسان أشعيا وابتعثه مأموراً بدعوة الأمم أسوة غيره من الأنبياء، أورد ذلك متى في معرض الاسشتهاد على أهل العناد3 حيث نسبه الفُجَّار إلى يوسف النجار4، فقد تضافر الإنجيل ومحكم التنْزيل على عبودية عيسى وجعله داعياً للأمم كداود وموسى.
والفتى هو العبد والخادم لا الولد، والدليل عليه من التوراة في السفر الأوّل منها قول موسى: "ولما بلغ إبراهيم / (1/10/أ) أن الملوك أغاروا على سدّوم وسبوا لوطا بن أخي إبراهيم عَبَّأَ فتيانه وعددتهم ثلثمائة وثمانية عشر رجلاً، وسار في طلب العدوّ واستنقذ لوطا وماشيته وجميع ماله"1. ومعلوم أن إبراهيم الخليل عليه السلام لم يكن له يؤمئذ هذه العدة من الأولاد فمن ادعى ذلك أكذبه أهل الكتابين، فقد شهد موسى عليه السلام أن الفتى هو العبد أو الخادم. وقال موسى في السفر الرابع من التوراة ما هو أجلى من ذلك قصة بلعام2 بن بعور وهو: "أن بالاق3 بن صفوري الملك أرسل إلى بلعام ليلعن
له بني إسرائيل ويدعو عليهم فأجابه بعد مفاوضات وسار إليه راكباً أتانه ومعه فتيان من مماليكه"1. فقد شهدت التوراة أن الفتى هو العبد والمملوك لا كما تخرصه متأخرو النصارى في حمل هذه اللفظة على الولد. والدليل على أن لفظ الفتى ليس موضوعاً للولد قول الإنجيل "إن المسيح بعد قيامه وقبل رفعه مَرَّ على جماعة من تلاميذه وهم يصيدون السمك فقال: يا فتيان هل عندكم من طعام؟ فأطعموه جزءاً من حوت وشيئاً من شهد العسل"2. فقد وضح أن لفظة الفتى ليس / (1/10/ب) فيها مستروح للنصارى فيما يرومونه من النبوة بل هي لا تستعمل إلاّ فيما قلناه، وقد قال ربنا جل اسمه: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ ... } . [سورة الكهف، الآية: 60] . يعنى خادمه يوشع3، وقال سبحانه: { ... مِنْ فَتَيَاتِكُمُ المُؤْمِنَاتِ ... } . [سورة النساء، الآية: 25] .
وقال نبيّنا صلى الله عليه وسلم: "لا يقل أحدكم عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتاتي"1. فقوله تعالى في نبوة أشعيا (هذا فتاي) مكذب للنصارى في دعواهم ربويبة المسيح وألوهيته، إذا أضافه سبحانه إلى نفسه إضافة الملك. فقال جل من قائل2: هذا فتاي وحبيبي أنا أفعل به كذا وكذا، وهذا تصريح من متي الحواري بأن المسيح ليس هو وأن الله ليس هو المسيح وأن الله قائل والمسيح مقول له، وأ، الله مُعْطِ ومُنْعِم وأن المسيح مُعْطَى ومُنْعَم عليه، وأنه فتى من فتيان بني آدم، وأن الله مالكه، وأنه عبد وأن الله سيده. وقد روى النصارى في الإصحاح السابع والأربعين من إنجيل مارقس: "أنه بينا بطرس في الدار ينظر الغابه إذ جاءت فتاة من جواري رئيس الكهنة فنمت عليه ورأته [أخرى] 3 فذكرت مثل ذلك"4.
فهذا تصريح منهم أن الفتى هو اعبد / (1/11/أ) والفتاة هي الجارية، فكيف يحملون ذلك على غير محمله وهذه التوراة والإنجيل تكذبهم وتخطئهم وتصرح بالرّدّ عليهم. وقد حكى لوقا أيضاً في إنجيله: "أن مريم عليها السلام لما رأت أم يوحنا قالت لها وهي تثني على الله: إن الله أنزل الأقوياء عن الكراسي ورفع المتوضعين وأشبع الجياع من الخيرات ورد الأغنياء صفراً وعضد إسرائيل فتاه"1. يريد عبده، وعبودية إسرائيل متفق عليها، وذلك يهدم ما تعلقوا به من حمل الفتى على الولد، وفي ذلك رد على النصارى وتشويش لأمانتهم وإفساد لصلواتهم وتكذيب لمشائخ دينهم إذ يقرؤون في صلاة الساعة الأولى من صلواتهم "المسيح الإله الصالح الطويل الروح الكثير الرحمة الداعي الكل إلى الخلاص". ويقرؤون في صلاة السَّحر: "تعالوا بنا نسجد للمسيح إلهنا". ويقرؤون في صلاة الساعة الثّالثة: "يا والدة الإله مريم العذراء افتحي لنا أبواب الرحمة"2. ويقرؤون في أمانتهم وتسبيحة دينهم: "المسيح الإله الحق الذي بيده أتقنت العوالم وخلق كلّ شيء". وينقلون عن مشائخ دينهم وعلماء أهل ملتهم مثل أفريم3 / (1/11/ب) وغيره قوله: إن اليدين التي جبلت طينة آدم هي التي سُمِّرت على الصليب، وأن
الشبر التي مسحت السماوات هي التي سمرت على الخشبة، وأن من لا يقول إن مريم ولدت الله فهو بعيد عن ولاية الله". وذلك كله باطل وزور وإفك وبهتان بقول متى حواري المسيح عن الله: "هذا فتاي الذي اصطفيت"، أَهْمْ - وَيْلَهُم - أعلم بالمسيح من تلميذه متى وسائر أصحابه الذين عاصروه وشاهدوه فليس فيهم من ينتحل هذا الهذيان الذي صار إليه المتأخرون من النصارى. وإذا قال أشعيا النبيّ عليه السلام: "إن المسيح مضاف إلى الله فقد عُلِمَ وعُرف أن ما سوى الله تعالى فهو عَبْدُه وخلقٌ من خلقه، وكون المسيح حبيباً من أحبابه وفتى من فتيانه لا يخرجه ذلك عن العبودية، وقد دلّلنا من التوراة والإنجيل على أن الفتى هو العبد والخادم فلا التفات بعد ذلك إلى جهلة النصارى. 2- وقد صرح فولس فصيح النصارى ومفسرهم بأن المسيح عبد مخلوق فقال في الرسالة الثانية عشرة: "انظروا إلى هذا الرسول رئيس أحبارنا يسوع المؤتمن عند من خلقه مثل موسى في / (1/12/أ) جميع أحواله غير أنه أفضل من موسى"1. فأي بيان وأي تصريح أوضح من شهادة فولس بأن المسيح مخلوق وأنه مؤتمن عند خالقه تعالى؟!. 3- دليل آخر على عبودية المسيح من قوله وفعله قال متى: "جاء يسوع المسيح إلى يوحنا المعمداني من الأردن إلى الجليل ليتعمد على يده، فقال حين رآه: هذا الذي قلت إنه يجيء بعدي وهو أقوى مني وأنا لا أستحق أن [أحل معقد] 2 خُفِّه ثم قال للمسيح: إني لمحتاج أن أتعمد منك، فقال يسوع: دع الآن هذا فإنه ينبغي لي أن أكمل لك البر فتولَّه. فتعمد المسيح"3.
قلت: هذا المسيح عليه السلام متقيد بالعبادات، متطوق عهده التكاليف، ملتزم وظائف الخدمة، قائم بما يجب ليوحنا من الحُرْمَة، مساوٍ في تعمده وتعبده سائر الأمة، فكيف تعتقد فيه الربويبة والألوهية وهو يتعمد1 من عبد من عبيده ليكمل بِرَّه؟! وهل يفتقر إلى التكميل إلاّ ناقص ويدعى إلى فعل الجميل إلاّ من هو عنه ناكص؟! والتكليف عبارة عن التزام ما فيه كلفة، ورُتْبَة المُوجِب فوق رتبة الموجَب عليه، فالتزام المسيح وظائف العبادة دليل على / (1/12/ب) عبوديته، وقد صرح يحيى المعمداني بعبودية المسيح قولاً وفعلاً. أما تصريحه قولاً فإذ يقول: "إن المسيح أقوى منه، والتفضيل إنما يكون بين فاضلين رجح أحدهما على الآخر، ولا يحسن التفضيل بين الإله والآدمي. وأما تصريحه فعلاً فتعميده للمسيح أسوة أمثاله من الناس، وكيف يحسن من نبي الله يحيى بن زكريا أن يجهل ربه فلا يعرفه حقّ معرفته فيعامله معاملة المخلوقين والعبيد المربويبن؟! وإن كان قد عرفه فهلا نصح لعباده، وأرشدهم إلى معرفة بارئهم، وقام خطيباً في الناس حين رأى المسيح، وقال: اعلموا أن الله تعالى قد رحمكم وتجشهم لخلاصكم وجاء إليكم لينقذكم من الخطية ويفيكم من أعدائكم وها هو هذا الذي جاء ليتعمد مني، كما يعتقده النصارى يومنا هذا. وحاشى ابن زكريا عن أمثال هذه الترهات. فإن قيل: إنما تعمّد وتعبّد ليعلم الناس العبادة إذ ليس المتابعة في الأقوال مثل المتابعة في الأفعال. فنقول: أو لم يكن الناس يعرفون العبادة قبل مجيء المسيح / (1/13/أ) فما زادهم على أن قال: تعلموا العبادة يا من هم بها عالمون، فصار ذلك مكن يقول لحاسب
ماهر: اعلم أن خمسة وخمسة عشرة سواء. ثم هذا السؤال ينْزل منْزلة من يدعي أنه إنما جاء ليعلم الناس الأمور الناسوتية من الأكل والشرب والنوم وأمثاله وذلك لا يقوله لبيب، فتعمده وتعبده عليه السلام دليل ظاهر على عبوديته، فمن عذيري من قوم دُفعنا معهم إلى أن يستدل على أن الله القديم الأزلي ليس بآدمي يأكل ويشرب ويجيء ويذهب ويسترح ويتعب. فإن قيل: فقد قال متي في تمام هذا الكلام: "إن يسوع لما تعمد وخرج من الماء انفتحت له أبواب السماء ونظر روح الله جاءت إليه في شبه حمامة وإذا صوت من السماء قائلاً: هذا ابني الحبيب الذي سُرَّت نفسي"1. وذلك دليل على ما ينتحله النصارى من بنوته وألوهيته. قلنا: أوّلاً: لا نسلم صحة هذا النقل لضعفه والدليل على ضعفه ووهاه أن صدور مثل هذه الآية العظيمة الآتية عند التعميد واجتماع الغَويّ والرشيد سبيلها أن تشتهر وتنتشر / (1/13/ب) بحيث ينقلها الجم الغفير والخلق الكثير، فلما لم ينقلها غير واحد2 تبيّنّا بطلان ذلك وكذب ناقله، على أنّا لو سلما ذلك فليس فيه مستروح
للنصارى فيما يرمونه؛ لأن بفتح السماء وسماع النداء ونزول الروح الذي هو الملك كل ذلك من المعجزات الدالة على صحة النبوات، ولا غرو أن يأتي المسيح بخارق قاطع لشغب اليهود نازل منْزلة قول الله: صدق عبدي، فأما الروح [1] فتارة يكون جبريل، [2] وتارة يكون مَلَكاً غيره يقوم يوم القيامة صفاً وحده وسائر الملائكة صفاً آخر [3] وتارة يكون بمعنى الشيطان [4] وتارة يكون عبارة عن العلم والحكمة. [5] وتارة يكون عبارة عن روح الآدمي. [6] وتارة يكون كناية عن سرّ الشيء ولبه. [7] وتارة يكون بمعنى الوحي فهذه عدة محامل. والدليل على الأوّل: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِيْنُ عَلَى قَلْبِكَ ... } . [سورة الشعراء، الآية: 193] . وفي الإنجيل: (روح القدس تحل عليك) 1. يقول لمريم. والدليل على الثاني: {يَومَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالمَلاَئِكَةُ صَفّاً} . [سورة النبأ، الآية: 38] 2. والدليل على الثالث: قول الإنجيل: "إن المسيح أبرأ الناس من الأرواح
النجسة فخلصوا"1. والدليل / (1/14/أ) على الرابع: قول التوراة لموسى: "يصنع لك قبة الزمان بصلئيل الذي ملأته روح الحكمة والعلم"2 والدليل على الخامس: { ... وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ... } . [سورة الإسراء، الآية: 85] . والدليل على السادس: قول القائل: هذا روح المسألة، أي: سِرُّها ولُبُّها. والدليل على السابع: {وَكَذَلِك أَوْحَيْنَا إِلَيكَ رُوحَنَا مِنْ أَمْرِنَا} . [سورة الشورى، الآية: 52] . {يُنَزِّلُ المَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ... } . [سورة النحل، الآية: 2] . وقول المعمداني: "إن روح الله نظرها جاءت إليه". يريد المَلَك الآتي في صورة طائر واختصاصه بالحمام، لأنه ميمون غير متشائم به، ونسبتها إلى الله بنسبة مِلْك كقولهم في التوراة: "أن موسى رجل الله"3، و"العصا التي يبده قضيب الله"4، و"وقبة الأمد التي بنيت في التيه، خباء الله"5، و"أورشليم التي هي البيت المقدس بيت الله"6، فكذلك قول مَتَّى: (ونظر روح الله جاء إليه"، يريد مَلَك الله. والدليل على مساواة المسيح غيره في هذه الروح والتأييد بها قول لوقا في إنجيله: "قال يسوع لتلاميذه: إن أباكم السماوي يعطي ورح القدس للذين
يسألونه"1. والدليل عليه من / (1/14/ب) التوراة قول الله لموسى: "اختر سبعين من قومك حتى أفيض عليهم من الروح التي عليك، فيحملوا عنك ثقل هذا الشعب. ففعل موسى فأفاض عليهم من روحه فتنبؤا لساعتهم"2. وفي التوراة أيضاً في حقّ يوسف الصديق: "يقول الملك: هل رأيتم مثل هذا الفتى الذي روح الله حال فيه"3. والدليل عليه من نبوة دانيال: "أن روح الله حلت على دانيال"4. وفي التوراة أيضاً: "أن موسى لما توفي امتلأ يوشع خادمه من روح القدس؛ لأن موسى كان قد وضع يده على رأسه"5. فقد استوت الحال بين المسيح وبين من ذكرنا في تشريفه بهذه الروح، وقد قال الله في الكتاب العزيز في حقّ إخواننا من المسلمين: {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحِ مِنْهُ} . [سورة المجادلة، الآية: 22] . فما أجاب النصارى به عن حلول الروح على هؤلاء فهو جواب لنا عن حلوله على من يَّدعونه. فإن تجاهلوا وقالوا: الروح الآتي إلى من عدا المسيح هي الملك والعلم والحكمة، والروح الآتي إلى المسيح هي حياة الله. قلنا لهم: الويل لكم إن كان ما تقولون فقد صار ذاتاً ميتة لا روح / (1/15/أ) فيها، وإذا كان قد صار ذاتاً خالية من الحياة، فكيف يقولون: إنه قال: هذا عبدي وهذا ابني؟ فقد آل ما تدعون إلى نفي ما تدّعون.
ثم نقول لهم: بم تنكرون على من يزعم أن الروح الآتي والنداء ليس هو لعيسى بل هي لأستاذه الذي عَمَّده هو يحيى بن زكريا؟! لأنه بشهادة الإنجيل أفضل منه إذ هو الذي امتلأ من روح القدس وهو جنين في بطن أمه ثم نشأ سيداً وحصوراً1. وقد قلتم في إنجيلكم: "إن يوحنا هذا لا يأكل ولا يشرب ولا يتناول خمراً ولا مسكراً2 ولا يلبس سوى جلود الحيوان3 وأنه انتهض قبل المسيح إلى الدعاء إلى الله وعمد الخلق حتى عمَّد المسيح فيمن عمد. فأما المسيح فلم تأته الروح - في قولكم - إلاّ بعد الثلاثين سنة من عمره على يد يوحنا، ولم يتصف بما اتصف به يوحنا شيخه وأستاذه بل أكل الخبز واللحم وشرب الخمر في زعمكم وحضر الدعوات4 وتناول نفائس الطعام، وصبت عليه امرأة دهنا قيمته ثلاثمائة مثقال فلم ينكر عليها5، كل ذلك يشهد به إنجيلكم. وإذا كان الأمر على ما وصفتم من حال الرجلين سلام الله عليهما فلا خفاء بكونه أفضل منه، وإذا ثبتت أفضلية يوحنا فمن أين لكم أن الروح الآتي والنداء المسموع لم يكن ليوحنا؟ فدلوا أنتم على أن ذلك كان للمسيح، ولن تجدوا إلى ذلك سبيلاً.
ثم نقول لهم: أليس قد زعمتم أن الروح إنما جاءت في شبه حمامة فعرف شكلها وكميتها وقدرها وفرَّغت حيراً وشغلت آخر وتنقلت في الجهات؟! وذلك صفة المخلوق الحادث ويتعالى عن ذلك القديم جل جلاله، ثم لفظ النبوَّة معارض بلفظ العبودية، فقد سمّاه الله عبده ولله واختار له ما عنده، وسوَّاه في العبودية بمن كان قبله ومن جاء بعده. 4- دليل آخر على عبودية المسيح عليه السلام قال متى: "أخذ إبليس يسوع المسيح وأخرجه إلى البرية ليجربه وقال له: إن كنت أنت ابن الله فقل لهذه الحجارة أن تصير خبزاً، فقال المسيح: إنه مكتوب أنه ليس بالخبز وحده يحيى الإنسان بل بكل كلمة تخرج من الله فأخذه إبليس ومضى به حتى أقامه على أعلى جبل في الأرض وأراه جميع ممالك العالم وقال: هذا كلّه لي وأنا أعطيكه إن سجدت لي / (1/16/أ) سجدة واحدة، فقال: اغرب عني يا شيطان فإنه مكتوب للربّ إلاهك أسجد وله وحده أعبده، فمضى به إبليس وأقامه على جناح الهيكل، وقال له: انطرح من هاهنا إلى أسفل، فإنه مكتوب أن يرسل بعض ملائكته فتحملك حتى لا تعثر رجل بحجر، فقال المسيح: ومكتوب أيضاً لا تجرب الرّب إلاهك، فمضى به إبليس وتركه وجاءت ملائكة تحرسه، وصام المسيح عند ثلك ثلاثين يوماً بلياليها وجاع أخيراً"1. قلت: هذا متى الحواري قد ذكر هذه القصة وهي شاهدة على المسيح بصريح العبودية وافتقار البشرية، وسلوك سنة المتعبدين وطريق المتبتلين من المجتهدين، وأدب الأولياء ومقدمات أمور الأنبياء، ينقطعون إلى مولاهم في قنن2 الجبال، ويفرغون البال بمواصلة الوصال، ألم يأتكم نبأ ابن عمران3 إذ
طوى الأربعين لا يفطر وفعل من الخوارق بمصر وغيرها ما لا يجحد ولا ينكر. ولقد أربت آياته في النقل الصحيح على آيات المسيح، وإذا انتهينا إلى ما يليق بذلك أشبعنا القول فيها إن شاء الله، والعجب كيف يجرب إبليس يسوع ويمتحنه ويسحبه معه من مكان إلى مكان، / (1/16/ب) ويسومه السجود له وهو في زعم النصارى خالقه وخالق كل شيء، فنحن نسألهم عن هذا المتردد مع الشيطان من مكان إلى مكان، والمقهور في يده والشيطان طامع في استتباعه وصيرورته عبداً له، أهو إنسان مخلوق أو إله خالق أو إله اتّحد بإنسان أو سكن في أهابه واتّخذه محلاً له؟!. فإن قالوا: إنه إنسان مخلوق وافقوا شرعنا وخالفوا شريعتهم وأمانتهم إذ يقولون فيها: "إن المسيح إله خالق غير مخلوق وأنه الذي أتقن العالم بيده". وإن قالوا: إنه خالق أو إله اتّحد إنسان أو حل فيه وسكنه، فقد حكموا أن الإله الأزلي سحبه الشيطان، وردده وجرت عليه أحكامه، وطمع فيه أن يسجد له وفيه امتهان الربّ القديم، والإله العظيم في يد الشيطان الرجيم. وقد شهد متى أن المسيح قد جاع، والإنجيل يقول: "إن الله لا يأكل ولا يشرب ولا رآه أحد"1. وإذا ثبت بقول أصحاب المسيح أن المسيح قد جاع،
وتظافرت عليه الآلام والأوجاع فقد ثبت بذلك أنه عبد لله، إذ ثبت أن ما سوى / (1/17/أ) فهو عبد له. فإن قالوا: لا ننكر أن المسيح جاع وشبع واطمأن وجزع وناله النفع والضرر واعتورت عليه أحوال البشر، غير أن هذه النقائص إنما دخلت على ناسوته دون لاهوته1. قلنا لِمَ يَدَعُ الاتّحاد الذي تدعونه ناسوتاً متميّزاً عن لاهوت حتى يُخَصَّ بالعطش والجوع والأرق والهجوع! بل صار المسيح بالاتّحاد الذي يدّعيه أهل الإلحاد شيئاً واحداً، والشيء الواحد لا يقال إنه جاع ولم يجع ومات ولم يمت. على القول أيضاً بذلك مفسد للاتّحاد الذي يدعونه؛ لأنه قد كان المسيح قبل الاتّحاد يدركه عوارض الآدميّين من الجوع والعطش والطمأنينة والدهش وغير ذلك، فإن كان بعد الاتّحاد كَهُوَ2 قبل الاتّحاد فلا معنى للاتّحاد، فقد صار الاتّحاد الذي يُدَّعى له مجرد تسمية ساذجة عن المعنى. وإذا ثبت أن المسيح قد تناول الطعام وصلى وصام والتزم الأحكام فقد أربى في العبودية على سائر الأنام. والعجب أن الشيطان لا يثبت مع وجود المَلَك، فكيف يطمع فيمن يعتقد ربوبيته حتى يسومه أن يجعله / (1/17/ب) من الأتباع [ويوظف] 3
عليه السجود الذي هو نهاية الاتضاع، ألا تنظر النصارى إلى قول المسيح: "ولله وحده أعبد"، فإنه أثبت لربه الوحدة والانفراد، ونفى عن خالقه سائر الأنداد، من الشريك والصحابة والأولاد. فالمسيح يقول: "لا ينبغي السجود إلاّ لله الواحد"، والنصارى تقول: لا يسجد إلاّ لثلاثة آلهة. لقد تباعد ما بينهم وبين المسيح. 5- دليل آخر على عبودية المسيح عليه السلام قال متى: "سمع مهيرودس ملك اليهود خبر يسوع فقال لغلمانه: أترى يوحنا قد قام من بين الأموات وهذه القوى تعمد معه. وكان هيرودس هذا قد قتل يوحنا المعمداني في السجن وأعطى رأسه لابنة هيروديا1، وكانت قد تمنت عليه ذلك يوم رقصت فيه مجلس مولود ولد له، فجاء التلاميذ وأخبرا يوسع بمصاب يوحنا، فجزع يسوع وخرج من وقته من الموضوع الذي كان به منفرداً"2. قلت: اشتبه أمر المسيح على الناس، والرّبّ لا يقع التشابه بينه وبين خلقه، وإنما شبهه الناس بيوحنا لاشتراكهما في أعلام النبوة، وأخبر التلاميذ المسيح بالقصة قبل أن يعلم بها، والربّ تعالى / (1/18/أ) يجب أن يكون عالماً بجميع المعلومات محيط بما تحت تخوم الأرضين إلى أعلى السماوات، {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} . [سورة الملك، الآية: 14] . وخرج المسيح عقب هذه الأخبار مؤثراً للإستار معملاً مطايا الحذار من الأشرار، ومن دأب البشر عند توقع الضرر الأخذ بالحذر.
وقد اتّفق مثل هذا الابتلاء لطائفة من الأولياء ولم يجدَّ بهم الهلع بزمامه ولا أنزلهم عن غارب التوكل سنامه، قال بعض السلف: "نَفِرُّ من قدر الله إلى قدر الله"1. اعلم أن يسوع2 هو عكس عيسى، وكأنه (يَسُع) أشبعت الضمة قليلاً فصارت واواً، وكذلك يشوع في التوراة هو يوشع3. فأما يلامعمداني فهو يحيى4 بن زكريا - وهو نبي ابن نبي - ولد بالبشرى من الله، وهو أكبر في السن من المسيح بستة أشهر أو نحوها، وقد تولى التعميد
قبل المسيح وعمد المسيح فمن عمده من الناس، والتعميد1 هو غمس التائب في الماء يشيرون بذلك إلى الانغماس في الطاعة والتجرد عن المخافة كما ورد شرع الإسلام بتطهير الكافر حين يسلم. فأما هيردوس2 فهو أحد الأربعة / (1/18/ب) الذين كانوا يدور عليهم أمر الشام من جهة قيصر وكان قد رام نكاح ابنة أخيه وقيل ابنة زوجته فحال بينه يوحنا المعمداني وبين ما أراد من ذلك فاعتقله هيردوس ثم قتله بالتماس أم الصبية إذ رأت أنه زاعم3 مقصودها، فذكر أن دم يوحنا هذا لم يغض4 مذ وقع على الأرض حتى حرك الله داعية بعض ملوك بابل، قال أصحابنا: يقال لهذا الملك حردوش البابلي فسار إلى اليهود يجر الشوك والشجر فقتل مقاتليهم وسبي ذراريهم، وحرق قراهم وعضَّد5 شجرهم، وأجلاهم عن البيت المقدس،
وأعطى الله عهداً ألا يكف عنهم حتى يغيض ذلك الدم، فلم يغض حتى كاد يستأصل اليهود واستاق السبي معه إلى بابل1. وفيهم أنْزل الله على نبيّه محمّد صلى الله عليه وسلم: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَينِ} . [سورة الإسراء، الآية: 4] . فكانت المرّة الأولى على يد بختنصر2 بسبب قلتهم نبي الله أشعيا في زمن أرميا النبي عليه السلام، ثم رد الله إليهم ملكهم، وكانت المرة الثانية على يد خردوش3 اليوناني بسبب قتلهم يحيى بن زكريا / (1/19/ب) وذكر أن بين الوقعتين أربع مائة وإحدى وستون سنة4.
ينبغي أن يقال للنصارى: ما الذي دفعكم إلى عبادة مخلوق يفزع عند الضرار إلى التقية والحذار، ويلجأ عند توقع المكروه إلى الفرار والاستتار في الجدار؟! أين قولكم إنه حين تعمد جاءته روح الله؟! وأنتم رويتم لنا أن موسى قد قاتل الجبابرة وأباد الفراعنة، وطهر الأرض من العمالقة، وقتل عوج1 مبارزة، ولم يفر من خصمه وإن عظم بأسه، ولا نكل عن فرعون وإن اشتدت شوكته، وقد كان يدخل على فرعون فينغص عليه سلطانه،
ويُرْغم مجاهرةً شيطانه، ويحقر عند أهل مملكته شأنه، ثم جَرَّعه أليم اليَمِّ، وأباد جنوده في اللج الخضم، أفكانت الروح التي مع موسى أقوى من الروح التي ادعيتموها للمسيح؟! فما نرى موسى إلاّ أحق من المسيح بالربويبة إذ كان لم يخف والمسيح قد خاف، وكذلك يوشع وداود قد قهرا الصناديد، والمسيح قلتم إنه قتله اليهود. 6- دليل آخر على عبودية المسيح: قال فولس الرسول في الرسالة الأولى1: "وأنا أحب يا إخوتي / (1/19/ب) أن تعلموا أن رأس المرأة الرجل، وأن رأس كل رجل المسيح، وأن رأس المسيح الله". فهذا فولس قد نطق بأن المسيح مرؤوس وأن الله رئيس عليه، وذلك منه رَدٌّ على النصارى وإفساد لأمانتهم وشريعتهم. 7- دليل آخر، قال متى: "أصعد يسوع تلاميذه سفينة وصعد هو إلى الجبل يصلي، فلما كان في الهجعة الرابعة من الليل جاء ماشياً على الماء طالباً السفينة فخاف التلاميذ وتصارخوا فقال يسوع: لا بأس عليكم. فقال بطرس له: يا ربّ إن كنت أنت هو فادعني آتيك على الماء، فقال: تعال. فنزل بطرس يمشي على الماء فاشتد الريح فكاد أن يغرق فصاح: يا ربّ نجّني. فمد يسو يده وأخذه، وقال له: يا قليل الأمانة لم شككت؟ ثم صعد يسوع فسجدوا له"2. قلت: هذا الفصل معرب عن تعبد المسيح وتبتله وتهجده لمولاه وتذلله، وحركته في الجهات وتنقله وصعوده قنن الجبال وتوقله3، وهذه كلّها أفعال دالة على حدثه.
فأما مشيه على الماء فليس فيه مستروح في دعوى ربوبيته فغايته أن التحق في / (1/20/أ) ذلك بموسى وإلياس واليسع صلوات الله عليهم. والتوراة: "تنطق أن موسى ضرب البحر فانفرق طرقاً وفرقاً، فكان كلّ فِرْقٍ لفريق من بني إسرائيل، حتى عبره ستمائة ألف رجل من بني إسرائيل سوى النساء والصبيان وبهيم الحيوان"1. وهذا أعجب من مشي عيسى وصاحبه على الماء إذ السفن تساويهما في ذلك، فلو كان عيسى ربّاً بذلك لكان موسى أولى، لما ظهر من عظيم فعله وجسيم نبله. وقد جاء في سفر الملوك2 من كتبهم:"إن إلياس3 عليه السلام انتهى إلى الأردن ومعه صاحبه اليسع فنزع إلياس عمامته وضرب بها الأردن فيبس له الماء وناول عماته اليسع4 صاحبه فلما رجع الآخر ضرب بها الماء فيبس أيضاً حتى
مشى عليه راجعاً"1. فلم يكن واحد منهما رباّ بذلك، وقد خاف بطرس2 صاحب المسيح الغرق، لم يخف منه اليسع، وقوة الصاحب تدل على قوة حال المصحوب. مناقشة على قول بطرس "يا ربّ إن كنت أن هو": اعلم أنّ هذا من الكلام الخلف وذلك إن بطرس إن عرف أنه / (1/20/ب) المسيح، فكيف يقول: "إن كنت أنت هو؟ " وإن لم يكن عرفه، فكليف يقول له يا رب؟!. 8- دليل آخر على عبودية المسيح، قال متى: "قال رجل للمسيح: يا معلم صالح، فقال له لا تقل لي صالحاً، لا صالحَ إلاّ الله الواحد"3. قلت: أضاف المسيح لربّه الوحدة، واعترف له بالألوهية وحده، وفي ذلك ردٌّ على النصارى في دعواهم التثليث وعبادة المسيح إذ نفى الصلاحية عن نفسه وأثبتها لله وحده، ولو كان الأمر في ذلك على ما يعتقده النصارى لبيَّنه للرجل ولقال له: لا صالح إلاّ الأب وأنا روح القدس، لم يؤخر البيان عن وقت الحاجة. وفي قول المسيح عليه السلام: "لا صالح إلاّ الله الواحد"، تكذيب للنصارى فيما يقرؤونه في صلواتهم إذ يقرؤون في بعض فرائصهم: "الإله الصالح الطويل
الروح الداعي الكلّ إلى الخلاص". وقد يقرؤون فيها: "يا ربنا وإلهنا يسوع المسيح لا تضيع من خلقت بيديك، لا." ويقرؤون في شريعة إيمانهم التي لا يتم لهم قربان إلاّ بقراءتها: "نؤمن بالربّ الواحد يسوع المسيح الذي بيده أتقنت العوالم، وخلق كلّ شيء". وهذا / (1/21/أ) كله مخالف لقول المسيح عليه السلام: "لا صالح إلاّ الله وحده"، وإذا كان هذا قول المسيح فقد ثبت أنه ليس هو الله ولا صفة من صفاته، وإذا ثبت أنه غيره ثبت أنه عبده؛ لأن ما سواه فهو عبده وخلقه، وتبيّن فساد الأمانة التي لهم وجهل من ألفها بدين المسيح وشريعته. 9- دليل آخر على عبودية المسيح، قال متى: "قال يسوع: من أراد أن يكون منكم كبيراً فيلكن لكم خادماً، ومن أراد أن يكون أوّلاً فليكن آخراً إن ابن الإنسان لم يأت ليخدم، بل ليخدم ويبذل نفسه عن كثير"1. قلت: هذا دأب المتّقين وعباد الله المشفقين، قام عليه السلام بوصفه الاتضاع، ولزم مناهج إخوانه من الأنبياء في رعاية الأتباع، وصرح بأنه إنما بعث خادماً والربّ يجب أن يكون مخدوماً، وأنه باذل نفسه ويتعالى القديم أن يكون عديماً. 10- دليل آخر على عبودية المسيح، قال متى: "مرّ يسوع بشجرة تين وقد جاع فقصدها فلم يجد فيها سوى الورق فقال: لا تخرج منك ثمرة إلى الأبد فيبست الشجرة لوقتها فتعجب التلاميذ وقالوا: كيف يبست؟ فقال: الحقّ أقول لكم: إنه لو كان / (1/21/ب) لكم إيمان بغير شكّ وقلتم للجبال: تعال واسقط في البحر لفعل كلّ ما سألتموه تنالوه"2.
قلت: أدركته عليه السلام عوارض البشر من الجوع والعطش وما أكثر ما يصفه الإنجيل بذلك، ولما سبق في علم الله تعالى ما سيدعى فيه من الربويبة والإلهية حفظ هذه المواضع من الإنجيل وحرسها عن التغيير والتبديل، ولتكون وازعة ذوي عن الأحلام، عن عبادة رجل من الأنام، يفتقر إلى الشراب والطعام، فقل للنصارى: يا معشر من بخس حظه من المعقول، كيف خفي عن يسوع حال الشجرة وهو في زعمكم الذي غرسها؟! أم كيف افتقر إلى تناول الثمرة وهو الذي كَوَّن بلسها1؟!. ولِمَ دعا عليها؟! ومن الذي دعاه حتى ساق الثوى2 إليها؟ وأخبرونا من هو هذا الذي جاع؟، فإن زعمتم أنه الإله أكذبكم الإنجيل إذ يقول: "إن الله لا يأكل ولا يشرب". وأكذبكم داود في المزامير إذ يقول: "إن إله إسرائيل لا يأكل لحوم العجاجيل ولا يشرب دماء أولاد الغنم"3. فإن قلتم: إن الناسوت هو الذي جاع، أبطلتم الاتّحاد، إذ الاتّحاد عندكم صيَّر / (1/22/أ) الكثرة قِلة وجعل الاثنين واحداً، وأنتم زعمتم أن فائدة الاتّحاد تشريف الطبيعة الناسوتية لا انحطاط الطبيعة اللاهوتية. فإذا قلتم: إن طبيعة الناسوت باقية على حكمها، لم يحصل التشريف الذي ذكرتم، فما نرى طبيعة اللاهوت أكسب الناسوت خيراً. وأخبرونا أليس مَتَّى هذا يقول إنّ المسيح هو الذي جاع، وهو الذي تردد مع الشيطان في سخرته وواصل الصيام بسببه؟، والمسيح هو عبارة عن الطبيعتين
لللاهوتية والناسوتية جميعاً، إذ طبيعة الإنسان على تجردها لا تسمى مسيحاً عندكم، وإذا كان هذا هكذا فقد لزمكم القول بجوع الإله وعطشه ودخول الآفات عليه، وإذا كان ذلك غير سائغ فالمسيح إذاً عبد مربوب ومخلوق مألوه يتأذى بأسباب الأذى ويفتقر إلى تناول الغذاء. فأما جفاف الشجرة بدعوته فليس في ذلك معتصم في دعوى ربوبيته ولو جاز أن يدعى في المسيح الربوبية بهذه القضية لجاز ذلك لإبراهيم وموسى وإلياس ودانيال وخلق كثير / (1/22/ب) من أصفياء الله، فقد أجيبت لهم دعوات، وأمددهم الله من الملائكة بربوات. 11- دليل آخر على عبودية المسيح، قال متى: "اجتمع الفريسيون1 والهيروديسيون2 ودسوا على يسوع رجلاً ليصطادوه3 بكلمة، فقال له الرجل: يا معلم، قد علمنا أنك محق، وأن طريق، الله بالحق تعلم، وأنك لا تبالي بأحد ولا تعمل لوجه إنسان، فقل لنا هل نعطي الجزية لقيصر أم لا؟ فعلم يسوع سرّهم وخاف شرّهم، فقال: يا مراؤون إنما جئتم لتجربوني4 أدوا ما لقيصر لقيصر وما لله - لله"5. قلت: هذه من المسيح عليه السلام حيدة6 عن الجواب وهي مؤذنة بالتقية
القاضية بضعف البشرية، والحيدة توجد كثيراً في كلام الأنبياء عليهم السلام يستعملونها للضرورة الحاضرة. وأنا أستحسن قول سيدنا محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وقد قال له العباس: يا رسول الله، إن أبا طالب كان بارّاً أترجو الله له؟ فقال عليه السلام: "كلّ الخير أرجوه من ربّي"1. وقوله: "وقد سأله رجل: يا رسول الله، متى الساعة؟ فقال: "ما أعددت لها؟ "، قال: حبّ الله ورسوله. فقال / (1/23/أ) : "أنت مع من أحببت"2. ولما قال إبراهيم للكافر: ربي الذي يحيي ويميت. قال: يا إبراهيم أنشدك
الله أأنت رأيته يفعل ذلك؟، {قَالَ إِبْرَاهِيمُ: فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ المَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} . [سورة البقرة، الآية: 258] . واعتبر هذا الفصل الذي نقله مَتَّى تجده من كلام الراوي ليس للمسيح منه إلاّ القليل، وهذا حال أكثر الإنجيل، والإنجيل الحقّ هو المأخوذ عن المسيح عليه السلام لا عن غيره. وما أديص1 قول هذا الراوي [ليصطادوه] 2 بكلمة!! هذا يعتبر سلفهم فما ظنّك بخلفهم؟! أما كان يستطيع أيجعل مكان [ليصطادوه] 3 [ليمتحنوه ويختبروا ما عنده ويقفوا] 4 على حقيقة مذهبه، أين هذا من ألفاظ الكتاب العزيز إذ يقول: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيكَ} . [سورة الإسراء، الآية: 73] . {وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا ... } . [سورة الإسراء، الآية: 76] . 12- الدلالة على أن التلاميذ لم يكونوا [يعتقدون] 5 في المسيح ما ابتلي به النصارى، قال نقلة الإنجيل: لما كان في أوّل من عيد الفطير جاء التلاميذ إلى يسوع وقالوا له: أين تريد أن تأكل الفصح؟، فقال: اذهبوا إلى فلان فقولوا: يقول لك المعلم: عندك آكل الفصلح مع تلاميذي6.
فَعَرْضُهم/ (1/23/ب) عليه الطعام والعمل بسنة العيد المأخوذة عن موسى، واتباعه أحكام التوراة دليل ظاهر على أنهم لا يفرقون بينه وبين البشر في شيء سوى النبوة، إذ هم يروون عنه في الإنجيل أن الأنبياء كلهم [معلمون] للناس، وهم الذين يروون عنه أن الله لا يأكل ولا يشرب. وقد شهد فولس الرسول في رسالته الأولى بأن المسيح عبدٌ لله وأن الله مالكه فقال وهو يُسهب في إفادة إخوانه: "إن كل شيء فهو لكم، وأنتم للمسيح والمسيح"1. فأضافه الله بلام التمليك كإضافة الأشياء لملاكها، وقوله: "وأنتم" يريد أنتم له أتباع، وهو يبلغكم عن الله أوامره بطريق السفارة. فإن قال النصارى: إنما أكل وشرب بناسوته، قلنا: ذلك باطل على رأي اليعقوبية2 القائلين أن الاتّحاد قد أصار طبيعتي المسيح طبيعة واحدة، فإنه لم يبق ناسوت متميّز عن لاهوت حتى يضاف إليه الأكل والشرب، وهو باطل على قول من جعل المسيح درعاً للاهوت أو مسكناً له3. إذ لو تجرد اللاهوت عن ناسوته حال ملابسة هذه النقائص لبطلت ألوهيته وخرج عن كونه مسيحاً / (1/24/أ) فإنه لم تثبت له هذه التسمية إلاّ بعد الاتّحاد في زعمهم. فقد أقام يسوع بينهم ثلاثين سنة لا يسمى مسيحاً إنما يعرف بيسوع بن يوسف، فمن أضاف الأكل والشرب إلى ناسوته وحده فقد جعله آكلاً شارباً ببعضه، ومن جوّز قبول آلهة للتنصيف، فقد أبان عن عقل سخيف وعقل ضعيف. ألم تسمعوا إلى قول المسيح: "يقول لك المعلم"، سمّى نفسه معلماً لهم؟! وقال لهم في موضع آخر: "ليس لكم معلم سوى المسيح"4. وقد قال في
الإنجيل غير مرة: "إن الأنبياء كلهم [معلمون] 1 لدواب الله"2. فكيف صرتم تُضربون عما في الإنجيل من دلائل نبوته وتتعلقون بأدنى خيال ف محاولة ربوبيته؟!. فإن أشكل عليكم لفظ الإنجيل - وليس بمشكل - فارجعا القهقرى إلى التوراة كتاب موسى والأنبياء من بعده، فهل تجدون فيها ما تنتحلونه من عبادة رجل من بني آدم؟! وإنا نجد غير ذلك في التوارة، وقد حذرت من الشرك بالله ومجانبة توحيد الله حتى قالت: "متى سمعتم بذلك في بلد أو قرية فأهلكوا جميع من في تلك القرية / (1/24/ب) والبلد بحد السلاح، ولا ترحموهم، الله ربكم هو إله واحد غيور عظيم مرهوب فاتقوه وخافوه، واحفظوا سنته وأحكامه وأزيلوا الشرّ من بينكم"3. وكرر ذلك في أسفار التوراة مرة بعد أخرى، فالاعتماد في ذلك على التوراة المقولة بلسان الإجماع عندكم، وذل أولى من الاعتماد على كتاب، إنما نقله أربعة أنفس وفيهم اثنان ليسا من أصحاب المسيح بل من التابعين لهم، فلا جرم لمّا نُقل هذا الكتاب بلفظ الآحاد وقع فيه من الغلط ما ستقفون عليه إن شاء الله في الباب الرابع من هذا الكتاب. وحينئذ تتحققون أنه ليس هو الإنجيل المنَزَّل من عند الله.
13- شهادة المسيح على أهل زمانه بالشّكّ في شأنه قال متى: "بينما التلاميذ يأكلون طعاماً مع يسوع قال: كلكم تشكون فِيَّ هذه الليلة؛ لأنه مكتوب أني أضرب الراعي فيفترق الغنم، فقال بطرس: لو شَكَّ جميعهم لم أشك أنا، فقال يسوع: الحقّ أقول لك إنك في هذه الليلة تنكرني قبل أن يصيح الديك"1. فقد شهد / (1/25/أ) عليهم المسيح بالشّكّ فيه وأن خيارهم وهو بطرس خليفته عليهم من بعده سينكره، وإذا وقع لهم الشّكّ في المسيح في آخر أيامه ومنتهى مدته فقد تخرمت الثقة بأقوالهم، وإذا أنكره مثل بطرس ولم يعرفه بطل جزمهم بأنه قتل وصلب وصحّ قول2 ربنا تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُم وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتَّبَاعُ الحَقِّ} . الآية. [سورة النساء، الآية: 157] . فهذا المسيح عليه السلام قد وافق محمّداً - عليهما السلام - في أن القوم شاكون فيه، وذلك مبطل لدعوى القتل والصلب. وقد صرح المسيح في هذا الفصل بحرف لو تأمله النصارى لما عدلوا عن اعتقاد نبوته إلى انتحال بنوته وهو قول المسيح: "إنه مكتوب أني أضرب الراعي"، سمّى نفسه راعياً وهادياً داعياً، وهذا حال الأنبياء - عليهم السلام - فإنهم يطوقون أعباء السياسة، ويرفقون الأنام بأخلاق الحراسة. فنحن نسأل النصارى، من هو الضارب؟ ومن هو المضروب؟
فإن زعموا أن الضارب هو الله، والمضروب هو الإنسان فقد وافقوا شريعتنا وخالفوا / (1/25/ب) شريعتهم إذ تقول: "إن المسيح إله لا إنسان". وإن قالوا: الضارب هو الإنسان والمضروب هو الله، كان هذا قولاً لا يقوله أحد من الحمقاء فضلاً عن العقلاء. فإن عادوا وقالوا المضروب هو المسيح أعدنا عليهم القول المتقدم، وقلنا: المسيح عندكم ليس آدمياً محضاً ولا إنساناً صرفاً، بل هو مركب بالاتّحاد من إله وإنسان، فقد لزمكم أن يكون الإله مضروباً أيضاً مع الإنسان، فإن راموا تخصيص الناسوت بالضرب لم يتهيأ لهم بعد القول بالاتّحاد، وإن راموا تصحيح الضرب وإضافته وسائر النقائض إلى الناسوت فقد أبطلوا الاتّحاد، وهو المراد. وإن قالوا: المراد بالمضروب (الابن) وبالضارب (الأب) ، قلنا لهم: فالأب والابن عندكم قديمان، فما الذي أصار أحدهما ضارباً والآخر مضورباً بأولى من العكس؟! وإذا كان الابن عندكم عبارة عن الحكمة الأزلية، فما معنى ضرب الله كلمته؟ وإنما تضرب الأجسام، فأما صفات الله القديمة فلا تفارق ذاته الكريمة ولا تقوم بغيره. وما نرى لروح القدس في أكثر هذه الفصول ذِكراً، فلا ضارب ولا مضروب / (1/26/أ) تعالى الله عن هذيانكم هذا علوّاً كبيراً. 14- صلاة المسيح وتعبده واجتهاده في الطاعة وتهجده، قال متى: "جاء المسيح مع تلاميذه إلى قرية تدعى جسمانية1 فقال لهم: امكثوا هاهنا حتى أصلي هناك. ثم أخذ يحزن ويكتئب، وقال: إن نفسي حزينة حتى الموت. ثم قال لبطرس وابني زيدي: اسهروا معي هذه الليلة. ثم خَرَّ على وجهه يصلي
ويقول: يا [أبتاه] 1 إن كان يستطاع فَلْتَعْبُر عني هذا الكأس، وليس كإرادتي لكن كإرادتك، ثم جاء إلى تلاميذه فوجدهم نياماً، فقال لهم: ما قدرتم أن تسهروا معي ساعة واحدة، ثم مضى وصلى وقال: يا [أبتاه] 2 إن لم تستطع أن تعبر عني هذا الكأس حتى أشربها فليكن مسَّرتك، وجاء أيضاً فوجدهم نياماً فتركهم ومضى يصلي وأعاد كلامه الأوّل"3. قلت: انظروا معاشر الضلال ودعاة الضلال، هل تليق هذه الخلال بصفات ذي الجلال؟!. لو لم يكن في إنجيلكم سوى هذا الفصل لكان قائداً للعميان، سائقاً إلى غير دين النصرانية من الأديان، إذ كان وما شاكله من أوضح الأدلة على ضعف البشرية وعجز العبودية، / (1/26/ب) فسبحان من بخس النصارى عقولهم وأظلم سبلهم وأعمى دليلهم، أين هذا مما روى "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين احتضر جعل يقول: الرفيق الأعلى"! 4. فأنبياء الله بل صلحاء الناس محاشون عن هذا التردّد حال الانتقال. وهذه التوراة تشهد باحتضار طائفة من أولياء الله كإبراهيم وإسحاق ويعقوب وهارون وموسى وغيرهم، وهم راضون بلقاء ربّهم، فرحون بانقلابهم إلى [شَعُوبهم] 5 فنحن نوَرِّك6 على من نقل هذا التردد القبيح عن السيد المسيح.
وفي هذا الفصل حرف يقطع بانحرافه وتحريفه وهو قوله: "إن لم تستطع أن تَعْبُر عني هذا الكأس". ثكلت لافظه أمه، لقد عجَّز قادراً، وسلك طريقاً عن الجَدَد1 نادراً، كيف يعجز القادر على الإطلاق، ويبخل من بيده مفاتيح أقفال الأرزاق؟!. فنحن نسأل النصارى، ما سبب هذا الحزن والاكتئاب؟! هل يعدو أن يكون إما جزعاً من الموت أو أسفاً على بقاء الناس على الكفر؟! وأَيُّ ذلك كان فقد تحقق عجزه فلا يصلح مَنْ هذا حاله للربوبية. ثم نقول لهم: ألم تنقلوا عنه أنه إنما جاء ليُخلِّص الخلق ويفديهم / (1/27/أ) بدمه الكريم من الجحيم؟ وإذا كان الأمر على ما زعمتم فلا معنى لحزنه ولا اكتئابه. وفي الفصل أيضاً ما يفسد عليهم ما لفقوه في شريعة إيمانهم، وهو قوله: (وليس كإرادتي لكن كإرادتك" [فصرَّح] 2 بأن إرادته مغايرة لإرادة الله تعالى، وإذا كانت إرادته غير إرادة الله بطل قولهم في الأمانة: "المسيح إله حقٌّ من حقّ إله حق من جوهر أبيه". فإن صححوا الأمانة أكذبوا الإنجيل، وإن صححوا الإنجيل أفسدوا الأمانة، إذ لو كان من جوهر الأب لكانت إرادته من جوهر إرادته، وهم يطلقون على الباري لفظ الجوهر تعالى الله عن كفرهم علوّاً كبيراً. 15- دليل آخر على عبودية المسيح، قال لوقا: "ورد أمر قيصر بتدوين الناس، فمضى يوسف ومريم وهي حامل بالمسيح ليكتتبا مع الناس فضربها
الطَّلَق فولدته ولفته في الخرق وتركته في مذود حيث نزلاً، فلما تمت له ثمانية أيام سمّوه يسوعاً ولما أكملوا أيام تطهيرهم أقاموه ليقربوا عنه زَوْجَيْ يمام أو فرخي حمام كَسُنَّة الناموس"1. قلت: هذه أحوال البشرية في تنقلها من / (1/27/ب) الاختتان إلى الرضاع إلى الطفولية ويتعالى ربّ الأرباب أن تحويه معالف الدواب، بل لا تحويه الأقطار ولا يحده المقدار، ولا تحيط به الجهات ولا تكتنفه الأرضون ولا السماوات2. قال لوقا: "ولما أكملوا سنَّتهم على مقتضى ناموس الربّ رجعوا إلى الجليل إلى بلدهم الناصرة فكان الصبي ينشأ ويصفو بالروح ويمتلئ بالحكمة، وكانت نعمة الله عليه وأبواه يمضيان به في كل سنة إلى عيد الفصح، ولما تمت له اثنتا عشرة سنة مضوا به إلى ارشليم كالعادة، فلما رجعوا تخلف عنهم يسوع في أورشليم ولم يعلموا به وسارا وهما يحسبانه مع الرفقة فلما لم يجداه رجعا إلى أورشليم فوجداه في الهيكل بين العلماء والشيوخ يباحثهم ويسمع منهم فأخذاه وانصرفا وكان يطيعهما"3. قلت: هذا الكلام والذي قبله يشير إلى تقيد المسيح بشريعة موسى عليهما السلام، وأنه وغير شرع في الشرع، ورتبة التابع دون رتبة المتبوع وفي ذلك دلالة على عبوديته، فأما اعتقاد الربوبية في صبي يتعلم أحكام / (1/28/أ) التوراة ويسأل اليهود عما أشكل عليه منها فذلك عين الجنون، وهذا لوقا أَحدُ مُدَوَّني الإنجيل يشهد بأن المسيح عبد من عباد الله، وأنه صبي منت صبيان بني آدم، وأنه كان يتَزيد مواقع النعمة من الله شيئاً فشيئاً ويتعلم العلم ويسأل عما جهل ويستفيد
ممن هو أعلم منه، ويخبركم أن الله معطيه ومنعم عليه، فكيف لم ترضوا له ما وصفه به لوقا من صفته؟ أأنتم أعلم بما يجب له من لوقا؟! ألم تسمعوا إلى قوله: "وأبواه يمضيان به كلّ سنة إلى أورشليم". ألا يعجبوا من جلوسه بين العلماء للاستفادة والتعليم؟ فالنجاء النجاء من وبال هذا المذهب الذميم، والوحا الوحا1 في حلّ عقد هذا التصميم. 16- دليل آخر على عبودية المسيح وضعفه وافتقاره إلى خالقه وتبرئه ممّا يدّعيه النصارى فيه، قال لوقا: "قال رجل ليسوع: أتبعك إلى حيث تمضي يا سيد، فقال له يسوع: للثعالب أجحار ولطيور السماء أوكار، وابن الإنسان فليس له موضع يسند رأسه"2. قلت: الزهد شعار الأنبياء ودثار المتقين ونعت المؤقنين، يفرغ القلب منت الهموم / (1/28/ب) ويقشع عن الفكر غيوم الغمون، ويعرب عن قوة الإيمان والوثوق بضمان الرحمن، اشتغل المسيح بالزهد والنسك وتفرغ لخدمة ربه فرفض الملك، ورضي فقره فسكن الفقر3 وحقّق صبره، فتوسد الحجر وافترش العفر4. فكيف تعبد النصارى من لا يحوي مسقط رأسه فقراً؟! وتأمل من لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً. وإذ قد رووا عن الصادق المسيح أنه ليس موضع يسند رأسه، ورووا عنه أنه لا صالح إلاّ الله وحده، وحكوا عنه أنه قال: إنّ الله الإله الحقّ وحده، وأخبروا عنه أنه صام وصلى وانقطع لعبادة ربه وتخلَّى، فقد أكذبوا الأمانة التي
ألفها قدماؤهم إذ تقول: "إن المسيح إله حقّ وأنه خالق كلّ شيء وأن بيديه أتقنت العوالم". وتعيَّن عليهم العمل بمقتضى قول المسيح وفتاوى تلاميذه الأبرار، وشهادة الأنبياء الذين تقدموه مثل: موسى، وداود. "فقد قال المسيح ورفع وجهه إلى السماء: إلهي أنت الإله الحقّ الذي أرسلت يسوع المسيح"1. وقال موسى في التوراة: "لا إله إلاّ إلهنا إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب الرّبّ الأزلي الذي لم يزل"2. وقال داود في مزموره3: "إن الله أقسم / (1/29/أ) إن المسيح رجل كاهن يشبه في عبادته وتقواه ملكي صادق". الكاهن الذي كان يخدم البيت المقدس على عهد إبراهيم4. 17- وقال سمعون الصفا رئيس الحواريين: "إن المسيح رجل أظهره الله بالأيد والقوة والمعجزات"5. وقال المسيح: "إنه لا يقدر على عمل شيء
ولا يتفكر فيه حتى يكون الله هو الذي يعمله"1. وسئل عن القيامة، فقال: "لا يعرفها إلاّ الله وحده"2. وهذه أقوال دالة وروايات متظاهرة على أن المسيح عبد مربوب، وأن له رباً يضرع إليه، ويعول في مصادره وموارده عليه لا إله غيره ولا رب سواه. فهلموا معشر النصارى إلى عبادة ذي الجلال، وقدسوا القديم عن تشبيهه بالرجال، واستحيوا من ذوي الحجى أن تعبدوا إنساناً قد حملت به أمه كما تحمل النساء بالأجنة، وترددت عليه أطوار الخلق وتنقلت به الحال إلى أن ناهز الثلاثين من السنين، ينسب إلى أُبوَّة يوسف مرة وداود أخرى، يتغذى بالطعام ويتردد بين الأنام، ثم تعتوره عوارض الحيوان فيعافى ويكرب، ويحزن ويطرب، ويعيا فيركب، ويستريح ويتعب، ويجوع ويعطش،/ (1/29/ب) فيأكل ويشرب، ويستتر من عدوّه ويطلب، ويقرن باللصوص كما زعمتم ويسحب، ويحمل صليبه فيقتل بقولكم ويصلب، ويدفن في المقابر فيبكى عليه ويندب، وقولوا بنا جميعاً كما قال المسيح في الإنجيل: "لِلرّبِّ إِلاَهِكَ اسجد وله وحده اعبد"3. قصم بذلك ظهر الخبيث وفصم عرى أهل التثليث وأثبت لربه الوحدة، وسجد لله وحده، ولم يعبد إلهين اثنين، ولا ثالث ثلاثة، ولا رأى ادِّراع ولا أقسم بالذراع، ولا اعتقد اتّحاد اللاهوت بالناسوت، ولا أقسم بصليب الصلبوت، ولا عظَّم الصّور والصلبان، ولا نطق بقولكم (كُرْياليصان) 4 بل عبد الله،
ودعا إليه وعول فيما يأتيه ويدره عليه، قال الله تعالى في الإنجيل: "هذا فتاي" سمّاه عبداً وسمّيتموه ربّاً، وقال: "هذا رسولي"، سمّاه نبيّاً وجعلتموه أنتم إلهاً، وقال المسيح: "لا أعمل بمشيئتي" وقلتم إنه خالق كل شيء حتى كأنكم قد تتابعتم على خلافه بدليل أو تبايعتم على رفضه برهن ثقيل، فاستدركوا الغلط واهجروا الهُجر اللغط وتعلقوا بذمام قول الإسلام: {مَا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأَمُّه1 صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ} . [سورة المائدة، الآية: 75] . ولا تغلوا في دينكم بغير دليل، واعتقدوا عبودية المسيح كما نطق به الإنجيل. 18- دليل آخر على عبودية المسيح ومساواته البشر، قال مرقس في إنجيله: "قال يسوع: إن نفسي حزينة حتى الموت، ثم خرّ على وجهه يصلي لله وقال: أيها الأب كلّ شيء بقدرتك، أخّر عني هذا الكأس لكن كما تريد لا كما أريد أنا"2. فها هو سائل والله مسؤول. وأي عبودية تزيد على هذا؟! 19- دليل آخر على عبوديته، قال يوحنا: "وقف يسوع على بئر من آبار [السامرة] 3 فقالت: له امرأة من نسل يعقوب: إن آبائنا سجدوا في هذا الجبل وأنتم تقولون إنه أورشليم؟! فقال لها يسوع: أنتم تسجدون لمن لا تعلمون ونحن نسجد لمن نعلم"4. قلت: هذا يوحنا التلميذ حبيب المسيح يشهد على المسيح أنه معترف بربّ لا تجزئه العبادة لغيره ولا تنبغي الربوبية لسواه سبحانه، ولو كان الأمر على ما
يهتف به النصارى لأرشدها، وقال: اضربي عن معتقد أسلافك العواة واسجدي لي ولأبي وروح القدس، فإني ثلث الإله، كلا ولكنه / (1/31/أ) أخبره أنه عبد مذلَّلٌ تحت رقّ العبودية وأنه يسجد لله مستحق الربوية. وأعلم أن المسيح قد كان يصلي إلى أورشليم1 وهي البيت المقدس قبلة الأنبياء قبله، ولم يزل يتوجه إليها مدة مقامه إلى حين رفع فكان مما أحدث النصارى بعده الصلاة إلى جهة الشرق، وتركوا القبلة التي كان المسيح يتوجه إليها. فإذا عيب عليهم ذلك اعتذروا بأن صاحبهم صلب إلى تلك الجهة، قالوا: فتعين علينا التوجه إلى حيث صلب2. فيقال لهم: أرأيتم لو صلب إلى جهة المغرب أوصلب منكساً إلى أسفل ماذا كنتم تصنعون؟ وإذ تركتم قبلة المسيح والأنبياء وحسن عندكم خلافه فهلا توجهتم إلى الناصرة3 التي هي بلد ربكم أو إلى مصر التي هرب إليها بزعمكم خوف القتل، وتعلقتم بشبهتين من الإنجيل: إحداهما: قوله: "إنه كتب أن يدعى المسيح ناصرياً"4. والأخرى قوله: "من مصر دعوت ابني"5.
فكيف تركتم هاتين الجهتين ولكم فيهما مستمسك وتوجهتم إلى جهة ارتضاها اليهود الملاعنين للتنكيل بإلهكم كما زعمتم؟!. ولو كنتم ذوي نظر وعبر لكانت هذه الجهة حرية عندكم بالمقت / (1/31/أ) فإنها الجهة التي هلك فيها معبودكم وقبلت دم ربّكم. وأخبرونا عن توجه هذا المصلوب إلى هذه الجهة أكان في ذلك طائعاً أو كارهاً؟! فإن كان كارهاً لم يكن لكم أن تصلوا إلى جهةٍ لم يخترها صاحبكم ولم يرضها وإنما حُمِل عليها مجبراً، وإن كان قد توجه إليها طائعاً راضياً، فَلِمَ [تلعنون] 1 اليهود الذين صلبوه [وتكفرونهم] 2 والذي فعلوه به إعانة له ومساهمة في حصول محبوبه وقرة عينه، ولاسيما أنهم نهجوا لكم قبلة تصلّون إليها؟! فتحننوا الآن على اليهود وتبركوا بهم إذاً، إذ كانوا قد فعلوا ما هو قرّة عينكم وعين صاحبكم. وكذلك يهوذا الإسخريوطي3 الذي ارتشى عليه وألقاه في أيدي اليهود حتى قتلوه وصلبوه بزعمكم فصلّوا عليه وترحموا وتبركوا باسمه وصَوِّبُوا فعله، فإنه صار وسيلة إلا خلاصكم، وإذ قلتم: إن أسلافكم في دركات النيران ولا خلاص لهم من ذلك إلاّ بقتل ربكم، وإنما قتل وصلب بدلالته وبركة سفارته
وليس في النصارى - يرحمك الله - / (1/31/ب) من يُقِلُّ اللعن عن اليهود أو يقدر يسمع باسم الإسخريوطي، وهذه المؤاخذات واردة على الأصل الفاسد الذي أَصَّلوه، فإن أَبَوْا إلاّ لعن اليهود ومقت يهوذا فليتطيَّروا بجهة المشرق لكونها عَمَّتْهم بالشر وسقتهم بالكأس المرّ، وإلاّ فكيف يذمّ اليهود وتمدح الجهة وكلاهما مشؤوم؟! وما أحسن لعن [إله] 1 تقتله اليهود، [ورب] 2 تغلبه إخوان القرود. 20- دليل آخر على عبوديته وحدثه وأنه آدمي محض وإنسان صرف: اعلم أوّلاً أن تعاقب الأحوال من التغير والزوال والتفريغ والإشغال، والسكون والحركات والاختصاص بالمقادير والهيئات، هي الأدلة على حدث أجسام العالم. ولا خلاف بين النصارى أن المسيح عليه السلام ولدته أمه في بيت لحم في أرض يهوذا ولفتة ووضعته في الخرق في معلف وأرضعته ثديها وأفرشته حجرها وتولت تأديبه ونشأ نشوء الآدميين، لم يتميّز عنهم في حال من الأحوال من صغره إلى حين ابتداء الدعوة، قد عُرف طوله وقدره ولونه وكميته واعتذى بالطعام وانتقل من مكان إلى مكان ونحن نعلم / (1/32/أ) أنه كان إذا نزل أورشليم فقد فارق الناصرة، وإذا أقام بالناصرة فقد خلت منه أورشليم، وأنه ولد في دولة هيرودس ملك اليهودية، وأن مريم فرت به إلى مصر خوفاً من هيرودس ثم أعادته إلى الشام حين هلك أعداؤه، وأنه عاش نيفاً وثلاثين سنة يتعلم العلم ويقرأ التوراة ونبوات الأنبياء ويركب الحمير ويزجي3 الأوقات من الأقوات باليسير الحقير ويلجأ إلى الله في حوائجه ومآربه. ويدعوه إذا أعوزته وجوه
مطالبه، ويفرح ويغتم ويلبس ويعتم، ويفرّ من السلطان ويناظر الشيطان. وإذا كان حال المسيح على ما وصفنا فقد ثبت أنه مخلوق ومحدث، وعبد، وأن الله إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب هو خالقه ومحدثه، فإن تحامق النصارى فزعموا أنه هو الله أو صفة من صفاته، أو أن الله ساكن فيه وحال في إهابه، فقد حكموا أن القديم الأزلي ولدته امرأة، وخرج من فرجها، ولفته في الخرق، وألقته في مذود ثور، وسقته ثديها وقومته بتأديبها، وهربت به من خوف من يقصده من الأعداء وعلَمته وهذّبته / (1/32/ب) . وأنه كان يتردد إلى اليهود، يتعلم منهم وأن الله الأزلي كان له إلهاً يدعوه ويرجوه، وهذا كلّه لازم للنصارى على الأصل الذي أصلوه، وإذا كان ذلك محالاً فقد ثبت بما قدمناه أن المسيح عبد من عباد الله بقوله وفتواه.
الباب الثاني: في إثبات نبوته وتحقيق رسالته
الباب الثّاني: في إثبات نبوّته وتحقيق رسالته الدلالة على نبوّة المسيح: اعلم أن في إثبات نبوّة المسيح عليه السلام [إرغاماً] 1 لليهود والنصارى جميعاً، وذلك أنهم ارتكبوا في طرفي نقيض. أما اليهود - خذلهم الله - فإنهم يرمونه بالكذب والسحر والنيرنجات2 واستخار الشياطين في أغراضه ومآربه، فقالوا: "إنه إنما يخرج الشياطين من الإنسان ببعلزبول3 رئيس الشياطين، وقالوا: إنه لم يحي ميتاً قط ولا أبرأ ذا علة وعاهة، ولكنه واطأ صديقاً له يقال له ألعازر4 فتماوت ثم إنه دخل عليه في جماعة معه فوجد أمه تبكي، فقال لها: لا تبكي، ثم وضع يده عليه فقام وادعى في البلد أن المسيح أحياه، وكانت أمه تهتف بذلك لشغفها بولدها5. وقالوا: وواطأ آخر فجلس على الطريق كأنه زمن فلما طال مقامه / (1/33/أ) وعُرِف بالزمانة والاستعطاء مَرَّ به في أناس معه كأنه لا يريد فناداه: ارحمني يا ابن داود. فأجابه: ما الذي تريده؟ فقال: أريد أن أنهض. فأخذ بيده وأقامه فقام وقد تعقدت رجلاه من طول الجلوس، فكانت أمه تشيع أن يسوع أقامه". واستبشع آخرون منهم هذا واستعبدوه فقالوا: لا. ولكن لَطُفَت معرفته بالطبّ حتّى أبرأ الأرض والأكمه وأقام الزمنى والمخلعين. وهم بأسرّهم
ينسبونه إلى بنوّة الزنى كا يشهد به الإنجيل1، "إذ يقولون له في محاوراتهم: أما نن فلسنا من أولاد الزنى"2. فإذا أثبتنا معجزاته وآياته بالطرق التي ثبتت بها معجزات موسى وغيره من الأنبياء لم يبق إلى القدح في نبوّته سبيل، وكان ما يعترضون به على المسيح منعكساً عليهم في معجزات أنبيائهم3، وكلّ سؤال انعكس على سائله فهو باطل من أصله. 1 يوحنا 8/41. 2 ورد في كتاب التلمود - وهو كتاب فقه اليهود المقدس لديهم، إذ يعتبرونه التوراة الشفوية من الله لموسى عليه السلام ولكنه في حقيقته ليس إلاّ تفسيرات واستنباطات حاخاماتهم لنصوص التوراة؛ فقد ورد فيه: "أن يسوع الناصري موجود في لجات الجحيم يبن الزفت والنار، وأن أمه مريم أتت به من العسكري باندارا بمباشرة الزنى، وأن الكنائس النصرانية بمقام قاذورات، وأن قتل المسيحي من الأمور المأمور بها". وجاء في التلمود وصف المسيح بأنه كان ساحراً وثنياً ومجنوناً ومرتداً كافراً وشريراً. وبأنه صنم عبده أتباعه بعد صلبه. وبأن تعاليمه كذب وهرطقة ومستحيلة الإدراك. (الكنْز المرصود في قواعد التلمود - د. روهلنج - ترجمة د. يوسف نصر الله ص 27، 105، فضح التلمود - للأب براناتيس ص 55-76) . 3 لما لم يؤمن اليهود بالمسيح عليه السلام وكفروا بدعوته؟ لقد ذكر الباحثون لذلك عدة أساب نجمل أهمها كالآتي:
وأما النصارى فإنهم مجمعون1 على ألوهية المسيح واعتقاد ربوبيته وأنه الإله الذي خلق العالم وجبل بيديه طينة آدم. فإذا أثبتنا نبوّته وأوضحنا رسالته عُرِف أن الإله غيره، والرّبّ سواه، ونحن نثبت ذلك من كتب النصارى التي بأيديهم ونوضحه من قول المسيح / (1/33/ب) وأقوال تلاميذه الذين صحبوه: 1- قال يوحنا التلميذ: "قال المسيح لتلاميذه: من قَبِلكم وآواكم فقد قبلني وآواني ومن قبلني فإنما يقبل من أرسلني. ما من عبد أفضل من سيّده"2. فهذا يوحنا حبيب المسيح يشهد بأن المسيح لم يَدَّع سوى الرسالة وأن من يقبل منه فإنما يقبل من الله الذي أرسله، ويذكر أن الله غيره وأن الرّب سواه، وأنه رسول من عند الله وها هو معترف بالعبودية في قوله: "ما من عبد أفضل من سيّده"، وذلك موافق للكتاب العزيز إذ يحكي منه: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِي الكِتَابَ وَجَعَلِنِي نَبِيّاً} . [سورة مريم، الآية: 30] . فإن زعم النصارى أنه سيد الحواريين وأنهم عبيده وأنه عناهم بقوله: "ما من عبد أفضل من سيّده" أكذبهم الإنجيل إذ يقول فيه: "إن الحواريين إخوته". "فقال له قائل: قابل إخوتك بالباب يطلبونك، فأشار إلى تلاميذه وقال: هؤلاء إخوتي"3. "وقال له أحدهم: يا سيّد. فقال: لست أدعوكم عبيد بل أنتم
إخوتي"1. "وقال بعد قيامه: قل لإخوتي يسبقوني إلى الجليل"2. فقد ثبت بقوله رسالته وأن الله غيره وأنه غير الله، والرسول نبي بسفر بين الله وبين خلقه. فإن قالوا: نسلم أن الله أرسله ولا غرو / (1/34/أ) أن يرسل الله كلمته رحمة لخلقه ولطفاً بهم، وذلك أنه لما أرسل الله أنبياءه، فكذّبوهم وقتلوهم بعث إليهم ابنه الذي هو كلمته فتجسدت من مريم البتول ليتهيأ للناس السماع منها والأخذ عنها. فنقول: هذا تعريج على ثدنات3 الحمق وترويج بِبُنيَّات4 الطرق، وذلك لأن الكلمة عندكم قديمة، وهي علم الله على رأي بعضهم، ونطقه على رأي آخرين، وإذا كانت الكلمة قديمة، فكيف يصح إرسالها؟! أفتقولون إن الأب بعد إرسالها بقي أخرساً جاهلاً بغير علم ولا نطق؟! ثم الكلمة هي صفة العلم فكيف تفارق الصفة ذات الباري والصفة لا تفارق موصوفها؟! أو تقولون إن الصفة تقوم بمحلين؟!. وأخبرونا كيف قَدِر الخلائق على رؤية الكلمة القديمة وثبتوا عند مواجهتها؟! والتوراة تشهد أن موسى بن عمران عليه السلام لم يثبت عند جلال التجلي بل خَرَّ صعقاً وصار الجبل يضطرم ناراً5 وكذلك السبعون شيخاً ماتوا لوقتهم عند سماع كلام الله6.
أتقولون إن موسى وصلحاء أصحابه لم يبلغوا من التمكين مبلغ / (1/34/ب) الحواريين الذين زعمتم أنهم شاهدوا الكلمة وخدموها؟! على أن اليهود الملاعنين أيضاً قد شاهدوا المسيح وقاوموه. أفتقولون إن موسى ومن معه من الأشياخ لم يبلغوا من التمكين والقوة مبلغ اليهود؟! هذا وأنتم تروون في التوراة: "إن قوم لوط لما دنوا من الباب يريدون ضيفه برقت من بعض من الملائكة بارقة أعشت أبصارهم، فلم يقدروا على رؤية الملائكة"1. فمن لم يستطع رؤية مخلوق مثله، كيف استطاع رؤية الرّبّ العظيم والإله القديم؟! وأخبرونا كيف تقوم الكلمة تتردد بين اليهود في الأرض نيفاً وثلاثين سنة لا يسطع منها نور يغشى الأبصار ويذهل العقول ويزعزع القلوب؟!. وكيف لم [تتناوبها] 2 الملائكة ويترددون إلى خدمتها؟! وهذه التوراة تنطق: "أن ابني هارون حين دنوا من قبة الزمان وبخَّرا بنار غريبة لم يؤذن فيها، نزلت من السماء نار فأحرقتهما بين يدي موسى وهارون وسائر بني إسرائيل"3. "وقد كلم الله موسى من صوب العوسجة فأضاء له الوادي"4. "وأرسل [أخزيا] 5 الملك الكافر خمسين رجلاً ليأخذوا الياء / (1/35/أ) النبي فنَزلت نار من السماء فأحرقتهم ثم بعث آخرين فنَزلت النار فأحرقتهم ثلاث مرات"6.
"وألقى بختنصر ثلاثة من أرقاب دانيال النبي في نار عظيمة1 فلم تعد عليهم" "وطرح بختنصر دانيال إلى السباع فلم تهجه"2. وهؤلاء عبيد لله تعالى، فكيف نكص عنهم الشيطان وتمكن من ربّهم على زعم النصارى حتّى أغرى به شرذمة من أَخَسَّ جنده وهم اليهود فقتلوه وصلبوه؟! إذكان المسيح عندهم هوالله أومتّحداًبه وساكناًفيه. وأخبرونا كيف تتجسدالكلمةفتصيرلحماًودماًوعروقاً شعراًوظفارً؟! أذلك شيء شاهدتموه عياناً فساغ لكم أن تخبروا به الناس وتدعوهم إلى اعتقاده والقول به، فادَّعوا ما بدا لكم، فمن الذي يمسخ الله عقله ويسلخ لبه فيجيبكم إلى دين اعتقاد أهله أن الله ولد علمهُ، وأن علمه صار إنساناً، وصار ذلك الإنسان إلهاً خالقاً، وأن ذلك الإله قتله خلقه وصلبوه ونكلوا به؟!! فمتى تُساعدون على هذه الخرافات التي يأنف منها النوكى والمغفلون والعجائز المثكلون؟ وأخبرونا أليس المسيح عندكم / (1/35/ب) هو الكلمة، والكلمة هي المسيح؟ فإذا قالوا: نعم. قلنا: فنحن وأنتم نعلم أن المسيح كان يكون منه يكون من الآدميين، أفتصفون الكلمة بأنها كانت بائلة غائطة؟!. فإن قالوا: البائل الغائط هو الناسوت أبطلوا الاتّحاد وأزروا على يوحنا الإنجيل الذي زعم أن الكلمة صارت جسداً وحلّت في الناسوت. وكذَّبوا فولس الذي يسمونه رسولاً في قوله: "إن المسيح ابتاعنا من لعنة الخطيئة بصلبه وقتله فصار لعنة بدلنا"3.
وسفّهوا إفريم في قوله: "إن اليدين التي جبلت آدم هي التي سمرت بالمسامير وإن الشِّبر التي مسحت السماوات هي التي علقت بالصليب". فإذا قالوا: "إن الآكل الشارب البائل الغائط هو الناسوت فقد كفروا بإفريم وفولس الرسول وغيره من مشائخهم". وقد نقل عن أكابرهم أنهم قالوا: "من لم يقل إن مريم ولدت الله فهو محروم من ولاية الله"1. وهم يقرؤون في صلواتهم: "يا والدة الله افتحي لنا أبواب الرحمة، يا من سمرت يده على الصليب لا تضيع من خلقت بيدك". وإذا كان هذا اعتقادهم فقد اعترفوا بأن الآكل الشارب المقتول المصلوب هو الله، تعالى عن كفرهم علوّاً كبيراً. فإن قالوا: هذا لازم / (1/36/أ) لكم أيضاً فإنكم موافقون على أن المسيح كلمة الله وقد نطق به قرآنكم. قلنا: لسنا سواء، فإنا نقول إن الله تعالى شرّفه بتسمية سمّاه بها كما سمّى إبراهيم خليلاً، وسمّى موسى كليماً، وسمّى إسرائيل ابناً بكراً بزعمكم، وسمّى موسى رجل الله، وسمّى عصاه قضيب الرّبّ، وسمّى قبة الزمان خباء الله، كلّ ذلك قد نطقت به كتبكم، والتسميات لا اختلاط لها بالذوات.
ألا ترون الشخص الواحد والعين1 الواحدة تسمّى باسمٍ عند قوم وتسمّى باسمٍ آخر عند آخرين، وإذا كان المسيح عندنا قد سمّاه الله: (كلمة) لم يلزمنا ما لزمكم، فأما أنتم أيها الضلال فتقولون: إن كلمة الله انقلبت لحماً ودماً، فأكلت الخبز وشربت الماء وذلك هو الحَيْرة والعماء. فإن رجعتم إلى الطريقة المثلى وأضربتم عن هذه المقالة الشوهاء، وقلتم: إن النقائص يستحيل دخولها على الله وعلى صفته، فقد تركتم القول بألوهية المسيح وأبطلتم الاتّحاد، وذلك هو المراد؛ ووافقتم المسلمين والأنبياء المتقدمين. قال الله تعالى حكاية عن المسيح {قَالَ إِنِّ عَبْدُ اللهِ} . [سورة مريم، الآية:30] .وقال تعالى في المزامير:"إن المسيح يشبه/ (1/36/ب) ملكي صادق"2."ملك عادل الذي كان ببيت المقدس"،وقال الحواريون: "إن يسوع يشبه موسى"،وقال بعضهم:"إن المسيح أفضل من موسى"3. وقال في الإنجيل: "أنا أفضل من يونس"4. وقال المسيح: "أتيتم من آفاق الأرض لتسمعوا من حكمة سليمان، وهاهنا أفضل من سليمان"5. يريد نفسه. وقال في الإنجيل: "إلهي لم تركتني"6؟!.
وقال في خاتمة إنجيل يوحنا: "إني ذاهب إلى إلهي وإلهكم"1. فاعترف بأن له إلهاً ورباّ فقد ثبتت عبوديته ونبوّته ورسالته. 2- دليل آخر على نبوّته عليه السلام، قال يوحنا التلميذ: "قال يسوع: أنا هو الراعي الصالح وأنا عارف برعيتي وهي تعرفني"2. وجه الدلالة من ذلك ما اشتملت عليه التوراة والكتب من رعاية إبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب والأسباط وموسى - عليهم السلام - تقدمت لهم مقدمات في رعاية النعم ثم أُهِّلُوا بعد لسياسة الأمم، فالنبي راع من الرعاة، وداع من الدعاة، يذودهم بالإنذار عن مراتع الهلاك ويريهم بأنوار الإيمان أشراك الإشراك، ولو كان الأمر على ما يهتف به النصارى من ربوبيته لم يقل في مجلس محشود ومحفل مشهود: أنا الراعي الصالح، بل كان يرفع / (1/37/أ) الالتباس ويقطع عن الناس الوسواس، ويقول: اعملوا أني أنا الله خالق السماء والأرض وجامعكم ليوم العرض، أو أنا ابن الله أو ثالث ثلاثة، أو أنا الكلمة القديمة اتّحدت بجسم إنسان. وحوشي3 عليه السلام عن هذا الذيان، بل الذي نصّ عليه ودعا تلاميذه إليه قوله في الإنجيل: "لا صالح إلاّ الله الواحد"4. وقوله: "إن الله لا يأكل ولا يشرب ولا رآه أحد". وقوله: "إني لا أعمل بمشيئتي بل بمشيئة من أرسلني"5. وسئل عن القيامة فقال: "لا يعرفها إلاّ الله وحده، فأما أنا فلا أعرفها"6.
فقوله: "أنا هو الراعي"، تكذيب للنصارى في دعوى ربوبيته؛ لأن الراعي ليس إليه ملك الغنم بل ملكها لغيره وليس له سوى الرعاية. وقوله: "وأنا عارف برعيتي وهي تعرفني". فيه دليل على أن الخلائق ليسوا بمعمومين بدعوته، بل لم يبعث إلاّ إلى طائفة من بني آدم لا غير. وقد كشف هذا وأوضحه في موضع آخر: "وهو أن أصحابه سألوه أن يقضي حاجة امرأة من الكنعانيين، فقال: لا يحسن أن يؤخذ خبز البنين فيلقى للكلاب إني لم أرسل إلاّ إلى الذين ضلّوا من آل إسرائيل"1. فهذه نصوص الإنجيل الناجية من التبديلد، وكلها دالة على نبوته ومفصحة برسالته / (1/37/ب) صلى الله عليه وعلى إخوانه من النبيّين والمرسلين. 3- معجزة دالة على نبوّته، قال متى: "جاء رجل أبرص إلى يسوع وسجد له وقال: يا ربّ طهِّرني، فقال: طهرتك. فزال برصه لوقته، فقال له يسوع: اذهب وقرب قرباناً كما أوصى موسى"2. إن طعن اليهود في هذه الآية وجحدوها ولم يؤمنوا بها، قلنا لهم: ما الدليل على أن هارون وبنيه كانوا يزيلون البرص عن الأبرص3 وذلك شيء لم تشاهدوه؟ فإن قالوا: نقل إلينا بطريق التواتر التي توجب العلم ويقتضي القطع ولا يبقى معها شكّ. قلنا لهم: فكذلك تواتر واشتهر وانتشر أن المسيح كان يفعل
ذلك، فإن حاولوا طعناً في آية المسيح انعكس عليهم في آية هارون وسائر الرسل، وإذا كانت هذه الآية لا سبيل إلى ردها وجحدها فقد لزم اليهود القول بنبوّته وترك ما هم عليه من التهود1. وإن حاولوا إسناد ذلك إلى معرفته بالطبّ ووقوفه على خواص تزيل البرص بسرعة، قيل لهم: فلعل موسى أيضاً حين طهر أخته مريم من برصها2 كان قد لطف في علم الطبّ ووقف على خواص فعل بها ما فعل دون أن يكون ذلك معجزة له، وحيث / (1/38/أ) بطل ذاك بطل هذا، وكان ما صدر منهما معجزة من عند الله تعالى. وإن قال النصارى: بذلك نستدل على ربوبيته إذ سجد له الأبرص، وقال له: يا رب، فلم ينكر عليه، ولو كان ذلك غير جائز لأرشده وقوّم أوده، فإقراره على ذلك وإزالة برصه دليل على ربوبيته.
قلنا: ليس في ذلك دلالة على ما انتحلتموه، أما السجود1 فهو كان سلام القوم وتحيّتهم فيما بينهم، يعرف ذلك من طاع كتبهم وقرأ تواليف المتقدمين منهم. والدليل على ذلك ما اشتملت عليه توراتهم من "سجود2 إبراهيم ولوط للملائكة الذين مرّوا بهم لهلالك سدوم"3. "وسجود إبراهيم لقم ساومهم في قطعة من الأرض لدفن زوجته سارة فسجد لهم مرتين حين فاتحهم فيها"4. والتوراة تشهد أيضاً: "إن إسرائيل حين دخل على يوسف بمصر سجد له هو وأولاده"5. وكذلك التوراة: "تشهد أن إفرام ومنشا6 سجدا ليقعوب جدهما
بحضرة أبيهما يوسف فدعا لهما وبارك عليهما"1. ولم ينكر فعلهما. وأما قوله: "يا ربّ"، فسيأتي الكلام عليه - إن شاء الله - في باب تأويل ظواهر الإنجيل ونبيّن / (1/38/ب) أنه لفظ يخاطب بها الأكابر والعظماء من الناس، وذلك مشهور في كلّ ملة. فأما تطهير الأبرص فليس فيه دلالة على ربوبية عسى عليه السلام وألوهيته، بل ينتهض ذلك دليلاً على تقريبه من ربّه ومزيته، ولو جاز أن يتخّذ المسيح بذلك ربّاً لجاز ذلك في حقّ اليسع عليه السلام؛ إذ قد روى النصارى واليهود في كتاب سفر الملوك من كتبهم: "أن نعمان2 الرومي برص فرحل إلى اليسع من بلده واستأذن عليه فلم يأذن له، بل قال لرجل من أصحابه: "قل له ينغمس في الأردن سبع مرات"، ففعل الرجل فبرأ من برصه لوقته ورجع إلى بلده معافى فاتبعه غلام للمسيح يقال له: (حِجْزا) 3 وأوهمه أن المسيح أرسله يطلب منه مالاً ففرح نعمان بذلك وأعطاه مالاً وجوهراً ثميناً فأخفاه الغلام وجاء إلى اليسع، فقال له اليسع: تبعت نعمان وأوهمته عني كذا وكذا، وأخذت منه كذا وخبأته في موضع "كذا، إذ فعلت ذلك فليصر برصه عليك وعلى نسلك. فبرص الغلام مكانه"4. فهذا نبيّ الله اليسع قد فعل ما هو أعجب من فعل المسيح / (1/39/أ) لأنه أبرأ نعمان وبرَّص الغلام ونطق بالغيب، وقد أشار الإنجيل إلى طرف من القصة.
فأما التوراة فهي تنطق: "أن مريم ابنة عمران1 أخت موسى وهارون تَغَرَّبت على موسى في أمر من الأمور فلما صعدوا إلى قبة الزمان وكلّمهم الله سبحانه تهدد مريم جدا وغضب عليها، فلما خرجت من القبة نظر إليها هارون أخوها فإذا هي قد ضربت بالبرص من قرنها إلى قدمها، فرق لها هارون وسأل موسى أن يدعو الله لها فدعا لها فشفيت"2. وهذه الأنبياء قد فعلت ما هو مثل فعل المسيح وأعجب منه. فإن قال النصارى: "إن موسى واليسع وغيره كانوا يفعلون ذلك ولكن بعد ابتهال إلى الله ودعاء وطلب ورغبة، فأما المسيح فإنه كان يخترع ذلك اختراعاً من نفسه من غير دعاء ونداء. قلنا لهم: من سلم أن المسيح كان يفعل ما يفعل غير مبتهل إلى الله ولا طالب إليه، والدعاء لا يشترط لإجابته الإعلان، فإن الداعي يناجي بحوائجه من استوى عند السر والجهر، ومن أين لكم أن المسيح كان لا يدعو ربه / (1/39/ب) سرّاً؟! على أنا نريكم عدة مواضع من الإنجيل الذي بأيديكم يشهد أنه كان لا يفعل معجزاً إلاّ بعد أن يسأل الله ويضرع إليه ويُعَوِّل في نُجْح مطالبه ومآربه عليه، قال في الإنجيل: "عندما أحيا حبيبه العازر ورفع بصره إلى جهة السماء: يا
[أبت] 1 أشكرك لتستجيب لي وأنا أعلم أنك تستجيب لي في كلّ حين، ولكن أشكرك من أجل هؤلاء الفئام ليعلموا أنك أرسلتني"2. فها هو قد أكذب النصارى في دعواهم أنه كان يخترع من تلقاء نفسه من غير دعاء وابتهال. وقال فيما حكاه النصارى عنه: "إلهي إن كان يحسن صرف هذا الكأس فاصرفها عني كما تشاء أنت لا كما أشاء أنا"3. وهذا شيء لم نسمعه إلاّ منهم فقد وضح كذب مورد السؤال. فأما موسى عليه السلام فالتوراة تشهد بأنه كان يلقي عصاه فتصير ثعباناً ثم يأخذها فتعود خشبة4 ثم يلقيها فتعود شجرة وتمد أغصاناً وتثمر لوزاً5 ثم يتناولها فتعود عصا ثم يضرب بها النيل فينقلب دما ثم يضربه / (1/40/أ) فيرجع ماء6 كل ذلك من غير سؤال ولا استغاثة. وقد أحيت تربة قبر اليسع ميتا7، وأبرأ يوسف عيني أبيه من غير سؤال ولا
دعاء1، وأحرق إيليا ثلاثة عساكر بنار نزلت من السماء2 ولم يتقدم منه دعاء ولا طلب فعل ذلك عدّة من الأنبياء، فأما المسيح فقد بينا أنه كان في غالب أمره يدعو ويضرع كما قدمناه، ولم ينقل أن واحداً ممن سَمَّينا ضُرب ولا غُلب، فأما المسيح فالنصارى تزعم أنه قتل وصلب. والعجب منا ومنهم فإنا نعتقد نبوّته وسلامته وهم يعتقدون ربوبيته وعطبه، لقد تباعد ما بيننا وبينهم. 4- معجز دال على نبوته، قال مى: "جاء رئيس من الرؤساء إلى يسوع فقال: إن ابني قد ماتت فلعل تأتي إلينا فتضع يدك عليها، فمضى معه ووضع يده عليها، فعاشت ابنة الرجل"3. فإن أنكر اليهود ذلك مع تواتره وأكذبوا التواتر انعكس عليهم في نبوة أنبيائهم وإن زعموا أنه فعل ذلك تخييلاً، قيل لهم: ولعل قلب العصا حيواناً يسعى كان أيضاً تخييلاً / (1/40/ب) وشعبذة4 ودكا، فقد لزمهم القول بنبوة المسيح بالطريق التي لزمهم القول بنبوة موسى وغيره. ولو تطرق التشكيك إلى نبوة المسيح مع ظهورها لم يثبت نبوة نبيٍّ ولا استقرت رسالة رسول.
وإن قال النصارى: ذلك دليل على ربوبيته إذ لا قادر على إحياء الموتى سوى الله تعالى، قال الله: {وَالمَوْتَى يَبْعَثُهم الله ... } . [سورة الأنعام، الآية: 36] . قلنا: فيلزم على ذلك أ، تعتقدوا ربوبية كل من أحيا ميتاً وتتخذوه ربّاً، وقد قال عندكم في كتاب سفر الملوك إن إلياس أحيا ابن الأرملة1، وأن اليسع أحيا ابن الإسرائيلية2 وأن حزقيال أحيا بشراً كثيراً يقال إنهم ستّون ألفاً أحياهم في ساعة واحدة3، وهذا أعجب من إحياء المسيح نفسين أو ثلاثة. والتوراة تشهد إن موسى كان يقلب عصاه ثعباناً، فبينما هي خشبة إذ عادت حيواناً ذا عينين يأكل ما مرّ عليه4، وقلب الخشب حيواناً أبدع من إعادة الروح إلى ميت. 5- معجز دال على نبوة المسيح، قال متى: "حضر إلى يسوع أعميان فقالا: ارحمنا يا ابن داود، فقال: أتؤمنان؟ قالا: نعم. فلمس أعينهما وقال: / (1/41/أ) كإيمانكما يكون لكما. فانفتحت أعينهما، فقال: لا تقولا لأحد شيئاً"5. فإن أنكر اليهود هذه الآية وطرقوا إليها المطاعن، قيل لهم: بأي طريق ثبت لكم "أن موسى عليه السلام شكا إليه [بنو] 6 إسرائيل الحيات التي لدغتهم في
التيه فاتّخذ لهم حيةً من نحاس ونصبهم على خشبة وقال: من لدغته أفعى فلينظر إلى تلك، ففعلوا وصحوا"1. فإذا قالوا: "التواتر والنقل المستفيض يشهد به. قيل لهم: فاقتعوا منا بهذا الجواب. وإن قال النصارى: ذلك دليل على ربوبية المسيح. قلنا لهم: لو جاز ادعاء ربوبيته بذلك لجاز لآل يوسف أن يدّعوا ربوعيته بمثله؛ إذ التوراة تشهد أنه أبرأ عيني والده يعقوب بعد ذهابهما، ولما لم يجز التمسك بذلك في الربوبية لم يجز هذا، والمسيح أمرّ بستر ذلك، ويوسف لم يأمر به، فيدل على أنه أقوى حالاً وأعظم تمكيناً من غيره. ومعلوم عندكم: "أن موسى قد ضرب بعصا كثيب رمل فانهال قملاً لكل واحدة عينان تبصر بهما"2. وهذا أعجب من فعل المسيح؛ لأن فيه خلق الحيوان كله، وذلك رد الصحة على جارحة من جوارحه بعد ذهابها. وقد / (1/41/ب) شهد متى صاحب المسيح أن المسيح لا يعلم المغيبات "إذ يقول للرجلين: أتؤمنان؟ فقالا: نعم". وأنه لم يعلم بإيمانهم بعد قولهما حتى علق الشفاء على إينمانهما، "فقال: مثل إيمانكما يكون لكما". فضاهى ذلك قوله: "وقد
سئل عن يوم القيامة فقال: لا أعلمها. بل الله وحده هو الذي يعلم ساعته ووقتها". وبذلك نرد على من زعم أنه من جوهر الأب، حيث قالوا في الأمانة: "المسيح إله حقّ من إله حقّ من جوهر أبيه". وهذه الفصول من الإنجيل تكذب تلك الأمانة وتُخطِّئ من ألفها إذ لو كان من جوهر الأب لكان علمه من جوهر عمله، ومشيئته من جوهر مشيئته، وسائر صفاته من صفاته، ولم يكن جسماً ذا شعر وبشر، بل المسيح من جوهر أبيه داود وإبراهيم فهو إنسان حقّ من إنسان حقّ من جوهر أبيه، والعجب أن المسيح عليه السلام رضي من الرجلين أن نسباه إلى داود وقضى حاجتهما ولم ترضَ النصارى له بما رضيه لنفسه حتى نسبوه نسبة خالفوه فيها وأسخطوا الله وأضحكوا منهم سائر / (1/42/أ) طوائف آدم، على أن قول الرجلين له: "يا ابن داود" لوكان خطأ منهما، لم يقرّهما المسيح على الخطأ، ولاسيما خطأ هو كفر! 1. وكيف يسمعهما ينطقان بالكفر وهو إنما جاء ليخلص الناس منه؟! بل قد سمع ذلك منهما فأقرهما عليه وشفاهما، وذلك منه بما نسباه إليه من نبوة داود، وكيف لا يرضى بذلك منهما وهي النسبة الجليلة التي نسبه بها جبريل الملك حين بشر به مريم بالناصرة كما شهد به لوقا في إنجيله: "إذ يقول لها: إنك تقبلين حبلاً بولد اسمه يسوع يجلسه الرّبّ على كرسي أبيه داود"2. فالويل للنصارى، لم يرضوا له النسبة التي نسبه بها الحواريون، وارتضاها المسيح من أهل زمانه، وجاء بها جبريل من عند الله.
فمن عذيري1 من قوم لبسوا عقولهم مقلوبة يتنكبون السبيل ويرتكبون خلاف ما في الإنجيل؟!. نكتة: قال متى: "سمع يوحنا وهو السجن بأعمال المسيح فأرسل إليه اثنين من تلاميذه، وقال: قولوا له أأنت الآتي أو يرجى آخر؟ فقال يسوع: اذهبا وأخبرا يوحنا بما رأيتما وسمعتما العمي يبصرون والعرج يمشون، والبرص يطهرون،/ (1/42/ب) والصمّ يسمعون، والموتى يقومون، فطوبى لمن لم يشك فِيَّ، فلما ذهب التلميذان قال يسوع: هذا الذي كنت من أجله، هو ذا أنا مرسل ملاكي قدام وجهك ليستهل طريقك، الحق أقول لكم، إنه لم تلد النساء أفضل من يوحنا، والصغير في ملكوت الله أفضل منه، بماذا أشبه هذا الجيل الشرير؟ أشبهه بصبيان يصيحون بإخوانهم قائلين: زمنا لكم فلم ترقصوا، ونحنا لكم فلم تبكوا، جاء يوحنا لا يأكل ولا يشرب، فقالوا: به شيطان، جاء ابن الإنسان يأكل ويشرب، فقالوا: إنسان أكول شريب خمر خليل العشارين والخطاة، فتبررت الحكمة في بينها"2. قلت: كيف يعتقد في المسيح الربوبية وهذا نبي الله يحيى بن زكريا يرسل إليه: "أأنت الآتي أو يرجى آخر؟ ". فإن كان هذا الشّكّ من يوحنا لا يقدح في إيمانه ونبوته فالمسيح ليس بإله؛ لأن الشّكّ في الإله كفر. وإن كان المسيح إلهاً كما يهذي به النصارى فقد كفَّروا يوحنا هذا. أفتدعي النصارى - ويلهم - أن يحيى بن زكريا كان جاهلاً بربّه مع قول المسيح: "إن النساء لم تلد أفضل منه؟ ". فشهادة المسيح / (1/43/أ) ليوحنا بأنه أفضل أهل زمانه دليل
على غلط النصارى في دعوى ربوبية المسيح، إذ لو كان كما قولوا لكان الأولى باعتقاد ذلك يوحنا، وإنما أرسل يوحنا يسأل عن النبوة والرسالة، فلما أحاله على رؤية الخوارق والتي هي أعلام النبوة زال تردده في نبوته. وأما قول المسيح: "والصغير في ملكوت الله أفضل منه"، فيعني بالصغير نفسه جرياً على عادته في سلوك التواضع، وفي ذلك دلالة على نبوته من قوله؛ لأن الأفضلية لا تثبت إلاّ بين فاضلين اشتركا في أصل الفضل ثم ترجح أحدهما على الآخر بمزيد من الفضل، ولا يحسن أن يقال: إن الباري جل وعلا أفضل من زيد أو عمرو. مناقشة: قلب النصارى الحكمةَ وأبدلوها وحرفوا كتب الله وبدلّوها، وصفوا يوحنا بصفة الأرباب في استغنائه عن الطعام والشراب، فقالوا: "كان يوحنا لا يأكل ولا يشرب". واعتقدوا في المسيح الربوبية مع وصفهم له بنقص العبودية، فقالوا: "كان المسيح إنساناً أكولاً شريب خمر"1. فسخر / (1/43/ب) منهم ذووا الألباب وآضوا2 سُبَّةً على ممرّ الأحقاب. مناقشة: زعم النصارى أن المسيح كان يتردد إلى أورشليم للاستفادة والتعليم ويسائل الأحبار عن الأخبار3 ثم اعتقدوا أنه الذي أنزل التوراة على الكليم وفدى الذبيح من يد إبراهيم، فيقال لهم: يا ممسوحي الحلوم ومسلوخي الفهوم، كيف يتعلم كتاباً هو الذي أنزله أو يتلمذ لرسول هو الذي أرسله؟!. 6- معجزة دالة على نبوته عليه السلام، قال متى: "حضر إلى يسوع رجل يابس اليد، وذلك بحضرة جماعة من اليهود، فسألوه: هل يحل أن تداوي في
السبت؟! لكي [يَنُمُّوا] 1 عليه، فقال لهم يسوع: "أي رجل منكم يسقط خروفه في بئر في يوم السبت فلا يقيمه؟!، فالإنسان أولى من الخروف، ثم قال للرجل: امدد يدك، فمدّها فصحت وعادت كالأخرى، فخرج اليهود متآمرون في إهلاكه، فعلم يسوع سرّهم، وانتقل من هناك فتبعه مرضى فشفاهم"2. قلت: هربه وتواريه غير قادح في نبوته ولا غاض من رسالته، فذلك كثير ما اتّفق لأنبياء الله وصوفته / (1/44/أ) غير أنه لا يليق بجلال الربوبية، وهو يقدح في قول النصارى إن المسيح إنما نزل من السماء وتجسد من روح القدس وولدته مريم وحلّ في هذا العالم لخلاص آدم وذريته م الجحيم ببذل دمه حتى يكون مؤدياً ما وجب على آدم بأكله الشجرة، فلو كان الأمر على ما يهذون به لما فرّ من ذلك وتوارى وتَحَوَّل من بلدة إلى بلدة أخرى من أمر إنما جاء وتَعَنَّى بسببه، إذ في تأخير قتله استدامة آدم وذريته في العذاب. فإن قال النصارى:"إنما تَحوَّل واختفى لأن ساعة أجله لم تحضربعد". قلنا: فكان الأولى أن لا يتحول إذاً، إذ كان لبثه لا يجر إليه مكروهاً ولا يسلط عليه سفيهاً، وما أحسن3 إلهاً له ساعة ترتقب وأجل ينقرض وينقضب. 7- مضاهاة كلام المسيح لكلام الرسل - عليهم السلام -، قال متى: "أتي يسوع بأعمى به شيطان أخرس فأبرأه، فعظم الجمع ذلك، فقال الفريسيون: "إنما يخرج الشياطين ببعل زبول رئيس الشياطين، فعلم يسوع سرهم، فقال: لا يستطيع أحد أن يدخل بيت القوي وينهب متاعه / (1/44/ب) إلاّ أن يربط القوي أوّلاً ثم يأخذ متاعه، من ليس معي فهو عليّ، ومن لا يجمع معي فهو يفرق، إن كلّ 1 في ص (ينمو) ، الصواب ما أثبته.
تجديف يترك للناس، والتجديف على روح القدس، لا يترك في هذا الدهر ولا في الدهر الآتي"1. قوله: "كل تجديف يترك للناس والتجديف على روح القدس لا يترك"، مواطئ لقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن كذباً عليّ ليس ككذب على أحد، فمن كذب عليَّ متعمداً فليتبوّأ مقعده من النار "2. غير أن بين الكلامين في المقدار ما بين الدرهم والدينار. 8- دليل على نبوته من قوله: قال متى: "قال له قوم من الكتبة: يا معلم نريد أن ترينا آية، فقال: الجيل الشرير الفاسق يطلب آية فلا يعطى إلاّ آية يونان النبيّ؛ لأن يونان أقام في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال، كذلك ابن الإنسان يكون في قلب الأرض وبطنها ثلاثة أيام وثلاث ليال. رجال نينوى يقومون في يوم الحكم ويحاكمون هذا الجيل لأنهم تابوا بدعوة يونان وها هنا أفضل من يونان"3. قلت: هو ذا المسيح قد صرح بنبوته في عدة / (1/45/أ) مواضع من هذا الكلام: - أحدها: تقرير الكتبة على قولهم له: يا معلم، ولم ينكر عليهم ويقول: كذبتهم بل أنا ربكم أو ابن إلهكم، كما لفق النصارى في أمانتهم التي بأيديهم.
وكيف يجوز إقرارهم على الخطأ في ذات الله، بل إنما أقرهم على الصواب، إذ قال لهم في الإنجيل غير مرة: "إن الأنبياء كلهم [معلِّمون] 1") . - والثاني: تسويته بين نفسه وبين يونان النبي في جريان المقدور، ويونان2 هو يونس3 بن متى عليه السلام، ومحاكمة أمة يونس لأمته يوم القيامة. - والثالث: تفضيله نفسه على يونان، وقد قلنا: إن التفضيل إنما يكون بين فاضلين رجح أحدهما على الآخر، ولا يحسن بين الملك والأتوني4، فكيف يحسن بين الله وعبد من عبيده، قال تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} . [سورة الإسراء، الآية: 55] .ولا غرو أن يفضُل المسيح يونس كما فضُل محمّد سائر الرسل على ما نوضحه إن شاء الله في الباب العاشر من هذا الكتاب. فأما قوله: "إن ابن الإنسان يكون في قلب الأرض وبطنها ثلاثة أيام وثلاث ليال"، إن سلم عن الاختلاق فذلك محمول على الشبه / (1/45/ب) الذي قتله اليهود وصلبوه فإنه ابن الإنسان، فأما المسيح فهو عندكم معشر النصارى ابن الله، وإلاّ فما بالكم في صلواتكم وبيعكم لا تدعون المسيح ابن الإنسان، فتقولون في أدعيتكم وقراءتكم: يا ابن الإنسان اغفر لنا، يا ابن الإنسان ارحمنا، هذا شيء لا تقولون به ولا تستجيزون إطلاقه، فكيف صرتم إذا لدغتكم حجاج
الحقّ تستروحون إلى ما لا تقولون به؟! هل ذلك إلاّ حيرة وضلال وغلو في عبادة الرجال؟! على أنا نريكم من الإنجيل ما يسيء ظنكم بهذا الفصل وينفركم من القول بصحته وذلك أن الإنجيل الذي بأيديكم يشهد أن المصلوب لم يمكث في بطن الأرض وقلبها سوى يوم واحد وليلتين لا غير، لأن الإنجيل يشهد: "إن يوسف الرامي1 استوهب الجسد من فيلاطس2 القائد عَشية الجمعة ودفنه في قبر كان قد اتّخذه له ليلة السبت، وبقي يوم السبت مدفوناً، وطلب بكرة يوم الأحد غلساً فلم يوجد سوى الأكفان في القبر موضوعة بشادة مريم المجدلانية3 خادمة المسيح وغيرها"4. فلم يلبث سوى يوم / (1/46/أ) وليلتين، فقد اختلف قولكم أنه يقيم في قلب الأرض وبطنها ما أقام يونان في بطن الحوت وهو ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ5. فأي وثوق بقي يحصل لعاقل بكم؟ وأي طمأنينة تتفق بنقلكم؟ وأية حجّة
لكم على تصحيح مذهبكم في القتل والصلب بعد صدور هذا الكذب الشنيع؟!. فإذا كان هذا تحريفكم في أمر يتعلق بالعدد مما لا تعظم فيه المؤنة ولم تشتد الكلفة، فكيف يوثق بكم فيما وراءه؟! ونحن إذا انتهينا معكم إلى ذكر القتل والصلب أريناكم غلطكم في دعوى قتل المسيح وصلبه وأبدينا لكم من الأناجيل التي بأيديكم ما يدل على خلاف ما صرتّم إليه وأرشدناكم إلى وجه الاستنباط منه؛ رجاء الأجر فيكم والمثوبة في هداية بعضكم، وتبصرة وإيضاحاً لإخواننا المسلمين، وتعريفاً لهم مصداق قول ربنا جل اسمه: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُم} . [سورة النساء، الآية: 157] . 9- معجزة دالة على نبوة المسيح عليه السلام، قال متى: "حضر إلى يسوع جمع كثير وليس عنده إلاّ / (1/46/ب) خمس خبزات [وحوتان] 1 فرفع بصره إلى السماء ودعا وبارك على الطعام فأكل الجمع وشبعوا وفضلت كسر كثيرة"2. إن قدح اليهود في هذه الآية وزعموا أنها قُيدت في الإنجيل هي وأخواتها من غير أن يكون لها صحة، فيقال لهم: فما يؤمنكم أن يكون أيضاً قد قيل في كتاب التوراة التي بأيديكم ما ليس له صحة ولا تحقيق؟ فإن زعموا أن أسلافهم الذين نقلوا إليهم خوارق التوراة انتهوا في الثقة والديانة والصدق والأمانة إلى حدّ أمنوا معه هذه الغائلة، أجيبوا بمثل ذلك، وقيل لهم: الناقلون لمعجزات المسيح أيضاً انتهوا من الدين والتقى والعفاف إلى غاية انتفت عنهم أسباب التهم.
وإن قال النصارى: هذه الآية تدل على ربوبية المسيح، قلنا: كيف ذلك، وها هو قد رفع وجهه إلى السماء وحرك أخلاف الإجابة بأنامل الدعاء، وهذا هو دأب الأنبياء وسنة الأولياء إذ دُفِعوا لبثِّ الحقّ وإرشاد الخلق رغبوا إلى معبودهم وطبلوا إليه ما يحقق قصدهم ويعرف أممهم / (1/47/أ) صدقهم والخلائق عيال الله، والنبي نائب عنه في إيصال رزقه إلى خلقه، وبالجملة فلو جاز أن يعتقد في المسيح الربوبية بمثل هذه الدعوى لجاز أن يعتقد في موسى: "بإطعام قومه المن والسلوى وهم يزيدون على ستمائة ألف نفس سوى النساء والصبيان. فأما المن فكان يسقط على الأرض الليل كله كصفائح الجليد أبيض كحب الكزبرة وطعمه كشهد العسل، وأما السلوى فطائر السمان كان يتراكم على الأرض في عسكر بني إسرائيل حتى ملأ الرحاب"1. وهذا أعجب من فعل المسيح في الحوتين والخمسة الأرغفة؛ إذ آية المسيح تكثير خبز موجود، وآية موسى إيصال خير مفقود وقد اشتملت التوراة على عدة من الخوارق لم يأت المسيح بنظيرها فنسمح بشطرها. 10- بعد ذوي اليسار2 عن مقام الأبرار، قال متى: "قال رجل ليسوع: يا معلم ما أعمل من الصلاح لأرث الحياة الدائمة؟ فقال: احفظ الوصايا، قال: وما هي؟ قال: لا تقتل. لا تزن، لا تسرق، لا تشهد بالزور /1/47/ب) أكرم أباك وأمك، وأحبب قريبك مثلك، فقال الرجل: كل هذا قد عرفته منذ صباي. فما الذي بقي علي؟ فقال المسيح: إن كنت تريد أن تكون كاملاً فاذهب وبع كلّ شيء لك وأعطه للمساكين ليكون لك كنْزاً في السماء وتعال اتبعني. فلما
سمع الرجل هذا الكلام مضى حزيناً؛ لأن ماله كان كثيراً، فقال المسيح: الحق أقول لكم، إن دخول الجمل في سم الخياط أيسر من دخول الغني ملكوت الله، فقال التلاميذ: من يقدر على هذا؟ فقال لهم: أما عند الناس فما يستطاع هذا، وأما عند الله فكل مستطاع. الأنبياء إنما بعثوا بالزهد في الدنيا والتفرغ للمولى والتزود للعقبى"1. وهذا الكلام من المسيح دال على نبوته ورسالته وفيه ما يهدم قاعدة من قواعد النصارى وهو: جعله حفظ وصايا الله المذكورة في هذا الفصل سبب الخلاص وإرث الحياة الدائمة من غير حاجة إلى قتل المسيح وصلبه. وعند النصارى أن الناس لا يخلصهم من الخطيئة إلاّ قتل المسيح وسفك دمه إذ يقولون في الأمانة / (1/48/أ) : "من أجلنا معشر الناس ومن أجل خلاصنا نزل المسيح من السماء وتجسد وولد وقتل وصلب". وهو ذا المسيح يكذب تلك الأمانة ويزري على من أَلَّفها إذ جعل الخلاص منوطاً بحفظ وصايا الله وأتباع أمره، ولم يوقف الخلاص على ما هذوا به في الأمانة التي هي في الحقيقة خيانة، والشريعة التي هي لإضاعة الشريعة ذريعة، فهلاَّ قال المسيح للرجل: لا ترث الحياة الدائمة حتى تعتقد ربوبيتي وتدين بألوهيتي وتعتقد أني إله حقّ من إله حقّ من جوهر الله، وتعترف بأني أتقنت العوالم وخلقت كل شيء وأني إله مسجون في إنسان أو متّحد به - كما لفقوه في شريعة إيمانهم وتسبيحة دينهم؟!. وحاشاه حاشاه أن يناط به هذا الوضَر2 ويغشاه؛ إذ هو القائل في إنجيله وفي أدعية ربّه تعالى: "أنت الإله الحقّ وحدك الذي أرسلت يسوع المسيح"3.
وقال: "لا صالح إلاّ الله وحد"1. وقال لرجل وهو يوصيه: "أحب الله من كلّ قلبك ومن كل قوتك ففي هذه الوصية جميع وصايا الأنبياء"2. / (1/48/ب) . وقال:"أنا ذاهب إلى إلهي وإلهكم"3. يقول ذلك للحواريين. فهذه نصوصه في التوحيد ونفي التثليث4. فمن أين جاءت النصارى هذه الداهية؟! 5. أسأل الله العصمة.
11- اعتراف أهل زمانه بنبوته واستجابتهم لدعوته: انقسم الناس في وقته أقساماً، فمنهم من يرميه بالخنا وبنوة الزنى، ومنهم من اعترف بنبوته واستجاب لدعوته، ومنهم من أدركته النفاسة وخشي أن يستلب الرئاسة، وداء الحسد متى استولى على الجسد فسد، وهو داء قديم من يوم: (أخرج منها فإنك رجيم) 1. قال رجل من الصحابة2: يا رسول الله أرفق بعبد الله بن أبيّ،
فوالله لقد جاء الله بك وإنا لننظم له الخرز لنملكه علينا، فإنه ليرى أنك استلبته ملكاً1، فرفق به عليه السلام كما علم ولم يعرض له حتى اخترم. قال متى: "لما دنا يسوع وأصحابه من أورشليم أرسل من جاءه بأتان وجحش فركب وفرش الناس له ثيابهم فارتجَّت المدينة لدخوله وقال الجمع: هذا يسوع النبي الذي من ناصرة الجليل، فدخل إلى / (1/49/أ) هيكل الله وأخرج الباعة الذين فيه وأمر برفع موائد الصيارف وكراسي باعة الحمام وقال: مكتوب أن بيت الله بيت الصلاة يدعى، وأنتم صيَّرتموه مغارة للصوص وكل مفسد"2. قلت: هذا الفعل من المسيح قريب من قوله عليه السلام حين بال الأعرابي في المسجد: "صبوا عليه ذَنُوباً من ماء، إن المساجد لم تُبنَ لهذا، إنما بُنِيت للصلاة والذكر"3. وفي الفصل: أن أحسن أقوال الناس فيه كان قول من يقول: هو نبي من الأنبياء. وفيه: أن المسيح احتاج أن يركب حماراً من التعب والإعياء وذلك يكذب الأمانة إذ تقول: "إن المسيح من جوهر الله". وقد خلق الله الخلق في ستة أيام وما مسَّه من لغوبٍ، فكيف يفتقر مَنْ هو مِن جوهره إلى المركوب؟! وإنما هو على الحقيقة من جوهر أبيه يعقوب، كما نطق به الإنجيل عن جبريل. 12- ومن الدلالة على نبوته إقراره من ينطق بنبوته على ذلك وترك الإنكار عليه:
قال لوقا في إنجيله: "صحب يسوع بعد قيامه رجلين/ (1/49/ب) وهما يتحدثان في أمره وأمر اليهود فقال لهما: مَن تذكران؟ وكانت أعينهما ممسوكة عن معرفته، فقالا: يسوع الناصري كان رجلاً نبياً قوياً بالأعمال، فلم ينكر عليهما وسار معهما فأضافاه وبات عندهما"1. فكيف يُقرِّهما على الكفر أنه إله وربّ كما يقول النصارى؟ وهَلاَّ نبههما وعرَّفهما خطأ ما قالا. فكيف يسكت على ما لا يجوز؟! فقد كان يقاوم اليهود في المحافل ويخزيهم ويلعنهم فيالمجالس ولا يغتفر لهم الزلل ولا يغطي منهم على الخطأ والخطل2 ويحاققهم فيما لا تعم به البلوى، فكيف يجوز أن يسامح في أمر يتعلق بالربوبية؟! وكيف يداهن الرجلين ويسمح لهما في أن يعتقدوا نبوته وهو ربهم وخالقهم وإلههم ويؤخر البيان عن وقت حاجتهم إليه، وهو في الساعة التي أزمع فيها على مفارة أهل الأرض وقد صار لهما عليه مع حقّ العبودية حقّ الرفاقة واسترسال الصحبة والمبايتة وهو يسمعهما يشهدان أن المشيح كان نبيّاً قويّاً بالأعمال؟! / (1/50/أ) . والمداهنة في الدين لا تليق بمثل المسيح مع أنه لا حاجة به في تيك الساعة إليهما، فإقرارهما على ما قالا ومسايرته لهما ومبيته عندهما تناوله طعامهما رضا بقولهما فيه وحكماً بصحة ما ذهبا إليه من نبوته، فكيف لم ترض النصارى له بما رضي هو لنفسه من أهل زمانه؟!. 13- دليل على نبوته من مفهوم قوله: قال متى: "جاء إلى يسوع رؤساء الكهنة فقالوا: بأي سلطان تفعل هذا؟ ومن الذي أعطاك هذا السلطان؟ فقال يسوع: وأنا أسألكم عن كلمة واحدة: معمودية يوحنا من أين هي؟ أمن الله أم
من الناس؟ فقالوا: لا نعلم. فقال: وأنا أيضاً لا أعرفكم بأي سلطان أفعل ما أفعل، ثم قال: الحق أقول لكم إن الزناة والعشارين سيسبقونكم إلى ملكوت الله، جاءكم يوحنا بطريق العدل فلم تؤمنوا به والعشارون والزناة آمنوا"1. هذا القول بمفهومه يدلّ على بنوته إذ جعل أفعاله وأفعال يحيى بن زكريا تخرج من مشكاة واحدة، وفي هذا الكلام ما يهدم على النصارى قطباً من أقطاب كفرهم، وهو ما حكيناه عنهم / (1/50/ب) من أنه لا يخرجهم من الخطيئة التي ورطهم فيها أبوهم آدم إلاّ قتل المسيح، وها هو يقول إن الزناة والعشارين يسبقون اليهود إلى الملكوت بالتوبة والانصباغ في معموديته ومعمودية يوحنا، ولم يحوجهم إلى غير ذلك، ولم يُرجِ خلاصهم إلى قتله وصلبه كما يهتف به النصارى، بل جعل التوبة وحسن الاتباع كافياً في ذلك. 14- ومن الدليل على نبوته دعاؤه إلى الله سبحانه أسوة غيره من الرسل: قال متى: "قال له قائل: يا معلم، أيما أعظم الوصايا في الناموس؟ قال: أعظم الوصايا في الناموس أن تحبّ الربّ إلهك من كلّ قلبك ومن كلّ نفسك ومن كلّ فكرك ومن كل قوتك ففي هذا جميع نواميس الأنبياء"2. قلت: لو كان الأمر على ما يعتقد أهل الضلال لقال للرجال: "أعظم الوصايا في الناموس أن تحب الثالوث والصليب، كلا والله، وأين هذا الهذيان من نواميس الأنبياء؟! وأعظم النواميس توراة موسى ثم داود ثم أشعيا وقد فليناها طرقاً تترى وتصفحناها بطناً وظهراً، فلم نر فها / (1/51/أ) ما يدعيه النصارى أصلاً البتة، ولقد شددت على من تنكب التوحيد أشد تشديد حتى قالت: "أيما
نفس أشركت مع الله غيره في حبها فأهلكوا تلك النفس من شعبها"1. 15- دليل صحيح على نبوة المسيح، قال متى: "قال يسوع المسيح وهو يخطب البلد: يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها كم من مرة أردت أن أجمع بنيك حولك كما تجمع الدجاجة فراريجها فلم يريدوا"2. وجه الدلالة من هذا الكلام أنهم كانوا يتوثبون عليه في المجالس بأورشليم يريدون قتله، إذ كان يفحمهم بالحجج فربما تناولوا الحجارة ليحصبوه فيتوارى ويخرج من بينهم ويذهب. وقد قتلوا عدة من أنبيائهم بها، فكأنه يقول: "تريدون قتلي كما فعلتم بمن تقدمني"، والخطاب للبلد والمراد أهلها، والقول بنبوته ألزم على قول النصارى إنه قتل بأورشليم؛ لأنه سماها قاتلة الأنبياء ولم يقل يا قاتلة الإله، وفي الكلام ما يمنعهم من اعتقاد ربوبيته؛ لأنه أراد جمعهم على الإيمان فلم تنفذ إرادته، ومَنْ هذا / (1/51/ب) سبيله فلا يصلح للربوبية؛ فقد شهد على نفسه بالعجز عن جمعهم على الدين والهدى، وأولى ذلك لربّه عزوجل إذ يقول في دعائه: "أيها الأب كلّ شيء بقدرتك اصرف عني هذا الكأس". كما تقدم. والعجب أن المسيح أراد وأراد اليهود فنفذت إرادتهم وقصرت إرادته، إذ قال: إنه أراد أن يجمعهم، فلم يريدوا هم، وإله تقصر إرادته وتنفذ إرادة عدوّه إله ضعيف. وهذا فاعلم حال الأنبياء مع كفار قومهم، قال الله تعالى لنبيّه عليه السلام: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُم وَلَكِنَ الله يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} . [سورة البقرة، الآية: 282] . وقال:
{أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} . [سورة يونس، الآية: 99] . وفي هذا الكلام إثبات مزية لموسى عليه السلام، وذلك أن موسى عليه السلام أراد جمع قومه على الإيمان فاستجابوا وأذعنوا، وأمرهم بالنفر معه فسارعوا وظعنوا، فأخرجهم من مصر وجلَّلهم النصر، وشقّ بهم البحر، ورفع عنهم السيف بعد أن بلغ النحر، وقاتل بهم الملوك فلم يغلب، وقهر العمالقة والجبابرة ولم يقتل ولم يصلب. فما نرى موسى إلاّ كان أحقّ أن يُدَّعى له ما ادُّعي في المسيح. / (1/52/أ) . فلو أن النصارى جمعت بين قوله للبلد: "يا قاتلة الأنبياء" وبين دعواهم أنه قتل بها لما وسعهم إلا القول بنبوته ولكن أفهام القوم بعيدة عن هذا النمط، قريبة من السقط والغلط. ألا ترهم كيف جمعوا في الاعتقاد بين الأضداد فقالوا في تسبيحة أمانتهم: "نؤمن بالرّبّ أيسوع المسيح الذي أتقنت العوالم بيده وخلق كلّ شيء وقتل وصلب أيام هيردوس؟! ". فبينا هم ينعتونه بالرّبّ المجيد إذ وصفوه بذُلٍّ ما عليه مزيد!. 16- شهادة أشعيا للمسيح عليهما السلام بالنبوة والرسالة وتكذيب اليهود فيما قرفوه به. قال لوقا: "جاء يسوع إلى الناصرة حيث تربى ودخل كعادته في مجامعهم يوم السبت ليقرأ فدفع إليه سفر أشعيا النبي فلما فتحه إذ فيه مكتوب: "روح الرّبّ عليّ من أجل هذا مسحني وأرسلني لأبشر المساكين، وأشفى منكسري القلوب، وأنذر المأسورين بالتخلية، والعميان بالنظر، وأبشر بالسنة المقبولة". ثم طوى السفر ودفعه إلى / (1/52/ب) الخادم فجعلوا ينظرون إليه، فقال: اليوم كمل هذا المكتوب في سماعكم, فجلعوا يقولون: أليس هذا ابن يوسف؟!
فقال: الحقّ أقول لكم إنه لا يقبل نبي في مدينته وعند عشيرته"1. فهذه بنوة من أشعيا على تصديق المسيح في دعوى النبوة والرسالة، وقد ذكر أن روح الرّبّ عليه، وهو نزول روح القدس الذي هو العلم والحكمة والواصلة إليه مع الملك، كقول الله في التوراة لموسى: "يصنع لك قبة الزمان بصلئيل2 الذي من سبط يهوذا ورفيقه الذي من سبط دان وهما اللذان ملأتهما روح الله بالعلم والحكمة"3. وكقول الإنجيل: "إن يوحنا بن زكريا امتلأ من روح القدس وهو في بطن أمه"4. وكقول المسيح في الإنجيل: "إن سمعان5 كان ينتظر عزاء إسرائيل وكانت روح القدس تحل عليه"6. فهذه الروح متى حلت على آدمي تنبأ أو نطق بالحكمة وذلك مشهور عند أهل الكتاب. وقد حكينا قول الله في الكتاب العزيز في حقّ المؤمنين: {وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ} . [سورة المجادلة، الآية:22] . وقال أشعيا النبي في كتابه: "قال الله لي: اخرج إلى بقعة كذا وكذا، فخرجت / (1/53/أ) فجاءت الروح فدخلت فيَّ فأقامتني على رجلي"7. فهذه الروح متى جاءت نبياً كانت وحياً، ومتى جاءت ولياً من أولياء الله أكسته إلهاماً عن الله
وجودة وفراسة وصدق توسم قال الله في كتابه العزيز: { ... إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلمُتَوَسِّمِينَ} . [سورة الحجر، الآية: 75] . وقال سيّدنا محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من أمتي [محدثين] "1 2. وقد قال النصارى: قال المسيح لأصحابه: "لا تهتموا بها تقولون إذا حضرتم المجالس فإن روح أبيكم الحال فيكم هي تنطق عنكم بالعلم والحكمة"3. فأما قول المسيح في آخر الكلام عندما وخزه الناس بأبصارهم: "إنه لا يقبل نبيّ في بلدته وعند عشيرته"4، فذلك واضح في نبوته لمن أراد الله هدايته. واعلم أن من لاحظ هذا الفصل يعين الإنصاف لم يتخالجه الشكوك في نبوة المسيح وأن اعتقادها هو الاعتقاد الصحيح، ولهذا تجد كثيراً من عقلاء النصارى يضمرون اعتقاد نبوته دون ربوبيته، ولكن لا يبوحون بذلك خشية الجمهور مع الأُنس بالمَرْبَى، إذ كل مولود يولد على الفطرة / (1/53/ب) فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه5.
17- خارق من خوارق نبوته يتحقق به كذب اليهود وبهتهم فيما نسبوه إليه: قال لوقا: "رأى يسوع جنازة شاب واحد لأمه ومعها جمع من أهل المدينة ورآها تبكي وراءه، فَرَقَّ لها وتحنن عليها، وقال لها: لا تبكي. ثم تقدم ومس النعش فوقف الحاملون، فقال يسوع للميت: لك أقول يا شاب قم فاجلس. فجلس الميت وتكلم فدفعه لأمه ومجدوا الله، فقال الناس: لقد قام فينا نبيّ عظيم وتعاهد الله شعبه بصلاح. فذاع ذلك اليهودية"1. فإن أنكر اليهود دلالة هذه المعجزة على النبوة وصلاحيتها لدعوى الرسالة، قلنا لهم: فلعل انقلاب العصا حيواناً ذا عينين لا يدل أيضاً على النبوة، وحيث بطل القول بذلك بطل هذا. على أن آية المسيح أوضح في الدلالة وذلك أن إحياء من مات أوثق في النفوس من اضطراب خشبة وتحركها، مع احتمال السحر والشعبذة، كيف واليهود يزعمون أن سحرة / (1/54/أ) فرعون عارضوا موسى وفعلوا مثل فعله على ما يشهد بذلك توراتهم2؟ وذلك متعذر في إحياء الميت، فقد وضحت نبوته، وأكذب الله اليهود وأخزاهم بظهور صدقه. وقد شهد له الجمع العظيم بالنبوة وبقولهم: (لقد قام فينا نبي عظيم". وذلك حجة على النصارى، إذ صَحَّ عن خيار أسلافهم أنهم شهدوا له بالنبوة، فكيف يدعي المتأخرون ألوهيته؟! وإنما طريق من غاب الأخذ عمن حضر، فإن زعم النصارى اليوم أن قول ذلك الجمع ليس بحجة في إثبات نبوته، قلنا لهم: الحجة القاطعة تقريرهم على ذلك والرضا منهم به وترك الإنكار عليهم. أفتقول النصارى - ويلهم - إن المسيح عليه السلام أقرّهم على الكفر وقول الباطل؟! وهل تسمية الله نبيّاً إلاّ كتسمية النبيّ إلهاً؟! وكيف يعتقد في المسيح
أن يسمعهم ينطقون بالمحال ولا يرشدهم؟! وهو القائل في إنجيله: "لا تدعوا لكم معلماً على الأرض فإن معلمكم هو المسيح"1. والأنبياء كلهم معلمون. "ولا تدعوا لكم مدبراً في الأرض فإن مدبركم هو المسيح". / (1/54/ب) وإذا كان المسيح هو معلمهم ومدبرهم، فكيف تقولون إنه أهملهم وتركهم يخبطون في عمياء ويتيهون في ظلماء ويخاطبون ربّهم بأنه نبي من الأنبياء ثم لا يرشدهم إلى اعتقاد الحقّ وقول الصدق؟!. فإن استروح النصارى في دعواهم ربوبيته إلى إحياء الميت أريناهم من كتبهم التي بأيديهم جماعة من أنبيائهم قد أحيوا الموتى مثل: إلياس واليسع وحزقيال وغيرهم ولم يخرجهم هذا الصنع عن كونهم عبادالله تعالى. فإن قال النصارى: إن أولئك كانوا إذا راموا شيئاً من ذلك تضرعوا إلى المسيح وسألوه وطلبوه منه المعونة ودعوه، قلبنا عليهم السؤال وقلنا. فلعل المسيح كان إذا رام شيئاً من هذه الآيات تضرع إلى أحد من ذكرنا وسأله ودعاه وطلب منه فهم متقدمون عليه وأرواحهم في حضرة الملكوت قبله، وهو متأخر عنهم فهو أحقّ أن يسألهم من أن يسألوه. فقد وضح بذلك نبوته واستوى حاله وحال من تقدمه من إخوانه الأنبياء صلوات الله عليهم أجعين. 18- شهادة فولس بنبوة المسيح ورسالته / (1/55/أ) وأنه واسطة بين الله وبين عبادة أسوة غيره من الأنبياء. قال في الرسالة الرابعة عشرة إلى العبرانيين: "أما أنتم فاقتربتم من جبل صهيون ومن مدينة الله أورشليم التي في السماء ومن ديوان الملائكة ومن الله ديّان الجميع ومن يسوع المسيح واسطة الوصية الحديثة الذي هو أفضل من هابيل"2.
فهذا فولس لم يدع للمسيح ما يتقوله النصارى من ربوبية المسيح وألوهيته، بل يشهد بأنه سفير وواسطة بين الله وبين عباده في الوصية1. ويخبر بأنه أفضل من هابيل، وكلّ تصريح منه بخلاف ما ذهب النصارى إليه. 19- بيان أنه كان يضيف ما يفعله إلى الله تعالى، قال لوقا: "أُتي المسيح بمجنون لا يسكن إلاّ المقابر لا يلبس ثوباً فلما رأى يسوع خرّ بين يديه وقال: يا يسوع سألتك بالله ولا تعذبني. فأمره أن يخرج من الرجل فخرج، ثم أفاق الرجل وسأل يسوع الصحبة فقال له: اذهب وأخبر بالذي صنع الله بك. فذهب فجعل ينادي بذلك في المدينة"2. قلت: طلب الرجل صحبة المسيح فصرفه وعرفه أن الشفاء من الله وأمره بإشاعة / (1/55/ب) شكر الله، فقال: أخبر بالذي صنع الله بك. ولم يقل: بالذي صنعت بك. فإن قال النصارى: لا فرق بينهما، إذ كان المسيح هو الله، والله هو المسيح. قلنا لهم: فالمجنون إذاً أعقل وأعرف بالله منكم؛ إذ يقول: يا يسوع أسألك بالله، فقد عرف الله تعال على [حدً] 3 وعرف المسيح على [حدٍ] 4 وأدرك التفرقة بين الإله المقسم به وبين الإنسان المقسم عليه. وأنتم تقولون إن الإله هو الإنسان والإنسان هو الإله، فأيكم أولى بالجنون؟!.
إن طرق اليهود إلى هذا شيئاً من الطعن انعكس عليهم في [حية] 1 النحاس وغيرها؛ إذ طريق ثبوت الكلّ واحد، فالاعتراض على نوع منها يعود على سائرها، ولا سبيل إلى ردّ شيء منها. 20- دليل على رسالته من لفظه، قالو لوقا: "اختار يسوع سبعين [رجلاً] 2 وبعثهم إلى كلّ موضع أزمع أن يأتيه، وقال: الحصاد كثير والحصادون قليل، اطلبوا إلى صاحب الزرع أن يرسل فَعَلَة لحصاده ثم قال: من سمع منكم فقد سمع مني، ومن شتمكم فقد شتمني، ومن شتمني فإنما يشتم / (1/56/أ) مَنْ أَرْسلني"3. فإن قال النصارى: ذلك دليل على الربوبية لأن إرسال الرسل إلى الخلق دليل على ما قلناه. قلنا لهم: أما بعث السبعين فليس فيه مستروح لكم، فقد اختار موسى سبعين رجلاً من قومه وندبهم لإبلاغ بني إسرائيل فنبأهم الله ببركة اختياره فصاروا أنبياء4. فأما السبعون الذي اختارهم المسيح فمن سلم لكم أنهم كانوا أنبياء مؤيّدين بالمعجزات؟ ولعل المسيح عليه السلام إنما اقتدى بسنة موسى في الإرسال والعدد، فالمسيح عليه السلام نبي ورسول ولا يمتنع أن يكون [للرسول] 5 رسول، فقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه إلى ملوك الأرض. فإن قال النصارى: قوله: "من شتمني فإنما يشتم من أرسلني". دليل على
الاتّحاد1 الذي نقول به. قلنا: وقوله:"من شتمكم فقد شتمني"،دليل على اتّحادهم بالمسيح. أفتقولون إن السبعين اتّحدوا بجسد المسيح؟ فإن تراعنواوادعوا ذلك. قلنا لهم: فيلزم على ذلك أن يكونوا قد اتّحدوا / (1/56/ب) بذات الله إذ اكانوا قد اتّحدوا بمن اتّحد به المسيح. فإن التزموا ذلك. قلنا: فالسبعون هم الله تعالى، والله هو السبعون، والرسول هو المرسِل والمُرسِل هو الرسول، وهذا هو الجنون. ثم نقول للنصارى: أليس قد اعترف المسيح بأن غيره أرسله؟! فكيف تقولون إنه هو نفسه؟ فإن قالوا: هذا اعتقاد طائفة2 منّا ونحن لا نلتزمها فيلزمنا الذّبّ عنها ولكن الاعتقاد المرضي عندنا أن المسيح ابن الله3 ولا نقول هو الله نسفه ولا يعبد أن يرسل اله ابنه إلى عباده. فحينئذ يحسن أن نعيد عليهم بعض ما مضى لنا ونقول: "ألم تقولوا في الأمانة: "نؤمن بالمسيح الإله الحقّ الذي أتقن العوالم بيده وخلق كلّ شيء الذي نزل من السماء وتجسد وولدته مريم وقتل وصلب؟! ". ألم تقرؤوا في صلواتكم: "يا ربنا المسيح الذي ذاق الموت من أجلنا ونزل من السماء لخلاصنا لا تضيع من خلقت بيديك؟! ". ألم ينقلوا عن إفريم من أسلافكم وكبار مشائخكم قوله: إن / (1/57/أ) اليدين التي جبلت طينة آدم هي التي سمرت على الخشبة، وإن الشَّبر التي مسحت السماوات هي التي عُلقت على الصليب، وإن من لم يقل إن مريم ولدت الله فهو محروم من ولاية الله؟! وإذا كانت صلواتكم وأمانتكم وأقوال مشاخئكم
مصرحة بذلك فقد كذبتم في هربكم مما ألزمناكم وصدق المسيح في قوله: "إن الله نبأه وأرسله". وأما قولهم: "فلا يبعد أن يرسل الله ابنه، وتسمية الله أبّاً والمسيح ابناً، فنحن نسألهم ما تعنون بهذه النبوة؟ أمجرد تسمية وتشريف أم لما خصّه به من الآيات والخوارق أم تريدون البنوّة المعروفة المألوفة؟ فإن قالوا: إنّ ذلك مجرد تسمية وتشريف، قلنا: فلا اختصاص للمسيح بهذا التشريف والتسمية. ولا مزية له على غيره؛ فقد سمّى الله يعقوب ابناً وسمّى داود ابناً وسمّى الصالحين وأولاد الأنبياء أبناء بزعمكم. فرويتم أنتم لنا عن الله في التوراة قوله: "إسرائيل ابني بكري"1. يقول ذلك لفرعون في عدّة مواضع. وقال في السفر الأوّل: "لما رأى بنو الله بنات الناس حساناً / (1/57/ب) جدّاً نكحوا منهم على ما أحبوا وأرادوا فغرقهم الله بالطوفان"2. وقال في المزامير: "داود حبيبي"3. وقال المسيح: "أنا ذاهب إلى أبي وأبيكم"4. فقد استوى المسيح وغيره في هذا التشريف وترجح إسرائيل بالبكارة عليه. وإن أردتم البنوة المعروفة المألوفة بين الناس وهي المتّخذة من الزوجية والمملوكة، على معنى أن المسيح انفصل من من الله، فكيف يصحّ هذا؟ وإنما ينفصل الجسم من جسم مثله والباري منَزَّه عن الجمسية؟! ثم ذلك باطل بنصّ الإنجيل؛ إذ قال لوقاً: "إن المسيح من روح القدس"5. فكيف تقولون
إنّه منفصل من ذات الله؟! فقد بطل مقصودكم من البنوة على كلا القسمين. وإن قالوا: إنما استحق المسيح البنوة لما اتّحدت به الكلمة فصار بها ابناً على1 الحقيقة، وغيره ممن ذكرتم لم يتّحد به فبقي ابناً على سبيل التشريف. قلنا: أخبرونا عن هذه الكلمة، ما هي؟ وما الذي تعنون بها؟ فإنهم يقولون: الكلمة هي العلم أو النطق ولا يعدلون عن ذلك، فيقال لهم: أليس من حكم الصفة أن لا تفارق الذات / (1/58/أ) الموصوفة بها فإذا كان العلم أو النطق هو صفة لذات الباري تعالى فلا تفارقه إلاّ ويخلفها ضدّها وهي الجهل أو الخرس. فإن كان علم الباري قد انفصل أو نطقه وقام بغيره فقد صار القديم ماوقاً2 ناقصاً وذلك مستحيل على الله سبحانه. وإن كان علم الله لم يزايله وكلامه لم يفارقه، فلا حقيقة لهذا الاتّحاد الذي تدَّعونه. قد أطلبت النفس قليلاًفلنرجع إلى إيثار الاختصار؛ فإن هذه الفرقة أنزر شأناً من أن يحتفل لها. 21- إيثاره الله على ما سواه وذلك دأب النبيين من إخوانه عليه السلام قال لوقا: "جلس يسوع يوماً يتكلم على تلاميذه فرفعت امرأة من المجلس صوتها وقالت: طوبى للبطن التي حملتك [وللثديين] 3 التي أرضعتك. فقال لها المسيح: مهلاً طوبى لمن يسمع كلام الله فيحفظه"4.
قلت: هذه امرأة اشتغلت بمدح المخلوق فأرشدها لمدح الخالق جل وعلا. انظر إلى هذا الكلام الصادر من هذه المرأة، هل خرج من قلب معتقد ربوبية المسيح وألوهيته؟ وإلاّ فما أحسن رباً في بطن وإلهاً على أيدي المراضع! أعوذ / (1/58/ب) بالله من الضلال والتعبد للأطفال. 22- شهادة يوحنا الإنجيلي على المسيح بالنبوة، قال يوحنا: "كان الناس إذا رأوا يسوع وسمعوا كلامه يقولون: هذا النّبيّ حقّاً"1. وقال يوحنا أيضاً: "تفل يسوع على طين ووضعه على عيني أكمه وقال: اذهب فاغتسل في عين شلوخاً. ففعل فانفتحت عيناه. وذلك في يوم السبت فوقع بين اليهود فيه خلف، فمنهم من يقول: ليس هذا الرجل من الله إذ لا يحترم السبت. ومنهم من يقول: إن الله لا يستجيب للخاطئين، ومنهم من يقول: هو نبيّ"2. "ومنهن من يقول: إنه لا يجيء نبيّ من الجليل"3. قلت: هذا هو يحونا الإنجيلي الذي يُسمّى حبيب المسيح يشهد بنبوته، وهو أحسن أقوال زمانه فيه، وذلك يكذب اليهود والنصارى. أما اليهود ففي جحد نبوته، وأما النصارى ففي ادّعاء ربوبيته. 23- موعظة مشابهة لمواعظ الأنبياء عليهم السلام قال المسيح لمن حضره: "لِمَ لَمْ تحكموا بالحقّ من نفوسكم؟! فإذا ذهب أحدكم مع خصمه إلى الرئيس فليدفع ما / (1/59/أ) يجب عليه في الطريق فيخلص كيلا يذهب به إلى الحاكم فيدفعه الحاكم إلى المستخرج فيلقيه المستخرج في السجن، الحقّ أقول لكم إنه لا يخرج منه حتى يؤدي آخر فلس عليه"4.
قلت: الموعظة بليغة ومعناها رائق وقاعدتها مبنية على رأس من الحقائق، غير أن قول خاتم النّبيّين "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا"1. أبلغ من ذلك وأخصر وأضبط لشوارد فرائد الفوائد وأحصر. 24- قال المؤلِّف - عفا الله عنه -: قد شهد يوحنا الإنجيلي أن المسيح ليس إلهاً، ولكنه نبيّ بار ذو شفاعة مقبولة عند الله، فقال في الفصل الأوّل من رسالته الأولى: "أيها الأبناء لا تخطؤوا، فإن أخطأ أحدكم فلنا شفيع عند الأب يسوع المسيح البار"2. فهذا - رحمكم الله - يوحنا الحواري مفارق لمقالة النصارى في المسيح موافق لاعتقاد الملة الحنيفية في بنوته عليه السلام. 25- دليل صحيح على نبوة المسيح، قال لوقا: "قال الفريسون ليسوع: أخرج من هاهنا فإن هيرودس يريد قتلك، فقال امضوا وقولوا لهذا الثعلب أني
/ (1/59/ب) أقيم هاهنا اليوم وغدا وفي اليوم الثالث أكمل لأنه لا يهلك نبي خارجا عن أورشليم"1. قال المؤلِّف - عفا الله عنه -: "لو اجتمع علماء النصرانية ورامو صرف هذا الكلام عن صلاحيته لنبوة المسيح إلى إثبات ما يدعونه من الربوبية لأعوزهم2 ذلك. فمن أبدى من النصرانية في بنوته نزاعاً. ورام لهم دفاعاً فهذا الفصل وأمثاله حجّة عليه. فإن قال النصارى: هب أن هذا الفصل يدل على نبوته، أليس قد شهد عليكم معشر المسلمين بأنه في اليوم الثالث يقتل ويصلب؟ قلنا: لم يقل ذلك وحاشاه منه، إنما قال: إنه في اليوم الثالث يكمل، يريد أنه تتم مدة إقامته في هذا العالم الناقص ثم يرتفع، وكيف أراد ما ذكرتم من القتل والصفع والصلب وذلك غاية النقص؟! لأنكم زعمتم أنه ضرب وسحب ثم قتل وصلب وسلب وذلك لا يعد كمالا، بل الكمال الذي أراده هو الذي يقول به المسلمون من أن الله حماه من أعدائه حين طلبوه ورد طلبتهم منه بالحرمان، فما / (1/60/أ) قتلوه وما صلبوه، ونحن إن شاء الله إذا انتهينا إلى ذكر القتل والصلب أبدينا فيه العجب العجاب وأقررنا عيون أولي الألباب. 26- وصية مناسبة لكلام الرسل: "قال المسيح عليه السلام: "إذا دعاك أخوك فلا تجلس في صدر المجلس؛ فلعله قد دعا هناك من هو أكرم عليه منك، فليأتي المدعو فيقال لك: دع المكان لهذا، فتقوم فتجلس في آخر باب الناس فتخزى أمام الحاضرين، ولكن إذا دعيت فاجلس في آخر موضع حتى إذا جاء الذي دعاك يقول لك: يا حبيب ارتفع عن مجلسك هذا فيكون لك مجد أمام
الحاضرين، فمن اتضع ارتفع ومن ارتفع اتضع. وإذا صنعت وليمة فلا تدع أحباءك وأغنياء جيرانك لكي [يكافئوك] 1 ولكن ادع المساكين والضعفاء والزمنى والمقعدين؛ فطوبى لك إذ ليس لهم ما يكافئونك به ومجازاتك تكون في قيامة الصّدِّيقين - ثم عَرَّض بالعلماء - فقال: جيدٌ هو الملح فإذا فسد فبماذا يملح؟ "2. من كانت له أذنان سامعتان فليسمع هذه الوصية وما / (1/60/ب) شاكلها لم تمتد إليها يد التغيير سوى ما عبق بها من قصر التعبير. وهي بطولها مندمجة في قوله عليه السلام: "شرّ الطعام طعام الوليمة يدعى إليها الأغنياء ويترك الفقراء" 3. وقال عليه السلام: "من تواضع لله رفعه الله"4. وفي قوله: "إنكم أئمة يقتدى بكم"5. يقول ذل لأصحابه - رضي الله عنهم -. اشتمال الجنة على الأكل والشرب والنكاح: وذلك على خلاف معتقد أهل الكتاب، قال المسيح عليه السلام: "كان رجل من الأغنياء يلبس [البز] 6 والأرجوان7 ويتنعم كلّ يوم ويلتذ. وكان ببابه رجل مسكين يسمّى اليعازر مضروب بالقروح، وكانت الكلاب تأتي فتلعق قروحه ويود لو ملأ بطنه من الفتات الذي يسقط من مائدة ذلك
الغنى، فلما مات ذلك المسكين أخذته الملائكة إلى حضن إبراهيم. ومات ذلك الغني فقر في الجحيم ففتح عينيه وهو في العذاب فنظر إلى اليعازر في حضن إبراهيم يتنعم ويلتذ فنادى: يا أبتاه إبراهيم ارحمني وأرسل اليعارز ليبل طرف إصبعه بماء يبرد لساني من هذا / (1/61أ) اللهيب، فقال إبراهيم: يا بني اذكر أنك أفنيت خيراتك في حياتك واليعازر إذ ذاك في بلائه، والآن فهو ها هنا يستريح وأنت تعذب، ومع ذلك فبيننا وبينكم هوة بعيدة لا يقدر أحد منا على العبور إلى الآخر"1. قلت: قال الله فيمن حاله بحال ذلك الغني: {أَذْهَبْتَم طَيِّبَاتِكُم فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا واسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَاليَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهُوْنِ بِمَا كُنْتُم تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيرِ الحَقِّ وَبِمَا كُنْتُم تَفْسُقُونَ} . [سورة الأحقاف، الآية: 20] . واعلم أن اليهود والنصارى2 ينكرون أن يكون في الجنة طعام أو نكاح أو شراب، وهو الكلام من المسيح حجّة عليهم، وقد قال المسيح: "إن اليعازر هذا في كفالة إبراهيم يتنعم ويلتذ في الآخرة". كما قال: "إن ذلك الغني كان كلّ يوم يتنعم في دنياه ويلتذ". والذي يبتدر إلى الأفهام منه التنعم بالطيبات المألوفة المعروفة؛ إذ الإنسان إنما يشتاق لما عرف جنسه ونوعه وقد جاء ذلك في
الإنجيل [كثيراً] 1 ولكن النصارى2 محجوبون بالتقليد عن النظر في أقوال الأنبياء، قال قولقا: "قال يسوع: إذا صنعت وليمة فادع المساكين والضعفاء لتكون / (1/61/ب) مجازاتك في قيامة الصديقين. فقال من حضر: طوبى لمن يأكل خبزاً في ملكوت الله"3. وقال حملة الإنجيل: "قال يسوع لتلاميذه: إني ذاهب أعد لكم مائدتي في الملكوت [لتأكلوا وتشربوا وتجلسوا] 4 على كراسي المجد"5. وقال الإنجيل: "إن المسيح شرب مع تلاميذه عصيراً ثم قال: إني لست شارباً من هذه الكرمة حتى أشربها معكم حديثاً في ملكوت السماوات"6. وقال المسيح في الإنجيل: "إنكم ستأكلون وتشربون على مائدة أبي"7. وقال المسيح في الإنجيل: "بحقّ أقول لكم إنه سيأتي قوم من المشرق والمغرب [فيجلسون] 8. مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب في ملكوت السماء وتخرج بنو الملكوت إلى الظلمة البرانية، هنالك يكون البكاء وصرير الأسنان"9. وقال المسيح في الإنجيل: "طوبى
للجياع العطاش فإنهم يشبعون، طوبى للرحماء فإنهم يرحمون"1. فهذا المسيح يشهد أن في الجنة أكلاً وشرباً وشبعاً وأن المساكين يتملكون ذلك وفي الإنجيل يقول المسيح: "بيعوا أمتعتكم وتصدقوا، اجعلوا لكم أكياساً لا تبلى وكنوزاً في السماء لا تفنى حيث لا يصل إليها سارق ولا يفسدها / (1/62/أ) سوس فحيث تكون كنوزكم هناك تكون قلوبكم معلقة"2. وقال المسيح عليه السلام لأصحابه: "أنتم تقولون إن الحصاد يأتي بعد أربعة أشهر، وأنا أقول لكم ارفعوا أعينكم فانظروا إلى الكور قد ابيضت وبلغت الحصاد، والذي يحصد يأخذ الأجرة ويجمع ثمار الحياة الدائمة"3. وقال المسيح عليه السلام لتلاميذه: "اعملوا لا للطعام الفاني، بل للطعام الباقي في الحياة المؤبّدة لأن ذلك قد ختمه الله"4. فقد ثبت عن المسيح اشتمال الجنة على الأكل من الطيبات والتنعم بالذات والتفكه في الشهوات. فإن قيل: وأين ذكر الجماع في الجنة؟!. قلنا: قال المسيح عليه السلام في الإنجيل: "من ترك زوجة أو بنين أو حقلاً من أجلي فإنه يعطى في الجنة مائة ضعف ويرث الحياة الدائمة"5. فقد صرح المسيح بأن الرجل المؤمن يعطى في الجنة مائتي زوجة كما يعطى مائتي حقل. والحقل الكرم والبستان. وذلك مكذب للنصارى واليهود فيما صاروا إليه.
فإن قيل: هذا فيه الحجة الواضحة على النصارى، فما الحجة فيه على اليهود1 مع إنكارهم / (1/62/ب) شرع الإنجيل؟ قلنا: قال الله تعالى في السفر الأوّل من التوراة وهو الذي يدعى سفر الخليفة: "إن الله غرس فردوساً في جنة عدن وأسكنه آدم وغرس له من كل شجرة طيبة المأكل شهية الطعم وتقدم إليه: إني قد جعلت كل شجر الجنة لك مأكلاً سوى شجرة معرفة الخير والشرّ، ثم قال الله سبحانه: لا يحسن أن يبقى آدم وحده. فألقى عليه سباتاً ونزع ضلعاً من أضلاعه ثم أخلف له عوضه لحماً ثم خلق الله من ذلك الضلع حواء فزوجها آدم فلما أكلا من الشجرة التي [نُهيا] 2 عنها انفتحت أعينهما وعرفا أنهما عريان فكلمهما الله وتوعدهما على المخالفة، ثم صنع سبحانه لآدم وزوجته سرابيلات من الجلود فألبسهما ثم أرسلهما من جنة عدن وأهبطهما إلى الأرض ليحرث فيها"3. وقال في السفر الأوّل أيضاً: "كانت سدوم قبل أن يخسف الله بها تشبه فردوس الله وأرض مصر"4. وقال في السفر الأوّل أيضاً: "أما هابيل الشهيد فإنه يجزى بدل الواحد سبعة"5.
وهذا دليل أن الجزاء جنس المنفق في الدنيا تقرباً / (1/63/أ) إلى الله، فإن هابيل كان قد قرب من أبكار غنمه فتقبله الله منه ووعده الجزاء على الواحد سبعة. فهذه التوراة والإنجيل مصرحة بموافقة الكتاب العزيز، وبذلك تتم اللذة وتجتمع المسرة وتحصل الدعة، فمن أعظم جرماً وأشد إثماً وأثقل وزراً وأضعف أزراً ممن يقرأ هذه النصوص من التوراة والإنجيل ثم يكفر بها ويردها؟!. ولو أن اليهود والنصارى إذ حرموا لذة الاستنباط والاستخراج قلدوا أنبياء الله في ذلك لأخذوا بحظهم من الخير، فقد قال النبي أشعيا في نبوته: "يا معشر العطاش الجياع توجهوا إلى الماء والورود ومَن ليس له فضة فليذهب يمتار ويستقي ويأكل ويتزود من الخمر واللبن بلا فضة ولا ثمن"1. قلت: وذلك موافق لقول الله تعالى في الكتاب العزيز في وصف الجنة: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِّنْ مَاءٍ غَيرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خِمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّن عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُم فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [سورة محمّد، الآية:15] . وقال دانيال عليه السلام: "سيبعث من الأجداث قوم كثير بعضهم إلى الحياة الدائمة وبعضهم إلى البوار"2. وقال / (1/63/ب) داود: "الله باعثهم وناشرهم من بين أنياب السباع ومن لجج البحار"3. وقال أيضاً في المزمور الخامس والثلاثين: "يا ربّ البشر بظلال بيتك يستترون ومن نعيم بيتك يشبعون ومن وادي نعمك بترعون؛ لأن ينبوع
الحياة عندك"1. وقال في [المزمور] 2 الثمنين: "لو سمع مني شعبي وسلك سبلي لأذللت أعلاه ومحوت سيئاته وأطعمته من طيباتي"3. وقال في المزمور الرابع والعشرين والمائة: "المتوكلون على الله مثل جبل صهيون الذي بأورشليم لا يزول إلى الأبد. والذين يزرعون بالدموع يحصدون بالفرح كانوا ينطلقون باكين ويقبلون بالتهليل وقد حملوا غلاتهم"4. فهذه نبوات أنبياء بني إسرائيل والتوراة والإنجيل قد تظاهرت وتضافرت5 بما نطق به الكتاب العزيز من اشتمال دار الثواب على الطعام والنكاح والشراب. فإن قال اليهود: ما حكيته عن التوراة من الجنة محمول على بستان من بساتين الدنيا ولا ينكر تسمية الجنة بستاناً، والبستان جنة. قلنا: يا إخوان القرود ومشاركي ثمود إنما قالت التوراة: إن الله / (1/64/أ) أسكن آدم فردوساً في جنة عدن وجعل فيه من كل شجرة طيبة المأكل وقال لآدم: جعلت لك كل شجر الجنة مأكلاً. والله تعالى يقول: إنه فردوس في الجنة وأنتم تقولون: بل بستان وحديقة في الدنيا، ألم تسمعوا إلى قوله في بقية الكلام: إن الله كلمهما وتهددهما ثم صنع لهما سرابيلات من الجلود وأرسلهام من جنة عدن إلى الأرض التي أخذ منها آدم وأهبطهما للحرث؟!.
وإن تعلق النصارى بقول أسلافهم: إن أهل الجنة لا يتزوجون1. قلنا لهم: يا عباد الرجال وربات الحجال، لو قدرنا صحة ما نقلتموه عن أسلافكم من ورود هذا اللفظ بعينه لم يلزم نفي ما صرنا إليه من التنعم بالنسوان في الجنان، إذ يحتمل أن يراد به أنهم لا يتزوجون الزواج المعروف المألوف من قاعدة النكاح والزواج الدنيوي وهو تقدم الخطبة وبذل الصداق والعقد والشروط وغير ذلك مما فيه حرج وكلف على الناكح، بل يمنحون ذلك ويتملكونه ويرثونه وراثة وتملكاً والدليل عليه من الإنجيل قول المسيح:"من ترك زوجة من أجلي في الدنيا فإنه/ (1/64/ب) يعطى مائة ضعف ويرث الحياة الدائمة"2. وفي ذلك موافقة الكتاب العزيز حيث يقول: {تِلْكَ الجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُون} . [سورة الزخف، الآية: 72] . ولفظة الميراث كثيرة مستعملة في الإنجيل والتّنْزِيل، ولهذا شمر كثير من أتباع المسيح في طلب هذا التضعيف فترهبنوا وانقطعوا عن النساء والشواغل، فإذاً قولكم: إن أهل الجنة لا يتزوجون منافاة بينه وبين قوله في الإنجيل: "من ترك زوجة فإنه يعط للواحد مائة ضعف". والأصل المعتبر عند أرباب النظر الجمع بين الأدلة، لا تعطيل بعضها واستعمال بعض؛ فقد ثبت - بعون الله ومنه - ما
ضمناه من اشتمال الجنة على الملاذ الروحانية والجسمانية جميعاً1. لزوم الاستقامة خوف هجوم القيامة:/ (1/65/أ) "قال المسيح يشبه ملكوت الله-عشر عذارى أخذن مصابيحهن وخرجن للقاء العروس، خمس منهم جاهلات وخمس حكيمات، فأما الجاهلات فأخذن مصابيحهن ولم يعددن زيتاً، وأما الحكيمات فأعددت الزيت مع مصابيحهن، فلما أبطأ العروس نعسن ونمن أجمع وانتصف الليل وصرخ الصوت: قد جاء العروس فاخرجن للقائه. فقال الحكيمات وزيّتن مصابيحهن فقال الجاهلات للحكيمات: أعطونا من زيتكن فإن مصابيحنا قد طفئت. فقلن: ليس معنا ما يكفينا وإياكن فاذهبن وابتعن لكن زيتا. فلما ذهبن لذلك جاء العروس ودخل مع المستعدات إلى العرس وأغلق الباب، وجاء الجاهلات فقلن: يا ربّ يا ربّ. فقال: الحقّ أقول لكن إني لست أعرفكم، ثم قال لتلاميذه: اسهوا الآن وصلوا فإنكم لا
تعرفون ذلك اليوم ولا تلك الساعة"1. قلت: قال ربنا جل اسمه: {يَومَ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُم قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُم فَالتَمِسُوا نُوراً فَضُرَبَ بَينَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ العَذَابُ يُنَادُونَهُم أَلَمْ نَكُن مَّعَكُم قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُم فَتَنْتُم أَنْفَسَكُم وَتَرَبَّصْتُم وَارْتَبْتُم وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُم بِاللهِ الغَرُورُ} . [سورة الحديد، الآياتان: 13-14] . انظر - رحمك الله - إلى هذا الكلام الرفيع القدر، الطيّب النّشر، الحسن البشر، وقسمه بفصل العذارى العشر لتعلم / (1/65/ب) قدر ما أوتيت الأمة المحمدّية، وتقف على سِرِّ قوله عليه السلام: "لقد جئتكم بها بيضاء نقية"2. 27- شهادة يوحنا الإنجيلي للمسيح عليه السلام بالنبوة، وفي ذلك تكذيب للمتأخرين من النصارى في دعوى ربوبيته؛ قال يوحنا تلميذ المسيح وحبيبه وهو أحد مدوني الإنجيل: (لما أطعم يسوع خمسة [آلاف] 3 رجل من خمسة أرغفة وحوين من السمك قال الناس: حقا إن هذا لهو النبيّ الآتي إلى العالم. فلما علم أنهم يريدون يخطفونه ويصيرونه ملكاً عليهم خرج من بينهم وذهب وحده إلى الجليل"4. فهؤلاء خمسة آلاف رجل ممن شاهد المسيح يشهدون له بالنبوة وهو مقرّهم على شهادتهم، حاكم بصحة إيمانهم، راضٍ بهذا المعتقد منهم. ولو أنكر عليهم قولهم لنقل إلينا كما نقلت منهياته وأوامره على ما سيأتي، وما أحسن إلهاً يخاف من العبيد أن [يخطفوه ويصيروه ملكاً عليهم ويغلبوه] 5 على رأيه في ذلك!!.
وقد نقلوا عن لوقا أن جبريل حين بشر مريم أم المسيح بالناصرة قال لها: "إن ولدك يجلسه الرّبّ على كرسي / (1/66/أ) أبيه داود ويملكه على بيت يعقوب"1. فإن كان ما حكوه عن لوقا عن جبريل صحيحاً فقد كذبوا في هربه من التمليك عليهم، وإن كان ما نقلوه هاهنا في الهرب صحيحاً فقد كذبوا في نقلهم عن لوقا عن جبريل، وإلاّ فكيف يتقدم الله إليه على لسان جبريل بسياسة عباده والتملك عليهم ثم يأبى ذلك ويخالف أمره وينكص عنه فلا يمتثله؟! هذا مما يورَّك فيه على النقلة وبهذا الاضطراب وشبهه ردّ العلماء كتب هؤلاء القوم وأضربوا عن الاحتفال بها؛ فإن شغب النصارى بذكر هذه الآية أعدنا عليهم آية موسى وقلنا: قد نقلنا من التوراة أن موسى أطعم قومه وهم ستمائة ألف رجل سوى الصبيان والنسوان والغرباء مَنّاً وسلوى وأدامه عليهم2، ومن صنع خيراً كثيراً وأدامه أفضل بلا شكّ ممن صنع قليلاً منه وقطعه. وبالجملة فآيات الأنبياء ليست نمطاً واحداً؛ إذ المقصود منها الإعجاز. 28- معجزة دالة على صدق نبوته عليه السلام، / (1/66/ب) قال يوحنا التلميذ: "دعي المسيح إلى عرس في الجليل ففرغ الخمر الذي لهم، فقالت أم يسوع: ليس للقوم خمر ثم قالت للخدام: افعلوا ما يأمركم به يسوع، وكان هناك أوعية من حجارة لتطهير اليهود فأمرهم يسوع فملؤوها ماء ثم أمرهم فسقوا الناس منها خمراً طيبة. قال يوحنا: هذه أوّل آية أظهرها المسيح بقانا الجليل"3.
فإن قال النصارى: بذلك نستدل على ربوبيته إذ قلب الأعيان ليس من مقدور البشر، فالجواب أن المستبدل بالخلق والاختراع هو الله الذي لا إله غيره الفرد القديم الواحد العالم القادر الحكيم خالق العالم بما فيه من الأجسام والأعراض، وليس في تحويل الماء خمراً سوى تبديل عرض بعرض؛ إذ لا يخلو الجوهر عن عرض إلاّ ويخلفه ضدّه، فتارة يكون ذلك الضدّ مناسباً، وتارة يكون مخالفاً، وذلك كله ممكن والله تعالى متّصف بالقدرة على كلّ ممكن، وقد دللنا على عبودية المسيح في الباب الأوّل / (1/67/أ) وفي ذلك ما يردّ هذا السؤال، والمعجز في الحقيقة خالق العجز وهو الله عزوجل، وصدوره على يد عبد من عبيد الله يدعي أن الله أرسله يتَنَزَّل منْزِلَة قول الله تعالى: "صدق عبدي". ونحن نناقش النصارى على ذلك فنقول: أوّلاً: لا نسلم أن هذه المعجزة لعيسى بل هي لمريم أمه بدليل أنها التي اقترحتها وطلبتها. ألا تراها كيف تقدمت للخدام وقالت: افعلوا ما يأمركم به يسوع، وذلك من غير مؤامراته؟ وقد حكى بعض العلماء من أصحابنا في نبوة مريم قولين، فإن كانت نبية فهذه معجزة لها، وإلاّ فهي كرامة في حقّ ولايتها1، والكرامة صورتها صورة
المعجزة وإنما يفترقا في التحدي على رأي بعضهم، قال الله تعالى في حقّ مريم أم المسيح: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا زِرْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عَندِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيرِ حِسَابٍ} . [سورة آل عمران، الآية: 37] . ولا يستنكر من أصحابنا القول بنبوة مريم؛ فأهل الكتاب يعتقدون نبوة جماعة من النسوان منهم: مريم1 أخت موسى وخُلدى2 وأستار3
ورفقى1، وقد زعموا أنّه كان لفولس2 / (1/67/ب) الرسول من أتباع المسيح بعد المسيح أربع بنات كلهن نبيات3. ولو سلمنا أن الآية مضافة إلى المسيح وفي حقه فهي آية تدل على صدقه والله يؤيد من يشاء لإرشاد خلقه، ولو جاز أن يدعي في المسيح الربوبية بتحويل الماء خمراً لجاز أن يدَّعي ذلك في اليسع بتحويله زيتاً فقد جاء في سفر الملوك من كتب أهل الكتاب: "أن اليسع عليه السلام نزل بامرأة من بني إسرائيل فأضافته وأكرمته فلما عزم على الانصراف قال لها: هل لك من حاجة؟ قالت: يا نبي الله إن على زوجي ديناً قد فدحه وإن رأيت أن [تدعو] 4 الله تعالى لنا بقضاء ديننا. فقال لها اليسع: أحضريني ما عندك من الأواني واستعيري من جيرانك ما قدرت عليه من الآنية. ففعلت ذلك فأمرها فملأتها كلّها ماء ثم قال: اتركيها ليلتك هذه. وتركها ومضى فأصبحت المرأة وقد تحوَّل ذلك كلّه زيتاً فباعوه وقضوا دينهم"5. فهذه الآية أعجب وأغرب. ولم ينقل أن اليسع امتهن
وغلب وقتل وصلب. بلْ لم يزل / (1/68/أ) آمناً في سِرْبه1 إلى أن لحق بالله ربه. ولقد فعل موسى ما هو أعجب من ذلك كله وهو: "أنه ضرب بعصاه بحر النيل بمصر فتحوَّل الماء بسائر أرض مصر دماً عبيطاً"2. وكذلك "ألقى عصاه بين عصي بني إسرائيل فاهتزت شجرة ذات أغصان وأفنان وأورقت وأثمرت لوزاً، فبينا هي خشبة إذْ صارت شجرة خضراء مثمرة"3. فبطل ما عوَّل النصارى عليه، فما أجابوا به عن آيتي موسى واليسع فهو جواب لنا عن آية المسيح. وقد صرح فولس في الرسالة الرابعة عشرة إلى العبرانيين بأن المسيح ليس ربّاً ولا إلهاً بل إنّه عبد من عباد الله، شرّفه الله كما شرّف غيره من أنبيائه وأهل صفوته. فقال: "إن المسيح هو رئيس أحبارنا وهو الذي صعد إلى السماء وليس لنا رئيس أحبار غيره، ثم قال: إن كل رئيس أحبار إنما يكون من الناس ليقوموا فيما بين الناس وبين الله، وليس أحد ينال الكرامة لنفسه إلاّ من أناله الله مثل هارون، وكذلك المسيح لم يمدح نفسه، بل الله الذي مدحه حيث يقول: أقسم الربّ بأنّك أنت الكاهن المؤيد شبه/ (1/68/ب) ملكي صادق"4. فهذا فولس - الذي ليس عند النصارى من يعدله - يشهد بأن المسيح إنسان من بني آدم [وحَبْرٌ] 5 من أحبارهم كهارون. 29- دليل صحيح على نبوته: قال يوحنا الإنجيلي: "جاء يسوع إلى بئر من آبار السامرة مستسقياً ماء وقد عيي من تعب الطريق ففاوضته امرأة منهم
فقالت: يا سيد إني أرى أنك نبي. فقال لها يسوع: أنا هو الذي أكلمك. ثم وافاه تلاميذه فعرضوا عليه طعاماً، فقال: إن لي طعاماً لستم تعرفونه، إن طعامي أن أعمل مَسَرَّة من أرسلني، وأتم عمله. ثم بعد يومين خرج من هناك؛ لأنه شهد أن النبي لا يكرم في مدينته"1. وجه الدلالة على النبوة والرسالة من وجوه: أحدها: قولها له: "يا سيد إني أرى أنك نبي". فصدّقها وحقّق ظنّها، فقال لها: "أنا هو"، وهذا واضح. الثاني: قوله: "إن لي طعاماً لستم تعرفونه"، يعني بذلك اللذات الروحانية الحاصلة من المناجات والمكالمة. الثالث: قوله: "أعمل مسرة من أرسلني". كَنَّى / (1/69/أ) بالمسرة عن المحبة، وإن كان الباري لا يتصف بالمسرة، وذلك من سوء تعبيرهم، وعَرَّف بأنه رسول مأمور بإتمام العمل ولزوم الطاعة، والنبي وغيره شرع في الشرع إلاّ ما قام الدليل على تخصيصه به. قال المؤلِّف - عفا الله عنه -: "من وقف على هذه الفصول الشاهدة بالنبوة والرسالة، وشاهد ما كفيته من مؤنة استخراجها من أيدي الضانين بها، الكاتمين لها؛ ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متمُّ نوره، فليخصّصني بدعوة صالحة تكون زادي لمعادي، ويتعين عليه إظهار ذلك للمسلم والكافر، أما المسلم ليقف على مصداق قوله تعالى في حقّ المسيح: {وَجَعَلَنِي نَبِيّاً ... } 2. [سورة مريم، الآية: 30] . وقوله: {ما المسيح ابن مريم إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة} . [سورة المائدة، الآية: 75] . وأما الكافر فحتى تظهر عليه الحجة، ويتّضح المحجة، وأنذر
من بسطت يداه في دنياه، وأهمته العناية بأخراه أن يجمع من وجوه هذه الطائفة الزائفة جمعاً كثيفاً، ويحضر إنجيلهم ويقررهم بهذه الفصول على النبوة والعبودية، ليهلك من هلك/ (1/69/ب) عن بيِّنةٍ ويحيى من حَيَّى عن بيِّنةٍ. وأما قول يوحنا: "وقد عَيِيَ يسوع من تعب الطريق"، فدليل على الحدث، ظاهر لمن له ناظر. وليت شعري كيف يعتقد ربوبية رجل ذي رأس وعينين، وقذال1 وأذنين، وفم ولسان وكف وبنان، يأكل ويشرب، ويعيا ويتعب، ويهان ويضرب، ويقتل في زعمه ويصلب؟!. على أَنَّا نسأل النصارى فنقول: من هو هذا الذي عطش وعيي من تعب الطريق؟! فإن قالوا: هو اللاهوت، أكذبتهم التوراة إذ تقول: "إن الله خالق العالم بأسره وما مسه إعياء ولا تعب"2. وإن قالوا: هو الناسوت، أبطلوا الاتّحاد، إذ لم يبق لاهوت متميّز عن ناسوت حتى يضاف إليه الإعياء والتعب، وإذا كان الإله منَزَّهاً عن التعب والإعياء وقد تعب المسيح وعيي، فذلك دليل على كذب النصارى فيما هذوا به من الاتّحاد، اللهم إلاّ أن يفسروا الاتّحاد بما ظهر على يده من آيات الإله من إحياء الميّت وتطهير الأبرص وغير ذلك. فيقودهم القول بذلك إلى مساواة المسيح / (1/70/أ) غيره، ويصير لا خصوصية له بهذا الاتّحاد. فإن راموا تفرقة بين المسيح وبين غيره ممن أحيا الميّت وطهر الأبرص وفعل أضعاف فعل المسيح لم يقدروا على ذلك، وقد حكى لوقا في إنجيله: "أن رجلاً من الفريسين طلب إلى يسوع أن يأكل عنده خبزاً، فلما دخل بيته حضرت إليه امرأة خاطئة، وصبَّت
على رجليه قارورة طيب، وبكت عند قدميه حتى بَلَّتهما بدموعها، وجعلت تمسح قدميه بالطيب وبشعر رأسها، فقال الفريسي في نفسه: لو كان هذا نبيّاً لعرف أن هذه المرأة خاطئة. فأجابه يسوع عما هجس في نفسه"1. 30- الدليل على رسالته من قوله واعترافه بأن الله غيره وأنه رسول الله إلى عباده، قال يوحنا التلميذ: "لما انتصف العيد حضر يسوع إلى الهيكل وشرع يعلم، فقال اليهود: كيف يحسن هذا التعليم؟ فقال تعليمي ليس هو لي بل للذي أرسلني، فمن عمل بطاعته فهو يعرف تعليمي، هل هو من عندي أم من عند الله؟ إن من يتكلم من عند نفسه إنما يريد مجد نفسه. فأما من يريد مجد/ (1/70/ب) من أرسله فهو صادق فعلام تريدون قتلي؟ فقال الجمع: لأنك شيطان. فقال لهم: تزعمون أن موسى عَلَّمكم الختان وليس الختان من موسى ولكنه من الآباء: "وقد يختنون الإنسان ومن الختان يهلك الإنسان كيلا تنقضوا سنة موسى"2. فعلام تنقمون عليَّ إبرائي الإنسان يوم السبت، ثم قال: إني لم آت من عندي ولكن الذي أرسلني محقّ، ولستم تعرفونه وأنا الذي أعرفه، وهو أرسلني. فَهَمَّ اليهود بأخذه ولم يقدروا، لأن ساعته لم تحضر بعد"3. فقد وضحت رسالته من الله إلى الناس وضوح الصبح لذي عينين، ولولا تعاسة الجِد4 لما اشتبه الخالق بمخلوق، ولا قوبلت حقوقه بالعقوق. فأما موضع التحريف من هذا الفصل، فهو قوله: "ليس الختان من موسى ولكنه من الآباء". وذلك غير صحيح؛ لأن التوراة قد أوجبت الختان، وجعلته
من شرائع الإيمان، فقال الله فيها: "اختنوا لحم غرلتكم أنت وبنوك ورقيقك والساكن عندك الذي أقبل إليَّ، واجعلوا ذلك ميسماً لي في أجسادكم، فمن لم يفعل ذلك فليقتل بما أبطل من عهدي"1. والتوراة تشهد أن إبراهيم أمره/ (1/71/أ) الله فاختتن بعد ما كبرت سنة وختن بنيه وعبيده2، واختتن موسى وهارون والمسيح3 [وحواريوه] 4 وتلاميذه، والدليل على ثبج5 هذا النقل واضطرابه قوله بعد ذلك: "كيلا تنقضوا سنة موسى"،سمَّى الختان سنة موسى بعد قوله:"وليس الختان من موسى"، ولم يزل أتباع المسيح يختنون ويستنون بسنة الأنبياء في الختان حتى جاء رجل من المتأخرين يدعى فولس، هو الذي يسمونه فولوس الرسول، فادّعى أن المسيح ترآءى له، وأرسله إلى أهل دينه، فأحلَّ لهم فولس أشياء، وحلهم مما كانوا مرتبطين به من أقوال موسى والمسيح6، فكان مما حلهم منه سنة الختان التي شرعها الأنبياء عليهم السلام فراجعوه في ذلك،
فقال لهم فولس هذا المدعي رسالة المسيح: "إن الختان ليس بشيء، وإن الغرلة ليس بشيء"1. فأطبق الملكية2 على ترك الختان، وتربص بقية طوائف بها فلم يتجاسروا على إهمالها. وهذا فولس3 الرسول عندهم له كلمات تدل على تهكم وتلاعب بدين النصارى ستأتي متفرقة في أضعاف هذا المختصر إن شاء الله تعالى. وقد سمعت بعض / (1/71/ب) النصارى يذكر أن كلمة ينطق بها المسيح مركبة من اللاهوت والناسوت جميعاً، فيلزم على قول هذا القائل أن يكون الإله قد نطق بكلام المستضعفين إذ يقول في كلامه لليهود: إنكم تريدون قتلي، وذلك زلل عظيم. 31- مناظرة جرت بينه وبين اليهود تشهد له بالنبوة والرسالة؛ قال يوحنا التلميذ: "قال يسوع لليهود الذين حضروه: إن أنتم ثبتم على الحقّ فالحقّ يعتقكم، فقالوا: نحن ذرية إبراهيم وأنت تزعم أنا عبيد. فقال: الحقّ أقول
لكم إن من يعمل بالخطيئة فهو عبد الخطيئة، قد عرفت أنكم من ذرية إبراهيم، ولكنكم تريدون قتل رجل كلمكم بالحقّ الذي سمعه من الله، فقالوا: أما نحن فلسنا مولودين من زنى، وإنما لنا أبٌّ واحدٌ هو الله. فقال: لو كان الله أباكم كنتم تحبونني؛ لأن الله أرسلني ولستم تفهمون كلامي ولا تطيقون استماع قولي، أنتم من أبيكم إبليس وشهوة أبيكم تأتون. فقالوا: ألم نقل إنك سامري وأن بك جنوناً؟ فقال: الحقّ أقول لكم إن من يحفظ كلامي لا / (1/72/أ) يذوق الموت إلى الأبد. فقالوا: الآن علمنا أنك مجنون. قد مات إبراهيم والأنبياء؛ فلعلك أعظم من أبينا إبراهيم ومن مات من الأنبياء، من تجعل نفسك؟ فقال يسوع: أبوكم إبراهيم اشتهى أن يرى يومي فرأى وفرح. فقال له اليهود: لم يأت لك خمسون سنة فكيف رأيت إبراهيم؟ فقال يسوع: الحقّ أقول لكم إنني [كائن] 1 قبل أن يكون إبراهيم. فتناولوا حجارة ليرجموه، فتوارى يسوع وخرج من الهيكل"2. قلت: فقد نطق المسيح في هذا الفصل وفي غيره بأنه رسول من الله، وأنه إنسان من خلقه يروم أعداؤه قتله على تبليغ رسالة ربّه، وأنه سامع من الله، وأن الله غيره ولو أن الأمر على ما يتخيله النصارى لأرشد أهل ذلك المجلس إلى الصواب ولعرّفهم أن الإله لا يتصور قتله والظهور عليه، ولكنه أثبت عندهم أنه رجل ضعيف من بني آدم، وأكّد ذلك في نفوسهم بهربه وتواريه من المجلس على أعين الناس وهم يشهدون، وكيف يكون إلهاً ويترك خلقه يرتبكون في حبائل الشكوك، ويقول في محاورته: "إنّكم تريدون قتلي / (1/72/ب) وأنا إنسان كلمتكم بالحق وفُهْت لكم الصدق"؟!.
وفي هذا الفصل مواضع يسألون عنها، وكلّها قريبة المغزى على من أمعن من مطالعة كتبهم، وعرف نبوات أنبيائهم، منها قوله: "أنا قبل أن يكون إبراهيم". وإنما يريد قبلية الاصطفاء والاجتباء، وتقدير الكلام: "أنّ الله قدّر لي النبوة واصطفاني للرسالة قبل خلق إبراهيم". وهذا محمل يتعين حمل هذا الكلام عليه إن صحّ نسبته إليه، ولو كان الأمر على ما [ينهق] 1 به النصارى من دعوى الربوبية لم يخصص القبلية بإبراهيم ولقال: "أنا كنت قبل خلق العالم، وأنا الذي نفخت الروح في حواء وآدم"، ولو جاز أن يتمسك بقوله: "أنا قبل أن يكون إبراهيم"، لجاز ذلك في سليمان فقد قال عليه السلام في حكمته: "أنا كنت قبل الدني، وأنا كنت مع الله حين مدَّ الأرض، وكنت صبيّاً ألهو بين يديه"2. فإن قالوا: هذا مُأَوَّل لأن سليمان3 من بني إسرائيل، فكيف يكون قبل الدنيا؟!. قلنا: ويسوع المسيح من ولد إبراهيم، فكيف يكون قبل إبراهيم؟! فاستوت الحال وترجح جانب سليمان في / (1/73/أ) هذه القَبْليِّة4.
ومنها قوله: "إن أباكم إبراهيم ليشتهي أن يرى يومي فرأى وفرح"، يحتمل أن يكون إبراهيم كان قد اشتهى أن يرى يوماً يتلذذ فيه بمناجاة الله ومكالمته، فلا جرم أن الله تعالى أناله طلبته، وأسعفه بحاجته، وشرفه نحلته "فكلمه عند انتصاف النهار، حين مرت به الملائكة لهلاك قوم لوط كما شهدت به التوراة، وفارقوه وبقي إبراهيم قائماً بين يدي الله يناجيه ويتلذذ بمراجعته ويقول له: يا ربّ أتهلك الأبرار مع الفجار بغضب واحد"1. كما شهدت به التوراة، فضاهى ذلك اليوم من حسنه وطيبه يوم المسيح: "إذا كان يدعو ربّه عند إحياء العازر، ويقول: أشكرك؛ لأنك تستجيب لي، وأنا أعلم أنك تستجيب لي في كلّ حين، ولكن أشكرك من أجل هؤلاء الفئام ليعلموا أنك أرسلتني"2. كما نطق به الإنجيل، فهذا تأويل قول:"إبراهيم اشتهى أن يرى يومي"،ولو كان على ما يذهب إليه النصارى لقال: اشتهى أن يراني، ولم يقل: اشتهى أن يرى يومي. ويحتمل أيضاً أن يكون إبراهيم كان قد سأل الله تعالى أن يجعل / (1/73/ب) في ذريته رجلاً صالحاً تعمّ بركته، فوعده الله أن يخرج من ذريته من يحيى الميت، ويبرئ الأبرص والأكمه، ويشفي المرضى، فاشتهى إبراهيم أن يري يوماً من أيام هذا المولود الموعود به لكي يحصل له مع علم اليقين عين اليقين [فأحيا له] 3 ميتاً أو عدداً من الموتى، وشفى له مرضى، وكثر له من الزاد القليل ما أشبع الجمع الكثير، وقال: إن من ذريتك من أُجري هذه الأمور على يده، ففرح بذلك اليوم التي حصل له فيه من ربّه ما حصل.
وفي الفصل ما يقتضي مساواة المسيح غيره في لفظ النبوة إذ يقولون: "إن أبانا واحد هو الله"، فلم ينكر عليهم [ويقل] 1: كذّبتم بل هو أبي دونكم، بل أقرّهم على ذلك، وقال: "لو أن الله [أبوكم كنتم تحبّونني] 2". ومن ذلك قوله: "الحقّ يعتقكم"، ومعلوم أنهم أحرار، ومن ذلك قوله: "أنتم من أبيكم إبليس"، ومعلوم أنهم من بني آدم، فهذا التوسع من المسيح يوجب صرف الأبوَّة والبُنُوَّة عن ظاهرها. ويقتضي إطلاق البنوة على العبد المطيع حيث يقول: لو أن الله / (1/74/أ) [أبوكم كنتم تحبونني] 3. قال المؤلِّف - عفا الله عنه -: "لقد فاوضت بعض النصارى فيما يتعلق بألفاظ البنوة، فقال: لا تعجب من تسميتنا السيد المسيح ابناً، فنحن بأسرنا ندعو الله أباً لجميعنا. فقلت له: فأنتم إذاً مع المسيح في الرتبة، فلم تسمونه ربّاً وتتّخذونه إلهاً؟ ولم يميز عنكم في هذه التسمية؟! فذكر اختصاصه بالخوارق والآيات فتلوت عليه أمثالها صدرت عن عدة من الأنبياء، فحار ولم يحر جواباً، وأصيب ولم يصب صواباً. فليت شعري، أي شيء في هذا الفصل يصلح للاستدلال على ربوبية المسيح وفيه قوله لليهود: "من منكم يوبخني على خطيئة؟! "، وفيه هربه من المجلس بحضرتهم. وهلاّ كان مكان قوله: "من منكم يوبخني على خطيئة"، من منكم يجحد خلقي العالم؟! ونفخي الروح في آدم؟!، ولم تنكرون ربوبيتي وتجحدون ألوهيتي، وأنا الذي بيده البسط والقبض، وبأمره قامت السماء والأرض؟! وحاشاه حاشاه، بل إنما استدل على نبوته بثبوت عصمته، فقال: "من منكم يوبخني على خطيئة؟! ".
32- معجزة دالة على نبوّته / (1/74/ب) : قال يوحنا التلميذ: "أحيا يسوع العازر، وجاء إلى القبر مع أخته، وقال لها: أين دفنتموه؟ فأشارت إلى المغارة التي هو فيها، فقال: ارفعوا الحجر عنه. ثم دمعت عيناه، فقال اليهود: انظروا حبه له. فقالت أخت العازر: يا سيد إنه قد أنتن؛ لأن له أربعة أيام، فقال: إن آمنت رأيت مجد الله، فرفعوا الحجر عن القبر، ورفع يسوع بصره إلى فوق، وقال: يا أبتاه أشكرك لأنك تسمع لي، وأعلم أنك تسمع لي في كلّ حين، ولكن أشكرك من أجل هؤلاء القيام ليعلموا أنك أرسلتني، ثم نادى بصوت عظيم: عازار اخرج. فخرج الميت ويداه ورجلاه ملفوفة باللفائف ووجهه مستور بعمامة، فقال يسوع: حُلُّوه ودعوه يمضي إلى بيته"1. قلت: بهذا وشبهه ثبتت نبوّة المسيح، ووضحت رسالته، وقطع ألسن اليهود الذي قرفوه بالخناء، ونسبوا أمير الصدق إلى الزنا، وهذا الكلام من المسيح هو التحدّي على النبوّة. فإن نازع اليهود في صدق هذه الآية من المسيح [ود] لالتها2 على النبوّة/ (1/75/أ) ورد عليهم ذلك بعينه في شقّ البحر وإجراء المياه من حجر [الصَّوَانٍ] 3 وغيره من آيات عيسى، وكلّ سؤال انعكس على مورده مردود من أصله. وإن زعم النصارى أن ذلك دليل على ربوبية المسيح إذ ليس في مقدور البشر إحياء من في القبور. قلنا: قد بيّنا في الباب الأوّل عبودية المسيح، وأنه إنسان من الخلق أكرمه الله بالآيات وأمدّه بالمعجزات، والرّبّ تعالى هو الذي يعيد الروح إلى قالبها، ويفعل ذلك عند دعوة النبي ليتوجه على العباد قبول أمره
وينْزِل ذلك منه سبحانه منْزِلة قوله: "صدق عبدي فأطيعوه"، وهذا كما فلق البحر بسؤال موسى، وأخرج له من الرمل حيواناً كثيراً [قملا فأرسله] 1 إلى فرعون وجنوده، وقد شهد كتاب [سفر] 2 الملوك من كتبهم: أن قوماً حملوا ميتاً لهم إلى [القبر فرأوا عدوّاً لهم] 3، فطرحوا الميت عن أعناقهم، وابتدروا [الهرب إلى المدينة، فأحيا الله تعالى الميت] 4، وأقبل حتى دخل المدينة، فنظروا [فإذا هم قد وضعوه على قبْرِ] 5 نبي الله اليسع، فهذا تراب [قبْر اليسع قد أحيا ميّتاً وهو أعجب] 6 من فعل المسيح، والمسيح سأل / (1/75/ب) وتضرع في ذلك، واليسع ميّت لم ينسب إليه سؤال. وقد ذكرنا أشعيا النبي "أن الله عزوجل قال لحزقيال: قم فتنبأ على هذه العظام حتى أحييها لك. ففعل فأحيا الله بدعوته عالماً كبيراً يقال: إنهم ثلاثون ألفاً، وقيل: ستون ألفاً، كان بختنصر اليوناني قتلهم، وكان لهم من يوم قتلوا ستون سنة"7. وقد أحيا إلياس وغيره8 الأموات. "وقد كان موسى ضرب بعصاه الرمل فَتَكَوَّنَ منه [قمل] 9 وذباب فانثال على أعدائه"10. ولا شكّ أن من صوَّر حيواناً ابتداءاً فهو أبدع ممن أعاد الروح إلى قالبها الأوّل. وكلّ هذه المنقولات تشهد بها التوراة والنبوات، فهلاّ اتّخذ
النصارى من ذكرنا من الأنبياء آلهة وأرباباً، وقد أربوا على ما صدر من المسيح عليه السلام. واعلم أن في قصة العازر أشياء تمنع النصارى من اعتقاد ربوبية المسيح منها: قوله: "أين دفنتموه"، فإنه لو كان المسيح ربّه [لعرف أين] 1 مكانه. فكيف يسأل الرّبّ عن موضع [قبر العازر؟!] 2. ومنها: استعباره عند رؤية قبْره [وذلك من صفات] 3 الآدميّين / (1/76/أ) وحُنُوِّ الجنسية. ومنها: قوله لأخت الميّت: "إن آمنت رأيت مجد الله"، أضاف القدرة على الإحياء إلى غيره. ومنها: ابتهاله وطلبه من الله وإظهار فاقته وحاجته إليه سبحانه، وعجزه وقصوره عن أن يأخذ إلاّ ما أعطاه، وقد صرّح هو بذلك في موضع آخر من الإنجيل إذ يقول: "إن الابن لا يقدر أن يفعل شيئاً ولا يتفكر فيه إلاّ أن يأمره الأب"4. وهذا غاية العجز والافتقار، فلو كان المسيح هو الله أو الله حالاً فيه كما يقول النصارى للزم اتّحاد السائل والمسؤول، والداعي والمدعو، والطالب والمطلوب منه. ولو كان الله هو المسيح أو صفة من صفاته لجر إلى تلبيس عظيم، إذ سؤاله غيره، وطلبه من غير مطلوب منه، تلبيس وتدليس، وحمل لخلقه أن يقفوا به دون حقّه، وأن يعاملوه بما يقصر عن جلاله، ولا يعطونه من الخدمة والعبادة ما
يتقاضاه الربوبية وتوجيه الإلهية بل يعاملونه معاملة البشر ويخاطبونه مخاطبة الآدميين، فينسبونه تارة إلى بنوة داود وأخرى إلى بنوة يوسف / (1/76/ب) ومريم، وذلك غض عظيم من منصب الربوبية وحط لجلال الألوهية. فنحن - يرحمك الله - نسأل النصارى عن هذا الداعي المبتهل الطالب أهو الإله الأزلي الواحد أو إنسان من بني آدم؟! فإن قالوا: إنه إنسان من بني آدم وافقوا شريعتنا وخالفوا شريعتهم إذ تقول: "إن المسيح إله حقّ من إله حقّ من جوهر الله، وأن المسيح بيده أتقن العوالم وخلق كلّ شيء". وحينئذٍ يصيروا مسلمين إذا اعترفوا بالرسول صلى الله عليه وسلم. وإن زعموا أن القائل لذلك هو الإله الخالق الأزلي الواحد، فقد صرّحوا أن الله الأزلي لا يعلم المغيبات، وأنه مفتقر إلى سؤال غيره، وأن له ربّاً فوقه يسأله حوائجه، ويضرع إليه في نوازله ومأربه، وكفى بذلك تجاهلاً. مؤاخذة على إحياء العازر: ذكر يوحنا في قصة العازر هذه أن مريم ومرثا أختا العازر ذهبتا إلى يسوع فقالتا: "يا سيد إن حبيبك العازر قد مات، فقال يسوع: ليس هذا موتاً على الحقيقة، ولكن ليظهر مجد الله"1. قلت: لا يخلو أن يكون / (1/77/أ) العازر مات أو لم يمت، فإن كان قد مات، فكيف يقول: إنه لم يمت حقيقة، وإن كان لم يمت لم يحصل الإعجاز بإحياء من لم يمت وإحياء الحيّ محال.
نكته: من غَلُظَ فهمه وأظلم حسه وكثف لبه افتقر في إرشاده إلى معجز كثيف، فلا جرم كانت الآيات في أهل الكتاب من جنس فُهومِهم. ولما لطفت أفهام آخرين وتروحنت نفوسهم وقوي نفوذ إدراكهم اكتفى في هدايتهم بالروحاني من المعجز، فلا جرم آمن طوائف بمجرد رؤية نبيّهم وسماع أوّل كلامه، ولم يتوقف إيمانهم على ما توقف عليه إيمان الأوّلين.
الباب الثالث: في تأويل ظواهر الإنجيل
الباب الثّالث: في تأويل ظواهر الإنجيل / (1/77/ب) اعلم - رحمك الله - أنه إنما دخل الخلل على النصارى وغيرهم ممن بضاعته من المعقول مزجاة، ومن جهلهم بمقتضيات الألفاظ وعدم المعرفة بوجوه الكلام ولقصور أفهامهم هابوا تأويل الظواهر فلم يحملوها على بعض محتملاتها بالدليل، وليس ذلك صواباً، بل ينبغي حراسة ما دَلَّ عليه دليل العقل الذي لا احتمال فيه، فإذا ورد لفظ عرض ظاهره على ما ضبطه دليل العقل، فإن لم يَنْبُ عنه استعمل الظاهر من اللفظ ولم يتأول، وإن نبا عنه طُلب له [وجه] 1 يحمل عليه ما يحتمله ليجمع بين اللفظ وبين مقتضى العقل2، إذ الشرع لا
يرد بخلاف ما يقتضيه العقل. فإذا عرفت هذا فاعلم أن الألفاظ التي زلوا فيها وقدروها نصوصا وليست
بنصوص أربعة: الإبن، والأب، والإله، والرب. وإذا نحن أتينا عليها بالتأويل1 وبيّنا ما يحتمله بالدليل من التوراة والإنجيل لم يبق إلى إجرائها على الظاهر من سبيل، بعد أن / (1/78/أ) نقدّر صحّتها مثلاً ونسلم ورودها جدلاً، ولو نسبناهم فيها إلى التحريف والتصحيف لأغريناهم بطغيانهم وحسمنا عنهم مادة إيمانهم، بل نلاطفهم ونتكلم بمقتضى اصطلاحهم ومنقولهم فعسى أن يكون ذلك أقرب لمعقولهم، فأما الخوض بهم في أدلة العقول فشيء لا تحمله قواهم ولا يلائم هواهم. فنقول - وبالله التوفيق -: أما لفظتا الابن والأب: فلغتهم تسمي الولي (ابناً) وتسمي المربِّي (أباً) 2 ويعبرون عن ذلك بأبوَّة النعمة وبُنُوَّة الخدمة وذلك
عندهم مشهور وفي نبوات أنبيائهم مذكور مرسوم والدليل عليه من التوراة قول الله لموسى: "اذهب إلى فرعون فقل له: يقول لك الرّبّ إسرائيل ابني بكري أرسله يعبدني فإن أبيت أن ترسل ابني بكري قتلت ابنك بكرك"1. قالت التوراة: "فلما لم يرسل فرعون بني إسرائيل كما قال الله قتل الله أبكار فرعون وقومه من بكر فرعون الجالس على السرير إلى الأتوني من أولاد الآدميين إلى ولد الحيوان البهيم"2 / (1/78/ب) . فهذه التوراة تُسَمِّي بنبي إسرائيل كلهم أبناء الله وأبكاره وتسمي أبناء أهل مصرأبناء فرعون وتوسع بتسمية سخال3 الحيوان أولاداً لمالك الحيوان. فهل بقي بعد هذا ريب في صرف البنوة عن ظاهرها وحملها على الوليّ والعبد؟! ألم تسمع النصارى قوله الله: "أرسله يعبدني"، فعبر عن العبد المطيع له الممتثل أمره بالابن؟! 4.
قال المؤلِّف - عفا الله عنه -: "قَلَّ ما رأيت لفظة الابن في كتبهم إلاّ مقرونة بالعبودية والتعبد كقول التوراة: "إسرائيل ابني بكري أرسله يعبدني"1. وكقول المزامير: "أنت ابني سلني أعطيك"2. وكقول المسيح: "أنا ذاهب إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم"3. وكقوله: "إذ صليتم فقولوا: أبانا الذي في السماوات قدوس اسمك افعل بنا كذا وكذا"4. من باب السؤال والدعاء، فإذا كان إسرائيل ابن الله وبكره، فأيُّ مزية للمسيح عليه وعلى غيره في هذه البنوّة؟!
وقال أيضاً في التوراة في قصة الطوفان: "إنه لما نظر بنو الله إلى بنات الناس [حسانا] 1 جدا شغفوا بههن فنكحوا منهن ما أحبوا واختاروا فلولدوا جبابرة مذكورين / (1/79/أ) فأفسدوا فقال الله: لا تحل عنايتي على هؤلاء القوم"2. قال المؤلِّف: أراد بأبناء الله أولاد القتيل من بني آدم وهو هابيل، وأراد ببنات الناس بنات القاتل وهو قابيل، وكُنَّ [حسانا] 3 جدا فصروا قلوبهن عن عبادة الله إلى عبادة الأصنام، وقد سمَّى الله أولاد الصلحاء من عباده أبناء له إذ كانوا أولياءه وأبناء وليه وصفيه الشهيد. فدلّ على ما قلناه من تسمية الولي في شرع أهل الكتاب ابناً والمربِّي له أباً ومنعماً، وذلك لا خفاء به عندهم، والدليل على ذلك من المزامير قول الله: "يا داود أنت ابني حبيبي"4، وذلك يقضي بمساواته المسيح إذ يقول له: "هذا ابني الحبيب"5. فما نرى الإنجيل زاد المسيح على أن ساواه بداود وإسرائيل وأولاده الصلحاء من أولاد هابيل الذي قتله قابيل. وقال في المزامير لداود أو لغيره: "أنت ابني وأنا اليوم ولدتك، سلني أعطيك"6. وفي المزامير: "ولدتك من البطن قبل الفجر"7. وقال نبي الله أشعيا في نبوته حاكياً عن الله: "توصوا بني في أبنائي وبناتي"8. يريد ذكور عباده / (1/79/ب) الصالحين وإناثهم.
وقال الله في نبوة أشعيا: "إني ربيت أولاداً حتى كبروا ونشأوا"1، فما نرى المسيح إلاّ نسج له على منوال من تقدمه من صلحاء عباد الله فإن لم يصح هذا النقل فلا بنوة، وإن كان صحيحاً فلا مزية. والدليل على أن البنوة بمعنى التربية والإنعام قول المسيح في الإنجيل: "إني رباني"2، فقرن الأبوة بالتربية. وقال المسيح: "أنا الكرم وأبي الفلاح فكما أن الفلاح يسقي الكرم ويدفع عنه الأذى ويُنمِّيه فكذلك يفعل الأب"3. قال المؤلِّف: وإذا كان هذا نقلهم عن الله تعالى أن الله تعالى سمَّى الصالحين من عباده والمتقين من خلقه أبناء، فلا معنى لإطنابهم في بنوة المسيح وتخصيص التأويل بداود وإسرائيل وغيره ما إليه من سبيل. قلت: وهذه الولادة الروحانية هي الأبوة المعتبرة المستفادة من تربية المشائخ والعلماء بالله الدالين عليه المحبين عباده، وبها يصير الإنسان إنساناً، وذلك أن الوالد الجسماني يضع المولود ساذجاً عن المعرفة، خالياً عن العلم، عاطلاً من الأدب، متوفر البهيمية / (1/80/أ) نزر الإنسانية، ليس له كبير فضل على الحيوان البهيم، فإذا ولد الولادة الروحانية نقل إلى طور الإنسان، وحُوِّل عن بهيم الحيوان، فتروى بالعلم، وتحلَّى بالحكم، وتَشَنَّف بالأدب، وتشرف بالزهد، وتَرَوْحن بالمعرفة، فترقى عن الإنسانية وناسب الملائكة، فحينئذٍ تمت له الولادة الروحانية وتلاشت في جنبها الولادة الترابية الجسمانية.
والدليل على اعتبار هذه الولادة قول المسيح: "لن يدخل ملكوت السماوات من لم يولد من ذي قبل، قيل له: كيف يولد شيخ، قال: الحقّ أقول لكم إن المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الروح روح هو"1. يريد عزوجل روح الحكمة التي قالت التوراة: "إنها ملأت بصلئيل من سبط يهوذا"2. "وقال رجل من أصحاب المسيح له: يا سيد مرني أن أذهب فأدفن أبي، فقال: دع الموتى يدفنون موتاهم"3. أمره بملازمة الأب الروحاني الذي يكون سبب الحياة الدائمة. ولما استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد4 على مكّة قال: "يا عتاب أتدري على من استعملتك؟ / (1/80/ب) استعملتك على أهل الله، قالها مرات"5. وقال عزوجل: "أهل القرآن هم أهل الله"6.
وقيل لأبي بكر الصّدِّيق: ماذا تقول لربّك وقد استعملت علينا عمر؟ فقال: "أقول: استعملت على أهلك خير أهلك"1. وذلك لكه للتشريف وإلاّ فلا مناسبة بين القديم والحادث والخالق والمخلوق وبعد، فقد كانت هذه الولادة - أعني ولادة التربية - مشهورة في الزمن الأوّل والدهر المتقدم، فكأن التبني بالغير مسوغ فانظر إلى المعنى الذي أشرنا إليه، ولم يزل ذلك كذلك إلى قبيل الإسلام ولما قال عزوجل: "إن زيداً2 ابني يرثني وأرثه، رضي بذلك والد زيد وعمومته وانصرفوا"3. فلما جاء الله بالإسلام والنبوة منع من ذلك رفعا للالتباس بالتسمية وأحكام الأبوة الدنيوية فقال جل من قائل: {ادْعُوهُم لآبَائِهِم} . [سورة الأحزاب، الآية: 5] . فإن أراد النصارى بالأبوة والبنوة المذهب الروحاني من التربية والتعليم والتهذيب والتقويم، لم نشاححهم في الألفاظ بعد فهم المعاني، لكنا نقول لهم: لا اختصاص للمسيح عزوجل بهذه البنوة، ونتلو عليهم ما تقدم مما نقلناه من التوراة والنبوات والإنجيل.
(1/81/أ) الدليل على مساواة المسيح غيره في هذه البنوة وأنه لم يخص بها نفسه: وذلك في الإنجيل كثير جداً قال المسيح في خاتمة الإنجيل: "أنا ذاهب إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم" فقد سوى بين نفسه وبين تلاميذه في هذا المعنى ويوضحه قوله: "وإلهي وإلهكم"، فإن رام النصارى تفرقة بين المسيح وبين غيره قلبنا عليهم الكلام وعكسنا المرام حتى يضطرهم الحجاج إلى جعل البنوة في حق المسيح وغيره بمعنى واحد. قال المؤلِّف لقد فاوضني بعض الرهبان ممن يدَّعي بناناً في البيان، فأفضى الحديث معه إلى ذكر الابن والبنوة، فألزمته قول التوراة: "ابني بكري" وقلت له: لعل البكر يكون أحظى عند والده، وأولى بطريف1 بِرِّه وتالده2، فما تقول في بنوة إسرائيل؟ فقال: إسرائيل وغيره ابن النعمة والمسيح ابن على الحقيقة، فعكست عليه كلامه فتبلد واختزى ولجأ إلى ضعف العبارة واعتزى3. وقد سوَّى المسيح بين نفسه وبين سائر المطيعين من عباد الله في هذه البنوة وقد أخبر يوحنا الإنجيلي في الفصل الثاني من الرسالة4 الأولى أن إطلاق لفظ البنوة إنما هي / (1/81/ب) مجرد تسمية امتن الله بها عليهم تشريفاً لهم فقال: "انظروا إلى محبة الأب لنا أنه أعطانا أن ندعا له أبناء"5. ثم قال في الفصل الثالث منها: "أيها الأحباء الآن صرنا أبناء الله وقد تبنَّن بنا فينبغي لنا أن نَنْزِله من الإجلال
على ما هو عليه، فمن صحّ له هذا الرجاء فليزك نفسه بترك الخطيئة والإثم واعملوا أن من لابس الخطيئة فإنه لم يعرفه"1. قال متى: "قال المسيح: أحبوا أعداءكم وباركوا على لاعنيكم وأحسنوا إلى من يبغضكم وصلوا على من يطردكم، لكيما تكونوا بني أبيكم المشرق شمسه على الأخيار والأشرار، والممطر على الصّديقين والظالمين"2. وقال المسيح لتلاميذه: "كونوا كاملين مثل أبيكم فهو كامل، لا تصنعوا معروفكم قدام الناس لكي تراؤنهم فيحبط أجركم عند أبيكم الذي في السماوات، لتكن صدقتك في السّرّ وأبوك يرى السّرّ فيجزيك علانية، إذا صليت فادخل مخدعك وأغلق بابك وصل لأبيك سراً وأبوك يرى السّرّ فيجزيك علانية، وإذا صليتم فلا تتشبهوا بالوثنيين لأنهم يظنون أن / (1/82/أ) يسمع منهم بكثرة كلامهم، فأبوكم عالم بحوائجكم قبل أن تسألوه"3. فهذا المسيح قد سوَّى بين نفسه وبين سائر المطيعين لله في البنوة، وبيَّن أن لفظة: "الابن" قد تطلق على العبد الصالح بدليل قوله لليهود: "أنتم لو كان الله أباكم كنتم [تحبونني] 4، أنتم من أبيكم إبليس وشهوة إبليس تهون"5.
وقد قال فولس في الرسالة الخامسة: "إياكم والسفه والسب واللعن واللعب، فإن الزاني والنجس والغاشم كعابد الوثن لا نصيب له في ملكوت الله، احذروا هذه الشرور فمن أجلها يأتي رجز الله على الأبناء الذين لا يطيعونه، فإياكم أن تكونوا شركاءهم فقد كنتم من قبل في ظلمة فاسعوا لأن نسعى [كأبناء] 1 النور"2. انظر كيف سمى فولس حكيم النصارى [من] 3 يعمل بالمعاصي ابناً، كما سمّى المتقين من عباد الله ابناً، فقد استبان لك مرادهم بالبنوة التي يطلقونها. نوع آخر: قال المسيح: "سمعتم ما قيل العين بالعين والسن بالسن وأنا أقول لا تقاوموا الشرّ بالشرّ ولكن من لطمك على خدك الأيمن فحول الآخر، ومن رام أخذ ثوبك فزده إزارك / (1/82/ب) ومن سخرك ميلا فامش معه ميلين، ومن سألك فأعطه، ومن اقترض منك فلا تمنعه، سمعتم ما قيل أحبب قريبك وأبغض عدوّك وأنا أقول لكم أحبوا أعداءكم وباركوا على لاعنيكم وأحسنوا إلى من يبغضكم وصلوا على من يطردكم ويخزيكم، لكيما تكونوا بني أبيكم كونوا كاملين مثل أبيكم فهو كامل4، وإذا صنعت رحمة فلا تصوِّت قدامك بالبوق كالمرائين في المجامع والأسواق لكي يُحمدوا من الناس، الحقّ أقول لكم لقد أخذوا أجرهم، وإذا صنعت رحمة فلا تعلم شمالك ما صنعت يمينك لتكن صدقتك في السِّرّ وأبوك يجزيك علانية، وإذا صليتم فلا تكونوا كالمرائين الذين يصلون ليظهر للناس صلاتهم، الحقّ أقول لكم لقد أخذوا أجرهم5، وإذا
صمتم فلا تكونوا كالمرائين الذين يعبسون وجوههم ويغيِّرونها ليظهر للناس صيامهم، الحقّ أقول لكم لقد أخذوا أجرهم، وأنت إذا صمت فاغسل وجهك وادهن رأسك كيلا يظهر للناس صيامك، اغفروا للناس خطاياهم ليغفر لكم أبوكم السماوي خطاياكم، لا تكنِزوا لكم كنوزاً في الأرض [حيث] 1 الأكلة والسوس / (1/83/أ) والسارق ولكن اكنِزوا لكم كنوزاً في السماء حتى لا تفسدها سوس ولا تنالها أيدي السُّرَّاق، فحيث تكون كنوزكم هناك تكون قلوبكم"2. فهذه أقوال من المسيح شاهدة بأنه عزوجل لم يخص نفسه بالبنوة دون أدناهم، وأنه وإياهم فيها سيَّان، وأنّها كلمة تطلق على عباد الله الصالين، وأنه حيث ما ذكرها قرنها بالعبودية والتشمير في الطاعة، وأن من كان منحرفاً عن التقى والديانة لم يصلح لهذه البنوة، كما قال المسيح لليهود: "أنتم من أبيكم إبليس". حيث لم يرضهم للبنوة المعزوة إلى الصالحين من بني إسرائيل. إطلاق أتباع المسيح لفظ البنوة على أنفسهم غير مفرقين فيها بينهم وبين المسيح [و] 3 أنهم لم يفهموا منها إلاّ ما أشرنا إليه: قال يوحنا التلميذ في قصص الحواريّين الذي يسمى فراكسيس: "يا أحبائي إنا أبناء الله سمانا بذلك، واعملوا أن الفصل بين أبناء الله وأبناء الشيطان أن من لم يتَبَرر ويحب أخاه فليس من الله بل من الشيطان"4.
فبيَّن الحواري أن بنوة الله عبارة عن طاعته وأن من لم يطع الله / (1/83/ب) فليس يصلح لهذه البنوة ولا تليق به، وساوى بين نفسه وبين المسيح في هذه البنوة. فلم يبق بعدها للنصارى باقية، ولم تقم لهم في تخصيص المسيح بالبنوة قائمة. وقد عبَّر يوحنا الإنجيلي عن هذه البنوة بالطاعة والاستقامة، وذكر أن مَن كان منحرفاً عن خدمة الله لم يصلح لهذه البنوة، فقال في الفصل الثالث من رسالته الأولى: "اعملوا أن كل من ولد من الله فلن يعمل خطيئة من أجل أن زرعه [ثابت] 1 فيه فلا يستطيع أن يخطئ لأنه مولود من الله وبهذا نتبيّن أبناء الله من أبناء الشيطان فكل من لا يعمل البر فليس هو من الله"2. فالمسيح عزوجل ويعقوب وداود ومن مضى من أولياء الله وأنبيائه لما تحققوا بخدمة الله وسارعوا إليها أطلق اللسان العبراني عليهم هذه التسمية تشريفاً له ولا مزية للمسيح على غيره في ذلك. وقال فولس الذي يسمونه فولس الرسول وهو المفرس العالم الذي لهم في رسالته إلى ملك الروم: "أن الروح تشهد لأرواحنا أنا أنباء الله وإذا كنا أبناءه فنحن ورثته / (1/84/أ) أيضاً". وقال فولس في هذه الرسالة: "إن البرية كلها تترجى ظهور أبناء الله"3. قال المؤلِّف: إن كان هذا الكلام صحيحاً، فالمسلمون أحق بهذه التسمية فإنهم الذين ملأوا الأرض ونفعوا البرايا والأمم بما أرشدوهم إليه من طاعة الله، وعلموهم من توحيده، وشرعوا لهم من أحكامه، وتحقق رجاء البرية بما أفادهم المسلمون من مصالح دينهم ودنياهم.
وقال فولس في رسالته إلى بعض النواحي: "أولا تعلمون أنكم هياكل الله، وأن روح الله حالة فيكم، وأن الدنيا والآخرة لكم"1. وقال فولس لإخوانه: "إن أجسامكم هيكل لروح القدس التي قبلتموها عن الله"2. وقال فولس في رسالته الثانية: "إن الله تعالى قال: إني أحل فيهم وأسعى معهم، وأكون لهم إلهاً وهم يكونون بمنْزِلة البنين والبنات"3. فهذا فولس- المؤتمن عند النصارى-لم يدَّع أن المسيح [مباين] 4 أحد من الملة في هذه البنوة، وقول فولس: "إنكم هياكل الله"، الهيكل5 بيت متعبدهم كالمسجد ونحوه، فشبه بيت العبد الصالح في طهارتها وعمارتها بذكر الله بالهيكل والمسجد. وقال متى في إنجيله / (1/84/ب) : "إن جباة الجزية جاءوا إلى بطرس فقالوا: ما بال [معلمكم لا] 6 يؤدّي الجزية؟ فقال لهم: نعم. ثم أخبر المسيح بمقالتهم فقال: يا بطرس والبنون أيضاً تؤدّي الغرم، اذهب إلى البحر فأوّل حوت يخرج فخذ وأدِّ عني وعنك"7. فهذا متى يشهد على المسيح بأنه لا يختص بهذه البنوة وأن [البنين] 8 سواه كثير.
وهذه صورة [صلاة] 1 زعم النصارى أن المسيح علَّمها تلاميذ: وهي: "أبانا الذي في السماوات قدوس اسمك يأتي ملكوتك تكون مشيئتك كما في السماء كذلك تكون على الأرض، آتنا خبزنا قوتاً في اليوم، واغفر لنا ما وجب علينا كما نحب أن نغفر لمن أخطأ إلينا، ولا تدخلنا التجارب ولكن نجنا من الشرير، إذ لك المجد والقوة والملك إلى الأبد. آمين"2. قال المؤلِّف: قوله: "آبانا الذي في السماوات" لفظ موهم من حيث الأبوة ومن حيث الجهة. فالأبوة متروكة الظاهر بقول يوسف في التوراة: [لأخيه بنيامين - وهو لا يعرفه - يا بني الله يترأف] 3 عليك. فقد سمى أخاه ابنه، وليس ابناً له على الحقيقة، وبقوله / (1/85/أ) في التوراة لإخوته: "لستم أنتم الذين بعتموني بل الله قدمني أمامكم، وجعلني أبا لفرعون وسيداً لأهل الأرض"4. يريد مدبراً له.
وقد كان التلاميذ يقولون للمسيح يا أبت1، وليس [أباهم] 2 إلاّعلى جهة التدبير كما قال لهم: "لا تدعوا لكم مُدبَّر على الأرض فإن مدبركم المسيح"3. وكانوا أيضاً يدعون بطرس بعد المسح (أبا) لهم كما شهدت به سير التلاميذ، وذلك بمعنى المدبر، فيعلم اللبيب أن قول المسيح لربّه (يا أبت) إن صحّ ذلك عنه كقول بطرس للمسيح (يا أبت) وكقول التلاميذ لبطرس (يا أبت) . وعند الوقوف على هذه المواضع تنحل عقود النصارى في دعوى بنوة المسيح وينفصم عراهم فلا يحاولون انفصالاً إلاّ وينعكس عليهم في بنوة المسيح. ويقال لهم: هل بنوة يوسف لأخيه بنيامين ولملك مصر إلاّ كأبوة الله للمسيح؟ ! وهل بنوة المسيح لله إلاّ كبنوة إسرائيل وداود وأولاده الشهيد من ابني آدم كما حكوا عن التوراة والكتب القديمة؟ ولما كان الأب هو المشفق المرفق العاطف ببره العابد بخيره، المحرك بإحسانه / (1/85/أ) المفضل بتطوله وامتنانه، وكانت هذه المعاني لا تتحقق على الحقيقة إلاّ من الله جلت قدرته، وكان المسيح قد توفرت روحانيته فلم ير الوسائط، حَسُنَ4 عنده التجوز باسم الأب عن الرّبّ، وهذا محمل يتعين حمل هذه الألفاظ عليه إن صحّ إطلاقها
منه، إذا القديم جلّ وعلا يتقدس عن أن يشار إليه بأبوة البعضية المتّخذة من الزوجة والسرية تعالى القديم عن مماسة العديم، ويقدس العظيم عن ملابسة الهضيم1. {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ} . [سورة الشورى، الآية: 11] . ولما كان الابن هو المضهوم الجناح، المفتقر في سعيه إلى النجاح، الخائف من دركات الهلكات بركوب الجناح، اللائذ بأبيه [لاستمطار] 2 نواله، المتعلق بذيول كرمه في مضمون سؤاله، المرمَّى ببره العظيم المعدي بمنه الجسيم لم3 يقبح عنده التوسع باسم الابن عن العبد. فإن تأوّل النصارى البنوة والأبوة بهذا التأويل وإلاّ فضحتهم التوراة والنبوات والإنجيل فقد حكوا عن التوراة قول الله: "إسرائيل ابني بكري"، وفي المزامير يقول داود لأكابر بني إسرائيل: "أنا قلت لكم إنكم آلهة وبنو / (1/86/أ) العلا كلكم تدعون"4. ولا خلاف أن الإنجيل من فاتحته إلى خاتمته لم يخصص المسيح بهذه البنوة، بل شارك فيها غيره من الصحلحاء والأتقياء من عباد الله وأوليائه، ومن أنصف من النصارى عرف صحة ما قلناه فقد قال يوحنا في إنجيله: "إن يسوع كان مزمعاً أن يجمع أبناء الله"5. فهذا يوحنا التلميذ يذكر أن سائر بني إسرائيل يسمون بهذا الاسم ويذكر أن المسيح رام جمع الناس على كلمة الإيمان فلم يقدر على ذلك.
وإذا ثبت إطلاق لفظة البنوة على يقعوب وداود وغيره، فما بال النصارى لا يقولون في أيمانهم وحلفهم: "وحقّ يعقوب ابن الله؟! ". ولِمَ حطُّوا حرمته وهو ابن الله بكره - والبكر له مزيد حرمة عند أبيه؟! وكذلك هلا أقسموا بداود وهو ابنه حبيبه، ولم هجروا اسمه وهو مساو المسيح في البنوة والحبّ؟!. وكذلك قال لوقا الإنجيلي: "جبريل أخبر عن الله أن المسيح ابن داود"1. فهلا نسبوه نسبته التي نسبه بها جبريل ولهجوا بذلك في أقسامهم وأيمانهم فقالوا: "وحقّ المسيح ابن داود". وكيف رغبوا له / (1/86/ب) عن تسمية سماه الله بها على لسان جبريل قبل خلقه؟! أهم أعلم بما يجب له من الله؟! فكيف تكروا تسمية الله له وأخلفوا تسمية أجمع أرباب الملل والنحل على تخطئتهم فيها؟!. فإن رجعوا الفهقرى وتمسكوا بقوله: "يا أبت"، أوردنا عليهم قولة التلاميذ: "قولوا: أبانا الذي في السماوات"، ونظائرها. على أنا نقول لهم: ألم ترووا لنا عن المسيح في خاتمة الإنجيل قوله: "أنا ذاهب إلى إلهي وإلهكم"2، وقوله وهو على الصليب فيما زعمتم: "إلهي إلهي لم تركتني؟ "3. فهلا تقولون في صلواتكم وأدعيتكم: يا عبد الله اغفر لنا، وكذلك إذا دعوتم الأب فقولوا: يا سيد إلهنا ارحمنا، وكذلك قولوا في دعائكم الأب: يا جَدَّنا افعل بنا كذا؛ لأن بطرس4 أبوكم، والمسيح أبٌ لبطرس، والله أب للمسيح.
وقد زعمتم أن [المسيح] 1 صفعه اليهود في رأسه بالقصب [وضَفَّروا] 2 على رأسه إكليلا من الشكوك وألبسوه ثياباً حمراً وسقوه الخلّ عندما عطش، وأنتم في صلواتكم تبتهلون إليه بالأدعية، فما بالكم لا تقولون: يا من صفعه اليهود في رأسه وبصقوا في وجهه / (1/87/أ) واقتسموا ثيابه بينهم بالقرعة واستعار على خشبته وقرن باللصوص - افعل بنا كذا! - الدلالة على استعمال المسيح المجاز والاستعارات: - فإن تلاميذه كانوا [معافين] 3 مما ابتلى به المتأخرون من النصارى قال متى: "بينا يسوع جالسا يتكلم على الناس إذ قيل له: أمك وأخوتك بالباب يطلبونك، فقال: من أمي ومن أخوتي، ثم أومأ بيده إلى تلاميذه وقال: هؤلاء هم أمي وإخوتي، وكل من صنع مشيئة أبي الذي في السماوات فهو أخي وأختي وأمي"4. قلت: هو ذا المسيح عليه السلام قد أعرف في التجوز والتوسع والاستعارة حتى سمى المطيع لله قريباً له من هذه الجهات فجعله أماً له وأختاً وأخاً، وإذا كان النصارى لا يجرون على ظاهر هذا اللفظ، بل يحملونه على ما يليق به من التأويل فكذلك يلزمهم في لفظ البنوة والأبوة، فإنه كما يستحيل أن يكون آحاد الناس أماً وأختاً وأخاً للمسيح فكذلك يستحيل أن يكون المسيح - وهو رجل من بني إسرائيل يناله من النفع والضرر ما ينال غيره من البشر - ابناً لله / (1/87/ب) القديم الأزلي.
فإن [هذى] 1 هاذ منهم وقال: فإذا لم يكن له بُدُّ من أبٍ، فمن أبوه؟!. قلنا له: إذا لم يكن لآدم بُدُّ من أبٍ، فمن أبوه؟!، فإذا قالوا: إن آدم خلقه الله آية وأعجوبة إذ خلقه من غير تناسل وتوالد، قلنا: وكذلك المسيح خلقه الله تعالى آية وأعجوبة إذ خلقه من [غير أب] 2، فكم خلق الله سبحانه من الحيوان من غير توالد وتناسل معروف، وقد ابتدأ الله العالم بأسره لا عن مثال سبق، فأي آيات الله تنكرون3؟!. واعلم أن إطلاق المسيح لفظ: (النبوة) جرى فيه على عادة من تقدمه من بني إسرائيل، فإنهم كانوا يطلقون هذه البنوة والربوبية والألوهية على المعظمين في الدين والمدبرين للأمم كقول التوراة: "إسرائيل ابني بكري"، وكقول المزامير: "داود ابني حبيبي"، وقوله للأكابر من بني إسرائيل: "أنا قلت: إنكم آلهة وبني العلاكلكم تدعون"، وقول شعيا: "توصوا بي في بني وبناتي". وقول أشعيا: "إني رببت أولاداً حتى نشأوا وكبروا". فحال المسيح منسج على منوال من سبقه. فقال: "أنا ذاهب / (1/88/أ) وأبيكم". غير أن هذه اللفظة لم تأت إلاّ ومعها لفظ العبودية ليزول الإيهام ويحصل التشريف والإنعام، والدليل على ما قلناه من بنوة شعيا النبي عليه السلام: "إن الله تعالى تهدد بني إسرائيل على جرم فعلوه، فلما خافوا نزول العقوبة قالوا في دعائهم: الله ترأف علينا، وأقبل بوجههك إلينا، ولا تصرف
رحمتك عنا فأنت هو الرّبّ أبونا، فأما إبراهيم وإسرائيل فلم نعرفه، لكن أنت أبونا وقد ملنا عن طرقك، يا ربّ ارحمنا فنحن عبيدك"1. وقد رووا عن يوحنا الإنجيلي: "أن من لابس المعاصي وانغمس في الخطايا فليس له في هذه الولادة من نصيب"2. فقالوا: قال يوحنا في خاتمة رسالته الأولى: "قد علمنا أن كل من هو مولود من الله لا يخطئ؛ لأن ولادته من الله وهو حافظه له من أن يقترب إليه الشرير"3. فإن صدق النصارى في هذا النقل فليس فيهم إذاً من يستحق هذه التسمية لأنه لا يكاد أحد منهم يخلص من ملابسة المعاصي واقتراف الخطيئة والإثم. فإما أن يبطلوا هذا / (1/88/ب) ويوصوا بفساده لهم دعواهم البنوة، وإما أن يصحّحوه فيخرجوا عن بنوة الله التي يدَّعون بها، فقد حكم يوحنا وغيره من أئمتهم أن مَنْ ولد مِنَ الله لم يرتكب على نفسه ذنباً ولم يختلف وزراً. فهكذا كان اعتقاد من يطلق لفظ الأبوة على الله ويُسمِّي نفسه (ابناً لله) إنما يجعل ذلك من باب التودد إلى الله والخدمة له، فلهذا لم يكن يضرّه إطلاقه، ولما جاء المتأخرون أكثروا من هذا الإطلاق وصاروا يوردونه على جهة الفخر والتزكية وتمجيد النفس فخوطبوا بالتكبر4، وقيل لهم في الكتاب العزيز: {مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ ... } 5.
فأما [لفظتا] 1 الإله والرّبّ: فالرّبّ هو المربي باللطف والإحسان العائد بالعطف والامتنان، وهاتان اللفظتان قد تستعملان في حقّ العظيم من الآدميّين تجوزاً وتوسعاً، لكن على جهة التقييد لا جهة الإطلاق، وقد قال أشعيا النبي: "عرف الثور من اقتناه والحمار مربط ربه ولم يعرف ذلك بنو إسرائيل"2. وهذه كتب القوم تشهد بأن المعلم / (1/89/أ) والمدبر والقيم يسمى رباً3، كما أن الرجل رب منْزِله وداره وبيته ورب ماله. قال نبيّنا صلى الله عليه وسلم لرجلٍ:"أربّ إبل أنت أم ربّ غنم؟ "، فقال: من كل آتاني الله فأجزل4.
والدليل على ذلك من التوراة قول إبراهيم ولوط للملك: "يا رب مِلْ إلى منْزِل عبدك"1. ونحن والنصارى متّفقون على عدم التعبد للملائكة وإنما أرادا الإجلال في الخطاب، وفي التوراة يقول الله لموسى: "قد جعلتك إلهاً لفرعون"2. يريد: مسلطاً عليه ومتحكماً فيه. وفي التوراة: "وقد شكا موسى لثغةَ في لسانه وعجمة في منطقه، فقال الله له: "قد جعلتك رباً لهارون وجعلته لك نبيّاً، أنا آمرك وأنت تبلغه وهو يبلغ ابن إسرائيل"3. ولم يقل الله للمسيح: قد جعلتك ربّاً وإلهاً، بل إنما ذلك شيء تَقَوَّله النصارى، فقول بطرس للمسيح: "يا رب"، إن صحّ فهو مُنَزَّل منْزِلة ربوبية موسى لهارون من حيث إن المسيح أيضاً مبلغ عن الله أوامره كتبليغ موسى أخاه هارون. وقد قال داود في المزمور الثاني والثمانين: "قام الله في جماعة الآلهة / (1/89/ب) ، وقال فيه وهو يعنف الأكابر من بني إسرائيل: "أنا قلت إنكم آلهة وبني العلا
تدعون"1. وفي المزامير أيضاً في حقّ يوسف: "فخلاَّ الملك يوسف وصيَّره سلطاناً على شعبه ربّاً على بنيه"2. يريد القيم عليهم والمدبر لأمورهم. وقد قال يوسف للساقي عندما فسر له رؤياه: "اذكرني عند ربّك"3، يريد مدبرك والقيم عليك. وإذا عرفت ذلك سهل عليك ما يهتف به النصارى من تسمية المسيح ربّاً وإلهاً، وعرفت كيف تكسر حجتهم بتأويل هذه الألفاظ، وقد قال شمعون الصفا رئيس الحواريّين: "إن الله جعل أيسوع ربّاً"4، يريد وَكَل تدبير أصحابه إليه، إذ الرّبّ لا يقال إن غيره جعله وصيره ربّاً وإلهاً، فما نرى شمعون الصفا زاد المسيح في ذلك على ما قالت التوراة: "إن الله جعل موسى ربّاً لهارون وإلهاً لفرعون". ولم يتجاوز به أيضاً قول المزامير: "إن يوسف صار ربّاً للملك". وفي الإنجيل: "إن الكلاب لتأكل من موائد أربابها"5.
وقد روي عن سلمان الفارسي1 أنه قال: "تداولني بعضة عشر من ربّ إلى ربّ"2. وإنما / (1/90/أ) يريد المرشدين والمدبرين له. وقد يكون بمعنى السيد، قال الأعشى: وَأَهْلَكْن يوماً رَبَّ كِنْدَةَ وابنَه وَرَبَّ مَعَدّ بين خَبْتٍ وَعَرْعَر3
ويكون أيضاً للرّبّ بمعنى: المالك. قال طرفة1: كقنطرة الرومي أقسم ربّها لتكتنفن حتى تشاد بقرمد2 ويكون أيضاً الرّبّ بمعنى: المربي من قولهم: رَبّ َ يَرُبُّ فهو رَبٌّ3. قال الشاعر: يَرُبُّ الذي يأتي من الخير أنه متى فعل المعروف زاد وتمما4 ويكون أيضاً بمعنى: المصلح للشيء، قال الشاعر: كانوا كاسالِئَةٍ حَمْقاء إذ حقنت سلاءها في أديمٍ غَيرَ مَرْبُوب5 ويقال للشمس إلهة، قال الشاعر: وأعجلنا الإلهة أن تؤوبا6 ويقال: ألهت إلى فلان، إذا فزعت إليه واعتمدت عليه، وقيل: هو من ألهت فيه إذا تحيرت فيه فلم تهتد إليه، فقول بطرس: "يا ربّ"، يريد يا مدبر أمرنا والقيم علينا.
وقول أشعيا: "هوذا العذراء تحبل وتلد ولداً عمانويل الذي تفسير إلهنا"1 محمول على بعض هذه المحامل / (1/90/ب) إن صح نقلهم عن أشعيا هذا اللفظ بعينه. وقد فسر علماء الإنجيل قول مريم المجدلانية للمسيح (ربوني) 2 بالمعلم، والمعلم والمربي والمدبر بمعنى واحد3. وقد صرح يوحنا الإنجيلي بأن الألوهية ليست على ظاهرها فقال في إنجيليه: "جلس يسوع في إسطوان سليمان بأورشليم فأحاطت به اليهود وتناولوا الحجارة ليرجموه وقالوا: حتى متى تعذب نفوسنا؟ فقال: أريتكم أعمالاً حساناً من عند الله، أفمن أجل الأعمال [ترجمونني] 4؟! فقالوا: إنما نرجمك لأنك بينا أنت إنسان إذ جعلت نفسك إلهاً، فقال يسوع: أليس هكذا مكتوب في ناموسكم: "إني قلت إنكم آلهة وبني العلا تدعون"5، فإذا قيل لأولئك: (آلهة) لكون كلمة الله عندهم، فالذي قدَّسه الله وأرسله إلى العالم، كيف تقولون إنه يجدف"6. فقد اعترف يوحنا والمسيح بأن الألوهية متْروكة الظاهر، وإن إطلاقها عليه كإطلاقها على العلماء والحكماء والمدبرين من بني إسرائيل، وقد صرح في هذا
الكلام بأنه ليس هو الله، ولا الله حال / (1/91/أ) فيه، وأن الله قدّسه؛ أي: طهّره وأرسله إلى العالم، وكذلك يفعل بسائر الأنبياء والرسل1. ولو كان المسيح هو الله، كقول الجهلة من النصارى للزم اتّحاد المُرْسِل والرسول والمُقدَّس. قال فولس في رسائله: "وقد يعرفون نعمة سيدنا يسوع المسيح إذ تَمَسْكن من أجلكم وهو غني، لكي تستغنوا بمسكنته"2. فشهد فولس بأن المسيح رجل من عباد الله يتواضع لله كدأب أوليائه وصفوته. - وقد استشهد النصارى على ربوبية المسيح بقصة الكنعانية: قال متى: "حضر إلى يسوع امرأة كنعانية فقالت: إن ابنتي بها شيطان رديئ فعسى تتعطف عليها، فلم يجبها فسأله التلاميذ أن يقضي حاجتها فقال: لم أرسل إلاّ للخراف الضالة من بيت إسرائيل. فجاءت المرأة وسجدت له وقالت له: يا رب أَعِنِّي. فقال: ليس يجيد أن يؤخذ خبز النبيّين فيعطى للكلاب. فقالت: نعم. يا ربّ والكلاب أيضاً تأكل من الفتات الذي يسقط من موائد
أربابها، فحينئذٍ عطف / (1/91/ب) عليها وقال: [يا امرأة عظيم إيمانك، ليكن لك كما تريدين] 1، فشفيت ابنتها من تلك الساعة"2. قال النصارى: سجدت له [المرأة] 3 وخاطبته بالربوبية، وذلك دليل على ربوبيته إذ لم ينكر عليها، بل تقريرها وشفاء ابنتها من أوضح الأدلة على ربوبيته. وسبيل من وقف على ذلك أن يعارض قول الكنعانية له: "يا رب"، بقولها: "والكلاب تأكل من الفتات الذي يسقط من موائد أربابها"، فقد جعلت ملاك الكلاب [أرباباً] 4 لهم ولم ينكر عليها أيضاً. وكذلك فليعارضوا بقوله: "ليس بجيد أن يؤخذ خبز النبيّين فيعطى للكلاب"، فقد سمى الكفار من بني آدم كلاباً، وقد سمى الدعاء والشفاء خبزاً، وذلك كله دليل التجوز والتوسع، وإذا كان ذلك كله جائزاً على المعنى، فالربوبية والبنوة أيضاً جائزة على طريق المعنى، فإن أحاولوا أن يكون الآدمي كلباً فليحيلوا أن يكون ربّاً. وأما سجودها له ولم ينكر عليها فذلك كان سلام القوم وتحيتهم في الزمن الأوّل على عظمائهم وأكابرهم، / (1/92/أ) والدليل عليه أن التوراة تنطق: "بأن إخوة يوسف حين عرفوه سجدوا له طالبين قدميه"5، وكذلك قالت التوراة: "إن إفرام ومنسى [ابني] 6 يوسف سجدا لجدهما يعقوب بحضرة أبيهم يوسف"7. فلن ينكر عليهم.
وقد قالت التوراة: "إن إبراهيم ولوطاً سجدا للملائكة على الأرض"1، فلم ينهوا عن ذلك. "وقد ساوم إبراهيم قوماً في أرض لهم ليدفن سارة فلم يكلّمهم، ولم يساومهم حتى سجد لهم مرتّين"2. على ما في التوراة، فبطل تعلقهم بسجود المرأة للمسيح. وقال المؤلِّف - عفا الله عنه -: قصة هذه الكنعانية التي استدلوا بها على الربوبية هي من أدل الدلالة على عدم الروبية، وبيانه: أنها جاءت إلى المسيح مؤمنة به، سالكة طريقه في التواضع، معتقدة أن معجزته لا تعجز عن شفاء ابنتها، وهو فلم يَعْلَم بما انطوى عليه ضميرها من الإيمان به، ألا تراه كيف جابهها بالرّدّ؟! وقال: ليس بجيد أن يؤخذ خبز النبيّين فيعطى للكلاب، فلما قالت له ما قالت ظهر له من إيمانها ما كان مستوراً / (1/92/ب) عنه وبدا له من معتقدها فيه ما لم يكن في حسابه، فحينئذٍ قضى حاجتها وشفى ابنتها. - دليل من قوله على أنّ ما يفعله بقوّة الله وحوله: قال مرقس: "قال رجل ليسوع: يا معلم قد جئتك بابني وبه روح أبكم حيثما أدركه صرعه وسألت تلاميذك فلم يقدروا على إخراجه، فقال يسوع: آتوني به، فلما رآه قال لأبيه: مُذْ كم أصابه هذا؟ فقال: منذ صباه فتارة يلقيه في الماء وتارة يطرحه في النار، فإن استعطت فأعنا وتحنن علينا، فقال يسوع: كلّ شيء يستطيعه المؤمن، فبكى أبو الصبي، وقال: أنا مؤمن فأعن ضعف إيماني، فانتهر يسوع الروح وقال: أيها الروح النجس الأبكم الأصم اخرج من الإنسان، فخرج، وصار الصبي كالميت وأخذ يسوع بيده وأقامه فقال:
التلاميذ: لم لم نقدر نحن على إخراجه؟ قال يسوع: إن هذا الجنس لا يستطاع إلاّ بصوم وصلاة، وخرج يسوع من هناك إلى الجليل مستتراً"1. قلت: إن قدح اليهود في هذه الآية، قيل لهم: ألم ترووا/ (1/93/أ) لنا: "أن موت الفجأة وقع في بني إسرائيل بغتة فقتل منهم أربعة وعشرين ألفاً وسبعمائة رجل، فأمر موسى هارون أن يضع في المجمرة بخوراً وقام بين الأموات والأحياء فأمسك الموت الفاشي عن بعضهم"2.؟! فما الدليل على صحة ما نقلتم من هذه الآية ولعلها زور وكذب ومينٌ3 وإفك؟ فإذا قالوا: قد ثبت أن الناقلين لهذه الآية انتهوا في الكثرة إلى حد يستحيل مهم التواطؤ على الكذب، قيل لهم: وكذلك آية المسيح نقلها من يستحيل تواطؤهم على الباطل فاستوت الحال. وإن زعم النصارى أن ذلك يصلح للدلالة على ربوبويته، قيل لهم: لا تتعرضوا للاستدلال بهذه القصة على ربوبية المسيح البته، فهي من إحدى الشواهد على عبوديته وبيانه من وجوه: أحدها: قوله لأبي الصبي: "مذن كم أصابه الجني"، فإن ذلك مشعرٌ بعدم علمه بالزمن الذي علقه الجني فيه، إذ لو كان ربّه وإلهه كما يزعم النصارى لكان هو الذي ابتلاه ولَمَا عَلِقَه الجني دون إذنه وعلمه، فعدم علمه بالوقت الذي لبسه فيه دليل / (1/93/ب) على عبوديته، إذا الغيب لا يعلمه إلاّ الله
الواحد جلّ وعلام، وقد مضى نظائر ذلك إذ قد سئل عن يوم القيامة، "فقال: لا أعلمها ولا يعلمها إلاّ الله الواحد"1. والثاني: قوله: "كلّ شيء يستطيعه المؤمن"، أراد إنما يصدر منه من شفاء المرضى وسائر الآيات إنما كانت لإيمانه بالله واهب القوي وما حي أثر الداء بالدواء. والثالث: قوله للتلاميذ: "إن هذا الجن لا يستطاع إلاّ بصوم وصلاة". يدل على أن المسيح تقدم في الصوم والصلاة والعبادة إلى حد أربى فيه على غيره من عبيد الله. وفي بقية الفصل ما دل على خوف يسوع وتواريه وعجزه عن مقاومة مناوئيه، وهو أنه بعد قيام الفتى من صرعته خرج إلى الجليل فاراً من ساعته، والكلمة الأزلية لا تعتورها نقائص البشرية. كذب النصارى في دعوى بنوة المسيح: قال مرقس: "خرج يسوع وتلاميذه إلى البحر وتبعه جمع كثير فأبرأ أعلالهم فجعلوا يزدحمون عليه ويقولون: "أنت هو ابن الله، فكان ينهاهم وينتهرهم"2. قلت: أعلم / (1/94/أ) أن هذا الكلام لو كان إيماناً من قائله لم ينهه المسيح، وكيف ينهى عنه، وإنما جاء لنشر الدين وبثّ الحقّ اليقين، والأمر بالكتمان ينافي الإعلان بالإيمان؟. فلو أن قول أهل زمانه:"أنت ابن الله"توحيد لم ينههم عن التوحيد، لكنه إنما نهاهم لمخالفة نصّ الإنجيل إذا قال فيه لوقا: "إن المسيح هو ابن داود وأن
الرّبّ يجلسه على كرسي أبيه داود"1. وذلك بشهادة جبريل عليه السلام. وإذا كان المسيح إنما هو ابن داود، فكيف لا ينهاهم عن قول ما لا يحسن قوله؟!. فإن قال النصارى: إنما نهاهم خوفاً من اليهود أن يفطنوا به إذ كانوا يرومون قتله. قلنا: ألم تزعمواأنه إنما تعنى ونزل إلى الأرض ليقتل إيثاراًلكم وتخليصاً من العذاب الذي ورطكم فيه آدم بتعاطي الخطيئة؟! أفترونه ندم على ذلك؟! فهو يستتر ويتوارى خوفاً من القتل، أفتصفونه بالبداء والندم والجهل بعواقب الأمور؟! لقد كادالله هذه العقول وحادبها عن سواء السبيل. - نوع منه آخر: قال لوقا: "كان كلّ من له مريض يجيء به إلى يسوع / (1/94/ب) فيضع يده عليه فيبرأ فيقولون له: أنت ابن الله، فكان ينتهرهم ولا يدعهم ينطقون بهذا"2. انظر رحمك الله إلى انتهار المسيح من ينطق بلفظة البنوة ليعلم أن النصارى اليوم معرضون عن إنجيله سالكون غير سبيله. فقد شهد لوقا بمثل ما شهد به مرقس، فإن زعموا أنه إنما نهاهم خشية اليهود قيل لهم: لو كان ذلك كذلك لما أكثر من فعل الآيات وفي فعلها وإظهارها ما يوجب شهرته وظهوره، فلما أكثر من المعجزات وأشاع فعلها دلّ على كذبكم في أنه نهاهم خشية أن يفطن به، بل إنما نهاهم لنصّ الإنجيل وبيان جبريل، حيث يقول: "إن يسوع هو ابن داود"، فلذلك لم يرض منهم بهذا الإطلاق. وقد قال متى في إنجيله: "هذا ميلاد يسوع المسيح بن داود بن إبراهيم"3. فشهد - وهو الصادق عندهم - أن أبا المسيح هو داود، وذلك ردّ على من زعم من النصارى أنه ابن الله - تعالى الله عن قولهم علوّاً كبيراً.
فإن قيل: ساعدتمونا على ترك العمل بظاهره إذ سلمتم أنه مولود / (1/65/أ) من غير أبٍّ، فكيف توردون علينا بنوة داود؟!. وإذا كنتم لا تقولون بذلك فقد سُلِّم لنا مرادنا. قلنا: النسبة نسبتان: نسبة تعريف ونسبة تشريف. فالأولى: هي نسبة الإنسان من والده الذي هو أصله. والثانية: هي نسبته من والد والده الذي هو أصل أصله، فالمسيح منسوب إلى داود النسبة الثانية - التي هي نسبة تشريف - وهي كنسبة داود إلى إبراهيم، ثم مريم أم المسيح1 من نسل داود، وداود من نسل يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم. وإذا كان المسيح بن داود بهذه النسبة بطل ما ذهبتم إليه من الضلال وانتحال المحال. فإن قيل: إن كان قد روى مرقس ولوقا - من أصحابه - نهيه من ينطق بلفظ البنوة فقد قال هو: "إني ذاهب إلى أبي وأبيكم". قلنا: فبذلك نستدل على اضطراب النقل وضعفه، إذ لو كان صحيحاً لم يختلفوا فيه، وإذا كان بعض الإنجيل يقول إن المسيح بن داود، وبعضه يقول: لا. بل هو ابن يوسف، وبعضه يقول: بل هو ابن الله، لم تحصل الثقة بقول واحد لاسيما والمسيح يقول: / (1/95/ب) "إنّي ذاهب إلى إلهي وإلهكم"، ويقول في زعمكم: "إلهي إلهي لم تركتني؟ ". فالمسيح يقول إن الله إلهه وربّه، وأنتم تقولون: لا. بل هو ابنه. لقد تباعد ما بينكم وبين المسيح. مسألة: زعم النصارى أن يسوع إنما جاءهم لينصرهم على اليهود ويطلع عليهم بالثالوث شموس السعود.
فيقال لهم: يا عباد الرجال وربات الحجال1 إن كان الأمر على ما تصفون فقد كان يقضي أمره على ألسن رسله والحال صالحة، وميزان التوحيد بطاعات العبيد راجحة، والخلائق مقبلون على أنبيائهم إقبالهم على آبائهم وأبنائهم، فما الذي دعاه إلى نزوله عن مجده الرفيع وعِزَّه المنيع إلى حضيض النصب ومقر الآفات والوصب؟! فيولج بطن امرأة من إمائه ومكث برحمها منغمساً في المشيمة على حال ذميمة، ثم ولدوه وأرضعته وفضلته وأدبته فأمرته بحقوقها ونهته عن عقوقها، وترددت به إلى الأعياد والمواسم وأرته الشعائر والمعالم، ولم تزل تلقنه وتثقفه حتى شبّ وترعرع وتشوَّف / (1/96/أ) إلى حنكة الرجولية وتطلع، فلما شرع فيما جاء له من نصرتكم وثب عليه اليهود فكذبوا فمه وأهدروا دمه، وأقصوه وشردوه وكدروا عليه روح الحياة ونكدوه، وأجمعوا أن يخربوا جثمانه ويفسدوه، فلما طال عليه تمردهم أعمل مطايا الحذار وعَوَّل على معقل الاستتار في الحذار، وتقدم إلى أصحابه ألا يذكروه وأن يبالغوا في طي أمره فلا ينشروه بل ينكروه، ولم يزل ذلك حاله واليهود تنقب عليه وترشي من يرشدها إليه، حتى دلّ عليه صاحبه يهوذا، وساق إليه من أعدائه جمعاً كثيفاً وأنزل به من الذعر خطباً منيفاً. فأنشبوا فيه مخاليب الضراب، وأمطروه شآبيب العذاب، وسحبوه على شوك السفاه والسباب، وبقي هذا الإله المسكين في أيدي اليهود ممتهناً يرون أقبح ما يأتونه إليه حسناً، فلما بلغوا من إهانته المراد، مضوا به إلى بقعة من الأرض تزعم النصارى أنه دحاها وألزموه حمل خشبة قالوا: [إنه] 2 أنبت لحاها، / (1/96/ب) وألبسوه أثواباً كان قد صنع ورسها3 وأصهوره شمساً هو الذي أسخن مسها، فسألهم شربة من الماء - الذي فجره - حين
وقفت نفسه لدى الحنجرة [فضنوا] 1 عليه بذلك، وعوَّضوه الخل مما هنالك، فلما تضافرت عليه فوق جذعةٍ الدواهي أعلن بقوله: إلهي إلهي، وصار بين اللصوص ثالثة الأثافي2، وعُوِّض عن بلوغ المنى بالمنافي، ثم زهقت نفسه وفتح رمسه3 وصار في صدر الأرض سراً مكتوماً، وعاد هذا الإله العظيم عديماً، ولما تمت له ثلاثة أيام في الرخام، قام من ذلك المكان ورجع إلهاً كما كان، فتلبِّس الحال الوبيل4 وادَّرع5 الذّل العريض الطويل، ولم يؤمن به إلاّ عصابة هي أقل من قليل. فما أرى هذا الإله إلاّ نايل6 الرأي فاسد الحسّ فطير7 الفطرة مشؤوم الغرة8 منقوص الهمة مظلم الفكرة9، إذ عرض نفسه للمحن وأثار بين عباده الأحقاد والإحن، فلقد شان الربوبية وأزل بهجتها وطمس نورها وأطلق ألسن السفلة بنقصها، وثلبها حتى لقد شكك كثير / (1/97/أ) منهم في الربوبية وسَهَّل
عليهم ارتكاب مذاهب الدهرية1. وسلَّهم من ربقة العبودية بالكلية، فسحقاً سحقاً لإلهٍ هذه حكمته ومحقاً محقاً لربٍّ هذا تدبيره. فلو أن إنساناً نشأ ببعض الجزائر المنقطعة عن العمران لا يعرف رباً ولا يقرأ كتباً، ولا يدين بملة عرض عليه دين النصارى، فقيل له: إن لك رباً خلقك وأبدعك، ومن صفته أنه رجل مثك يبول ويغوط ويبصق ويمتخط ويجوع ويعطش ويعرى ويكتسي ويسهر وينام، وسارع مع الأنام الكلام وأن إنساناً مثله حقد عليه بعض الأمر فضربه وسحبه، ثم قتله وصلبه بعد أن حطم شعره ولطم نحره، فجاور الأموات وتعذر عليه روح الحياة وفات.
لاستنكف الرجل أن يعترف بوجود هذا الإله فضلاً عن أن يتعبد له ولأحال تصوّره ولرأى لنفسه عليه فضلاً لا ينكر ومزية من حقها أن تذكر فتشكر1. قال المؤلِّف: ليس في الصنارى من يجحد مما ذكرته في هذا الفصل حرفاً واحداً بل قد / (1/97/ب) مدوا أعناقهم للذل، وأسلبوا آذانهم للخزي وأنسوا بسماع التوبيخ، واستلانوا ملابس التقريع، فهم يتلون هذا الفصل تلاوة [المتبجح] 2 ويبتهجون به ابتهاج [المُنْجح] 3. فالحمد لله الذي حَصَّننا بمعقل العقل عن سلوك هذا المذهب و [أنار لنا] 4 بدهن الذهن [حلوك] 5 هذا الغيهب.
الباب الرابع: في تعريف مواضع التحريف
الباب الرّابع: في تعريف مواضع التّحريف نبيّن - بعون الله - في هذا الباب من تناقض إنجيل النصارى وتعارضه وتكاذبه وتهافته ومصادمة بعضه بعضاً ما يشهد معه من وقف عليه أنه ليس هو الإنجيل الحق المنَزَّل من عند الله1، وأن أكثره من أقوال الرواة وأقاصيصهم، وأن نقلته أفسدوه ومزجوه بحكاياتهم، وألحقوا به أموراً غير مسموعة من المسيح ولا من أصحابه مثل ما حكوه من صورة الصلب والقتل واسوداد الشمس وتغير لون القمر وانشقاق الهيكل، وهذه أمور إنما جرت في زعم النصارى بعد المسيح، فكيف تجعل من الإنجيل ولم تسمع من المسيح؟!. والإنجيل الحقّ إنما هو الذي نطق به المسيح2، وإذا كان / (1/98/أ) ذلك كذلك فقد انخرمت الثقة بهذا الإنجيل وعدمت الطمأنينة بنقلته.
وقد قدمنا أنه ليس إنجيلاً واحداً، بل الذي في [أيدي] 1 النصارى اليوم أربعة أناجيل جمع كل إنجيل منها في قطر من أقطار الأرض بقلم غير قلم الآخر، وتضمن كلّ كتاب من الأقاصيص والحكايات ما غفله الكتاب الآخر مع تسمية الجميع إنجيلاً. وقد ذكر العلماء أن اثنين من هؤلاء العلماء الأربعة وهما: (مرقس) و (لوقا) لم يكونا من الاثني عشر الحواري أصحاب المسيح، وإنما أخذا عن من أخذ عن المسيح، وإذا كان الأمر كذلك، فهذان الإنجيلان ليسا من عندالله؛ إذ لم يسمعا من لفظ المسيح، والحجّة إنما تقوم بكلام الله وكلام رسوله وإجماع أصحاب رسوله. وقد صرّح لوقا في صدر إنجيله بذلك فقال: "إن ناساً راموا ترتيب الأمور التي نحن بها عارفون كما عهد إلينا أولئك الصفوة الذين كانوا خداماً للكلمة، فرأيت أنا إذ كنت تابعاً أن أكتب لك أيّها الأخ العزيز [ثاوفيلس] 2 لتعرف به حقائق الأمر الذي وعظت به"3./ (1/98/ب) . فهذا لوقا قد اعترف أنه لم يلق المسيح ولا خدمه، وأن كتابه الذي ألفه إنما هو تأويلات جمعها مما وعظه به خدام الكلمة4.
واعلم أن هؤلاء الأربعة تَوَلوا النقل عن رجل واحد فلا بدّ وأن يكون الاختلاف إما من قبل المنقول عنه أو من قبل الناقل، وإذا كان المنقول عنه معصوماً تعيَّن الخطأ في الناقل. 1- تكاذيب: قال متى: "من يوسف خطيب مريم - وهو الذي يسمى يوسف النجار - إلى إبراهيم الخليل اثنتان وأربعون ولادة". قال لوقا: "لا ولكن بينهما أربعة وخمسون ولادة"، وذلك تكاذب قبيح، ولعل التوريك على لوقا أولى؛ لأن متى [صحابي] 1 ولوقا ليس بصحابي، إلاّ أنه لا فرق بينهما عند النصارى وذلك يقتضي بانخرام الثّقة بهما جميعاً. قال المؤلِّف: "صواب النسب الذي عددته في إنجيل متى تسعة وثلاثون رجلاً، وفي إنجيل لوقا خمسة وخمسون رجلاً، وذلك من يوسف خطيب مريم إلى إبراهيم الخليل بشرط دخول الجدين يوسف وإبراهيم في العدد، وقد اختلفا في الأسماء أيضاً وذلك / (1/99/أ) زلل ظاهر"2.
2- نوع آخر: قال لوقا: "قال جبريل الملك لمريم الناصرة: إنك ستلدين ولداً اسمه يسوع يجلسه الرّبّ على كرسي أبيه داود ويملكه على بيت يعقوب"1. وأكذبه يوحنا وغيره فقال: "حُمل يسوع هذا الذي وعده الله بالملك إلى القائد فيلاطس، وقد ألبسوه شهرة الثياب وتوَّجوه بتاج من الشوك وصفعوه وسخروا منه ففاوضه فيلاطس طويلاً فلم يتكلم فقال له: أما تعلم أن لي عليك سلطاناً، إن شئت صلبتك وإن شئت أطلقتك، فأجابه يسوع: لولا أنك أعطيت ذلك من السماء لم يكن لك علي سلطان ومن أجل ذلك خطيئة الذي أسلمني إليك عظيمة"2.
وهذا تكاذب قبيح؛ لأن أحدهما يقول: إن يسوع يملك على بني إسرائيل، والآخر يصفه بصفة ضعيف ذليل1. 3- موضع آخر: قال لوقا: "لما نزل بيسوع الجزع من اليهود ظهر له ملك من السماء ليقوِّيه وكان يصلى متوارياً وصار عرقه كعبيط الدم"2. ولم يذكر ذلك متى ولا مرقس / (1/99/ب) ولا يوحنا، وإذ تركوا ذلك لم يؤمن أن يتركوا ما هو أهمّ منه فتضيع السنن وتذهب الفرائض وترفع الأحكام. فإن كان ذلك صحيحاً، فكيف تركه الجماعة؟ وإن لم يصحّ ذلك عندهم لم يُؤمن أن يُدخِل لوقا في الإنجيل أشياء أُخَر أفظع من هذا. ولعل لوقا قد صدق في نقله، فإن ظهور الملك علامة دالة وأمارة واضحة على رفع المسيح إلى السماء وصونه عن كيد الأعداء.
مناقشة: اعلم أن المسيح عند النصارى عبارة عن لاهوت اتّحد بناسوت فصارا بالاتّحاد شيئاً واحداً، وإذا كان ذلك كذلك فظهور الملك ليُقوِّي مَن منهما؟ فإن قيل: ليقوِّي اللاهوت، كان ذلك باطلاً إذ لا حاجة بالإله إلى مساعدة عبده وتقويته. وإن قالوا: ليقوِّي الناسوت، أبطلوا الاتّحاد إذ لم يبق ناسوت متميّز عن لاهوت حتى يفتقر إلى التقوية والنصرة، ثم ذلك يشعر بضعف اللاهوت عن تقوية الناسوت المتّحد به حتى احتاج إلى التقوية، وكيف يحتاج الإله إلى عبد من عبيده ليقوِّيه - وكلّ عباد الله إنما قوتهم بالله / (1/100/أ) عزوجل -؟! ". 4- موضع آخر: ذكر يوحنا - الذي هو أصغر الأربعة سنا - "أن أوّل آية أظهرها المسيح تحويل الماء خمراً"1. ولم يذكر أصحابه الثلاثة ذلك. وإذا أغفلوا مثل هذه الآية
مع شهرتها دلَّ ذلك على غفلة عظيمة وقلة اعتناء بأمر الدّين، وإذا كانت لم تصحّ عندهم فتحرَّجوا من تسطيرها، فكيف ثبتت من الإنجيل بقول واحد وشرط ثبوت كلام الله التواتر - وهو النقل من قوم لا تجمعهم رابطة التواطؤ على الكذب. 5- موضع آخر: ذكر يوحنا هذا: "أن المسيح غسل أقدام تلاميذه ومسحها بمنديل كان في وسطه وأمرهم أن يقتدوا به في التواضع وترك التكبر"1. ولم يذكر ذلك أصحابه الثلاثة، فإن لم تصحّ عندهم فهو طعن على يوحنا، وإن كان ذلك صحيحاً فهو طعن عليهم.
وكيف يُعدُّ ذلك من الإنجيل والأكابر من التلاميذ لم يعرفوه، ولم يدوِّنونه في أناجيلهم؟! والتوريك على واحد صغيرأولى منه على ثلاثةكبار. 6- موضع آخر / (1/100/ب) في غاية الفساد: حكوا أن يوحنا هذا قال في الفصل الخامس من إنجيله: "إن يسوع قال: إني لو كنت أنا الشاهد لنفسي لكانت شهادتي باطلة ولكن غيري يشهد لي1، فأنا أشهد لنفسي وأبي أيضاً يشهد لي أنه أرسلني، وقد قالت توراتكم: إن شهادة رجلين صحيحة"2. فانظر - رحمك الله - ما أفسد هذا الكلام وأقربه من كلام المجانين!!. وذلك أنهم جعلوا الله رجلاً وجعلوا شهادته لنفسه تقوم مقام شهادة شاهد بعد قوله: "لو كنت أنا أشهد لنفسي لكانت شهادتي باطلة"، والتوراة تقول: "إن شهادة شاهدين صحيحة"، ولم تقل: "إن شهادة الإنسان لنفسه صحيحة". وإذا كان المسيح وتلاميذه [منَزِهين] 3 عن هذا الكلام الفاسد فليرم به جانباً وليعلم أنه ليس من الإنجيل الحقّ. 7- موضع آخر: نقل يوحنا: "أن المسيح مضى إلى المعمداني ليعتمد منه فقال له المعمداني حين رآه: هذا خروف الله الذي يحمل خطايا العالم وهو الذي قلت لكم: إنه
يأتي بعدي، وأنه أقوى مني وأن بيده / (1/101/أ) الرفش ينقي بيدره فيجمع الحنطة إلى أهرائه1 ويحرق الأتبان2 بالنار التي لا تطفئ"3. وخالفه في ذلك متى ولوقا، أما متى فقال: "إن المعمداني حين رأى المسيح قال له: إني لمحتاج أن أنصبغ على يدك، فكيف جئتني تنصبغ على يدي؟ "4. "وأنه أرسل بعد ذلك إلى المسيح يقول له: أأنت الآتي أو ننتظر غيرك"5. فأما مرقس: فلم يذكر شيئاً من ذلك البتة6، وهذا تكاذب قبيح؛ لأن يوحنا جزم أنه هو ولم يحتج إلى سؤاله، ومَتَّى: ما عَلَم حتى أرسل يسأل المسيح، والآخر أغفل القصّة بالجملة7، وهذا القدر منفر موجب لسوء الظن.
8- موضع آخر: ذكر متى: "أن يوسف خطيب مريم كان أبوه يسمى يعقوب بن ماتان"1. وذكر لوقا غير ذلك فقال: "أقام يسوع ثلاثين سنة وهو يظن أنه ابن يوسف بن هالي بن مطب"2. وهذا تناقض عجيب3. 9- موضع آخر: ذكر متى: "أن المسيح صلب وصلب معه لصان أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله وأنهما جميعاً كانا يهزءان بالمسيح مع اليهود ويُعيِّرانه"4. / (1/101/ب) . وذكر لوقا خلاف ذلك فذكر: "أن أحدهما كان يهزأ بالمسيح والآخر يقول له: أما تتقي الله؟ أما نحن فبعدل جوزينا وأما هذا اللّصّ فلم يعمل قبيحاً، ثم قال للمسيح: يا سيد اذكرني في ملكوتك. فقال: حقّاً إنك تكون معي اليوم في الفردوس"5. وهذا تكذيب لقول متى أنهما جميعاً كانا يعيران المسيح ويهزءان به وأغفل هذه القصّة مرقص ويوحنا، ومن المحال أن يحدث مثل هذا في ذلك الوقت ولا
يكون شائعاً ذائعاً، فإن كان صحيحاً فلم تركاه؟ وإن أهملاه سهواً لم يؤمن أن يهملا شيئاً كثيراً من الإنجيل ولعلّهما لم يصحّ عندهما، والدليل على عدم صحته تناقض متى ولوقا، فإن اللّصين عند مَتّى [كافران] 1 بالمسيح وعند لوقا إن أحدهما كافر والآخر مؤمن وذلك قبيح جداً. 10- تكاذب قبيح: قال لوقا: "قال يسوع للمؤمن به: حقّاً إنك اليوم معي في الفردوس"2. وأكذبه سائر أصحابه فقالوا: أقام يسوع بعد هذا القول في الأرض أربعين يوماً ثم صعد في الجنة3. / (1/102/أ) وذلك تكذيب لما نقله لوقا من أنه معه من يومه. 11- تناقض واضح: قال لوقا: "قال يسوع: إن ابن الإنسان لم يأت ليهلك نفوس الناس، ولكن ليحيي"4. وخالفه أصاحبه، فقالوا: "بل إن الإنسان لم يأت ليلقي على الأرض سلامه لكن سيفاً ويضرم فيها ناراً"5. وهذا تناقض وتكاذيب لا خفاء به6، ونحن نُنَزِّه التلاميذ عن هذا التناقض القبيح والنقل الغير صحيح. إذ بعضهم يجعله جاء رحمة للعالمين، والآخرون يقولون: بل جاء نقمة على الخلائق أجمعين.
12- موضع آخر: ذكر متّى: "أن مريم خادمة المسيح جاءت لزيارة قبره عشية السبت ومعها امرأة أخرى، وإذا ملك قد نزل من السماء وقال لهما: لا تخافا فليس يسوع هاهنا قد قام من بين الأموات وهو يسبقكم إلى الجليل، فمضتا مسرعتين فإذا المسيح قد لقيهما وقال: لا بأس عليكما قولاً لإخوتي ينطلقون إلى الجليل"1. وخالفه يوحنا فقال: "جاءت مريم وحدها يوم الأحد بغلس فرأت الصخرة وقد رفعت عن القبر فأسرعت إلى شمعون م (1/102/ب) الصفا وإلى تلميذ آخر فقالت لهما: إن المسيح قد أُخِذَ من تيك المقبرة ولا أدري أين دفن. فخرج شمعون وصاحبه فأبصر الأكفان موضوعة ناحية من القبر فرجعا وجلست مريم تبكي عند القبر فبينا هي كذلك اطلعت في القبر فرأت ملكين جالسين - حيث كان يسوع - عليهما ثياب بيض فقالا: ما يبكيك؟ فقالت: أخذوا سيدي ولا أدري أين وضعوه. فبينا هي كذلك التفتت فرأت المسيح قائماً فلم تعرف وحسبته حارس البستان قالت له: بالله إن كنت أخذته فقل لي أين وضعته حتى أذهب إليه. فناداها المسيح: يا مريم. فعرفته، وقالت: بالعبرانية: ربوني تفسيره يا معلم. فقال لها: لا تدن مني فإني لم أصعد بعد [إلى أبي] 2، اذهبي إلى إخوتي فقولي إني منطلق إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم. فذهبت وبشرت التلاميذ"3. وهذا نقل يكذب بعضه بعضاً، وذلك أن أحدهما يذكر أن الملك هو الذي أرسل مريم إلى التلاميذ، والآخر يذكر أن الذي أرسلها هو المسيح نفسه،
وأحدهما يقول: إن ذلك كان عشية السبت،/ (1/103/أ) والآخر يقول: لا بل اليوم الأحد بغلس، وأحدهما يحكي عن مريم وحدها، والآخر يحكي عن أخرى معها1. والعجب من قبول النصارى قول امرأة واحدة في مثل هذا الأمر العظيم. وقد جاء على هذا الوجه من الاضطراب!!، وهذا الفصل حَرِي بأن يُسطر في حكايات المغفلين والعجائز المثكلين، وبعد - يرحمك الله - فما سمعنا قط بربٍّ يصفع ويضرب ويقتل ويصلب ويبكى عليه ويندب ويتردّد بين خلقه في زيّ إنسانٍ ويشتبه على من رآه بناطور بستان، فلو أن اليهود نصبوا جماعة من المجان على السخرية بدين النصارى والغض منه ما بلغوا منهم ما بلغوا من أنفسهم وهذا كما قيل:
ما بلغ الأعداء من جاهل ما بلغ الجاهل من نفسه 13- موضع آخر: قال متى في إنجيله: "إن يوحنا المعمداني أفضل من نبيٍّ"1. ثم نسي نفسه فقال بعد ذلك: "وكان المعمداني مثل نبيٍّ"2. فليت شعري من في بني آدم تسمو رتبته على رتبة النّبيّ حتى يقال: إنه أفضل من نبي؟!، هل ذلك إلاّ من / (1/103/ب) سوء التعبير، وسوء التعبير من سوء الفهم. 14- موضع آخر: قال نقلة الإنجيل: "قال يسوع لبطرس: طوبى لك"3. ثم نقضوا ذلك فقالوا في آخر: "قال يسوع لبطرس هذا: اذهب عني يا شيطان لا تشككني لأنك ما تفكر فيما لله بل فيما للناس"4. فبينا بطرس عنده لطوبى مالكاً إذ جعله في الدركات هالكاً5. 15- موضع آخر: قال نقلة الإنجيل عن لوقا: "إن يسوع ليجلس على كرسي أبيه داود ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد"6. ثم نقضوا ذلك فقالوا: قال يسوع: "إنه ينبغي أن أقتل وأصلب"7، وهذا غاية التناقض والتكاذب.
وكيف يخبر جبريل عن الله أن المسيح يجلس على كرسي داود ويملك على أسباط بني إسرائيل ويخلف ذلك فلا يجري منه حرف واحد بل يجري نقيضه؟!. فيرذل يسوع ويقهر ويطاف به مُهاناً ويُشهر، ويأرق من شدّة الفرق ويسهر، ويقرن مع الصوص ويسب وينهر ويقتل ويصلب ويقبر وينصدع شمل أصحابه بمصابه، فلا يجبر هذا ما لا يصدر / (1/104/أ) عن جهال الكهان، فكيف يصدر من رئيس ملائكة الرحمن؟! ثم العجب من قولهم أن يسوع جاء ليقتل ويصلب ويهان، لا والله، ولا كرامة ولا ينبغي لمن عنده أدنى مسكة من عقل أن يعرض دابته وكلبه لهذه المحن، فكيف بالإله الذي تقوم السماء والأرض بأمره ويجري بتقديره حلو العيش ومره؟!. وكيف إذ عزم على هذا الخاطر الرديء وتنفس بهذا النفس الصدى لم تمنعه التلاميذ ويشيروا عليه بالإضراب عن هذا الرأي الغائل ويعرفوه أن الخلائق تهلك بهلاكه وتعدم بعدمه؟!. ومن الذي يرزق البغاث1 في عشه إذا حمل الإله على نعشه أو يرسي الجبل في رأسه2 وقد حصد الرّبّ في رمسه3؟!. فإن أجاب إلى الصواب وإلاّ ربطوه وضبطوه وشدّدوا عليه في الحجر واعتقدوا في ذلك الثواب والأجر. فانظر - رحمك الله - ما أقبل عقول هؤلاء القوم إلى الترهات التي تمجها الأسماع وتأباها الطباع.
16- موضع آخر: قال يوحنا في خاتمة إنجيله: "لقد فعل يسوع أموراً كثيرة لو أنها كتبت واحدة/ (1/104/ب) واحدة لم يسمعها العالم صحفاً مكتوبة"1. وهذا - لعمرك - من الكذب الذي لا يتجانبه على البوح به إلاّ من أنسل من الحجا واعتزى إلى الحماقة ولجأ، إذ العالم أوسع أكنافاً وأبعد أطرافاً من أن يضيق عن أوراق تتضمن معجزات نبيّ وآيات رسولٍ، وهذا الواضح وشبهه مما يورك على النقلة فيه، وإلاّ فالحواريّون محاشون عندنا عن التفوه بالمحال. 17- موضع آخر: قال يوحنا في الفصل العشرين من إنجيله: "كان التلاميذ مجتمعين في غرفة لهم يتحدّثون في قيامة المسيح فقال توما: لا أؤمن بذلك حتى أرى آثار المسامير في يديه بعيني"2. ولم يذكر ذلك سوى يوحنا وأغفله الباقون، والإنجيل لا يثبت بخبر واحد، وكيف أغفله الأكابر من التلاميذ وظفر به صبيّ واحد؟!. وإنما النصارى يتعلقون بالقول الضعيف إذا وافق مقصودهم، ونحن بعون الله سنبطل دعواهم في القتل والصلب بحيث لا يبقى لهم حجّة يحتجون بها في ذلك.
18- موضع آخر: صعود المسيح إلى السماء أغفله يوحنا ومتى فلم يذكراه وهما من الاثني عشر، وذكره لوقا ومرقس وليسا / (1/105/أ) من الاثني عشر بل من السبعين على أنهما قد اختلفا في ذلك - أعني لوقا ومرقس - فقال مرقس: "إن سيدنا يسوع لما قام كلَّم تلاميذه تكليماً ثم صعد من يومه"1. وخالفه في ذلك لوقا فقال: "إنما صعد بعد قيامه بأربعين يوماً"2. وهذا تكاذب [فظيع] 3 واختلاف فاحش شنيع. ومما يخرم الثقة بنقلهم قول متي: "قال يسوع: حقّاً أقول لكم إنّ قوماً من القيام هاهنا لا يذوق الموت حتّى يرووا ابن الإنسان آتيا في ملكوته"4. ومعلوم أنه قد مضى من حين صدور هذا الكلام ما نيف على ألف عام ولم يأت في ملكوته، فإن قالوا: لم يعن إلاّ أنه يقوم من بين الأموات بعد ثلاث متتابعات. قلنا: إنما قلتم إنه يأتي في ملكوته، وأيُّ ملكوت كان له في اليوم الثالث ومريم المجدلانية تبكي عليه وتسأل من يرشدها إليه؟!، وأيُّ مجد كان له في ذلك اليوم وهو من سوء الحال يشبهه بناطور البستان؟! 5.
19- موضع آخر: قال متى: "قال يسوع للتلاميذ الاثني عشر: أنتم الذين تكونون في الزمن الآتي [جلوسا] 1 على اثني عشر كرسياً / (1/105/ب) تدينون [اثني] 2 عشر سبط إسرائيل"3. فشهد للكل بالفوز والزعامة في القيامة، ثم نقضَ ذلك متى وغيره وقال: "مضى واحد من التلاميذ الاثني عشر المشهود لهم وهو يهوذا صاحب صندوق الصدقة فارتشى على يسوع ثلاثين درهماً، وجاء بالشرط فسلم إليهم يسوع فقال يسوع: الويل له، خير له ألا يولد"4. فانظر - رعاك الله - إلى قبح هذا النقل وشناعة هذه الرواية، هذا راوٍ واحدُ بينما يهوذا عنده جالس على كرسي من كراسي المجد يحاسب سبطاً من أسباط بني إسرائيل، إذ جعله كافراً فاجراً بائعاً ربَّه بالثمن البخس طالعاً نجمه بعد السعد بالنحس، وهذا لا يليق بنبيّ الله المسيح أن يخبر عن رجل بمصيره إلى
السعادة والسيادة ويختاره لحفظ أموال الصدقات وهو من الكفار في دركات النار، هذا مما يحاشي عنه النبيّ، فكيف يصدر ممن تعتقد ربوبيته؟! 1. 20- موضع آخر: قال يوحنا: "قال يسوع لتلاميذه: الحقّ أقول لكم أن من يؤمن بيَ يعمل أفضل من أعمالي"2. وأكذب ذلك أصحابه فقالوا: "لما أبرأ يسوع المجنون الأبكم قال والد المجنون / (1/106/أ) لقد سألت تلاميذك فلم يقدروا على إخراج الجني، فقال يسوع: إن هذا لا يقدر عليه إلاّ بصوم وصلاة"3. فمرة يقول: إنهم يفعلون أفضل من أعماله، وأخرى يقول: إنهم لا يقدرون على مثل أعماله مع شهادته لهم بالإيمان والجلوس معه في القيامة على كراسي المجد وذلك تناقض عظيم وتكاذب جسيم. 21- موضع آخر: قال متى: "قال يسوع لأصحابه: لا تهتموا بما تأكلون وتشربون فطيور السماء لا تزرع ولا تحصد ولا تخزن في الأهراء والله يطعمها"4.
وخالف ذلك الإنجيل فقال: "إذا قمتم إلى الصلاة فقولوا: يا أبانا أعطنا كلّ يوم خبزاً نأكله"1. فالأوّل ينهى عن الاهتمام بالشراب والطعام، والآخر يقول: كذا ولكنه أمر به، وهذا تكاذب عجيب، فإن الأوّل نهيٌ محضٌ، والثاني أمرٌ جزمٌ، والأمر بالشيء والنهي عنه من وجه واحد غير معقول. 22- تناقض آخر: قال الرواة: "قال يسوع: أنا وأبي واحد"2. ثم قالوا: "قال يسوع: إني ذاهب إلى أبي وأبيكم"3. فإن لم يحملوا الأوّل على التبليغ والسفارة وإلاّ تناقضا لا محالة؛ / (1/106/ب) إذ ذهابه إلى نفسه محال. 23- فساد إنجيل يوحنا: رووا عن يوحنا الإنجيلي أنه قال: "إن الكلمة صارت جسداً وحلَّ فينا"4. وهم لا يعنون بالكلمة إلاّ صفة العلم أو النطق وذلك محال، إذ يلزمهم أن يكون القديم صار محدثاً والأزلي عاد زمنياً، وثار الآن عندهم عبارة عن ذات جاهلة ساكتة خرساء وتحولت الألوهية للمسيح؛ لأنه ذات كاملة بالعلم والنطق، وذلك من النصارى عزل لله عن الربوبية وإخراج عن الألوهية الكلّيّة. قال المؤلِّف: لقد كنت أتعجب من قراءتهم في صلواتهم: "المسيح الإله الصالح الداعي الكلّ إلى الخلاص"، ومن شريعة إيمانهم حيث تقول: "المسيح إله حقّ".
وأقول: من أينَ جاءت النصارى هذه المحنة حتى وقفت على قول يوحنا هذا: "إن الكلمة صارت جسداً وحلّت فينا"، فتحققت أن تلك الصلاة وتلك الشريعة إنما أسست على هذه الكلمة الرذلة. 24- فساد المنقول عن يوحنا أيضاً: انفرد يوحنا وحده بفصل ذكره / (1/107/أ) في صدر إنجيله وهو في غاية التهافت والرِّكة فقال: "في البدء كانت الكلمة، والكلمة عند الله، والله هو الكلمة"1. وهذا كما ترى مضطرب من جهة لفظه ومعناه: أما اضطرابه من جهة لفظه فإن ذلك بمنْزِلة قول القائل: الكلام عند المتكلم والمتكلم هو الكلام، والعلم عند العالم والعالم هو العلم، والدينار عند الصيرفي والصيرفي هو الدينار، وذلك هو الجنون.
وأما اضطرابه من جهة معناه، فإن الكلمة عندهم هي العلم أو النطق، وهي التي اتّحدت بالجسد المأخوذ من مريم، فإذا قال يوحنا: إن الله هو الكلمة، فقد صرح بأن الأب قد اتّحد بالجسد وحَلَّ في رحم مريم وناله القتل والصلب وتردد مع الشيطان من مكان إلى مكان، وهذا لا يقول به نصراني، وهو لازم لهم بمقتضى ما رووا عن يوحنا أن الله هو الكلمة، ومما يُرَدُّ به قول يوحنا هذا تصريح المسيح في عدّة مواضع من الإنجيل بأنه نبيّ وأنه رسول ومعلم وأن الله نبَّأه وأرسله، وأنه لا يعلم الغيب والقيامة، وذلك كلّه بخلاف / (1/107/ب) قول يوحنا: "إن الله هو الكلمة". 25- ومن اللعب البديع: قول يوحنا: "قال يسوع لتلاميذه: إن لم تأكلوا جسدي وتشربوا دمي فلا حياة لكم؛ لأن جسدي مأكل حقّ ودمي مشرب حقّ، ومن يأكل جسدي وشرب دمي يثبت فِيَّ وأثبت فيه، فلما سمع تلاميذه هذه الكلمة قالوا: ما أصعبها، من يطيق استماعها؟، فرجع كثير منهم عن صحبته"1. قلت: الكلام على الشيء بالرّدّ والقبول فرع كونه معقولاً، وهذا الكلام لو أراد البليغ أن يوجهه لأفضى به الحال إلى المحال، فيكفينا في الرّدّ عليه مجرد تسطيره، والكلام على الشيء الركيك لا يجيء إلاّ ركيكاً. وإذا كان في الأنابيب خلف وقع الطيش في صدور الصعاد وكيف لا يرجع العقلاء عن صحبة يسوع وهو يقول في الكلام المتقدم على هذا إن الله هو الكلمة والكلمة صارت جسداً؟! وإذا كان الأمر كذلك، فكيف يأمرهم بأكل ذلك الجسد وشرب دمه؟!
ولا شكّ أن العقلاء من النصارى اليوم لو جمعوا بين قول يوحنا أوّلاً وقوله آخراً لرجعوا أيضاً كما رجع من رجع عن يسوع، إذ يجتمع من الكلامين أكل جسد الله القديم / (1/108/أ) الأزلي وشرب دمه، ومن الذي يسمع ذلك فلا يقضي على قائله بالجنون أو المجون؟. فساد المنقول عن فولس: قال في رسالته السادسة وهو يحث على التواضع والتودد: "لا ينظرن أحدكم إلى نفسه دون صاحبه لكن ليعُدَّ صاحبه أفضل منه، واقتدوا بيسوع المسيح الذي كان شبه الله وعدل الله، كيف أخفى نفسه وأخذ شبه العبد وألقى نفسه في زيّ إنسان وشكله حتى مات وصلب"1. فبينا المسيح عنده [مشابه للإله ومعادل] 2 له إذ حكم عليه بالذلّ والإهانة والقتل والصلب وذلك غاية الجهل والحمق، وإلاّ فأي حاجة بالإله الخالق الباري إلى تلبسه بهذه الأمور؟! وما الذي اضطره إلى ذلك؟! تعالى عن هذا الهذيان. 26- موضع آخر من التكاذب: قال متى: "كان يوحنا لا يأكل ولا يشرب"3. وأكذبه الآخرون فقالوا: "كان طعام يوحنا هذا الجراد وعسل البر"4. وهذا من أقبح الكذب.
27- موضع آخر: قال يوحنا الإنجيلي: "قال يسوع: أنا هو الراعي الصالح وأنا عارف برعيتي / (1/108/ب) وهي تعرفني"1، وأكذبه متى قال: "قال المعمداني حين رأى يسوع: هذا خروف الله"، وقال مرة أخرى: "هذا حمل الله"2. فمتى يجعل المسيح خروفاً، ويوحنا يقول: لا ولكنه [راعٍ] 3 للخروف، في الله العجب، هلاّ قال المعمداني حين رأى المسيح: هذا هو الله أو هذا ابن الله أو هذا مسكن الله. والنصارى تقول: "إن المعمداني إنما جاء شاهداً للمسيح، والمسيح يقول في إنجيله: "لم تقم النساء عن رجل أفضل من المعمداني هذا"4. فكيف يجوز من مثل المعمداني أن يسمى المسيح خروفاً أو حملاً، ويثبت له مالكاً هو الله تعالى؟!، أو تدعي النصارى أنها أعرف بالله من نبيّه يحيى بن زكريا وأعلم بها بما يجب له!! فكيف استجازوا خلافه وسلكوا في المسيح مذهباً غير مذهبه وطريقاً سوى طريقه فقالوا تارة: المسيح هو الله، وأخرى قالوا: هو بيت الله ومسكنه؟!. وقالوا في شريعة إيمانهم: "المسيح إله حقّ بيده أتقنت العوالم وخلق كلّ شيء". وقالوا في صلواتهم: "يا ربنا المسيح لا تُضيِّع من خلقت بيدك"، وهذا كله بخلاف قول / (1/109/أ) المسيح في نفسه، وبخلاف شهادة يوحنا له؛ لأن يوحنا شهد أن المسيح عبدُ الله، وأن الله مالكه. وقال حين رآه: "هذا الذي قلت لكم إنه يأتي بعدي وأنه أقوى مني وأني لا أستحق أن أحل معقد خفّه". وهذا يدل على
مساواته المسيح؛ لأن الرجل الفاضل المتقي قد يذكر ذلك لمن هو دونه في الفضل تواضعاً لله تعالى وفرار من تزكية النفس، وقد يكون القائل أفضل من المقول له وهذا واضح، وإلاّ فيوحنا هذا أكبر من المسيح سناً وأقدمهم تعميداً، ولقد عمَّد المسيح فيمن عمَّد وامتلأ من روح القدس وهو في البطن، ونبأ الله أباه زكريا ببركته، يشهد بجميع ذلك الإنجيل1. وذلك كلّه يخصم النصارى في دعوى ربوبية المسيح ويفسد عليهم الأمانة التي ادّعوها في إثبات ألوهيته. 28- موضع آخر: قالت النصارى: قال داود في مزمور له: "قال الرّبّ لربي: اجلس عن يميني"2. قالوا فقد سمى داود المسيح ربّه. قلنا: فقد حكيتم / (1/109/ب) لنا عن إنجيل لوقا أنه قال: "قال جبريل لمريم: إنك ستلدين ابناً اسمه: يسوع يجلسه الله على كرسي أبيه داود"3. فإن كان النقل الأوّل صحيحاً، فالثاني باطل، وإن كان الأوّل باطلاً، فالثاني صحيح، وإذا كان المسيح هو ابن داود بإخبار جبريل عن الله فكيف يكون ربّاً لداود؟! أما كان في النصارى من يتدبر ذلك قبل تسطيره، فإنه قد صار سبة عليهم آخر الدّهر. 29- موضع آخر: قالوا: قال متى: "قام المسيح من الموتى مساء يوم السبت"4. وخالفه أصحابه فقاوا: "ما قام إلاّ صبيحة يوم الأحد بغلس"5. وذلك مما يخرم الثقة بأصل الخبر، وسأوضح ذلك إن شاء الله إذا انتهيت إلى بابه.
وفي خبر قيامة المسيح ما هو أنكر من هذا وهو أن متى يقول: "إن اليهود سألوا المسيح أن يريهم آية، فقال: إن يونس أقام في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال، وكذلك ابن الإنسان يكون في بطن الأرض وقلها ثلاثة أيام وثلاث ليال مثلما أقام يونس"1. ثم لم يصحّحوا هذا الخبر إذ رووا كلهم / (1/110/أ) أنه صلب في الساعة الثالثة من يوم الجمعة، ثم أُنزل ودفن مساءً من يومه فمنهم من زعم أنه قام يوم السبت مساءً، ومنهم من قال: قام صبيحة الأحد مغلساً، فإذا لم يقم بطن الأرض سوى يوم واحد وليلة أو ليلتين على الرواية الأخرى2.
والنصارى قد يقرؤون هذا الفصل في كلّ سنة في آية سبت في الصوم، وهو السبت الذي يكون في صبيحته الفطر1، فيقرأ القارئ الفصل المذكور ثلاث مرات وهو يقول: "الآن وفي هذا الوقت قام المسيح من بين الموتى، وهذا كما نرى نقل مضطرب على أنّا لو أضفنا لهم يوم الصلب وهو يوم الجمعة أيضاً لم يحصل الوفاء بالثلاثة الأيام والثلاث الليالي. ومن لم يكن عنده من اللب ما يعرف به هذا الخطأ مع وضوحه لم يتعجب من قبوله لكلّ مستحيل. 30- موضع آخر: قال المصلوب لأحد اللصين: "حقّاً إنك اليوم تكون معي في الفردوس2، فحكم بأنه يوم الجمعة يكون معه في الجنة، وذلك مناقض لما روى لوقا إذ قال: "إن المسيح / (1/110/ب) لم يصعد من الأرض إلاّ بعد أربعين يوماً"3. وإذا كان قد مكث في الأرض أربعين يوماً قبل الصعود فقد بطل قوله: "إنه معه يوم الصلب في الفردوس".
31- موضع آخر: قال متى: "لما حُمل يسوع إلى فيلاطس القائد قال: أي شرّ عمل هذا؟ فصرخ اليهود وقالوا: يصلب يصلب، فلما رأى القائد عزمهم وأنه لا ينفع فيهم شيء أخذ ماء وغسل يده وقال: أنا بريء من دم هذا الصّدِّيق وأنتم أبصر"1. وأكذب ذلك يوحنا فقال: "لما حمل يسوع إلى فيلاطس القائد قال الهيود: ما تريدون؟ قالوا: يصلب، فضرب يسوع ثم سلمه إليهم"2. فانظر يا أخي - أسعدك الله بقربه وعصمك من الشيطان وحزيه - ما أقبح هذا التكاذب وأوضح هذا التناقض، أحد التلميذين يقول: إن القائد أثنى على يسوع وغسل يده، والآخر يقول: كلا، ولكن جَلَده. 32- موضع آخر: قال يوحنا: "لما حلم يسوع إلى رئيس الكهنة قيافاً موثقاً سأله مستخراً عن حاله فيصيح يسوع / (1/111/) [أنا كلمت العالم علانية أنا علمت كلّ حين في المجمع وفي الهيكل، حيث يجتمع اليهود دائماً، وفي الخفاء لم أتكلم بشيء، لماذا
تسألني أنا أسأل الذين قد سمعوا ماذا كلمتهم هوذا هؤلاء يعرفون ماذا قلت أنا، ولمّا قال هذا] 1 قام إليه رجل من الشرط فلطم يسوع على خده الأيمن وقال: هكذا تجاوب عظيم الكهنة. قال له يسوع: إن كنت قلتُ ردياً فاشهد بالرّدي وإن كنت قلت جيداً فلمَ تضربني؟ "2. وهذا خلاف ما قال لوقا إذ قال: "إن جبريل أخبر عن الله تعالى أن يسوع يكون ملك بني إسرائيل"3. ولم يقل: إنه يحمل في الكبول والقيود إلى اليهود. 33- موضع آخر: قال لوقا: "قال جبريل لمريم وهو يبشرها إنك ستلدين ولداً تسمينه يسوع يجلس على كرسي داود ويملك على بيت يعقوب"4. فأخبر عن الله بتمكله على بيت أبيه داود وأكذب ذلك يوحنا فقال: "لما حمل يسوع إلى رئيس الكهنة قال له: أنت ملك اليهود؟ فقال يسوع: أمن عندك قلت هذا؟ أم حُكي لك عني؟ "5. وهذا تكاذب قبيح إذ لوقا جعله ملك إسرائيل، والآخر وسمه بِسِمّة ذليل. قال المؤلِّف: ألتحقيق عندنا أن هذا جواب الشبه، ألا تراه كيف ورَّى في الجواب، وقد كان الشَّبه شرى نفسه من الله وآثر المسيح / (1/111/ب) بمهجته، وأنت إذا تتبعت ذلك اتّضح لك أن المأخوذ المصلوب هو الذي شبه بالمسيح لا المسيح، وسنَزيده وضوحاً إن شاء الله.
34- ومما تفرد به يوحنا دون أصحابه: قال يوحنا: "لم صلب يسوع واللصان معه قال اليهود: هذا يوم الجمعة وغدا السبت، ولا تبقى هذه الأجساد على الصلب، وسألوه أن يتقدم بكسر أسوقهم، فمضى الشرط ففعلوا ذلك باللصين وانتهوا إلى يسوع فوجدوه ق مات فلم يكسروا ساقيه، بل جاء رجل من الجند بحربة فطعنه في جنبه الأيمن فخرج من جرحه ماء ودم"1. وأغفل الباقون ذلك فلم يخبروا به، وإذ تركوه لم يؤمن أن يتركوا ما هو أهمّ منه ولعلّهم استضعفوا أصل الخبر فأضربوا عن نقل تفاصيله. 35- قال ابن2 رَبَّن - وكان من أذكيائهم فأسلم على يدي المتوكِّل3 وردَّ عليهم وعلى اليهود وغيرهم بكتابٍ له حسن -: "إن متى أسقط من نسب المسيح ثلاثة آباء غلطاً4، وأن لوقا زاد في نسب المسيح أباً"5. واعترف بذلك المفسقان / (1/112/أ) مفسرهم وقال: "هذا غلط وقع في الإنجيل، فاستحيا من ذلك بعض علمائهم وقال: إن هذا الخطأ في الإنجيل؛ لأنه كتب
بروح القدس ولكنه من التوراة والكتب العتيقة، وذلك باطل، فإن كان الإنجيل قد حضر كتابته روح القدس فالتوراة وسائر النبوات كذلك. 36- تناقض إنجيل لوقا نفسه: قال لوقا: "قال جبريل لمريم القول المتقدم في تمليك يسوع على بني إسرائيل وجلوسه على كرسي داود". ثم أكذب نفسه بنفسه فقال: "جاء الجباة من قبل قيصر إلى بطرس فقالوا: ما بال معلمكم لا يؤدي الغرم؟ فذكر بطرس ذلك ليسوع فقال: يا بطرس [والبنون] 1 أيضاً تؤدّي الغرم، ثم قال له: امض إلى البحر، وألق الصنارة فأول حوت ترفعه افتح فاه وخذ منه ما تؤدي عني وعنك"2. انظر - رحمك الله - أي قبيح هذا التناقض؟ هذا راوٍ واحدٌ لإنجيلٍ واحدٍ بينما يسوع عنده ملك بني إسرائيل جالس على كرسي داد بشهادة جبريل إذ نسي القصّة فجعله ضعيفاً مسكيناً تحت جزية لتظهر آيته في تناول / (1/112/ب) الذهب أو الورق من فم الحوت. قلنا: إنما مرادنا أنه ظهر كذبكم وأخلف قولكم ونقلكم عن جبريل، وأن يسوع لم يملك ولم يجلس ولم يطلق، وعلى أن ذلك لا ينفع في إثبات ربوبيته، وما أحسن ربّاً يلتزم الذلة والصغار ويبذل الجزية ليقوي بها الفجار. 37- تكاذب إنجيل متّى: قال متى في صدر إنجيله: "هذا مولد يسوع المسيح بن داود"3. فشهد بأن داود أبوه، ثم قال بعده بورقة: "لما خطب يوسف مريم فَقَبل أن يعرفها وجدت
حبلى من روح القدس، وكان يوسف صِدِّيقاً فلم ير أن يشهرها وهَمَّ بتخليتها سِرّاً فظهر له المَلك في الرؤيا فقال له: يا يوسف لا تخف من إمساك خطيبتك، فإن الذي تلده هو من روح القدس وستلد ابناً ويدعى يسوع"1. وذلك تكاذب قبيح؛ لأنه إن صدق في خبره الأوّل كذب لا محالة في الثاني. 38- موضع آخر: قال لوقا: "لما انطلقوا بيسوع ليصلبوه وجدوا سمعان2 القونياني فحملوا عليه الصليب ليحمله وجعل النسوة خلف يسوع يبكين فالتفت إليهن وقال: / (1/113/أ) يا بنات أورشليم لا تبكين علي وابكين على أولادكم، ليأتين عليكن زمان تقولون طوبى للبطون العواقر التي لا يلدن والأيدي التي لا ترضع، إذا كان هذا فعلهم بالعود الرّطب، فكيف يصنعون بالعود اليابس؟ "3. وخالفه يوحنا فقال: "مضى يسوع ليصلب وهو حامل صليبه إلى موضع يسمى الجمجمة حيث صلبوه"4. وخالفهما مرقس فزاد في القصّة ونقص وقال: "أخذوا سمعان وهو أبو الكسندروس"5. وخالفهم متى فقال: "وجدوا إنساناً فسخروه لحمل الصليب"6.
فلوقا يقول: حملوا الصليب على سمعان القرونياني وطوَّل القصّة. ويوحنا يقول: ما حمل الصليب إلاّ يسوع نفسه. ومرقس اختصر القصّة جداً وسمى ولد حامل الصليب. ومتَّى يقول: سخَّروا رجلاً لحملٍ خشبته. فهذه قصة لطيفة تناقضوا فيها هذا التناقض1، فما ظنك بالمطولات. واعلم أن هذه الأمور تزعم النصارى أنها جرت بعد المسيح، لم تسمع من المسيح فكيف عَدوها من الإنجيل؟! قال المؤلِّف - عفا الله عنه - قوله: "يا بنات / (1/113/ب) أورشليم ... إلى آخر". هو كلام الشبه ألا ترى إلى قوله: "إذا كان هذا فعلهم بالعود الرّطب"، ولو كان على ما يزعم النصارى لقال: إذا كان هذا فعلهم بالابن الذي قدَّسه الله وأرسله إلى العالم، كما تقدم في قوله لليهود غير مرّة. فقوله: (يا بنات أورشليم ... "، يكذب النصارى في دعوى قتل المسيح وصلبه، ولأنهم يقولون في شريعة إيمانهم: "إن المسيح إله حقّ من إله حقّ وإن بيده أتقنت العوالم وخلق كلّ شيء". وإذا كان الأمر كما قالوا فليس هو قائل: "يا بنات أورشليم"، بل غيره؛ ولأن المسيح جاء في زعم النصارى لخلاص العالم، وأقلّ درجات مخلص العالم أن يخلِّص نفسه، فكيف يحسن القول بعطبه وقتله وصلبه؟!.
39- وانفرد لوقا بفصل لم يشاركه أصحابه في نقله: قال لوقا: "لما ولد المسيح وضعته أمّه مقموطاً في معلف من مذاود الدواب وكان هناك رعاة يرعون أغناهم - قال - فنظر الرعاة إلى الملائكة قد نزلوا إليهم وبشرهم فقالوا: نبشركم ببشارة عامة لأهل العالم كله، أنه ولد الليلة لكم [مخلّص/ (1/114/أ) ومنج] 1وهو يسوع المسيح الرّبّ"2. وهذه قصة لم يذكرها سوى لوقا وانفراده بها يوجب سوء الظن به فيها مع أن فيهاما يقضي بردهاوهو بشرى الملائكة للعالم بأسره بأن يسوع مخلّصهم ومنجيهم، وذلك بمطلقه يقضي بأن الهنود والصين والترك والسودان واليهود وفرعون ونمرود وسائر طوائف الكفار وعباد الأنداد من الخشب والحجار قد خلصوا ونجوا بمولد هذا المسيح وبطلت الخطيئة بمجيئه، وهذا القول مع قباحته مردود بنصّ الإنجيل إذ يقول فيه: "إني أقيم الناس يوم القيامة عن يميني وعن شمالي فأقول لأهل اليمين: فعلتم بيَ كذا فاذهبوا إلى النعيم، وأقول لأهل الشماء: فعلتم بيَ كذا فاذهبوا إلى الجحيم"3. ثم إخبار هؤلاء الملائكة للرعاة يوجب مسرة العالم بمولد يسوع، إذ كان فيه خلاصهم ونجاتهم، ومعلوم أن اليهود وأكثر هذه الطوائف لم يسروا [بمولده] 4. ثم هذه الرواية التي رواها لوقا من كون المسيح / (1/114/ب) مخلصاً للعالم معارضة بقول المسيح: "إني لم أُرسل إلاّ إلى الخراف الضالّة من بيت إسرائيل5، فإن الأصحاء
لا يحتاجون إلى الدواء وإنما يحتاج إليه المرضى"1. وإذا كان المسيح نفسه قد قال: إنه لم يرسل إلى العالم، بل إلى من ضلّ من بني إسرائيل، فلا يعوَّل على ما قال ونقله لوقا، وما أحسن إلهاً يُستر بخرق الثياب ويشتمل عليه معالف الدواب!!. 40- تناقض واضح وتعارض فاضح: قال لوقا: "قال يسوع: من ليس له سيف فليبع ثيابه وليشتر له سيفاً"2. وهذا أمر حزم، وذلك مردود بأقوال أصحابه إذ قالوا: "قال يسوع: لا تقابلوا الشرّ بالشرّ، ولكن من لطمه على خدك الأيمن فحول له الآخر ومن أراد أخذ ثوبك فزده رادءك ومن سخرك ميلا فامش معه ميلين"3. "ولما كان ليلة الفزع جرد شمعون الصفا من أصحابه سيفه فانتهره وقال: أردده إلى غمده"4. فإن كان أحد النقلين صحيحاً [فالآخر كذباً] 5 قطعاً. ونسخ الإنجيل بعضه ببعض عندهم لا يجوز. 41- ومن التكاذب: / (1/115/أ) قال متى: "لما ذهبوا بيسوع جَرّد واحد من أصحابه سيفاً وضرب عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه اليمنى، فقال له يسوع: أردد سيفك إلى غمده فإنّ كلّ من أخذ بالسيف بالسيف يهلك"6.
انظر إلى هذا التصادم البديع والتهافت [الفظيع] 1، لوقا يقول: إن المسيح يحثّ على شراء السيوف لهذا المهم قبل أن يسلم، والآخر يقول: بل نهى صاحب السيف وعنّفه، والثالث، يقول: بل إنه لصق أذن المضروب وبالسلامة شنَّفه. قال المؤلِّف: قوله: "كلّ من أخذ بالسيف يهلك". فاسد من جملة منطوقه ومفهومه، إذ ذلك يقضي أن يكون كلّ من أخذ بالسيف قتل، فكلّ من لا يأخذ بالسيف لا يقتل، وكلاهما فاسد. فكيف يزعم النصارى أن يسوع قتل وصلب ونكل به منع أنه لم يأخذ بالسيف؟!. فهذا الكلام من المسيح عليه السلام من أقوى الشهود على عصته مما افتراه النصارى عليه من القتل والصلب؛ لأنه لم يأخذ إلاّ ما أتاه الله كما قال في إنجيله عن المعمداني: "إن العبد / (1/115/ب) لن يأخذ إلاّ ما أعطاه الله من السماء"2. 42- تفرد لوقا: قال لوقا: "قال الرّبّ: سمعان سمعان هوذا الشيطان يسأل أن يغربلكم كما تغربل الحنطة"3. قلت: قد أجيب الشيطان إلى سؤاله فغربلهم بغرباله وسربلهم بسرباله وخدمهم بأباطيله، واعتقدوا المحال، ودانوا بالعبادة للنساء والرجال، فالحمد لله الذي عصم من كيده وقصم أحبولة صيده، وفي هذا الكلام ما يقضي أن للحواريين مزية على المسيح إذ يقول في الإنجيل: "إن إبليس سحب يسوع معه من مكان إلى مكان وقال له: اسجد لي وأعطيك الدنيا بما فيها"4. فالشيطان
يشاور المسيح ويقول له: اسجد لي، ويسأل ويضرع أن يغربل الحواريين، وهذا يدل على أن الشيطان أهيب لهم منه المسيح. 43- ومن التكاذب: قول يسوع: "لا تحقروا أحداً من هؤلاء الصغار المؤمنين فإن ملائكتهم في كلّ حين ينظرون وجه الله الذي في السموات"1. ثم أكذب ذلك فقال: "الله لم يره أحد قط"2. وقال أيضاً: "الله لا يأكل ولا يشرب ولا يراه أحد / (1/116/أ) قطّ إلاّ مات"3. 44- ومما تفرد به لوقا: قال لوقا: "لما قطعت أذن العبد لمسها يسوع فأبرأها وأنكر على صاحبه فعله"4. ولم يذكر ذلك أصحابه الثلاثة، ولم يسم صاحب السيف أحدٌ من الجماعة سوى يوحنا فقال: "هو شمعون الصفا"5. 45- ومما تفرد به مرقس: قال مرقس: "لما أخذ يسوع وذهبوا به تبعه شاب واحد على عُربه إزار فتعلقوا به، فترك إزاره لهم وذهب عرياناً"6. ولم يذكر ذلك أصحابه الثلاثة.
46- ومما تفرد به لوقا: قال لوقا: "لما رأى الذين مع يسوع ما كان قالوا: يا ربّ نضرب بالسيف؟ "1. ولم ينقل هذا الاستئذان سواه وأغفله الباقون. 47- ومما انفرد به يوحنا: قال يوحنا: "كان اسم العبد مَلخس"2. ولم يذكر ذلك سواه. 48- ومما انفرد به يوحنا: فصول الفارقليط3 فلم ينقلها سواه وأغفلها الباقون، فلم يذكروا منها حرفاً، وذلك يقضي بالمطاعن عليهم. فلو وجدنا مصفحاً من مصاحف المسلمين قد أسقط منه سورة / (1/116/ب) لأررنا4على فاعله، فكيف أن يهملها الكافلة ويثبتها واحد.
49- ومما قالوا: إن متى سها فيه: قوله: "إن يوسف صار بالمسيح إلى قرية يقال لها الناصرة ليتم قول النبي القائل إن المسيح يدعى ناصريا"1. قال العلماء: "ليس لذلك ذكر في نبوة من النبوات البتة"2. 50- وكذلك قوله - أعني متِّى -: في الفصل الأوّل: "إن يوسف ومريم هربا بالمسيح إلى مصر خوفاً من هيرودس ليتم ما قيل في نبوة النبيّ القائل من مصر دعوت ابني"3. قالوا: ليس لهاتين النبوتين صحة4، فما هما إلاّ عنقاءمغرب5.
51- حكاية الجحش والأتان وما اشتملت عليه من السخف والهذيان والزيادة والنقصان: قال متى: "لما قرب يسوع من أورشليم أرسل اثنين من تلاميذه وقال: اذهبا إلى القرية التي أمامكما فإنكما تجدان أتاناً وجحشاً لم يركب مربوطين فحلاهما وأتياني بهما، فإن قيل لكما شيء فقولا الرّبّ يحتاج إليهما وهو يرسلها للوقت. فذهب التلميذان وفعلا ذلك / (1/117/أ) ووضعا الثياب عليهما وركب يسوع وفرشت له الثياب في الطريق وفرش آخرون أغصان الشجر، فلما دخل يسوع أورشليم ارتجلت له المدينة فقال الناس: هذا يسوع النبي الذي من الناصرة الجليل"1. وقال مرقس: "لما قرب يسوع من أورشليم أرسل من تلاميذه رجلين وقال: امضيا فإنكماتجدان جحشاًمربوطاً"2.وكذلك قال لوقا. فأما يوحنا فقال:"إن [يسوع] 3وجد حماراً فركبه"4.ولم يذكر سوى ذلك. فمتى يقول: أتاناً وجحشاً، وذكر خطبة طويلة، ومرقس ولوقا لم يذكرا سوى الجحش، لا غير، ويوحنا لم يذكرهما البتة بل قال: إنه وجد حماراً فركبه5.
ولم يذكر الثلاثة إرساله إلى أصحاب المركوب واستئذانهم وفرش الثياب وأغصان الشجر، ودخول المدينة واتجاجها لدخوله، وشهادة الناس له، بأنه النبي الذي جاء من الناصرة، وما أحسن رباً يفتقر إلى ركوب الحمير وإلهاً يغتذى بالخمر والخمير. مأ أخلق هذه المواضع من الإنجيل أن / (1/117/ب) يكون اليهود قد أدرجها في أوّل نسخ الإنجيل [ليُضحكوا] 1 الناس من دين النصراينة، ثم تناقلها النصارى بالغفلة وحسن الظن المانعين عن النظر في مقابح الكلام. 52- موضع آخر من الكتاب الشنيع: قول إنجيلهم: "قال يسوع: ما جئت إلاّ الأخلص من كان ضالاً"2. ثم أكذب ذل فقال: "ما جئت لألقي على الأرض سلامة لكن سيفاً وأضرم بها ناراً"3.
فلم يكفه ادعاؤه صلب المسيح حتى لعنه صريحاً، وهب أنه اعتقد بفاسد عقله صلب المسيح، فمن أين له أن كلّ مصلوب ملعون؟! 1 وقد صلب من أولياء الله وأصفيائه جماعة ليس الملعون إلاّ من فعل بهم / (1/118/أ) ذلك2. فساد عقل إفريم: قال إفريم - من قدماء الصنارى - إن اليدين التي جبلت طينة آدم هي التي سُمِّرت على الصليب، والشبر التي مسحت السماوات هي التي علقت على الخشبة. وذلك خطأ بإجماع عقلاء النصارى؛ لأن الذي عُلق علىالصليب إنما هو الجسد المأخوذ من مريم، وأين كانت هذه الأجساد الإنسانية يوم خُمرت طينة آدم ويوم قُدرت السماوات والأرض؟! هل ذلك إلاّ جهل وضلال وغلوّ في عبادة الرجال؟!. فهذا-رحمك الله-كتاب قد تلاعبت به بنيات الطرق وتزاحكت به [تراجمة] الفرق، وولد من لسان إلى لسان، وعبث به التحريف والتصحيف في كلّ زمان3.
قال المؤلِّف - عفا الله عنه برحمته -: لقد رأيت على حاشية نسخة من نسخ الإنجيل على فصل من فصوله ما مثاله: ليس هذا الفصل في أناجيل القبطي ولا بعض أناجيل الرومي، فاستدللت بذلك على أن علوم القوم تفرقتها أيادي سبأ، وعصفت عليها رياح التبديل فأصارتها كالهباء كما / (1/118/ب) أخبر عن ذلك الكتاب العزيز إذ يقول: {يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَوَاضِعِهِ} 1. أي: يميلون بالأحكام عن مواضعها ويسلكون بها غير سننها ويجرونها سوى مجاريها. والفصل المشار إليه: هو: "أن الكتبة والفريسيين قدموا إلى يسوع امرأة وجدت في زنى فأقاموها في الجمع وقالوا: يا معلم إن هذه المرأة وجدناها تزني وفي ناموس موسى يجب عليها الرجم فما تقول أنت؟ وإنما قالوا ذلك ليجدوا عليه حجّة فأطرق يسوع ينكت الأرض بإصبعه ثم رفع رأسه وقال: من منكم بغير خطيئة فليرجمها أوّلاً بحجر؟ ثم أطرق ثم أطرق ينكت الأرض فلما سمعوا مقالته خرجوا بأسرهم وبقي يسوع وحده والمرأة قائمة فرفع يسوع رأسه إليها وقال: يا امرأة أين أولئك الذين أدانوك؟ قالت: ما أرى منهم أحداً. فقال يسوع: ولا أنا أيضاً أدينك اذهبي الآن ولا تعودي إلى الخطيئة"2.
ألا ترى أنهم كتموا ذلك وغيروا حكمه. ولقد مروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهوديين قد زنيا وحمما وطيف بهما فاستدعاهم / (1/119/أ) صلى الله عليه وسلم واستدعى التوراة وأمر بعض أحبارهم بقراءتها فوضع الجريدة على آية الرجم وقرأ ما قبلها وما بعدها. فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك أي عدوّ الله، فرفع يده عنها فإذا آية الرجم تلوح فقرأها عبد الله على سول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه السلام: "ما حملكم على ذلك؟ ". قالوا: ثقلت علينا فصرنا إذا زنى الشريف منا حممناه وأطفناه، وإذا زنى الضعيف والخامل أقمنا عليه الحدّ. فقال عليه السلام: "أشهد أبي عبد الله ورسوله، ثم أمر بهما فرجما"1. فإن قيل: كيف أسقط المسيح عنها الحدّ والتّوراة والكتاب العزيز شاهدان بوجوب الحدّ على الزاني. قلنا: القوم الذين جاءوا بالمرأة وشهدوا عليها بالزنى كانوا كفاراً فلم يقبل شهادتهم المسيح. والدليل على كفركم قوله: "إنهم جاءوا متعبين له شاكين في نبوته مع ظهور أعلامها". وإنما أتو بالمرأة ليجدوا عليه حجّة كا ذكر الفصل المشار إليه وإذا كانوا / (1/119/ب) إنما أتوا طالبين غرته2 ملتمسين عثرته، وهو نبي الله الكريم عليه، فكيف يقبل شهادتهم، وأما المرأة فلم تقر عنده بالزنى ولم تعترف به، والحدّ لا يثبت إلاّ بحجة معتبرة، وهي إما شهادة جازمة أو إقرار صحيح، والكافر مردود القول3. والله أعلم.
الباب الخامس: في أن المسيح عليه السلام وإن قصد وطلب فما قتل وما صلب
الباب الخامس: في أنّ المسيح عليه السلام وإن قُصدَ وطُلبَ فما قُتلَ وما صُلبَ نورد هذا الفصل على نصّه لتقفوا عليه وتعجبوا من هذه النقائص التي نسبها النصارى إلى المسيح مع قولهم بربوبيته واعتقادهم أنه خالق السماء والأرض وجامع الناس ليوم العرض1. قال النصارى: بينما بسوع [جالس] 2 مع تلاميذه ليلة الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر نيسان إذ جاء يهوذا الإسخريوطي أحد الاثني عشر ومعه جماعة معهم السيوف والعصي من عند رؤساء الكهنة ومشائخ الشعب وقد قال لهم يهوذا: الرجل الذي أُقبله هو هو فأمسكوه، ثم جاء يهوذا وقال / (1/120/أ) : السلام عليك يا معلم، ثم قبله فقال يسوع: ألهذا جئت يا صاحب؟ فوضعوا أيديهم عليه وربطوه3 فتركه التلاميذ كلهم هربوا فقال يسوع: مثل ما يفعل بالصوص خرجتم إليَّ بالسيف والعصى وأنا عندكم في الهيكل كل يوم أُعلم
فلم تعرضوا لي1، لكن هذه ساعة سلطان الظلمة2، إلى رئيس الكهنة3 حيث يجتمع الشيوخ4 - وتبعه بطرس من بعيد ودخل معه الدار ليلاً وجلس ناحيةً منها متنكراً ليرى ما يؤول أمره إليه5 - فالتمس المشائخ على يسوع شهادة ليقتلوه بها فجاء جماعة من شهود الزور، ثم تقدم منهم اثنان فشهدا أن يسوع قال: أنا أقدر أنقض هيكل الله وأبنيه في ثلاثة أيام، فقال له الرئيس: أما تجيب عن نفسك بشيء؟ فسكت يسوع فأقسم عليه رئيس الكهنة بالله الحي: أنت المسيح؟ فقال له المسيح: أنت قلت ذلك وأنا أقول لكم إنكم من الآن لا ترون ابن الإنسان حتى ترونه جالساً عن يمين القوة وآتيا في سحاب السماء. فلما سمع رئيس الكهنة ذلك شقَّ ثيابه وقال: ما
حاجتنا إلى شهادة هوذا / (1/120/ب) قد سمعتم تجديفه، ماذا ترون في أمره؟ فقالوا: هذا مستوجب الموت. فحينئذٍ بصقوا في وجهه ولطموه وضربوه وهزؤوا به جدّاً وجعلوا يلطمونه ويقولون له: بيِّن لنا أيّها المسيح من لطمك1، ولما كان من الغد أسلموه لفلاطس القائد فتصايح الشعب بأسره وقال: يصلب يصلب. فتحرج فيلاطس من قتله وقال: أيُّ شيء فعل هذا؟ فقال الشيوخ: دمه عليهم وعلى أولادهمم2، فحينئذٍ ساقه جند القائد إلى الأبروطورون3 واجتمع عليه الشعب ونزعوا ثيابه وألبسوه لباساً أحمر [فضفَّروا] 4 إكيلاً من الشوك وتركوه على رأسه وجعلوا في يده قصبه، ثم جثوا على ركبهم يهزءون به ويقولون: السلام عليك يا ملك اليهود، وشرعوا يبصقون عليه ويضربونه في
رأسه1، ثم ذهبوا به وهو يحمل صليبه2 إلى موضع يعرف بالجمجمة3 فصلبوه4 وسمَّروا يديه على الخشبة: وسألهم شربة ماء، فأعطوه خلاً مذاباً بمر فذاقه ولم يسغه، فنادى على الخشبة: إلهي إلهي لم خذلتني؟ 5 وجلس الشرط فاقتسموا ثيابه بينهم بالقرعة وجعلوا عند رأسه لوحاً مكتوباً هذا يسوع ملك/ (1/121/أ) اليهود6استهزاءً به، ثم جاءوابلصين فجعلوهما عن يمينه وشماله تحقيراً له7، وكان اليهود يقولون له: يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام خَلص نفسك إن كنت ابن الله كما تقول أنزل عن الصليب. وقال اليهود: هذا يزعم أنه خلص غيره فكيف لم يقدر على خلاص نفسه؟! أن كان متوكلاً على الله فهو ينجيه مما هو فيه8،
ولما كان ست ساعات من نهار الجمعة صرخ يسوع وهو على الصليب بصوت عظيم فقال: " [ألوى ألوى لما شبقتني] 1 تفسيره (إلهي إلهي لم تركتني؟ "2. فأخذ اليهود أسفنجة فيها خل ورفعها أحدهم إلى قصبة وسقاه وقال آخر منهم: دعوه حتى نرى من يخلصه، فصرخ يسوع وأمال رأسه وأسلم الروح3 فأنشق جدار الهيكل وتزلزلت الأرض وانشقت الصخور وتفتحت القبور وقام كثير من القديسين من قبورهم فدخلوا المدينة المقدسة وظهوراً للناس4، ولما كان المساء جاء رجل من الرامة يسمى يوسف فسأل القائد جسد يسوع فأمر له به فلفه يوسف بلفائفنقيه وتركه في قبر كان قد نحته في صخرة، ثم جغل على باب القبر حجراً ظيماً5، / (1/121/ب) وجاء مشائخ اليهود من الغد الذي بعد الجمعة إلى فيلاطس القائد فقالوا: يا سيد ذكرنا أن ذاك الضال كان قد قال لتلاميذه: أنا أقوم بعد ثلاثة أيام، فلو أمرت من يغلق القبر ويحرسه حتى تمضي المدّة كيلا يأتي تلاميذه ويسرقونه ثم يشيعون في الشعب أنه قد قام فتكون الضالة الثاني [شرّاً] 6 من الأولى، فقال لهم القائد: اذهبوا وسدوا عليه وحَرِّسُوا كما تريدون، فمضوا وفعلوا ما أرادوا7،
وفي عشية يوم السبت جاءت مريم المجدلانية ومريم رفيقها لينظرن إلى القبر1 - وفي إنجيل مرقس - إنما جاءت مريم يوم الأحد بغلس2، وجلس عنده وعليه ثياب بيض كالبرق، فكاد الحراس يموتون من هيبته، ثم قال للنسوة: لا تخافا قد علمت أنكما جئتما [تطلبان] 3 يسوع المصلوب ليس هو هاهنا إنه قد قام تعالين فانظرن إلى المكان الذي كان فيه الرّبّ واذهبا وقولا لتلاميذه: إنه يسبقكم إلى الجليل، فمضتا وأخبرتا التلاميذ4، ودخل / (1/122/أ) الحرس وأخبروا رؤساء الكهنة الخبر، فقالوا: لا تنطقوا بهذا وأرشوهم بفضة على كتمان القضية فقبلوها منهم وأشاعوا أن تلاميذه جاءوا وسرقوه ومهدت المشائخ عذرهم عند القائد5، ومضت الأحد عشر تلميذاً إلى الجليل6، وقد شكّ بعضهم
وجاءهم وكلمهم، وقال لهم: اذهبوا فعمدواكلّ الأمم وعلموهم ما أصيكم به وهوذا أنا معكم إلى انقضاء1 الدهر2. قال المؤلِّف - عفا الله عنه -: أوّل ما نفاتح النصارى أن نقول: ما ادعيتموه من قتل المسيح وصلبه أتنقلونه تواتراً أو آحاداً؟. فإن زعموا أنهم ينقلونه نقل الآحاد لم تقم بذلك حجة ولم يثبت العلم الضروري، إذ الآحاد لا يؤمن عليهم السهو والغفلة والتواطؤ على الكذب، وإذا كان الآحاد يعرض [لهم] 3 ذلك فلا يحتج بهم في القطعيات4.
وإن عزوا ذلك إلى التواتر، قلنا لهم: شرط التواتر استواء الطرفين فيه والواسطة، وهو أن ينقل الجم الغفير عن الجم الغفير الذين
به وعلموه ضرورة، فإن / (1/122/ب) اختل شيء من ذلك فلا تواتر، وإن زعم النصارى أن خبرهم في قتل المسيح وصلبه بهذه الصفة أكذبتهم نصوص الإنجيل التي بأيديهم إذ قال نقلته الذين دونوه لكم وعليهم معولكم: "إن المأخوذ للقتل كان في شرذمة من تلاميذه فلما قبض عليه هربوا بأسرهم ولم يتبعه سوى بطرس من بعيد فما دخل الدار حيث اجتمعوا نظرت جارية منهم إلى بطرس فعرفته فقالت: وهذا كان معه، فحلف بطرس أنه لا يعرف يسوع ولا يقول بقوله وخادعهم فذهب ولم يعد، وأن شاباً تبعه وعليه إزار فتعلقوا به فترك إزاره في أيديهم وأفلت عرياناً"1. فهؤلاء أصحابه وأتباعه لم يحضر منهم ولا رجل واحد بشهادة الأناجيل، وأما أعداؤه من اليهود الذين تزعم النصارى أنهم حضروا الأمر فلم يبلغوا عدد التواتر أصلاً بل كانوا آحاداً وأفراداً، فمن نازع فيما قلناه ونقلناه فهذا الإنجيل
الذي بأيديهم حكماً فيما بيننا وبينه، وإذا ثبت أن أتباع المسيح لم يحضر منهم أحد، واليهود الذين حضروا عصابة / (1/123/أ) قليلة دون عدد التواتر يجوز عليهم السهو الغلط واعتماد الكذب؛ لم يجب قبول أقوالهم. فلا جرم قُدم تواتر الكتاب العزيز وهو قوله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُم} . [سورة النساء، الآية: 157] . ومما يزيد الأمر وضوحاً قول الإنجيل: "إن مريم لما جاءت لزيارة القبر رأت مَلَكاً قد نزل من السماء برَجة عظيمة، فدحرج الحجر عن فم القبر وجلس عنده فكان الحراس يموتون من هيبته، وبادروا من فورهم إلى مشائخ اليهود وأعلموهم بالقصّة، فأرشاهم المشائخ بشروة وتقدموا إليهم بستر القصة والإشاعة أن تلاميذ المصلوب سرقوه ومهدوا لهم عذرهم عند القائد"1. وإذا كان الأمر كذلك فما يؤمنكم أن تكون هذه العصابة من اليهود قد صلبوا شخصاً من أصحاب يسوع وأتباعه وأوهموا الناس أنه المسيح ليغضوا منه ويحطوا من قدره، حيث جهدوا جهدهم في طلبه فلم يقدروا عليه وأعوزتهم وجوه الحيل في مغالبته كما فعلوا في ستر الآية التي ذكرتهم؟ ! وإذا كان أصحابكم الموقنون العدول / (1/123/ب) عندكم لم يحضر منهم أحد البتة واليهود الكفار المدَلِّسون شرذمة قليلة وأكثرهم لم يعرف المسيح، لم يحصل لكم غلبة ظنٍ بقتل المسيح فضلاً عن حصول العلم الضروري.
وها نحن نورد من الحجج المقبولة عندكم ما يقضي بغلطكم في قتل المسيح وصلبه ويحقّق لكم أن المفعول به ذلك سواه هو الشبه الذي نقول به إن شاء الله تعالى. - الحجّة الأولى: لا شكّ ولا خفاء أن كتابكم ينطق في غير موضع: "أن المسيح نشأ بين أظهر اليهود وتردد معهم في مواسمهم وأعيادهم وزاحهم في مجامع قراراتهم يعرفونه ويعرفون أمه وسبطه، وأنه حين بهر في علم التوراة والنبوات كان يعلم عندهم في الهيكل بأورشليم ويناظر أحبارهم فيبهتهم بحسن التعليم فيقولون: أليس هذا ابن يوسف؟! أليس أمه مريم؟! أليس أخواته عندنا؟! فمن أين له هذه الحكمة؟! "1. وإذا كان اليهود عارفين بعينه واسمه، ونسبه، فما حاجتهم إلى أن أكتروا رجلاً من تلاميذه بالأجرة حتى عرَّفهم / (1/124/أ) بشخصه لولا وقوع الشبه الذي نقول به. - الحجّة الثانية: على أن المفعول به ذلك غير المسيح وأنه كان قد شبه لهم قوله نقلة الإنجيل: "إن رئيس الكهنة أقسم على المأخوذ بالله الحيّ: أأنت المسيح ابن الله الحيّ؟! فقال له: أنت قلت"2. ولم يجبه بأنه هو المسيح فلو كان المقسم عليه هو المسيح لقال له: نعم ولم يستجز أن يُوري في الجواب وهو يحلف بالله الحيّ، وهذا دليل على أنه غير المسيح، ثم المسيح إنما جاء لبثّ الحقّ ونشر الصّدق فكيف تجشَّم لشيء ثم يكتمه؟!
فإن قال النصارى: هذا أيضاً لنا إذ لو كان غيره لم يخف ذلك ولبينه وقال: لست المسيح بل أنا رجل سواه. قلنا: يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون الشبه قد أدركته دهشة منعته من البيان والإفصاح عن حاله كما يجري للبشر، وهذا لا بُعد فيه أن يأخذ الله على لسانه ويسد عنه مادة الكلام صوناً لنبيّه المسيح أن يفصح الرجل عن أمره. والوجه الثاني: أن يكون الشبه لِصديقيّته آثر المسيح بنفسه وفعل ذلك بعهد عهده إليه المسيح رغبة منه في / (1/124/ب) الشهادة فلهذا ورى في الجواب وجمجم في القول، ويؤيد هذا الوجه قول التلاميذ للمسيح أيام الخوف من إيقاع اليهود به: "بأنه لو دفعنا إلى الموت معك لمتنا"1. والشبه كان من جملة التلاميذ فلهذا وفَّى بما وعد من نفسه وهذا شيء لم تزل تفعله أصحاب الأنبياء في الحروب وغيرها [أن] 2 يقوا بأنفسهم أنبيائهم فينالون بذلك الثناء في الدنيا والثواب في العقبى. فقد وضح أن المجيب لرئيس الكهنة غير المسيح إذ لو كان المسيح لم ينكر ولم يُورِّ. - الحجّة الثالث: على حماية الله المسيح عليه السلام وأن المصلوب غيره. قال لوقا: "صعد يسوع إلى جبل الجلي ومعه بطرس ويعقوب ويوحنا فبينا هو يصلي إذ تغير منظر وجهه عما كان عليه، وابيضت ثيابه فصارت تلمع كالبرق، وإذا
موسى بن عمران وإلياء قد ظهرا له، وجاءت سحابة فأظلتهم، فأما الذين كانوا مع يسوع فوقع عليهم النوم فناموا"1 قلت: هذا من أوضح الدلالة على رفع المسيح وحصول الشبه الذي نقول به؛ لأن تغيُّر صورة المسيح وتبدل لون ثيابه عما كانت عليه / (1/125/أ) وظهور موسى النبيّ عليه السلام وإلياء عليه السلام ومجيء السحاب يظللهم ووقوع النوم على التلاميذ من أقوى ما يتمسك به في حماية المسيح ووقوع شبهه على آخر سواه، فلا معنى لظهور هذين النّبيّين له ووقوع النوم على أصحابه إلاّ رفعه عليه السلام. مما يؤيّده قول الإنجيل: "إن اليهود حين رفعوا المصلوب على الخشبة قالوا: دعه حتى نرى إن كان إلياء يأتي فيخلصه"2. وهم يظنون أن المصلوب هو المسيح، وقد كان المسيح يقول لأصحابه: إن إلياء سيأتي. والدليل على غلط النصارى: قول فولس الرسول في صدر رسائله زاريا عليهم: "أنهم لم يعرفوا الله تعالى، لكن أظلمت قلوبهم التي لا تفقه، فجهلوا واستدلوا بالله الذي لا يناله فساد شبه صورة الإنسان الفاسد؛ فلذلك أهملهم الله وتركهم وشهوات قلوبهم النجسة، فبدلوا حقّ الله بالكذب، وعبدوا الخلائق وآثروها على خالقها الذي له التسابيح والبركات، فلذلك وكلّهم الله إلى أولاد الفاضحة"3. فهذا فولس كأنما ألهم ما سيفتريه متأخرو النصارى/ (1/125/ب) إلهاماً، فنطق بذلك ردّاً عليهم وإزراء بعقولهم وتصريحاً بكفرهم وضلالهم.
- الحجّة الرّابعة: على حماية المسيح مما نسب إليه، قول الأناجيل: "إن المأخوذ كان قد [غُيِّرَتْ] 1 صورته وشوهت هيئته، وسيق ذليلاً وتوج من الشوك إكليلاً، وألبس أرجواناً وأبلس هوناً، وجذب وسحب وشقي وسجن ولدم وضرب، وحمل خشبته التي عليها صلب وأعنف به في سحبه، فكُرّب وما ركب". قال يوحنا: "أُخذ في ليلة باردة من بستان بوادي الأرز، كان يخلو فيه مع تلاميذه"2. فاجتمع في القصة ما يصحح الغلط ويرجع في النقل اللغلط، وهو أن المصلوب أخذ في حندس3 ليل مظلم على حين فترة، فلم يصل به الشرط حتى طمست صور محاسنه لَدْماً وضرباً ونسخت سور حلاه جذباً وسحباً، فكان جميع ما جرى إنما هو على الشبه، ومع احتواش القصة بهذه الشبه لا يجزم بأنه المسيح. فالذي نقله لوقا فيه أعظم الدلالة على إلقاء الشبه، ثم ظهور موسى وإلياء ووقوع النوم / (1/126/أ) على القوم دليل واضح على رفع المسيح إلى السماء وصونه عن أيدي الأعداء. - الحجّة الخامسة على ما قلناه: قال يوحنا التلميذ: "كان يسوع مع تلاميذه بالبستان، فجاء اليهود في طلبه، فخرج إليهم يسوع وقال لهم: من تريدون؟ قالوا: يسوع، وقد خفي شخصه
عنهم، فقال: أنا يسوع، وفعل ذلك مرتين، وهم قد أنكروا صورته"1. وذلك دليل على الشبه ورفع المسيح؛ إذ أنكروا صورته وهو الناشئ بينهم والمربي في جماعتهم. - الحجّة السادسة: قول لوقا في إنجيله: "إن المسيح بعد قيامه صحب رجلين من أورشليم، وهما يطلبان قرية يقال لها: عمواس، فتبعهما وماشاهما، وكانت عيونهما ممسوكة عن معرفته فلما كلمهما عرفاه بعد ذلك"2. وقد حكى بعض النصارى أن المسيح قد أعطي قوة التحول من صورة إلى صورة، وذلك كلّه يشهد بصحة ما قلناه، وإذ التبس أمره على خواص أصحابه وتلاميذه حتى أنكروا هيئته وصورته وثيابه فما ظنك بغيرهم؟! وقال لوقا أيضاً: "بينا التلاميذ / (1/126/ب) في غرفة لهم إذ وقف المسيح في وسطهم بعد قيامه، والتمس منهم شيئاً يأكله فأطعموه جزءاً من حوت، وشيئاً من شهد العسل"3. وذلك كلّه يشهد بما قلناه حمايته في وصونه من أعدائه وإلقاء الشبه على غيره.
- الحجّة السابعة: قال يوحنا: "وقف المسيح على تلاميذه وهم يصيدون السمك، فقال: يا فتيان هل عندكم من طعام؟ فلم يعرفوه. فقالوا: لا. فقال: ألقوا الشبكة من الجانب الأيمن. ففعلوا. فرفعت سمكاً كثيراً فحينئذٍ عرفوه. وقالوا: هو المسيح. وكان أحدهم عرياناً، فأخذ مئزره حين عرف أنه المسيح"1. [فهؤلاء] 2 التلاميذ وخواص أصحاب المسيح يشهدون بما صرنا إليه من تغيير شبه المسيح عليهم وتصديق قول من يقول منهم: إن المسيح كان قد أعطي قوة التحول من هيئة الصبوة إلى هيئة الكهولة والشيوخية وغير ذلك. وإلاّ فكيف يخفي وجهه عن مثل الاثني عشر من أصحابه وتلاميذه ويستبعد ذلك من اليهود؟ - الحجّة الثّامنة: إن القول بقتل المسيح يؤدّي إلى تكذيب الميسح، وما أدى إلى تكذيبه فهو باطل، وبيانه هو أن المسيح عليه السلام / (1/127/أ) قد بَشَّر في إنجيله بمحمّد صلى الله عليه وسلم وقال: إنه النّبيّ الصّادق الآتي بعده؛ ومحمّد جاء وأخبر بأن المسيح ما قُتل وما صُلب، فالقول بقتل المسيح يفضي إلى تكذيب من صدَّقه المسيح، فكان تكذيباً للمسيح، وسنبيّن بشرى المسيح وموسى وغيره من الأنبياء بمحمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الباب الأخير من هذا الكتاب.
- الحجّة التّاسعة: لو قد صحّ قتل المسيح وصلبه لبطلت الدلالة على وجود الباري تعالى، وبيانه: هو أن في ذلك إبطال بشائر الأنبياء عليهم السلام بمحمّد صلى الله عليه وسلم، وإظهار كذبهم فيما شهدوا به من النبوة والرسالة وصدق المقالة وذلك يَعْكُر على نبواتهم بالإفساد، إذ أخلفت أقوالهم، ولم تَصْدق أخبارهم، وذلك يخرم الثقة بجميع ما أخبروا به من حدث العالم ووجود الصانع تعالى، وما أدى إلى ذلك فهو مردود من أصله. - الحجّة العاشرة: قال لوقا: "لما كان في الشهر السادس من حمل اليصابات زوجة زكريا بيحيى ابنها جاء جبريل إلى مريم العذراء بالناصرة من أرض الجليل، وهي / (1/127/ب) إذ ذاك خطيبة لرجل من نسل داود يقال له: يوسف. فقال لها جبريل: أبشري يا ممتلئة بنعمة الرّبّ، مباركة أنت في النساء. فلما رأته اضطربت من كلامه، فقال لها جبرئيل: لا تخافي يا مريم فقد [ظفرت] 1 بنعمة من عند الله وأنت تقبلين حبلاً بولد يدعى يسوع، يكون عظيماً وابن [العلي] 2 يُدعى، يعطيه الرّبّ كرسي أبيه داود. ويملك على بيت يعقوب. فقالت مريم: أتاني ذلك ولم أعرف رجلاً. فقال جبريل: روح القدس يحل عليك وقوة العلي تظللك، وهذه اليصابات نسيبتك حبلى بابن على كبر سنها لأنه ليس عند الله أمر عسير. فقالت مريم: أنا ذا عبدة الرّبّ فليكن ما قلت"3.
ورد ذلك من الله على مريم مَوْرد الامتنان والإنعام وهو أن يجلس ولدها في دست1 داود ويُمَلِّكه رقاب اليهود، فالقول بأن المسيح هلك وما ملك يقضي بالسخرية من البتول، أو البداء من المرسِل2، أو الكذب من الرسول، والكلّ محال، فالقول بقتل المسيح وصلبه محال. فهذه عشر حجج كلّها تقضي بالثّلب على مدّعي الصلب، ومما يدلّكم على فساد دعوى القتل والصلب ما اشتمل عليه الفصل / (1/128/أ) من الاضطراب وقبيح الألفاظ كقوله لرئيس الكنة: "إنكم من الآن لا ترون ابن الإنسان حتى ترونه جالساً عن يمين القوّة وآتياً في سحاب السماء"3، يريد بالقوّة: الله تعالى. وكقوله: "إن ناساً من القيام هاهنا لا يذوقون الموت حتّى يرون ابن الإنسان آتياً في ملكوته"4. وكقول الملك للنسوة: "تعالين فانظرن إلى الموضع الذي كان فيه الرّبّ في القبر"5. ما أخلق هذه المواضع أن يكون بعض مجان اليهود قد أدرجها في كتاب النصارى ليضحك منهم الناس. أسمعتم يا معشر النوكى بربٍّ في قبرٍ، وإلهٍ في لحدٍ؟! أيُّ جَدَثٍ وسعه؟! أيُّ كفنٍ واراه؟! أيُّ نعشٍ حمله؟! هل نجا من ضغطة القبر؟! هل لُقِّن حجته عند السؤال؟! هل ثبت جأشه عند طلعة الملك؟!
أُفٍّ لترابٍ تغَشَّى وجه هذا الإله، وتبّاً لكفن ستر محاسنه، وسحقاً لجذع انتصب تحته صلب عليه، عجباً للسماء كيف لم تَبِدْ وهو سامكها وللأرض كيف مل تَمِدْ وهو ماسكها، وللبحار كيف لم تَغِض وهو مجريها، وللجبال كيف لم تَسِر وهو / (1/128/ب) مرسيها، وللحيوان كيف لم يصعق وهو مشبعه، وللكون كيف لم يمحق وهو مخترعه؟! وأنَّى استقام الوجود والرّبّ في اللحود، وثبت العالم على نظام والإله في الرحام؟! لقد لبس الكون ثوباً من القحة صفيقاً، واستمر على البقاء وكان بالفناء خليقاً - فإنا لله وإنا إليه راجعون على المصيبة بهذا الرّبّ والرّزية بهذا الإله، لقد ثكلته أمه التي خلقها وصوَّرها وعدمته الدنيا التي أبدعها وفطرها، فليت شعري هل قُسم ميرائه وعمل مأتمه؟ وهل أخذ بثأره أو سُلم مسلمه؟! هذا وأيبكـ1 الخذلان والتلاعب بالأديان. وفي الفصل موضعان آخران يشعران بأن المصلوب رجل غير المسيح: أحدهما: شكواه العطش، فإنا نعلم أن الإنجيل مصرّح: "بأنّ المسيح كان يطوي أربعين يوماً أو أربعين ليلة"2. ويقول لتلاميذه: "إن لي طعاماً لستم تعرفونه"3. ومن صبر عن الماء والطعام ثمانين [يوماً] 4 وليلة لا يجزع من فراقه ساعة واحدة. وبذلك يتحقق أن العطشان غيره والمستسقي سواه. والموضع الآخر: / (1/129/أ) قوله: "إلهي وإلهي لِمَ تركتني وخذلتني؟ "، (لِمَ) كما يُعلم كلمة تنافي الرضى بمر القضاء، وتناقض التسليم لأحكام الحكيم ويجل عن ذلك رتبة الصالحين فضلاً عن أكابر المرسلين. فهذا وما شاكله من كلام المصلوب يوضح ما قلناه في الشبه، فإن أبى النصارى إلاّ أن يكون قائل هذا هو المسيح، قلنا لهم: ألم تزعموا أن المسيح تعنَّى
ونزل ليؤثر العالم بنفسه ويُخلِّصه من الشيطان ورجسه؟! أفتقولون إنه تبرّم بالإيثار واستقال العِثار؟ 1. آلم ترووا لنا عن التوراة أن إبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وهارون كانوا حين احتضروا مستبشرين بلقاء ربّهم فرحين بانقلابهم إلى شعبهم، لم يجزعوا من الموت ولا هابوه ولا استَوبلَوا2 مذاقه ولا أعابوه، هذا وهم عبيد. والمسيح بزعمكم ولدٌ وربٌّ، أفكان وثوقهم بالله فوق وثوقه، أم حظ المسيح عند الأب دون حظ رقيقه؟! وأما قولهم في الفصل: "إن يسوع صرخ وأمال رأسه وأسلم روحه"، فمناسب لكلام/ (1/129/ب) المجانين، وإلاّ فكيف يتولى الميت في حال النزع تسليم روحه مع شدّة الأمر وعظم الخطب واشتغال البال في ذلك الوقت عن التسليم والتسلم؟! وإن امرءاً تجذب روحه من تحت كلّ شعره من جسده وقد أوثق كتاف ذبيحه، وبر بصره، وانحل عقد تماسكه، واستولت عليه الآلام، ورشقته من جميع جهاته سهام الحمام لغير مختار في تسليم روحه، والعجب من تجاسر هذا الحاكي على قول ما يقطع بكذبه فيه، وذلك أن تسليم روحه غير مشاهد بالعيان فيقع عليه بصر إنسان. أين قول النصارى في شريعة إيمانهم: "نؤمن بالرّبّ الواحد يسوع المسيح الذي بيده أتقنت العوالم وخلق كلّ شيء، وليس بمصنوع الذي نزل من السماء لخلاص معشر الناس؟!!. وكيف يصحّ لهم هذه الدعوى والمصلوب ينادي بحضرة اليهود: "إلهي إلهي كيف تركتني وخذلتني؟!! ".
وكيف يكون خالق السماوات والأرض مقروناً باللصوص مصلوباً على الخشب له إله يدعوه ويسأله أن لا يتركه ولا يخذله؟!!. فإن كانت / (1/130أ) الأمانة صادقة فالإله الأزلي قد بكى واستغاث وسأل شربة من الماء وقُرِن بالذُّعار وعلُق على الخشب وسمرت يداه بالمسامير، وإن كان الإله الرّبّ الأزلي، يتعالى عن هذه النقائص يتقدس عن أن تناله هذه الرذائل، فالأمانة باطلة، وأقوال مَن عقدها لهم فاجرة، وآراؤهم غاشَّة، وسنأتي على أمانتهم إذا انتهينا إليها، ونوضح فسادها وغشّ من ألفها وسوء رأيه في دين النصرانية إن شاء الله تعالى. وأما قولهم في الفصل: "إنه حين مات يسوع على الصليب انشقّ حجاب الهيكل، وتزلزت الأرض كلّها، وتشققت الصخور، وتفتحت القبور، وقام القديسيون من قبورهم ودخلوا المدينة حتّى رآهم الناس"
الشمس وحال لون القمر"1. فذلك كذب ومحال وبهت لا يخفى بحال؛ لأنه لو كان صحيحاً لأطبق الناس على نقله ولم يبق إخفاء مثله، ولزال الشّكّ عن تلك الجموع في أمر يسوع، فحيث داموا على الحجّة له والتّكذيب عنه دلّ ذلك على كذب هذا النّقل. ومما يوضح ما قلناه / (1/130/ب) أن الأناجيل تشهد في تمام هذا الفصل "أن جماعة من أصحاب يسوع شكوا فيه بعد ذلك فرجعوا عن رأيهم الأوّل"2. وذلك يكذب قول من قال: "إن العالم تشوش لمصرع يسوع"3. فإن قيل: إنما لم يشتهر ذلك لأن أصحاب يسوع لم يحضر منهم أحد خوفاً من اليهود، واليهود الذين شاهدوا هذه الآيات تواطؤا على كتمانها بغياً وحسداً. قلنا: هذه الآيات إذا وقعت عَمَّ عِلْمُها من حضر ومن غاب من الأعداء والأحباب لأنها آيات نهارية، فما بال الهنود والسند والصين والسودان والفرس والترك وسائر الطوائف الذين لم يتعصبوا للأديان ولا انحازوا الملة وشريعة لم ينقلوا هذه الآيات ويلهجوا بها خلفاً عن سلف حقباً بعد حقب؟!!.
وقد نقل المؤخرون في صحفهم أموراً هي أنزر وأقل خطراً من هذا الأمر الذي يَدَّعي النصارى أنه طبَّق العالم الأعلى والأسفل، فلما رأينا هذه الأمم الخالية عن الأهواء والتعصب للشرائع والتزام الأحكام علىكثرتها لم تنقل مما حكاه1 النصارى حرفاً واحداً علمنا بالضرورة أن ذلك اخترعه كذبة النصارى ليخدعوا به ضعفائهم،/ (1/131/أ) وسنأتي على قطعة من ذكر حيل القسيسين ومخاريق الرهبان عند وصولنا إلى بابه، فيتوسلون بهذه المخارق إلى جلب الحطام وجذب الدنيا الدّنية بالخطام، والحقّ مستغن عن أن يقوى بهذه الترهات. وأما قولهم في الفصل: "إن يسوع جاء التلاميذ الأحد عشر بالجليل، وأوصاهم أن يعمدوا الناس، وأنه يكون معهم إلى انقضاء الدّهر"2. فأقول: انطفأ السراج على التلميذ الثاني عشر، وهو المشهود له في الإنجيل بولاية حساب بني إسرائيل، وبقي كرسيه شاغراً ودسته في القيامة غامراً، وصار أحد الأسباط في القيامة ليس له من يدينه، فاستراح من العتاب وسوء الحساب. قال المؤلِّف: قلت لنصراني من عقلائهم: "قال يسوع لتلاميذه الاثني عشر وفيهم يهوذا الأسخريوطي الذي أسلمه للقتل والصلب: أتم ستجلسون يوم القيامة على اثني عشر كرسياً تدينون اثني عشر سبط إسرائيل"3. وذلك شهادة لكل بالزعامة في4 القيامة، فكيف صنع أصحابكم في يهوذا وسبطه؟ فإن المسيح يقول: "الويل لمن يُسلم ابن الإنسان كان [خيراً له ألا / (1/131/ب) يولد] 5".
فقال: قد عوَّضوه برجل غيره ونصبناه بدلاً منه لتتم العدة1. قلت: فليس هذا المُعوَّض هو المخاطب بوعد المسيح بل غيره فقد أخلف قوله: "إن كرسيه لا يجلس عليه غيره، ولا يدين سبطه سواه". فأبلس العلج2، ولم يحر جواباً. وأما حكايتهم عنه: "أنه معهم إلى انقضاء الدهر"، فإنه نسألهم فنقول: هل تقولون إن هذا الكلام محمول على ظهره أو محمول على معناه دون ظاهر؟ فإن زعموا أنه محمول على الظاهر لزم منه أن يكون التلاميذ الأحد عشر الآن في قيد الحياة، وسِيَرُهم تُكَذِّب ذلك، إذ يقول إنّ القوم اخترموا موتاً وقتلاً. وإن قالوا: إن ذلك محمول على المعنى دون الظاهر وهو أن الآن مع كلّ جاثليق وأسقف ومطران وقس وراهب3 منهم، قيل: أهو معهم بذاته أم بعلمه؟! فإن زعموا أن المسيح معهم بذاته أكذبتهم شواهد العقول وشواهد
الإنجيل، أما شواهد العقول: فإن العقل فاضٍ بأن الشخص الواحد لا يكون حالاً في عدّة مواضع في حالة واحدة، بل إن شغل مكاناً فرغ من الآخر لا محالة. وأما شواهد الإنجيل: فإنها / (1/132/أ) مصرحة بأن المسيح كان إن حلّ بالناصرة فارق أورشليم، وإن حلّ بأورشليم فارق الناصرة، ولم يتحدّد له ما يرفع هذا الحكم. فإن قالوا: لم يرد المعية بذاته بل بعلمه كقول الكتاب العزيز: {وَهُوَ مَعَكُم أَيْنَمَا كُنْتُم} 1. قلنا: فاسلكوا التأويل في جميع ظواهر الإنجيل ترشدوا. فلو ألهم النصارى رشدهم لمحوا هذا الفصل من الإنجيل ودرسوا2 خبره، وعفوا أثره، وأدبوا من ينطق به، فإن اللافظ به إنما يُعَرض سبّ إلههم والتنقص من معبدوهم، وإنه فصل وخيم، والعار عليهم في نشره عظيم، إذ مضمونه أن اليهود الملاعين والعبيد المدبرين عدوا على إلههم، ورصدوه، وتوقعوا غرته، فقصدوه، فوضعوا أيديهم عليه ذليلاً، وأناطوا به جوامع وكبولاً، ولم يجد إلى الإفلات منهم سبيلاً. وهرب تلاميذه عنه وأسلموه، فتناوله أعداؤه بيد القسر وتسلموه وساقوه بينهم يحمل جذعة أسيراً، ثم لُطم حتى حُطِّم، وأُرضع لبان الهوان حتى ودَّ لو قُطم، وتفل في وجهه القيام والقعود من أراذل اليهود، فنَزل به من الدهش
والعطش والكرب ما لا / (1/132/ب) يقصر في الألم عن القتل والصلب، وأنه استسقاهم ماء فسقوه خلاًّ، وسأل البقيا فأسمعوه كلاً، فصرخ على جذعه إلهي إلهي كيف تركتني؟!. وصرح بالعبودية لا يتلقب ولا يكتني، ولم يزل ينزع في قوس النزاع حتى مرق سهم روحه، ولقد راموا كسر ساقيه كفعلهم برفيقيه، فعُجلت عليه منيته وأُبطلت عنه أمنيته، وأعول عليه أحبابه وتفرق من الفرق أصحابه، وسأل الوالي جسده فدفن وتصدق عليه بالكفن، وهذه لعمرك مَعَرَّة يأنف العاقل من إلصاقها بكلبه، فكيف يلصقها بربّه؟!. وما أرى مُلحق هذا الفصل بكتاب النصارى إلاّ قد جعل له اليهود جُعْلاً على إلحاقه، ولستُ أُبعد ذلك، فإن يهوذا الأسخريوطي - أحد الاثني عشر المشهود له بالزعامة في المحشر - زعموا أنه ارتشى على يسوع ثلاثين درهماً من اليهود حتى أنزل به من الهوان ألواناً، وإذا كان هذا فعل يهوذا الذي هو أسنى من غيره وأفضل وأرمى عن قوس الصحبة القديمة وأفضل، وقد استمالته الدنيا فادَّرع الفضيحة واستهواه الهوى فحلّ عقيد1 / (1/133/أ) الصحيحة. فما ظنك بمن لم يصحب المسيح ولم يلقه ومرض بداء الحسد فلم ينقه؟!. فنسأل الله الذي شرفنا بالإسلام وعرفنا نبيّه عليه السلام أن يقطع عنا أشطان الشيطان ويصلنا بعباده الذين ليس له عليهم سلطان. ومن أدل الدلالة على كذب النصارى في دعوى القتل والصلب: ما رواه متَّى في إنجيله قال متى: "سأل اليهود المسيح أن يريهم آية فقال: الجيل الشرير
الفاسق يطلب آية فلا يعطى إلاّ آية يونان - النّبيّ: يعني: [يونس] 1 عليه السلام - لأن يونان أقام في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ، وكذلك ابن الإنسان يقيم في بطن الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ"2. قال المؤلِّف: وكذلك كذب وغلط بإجماع نقلة الإنجيل؛ لأنه لا خلاف بينهم أن المأخوذ صلب في الساعة الثالثة من يوم الجمعة، ثم أنزل من يومه ذاك فدفن ليلة السبت، وأقام السبت كلّه مدفوناً ثم طلب ليلة الأحد بغلس فلم يوجد، فمنهم من قال: قام ليلة الأحد، ومنهم من ذكر أنه قام يوم الأحد باكراً، وإذا كان الأمر كذلك فلم يقم في بطن الأرض سوى يوم واحد وليلتين. قال المؤلِّف: ولنذكر عشر / (1/133/ب) مسائل مفحمات، تفحم من وردت عليه من النصارى، من ردَّها منهم كفر بالتوراة والإنجيل والنبوات، ومن قَبِلَها كفر بالأمانة التي لهم والصلوات ودين النصرانية جملة: المسألة الأولى من العشر المفحمات: هو أنا نسألهم عن قول القائل: إن الله - الأزلي خالق العالم ونافخ الروح في حواء وآدم - هو إله واحد فرد حيّ عالم قادر مريد سميع بصير متكلم3، أحقّ ذلك أم باطل؟.
فإن قالوا: إنه حقّ، أبطلوا دين النصرانية وكفروا بالأمانة والصلوات الثمانية التي لهم، إذ سائر فرق النصارى اليوم يدينون بعبادة ثلاثة آلهة قديمة أزلية وإنسان من بني آدم يُسمَّى يسوع النصارى. فيقرؤون في أمانتهم التي هي أصل دينهم: "نؤمن بالله الأبّ الواحد ضابط الكلّ، ونؤمن بالرّبّ الإله الواحد يسوع المسيح الإله الحقّ الذي بيديه أتقنت العوالم وخلق كلّ شيء، ونؤمن بروح القدس الواحد المحيي". فعبدوا ثلاثة آلهة، والتوراة وسائر النبوات تقول: هو واحد جلّ وعلا. ويقرؤون في صلاة لهم تعرف عندهم بصلاة النوم: "الملائكة يمدحونك بتهليلات مثلثة أيها الأبّ؛ لأنك لم تزل وابنك / (1/134/أ) نظيرك في الابتداء وروح القدس مساويك في الكرامة ثالوث واحد". فقد صرحوا في الأمانة التي لهم والصلوات بعبادة ثلاثة آلهة قديمة أزلية وإنسان من بني آدم يسمّى يسوع المسيح وذلك مضاد لتوحيد الذي سلَّموا صحته. وإن قالوا: بل ذلك باطل وكُفر، كفروا بتوراة موسى وإنجيل عيسى ومزامير داود ونبوة أشعيا وسائر النبوات. قال الله في التوراة: "يا موسى أنا الله ربّك وربّ آبائك إبراهيم وإسحاق ويعقوب قد ذكرت عهدي لإبراهيم، وقد عرفت ذلّ شعبي بمصر، اذهب إلى فرعون، وقل له: هكذا يقول لك إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب أرسل شعبي يعبدني، فقال موسى: يا ربّ أنا أذهب إلى بني إسرائيل فأقول الرّبّ إلهكم أرسلني إليكم، فيقولون لي: ما اسمه؟ فقال الله تعالى: قل لهم: الأزلي الذي لم يزل أرسلني إليكم"1. وقال الله تعالى في التوراة: "إني أنا [أهيه الذي أهيه] 2 إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب هذا اسمي إلى الأبد وإلى دهر الداهرين".
وقال الله لموسى في التوراة: "أنا الله / (1/134/ب) إلهك فلا يكن لك إله غيري فلا تعبده ولا تسجد له ولا تشبهه بشيء مما في السماء ولا مما في الأرض ولا مما في البحار"1. وقال الله تعالى في التوراة: "اعلم أني أنا الله وحدي وليس معي غيري، أنا أميت وأحيي وأنا أقسم وأبرئ، ولا ينجو أحد من يدي"2. وإفراد الباري بالوحدانية ونفي الشركاء في التوراة كثير جدّا. وقال المسيح في إنجيل متّى: "لا صالح إلاّ الله الواحد"3. وقال المسيح في إنجيل يوحنا ورفع بصره إلى فوق: "إلهي إن الحياة الدائمة تجب للناس إذا علموا أنك الواحد الحقّ الذي أرسلت المسيح"4. وقال أيضاً في إنجيل متّى جواباً للشيطان - حين قال له اسجد لي وأعطيك جميع ما في العالم -: "أغرب عني يا شيطان، فإنه مكتوب للرّبّ إلهك اسجد وله وحده اعبد"5. وقال في إنجيل يوحنا "إني ذاهب إلى إلهي وإلهكم"6. وقال في إنجيل يوحنا أيضاً: "إني لم آت لأعمل بمشيئتي بل بمشيئة من أرسلني"7. وقال في إنجيل مرقس: "إلهي إلهي لِمَ تركتني؟ "8. وقال في إنجيل متِّى: "يا أبت إن أمكن صرف هذا الكأس عني فأصرها / (1/135/أ) لكن كما تشاء أنت لا كما أشاء أنا"9. وقال مرقس في إنجيله: "سأل المسيح
عن يوم القيامة، فقال: لا يعرفها ملائكة السموات ولا الابن يعرفها ولا يعرف ذلك اليوم سوى الأبّ وحده"1. وقال في إنجيل يوحنا في الفصل الأوّل منه:"الله لم يره أحد قط"2. وقال فيه لليهود: "لِمَ تطلبون قتلي وأنا رجل كلمتكم بالحقّ الذي سمعته من الله تعالى؟! "3. وقال لليهود أيضاً:"لم تمجدون الناس ولا تجدون الله الواحد؟! "4. وقال في إنجيل متّى: "إنّ ربّكم واحد فرد"5. وقال شمعون الصفا في كتاب فراكسيس تأليف لوقا: "يا بني إسرائيل اسمعوا مقالتي: إن يسوع الناصري رجل ظهر لكم من الله بالقوّة والأيد والعجائب التي أجراها على يده"6. قال داود في المزمور السابع عشر: "الله لا ريب فيه، هو منجي من توكّل عليه، لا إله إلاّ الرّبّ ولا عزيز مثله"7.وذلك في المزامير كثير جدّاً. وقال داود في المزمور التاسع والأربعين: "اسمع يا إسرائيل: أنا الله إلهك لست/ (1/135/ب) أوبخك على ذبائحك وقودك أمامي في كلّ حين"8. وقال فولس في رسائله: "إنه لا إله إلاّ واحد"9. وقال أيضاً: "إن كان في الأرض آلهة وأرباب كثير فإن إلهنا إله واحد، هو الأب الذي منه كلّ شيء
ونحن به تعالى"1. فمن زعم أن الذي ذكرناه كُفْرٌ فقد كَفر بتوراة موسى وإنجيل عيسى ونبوات الأنبياء. المسألة الثّانية من العشر المفحمات: إنا نسألهم عن هذا الإله الواحد الأزلي جلّ وعلا، أهو جسم ذو لحم ودم وأعضاء وشعر وظفر أم يتنَزَّه ويتقدّس عن ذلك؟ فإن قالوا: إن الباري يتقدس عن ذلك إذ هو خالق الأجسام، أخرجوا المسيح من الربوبية إذ الإنجيل يشهد من فاتحته إلى خاتمته بأنه ذو جسد ولحم وشعر وظفر، لا يفارق المخلوقين في شيء ولا يباينهم في هيئة. وإن وصفوا الباري بهذه النقائص أكذبتهم التوراة والإنجيل والنبوات، قال الله تعالى في التوراة: "لا تشبهوني بشيء مما في السماوات فوق ولا في الأرض أسفل ولا في البحار تحت ولا بشيء / (1/136/أ) مما يدبّ من الحشرات والهوام"2. وغير ذلك وهو معنى قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثلِه شَيءٌ ... } 3. وقال موسى في التوراة: "لا إله مثل إلهنا"4. وقال أيضاً فيها: "لا إله مثل إله بني إسرائيل"5. والمسيح مما في الأرض وله أمثال وأشباه وأشكال. وقال المسيح في الإنجيل: "إن الله لا يأكل ولا يشرب ولا رآه أحد قط"6. وذلك يقضي بنفي الجسمية عنه.
وقال داود في المزمور السبعين: "عليك توكلت يا ربّ، فلا أخزى أبداً، أنت إلهي وحافظي وحصني الذي ألجأ إليه في كلّ حين، أنت صانع العجائب لا نظير لك يا قدوس إسرائيل"1. المسألة الثّالثة من المفحمات: إنا نسأل النصارى عن الرّبّ الخالق الأزلي إله إبراهيم وداود وسائر العالم، هل يفتقر إلى الطعام والشراب فيجوع ويعطش وينام ويسهر وحزن ويفرح ويمشي ويركب أم لا؟ فإن قدَّسوا الباري عن هذه النقاائص تركوا القول بربوبية المسيح؛ إذ الإنجيل من فاتحته إلى خاتمته يشهد بملابسة المسيح لهذه الأمور / (1/136/ب) ، وإن جوَّزوا ذلك على الباري جلّ وعلا كفروا بالإنجيل والمزامير، قال المسيح في الإنجيل: "الله لا يأكل ولا يشرب ولا رآه أحد". وقال داود في المزمور التاسع والأربعين2: "اسمع يا إسرائيل: أنا الله إلهك لست أوخك على ذبائحك وقودك أمامي في كلّ حين، لا أقبل ثيران بيتك ولا جداء غنمك؛ لأن لي جميع حيوان البرّ وطير السماء ووحش الصحاري، وأحسن الحقول معي، لي الدنيا وما فيها، لا آكل لحوم الثيران ولا أشرب دمّ المعزّ، أذبح ذبيحة المسيح، وأوفي للعلي نذورك، وادعني في يوم شدتك أنقذك". وقال داود: "إن حارس بني إسرائيل لا تأخذه سنة ولا نوم"3.
فمن زعم أن الباري مفتقر إلى هذه الأمور فللحيوان البهيم عليه فضل عظيم بشهادة نبيّ الله أشعيا حيث يقول في نبوته: "عرف الثور والحمار مَن مالكه ولم يعرف بنو إسرائيل إلههم"1. وقول داود عن الله: "لا آكل لحوم الثيران ولا أشرب دماء المعز". موافق لقول الله تعالى في الكتاب العزيز (1/137/أ) : {لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُم} . [سورة الحجّ، الآية: 37] .وقوله تعالى: {مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُون} . [سورة الذّاريّات، الآية: 57] . المسألة الرّابعة من العشر المفحمات: إنا نسألهم هل كان مع الله في أزله إله ثانٍ أو ثالث يشاركه في الربوبية ويساويه في الألوهية أم لم يزل سبحانه واحداً بغير ثانٍ وثالث؟!. فإن قالوا: لم يزل واحداً فرداً وافقوا الملة الحنيفية، وفارقوا دين النصرانية حيث يقرؤون في الصلاة الأولى وهي التي يسمّونها صلاة السحر: "أيها المسيح ارحمنا واقبل تضرعنا، تعالوا نسجد لمسيح إلهنا، أيها الرّبّ المسيح حامل خطايا العالم ارحمنا أيها المسيح، أنت وحدك القدوس المتعالي بار كلّ يوم إلى الأبد". وإن قالوا: بل كان معه في أزله آلهة أخرى، أكذبتهم التوراة والإنجيل والنبوات. قال الله تعالى في التوراة في السفر الأوّل منها - ويسمى سفر الخليقة -: "في البدء خلق الله السماء والأرض، وكانت الأرض خالية / (1/137/ب) خاوية غير مرئية، والظلمة غاشية وجه الغمر، روح الله يوف على المياه، فقال الله: ليكن كذا ليكن كذا، إلى أن أكمل سبحانه خلق السماء والأرض وما فيها في ستة أيام ثم خلق آدم وخلق منه حواء زوجته"2.
فالتوراة من فاتحتها إلى خامتها مصرحة بوحدانية الله تعالى، وأنه ليس معه إله غيره، وأنه مستبد بالخلق والاختراع. وقال التوراة:"وكلّم الله آدم"1."وكلّم الله قايين"2."وكلّم الله نوحاً"3. "وكلّم الله موسى"4.كلّ ذلك بلفظ الوحدة ونفي الشركاء. وقد قال موسى في السفر الخامس: "إلهي، أيّ إله في السماء أو في الأرض يعمل مثل أعمالك؟ "5. وقال موسى في هذا السفر وهو يوصي بني إسرائيل: "احترسوا واحتفظوا بنفوسكم جداً، فإنكم لم تروا شبهاً في اليوم الذي كلمكم الله ورأيتم مجده، إياكم أن تبعدوا آلهة معمولة من الخشب والحجارة وغيرها، فحينئذٍ تطبون الله فلا تجدونه، أقبلوا يا بني إسرائيل إلى الله ربّكم وجده، واعبدوه، ووحّدوه، تجدونه إذا طلبتموه من كلّ قلوبكم وأنفسكم/ (1/138/أ) لأن الله ربّكم إله رحيم لا يخذل ولا يُسلِّم من عَبَده ووحَّدَه وعلم أنه لا إله غيره هو ربّ كلّ شيءٍ وإلهه، واعملوا أن الله هو إله في السماء فوق وفي الأرض أسفل وليس إله سواه"6. وقال الله تعالى في هذا السفر من التوراة: "احفظوا ما آمركم به، ولا تحيدوا عنه يميناً ولا شمالاً، بل سيروا في الطريق التي أمركم بها إله ربّنا واحد فأحبوه من كلّ قلوبكم وأنفسكم وأموالكم، واكتبوا ذلك في قلوبكم، وتكلموا به إذا سافرتم أو أقمتم أو رقدتم وشدّوه على أبدانكم، وليكن مَيْسَماً بين أعينكم،
واكتبوا على [قوائم] 1 بيوتكم وأبوابكم. واتّقوا الله وإيّاه فاعبدوا، وباسمه فاقسموا، ولا تعبدوا آلهة أخرى، فالله ربّكم إله غيور"2. وقال الله في التوراة: "إن دعاك قريبك أو صديقك إلى عبادة إله غير الله فاقتله ولا تحنن عليه ولا ترحمه، أنا الله وحدي وليس معي غيري"3. وقال رجل للمسيح في الإنجيل: "يا معلم، ما أوّل الوصايا؟ فقال المسيح: أوّل الوصايا كلّها اسمع يا إسرائيل، الرّبّ واحد، أحبب الرّبّ إلهك من كلّ قلبك ومن / (1/138/ب) كلّ قوتك، ففي هذا جميع نواميس الأنبياء"4. وقال المسيح في إنجيل يوحنا: "ورفع رأسه إلى السماء: أنت الإله الحقّ وحدك الذي أرسلت يسوع". وقد قال في النبوات: "أنا الله الأوّل، أن الله الآخر وليس معي غيري"5. فمن زعم أن مع الله تعالى غيره فقد كفر بما تلوناه من كتب الله، وصار لا مسلماً ولا يهودياً ولا نصرانياً، ومن صرّح بذلك لم يقبل منه سوى الإسلام أو السيف. المسألة الخامسة من العشر المفحمات: إن نسأل النصارى عن الرّبّ الأزلي جلّ وعلا، هل يجوز أن يُقهر ويُغلب ويُقتل ويُصلب أم لا؟ فإن نزّهوا الباري عن ذلك أبطلوا قولهم في المسيح، إذ يقرؤون في صلاة الساعة السادسة: "يا من سُمِّرت يداه على الصليب خرق العُهْدة المكتوب فيها خطايانا وخلّصنا، يا من سُمِّر على الصليب وبقي حتى لصق دمه عليه، قد أحببنا الموت لموتك، نسألك يا الله بالمسامير التي سُمِّرت بهم نَجِّنَا".
وإن جوّزوا ذلك على الله تعالى أكذبتهم التوراة والإنجيل والمزامير، / (1/139/أ) إذ التوراة تشهد في السفر الأوّل1 منها أن الله أنزل الطوفان، وأهلك الجبابرة والفراعنة والطغاة والنماردة وسائر الملوك من بني آدم وكلّ ذي روح من الحيوان البهيم وغيره، وكذلك تشهد أنّ الله غَرَّق فرعون وهو في ستمائة ألف فارس في البحر في ساعة واحدة2، ولم يُقْهر سبحانه ولم يغلب بل هو القاهر الغالب جلّ وعلا. وقد قال المسيح في إنجيله: "لا صالح إلاّ الله الواحد، ولا يعلم يوم القيامة سوى الله وحد". فمن ألحق بالله شيئاً من هذه النقائص فقد افترى على الله، تعالى الله عن قول الجاهلين علوّاً كبيراً. قال داود في المزمور السابع عشر: "لا إله إلاّ الله، لا عزيز مثل إلهنا، الذي عَلَّم يدي القتال، وشدّد ذراعي مثل قوس النحاس، يمينه نصرتي، أطلب أعدائي فأدركهم، عضّدي في الحرب، بقوته جعل الذين قاموا عليّ تحتي، سحق أعدائي مثل التراب ومثل طين الطرق أطؤهم، صيَّرهم رأساً على الشعوب"3. المسألة السّادسة من العشر المفحمات: إنا نسأل النصارى عن ما تضمنه الإنجيل من أقوال المسيح وأقوال تلاميذه فيه أحقّ هو أم باطل؟ فإن زعموا أنها باطلة كفروا بالمسيح، وساووا في ذلك اليهود والمجوس وغيرهم. وإن قالوا: إنها حقّ وصدق، اعترفوا بعبودية المسيح ونبوته ورسالته
أسوة غيره من الأنبياء والمرسلين، إذ قال المسيح في إنجيله: "أنا ذاهب إلى إلهي وإلهكم". وقال المسيح فيما حكوا عنه: "إلَهي إلَهِي لِمَ تركتني؟ ". ولا خلاف بين النصارى أن المسيح تطهَّر وتعمَّد وصام وصلى وتعبَّد وأخلف إلى العلماء في طلب العلم وتردد: "وفاوضته امرأته من السامرة فقالت له: إن آباءنا سجدا في هذا الجبل، فكيف تقولون أنتم إنه أورشليم؟ فقال: يا هذه أنتم تسجدون لما لا تعلمون، ونحن نسجد لمن نعلم"1. أخبرها أن له ربّاً يسجد له وإلهاً يعبده، وذلك مقصد لقوله تعالى حكاية عنه: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الكِتَابَ} . [سورة مريم، الآية: 30] . وقد قال متَّى في إنجيله: "إن المسيح حين دخل أورشليم وارتجّت المدينة لدخوله، قال الناس: هذا يسوع النبي الذي من ناصرة الجليل"2. وقال لوقا في/ (1/140/أ) إنجيله. "صحب يسوع بعد قيامه رجلين، وهما يتحدثان في أمره، فقال لهما: من تذكران؟ فقالا: يسوع الناصري كان رجلاً نبيّاً قويّاً بالأعمال"3. فأقرّهما ولم ينكر عليهما. وقال لوقا: "لما أحيا يسوع المسيح ابن الأرملة وسلّمه إلى أمه، قال الناس: لقد قام فينا نبيّ كريم، وتعاهد الله شعبه بصلاح، فذاع ذلك في اليهودية"4. ولم ينكره عليه السلام. وقال بوحنا في إنجيله: "كان الناس إذا سمعوا كلام المسيح ورأوا وجهه قالوا: هذا النّبيّ حقّاً"5. وقال لوقا: "قال الفريسيون ليسوع: اخرج من هاهنا، فإن هيرودس يريد قتلك، فقال: امضوا وقولوا له إني أقيم هاهنا اليوم
[وغداً] 1 وفي اليوم الثالث أكمل لأنه لا يهلك نبي خارجاً عن أورشليم"2. وقال يوحنا حبيب المسيح: "إن المسيح لما أطعم من حوتين وخمس خبزات جماً عظيماً، قال الناس: حقّاً إنّ هذا لهو النّبيّ الآتي إلى العالم"3. فإن صدّق النصارى أقواله وأقوال تلاميذه فقد اعترفوا بعبوديته ونبوته، وإن ردوا أقواله كفروا به جملة، وساووا في ذلك سائر الكفار/ (1/140/ب) . المسألة السابعة من العشر المفحمات: إن نسأل النصارى عن يسوع المسيح، هذا الذي يتّخذونه إلهاً مع الله، هل كان آدم ونوح وإبراهيم وموسى وهارون وأهل مللهم في زمانهم يعرفونه أم لا؟. فإن زعموا أنهم ما كانوا يعرفونه فقد أزروا على من ذكرنا من أنبياء الله وأهل صفوته وشهدوا عليهم بالكفر الصريح، إذ كانوا لا يعرفون ربّهم يسوع المسيح الذي لا يصحّ التوحيد دون معرفته. وإن قالوا: إنهم كانوا عارفين به أنه هو ربّهم وخالقهم، أكذبتهم كبتهم ونبواتهم، إذ ليس فيها شيء من هذا القبيل، وأزروا على المسيح وعلى تلاميذه وخطوؤهم في أقوالهم، إذ يخاطبون المسيح بلفظ العبودية والنبوة والرسالة كما تقدم في بابي عبوديته ونبوته. وكيف يكون المسيح ربّ موسى وإبراهيم ومَن ذكرنا وشمعون الصفا رئيس الحوريين يقول في رسالته إلى إخوانه: "اعلموا أن الله أرسل إليكم يسوع المسيح"4. ويقول: "اعلموا أن المسيح رجل جاءكم من الله بالقوة والأيد؟ "5.
فكيف يكون المسيح ربّاً وإلهاً والمعمداني يغسله / (1/141/أ) ويعمّده بالماء ويقول حين رآه: هذا الذي قلت لكم إنه يأتي بعدي وهو أقوى منّي؟!. وكيف يكون المسيح إلهاً لداود وغيره، وداود يقول في مزاميره: "إن المسيح يكون كاهناً مؤيّداً من الله يشبه "ملكي صادق"، خادم البيت المقدس؟! "1. وقد قال المسيح: إنه أفضل من يونس بن متّى2، وإنه أفضل من سليمان3. وقال فولس: إنه أفضل من موسى بن عمران4. فهذه الأقوال من المسيح ومن خيار أصحابه ومن بينا عليه من الأنبياء دليل على كذب النصارى. المسألة الثامنة من العشر المفحمات: إنا نسألهم عن آدم عليه السلام لما زلَّ وهفا، هل استرجع وتاب وأقلع وأناب أم لا؟ فإن زعموا أن آدم لم يتب، أكذبتهم الكتب التي بأيديهم، فإنها مصرحة بأنه حين أسف وندم لجأ إلى الله، وتاب الله عليه. وإن اعترفوا بتوبته - ولا بُدَّ لهم من ذلك - قيل لهم: فلا حاجة إذاً إلى قتل المسيح وصلبه إذ التوبة [تمحو] 5 الجريرة، ولا تدع على التائب صغيرة ولا كبيرة. فإن قالوا: إنه لا بُدَّ من قتل المسيح، فالتوبة لا أثر لها بل حال التائب بعد التوبة النصوح حاله قبل التوبة في ملابسة القبيح / (1/141/ب) .
فالقول بصحّة التوبة ينفي القول بالقتل والصلب، والقول بالقتل والصلب ينفي صحّة التوبة. المسألة التّاسعة من العشر المفحمات: إن نسأل النصارى هل يوصف الباري سبحانه بالجهل بالغيب أم لا؟ فإن وصفوه بذلك تجاهلوا، إذ التوراة والإنجيل وسائر كتب التَّنْزِيل تشهد بأنه تعالى عالم بالمغيبات، محيط بما تحت تخوم الأرضين إلى أعلى السموات، {أَلاَّ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِير} . [سورة تبارك، الآية: 14] . فإن قالوا: إنه لا يصلح مَن هذا حاله للربوبية تركوا ما يهتفون به من ربوبية المسيح إذ "سُئل عليه السلام عن القيامة وعن يومها فقال: لا أعرف يومها ولا ساعتها ولا يعرفها إلاّ الله وحده"1. و"قال لمريم ومرثا - أختي ألعازر حين مات - أين دفنتموه؟ "2. و"قال عليه السلام لرجل: منذ كم أصاب ابنك هذا المرض؟ "3. و"قصد شجرة تين ليصيب منها، فلم يجد بها ثمرة فدعا عليها"4. و"جاءته الكنعانية مؤمنة به، فلم يعلم بإيمانها"5. فهذا مصرح بأن المسيح عليه السلام لا يعلم إلاّ ما علمه الله ربّه وإلهه، وفي ذلك تكذيب لقولهم في الأمانة التي لهم / (1/142/أ) إذ يقولون: "إن المسيح إله حقّ وإنه خالق كلّ شيء، وإنه بيديه أتقنت العوالم، فإن كانت الأمانة صحيحة فقد كذب الإنجيل، وإن كان الإنجيل صحيحاً فقد كفر من عقد لهم هذه الأمانة، التي هي في الحقيقة فساد الأمانة.
المسألة العشرة من المفحمات: إنا نسأل النصارى، هل كان الباري تعالى يوصف بالقدرة على خلاص آدم وذريته، دون قتل المسيح وصلبه والتنكيل به أم لا؟ فإن قالوا: لا يقدر على ذلك، جعلوا الله مضطراً مدفوعاً إلى قتل المسيح، عاجزاً عن خلاص عباده إلاّ بذلك، وأكذبتهم التوراة والإنجيل وسائر كتب التَّنْزِيل، إذ يقول: "إن الله خلق العالم بما فهي، وفعل من ذلك ما شاء وأراد: {لاَ يُسْأَل عَمَّا يَفْعَلُ وَهُم يُسْأَلُون} . [سورة الأنبياء، الآية: 23] . وإن وصفوا الباري بالقدرة على ذلك جَوَّروه ونسبوه إلى الحيف على المسيح، وذلك يفسد عليهم القول بالتحسين والتقبيح. دعوى للنصارى في ما يرومونه من قتل المسيح وصلبه: زعموا بأجمعهم أن آدم لما تخطى ما أُمر به وزلّ استحقّ العقاب، فلما توجه عليه العتاب أشفق من ذنبه وتقطع / (1/142/ب) أسفاً على مخالفة ربّه، فرحمه الله ولطف له وفداه بابنه المسيح، فكان كلّ ما نزل بالمسيح من ضربٍ وإذلالٍ وصلبٍ وموتٍ إنما هو فداء وقضاء عن آدم، فضرب عوضاً من رفاهية آدم، وأهين بدلاً من عزّه الذي أمله بالخلود في الجنة، وصلب على خشبة لتناوله الشجرة، وسُمِّرت يداه لامتداد يد آدم إلى الثمرة، وسقي المرَّ والخل عند عطشه لاستطعام آدم حلاوة ما أكله، ومات بدلاً عن موت المعصية الذي كان آدم يتوقعه لولا قتل المسيح، فاقتضت حكمة الله الأزلي أن لا يعذب عبده آدم لوجود التوبة النصوح الصادرة منه، وأن لا يُهمل مجاناً فيقع الخُلف في خبره، وذلك رحمة من الله ولطف لآدم وبنيه وإظهار الشرف للمسيح، إذ جعله كبش قربان العالم
بأسره فصبر المسيح ولم ينازع، واستسلم ولم يدافع، فهذه هي الحكمة في قتل المسيح وصلبه1. والجواب أن نقول: أليس قد وافقتم على أن آدم لما ورد عليه العتاب استرجع وتاب وأقلع وأناب؟ وإذا كان الأمر كذلك فأيّ شيء / (1/143/أ) أنفت التوبة من ذنبه حتّى يقتل المسيح فِدَاءَ عنه؟!. والتائب من الذنب كمن لا ذنب له فصار قتل المسيح عبثاً، والرّبّ يتعالى ويتقدّس عن العبث، وليس قوله تعالى لآدم نصاً، بل هو ظاهر يدخله النسخ والتخصيص والدليل عليه أنه لو وصله بالكلام وقال: إن عصيتني عذّبتك إلاّ أن تتوب، لقبله الكلام ولم ينب عنه، ولعُدَّ كلاماً حسناً، وإنما ترك الزيادة فلم يصلها بالكلام ليكون أدعى إلى الانكفاف، وهكذا كلّ ظاهر فإنه يرد مطلقاً بلفظ يوهم التأبيد ثم يجيئ الناسخ والمخصّص فيبيّن أن المطلوب وقتاً
قد انقضى ومضى وأنه ليس مسترسلاً أبداً، فهو سبحانه توعد آدم إلاّ أن يتوب وقد تاب، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، فلا معنى بعد ذلك لقتل المسيح. ثم نقول لهم: أخبرونا عن هذا القضاء الذي تدّعونه، أليس هو استدراك مصلحة الأداء، وهو أن يأتي القاضي بمثل ما فَوَّت؟!. فإذا قالوا: نعم. قلنا: فالذي فَوَّته آدم هو الانكفاف عن الأكل، وقد قضاه المسيح بصومه ووصاله أربعين يوماً / (1/143/ب) بلياليها كما حكيتم عنه في الإنجيل، وفي ذلك قضاء لما ضيّعه آدم؛ لأنه من جنس الأداء المفَوَّت فلا حاجة إلى قتل المسيح إذ هو خارج عن جنس الأداء المضيَّع. فإن قالوا: إن آدم وجب عليه موت المعصية، وهو: الخلود في النيران أبداً وهو أعظم الموتتين، فجاء موت المسيح قضاء عن ذلك الموت فصار من جنسه. فنقول: هذا باطل؛ لأنه لو كان موت المسيح من جنس موت آدم لكان المسيح قد أماته الله موت الخطيئة، فكان يكون مخلداً في دركات النار بدلاً عن آدم، فأما إذ مات موت الطبيعة - ينقضي عن صاحبه وشيكاً - فكيف جعلتم موتاً لا بقاء له مكافئاً لموت لا انتهاء له؟!!. فبطل ما عوَّلتم عليه، وإذا بطلت دعواكم بطل قتل المسيح إذ صار ساذجاً عن المعنى، فارغاً من الفائدة والرّبّ يتعالى عن العبث. ثم نقول لهم: أليس ولد الصُّلب أولى من ولد الابن، وولد البنت في الميراث وكثير من الأحكام، فما الذي أصار المسيح على بُعْدِه/ (1/144/أ) أحق من شيث1 ومن
في درجته بهذا الفداء والقضاء؟ فإن قالوا: المسيح هو ابن الله ولم يصلح لفداء الخلائق وخلاص الأمم سواه. قلنا: ليس من العدل أن يجني ابن آدم فَيُقْتَل ابن الله في جنايته. ثم نقول: أليس إسرائيل عندكم في التوراة هو بكر الله، والبِكْرُ أولى وأفضل عند أبيه من غير البكر، فهلا فداه به ولم يدع الناس في العذاب إلى حين مجيء المسيح؟!. ثم نقول: إن المسيح عند طائفة منكم1 هو الله الأزلي، وعند أخرى2 هو ابن الله، فكيف يستقيم أن يقتل الله نفسه أو ابنه بدلاً عن عبده؟!. و {الله يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوتِهَا} . [سورة الزمر، الآية: 42] . فكيف يتوفّى نفسه، فيتّحد القاتل والقتيل فيكون قاتلاً قتيلاً؟!. ثم نقول: أرأيتم لو أنّ رجلاً أمر عبده بأمر فخالفه فغضب عليه وتوعده فخافه العبد وأشفق من عقوبته وراجع خدمته وشمّر في مرضاته فعطف عليه مولاه فرحمه، ثم عمد إلى ولد نفسه فقتله وصلبه على أعلى جذع، ثم التفت إلى عبده فقال: هذا فداؤك، أكنتم تعدونه حكيماً؟!. ثم نقول: ألستم عبتم قول ربّنا جلّ اسمه: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكَِن شُبِّهَ لَهُم} . [سورة النساء، الآية: 157] . وزعتم أن ذلك ظلم وحيف لا يليق بالحكمة؟ فكيف نسيتم نفوسكم هاهنا؟! وجوَّزتم أن يقتل الله المسيح ويصلبه وينكل به فداء عن آدم، ولم تجعلوا ذلك ظلماً وحيفاً؟! والجور لا يجوز على الولد كما لا يجوز على العبد والأجنبي.
ثم نقول: أليس يجب أن يكون القضاء متصوراً بصورة الأداء - هو أن يأتي القاضي بمثل ما فات - والمسيح عندكم ليس مثل آدم؛ لأن آدم إنسان محض والمسيح ليس محضاً بل قلتم إنه عبارة عن لاهوت وناسوت اتّحدا، وإذا كان الأمر كذلك فليس في قتله ما يقضي عن آدم. فإن قالوا: هذا بمثابة مَن عليه درهم، فقضى درهماً وديناراً، فإن ذلك يُعَدُّ من حسن القضاء. قلنا: هذا خطأ في التمثيل. بل ذلك بمثابة مَنْ عليه صوم فقضاه بصلاة أو زكاة لا يكون قضاء، وإذا كان المسيح ليس إنساناً محضاً، فكيف يكون مكائفاً لإنسان / (1/145/أ) محض وآدم صرف؟!. ثم نقول: بم تنكرون على من يزعم أن الذي فُدِي به آدم إنما هو هابيل ابنه لصُلبه فإنه استسلم للقتل فحصلت له الشهادة ولأبيه الفداء؟!. وهذا أولى لوجهين: أحدهما: أنه من جوهر أبيه آدم، فهو إنسان حقّ من إنسان حقّ من جوهر آدم، فأما المسيح فهو عندكم إله حقّ من إله حقّ من جوهر الله كما عقدتم في أمانتكم. والوجه الثاني: أن في الفداء بهابيل المبادرة إلى خلاص الخلائق من الجحيم، وفي الفداء بالمسيح بقاء آدم وذريته في العذاب خمسة آلاف سنة1.
وكان الفداء (بهابيل) أولى ولاسيما على أصلكم، فإنكم توجبون على الله تعالى رعاية الأصلح لعباده، وليس من الصلاح فضلاً عن الأصلح أن يعاقب الله عبيده آلافاً من السنن وله مندوحة عن ذلك. ثم نقول: ألستم رويتم عن توراتكم أن الله كان قد فدى ولد عبده إبراهيم بذبح عظيم؟! فإذا قالوا: بلى. قلنا لهم: أفكان ولد عبده أزكى لديه وأعزّ عليه من ولده المسيح / (1/145/ب) أم تقولون: إنه أعوزته الغنم فلم يقدر على رأس يذبحها ويريح العالم من الفتنة؟! وقد رويتم لنا ما يدل على أن الباري سبحانه صان المسيح عن شرّ أعدائه، وحماه من القتل والإهانة التي ذكرتم في التوراة: "إن الله تقدم إلى إبراهيم بذبح ولده، فلما عزما على امتثال أمر الله لطف الله لهما وفدى الولد"1. وتعقب ذلك الأمر الحزم والحكم الحتم رحمة لعبده، وإذا كان ذلك جائزاً في حكمه فلعل الله تعالى قد أمر المسيح في حقّ نفسه بما أمر به إبراهيم في حقّ ولده فاستسلم المسيح وانتهى إلى ما أمره الله به وصار يخبر بذلك تلاميذه كما كان إبراهيم يخبر به ولده.
ثم لما صحّ عزم المسيح على تجرع الكأس الذي أُمِرَ به لَطُفَ الله له ورحمه وفداه برجل قد حضر أجله، فإن عناية الله بالمسيح لا تتقاصر عن عنايته بولد عبده إبراهيم. وقد حكيتم لنا: "أن [حزقيا] 1 ملك يهوذا مرض، فأوحى الله إلى أشعيا عليه السلام أن قل لحزقيا يوصي فإنه ميت من علته هذه / (1/146/أ) فدخل إليه أشعيا عليه السلام وأخبره بوحي الله، فاستقبل [حزقيا] الجدار وبكى وتضرع إلى الله تعالى، فنزل الوحي على أشعيا قبل خروجه من الدار وقال: قل [لحزقيا] إنك تعافى من علتك هذه، وتنزل إلى الهيكل بعد ثلاثة أيام، وقد زيد في عمرك خمس عشرة سنة"2. وإذا كان هذا وشبهه غير مستحيل عند النصارى، فما الذي أحاله في حقّ المسيح، وقد تضرع إلى الله غير مرّة في صرف كأس المنية عنه كما شهد به الإنجيل؟ والمسيح لا ترد له عندهم دعوة، فلعل الله تعالى قد أجاب دعاءه ورحم نداءه وحال بين اليهود وبين ما أرادوا منه. ثم نقول لهم: وبم تنكرون على من يرى أن الله تعالى تاب على عبده آدم، وعافا نبيّه المسيح وفداه بكافر عَجَّله3 إلى النار. أو بمؤمن عجله إلى الجنة؟! 4. فأي شيء تنكرونه من ذلك؟! وقد بينا فيما تقدم وقوع الشبه وسؤال رئيس الكهنة للشبه: أأنت المسيح؟ وتورية الشبه في الجواب، وأنه لو كان هو المسيح نفسه لما / (1/146/ب) استعمل الحيدة مع استغنائه عن ذلك.
ويقال للنصارى: ما تقولون في أحدنا اليوم إذا عصى ربّه وارتكب إثماً واحتقب1 وزراً، أتجزيه التوبة أم لا بدّ أن يقتل ويصلب؟ فإن قلتم: تجزيه التوبة، فمن أصاره بهذا التخفيف أولى من صفي الله آدم؟! إذ قلتم: لا بدّ مع توبته من قتل المسيح لأجله. وإن قلتم: لا تجزيه التوبة، أكذبتم فولس الرسول، حيث يقول في صدر كتابه: "أنراك تقدر على الهرب من عقوبة الله الذي أنه مجتر عليه، أو لا تعلم أن إمهال الله لك إنما هو ليقبل بك إلى التوبة؟ "2. قد صرح فولس في هذا الكلام أن التوبة مجزئة ومخلصة فلا حاجة إلى قتل وصلب. ويقال للنصارى: ألستم تعلمون أن الله إنما فدى آدم بالمسيح رحمة لآدم وامتناناً عليه، فقتل المسيح بدلاً من الموت الذي وجب على آدم؟! فإذا قالوا: بلى. قيل لهم: أليس ناسوت الميسح [إنساناً] 3 من بنى آدم يحس ويألم ويفرح ويغتم؟!. فإذا قالوا: بلى. قيل لهم: فكيف فدى آدم ببعض آدم، فقد صارت النعمة مشوبة بالكدر والنفع الحاصل / (1/147/أ) مشوشاً بالضرر؟! فإن قالوا: هذا بمثابة المال يشرف على الهلاك، [فتقتضي] 4 الحكمة إتلاف بعضه لصون بقيته. فنقول: إنما ذلك لعسر الأمر على المالك، إذ هو مدفوع، إما لهلاك الكل أو البعض، فكأنه كالمكره المحمول على ذلك، والله سبحانه لا مستكره له وليس مضطراً محمولاً ولا يفعل ما يفعله لعلة، فلو عفا عن أجرم عبيده وأحسن إليه لم يعد ذلك منه إلاّ حسناً ولم ينقص الإحسان [خزائنه] 5، ولو عاقب
أطوع الناس لم يقبح ذلك منه1، وقد أخبرت التوراة أن الله تعالى عفا عن
السامري مع عظم جرمه1، وأهلك بلعام بن بعور مع سابق معرفته2، {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُم يُسْأَلُون} . [سورة الأنبياء، الآية: 23] . ويقال لمن زعم خطيئة آدم قد عمّت سائر أولاده، وأنه لا يطهرهم من خطاياهم إلاّ قتل المسيح: فالتوراة والنبوات ترد هذه المقالة الشوهاء؛ وذلك أن التوراة تقول في السفر الأوّل - وهو الذي يعرف بسفر الخليقة ت لقابيل الذي قتل هابيلاً، وردّ الله عليه قربانه ولم يتقبله / (1/147/ب) : "إنك إن أحسنت تقبلت منك، وإن لم تحسن فإن الخطية رابضة ببابك"3. وإذا كان الأمر كذلك فقد صار إحسان المحسن من بني آدم مطهراً له ومخلصاً، فلا حاجة إلى شيء آخر. وقال الله تعالى في السفر الأوّل من التوراة: "إني سأجزي هابيل عن الواحد سبعة"4. وفي ذلك مندوحة عن التطهير بقتل وصلب، إذ الجزاء طهرة وزيادة. وقد قال الله تعالى في بعض النبوات: "لا آخذ الولد بخطية والده ولا الوالد بخطية ولده، طهارة الطاهر له تكون، وخطية الخاطئ عليه تكون"5. وذلك موافق لقول ربنا جلّ اسمه: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} . [سورة الأنعام، الآية: 164] .
وقد قال الله في المزمور الرابع:"يا بني البشر حتى متى أنتم [ثقيلوا] 1 القلوب؟! لماذا تهون الباطل وتتبعون الكذب؟! اغضبوا ولا تأثموا، والذي تهمون به في قلوبكم اندموا عليه في مضاجعكم، اذبحوا الله ذبيحة البر وتوكلوا على الرّبّ"2. فهذا المزمور من مزامير داود يقول: إنه لا حاجة إلى قتل المسيح، / (1/148/أ) إذ كان الندم والتوكل على الرّبّ تعالى فيه مندوحة عن ذلك. وقال الله تعالى في المزمور الأوّل: "طوبى لمن لم يتبع سبيل المنافقين، ولم يقف في طريق الخاطئين، ولم يجالس المستهزئين، لكن في ناموس الرّبّ يدرس الليل والنهار"3. فقد أخبر الله تعالى على لسان داود عليه السلام أن الاشتغال بأسباب الخير ومفارقة أهل الشّرّ مخلص فلا حاجة إلى الخلاص بقتل المسيح وصلبه. وقال فولس - خطيب النصارى ومتكلمهم -: "أو لا تعلم أن إمهال الله لك إنما هو ليقبل بك إلى التوبة؟ "4. فإن كان لا بدّ من قتل المسيح لضرورة خلاصهم فلا معنى لتوبة الله على عبده. والدليل على أن التوبة ماحية للخطيئة، قول الإنجيل: "إنه لما أُسْلِم المعمداني للقتل خرج يسوع إلى الجليل، وجعل ينادي ويقول: قد كمل الزمان واقتربت ملكوت الله، فتوبوا وآمنوا بالبشرى"5. فقد شهد المسيح عليه السلام في هذا الكلام بأن التوبة تستقل بمحو الآثام فلا حلاجة / (1/148/ب) إلى محوها بأمر آخر.
ويقال للنصارى: ما تقولون فيمن اخترم قبل مجيء المسيح، أكفاراً كانوا أم مؤمنين؟ فإن قالوا: مؤمنين، فقد سَلَّموا أنه لا حاجة إلى قتل المسيح في تخليصهم، إذ إيمانهم هو الذي خلصهم. وإن قالوا: بل كانوا كفاراً، أكذبهم المسيح إذ يقول في الإنجيل: "إني لم أرسل إلاّ إلى الذين ضلّوا من بيت إسرائيل، وإن الأصحاء لا يحتاجون إلى الدواء"1. ثم نقول لهم: ألستم تزعمون أن المسيح إنما تجشَّم ونزل من السماء لخلاص معشر الناس كما عقدتم في الأمانة التي لكم؟! فإذا قالوا: بلى. قلنا لهم: فما قولكم فيمن مات قبل نزوله عليه السلام؟!. وكيف الطريق إلى بلوغ دعوته إليهم؟!. فإن قالوا: تعذّر تلافي أمره وفات استدراكه بموته. قلنا لهم: جوَّزتم المسيح ونسبتموه إلى الظلم والحيف حيث لم ينْزل لخلاصهم قبل موتهم، فلِمَ أخَّر ذلك حتى اخترموا على الكفر والضلال؟! وكيف صار الأحياء أحقّ برحمة المسيح عندكم من الأموات؟ وفي هذه المقالة / (1/149/أ) هدم أصلكم في التحسين والتقبيح، وإن تحامقوا وقالوا: إن المسيح لما جاء دعا الأحياء وهو حيّ، ثم مات فدعا الأموات في أجداثهم، فمن أجابه نجى ومن أبى هلك ... ، فنقول: أدعاهم في أجداثهم وهو حيّ أم دعاهم وهو ميّت؟!. فإن قالوا: دعاهم وهو ميّت، سقطت مكالمتهم لتبيّن جنونهم. فإن قالوا: دعاهم وهو حيّ، نقضوا قولهم أنه مات فدعا الأموات. ثم يقال لهم: هب أنا ساعدناكم على هذا المحال، فهل لما أتى الأموات دعا المؤمنين والكفار أو اقتصر على دعاء المؤمنين فقط؟!
متفرقون فدعاهم، فما نرى الناسوت على مقتضى ذلك إلاّ أعم إحاطة من اللاهوت، وما نرى هذا اللاهوت الذي كان متّحداً بالجسد إلاّ قد حبسه عن خير كثير، إذ عطله عن الانبعاث ونشر الدعوة، فسحقاً لإله حيّ أنهض منه جسد ميّت. ثم يقال للنصارى: إذا قلتم: إن ربّكم المسيح قد مات ثم عاش، فَمن الذي أحياه بعد إماتته؟!. فإن قالوا: هو أحيا نفسه، فنقول لهم: هل أحياها وهو حيّ أو أحياها وهو ميّت، والقسمان باطلان على ما لا يخفى. وإن قالوا: بل أحياه غيره وهو الذي أماته، قلنا لهم: فذلك الغير الذي تولى موته وحياته أحيّ هو أم ميّت؟ فإن قالوا: [ميّت] 1، كان ذلك محالاً إذ الميّت لا يحيى ولا يميت. وإن قالوا: إنه حيّ قادر أمات المسيح، ثم / (1/150/ب) أحياه. قلنا: فقد اعترفتم بأن المسيح عبد من عبيد الله تعالى، تجري عليه أحكامه من الموت والإحياء، وفي ذلك بطلان شريعة إيمانكم، إذ تقولون فيها: إن المسيح إله حقّ خالق، غير مخلوق، وإنه أتقن العوالم وخلق كلّ شيء بيده. ثم يقال لهم: أخبرونا هل إماتة المسيح ممن أَماتَه وأعدمه فضل وحكمة أم سفه وعبث؟!. فإن قالوا: [فضل] 2 وحكمة، فقد أثنوا على اليهود؛ لأنهم ساعدوا على حصول الفضل والحكمة، ومدحوا يهوذا الإسخريوطي؛ لأنه فاز بالدلالة وأعان على حصول هذا الفضل والحكمة.
وإن قالوا: إن إماتة المسيح سفه وعبث. فقد نسبوا الرّبّ الأزلي إلى السفه والعبث، ويتعالى عن ذلك. وإن قالوا: إن إماتته فضل وحكمة، ولكن لَعْن اليهود ويهوذا متعيّن؛ لأن ذلك كَسْبُهم وإن وافقوا الفضل والحكمة وصادفوا ذلك مصادفة. قلنا لهم: أزريتم على المسيح غاية الإزراء، إذ زعمتم أنه قال على الصليب: "إلهي إلَهي كيف تركتني وخذلتني؟ "1. وقال أيضاً: "إن كان يحسن / (1/151/أ) صرف هذا الكأس عني فاصرفها"2. فلزم بمقتضى قولكم أنه قد تطير بهذا الفضل والحكمة، والتمس البقيا وترك هذا الفضل، وذلك فيما زعمتم سفه يناقض الحكمة. ثم يقال لهم: أخبرونا لو لم يتب آدم ولقي الله بخطيئته، هل كان قتل المسيح يستقل بخلاصه؟!. فإن قالوا: لا. أحالوا الخلاص إلى التوبة دون قتل المسيح. وإن قالوا: نعم في دم المسيح وفاء بالخلاص. وإن لم يتب آدم [وبنوه] 3، أخلوا التوبة عن الفائدة، ولزم أن يكون كل فاجر وقاتل وظالم خلصوا، فإن التزموا ذلك قيل لهم: فيهوذا الإسخريوطي وفرعون ونمرود وأشباهم قد خلصوا أيضاً، وليس في النصارى من يتجاسر على البوح بذلك، وهو لازم لهم على مقتضى قولهم هذا. فإن قالوا: بل الخلاص بمجموع الأمرين بالتوبة ودم المسيح. قلنا: كأنكم لا ترون دم المسيح مكافئاً لآدم ما لم تنضم إليه التوبة، وهذا تصريح منكم
بنقصه عن مقابلة آدم وعجزه عن خلاصه لولا التوبة، ولعمري إن من عجز عن خلاص عبدٍ واحدٍ أنه عن خلاص / (1/151/ب) سائر الخلائق أعجز. ويقال لمن زعم أنّ الخلائق لا يخرجهم من خطاياهم ويخلصهم من ذنوبهم إلاّ قتل المسيح: أليس قد رويتم عنه في الإنجيل قوله: "إذا كان في القيامة أقمت الصالحين عن يميني والظالمين عن شمالي، وأقول لأهل اليمين فعلتم بيَ كذا فاذهبوا إلى النعيم. وأقول لأهل الشمال: فعلتم بيَ كذا فاذهبوا إلى الجحيم"1. وإذا كان ذلك صحيحاً فإحسان المحسن هو الذي اقتضى خلاصه، لا ما ادعيتم من قتل المسيح، ومما يؤيد ما قلناه قول مرقس في خاتمة إنجيله: "إن المسيح حين ودع تلاميذه صاعداً إلى السماء، قال لهم: كرِّزوا بالإنجيل في الخليقة كلها، فمن آمن خلص، ومن لا يؤمن فإنه يدان"2. وإذا كان إيمان3 الإنسان هو يخلصه بشهادة المسيح فلا حاجة إلى الخلاص بقتل ولا صلب، وقال لوقا أيضاً: "إن امرأة صبت على رجلي المسيح دهناً كثيراً له قدر كبير، وبكت حتى بلت قدميه بدموعها، فقال لها: اذهبي إيمانك خلصك"4. ويقال للنصارى: أخبرونا / (1/152/أ) لو لم يقتل المسيح فداء وقضاء عن آدم، ومات حتف أنفه ما كان يكون حال آدم؟!. فإن قالوا: يعذب على خطيئته. قيل لهم: فلا معنى لقبول توبته إذاً. وإذا قالوا: لا يعذب. قيل لهم: فقتل المسيح وقع عبثاً.
ويقال لهم: أخبرونا عن قول الله تعالى في التوراة لآدم: "إنك في اليوم الذي تأكل من الشجرة تموت موتاً"1. ما أراد الله سبحانه بهذا الموت؟ أموت المعصية أم موت الطبيعة؟. فإن قالوا: موت المعصية. قلنا لهم: فقد أحيته التوبة. وإن قالوا: موت الطبيعة، أكذبتهم التوراة والكتب القديمة؛ إذا صرحت بأن آدم بعد ملابسة الزلة عاش دهراً حتّى رزق الأولاد ورأى فيهم البَر والفاجر2، فقد لزمهم خلو قتل المسيح عن الفائدة. ويقال لهم: أخبرونا هل كان المسيح في الثلاثين سنة قبل الدعوة يسمى ابناً ومسيحاً أم لا؟ فإن زعموا أنه كان يسمى بذلك، أكذبتهم أقوال التلاميذ في الإنجيل، إذ قالوا: "إنه في طول هذه المدّة لم يعرف إلاّ بابن داود3 وابن يوسف"4. وإن قالوا: لم يسم ابناً إلاّ بعد التعميد، فقد اعترفوا بأن المسيح ليس مسيحاً / (1/152/ب) وابناً حقيقة، وإنما هو مسيح بالتسمية لا غير، وفي ذلك تسوية له بيعقوب وداود، وكلّ من مُسِح من أولاد هارون وسُمِّي بهذا الاسم، وعند ذلك لا نشاححهم في مجرد التسمية إذا صحّ إطلاقها على الصلحاء من بني إسرائيل، وتحقق أن فداء آدم من خطيئته برجل صالح من ذريته قد شرفه الله بأن سماه ابناً ومسيحاً كما شرف عبده إسرائيل وغيره.
ويقال لهم: هل كان خلاص آدم من غير أن ينال المسيح سوء ممكن في قدرة الله أم كان عاجزاً عن ذلك؟!. فإن قالوا: لا يمكن ذلك، جعلوا الله سبحانه مضطراً مدفوعاً عاجزاً عن سلامة عباده وصونهم عن المحن والبلايا، والتوراة والكتب تكذبهم إذ هي شاهدة بقدرة الله على كلّ ممكن. وإن قالوا: إنه كان قادراً على ذلك، جوّروا الله وحيِّفوه ونسبوه إلى الظلم؛ إذ عذب آدم أو قتل المسيح وهو قادر على سلامته وكفايته، وذلك يشوش عليهم القول بالتحسين والقبيح. قال المؤلِّف: إنما طوّلنا النفس في هذا الباب هدماً لقاعدتهم / (1/153/أ) في القتل والصلب. وهي قطب كفرهم1. والله أعلم.
الباب السادس: في الأجوبة المسعدة عن أسئلة الملحدة
الباب السّادس: في الأجوبة المسعدة عن أسئلة الملحدة نسطر أسئلة عبثوا بالسؤال عنها، ونشفعها بالجواب، لينتفع بذلك من أحبّ مكالمتهم: 1- سؤال: قال النصارى: قد علمتم معاشر المسلمين أن اليهود والنصارى يزيد عددهم على عدد التواتر أضعافاً مضاعفة، وها هم ينقلون ويخبرون أن المسيح قد قُتل وصُلب على رابية من روابي البيت المقدس، وخبر التواتر يفيد العلم ويُوجب القطع، فكيف ينفي كتابكم ما أثبته التواتر؟! وما ذلك إلاّ بمثابة من ينفي وجود بغداد وغيرها مما عُلم بالضرورة. والجواب: هو أنّا نقول: مَن سَلَّم لكم أن الذين شاهدوا والقتل وشهدوا به بلغوا حدّ التواتر، كلاَّ. لم يكونوا بهذه الصفة، وبيانه أن الذين حضروا القتل والصلب إنما كانوا شرذمة من اليهود، فأما أصحاب المسيح فلم يحضر منهم أحد البتة كما قدمنا1. وإذا كان المخبرون آحاداً / (1/153/ب) وأفراداً فلا تواتر، إذ التواتر شرطه أن يستوي فيه الطرفان والواسطة. وإذا كان الحاضرون للقتل لم يوصفوا بهذه الصفة فكثرة من جاء بعدهم إنما أخبر عنهم، فلا جرم قُدِّم تواتر الكتاب العزيز على خبرهم. فهذا وجه.
والوجه الثاني: أَنَّا لو قَدَّرنا أنهم بلغوا حدّ التواتر - غير أن التواتر إنما أثبت قتلاً وصلباً لا غير - فلا جرم أن القرآن الكريم لم يَنْفِه، ولكن القرآن إنما نفى أن يكون المفعول به ذلك المسيح نفسه، وأعلمنا أنه كان قد شُبِّه لهم. وهذا القدر لو عُرِض على الذين شاهدوا الصلب وقيل لهم: أتجوِّزون أن يكون هذا الذي قد أُحْضر للقتل ليس هو المسيح، ولكنه رجل قد ألقى الله شبهه عليه أو خلقه الله ابتداء يُشبه المسيح؟! فإنا نعلم أنهم كانوا يجوّزون ذلك ولا يحيلونه؛ لأن تغيير الأشباه والأشكال جائز في مقدور الله تعالى، وإنما يمتنع ذلك في زمان لا تخرق فيه العوائد، وقد كان في زمان المسيح خوارق [لا يخفى] 1 / (1/154/أ) أمرها، فلا يمتنع أن يكون الله سبحانه قد خرق العادة بإلقاء شبه المسيح على غيره، أو أتاح لهم شخصاً يشبهه، كما خرق العادة فقلب النار برداً وسلاماً على إبراهيم الخليل وعلى الفتية في زمن دانيال عليه السلام، وكما حوَّل لون يد موسى عن لونها الأوّل، وغَيَّر جوهر الماء إلى الخمر والزيت للأنبياء - عليهم السلام -. وإذا كان ذلك جائزاً، فالذين أخبروا أن المصلوبَ المسيحُ ليسوا على ثبت، فلم يوجب خبرهم عِلْماً، فلا جرم قُدِّم تواتر الكتاب العزيز عليهم، وإذا ثبت ذلك لم يقع التعارض بين الأدلة القطعية. فإن قيل: مَن هو الذي وقع عليه الشَّبه حتى التبس أمره على اليهود والنصارى واشتبه؟
قلنا: روى وهب1 بن منبه: أن المسيح حين أحاطت به اليهود في بيت كان فيه، صوَّر الله الجميع بصورة المسيح، فخرج واحد منهم وكانوا تسعة عشر رجلاً فأخوه وذهبوا ليلاً2، وكذلك روى مجاهد3. وقال ابن4إسحاق - عمَّن أسلم منهم -: "إن المسيح/ (1/154/ب) ، حين حصره اليهود قال: من يقبل صورتي فيقتل وله الجنة؟ فقال أحد من معه: أنا. فوقع عليه شبه المسيح. وصعد بالمسيح من ساعته إلى السماء، وأخذ الرجل فقتل صبيحة تلك الليلة"5. قاله من المفسرين: السُّدِّي6، وقتادة7، وابن8 جريج.
وقيل: "إن اليهود لما جاؤوا لأخذ المسيح هرب من كان معه من أصحابه وثبت معه رجل واحد يسمّى: جرجس، فألقى الله شبهه عليه، فأخذوه وذهبوا به ليلاً، وستر الله المسيح عن أعينهم، فعذبوا الرجل ليلاً، ثم قتلوه من صبيحة تلك الليلة"1. فلم يشكّ من كان ترك المسيح وهرب عنه أن المأخوذ هو المسيح، فلذلك أخبروا أن المسيح قد صلب. قال المؤلّف: قد روينا فيما تقدم من كتابنا هذا عن بطرس - صاحب المسيح - أن المسيح عليه السلام صعد إلى جبل الجليل في جماعة من أصحابه، فنظروا إلى وجهه وإذا هو قد تغيرت صورته، وابيضت ثيابه، وإذا موسى وإلياء قد نزلا إليه ومعهم سحابة تظلهم، وعند ذلك وقع على بطرس / (1/155/أ) وأصحاب المسيح النوم فناموا2، وذلك يحقّق قولنا في الشبه 3.
2- سؤال: قال النصارى: كيف يصحّ أن يكون المصلوب غير المسيح ثم يقترن بصلبه ظهور ما ظهر من الآيات من اسوداد الشمس وانشقاق حجاب الهيكل وقيام الأموات وغير ذلك، وكم قد قُتِلَ من الأنبياء والشهداء ولم يظهر عند مقتلهم شيء من هذا؟ قلنا: قد دللنا على كذب هذا النقل بعدم انتشاره في العالم واشتهاره بين طبقات بني آدم، وأنه لو كان صحيحاً لَدُوِّن في الكتب ونقله علماء العجم والعرب، فيحث لم ينقل ذلك دلّ على كذبه وافتعاله1. ثم لو قدرناه صدقاً وأمراً ثابتاً حقّاً لم يلزم منه أن يكون المصلوب هو المسيح بل لكونه من الحواريين الذين هم عندكم أفضل من الملائكة المقرّبين والأنبياء المرسلين، ثم ذلك الحواري أفضل الحواريين كلّهم لوجهين: أحدهما: لإيثاره المسيح بنفسه حتى فداه من القتل. والثاني: لإيثار المسيح إيّاه بشبهه، فقد صار له بذلك مزيّة أجبت أن تبكى عليه السماء والأرض ويتشوش العالم فيأخذ في النقص والنقض. / (1/155/ب) .
3- سؤال على النصارى: يقال: للنصارى: قد زعمتم أن المسيح هو إله العباد وخالقهم وبارؤهم ورازقهم وآمرهم وناهيهم ومدبِّرهم في جيمع أحوالهم وحافظهم إلى منتهى آجالهم، ثم زعمتم مع ذلك أن اليهود عدوا عليه فأخذوه قهراً وسحبوه قسراً بعد أن هرب واختفى، وإنما دَلَّ عليه بعض أصحابه، فلما ظفروا به أهانوا وبذلوه وما صانوه، ثم جعلوا على رأسه إكليلاً من الشكوك، وعبثوا به كما يعبث بأهل النوك، ثم رفعوه على جذع ضماناًواستسقى ماء فسقي خلاً هواناً، ثم ترك حتى ألصقت الشمس جسده بالصليب، ولم يكفن لولا تصدّق عليه بالكفن إنسان غريب، وبقي برهة تحت التراب تبكيه الأحباب والأتراب، فأخبرونا يا سخفاء العقول ومنتحلي هذا المحال المنقول-مَنِ الذي كان يقوم برزق الأنام والأنعام في تلك الأيام؟!. وكيف كان حال الوجود والإله في اللحود؟! ومَن الذي دَبَّر السماء والأرض وخلقه فيها بالبسط والقبض والرفع والخفض؟! وهل دُفنت الكلمة بدفنه وقُتلت بقتله أم خذلته/ (1/156/أ) وهربت مع تلاميذه؟ فإن كان قد دفنت بدفنه، فإن قبراً وسع الإله القديم لقبر عظيم، وإن كانت قد فَرَّت وأسلمته، فكيف تصحّ مفارقتها له بعد اتّحادها به؟! أين ذهب الاتّحاد وكيف بطل الامتزاج؟!. وما شأن هذا الإله المسكين - أسمله قومه لأعدائه وخذله سائر أودائه1؟. أين قولكم في الأمامنة: "إن المسيح أتقن العوالم بيدهوخلق كلّ شيء"؟ أين ما وصفتم عن الإنجيل أن العالم بالمسيح كُوِّن؟
وقولكم: إن الآب لا يدين أحداً، بل الابن هو الذي يدين الناس1، أترونه كان راضياً بما فعل به قادراً على الدفع عن نفسه؟ فإن كان راضياً، فالذي فُعِل به كفر، ومذهبكم يأبى ذلك، وكان ينبغي على سياق هذا أن تثبتوا على اليهود وتترحموا على يهوذا الأسخريوطي وتصلوا عليهم؛ فإنهم أعانوا على حصول رضاه وسارعوا إلى ما قدَّره وقضاه. وإن كان ذلك بغير رضاه فاطلبوا إلهاً سواه، فإن من عجز عن حماية خشاشة حتى تم عليه ما نسبتم له، كيف ترجون عنده نفعاً أو تؤملون / (1/156/ب) لديه دفعاً؟! وهذه نقيصة تقتضي تَنَقُّضُ من لصقت به. فإن قيل: إنما يكون ذلك نقيصة إذا كان المفعول به عاجزاً عن الامتناع والدفاع، فأما المسيح فلو شاء لامتنع من اليهود وأهلك من قصده بأذى من سائر الجنود، بل إنما أراد أن يستسلم ويبذل نفسه فداءً عن الناس لينقذهم من الخطيئة ويزيل عنهم درن الذنوب ويطهرهم من التبعات والحوب. فنقول: لا نسلم ما ذكرتم، إذ كتابكم شاهد عليه بأنه هرب واختفى واستتر من أعدائه مراراً واعتنى وتنقل من مكان إلى مكان، وبذل في طلب السلامة غاية الإمكان، إلى أن دلَّ عليه رجل من أصحابه فأخذ بغير اختياره وإيثاره. وهذا شيء لم نسمعه إلاّ منكم ومن كتابكم، وقد حكيتم أن آخر كلام سُمع منه: "إلَهي إلَهِي لِمَ تَركتني؟ ". مع تقدم قوله في دعائه: "إلهي إن كان يحسن صرف هذا اكأس فاصرفها عني". فبطل قولهم في هذا السؤال لو شاء لامتنع وفعل بأعدائه وصنع.
وأما قولهم: إنه أراد أن يستسلم ويبذل نفسه فداء عن الناس لينقذهم من الخطيئة والبأس، فهذا كلام من الكلام/ (1/157/أ) السخيف، وذلك أنه لا يخلو أن يفديهم بنفسه من عقاب نفسه أو عقاب غيره. فإن كان إنما فداهم من عقاب نفسه، فما حاجته أن يرذل نفسه في أمر هو يملكه وزمامه بيده؟ فهلا عفا عنهم وأعفا نفسه من القتل والإهانة! وإن كان إنما افتداهم من عقاب غيره فقد صار ضعيفاً عاجزاً لم يمكنه صلاح عباده إلاّ بأن يشفع لهم، ثم لا تقبل شفاعته حتى يبذل نفسه للصفع والإهانة والموت. والعجب أنه مع بذل نفسه لهذه المحن لم تقبل شفاته، ولم يحصل لهم الفداء الذي يدعون، هذا مع أن المشفوع إليه أبوه، أفلم يكن له عند أبيه من الجاه ما يُشَفِّعه في مطلوبه وهو معافى من هذه المحن بلا قتله وصلبه من غير إسعافه بمراده؟ ومثل هذا الفعل لا يصدر إلاّ من العدوّ المشاحن وأرباب الحقود والضغائن، ومما يتعجب منه أن هذا الرّبّ الذي تدعون بعد أن تعنَّى ونزل إلى الأرض وحَلَّ به ما وصفتم يبتغي بذلك خلاصكم، لم يحصل لكم خلاصاً ولا تَمَّ له مراد. لأنه إن كان أراد خلاصكم من محن الدنيا فها أنتم باقون على ما كنتم / (1/157/ب) عليه من طبائع البشر وتحمل الضرر ومعالجة الهرم والكبر ومضاجعة الأجداث والحُفر. وإن كان أراد خلاصكم من عهد التكاليف ليحط عنكم الآثام ويسقط الصلاة والصيام، فها أنتم دائبون على التكليف مخاطبون بالتصحيح والتوسيف، وإلاّ فكان ينبغي أن مَن زنا منكم وسرق وافترى وفسق لا يؤاخذ
بجريرة ولا يعاقب على صغيرة ولا كبيرة. وإن كان أراد خلاصكم من أهوال القيامة وأنكال يوم الطامة وما يتوجه على العباد عند قيام الأشهاد، أكذبكم الإنجيل إذ يقول فيه: "إني جامع الناس في القيامة عن يميني وشمالي، فأقول لأهل اليمين: فعلتم خيراً فاذهبوا إلى النعيم، وأقول لأهل الشمال: فعلتم شرّاً فاذهبوا إلى الجحيم"1. وإذا لم يحصل لكم بنزول المسيح خلاص من عقاب الدنيا ولا من عذاب الآخرة، فأين ترجون الخلاص الذي جاءكم لأجله وفعل بنفسه ما ذكرتم ثم لم يتم له مراد؟!. وإذ كان ذلك فاطلبوا الخلاص ممن هو بيديه ومُعَوِّل سائر الخلائق عليه وهو الذي لا إله سواه سبحانه وتعالى عما يشركون. 4 سؤال: (1/158/أ) قال النصارى: إنما استسلم المسيح ليعلمنا الصبر على الشدائد فتعظم أجورنا وتجزل مثوباتنا، والمتابعة بالحال أبلغ منها بالمقال. فنقول: فما بال أحدكم لا يجلس في بيته حتى يناله ما وصفتم غير منازع خصمه ولا مدافع عدّوه؟ وما بالكم تقيمون سوق الحروب وتبيحون الغصوب وتنصبون القتال وتسفكون الدماء من النساء والرجال؟ فما نرى التعليم أفادكم خيراً ولا منعكم شرّاً ولا أكسبكم عِلماً ولا أنالكم حِلماً، وصار ما وصفتم به ربكم من الإهانة خالياً عن الفائدة صفراً من الحكمة. وكيف يحسن منكم إيراد هذا السؤال مع قولكم عنه: إنه حين نزل به المكروه الذي وصفتم، قال: "إلَهي إن كان يمكن صرف هذا الكأس عني فاصرفه عني". وهذا القول منه إن صحّ عنه يكذبكم في قولكم: إنه استسلم وألقى بيديه لقصد تعليمكم وتقويمكم.
5- سbؤال: قال النصارى: إنما يكون القتل نقيصة لو أنه مضاف إلى لاهوت المسيح، ونحن لا نعتقد ذلك؛ وإنما القتل والضرب والصلب مضاف إلى ناسوت / (1/158/ب) المسيح دون لاهوته. فنقول: يمتنع ذلك على اليعقوبية1 منكم القائلين بأن المسيح قد صار بالاتّحاد طبيعة واحدة، إذا الطبيعة الواحدة لم يبق فيها ناسوت متميّز عن لاهوت حتى يخص بالقتل والإهانة بل قالوا: إنه صار شيئاً واحداً، والشيء الواحد لا يقال إنه مات ولم يمت، وقتل ولم يقتل، وأهين ولم يهن. وأما الروم2 وغيرهم القائلون بأن المسيح بعد الاتّحاد باق على طبيعتين، فيقال لهم: هل فارق اللاهوت ناسوته عند القتل والصلب؟ فإن زعموا أنه فارقه أبطلوا دين النصرانية جملة، إذ بطل الاتّحاد ولم يستحق المسيح الربوبية عندهم إلاّ بالاتّحاد، فإذا حكموا بأن الإله قد تجرد عن الإنسان وفارقه فقد بطلت ربوبية المسيح في ذلك الزمان. وإن قالوا: لم يفارقه، فقد التزموا ما ورد على اليعقوبية، وهو كون اللاهوت قتل بقتل الناسوت وأهين بإهانته. وإن فسروا الاتّحاد بالتَّدَرُع، وهو أن الإله جعله درعاً ومسكناً له وبيتاً3، ثم فارقه عند ورود ما ورد على الناسوت أبطلوا ألوهية المسيح في تيك الحال. وقلنا لهم: أليس / (1/159/أ) قد امتهن الناسوت وأهين وأرذل؟! وهذا القدر يكفي في إثبات النقيصة إذ لم يأنف لمحله وسكنه ودرعه أن تناله هذه النقائص، وإن الإنسان ليركب دابة ويلبس ثوباً فيصونه عن الأذى والقذى أن يناله.
ثم إن كان اللاهوت قادراً على دفع النقائص عن محله ومسكنه ثم لم يفعل فقد أساء مجاورته ورضي بدخول النقص على موضعه، وذلك بالنقص عليه في نفسه. وإن لم يكن قادراً، فذلك أبعد له عن عِزَّ الربوبية وأقرب إلى ذلّ العبودية. 6- سؤال: فإن قال النصارى: كيف يجوز إلقاء الشبه - وهو ضلال؟ - وإذا كان الله تعالى هو الذي أضل عباده فلا معنى لإرسال الرسل إليهم، بل يكون ظالماً للرسل إذا بعثهم إلى من يكذبهم أقوالهم ويَرُدُّ، وكيف يستقيم أن يرسل رسلاً يهون العباد من كُفْرٍ وهو الذي زينه لهم؟!. قلنا: الانفصال عن هذا السؤال في التوراة والإنجيل. أما التوراة فإنها مصرحة بأن الله قد قَسَّى قلب فرعون فلم يؤمن بموسى: "فقال الله فيها: يا موسى اذهب إلى فرعون/ (1/159/ب) وقل له: يقول لك إله بني إسرائيل: أرسل شعبي تتعبد لي، وأنا أُقَسِّي قلب فرعون فلا يرسلهم"1. وفي التوراة: "إن كلّ آية صنعها موسى بمصر قد صنع السحرة مثلها"2. وأما الإنجيل فقال: "قال يسوع: إني ذاهب إلى أورشليم لأقتل وأصلب، فقال له بطرس: حاشاك من هذا، فانتهره، وقال: إني جئت لهذا"3. فقد علم الكفر وأراده وتعنَّى بسببه، وقدر على كفّ اليهود وتركهم على كفرهم فلم يكففهم.
وقد قال يسوع في الإنجيل: "الويل لذلك الإنسان الذي يسلَّم ابن الإنسان خير له لو لم يولد"1. وإذا كان هذا جائزاً عند النصارى واليهود جميعاً2، فكيف يمنعونأن يصون الله نبيّه المسيح عن قوم يريدون قتله ويلقي شبهه على رجل آخر قد حضر أجله يجعله له جُنَّةً ويثيب ذلك الرجل عن صبره الجنّة؟!. على أَنَّا نقول: ليس في إلقاء الشبه ضلال كما زعم مورد السؤال، إذ ليس الإلقاء هو الذي بعثهم على القتل، بل ما جاؤوا إلى المسيح إلاّ وهم قد أجمعوا على الفتك به، وبهذا القصد كفروا، وإنماكان/ (1/160/أ) الإلقاء لتخليص المسيح من أيديهم، وهذا خلاص من الضلال لا إضلال. وإنما كان يكون تضليلاً لو كان الله أمرهم بقتل المسيح، ثم ألقى شبهه على آخر فقلتوه، وأما إذ نهوا عن القتل فخالفوا وجاروا ليقتلوا، فحال بينهم وبين المسيح. وإلقاء شبهه على غيره، أو أباح لهم من يشبهه في الصورة، فلا يقال لهذا القبيل تضليل.
ثم ولو قدَّرنا ذلك تضليلاً، فمذهب أهل الحقّ أن الله يفعل ما يريد ويضلّ من يشاء من العبيد، ولا ينسب إلى ظلم ولا جور إذ له بحقّ ملكه - وملك حقّه - أن يفعل ما أراد، فلا يجب عليه شيء ولا يتوجه لمخلوق عليه حقّ، وكلّ ما يفعل فهو حسن. وكل ما يوصله من خير فهو ابتداء فضل. وكلّ ما يبتلي به من ضرّ فهو قضاء عدل. وقد زَلَّ وهفا مَن أوجب على الله ثواب المحسنين أو عقاب المسيئين [إذ لا] 1 يجب على ربّ الأرباب ثواب أو عقاب2.
وقد شهد أهل الكتاب واعترفوا بأن الله تعالى هو الذي نفخ الروح في العجل حتى عبده بنو إسرائيل، وقد قال الله تعالى: {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ المَسِييحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} . [سورة المائدة، الآية: 17] . وعيسى / (1/160/ب) وأمه لا جُرْم لهما، فأخبر تعالى أنه لو أهلكهما لم يكن ممنوعاً من ذلك {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُم يُسْأَلُون} . [سورة الأنبياء، الآية: 23] . 7 سؤال: قال النصارى: شهد كتابكم ونبيّكم بأن المسيح عيسى ابن مريم هو كلمة الله، والكلمة عندنا وعندكم قديمة كالكلام.
قلنا: لا نزاع في تسميته عليه السلام (كلمة) 1 كما سمّي إبراهيم خليلاً2. وموسوى كليماً3، والتسميات لا حجر فيها، وإذ وافقناكمعلى تسمية المسيح كلمة، فمن أين لكم قِدَمُهَا؟ وبم تنكرون على من يزعم أن الكلمة عبارة عن الآية؟. والآيات تسمى كلمات، وهو المعني بقوله: {مَا نَفَدَتْ كَلْمَاتُ الله} 4. يعني: آياته ومصنوعاته، وقد قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأَمَّهُ آيَةً ... } . [سورة المؤمنون، الآية: 50] . وقال: {وَجَعَلْنَاهَا وابْنَهَا آيَةً لِلعَالِمينَ} . [سورة الأنبياء، الآية: 91] . فهذا وجه. ووجه آخر: وهو أن نقول: المعنى بإلقاء الكلمة إلى مريم تكوين المسيح من غير نطفة فحل، والمقصود أن الله اخترعه وكَوَّنه من غير تناسل معروف وقال له: كن، فكان. إذ كلّ أمر اتّصل بأمرور فهو ملقى إليه.
وسمى المسيح كلمة لقول لوقا في إنجيله: "إن جبريل قال لمريم: السلام عليك أيتها المباركة / (1/161/أ) في النساء إنك تحبلين بولد يسمى المسيح يجلسه الرّبّ على كرسي أبيه داود"1. فعندها حملت مريم بالمسيح؛ أي: عند هذه الكلمة فسمي المسيح بها كما يُسَمَّى الشيء بما يلازمه عادةً، فكان المسيح (كلمة) بهذا الاعتبار لا كما اعتقد جهلة النصارى من انقلاب الكلمة الأزلية جسداً ذا شعرٍ وظفر. 8 سؤال: قال النصارى: أليس في كتابكم معشر المسلمين: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} . [سورة التحريم، الآية: 12] . فما تأويل ذلك غير ما ذهبنا إليه؟!. والجواب أنا نقول: هذا لا يفيدكم شيئاً في مطلوبكم؛ إذ ليس اعتقاد أحد منكم أن روح الأب اتّحد بالمسيح، وإنما الذي اتّحد به هو العلم. وقد قلنا: إن الروح ترد على معانٍ شتّى منها: أن ترد والمراد بها الوحي، كقوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّن أَمْرنَا} . [سورة الشورى، الآية:52] . وترد والمراد بها جبريل، وهو المعني بقوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} . [سورة الشعراء، الآية: 193] . وترد والمراد بها ملك كبير يقوم يوم القيامة صفّاً وحده والملائكة كلّها صفّاً آخر. وترد والمراد بها أرواح الأشخاص وهو المعني بقوله: {قُلِ الرُّوحُ مِن أَمْرِ رَبِّي} . [سورة الإسراء، الآية: 85] . وإذا كان اللفظ متردداً / (1/161/ب) بين معانٍ كثيرة فلا يسوغ التمسك به إلاّ مع اقترانه بما يفسره، وكلّ مفتقر للتفسير فلا وجه للاستدلال بظاهره.
فالمسيح سمّاه الله (روحاً) كتسمية جبريل روحاً، وقد قلنا: إن الشيء قد يسمى بما يلازمه، فالله تعالى نفخ في مريم بواسطة جبريل وهو المعني بقول لوقا في إنجيله: "روح القدس تحلّ عليك"1. وقد قالت التوراة: "إن روح الله حال في يوسف"2. وذلك كناية عن العلم والحكمة. وفي التوراة: "إن بصلئيل رجل من سبط يهوذا ورجل آخر من سبط دان قد ملأتهما روح القدس"3. وفي التوراة: "إن يوشع امتلأ من روح القدس؛ لأن موسى كان قد وضع يده على رأسه"4. وفي كتاب الأسباط5: "إن روح الله لبست جدعون"6. وفيكتاب شمويال7: "إن روح الله تكلمت على لساني"8. وفي كتاب حزقيال يقول: "رأيت قدوس الله فوقعت فدخلت فِيَّ الروح فأقامتني"9.
وفي إنجيل لوقا: "إن يوحنا المعمداني امتلأ من روح القدس وهو في بطن أمه"1. وقال لوقا في إنجيله: "كان في بيت المقدس رجل يقال له: سمعان، ينتظر عزاء إسرائيل / (1/162/أ) وروح القدس كانت تحلّ عليه"2. وقال يوحنا التلميذ في إنجليه: "كلّ إنسانٍ لا يولد من الماء والروح لا يدخل ملكوت الله"3. وقال فولس في رسالته الأولى لإخوانه: "أو لا تعلمون أنكم هياكل الله وأن روح الله حال فيكم، ومن يفسد هيكل الله يفسده الله"4. وذلك كلّه دليل على مساواة المسيح غيره من الأنبياء والأولياء في حلول هذه الروح التي هي إما الملك، أو العلم والحكمة. فما أجاب به النصارى عن حلول الروح على من ذكرنا وامتلائهم منها فهو جواب عن قول جبريل لمريم: "روح القدس تحلّ عليكِ"5.
9 سؤال: قال النصارى: قال يسوع لمقعد قد غفرت لك1، وذلك دليل ربوبية إذا لا يغفر الذنوب إلاّ الله. والجواب: هو أنا نقول: ليس كذلك لفظ الإنجيل؛ وإنما قال له: مغفورة لك خطاياك. أخبره عن الله بغفر خطاياه لصبره على بلواه وسكونه تحت مجاري قد مولاه، ثم ولو سلمنا ورد هذه اللفظة بعينها على ما على حرفها السائل فليس فيها مستروح لما يحاول، إذ يحتمل أن يكون / (1/162/ب) ذلك المقعد من جملة من كان يؤذي المسيح مع اليهود ويقول فيه كقولهم، فلما رآه المسيح وشاهد بلاه رَقَّ له وحنى عليه فقال له: قد غفرت لك، يريد حللتك، والدليل عليه قول بطرس في الإنجيل للمسيح: "يا أبت، إلى كم أغفر لأخي إذا أخطأ إِليَّ إلى سبع مرات؟ قال: لست أقول إلى سبع مرات فقط بل إلى سبعين مرة سبع مرات"2. وهذه أكابرهم اليوم يفعلون ذلك ويغفرون لمن أرادوا حط ذنوبه، وليس فيهم من يعتقد خروجه عن ربقة العبودية3. وقد ذكر الإنجيل: "إن اليهود ومن حضر يسوع أنكروا عليه هذه الكلمة، فقال: ألم تعلموا أن ابن الإنسان قد جعل له أن يغفر الخطايا"4. فصرّح في هذا القول بأنه عبد مخلوق، جعل الله له أن يخبر عباده بغفر خطاياهم لإيمانهم به وتصديقهم له.
وقد قال مرقس في إنجيله: "قال يسوع لتلاميذه: إذا قمتم إلى الصلاة فاغفروا لمن لكم عليه خطيئة، لكيما يغفر لكم ربّكم خطاياكم"1. وقالت التوراة في السفر الخامس منها: "يا موسى ارحل أنت وبنو / (1/163/أ) إسرائيل، وأنا أرسل معكم ملكاً يغفر لكم خطاياكم"2. أضاف الغفران إلى الملك وهو عبد من عبيد الله تعالى. وقالت التوراة: "إن إخوة يوسف دنوا لتقبيل رجليه، فلم يدعهم، فاعترفوا له بذنوبهم فغفر لهم"3. فقول المسيح للرجل: قد غفرت لك، معناه: قد حاللتك أو قد شفعت لك. وقال فولس في آخر الرسالة الخامسة - وهو يوصي بالبر واللطف -: "وأنتم أيّها الأرباب اغفروا ذنوب مماليككم؛ لأن ربّكم في السماء وليس عنده هوادة"4. 10 سؤال: قال النصارى: قال يوحنا المعمداني ين رأى المسيح: "هذا خروف الله الذي يحمل خطايا العالم"5. فشهد وهو نبيّ صادق بأن المسيح سيقتل ويصلب قرباناً عن خطيئة آدم. والجواب: أن هذا السؤال دالّ على عدم فهم مورده وسوء بصيرته بالإنجيل، وذلك أنّ يوحنا أورد هذا الكلام شهادة للمسيح بالنبوة والرسالة أسوة غيره من الأنبياء في حملهم خطايا قومهم بما يرشدونهم إليه من الإيمان
والمغفرة بالله سبحانه،/ (1/163/ب) وقد كان المعمداني يتصل به ما يهتف به اليهود من فذف المسيح وقذف والدته الطاهرة، ويبلغه قول اليهود: "إنه لن يجيء من الجليل والناصرة نبيّ"1، فلما وقع بصره على المسيح وعرفه بتعريف الله له قال: "هذا الذي به يحط الله خطايا عالم زمانه". والدليل عليه: بقية الكلام إذ قال يوحنا: "هذا الذي قلت لكم إنه يأتي بعدي، وهو أقوى مني، وأنا فلا أستحقّ أن أحلّ سيور حذائه ولا أصلح أجلس مقعد خفه، وهو الذي بيده الرفش ينقي بيدره الغلة إلى إهرائه، ويحرق الأتبان بالنار التي لا تطفئ"2. فقد أفادنا قول المعمداني هذا معانٍ شتّى في شأن المسيح منها: تسويته المسيح مع مسائر بني إسرائيل في جعله خروفاً، قال المسيح في إنجيله: "إني إنما أرسلت للخراف الضالّة من بني إسرائيل"3. سمّى الناس خرافاً، وسماه المعمداني خروفاً من غير تفرقه بينه وبين غيره، وكذلك قال المسيح: "أنا الراعي الصالح وأنا عارف برعيتي"4. ومنها: أن المعمداني شهد / (1/164/أ) بأن المسيح عبد الله، وأضافه إليه إضافة ملك، فقال: "هذا خروف الله". وقال مرة أخرى: "هذا حمل الله". فشهد بأن الله مالكه، ولم يقل المعمداني حين رأى المسيح: هذا هو الله - كما يهذي به طوائف من النصارى. ولا قال: هذا الإنسان الذي اتّحد الله به أو سكن الله في إهابه واتّخذه له نزلاً ومسكناً - كما افتراه متأخرو النصارى.
وفي ذلك تكذيب للأمانة وإظهار لفسادها ومراغمة لمن عقدها حيث يقولون فيها: "إن المسيح إله حقّ، بيد أتقنت العوالم وخلق كلّ شيء، وإنه خالق غير مخلوق". الويل لهم، أَهُم أعلم بالمسيح وأعرف به من نبيّ الله يحيى بن زكريا الذي شهد المسيح "بأن النساء لم تلد مثله"1، فيوحنا هذا النبي عليه السلام إنما بعثه الله على زعم النصارى ليشهد للمسيح، وها هو يشهد بأن المسيح خروف وأن الله مالكه، وأنه يأتي بعده يعمد الناس ويستتيبهم كما كان يحيى بن زكريا يفعل غير أنه أقوى منه، وهذا قد يقول ذوو الورع والتقوى تورعاً وخوفاً من السلب بالإعجاب، / (1/164/ب) ولا يلزم أ، يكون القائل لذلك دون المقول له فلم يزل الصالحون يعتمدون ذلك. وقد شهد يوحا بنبوة المسيح صريحاً إذ يقول: "إنه يجمع الصلحاء إلى ملته والأبرار ويبعد الكفار إلى النار". فقد وضح أنه ليس في كلام المعمداني ما يدلّ على انتحال الضلال. وإلاّ فما أحسن ربّاًُ له حذاء ينتعله وخف يقي رجليه؟!!. أعوذ بالله من العمي وتنكب الهدى. 11 سؤال: وهو معضلات النصارى، قال النصارى: قال يسوع: "أنا بأبي، وأبي بِيَ"2. قالوا: هذا تصريح من المسيح بأنه متّحد بالله، والله متّحد به. والجواب: في قول يوحنا التلميذ في الفصل السادس عشر من إنجيله، قال يوحنا: "تضرع المسيح إلى الله في تلاميذه فقال: أيها القدوس احفظهم
باسمك ليكونوا هم أيضاً شيئاً واحداً كما أنا شيء واحد، قد منحتهم من المجد الذي أعطيتني ليكونوا شيئاً واحداً، فأنا بهم وأنت بِيَ"1. وتأويل ذلك: أنت يا إلهي معي وأنت لي، وأنا أيضاً مع أصحابي وأنا لهم، وكما أنك / (1/165/أ) أرسلتني لأدعو عبادك إلى توحيدك فكذلك أرسلتهم ليدعوا إليك، فكن لهم كما كنت لي، فإن عُدِل عن هذا التأويل لزم منه المحال؛ وهو أن يكون قوام الله وثبوت ربوبيته برجل من خلقه، ويلزم منه محال آخر؛ وهو: أن يكون الباري وعبد من عبيده متداخلين، ويلزم منه محال آخر؛ وهو: أن يكون التلاميذ متداخلين مع المسيح ويكون المسيح متداخلاً معهم2. فإن التزمه النصارى قيل لهم: فالله إذاً حالّ في التلاميذ والتلاميذ حالّون في الله - تعالى الله عن هذيان النصارى علوّاً كبيراً. وقد قال فولس - وهو يعظ بعض إخوانه ويحذره من الزنى -: "أما علمتم أن أجسادكم أعضاء للمسيح، فيعمد أحدكم إلى عضو من المسيح فيجعله عضواً للزانية؛ لأن من يصحب الزانية يصير معها جسداً واحداً، والذي يصحب سيدنا المسيح يصير معه روحاً واحداً"3. وذلك يفسد على النصارى سؤالهم. 12 سؤال ثانٍ: من المعضلات، قال النصارى: قال يوحنا التلميذ في الفصل / (1/165/ب) الثالث عشر من إنجيله: "من رآني فقد رآى أبي فأنا وأبي واحد"4.
والجواب: أن له وجوهاً من التأويل: أحدها: إنه قد اعترف في الإنجيل في غير موضع أنه رسول من الله إلى عباد الله، ولا شكّ أن رسول الملك إذا توجه إلى قطر فأبدى بعض الرعية شماساً1 عن الامتثال فيحسن منه أن يقول: أنا ومن أرسلني واحد، ومن رآني فقد رآى من أرسلني، ومن بايعني أو عاهدني فقد بايع وعاهد من أرسلني وحصل له العصمة والذمام، وذلك غير مستنكر من الرسل والنواب والوكلاء ومن ندب لسفارة ووساطة بين اثنين أو جماعة، ومنه قول الله عزوجل لنبيّه محمّد صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوقَ أَيْدِيهِم} . [سورة الفتح، الآية: 10] . الوجه الثاني: أن رؤية الصنعة تدل على صانعها؛ إذ لا يتصور بناء محكم متقن إلاّ ببانٍ حكيم متقن، وكلما جَلَّت الصنعة دلّت على جلال صانعها، والمسيح لما بهر الناس بما صدر على يديه من العجائب ورأى التفاتهم إليه / (1/166/أ) واشتغالهم به فأحب رفع هممهم إلى الله الذي هو أعلى وأجل وأحكم من كلّ حكيم، وقد قال في إنجيله: "أبي أعظم مني"2. وقال له إنسان: يا معلم صالح. فقال: "لا تقل لي صالحاً، لا صالح إلاّ الله واحده".
والوجه الثالث: المسيح كان عبراني اللسان، والعبرانيون يعتقدون قول التوراة في السفر الأوّل منها: "أن الله خلق آدم يشبهه"1. قولاً صحيحاً، فخاطبهم المسيح بما يفهمون، وإنما أرادت التوراة: أن الله حيّ عالم قادر، وقد أعطي آدم هذه الصفات من الحياة والعلم والقدرة، فكأنه يقول من رآني فقد رأى آدم، ومن رأى آدم فقد رأى الله، فحذف الواسطة.
فإن عدلوا عن هذا التأويل لزمهم أن يكون اليهود وسائر الكفار والحمير والكلاب قد رأوا الله، وأكذبوا التوراة والإنجيل؛ إذ يقول: "إن الله لم يره أحد قط"1. 13 سؤال ثالث وهو من المعضلات: حكى النصارى عن المسيح عليه السلام أنه قال: "لا يصعد إلى السماء إلاّ من / (1/166/ب) نزل من السماء"2. والجواب: من وجوه: أحدها: أنه أشار إلى زاكي الأعمال وهي التي نزلت بالوجه مع الملائكة، وكأنه يقول: لا يصعد من الأعمال إلاّ ما كان خالصاً قد أُريد به وجه الله. قال الله تعالى: {لاَ تُفَتَّحُ لَهُم أَبْوَابَ السَّمَاءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ} 3. وقال سبحانه: {إِلَيهِ يَصْعَدُ الكَلْمُ الطَّيِّبُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} . [سورة فاطر، الآية: 10] . الوجه الثاني: أنه لا يبادر إلى سموّ الأخلاق والأعمال والأحوال إلاّ من له سموّ وهِمَّة مثل الحواريين الذين أجابوا داعي المسيح من غير تقدم رؤية آية بل قال لهم: "دعوا الدنيا واتّبعوني ففعلوا"4.
والوجه الثالث: أنه أشار إلى الأرواح الطاهرة السماوية التي تنام على طهارة يؤذن لها فتعرج وتسرح ثم تعود فإذا فارقت الجسد صعدت، وأما أرواح الكفار والفجار فلا تصعد وإذا فارقت الجسد أودعت في الأرض السفلى؛ لأنها لم تنْزل من السماء. فإن عدلوا عن هذه الوجوه وأجروه على ظاهره، قلنا لهم: فقد صعد إلى السماء / (1/167/أ) من لم ينْزل منها وهو إدريس الذي يسمونه خنوخ1. وناسوت المسيح أيضاً لم ينَزل من السماء وقد صعد إلى السماء، فإما أن يتأولوا الخبر وإلاّ أخرجوه إلى الكذب. فإن قال النصارى: لم يزل يسوع متجسداً، أكذبتهم نصوص الإنجيل والأمانة إذ تقول: "إنه أخذ جسده من مريم عليهما السلام، وقال في الإنجيل: "هذا مولد يسوع المسيح"، فحكم بأنه مخلوق". 14 سؤال رابع من المعضلات: روى النصارى عن المسيح أنه قال: "إن إبراهيم الخليل اشتهى أن يرى يومي فرأى وفرح، فقال له اليهود: لم يأت لك
خمسون سنة فكيف رأيت إبراهيم؟ فقال: الحقّ أقول لكم إنني [كنت] 1 قبل أن يكون إبراهيم". قال المؤلِّف: هذا من أقوى ما يتمسك به النصارى في ربوبية المسيح. والجواب: يحتمل أن يكون الله تعالى قد أرى إبراهيم أيام المسيح كما أرى آدم جميع أيام ولده، وأعلم إبراهيم بأحواله كما أعلم آدم بأحوال ولده من بعده، وكما أرى موسى ما يؤول أمر بني إسرائيل إليه على ما / (1/167/ب) يشهد بذلك التوراة وذلك بالروح المدركة لا بالعين الباصرة. فإن أبى النصارى هذا التأويل أكذبوا متّى إذ يقول في صدر إنجيله: "هذا مولد يسوع المسيح بن داود بن إبراهيم"2. وأكذبوا لوقا في روايته عن جبريل إذ يقول لمريم: "إنك تلدين ولداً يسمّى يسوع يجلسه الرّبّ على كرسي أبيه داود". وإذ كان المسيح إنما هو ابن مريم ولدته في زمن متأخر عن إبراهيم بمئتين من السنين، فكيف يكون قبل إبراهيم إلاّ على وجه التأويل وهو أن الله تعالى كان قد قَدَّر له الاصطفاء والاجتباء في سباق علمه قبل إبراهيم، وأعلَم الله إبراهيم: أن من ولدك مَن أجعله آية للعالمين، فاشتاق إلى رؤية هذا الولد، فكشف الله له عن روحه الزكية النبوية فرآها وفرح بها.
وقد روي في الخبر: "أن الله تعالى خلق الأرواح قبل الأشباح بألفي عام"1. وقد قال سليمان في حكمته: "أنا قبل خلق الدنيا"2. كما حكينا فيما مضى، وقال داود في مزموره: "ذكرتني يا ربّ من البدء وقدّستني بأعمالك"3. وقيل لمحمّد صلى الله عليه وسلم / (1/168/أ) متى وجبت لك النبوة؟ فقال عليه السلام: " كنت نبيّاً وآدم منجدل في طينته"4. 15 سؤال خامس وهو من المعضلات: روى النصارى عن يوحنا الإنجيلي أنه قال في صدر إنجيله: "إن الكلمة صارت جسداً وحلّت فينا"5.
والجواب: أن ذلك يحتمل التقديم والتأخير لفساد التعبير وتبدل اللسان فتكون إن الجسد الإنساني الذي هو جسد المسيح سمي الكلمة، ولا معنى لـ: (صار) إلاّ تجدد ما لم يكن، وقوله: (وحلّ فينا) إشارة إلى جسد يسوع المسيح الذي صار كلمة بالتسمية من الله تعالى، وكأن يوحنا يقول: إن الذي كفر به اليهود ونسبوه إلى الجنون شرَّفه الله سماه كلمة له، وأقام بين أظهرنا ما أقام لم يعرفوا قدره. ويحتمل أن يكون يوحنا أشار بهذا القول إلى بطرس كبير التلاميذ وَوَصَّي المسيح من بعده، فإنه قام بتدبيرهم بعد رفع المسيح بعهد عهده إليه ووصية أوصاه، وكان التلاميذ يفزعون إليه في نوازلهم بعد المسيح على ما يشهد به سيرهم، / (1/168/ب) وكأن يوحنا يقول: "إن ذهبت الكلمة من بيننا فإنها لم تذهب حتى صارت جسداً وحلّ فينا". يريد أن بركة الكلمة وتدبيرها حاضر في جسد بيننا وهو بطرس. ويحتمل أن يكون يوحنا قال: "إن الكلمة أصارت جسداً وحَلَّ فينا". فأسقطوا الهمزة عند إخراج الكلام إلى اللسان العربي من العبراني، والميز1 بين صارت وأصارت لا يكاد يدرك في اللسان الواحد، فكيف مع النقل والتحويل وفساد الترجمة؟! وقد أخبر الله تعالى أن المسيح كان يصنع من الطين حيواناً2، والنصارى وإن أنكروا هذا ففي الإنجيل ما يصدِّقه وهو: "أن المسيح عليه السلام تفل على الطين من ريقه وصوَّره على موضع عيني رجل أكمه قد
ولد أعمى، وقال: اذهب فاغتسل في عين شلوخا ففعل وأبصر، فتعجب اليهود من ذلك"1. فإن أبى النصارى تأويلناالكلام يوحنا هذا لزمهم أن تكون الكلمة الأزلية استحالت لحماً ودماً وعروقاً وشعراً وظفراً واغتذت بالطعام / (1/169/أ) وكان منها ما يكون من الأنام، وبقيت ذات الباري خرساء غير ناطقة وجاهلة غير عالمة، وذلك لا يقوله لبيب. فإن قيل: فما المرضي عندك في كلمة يوحنا هذه على تقدير صحّتها وسلامتها عن التحريف والتصحيف؟ فأقول: يحتمل أن تكون كلمة جبريل التي أوردها على مريم قد صارت جسداً وتخلَّق منها المسيح الذي حلَّ فيهم، وقد قال الله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً} - إلى قوله: - {فَحَملَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً} . [سورة مريم، الآية: 17-22] . وذلك بعينه هو الذي حكاه لوقا في إنجيله عن جبريل، وإذا كانت الكلمة التي صارت جسداً هي كلمة جبريل اندفعت عنا مؤنة التأويل. 16 سؤال سادس من المعضلات: حكى النصارى عن المسيح أنه قال: "كما أقام يونس في بطن الحوت ثلاثة أيام وليال، فذلك ابن الإنسان يقيم في بطن الأرض وقلبها ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ"2. والجواب عن ذلك من وجهين: أحدهما: لا أُسلِّم صحّة هذا النقل بل هو كذب ومَيْن، إذ الإنجيل يشهد أن المصلوب المقبور لم يبق / (1/169/ب) في قلب الأرض وبطنها سوى يوم واحد وليلتين على كلا الروايتين، فقد أخلف قولهم وظهر كذبه وإفكه فلا حاجة بنا إلى الكلام عليه.
والوجه الثاني: أن المسيح لم يقل: إني أقتل وأصلب وأدفن وأقيم في بطن الأرض هذه المدة كما تخرصه النصارى، إنما قال: إن ابن الإنسان يجري له ذلك، وابن الإنسان هو الذي يُشَبَّه لليهود بالمسيح؛ لأن المسيح على ما قررته وأوضحته فيما تقدم1. وقد قلَّبت الإنجيل دفعات كثيرة وأنعمت النظر فيه فما وجدته قط أضاف ذلك إلى نفسه الكريمة ولا أورده إلاّ مضافاً إلى ابن الإنسان يعرف ذلك من وقف على الإنجيل. والعجب من النصارى كيف يُنْزِلون ذلك على المسيح وهو [لا] 2 يرضون له بنوةإبراهيم وداود؟! فكيف يجعلونه ابن إنسان من عرض الناس؟! والعجب أيضاً أنهم يصفونه بما وصفه به اليهود من حيث لا يشعرون؛ لأن غاية ما قال فيه اليهود أنه ولد يوسف النجار، فأي فرق بينهم وبين اليهود في ذلك / (1/170/أ) إذا اعترفوا أنه ابن الإنسان؟ وإذا كان المسيح عندهم إنما هو ابن الله - تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً - فلا يمكن أن يكون ابن الله يُقتل ويُدفن في الأرض بين الأموات، هذا مع وصفهم له في الأمانة: "فإنه إله حقّ من إله حقّ من جوهر الله". فإن صدقوا - وحوشوا من الصدق - فالذي قال المسيح: إنه يكون في قلب الأرض أيام وثلاث ليالٍ، إنما هو ابن الإنسان الذي هو إنسان حقّ من إنسان حقّ من جوهر أبيه آدم، وفي ذلك تكذيب لهم في دعوى قتل المسيح وصلبه.
17- سؤال سابع من المعضلات: حكى النصارى عن المسيح عليه السلام أنه قال: "قال داود في مزمور له: قال الرّبّ لربي"1. قال المسيح: "فهذا داود يدعوه ربّه فكيف تقولون إنه ابنه؟ "2. والجواب: أنا لا نصحّح هذا النقل عن داود نبيّ الله، فإنه إنما بعث ذاباً عن توحيد التوراة ومقرراً لها أسوة غيره من الأنبياء الذين بعثوا بعد موسى عليه السلام والتوراة، فليس فيها ما يدل على ضلال النصارى، ومتى شهر عن / (1/170/ب) موسى أو داود وغيره من أنبياء الله أن الرّبّ يكون له ربّاً وللإله إلهاً؟!. وإذا كان ذلك من الهذيان فلنوَرِّك3 على النقلة عن داود، إذ داود ثابت العصمة وهو أعرف بالله تعالى من أن يجعل له ربّاً فوقه أو ربّاً تحته يشاركه في الربوبية، على أن ذلك مردود بشهادة الإنجيل عن جبريل إذ قال لمريم: "إنك تلدين ولداً يجلسه الله على كرسي أبيه داود". وفي ذلك تكذيب لمن نقل عن المسيح أيضاً، إذ المسيح قد شحن إنجيله بتوحيد الله وإفراده بالربوبية كما حكيناه عنه، فكيف يَدَّعى أنه ربّاً لداود والناس ينادونه: يا ابن داود ارحمنا، فيفعل ويرضى منهم بهذا القول؟!. وهو القائل في إنجيله: "لا صالح إلاّ الله"4. "إن إلهكم واحد"5. "إن أفضل الوصايا كلّها الله واحد"6. "أنا ذاهب إلى إلهي و [إلهكم] 7". "إلَهي إلَهِي
لِمَ تركتني؟ "1. "إنكم تريدون قتلي وأنا إنسان كلمتكم بالحقّ الذي سمعته من الله"2. وذلك في الإنجيل كثير جداً. وإذا كان هذا نصّ المسيح في الإنجيل فقد كذبوا عليه في ادِّعائه أن داود / (1/171/أ) عبده. قال مؤلِّفه: سألت حَبراً من أحبار اليهود عن هذا المزمور، قال: "قال الرّبّ لربي". تفسيره عندنا بالعبرانية: "قال الرّبّ لوليي". قال والرّبّ عندنا يطلق على المعظم في الدين ثم تلا قول إبراهيم ولوط الذي حكيناه3. 18- سؤال ثامن من العضلات: قال النصارى: نحن واليهود من مخالفينا في الملة ننقل أن الذي قتل وصلب لم يكن سوى يسوع المسيح فلو تطرق التشكيك إلى رواتنا ونقلة أخبارنا وحملة ديننا لتطرق مثله إلى ما تنقلونه عن أسلافكم ولم يثبت لأحد من أتباع الأنبياء قاعدة ألبتة4. والجواب: أن الرواة الأربعة الذين رووا لكم القتل والصلب لم يحضر منهم أحد البتة ذلك المشهد من خوف اليهود بشهادة الإنجيل. وقد شهدت أقاصيص الإنجيل بأن المسيح كان قد تغيَّر منظر وجهه حتى على بطرس وخواص تلاميذه. واستولى عليه ذلك حتى تعدَّى إلى لون ثيابه فغيرهما عما كانت عليه، وأنه لما التبس أمره وتنكرت حلاه على أصحابه فضلاً عن اليهود إحتاجوا / (1/171/ب) إلى أن أرشوا رجلاً من تلاميذه الاثني عشر برشوة حتى دلّهم عليه، ثم لم يعرفوه حتى قال لهم: إذا رأيتموني أُقَبِّل شخصاً فأمسكوه، فإنه
يسوع، هذا مع كون المسيح في كلّ يوم في الهيكل يناظرهم ويفحمهم بالحجج النبوية ويظهر عليهم ويكسر حججهم في كلّ مجلس ومجمع يجتمعون فيه. فما حاجتهم إلى مَنْ يعرِّفهم عينه بعلامة وأمارة يجعلها لهم لولا وقوع الشبه الحائل بينهم وبين رجلٍ من أسباطهم وعشائرهم فَأَخْذُهم من أخذوه إنما هو الشّبه، ثم الشبه إنما أخذ ليلاً فلم يصيروا به إلى رئيس الكهنة وله حيلة تُعرف فقتلوه صبيحة تلك الليلة كما أخبر الإنجيل. وإذا كان هذا نص الإنجيل أن أصحاب المسيح لم يحضروا، واليهود قد اشتبه عليهم الحال وأنكروا صورة المسيح بعد طول المعرفة به، فإخبار من جاء بعدهم لا يفيد ولا الظن إذ كان مستنده ما ذكرنا. فالقول بقتل المسيح وصلبه لا سبيل إلى صحته بعد إخبار جبريل عن ربّ العالمين أن المسيح يجلسه الرّبّ على كرسي أبيه داود، ويملِّكه / (1/172/أ) على بيت يعقوب على ما تضمنه إنجيل لوقا. وقد حققنا ذلك غير مرة فلا نعيده1. 19- سؤال تاسع من المعضلات: قال النصارى: قال المسيح: "إذا كان يوم القيامة أرسل ابن الإنسان ملائكته، فجمعوا أصحاب الشكوك وفاعلي الآثام فيلقونهم في أتون النار، هنالك يكون البكاء وصرير الأسنان"2. قال النصارى: فقد أثبت لنفسه ملائكة، ولا يثبت ملك الملائكة إلاّ لله تعالى، وأثبت أنه المقتول المصلوب.
والجواب: أن هذه نسبة صحبة لا نبسة ملك، والدليل على ذلك من الإنجيل قول يسوع: "لا تحقروا أحداً من هؤلاء الصغار المؤمنين بِيَ. فإن ملائكتهم ينظرون وجه أبِي الذي في السماوات في كلّ حين"1. فقد أثبت للصغار ملائكة لم يرد الملك، وقد قال يسوع أيضاً لليهود في الإنجيل: "لا تظنوا أني لا أستطيع أن أدعو أبي فيرسل لي اثني عشر جوقاً من الملائكة"2. أثبت ها هنا ملك الملائكة لله وحده فكان ذلك المطلق [محمولاً] 3 على هذا المقيد. وقد قالت التوراة: "إن بني / (1/172/ب) إسرائيل كان لهم ملك يحمل عمود الغمام ويسير أمامهم ويلهب لهم بالليل ناراً يؤمونها في مسيرهم"4. وقوله: "إن ابن الإنسان" يوهم أنه أراد نفسه، ونحن نحمله على الشَّبه الشهيد الذي صلبه اليهود، أنعم فإنه من الحواريين الذين هم تلوا النّبيّين في الشفاعة. قال الله تعالى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيهِم مِّنَ النَّبِيِّين وَالصِّدِّقين..} الآية. [سورة النساء، الآية: 69] . وإذا كان الشَّبَه صِدِّيقاً فهو من خيرهم لإيثاره المسيح، فلا بُعد أن يشهد له المسيح بأنه يشفع يوم القيامة، ويرسل الملائكة بين يديه ويؤمر بامتثال أوامره ويلقي من آذاه وقتله وصلبه في أتون النار. والدليل على تشريف الأولياء والأصفياء بهذه الرتبة الكتاب العزيز والإنجيل، قال الله: {فَمَا تَنْفَعُهُم شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} . [سورة المدّثر، الآية: 48] . دلّ على أن من الشافعين مَنْ تنفع شفاعته. وقال المسيح لتلاميذه: "أنتم الذين صبرتم معني
في تجاربي وإنكم يوم القيامة تجلسون على اثني عشر كرسياً من كراسي المجد تدينون اثني عشر سبط بني إسرائيل"1.فقد أثبت محاسبة/ (1/173/أ) الأسباط من بني يعقوب إلى تلاميذه، والمصلوب من خيرهم كما تقدم. وكيف لا يعظم جرم اليهود ويسلط عليهم في الدار الآخرة أصحاب المسيح وإنما قتلوا في زعمهم واعتقادهم وظنهم المسيح؟! فبشؤم قصدهم عظم إثمهم وإن لم يصادفوه ولا قتلوه فسلط الله عليهم في القيامة بعض خدمه وهو الشَّبه لينتقم منهم. 20- سؤال عاشر وهو من المعضلات، قال النصارى: قال دواد في مزمور له وتنبأ به على آلام المسيح وما يجري عليه من اليهود: "ثقبوا يدي، وجعلوا في طعامي المرار، وعند عطشي سقوني خلاً، يا رب لا تبعد نصرك مني"2.
قالوا: فأي حجة أبين أو دليلاً أوضح من هذا؟! والجواب: عن ذلك من وجوه: أحدها: لا نسلم أن دواد عنى بذلك المسيح بل لم يعن إلاّ نفسه، والكلام يحمل على المعنى حيث أعوز حمله على اللفظ، وكأنه عليه السلام كَنَّى بذلك عما هو بصدده من قتال المشركين ومنازعة أعداء الدين وجبابرة فلسطين، وكأنهم / (1/173/ب) لطول حروبهم وموالاة شرورهم فعلوا هذه الأشياء، وداود أخبر بهذا المزمور عن نفسه فمَن أراد صرفه عنه إلى غيره فعليه إقامة الدليل. قال مؤلِّفه: "بعد تبييض هذه النسخة والفراغ سألت حبراً من أحبار اليهود عن قول داود: "ثقبوا يدي" بالمزمور، فأجابني بنحو ما ذكرته في الوجه الأوّل على الفور من غير توقف، فتعجبت من اتّفاقه لنصّ ما عندهم. الوجه الثاني: نسلم أن داود لم يعن بذلك نفسه ولكن عنى غيره فبم تنكر النصارى أن ذلك المعنِيَّ رجلٌ كان قبل داود؟!. واللفظ يساعد عليه فإنه ذكره بلفظ الماضي فقال: ثقبوا يدي جعلوا في طعامي المرار، وذلك يشير إلى أمر قد وقع وفرغ منه، وإذا كان ذلك لم يصلح للاستقبال فلعلّ داود إنما أراد بالمزمور رجلاً من أسلافه الماضين كإبراهيم وموسى وغيره من الأصفياء فتألم بذلك تألم الولد البار لوالده وذوي رَحِمِه وعزَّى نفسه وسلاّها فيما ابتلى به من/ (1/174/أ) قتال كفار زمانه وملوك دهره.
الوجه الثالث: نسلِّم أن داود أرد الاستقبال، لكن ليس في المزمور ما يدلّ على قتل وضرب وصفح وصلب كما نسبه الصنارى لربّهم في زعمهم، وليس فيه إلاّ أن رجلاً من الناس يُثقب يده ويُسقى خلاً عند عطشه ويُمَرَّر طعامه ويسأل ربه وخالقه إلهه أن ينصره، ولا يلزم من وجود هذه الأموروجودقتل وصلب، فقديثقب يد الإنسان ويسقى الخل ولا يموت. والوجه الرّابع: سلَّمنا أن ذلك يستلزم القتل والصلب والإهانة، وأن داود عبَّر ببعض الآلام عن سائرها، لكن من أين للنصارى أن المفعول به ذلك هو المسيح؟!، وليس في كلام داود له ذكر البتة. فبم ينكرون على من يقول: إن المفعول به ذلك هو الشبه لا المسيح؟ وليس دعواهم أن داود أراد المسيح بأولى من دعوى مَن يقول: لم يرد بذلك إلاّ الشبه. والدليل على أن داود أراد الشبه قوله: "يا ربّ لا تبعد نصرك مني". فصرَّح داود بأن المفعول به ذلك عبد من عبيد الله/ (1/174/ب) يستصرخ بربه ويلتمس نصر خالقه عند نزول كربه، ويؤيّده قول نقلة الإنجيل إن المصلوب قال في آخر كلام تكلم به على الخشبة: "إلَهِي إِلَهِي كيف تركتني؟ ". والمسيح ليس كذلك عند النصارى. ولاسيما وقد رووا عن داود أنه عنى المسيح بقوله في المزمور: "قال الرّبّ لربِّي: اجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطئ قدميك". وإذا قالوا: إن داود يخاطب المسيح بلفظ الربوبية وأن أعداءه تكون موطئ قدميه بطل أن يكون عنى بقوله: "ثقبوا يدي". المسيح وصحّ إضافة ذلك إلى الشبه. ثم داود عبراني اللسان، فلو كان في مزمور ما ينوه بذكر المسيح وربوبيته وقتله وصلبه لكان العبرانيون - وهم اليهود - أحقّ بمعرفته من غيرهم. لاشتغالهم بتلاوة مزامير داود وانكماشهم على قراءتها والتعبد بها، فإقدامهم على ما أقدموا عليه من طلب المسيح وتكذيبه، وعزمهم على قتله حتى شغلهم الله
عنه بالشبه الذي قتلوه وصلبوه-دليل واضح (1/175/أ) على غلط النصارى فيما استنبطوه من المزامير بعقولهم واستخرجوه بأذهانهم. فهذه عشرة أسئلة معدودة من معضلات أسئلتهم مضافة إلى ما قدمناه، غير أن هذه الأسئلة هي أساس كفرهم، وعليها عقدوا أمانتهم التي سنبيّن بعون الله فسادها وتناقض ألفاظها ومعارضتها للثالوث ومعارضة الثالوث لها. وقد بيّن داود في المزمور التاسع عشر على ما ذهبنا إليه من خلاص المسيح من أعدائه اليهود، وأخبر أن الله تعالى حماه منهم وستره عنهم، فقال: "يستجيب لك الرّبّ في يوم شديد، ويرسل لك عوناً من قدسه يعضدك من الآن، عرف خلاص الله لمسيجه ومن سماء قدسه استجاب له"1. فقد شهد داود بأن الله خلّص المسيح. وهذا المزمور مصدِّق لقول لوقا: "إن جبريل خبَّر عن الله أن المسيح يكون ملك بني إسرائيل". فأما مزمور "ثقبوا يدي"، فكذَّب بشارة جبريل، وما رَدَّ بشارة جبريل عن الله تعالى فهو مردود. فإن قيل: فالمسيح صعد إلى السماء2 وهذا يدل على ربوبيته. قلنا: هذا من أضعف ما يتمسك / (1/175/ب) به؛ إذ الملائكة تصعد السماء وليسوا آلهةً ولا أرباباً، وأخنوخ الذي هو إدريس قد صعد إلى السماء3 وهو عبد من عبيد الله. وكذلك إلياء وَدَّع تلميذه اليسع وصعد إلى السماء على فرس من نور4.
والعجب أن التلاميذ عندكم أفضل من إدريس وإليا وغيرهم وقد قتلوا وماتوا ودفنوا في الإرض، فليس في صعود السماء ما يدلّ على ما يذهبون إليه. فإن قيل: فالمسيح أخبر بالمغيِّبات وعَرَّف تلاميذه بما سيحدث في المستقبل1 ولا يعلم الغيب إلاّ الله سبحانه. قلنا: التعلق بذلك يصلح لإثبات النبوة والرسالة، أما أنه يصلح لما تدّعونه فلا. والدليل على ذلك أنّ نوحاً وإبراهيم ويعقوب ويوسف وموسى وجماعة من الأصفياء قد أخبروا بالمغيَّبات فوقعت على وفق خبرهم. فأخبر نوح بالطوفان وهلاك الخلق بأسرهم إلاّ من ركب سفينته2، وأخبر إبراهيم بأن ذريّته يكونون في العبودية والسخرة بمصر المدة الطويلة3، وأخبر يعقوب بأن الله سيذكر بني إسرائيل ويخرجهم من مصر إلى بلادهم بيدٍ / (1/176/أ) منيعة غزيزة قوية4، وأخبر موسى بشتات أمر اليهود وعبادتم الأصنام والأوثان وإعراضهم عن طاعة الله الذي أنقذهم من سخرة فرعون5، وأخبر يوسف بالغلاء والمجاعة التي تعمُّ الأرض سبع سنين6، وأخبر دانيال بختنصر بمغيبات كثيرة7. فلم يخرم مما قالوا ولم يخلف كما شهد بذلك كله التوراة
والنبوات وأربوا على المسيح في ذلك، وذلك كله بتعريف الله: {عَالِمُ الغَيبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رُّسُولِ} 1. والعجب كيف يتمسك النصارى في دعوى ربوبية المسيح بإخباره الغيب، وهذا نوح وإبراهيم ويعقوب يخبرون به وينبؤون عنه، مع أن النصارى لا يعتقدون فيهم سوى أنهم قوم صالحون لا غير2، وهذا من أجلِّ أغاليطهم وكفرهم إذ
أخرجوا من ديوان النبوة مثل نوح وإبراهيم عليهم السلام مع شهادة التوراة بأعلامهم ورسوخ أقداهم ومكالمتهم الحقّ ودعائهم الخلق1. فإن قيل: فالمسيح جاء من غير/ (1/176/ب) فحل ونحن وأنتم قاطعون بطهارة مريم وبراءتها. وإذا كان لا بدّ من أب فلا أب له سوى الله تعالى. قلنا: هذا من أضعف ما يُتَمسك به؛ وذلك أن التوراة مصرحة بأن الله تعالى خلق حواء من آدم، قال الله تعالى في صدر التوراة: "لا يحسن أن يبقى آدم وحده بل نخلق له زوجاً مثله، فألقى الله عليه النوم فنام فنَزَع ضلعاً من أضلاعه وأخلف له عوضه لحماً، فخلق الله من ذلك الضلع حواء زوجته"2. فإذا كان لا بدّ لها من أم فهل تقولون: إن الله أمها؟! فَخَلْقُ أنثى من ذكر بغير أم أعجب من خلق ذكر من أنثى بغير أب، وأعجب من هذين خلق بشر من غير أنثى ولا ذكر. وقد خلق الله آدم من تراب، فمن كان قادراً على أن يخلق بشراً من غير أبوين ولا يكون ابناً له كيف لا يقدر أن يخلق بشراً من أنثى ولا ذكر ولا يكون ابناً له؟!.
وكم قد خلق الله سبحانه من مخلوقاته من غير تناسل معروف ولا ولادة معتادة؟! {فَأَيُّ آيَاتِ الله تُنْكِرُون} 1. انتزاعات لهم: وانتزع النصارى من / (1/177/أ) التوراة والكتب العتيقة مواضع زعموا أنها دالة على ربوبية المسيح، ونحن نوردها في معرض الأسئلة، ونجيب عنها، ونبيّن أن ليس فيها [تفريج لكربة النصارى ولا معتصم] 2 لهم فيما يحاولونه. 1- فإن قيل: ففي التوراة ما يدل على عقد النصارى في المسيح، وهو: "أن إسرائيل لما احتضر بمصر جمع بنيه ودعا واحداً ثم قال لابنه يهوذا: لا يعدم سبط يهوذا ملكاً مسلطاً، ونبيّاً مرسلاً حتى يأتي الذي له الملك. وإياه ينتظر الشعوب، ربط بالحبلة جحشه، يرخص بالخمر لباسه، ويصبغ بعصير العنب رداءه، عيناه أشد سهولة من الخمر، وأسنانه أشد بياضاً من اللبن"3.
قال النصارى1: وهذه صفات المسيح. قلنا: اللفظ للتوراة وهي عبرانية واليهود من أولاد يعقوب أعرف بذلك منكم، وها هم إلى الآن ينازعونكم في الموصوف بهذه الصفات، ويدَّعون أنه صاحبكم وهم إلى الآن ينتظرونه، ونحن لا نسلم أن هذا الموعود به عيسى بن مريم ولا غيره بل هو محمّد صلى الله عليه وسلم / (1/177/ب) والدليل على ذلك قول يعقوب: "حتى يأتي الذي له الملك". وليست كذلك وإنما هي: "الكلّ"، فحرفت بسوء النقل وكذلك هي في بعض نسخ التوراة "الكلّ"، فجعله مع النبوة ملكاً مطاع الأمر كما قال
أبو سفيان للعباس: "لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً فقال له: اسكت فإنها النبوة"1. وقال: لقد أتيت كسرى في ملكه وقيصر في ملكه فما رأيت قوماً أهيب لملكهم من أصحاب محمّد لمحمّد صلى الله عليه وسلم2. وقال صناديد قريش: لقد أَمِرَ أَمْرُ ابن أبي كَبْشة3، جد من أجداد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك كان عليه السلام، فإن الله جمع له الكلّ كما قال يعقوب: النبوة، والملك، فاستقام أمره واستوسق4 سلطانه واستتبت دولته وألقت إليه الدنيا سلطان مقاليدها فكان نبيّاً رسولاً كما كان سلطاناً مبعوثاً إلى الأحمر والأسود والقريب والبعيد، ولقد هابته الملوك وهادته واعتصمت منه بالذمم، وحضت على مؤازرته، وتابعه قيصر والنجاشي وملوك العرب. فأما المسيح عليه
السلام / (1/178/أ) فقد شهدت عليه أقواله وأقوال تلاميذه في الإنجيل بأنه لم يرسل إلى كلّ الأمم من العرب والعجم؛ إذ يقول في إنجيله: "إني لم أرسل إلاّ إلى الخراف الضالة من بيت إسرائيل"1. "وسئل أن يقضي حاجة امرأة من الكنعانيّين، فقال: ليس بجيد أن يؤخذ خبز النبيين فيلقى للكلاب"2. وقال المسيح حيث بعث تلاميذه: "مدن السامرة لا تدخلوا، وطريق الزنادقة لا تسلكوا، واذهبوا إلى الخراف التي ضلت من بيت إسرائيل"3. فبين في كلّ كلامه أن دعوته خاصة وليست عامة، فإذاً ليس هو المراد بلفظ إسرائيل، إذ إسرائيل يقول: "إنه ينتظره كلّ الشعوب". ولم يقل ينتظره من ضلّ من شعب إسرائيل لا غير. والعجب من النصارى كيف ينْزِلون هذا الكلام على المسيح عليه السلام وهم مجمعون أن صاحبهم كان مستضعفاً يبذل الجزية أسوة سائر [أهل] 4 الذمة، فرووا في إنجيلهم الذي بأيديهم اليوم: "أن جباة الجزية من جهة قيصر قالوا لبطرس: ما بال معلمكم لا يؤدّي إلينا الغرم؟ فذكر ذلك بطرس للمسيح، فقال: [والبنون] 5 أيضاً يؤدّون الغرم / (1/178/ب) ثم قال لبطرس: اذهب إلى البحر وألق الصنارة واصطد ما تؤدّي عني وعنك"6.
وهذا نقلهم والعُهدة عليهم، وإذا كان الأمر ما نقلوا فليس هو صاحبهم؛ لأن الصادق إسرائيل قال: إن هذا الآتي يكون ملكاً نبيّاً وكلّ الشعوب ينتظرونه، والخلائق معمومون برسالته ودعوته. والنصارى يقولون: هو هذا الذي يبذل الجزية من صيد السمك ويتحمَّل الصَّفار وإن خساس اليهود وأراذلهم وثبوا به وأرذلوه واستذلوه وربطوه ربط اللصوص وأهل الدَّعر1، ووضعوا على رأسه إكليلاً من الشوك، وجعلوا يصفعونه ويسخرون منه، ولما قضوا نهمتهم من عقوبته صلبوه على خشبة فوق نشز من الأرض، وقرنوه بلصين مصلبين، ثم قتلوه وإياهما، كما حكوه لنا في إنجيلهم، أفكانت بشرى يعقوب لسائر الشعوب برجل يرذل ويصفح ويؤيّدي الجزية فيذل لها ويخضع ويحمل خشبته ويصعد عليها ويرفع ويستسقى ماء فَيُذاد عنه ويُدفع ويسأل البقيا فلا يجاب إليها ولا يسمع. قال يعقوب عليه السلام: / (1/179/أ) "وإيّاه ينتظر الشعوب". والمسيح عند النصارى إله خالق وربّ رازق. ومعلوم أن أكثر شعوب الأرض وأهل الدنيا ينكرون هذا ولا يقرون به فكيف ينتظرونه؟! وإنما ينتظر الإنسان ما يجوّزه فأما ما يحيله ويقضي بمنعه واستحالته فلا ينتظر مجيئته وإتيانه. فقد وضح أن الذي نصّ عليه يعقوب في التوراة ليس هو المسيح عليه السلام. فأما اليهود فيقال لهم: أخبرونا عن مسيحكم هذا الذي أنتم تنتظرونه، هل يعرفه غيركم أو يقرّ به سواكم؟
فإن ادّعوا ذلك كابروا العيان، فإن أحداً من الناس لا يعرفه ولا يدين الله بمجيئه، وانتظار الشيء فرع معرفته، وإنما ينتظرون المسيح الدجال الكذاب الضال المضل الذي حذّر منه الأنبياء1 وأتباع الأنبياء، قالت التوراة في السفر الخامس بعد أن نصّ على مجيء النبيّ الصادق: "فأما الذي يقول ما لم آمره به ويتكلم باسم إله أخر فليقتل ذلك2 قتلاً، وإن أشكل عليهم معرفة الصادق من الكاذب فانظروا فإني لا أتمُّ عمل الكاذب ولا أكمل فعله؛ لأن قوله ذلك / (1/179/ب) كذب وجرأة وصفاقة وجه لا يخافوه ولا يفزعوا منه"3. فهذا ما في التوراة. وأما الإنجيل فقال4: "إنه سيقوم مسيح كذب وأنبياء كذبة بآيات وعلامات [ويضلون] 5 الناس إن قَدَرُوا، ويتم الذي حكاه دانيال حيث يقول: "يهرب الناس إلى الجبال ولا ينْزِل مَنْ على سطح داره أن ينْزل لأخذ ثيابه، الويل للحبالى والمرضعات في تيك الأيام، ويكون ضيق عظيم لم يكن مثله في العالم، ولولا أن تيك الأيام قصرت لم يخلص ذو جسد، ولكن من أجل المنتخبين قصرت تيك الآيام، ومن بعد ذل تظلم الشمس والقمر وتسقط الكواكب وترتج السماء". وقد قال المسيح في الإنجيل "ومن قِبَل ثمارهم يعرفونهم"6. ونحن نعلم
أن من ثمار محمّد عليه السلام توحيد الباري وتقديسه وخلع ما سواه جلّ وتعالى، وأما المسلمون فلا يعدلون لهذا النعت عن محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما النصارى فمكذبون لليهود زاعمون أنه المسيح ابن مريم عليه السلام، وقد أبطلنا ذلك. وأما المجوس1 وسائر فرق الناس كالصابئة2 وأصحاب هرمس3
وغيرهم فينقسمون إلى من له شبهة كتاب / (1/1810/أ) وهو لا يدين بالتوراة ولا بشيء من قول اليهود، وإلى من ينكر النبوات جملة كالبراهمة1 والهنود وغيرهم. وإذا كان ذلك كذلك فليس المذكور في التوراة صاحبهم الذي ينتظره سائر الشعوب، وإذا فسدت دعوى اليهود والنصارى جميعاً فلا بدَّ من الوفاء بقول إسرائيل الله الصادق، ولم يبعث إلى سائر الشعوب سوى محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يمكن دعوى ذلك لموسى عليه السلام إذ هو مهجور على كلّ قول ولا ادعاه أحد، ثم اعلم أنه يتعين تأويل ألفاظ إسرائيل وصرفها عن ظاهرها، فأكثر كلام القوم متروك الظواهر موكول استنباطه إلى آراء العلماء وفهوم الحكماء. والدليل على أنّ نبيّنا محمّداً صلى الله عليه وسلم ينتظره سائر الشعوب قوله تعالى في محكم كتابه العزيز: {قُلْ يَا أَيَّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيكُم جَمِيعاً} . [سورة الأعراف، الآية: 158] . {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلعَالِمِينَ} . [سورة الأنبياء، الآية: 107] . {تَبَارَك الَّذِي نَزَلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} . [سورة الفرقان، الآية: 1] .
وقد قال عليه السلام / (1/180/ب) "بعثت إلى الأحمر والأسود، لو أدركني موسى وعيسى ولم يتبعاني لأكبهما الله في النار"1. وذلك الذي يوضح أنه عليه السلام المراد في التوراة على لسان يعقوب. وقد نصت الأنبياء في نبواتهم على أن هذا النبيّ المنتظر يكون خاتم الأنبياء، وسنذكر ذلك في الباب الأخير. أما ما يتعيّن تأويله: فقوله: "ربط بالحبلة جحشة"، فتأويله بعض أصابنا فقال: يشد الحمار بالشجرة - ثم قال - الحمار هم اليهود والشجرة هم أصحاب النبيّ عليه السلام، قال: وشاهد ذلك من القرآن والتوراة. قال الله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّورَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} . [سورة الجمعة، الآية: 5] . فَشَبَّه اليهود بالحمار. وقال تعالى في التوراة: "أخرجت شجرة من مصر ثم فرعتها في جميع الدنيا"2. يعني: بالشجرة أصحاب موسى وكذلك أصحاب محمّدأيضاً شجرة بهذا الاعتبار، وكأنه يقول: يربط الكفار بأصحابه وأهل بيته، قال الله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُم فَشُدُّوا الوَثَاق} . [سورة محمّد، الآية: 4] .
وقد قال المسيح لليهود: "إما أن تكونوا / (1/181/أ) شجرة وثمرتها طيبة، إما أن تكونوا شجرة خبيثة وثمرتها خبيثة؛ لأن من الثمرة تعرف الشجرة"1. هذا تأويله عند بعض أسلافنا. رحمهم الله. وأنا أقول: يحتمل أن يريد بالحبلة جزيرة العرب وهي الحجاز وما والاه، وقد كانت قبل معبث سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم محمل الشرور ومحط الآثام كالحبلة التي خمَّرتها أم الخبائث فربط عليه السلام مركوبه؛ أي: استقر بها فلم يزايلهاحتى أزال ما بها من الشرك، وأبادما اشتملت عليه من الكفر والإفك، وأحال حالها من عبادةالأوثان إلى عبادةالرحمن كاستحالةالخمر خلاً. وقد قال بعض أهل العلم: إنهم غيَّروا من كلام يعقوب كلمتين: أحدهما: (جحشه) وإنما هي: مهره. والثانية: (الملك) وإنما هي: الكلّ. وذكر أنه رأى ذلك في نسخة لم تتغير - قال -: وإنما فعلوا ذلك لكي يخرجوا نص يعقوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: ولا فائدة لهم أيضاً في ذلك، فلعمري لقد كان له عليه السلام [حمار] 2 يسمى يعفور، ومعلوم أنه لا بدَّ من ربطه بالشجر/ (1/181/ب) وغيرها، وخفاء علامة واحدة - لو خفيت - لا يقدح في ظهور بقية الصفات. وأما قوله: "يرخص بالخمر لباسه"، فذلك كناية عن جهاده الكفار وقتاله في سبيل الله، أسوة سائر الرسل كما صنع إبراهيم وموسى ويوشع وداود، والخمر هو الدم ودليله قول المسيح: "وأشار إلى الخمر: هذا دمي"3. وكأنه
عليه السلام لشجاعته وإقدامه في طاعة ربه يصبغ لباسه بدماء المشركين كما ورد: "أنه حين رجع من بعض غزواته ناول سيفه ابنته فاطمة عليها السلام وقال: يا بنية أزيلي ما عليه فلقد أبلى عن أبيك اليوم"1. وكيف لا يصفه يعقوب بذلك وقد روي: "أنه عليه السلام حمل في بعض مواقفه سبعين حملة على المشركين"2. وكذلك قول يعقوب عليه السلام: "يصبغ بعصير العنب رداءه". يعني: يغمس سيفه في دماء الكافرين، والسيف يسمى رداءاً وإزاراً. ولو تصرف متأول في كلام يعقوب فقدّم وأخّر فقال: يرخص الخمر بلباسه، / (1/182/أ) لكان محسناً؛ يعني: يحرم الخمر ويزيل وضرها بتقواه. قال الله تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيرٌ} . [سورة الأعراف، الآية:26] .سمى التقوى لباساً. وأما قوله: "عيناه أشدُّ سهولة من الخمر". فقد روي في حلاه: صلى الله عليه وسلم أنه كان بعينيه حمرة ظاهرة لا تفارقه3، ويحتمل أن يكون أشار بذلك إلى
شدّة حيائه عليه السلام فإنه كان أشدّ حياءً وخفراً من الغذراء في خدرها1. فكان إذا أتى أهله تلفع من شدّة حيائه صلى الله عليه وسلم. وكان لا [يجابه] 2 أحداً في وجهه بما يكره3، وإن أمضه ما يصدر منه عرَّض، فقال: ما بال قوم يفعلون كذا وكذا4، ومال الرجال نولِّيه مما ولاّنا الله فيفعل كيت وكيت، وإن أقواماً استأذنوني في أمر فلا آذن لهم، وذلك لما طبعه الله عليه من الحياء والخفر والسكينة صلى الله عليه وسلم. وأما قوله: "وأسنانه أشدُّ / (1/1/2/ب) بياضاً من اللبن". فإن حمل على ظاهره فكذلك كان عليه السلام لكثرة محافظته على سنة السواك5، وقد اختلف الفقهاء في وجوب السواك عليه صلى الله عليه وسلم6.
وإن تأوّل فالأسنان الأصحاب والأعوان الذين هم أعون النبيّ على تبغيغ أوامر ربه تعالى كاستعانة الإنسان [بالأسنان] 1 على تناول غذائه. فوصف يعقوب أصحاب نبيّنا رضوان الله عليهم وأهل بيته الأكرمين بصفاء التوحيد ونقاء العقائد عن ظلم التجسيم والتجسيد. قال الشاعر يرثي سناً سقط له: وصاحب لا أمل الدهر صحبته يشقي لنفعي ويسعى سعي مجتهد لم ألقه مذ تصاحبنا فمذ وقعت عيني عليه افترقنا فرقة الأبد 2- فإن قيل: وفي التوراة ما يدلّ على ما ندين به من صلب المسيح، وهو أن موسى عليه السلام صنع لبني إسرائيل في التيه حية من النحاس، وأمرهم بالنظر إليها. قال النصارى/ (1/183/أ) :"فهذا تنويه بأن المسيح سيقتل ويصلب؛ لأن موسى محاشى عن العبث، قالوا: وقد كان المسيح يقول لأصحابه: "اذكروا الحية النحاس"2. فنقول لهم: يا نوكا لو قرأتم ما قبل ذلك لتبيّن لكم غلطكم وسقطكم؛ وذلك أن التوراة تقول: "إن بني إسرائيل شكوا إلى - موسى وهم في التيه - من
حيات تلدغهم، فأهلكت منهم خلقاً كثيراً، فأمرهم أن يصنعوا حية من نحاس ثم يرفعوها على خشبة. وقال: من لدغته حية فليأتِ ولينظر إلى تلك فيبرأ"1. وإنما رفعوها لكبر العسكر حتى تسهل رؤيتها ولا تتعذر مشاهدتها. وأما ما ذكرته النصارى من أن ذلك تنويه بصلب المسيح فكذب على نبيّ الله موسى، وكيف يُعدَّى ذلك إلى موسى عليه السلام وقد شحن توراته بتوحيد الله وتنْزِيهه وإفراده بالربوبية والألوهية، ثم أمر بقتل المصورين للصور، ونهى عن إتيان العرافين والمنجمين ومتحلمي الأحلام، وحرص على قتل من دعا إلى عبادة غير الله وأشرك مع الله / (1/183/ب) إلهاً آخر كما [ذكرت] 2 التوراة. وقال عليه السلام: "من [دعاك] 3 إلى عبادة آلهة أخرى فاقتله واقتل من استجاب له من الواحد والجماعة والبلدة، ولا تحننوا عليهم، ولا ترحموهم، وأزيلوا الشرّ من بينكم، فالله ربّكم واحد هو إله جبار عظيم مرهوب إله غيور هو نار محرقة"4. فمن زعم من النصارى أن توراة موسى فيها ما يعضد باطله أكذبناه بما نقلناه من التوراة. قال المؤلِّف: يقال للنصارى هَبْ أن ذلك كان تنويهاً بصلب، فبم تنكرون على من يزعم أن ذلك المصلوب إنما هو الشّبه - الذي قدمنا ذكره - وبيانه أن المسيح أعلى قدراً من الشّبه؛ لأنه: عندنا نبيّ وعندكم معشر النصارى إله، فلو كانت الحية تنويهاً بالمسيح لاتّخذوها من الذهب أو من شيء أعلى من الذهب
ليكون ذلك تنويهاً بأن المصلوب يكون أعلى من من كلّ شيء وأفضل كفضل الذهب على غيره من المنطبعات، فلما اتّخذوها من النحاس منع / (1/184/أ) قدرتهم على الذهب دلّ ذلك على أن المصلوب لا يكون إلاّ مفضولاً. وقد شهدت التوراة بأن موسى عليه السلام حلَّى قبة الزمان التي بناها للرّبّ بقدر كبير من الذهب1 فيا لله العجب تُبنى قبة للرّبّ وتُحَلى بقناطير من الذهب! فكيف تتّخذ الحية من النحاس وهي تنويه بالرّبّ نفسه؟! هذا ما لا يجمل ولا يحسن بمثل موسى وصلحاء أصحابه، ففضل ما بين الذهب والنحاس كفضل ما بين المسيح والشّبه، ثم النحاس يسمى بأرض الشام المجاورة لأرض التيه شَبَهاً2، فلعل القوم إنما اتّخذوا الحية من الشّبه لتكون منوِّهة بصلب الشبه وحماية المسيح. فأعجب - هداك الله - المواطأة بين الاسمين، إذ كلّ واحد منهما يسمى شبهاً. ثم يقال للنصارى: وكيف استدللتم بنصب الحية النحاس على صلب المسيح وهي على النقيض منه، وذلك أن تلك حين صارت على جذعها صارت سبباً للشفاء ووسيلة إلى العافية من البلاء؛ فمن رآها خلص من علته وعوفي من لدغته / (1/184/ب) لساعته، فأما يسوع فحين صار على جذعه صار سبباً للهلاك ووسيلة إلى الاشتراك، فلو أن يسوع حين صار على الخشبة أطبق اليهود على الإيمان وخلصوا من لدغات الكفر والعصيان لكان ذلك موضع شبهة،
فأما والأمر على العكس والنقيض مما تذهبون إليه فلا وجه لاستدلالكم بذلك وهي على نقيض مقصودكم، فقد صار ما انتزعوه استدلالاً على الباطل دليلاً على الحقّ1. ولله الحمد والمنة. / (2/2/ب) قال مؤلِّفه - عفا الله عنه -: ولنَزدهم2 زيادات أخر من التوراة والإنجيل تدل على وقوع الشبه والاشتباه ليتأنسوا به ولا يحيلونه، ومن ذلك: "أن الله تعالى غَيَّر صورة يد موسى عن لونها الأوّل ثم أعادها إلى لونها"3. وفعله سبحانه ذلك تدريجاً لهم وتأنيساً على الاشتباه قبل وقوعه، إذ النفوس تبتدر4 إلى إنكار ما لم يتقدم معرفته، فكما جاز في القدرة الإلهية تغير لون يد موسى حتى صارت تلمع كالثلج فكذلك وجه المسيح. ولهذا نصّ الإنجيل: "أنه قبل الفزع بقليل صعد إلى جبل بالجليل ونزل إليه موسى وإليا، قال التلاميذ: فنظرنا فإذا منظر وجه المسيح قد تغيَّر وتغيّرت ثيابه فصارت تلمع كالبرق"5. وهذا الموضع إن وفق الله له ذا لبّ من النصارى اضطره إلى ترك القول بقتل المسيح وأحال ما كان من قتل وصلب على شبه المسيح. ومن ذلك: أن الله تعالى أمر موسى / (2/3/أ) فضرب البحر بعصاه فتحول دماً عبيطاً، فكان المصريون يشربونه دماً، والإسرائيليون6 يشربونه ماء صافياً.
ومن ذلك: أن مريم ابنة عمران - أخت موسى - تغيرت على موسى في أمر من الأمور، فأمرهما الله أن يصعدا إلى قبة الزمان، فكلَّم الله مريم وتوعدها في حقّ موسى، فلما خرجت مريم من القبة إذا هي بيضاء برصاء من قرنها إلى قدمها، فرقّ لها هارون فقال لموسى: يا سيد اشفها. فدعا لها، فأمرها الله أن تخرج خارج العسكر وتقيم سبعة ثم تدخل، ففعلت، فزال عنها البرص1. ومن ذلك: أن عصا موسى كانت من شجرة جوز فبينما هي خشبة يابسة لا نبات بها إذ صارت شجرة ذات أفنان وعرشت وأثمرت جوزاً، وبينما هي كذلك صارت حية ذات روح تسعى وتأكل ما وجدت، وبينما هي كذلك إذ عادت إلى حالها الأوّل2. ومن ذلك: أن امرأة لوط لما التفتت تنظر ما نزل من العذاب بقومها صارت لوقتها نصبة ملح3، وكلّ ذلك تأنيس بشبه4 / (2/3/ب) سيتّفق في المستقبل، هذا ما شهد به المنقول من التوراة. فأما الإنجيل فقد شهد بأن الماء تحول خمراً5، وشهد سفر الملوك بأن الماء انقلب زيتاً6. فأما ما يشاهد من بديع تدبير الله وعجيب فعله؛ ما نرى الرجلين قد استويا في الحلى والصورة حتى لا يكاد الإنسان يفرق بينهما.
وقد تتاعقب الألوان على الشجر والثمر، فترى الثمرة الواحدة بينما هي في غاية البياض إذ عادت في غاية الاخضرار، وبينمنا هي كذلك إذ صارت صفراء ثم حمراء ثم سوداء وكذلك أحوالها في الطعوم وتنقلها من المرارة إلى الغضوضة إلى الحلاوة وذلك في الزمن اليسير. وقد نرى الشخص أزهر اللون نقي البشرة في حال الصبوة ثم نراه في حال الشيخوخة فلا تكاد تبين1 صورته، وهذا الشَّيْب فإنه يصبغ الأسود الحالك أبيضاً يَقَقَا2 وهذا من أعجب أنواع الصباغ، ولا عجب من حسن ما الله خالق، وقد قال شاعرهم في هذا المعنى: أنكرتني إذ رأت شيبي بدا ثم قالت ما الذي بعدي عراه قلت هذا صبغة الله ومن يصبغ الأسود مبيضاً سواه / (2/4/أ) وكم مَنْ قد اتّفق له هم وغم وركوب هول في بر أو بحر فبات غربيباً فأصبح أشيباً ولقد خُبرِّت3 أن عندنا بأرض مصر حيواناً يعرف بالحرباء يتلون في الساعة الواحدة عدة ألوان، وهذه أمور شاهدة بأن الشبه غير مستحيل في نفسه، وإذا كان جائزاً فقد أخبر الصادق بوقوعه فلا التفات بعد ذلك إلى جهلة4 النصارى في ردِّه.
وإن قالوا: لا ننكر جوازه1 وإنه غير مستحيل في نفسه غير أن المسيح قال لنا: إنه سيناله من اليهود قتل وغلب وآلام كثيرة، فوقع الأمر كما أخبر. قلنا لهم: أين قال ذلك في الإنجيل أم في غيره؟! فإن عزوه إلى غير الإنجيل أكذبهم جملة الإنجيل إذ هو مقصور على أخبار المسيح من حين ولادته إلى حين رفعه، وليس يؤثر عنه شيء خارج عما في الإنجيل، وإن عزوه إلى الإنجيل افتضحوا؛ إذ اللفظ في الإنجيل أقربه إلى مقصودهم قول المسيح: "إن ابن الإنسان سيناله من اليهود كيت وكيت"2. وقد بينا غير مرة أن ابن الإنسان المذكور إنما هو الشبه الذي قتل وصلب، والدليل على ذلك أن النصارى إلى يومنا / (2/4/ب) هذا ليس فيهم من إذا روى شيئاً عن المسيح قال: قال المسيح ابن الإنسان، ولا إذا أقسم قسما قال: وحقّ المسيح ابن الإنسان، ولا إذا دعا وابتهل سأل المسيح ابن الإنسان، ولكن ديدنه وهجيره أن يقول: قال المسيح ابن الله، وحقّ المسيح ابن الله. فإذاً دعواهم أن المسيح قال: إني سأُقتل وأُصلب دعوى لا حقيقة لها فاعملوا ترشدوا. 3- وانتزع النصارى من التوراة تحريم الأعمال في السبت: وقالوا: إنما كان ذلك تنويهاً وتنبيهاً للناس على آلام المسيح، وذلك لأنه صلب يوم الجمعة ودُفن ليلة السبت وقام يوم الأحد باكراً، فنبَّهت التوراة على أنه يكون يوم السبت كله مَيِّتاً معطلاً من الأعمال.
ونحن - يرحمك مولاك - قد أريناك1 بعون خالقك حماية الله عبده المسيح وصونه عن كيد أعدائه، وإلقاء شبهه على رجل قد حضر أجله ورضي الله له الشهادة فلا معنى للإعادة، غير أن النصارى يتعلقون في أباطيلهم بأدنى سبب كالغريق في اللجة يتعلق بما لا ينجيه، وإلاّ فأي مناسبة بين خلق الله تعالى العالم في ستة أيام وإنجاز / (2/5/أ) المخلوقات في اليوم السابع وبين إهانة رجل وقتله وصفعه وصلبه في ذلك اليوم؟! والفراغ من الأعمال غاية الكمال، والصفع والصلب والقتل غاية الذلّ والنقص ولا مناسبة بينهما البتة. وإنما حرَّم الله على بني إسرائيل العمل يوم السبت2 ليتذكروا ما كانوا فيه من السّخر والتعب والنصب عند فرعون، ويحمدوا الله على ما أراحم من جور الفراعنة، فرسم لهم يوماً واحداً في الأسبوع يكون لهم تذكرة كيلا يتقادم الزمان فينسون حسن صنيع الله عندهم فتلزمهم العقوبة أو نقص المثوبة بقلة الشكر على ما اتّخذ عندهم من النعمة. فيقولون: لو أن الله وضع لنا علماً نعلم3 به ما جرى لسلفنا لم نقصر في الشكر، فأزاح الله عللهم وعين لهم اليوم الذي تمت فيه خلائق الله ومصنوعاته، فهذه هي العلة في العطلة من الأعمال يوم السبت لا كما انتزع النصارى. على أنا لو تركناهم وما انتزعوا لم يكن فيه دلالة إلاّ على قتل الشبه الذي فرغنا من ذكره.
وكذلك / (2/5/ب) أمره تعالى برجم الزاني واللوطي تذكيراً لهم ولنا ما فعل بأهل سدوم وعامورا1 ليحصل الانزجار عن مثل فعلهم، ال الله تعالى: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِين بِبَعيِدٍ} . [سورة هود، الآية: 83] . وكذلك أمره سبحانه بالاغتسال من الجنابات والأحداث تذكيراً لهم ما صنع بفرعون وقومه، وكيف أغرقهم في البحر وفجَّر لهم المياه من الصخر القاسي. وكذلك أمرهم باتّخاذ الأواني من الذهب في بيت مقدسهم إذكاراً لهم بالذهب الذي خرجوا به من مصر وكيف سلبه من الفراعنة ومنحهم2 إيّاه مع عزِّ المسلوب وضعف السالب. وكذلك أمره إيّاهم بأن يفدوا أولادهم بذبيحة كلّ على قدر طوقه إذكاراً لهم فعل إبراهيم حين أراد ذبح ولده3 ليتأسوا به في الرضى والتسليم لله عزوجل فيعظم مثوبتهم ويجزل أجرهم. وكذلك أمره سبحانه بالقرابين والأضاحي تذكرة فعل ابْنَيْ آدم وسخاء نفس هابيل وشح أخيه قابين4، لكيف البخيل عن بخله ويجود السخي في سخاه. وكذلك أمر إياهم أن يقربوا / (2/6/أ) عن أبكارهم إذكاراً لهم ما صنعه الله بأبكار فرعون وقومه وكيف قتل في ليلة واحدة فأبكار الناس والحيوان من الملك إلى الأتوني5.
وكذلك رش الكهنة الدم على المذبح إذكاراً لهم الدم الذي أرسل على المصريين والنعمة على بني إسرائيل1، إذ يشرب هؤلاء الماء العذب وهؤلاء الدم العبيط من معين واحد ومجرى واحد. وكذلك أمره لهم بعيد [المظال] 2 إذكاراً لهم تظليلهم بالغمام من حرّ الشمس، وقد ذكرت التوراة العلة في ذلك، فقال الله تعالى: "إن سألك ابنك عداً وبعد غد، وقال لك: أيّ شيء هذا؟ فقل له: بيد منيعة قوية أخرجنا قومنا من مصر"3. وهذه المواضع تبطل على النصارى ما احتجوا به من العطلة في السبت على قتل المسيح وصلبه. 4- وانتزع النصارى من التوراة قوله: "تعالوا نخلق بشراً4 يشبهنا ومثالنا"5. وقوله أيضاً فيها: "تعالوا ننْزِل نبلبل ألس الناس"6. قالوا: فهذا دليلنا على الثالوث وإنما خاطب بذلك الروح / (2/6/ب) والابن، وقوله: "شبهنا ومثالنا". دليل على التأنس الذي فعله7.
والجواب: أن نقول أخطأتهم الطريق وقذفتم بنفوسكم من مكان سحيق، وذلك أن الروح والابن قديمان لا دخول لهما تحت أوامر الآب حتى يأمرهما، وليس قوله لهما بأولى من قولهما له، فمن صَيّر الأب أولى بافتتاح القول منهما؟! ثم الأب عبارة عن الذات، والروح عبارة عن الحياة، والابن عبارة عن العلم أو النطق، فكيف يخاطب الله علمه وحياته فيقول لهما: تعالوا ننْزل، والصفة على تجردها لا تُخَاطَب ولا تُخاطِب؟!. فإذا قالوا: فإذا كان لفظ التوراة هكذا وهو صالح للتثليث فما وجه حمله على التوحيد؟ قلنا: هذه النون مشهورة في كلّ لسان وعند كلّ إنسان يطلقها العظماء بينهم والأكابر، وهي بالله أليق، إذ هو العظيم على الحقيقة وكلّ عظيم سواه فهو عبده، ومخترع1 من صنعه. وقد قال لوقا في إنجيله: "إن ناساً راموا ترتيب الأمور التي نحن بها عارفون كما عهد إلينا أولئك الصفوة"2. فهذا لوقا قد ذكر نفسه3 بلفظ الجمع فبطل ما تخيّله / (2/7/أ) النصارى من ذلك. وقد قال الله تعالى في الكتاب العزيز: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . [سورة الحجر، الآية: 9] . {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} 4.
ويحتمل أن يكون أمر الملائكة بالنُزول وبخمر طينة آدم وتديرها على هذا الشكل الإنساني كالفعلة1 والعمال الذين يصدرون عن رأي المهندس الحكيم، فلما كملت فخارته نفخ الله في الروح، والخلق عبارة عن التقدير قال الأوّل: وَلأَنْتَ تَفْري مَا خَلَقْت وبعـ ـضُ القومِ يخلُق ثم لا يَفْري2 هذا كله إن كانت ألفاظ التوراة والإنجيل لم يدخلها التحريف والتصحيف، وهذا الموضع إن لم يمش على ما قلناه وإلاّ صادم بقية نصوص التوراة في استبداد الله تعالى بالخلق والاختراع إذ قال الله في السفر الأوّل منها: "في البدء خلق الله السماء والأرض، فقال الله ليكن كذا ليكن كذا، حتى أكمل سائر مخلوقاته في ستة أيام"3. كلّ ذلك ليس فيه ما يشعر بتثنية ولا تثليث. فأما قوله: "شبهنا ومثالنا"، فهذا الموضع هو الذي غلط اليهود والنصارى فاعتقدوا أن الله / (2/7/ب) [جسم] 4. وأنه مشابه لهذا الهيكل الإنساني، ويتعالى القديم عن مشابهة مخلوقاته {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} . [سورة الشورى، الآية: 11] . وإنما أراد الله تعالى أن آدم صار يعرف الخير والشّرّ، ولم يرد المثال والشبه الخلقي، وقد فسرته التوراة بعد ذلك بأسطر فقال الله تعالى: "هذا آدم قد صار كأحدنا يعرف الخير والشّرّ"5. والسّرّ في ذلك أن الملك مركوز في خلقه معرفة الخير الشّرّ، والحيوان البهيم خال عن ذلك، وقد كان آدم في بدء أمره
[ساذجا] 1 عن معرفة ذلك، فلما تناول الشجرة بدت له سوءته، وعرف ما لم يكن يعرف من الخير والشّرّ. وإذا كان الله سبحانه2 إنما أراد المماثلة في العلم بالخير والشّرّ بطل قول النصارى إن ذلك [دليل] 3 على التثليث. وأما قوله: "ننْزِل نبلبل الألسن". فنُزوله نزول أوامره وتجدد أحكامه وهبوط الملائكة بوحيه، وإلاّ فالحركة والتفريغ والاشتغال يستحيل على القديم سبحانه4. وقد رُوي عن سيّدنا رسول الله أنه قال: "ينْزِل ربُّنا إلى السماء الدنيا في كلّ ليلة جمعة / (2/8/أ) فيقول: هل من تائب ... " الحديث5.
وقول التوراة في خاتمتها1: "أقبل الله من سيناء، وتجلى من ساعير، وظهر من جبال فاران"2. فنُزُوله سبحانه؛ نزول أوامره، وظهوره ظهور3 شرائعه، وإقباله؛ إسباغ نعمه على خلقه، وهذه كلّها معانٍ معقولة يؤمن بها اللبيب ولا يجريها على الظاهر إلاّ المريب، ونحن فقد بينا نم كتابهم الذي بأيديهم توحيد الباري، واستشهادنا بأقوال المسيح في التوحيد وأقوال تلاميذه، وذلك يبطل تعلقهم بهذه الكلم التي لا دلالة فيها على التثليث.
5- وانتزع النصارى من التوراة: "أن ثلاثة من الملائكة مروا بإبراهيم عليه السلام فسجد لهم وخاطبهم بـ:"يا رب" 1، قالوا: فهذا إبراهيم يعتقد التثليث الذي نحن نقول به2. فيقال لهم: غلطتم أيّها القوم غلطاً عظيماً، وحدتم عن صوب الصواب، وأشكل عليكم غير المشكل، وذلك أن التوراة تقول في السفر الأوّل منها: "إن الله سبحانه كان متجلياً لإبراهيم قبل رؤيته الملائكة الثلاثة"3. فقوله: "يا رب"، خطاب4 لله وحده. ويؤيد ما قلته قول / (2/8/ب) التوراة: "ومضى الملائكة نحو سدوم وبقي إبراهيم قائماً بين يدي الله تعالى يشفع في القوم، ويقول: بخطيئة واحدة تهلك الأبرار مع الفجار، حاشاك من ذلك يا حاكم الأرض أن5يكون هذا من صنيعك"6. فهذا وجه حسن مقبول. ووجه آخر: وهو أنه يحتمل أن يكون إبراهيم أَضْمَر (يا رسل رب) ، والإضمار في التوراة كثير جداً: "كقول الملك لهاجر رآها ومعها ولدها إسماعيل: شُدِّي يديك بهذا الغلام فإني سأكثر نسله كثيراً"7. فأضمر الملك: "يقول لك الله: إني سأكثر نسل ولدك". إذ الملك لا يقدر على ذلك، وهو صادق لا يكذب.
وكذلك قول التوراة في هذا السفر: "إبراهيم، إبراهيم لا تذبحن الغلام، فقد علمت أنك تخاف الله حين لم تمنعني ابنك وحيدك"1. فأضمر "قال الله"؛ لأن إبراهيم لم يقصد بذبح ولده التقرب إلى الملك، ولم يكذب في قوله. وإذ ثبت أن إبراهيم إنما خاطب بذلك الله؛ وسجد له؛ بطل انتزاع النصارى لذلك واستشهادهم به. على أنا نقول: لو ثبت أن إبراهيم خاطب الملائكة وسجد لهم لم يلزم منه / (2/9/أ) ما انتحله النصارى من عبادة الثالوث؛ لأن قصد الجماعة الكثيرة2 بلفظ الواحد هو لسان القوم كان في ذلك الزمان، وشاهده من التوراة قوله لبني إسرائيل: "وتعملون للرّبّ إلهكم ليبارك في طعامكم وشرابكم، ويدفع الآلام عن بيوتكم، ولا يجعل عاقراً في أرضكم، وأرسل هيبتي بين يديك، وأقاتل عنك كلّ من تذهب إليه، وأجعل أعداءك خاضعة بين يديك"3. وهذا كما ترى مخاطبة الجمع الكثير بلفظ الواحد، وفي التوراة من هذا الجنس كثير؛ كقوله لبني إسرائيل: "إنكم تعرفون أنفس التواينة؛ لأنكم كنتم تواينة بأرض مصر، ازرع أرضك ستّ سنين ودعها في السابعة"4. وشاهد من المزامير لداود: "اسمع يا قوم، أقول لكم يا إسرائيل: أنا الله ربّك"5. وشاهده من الإنجيل: "لا تقابلوا الشّرّ بالشّرّ، ولكن من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر، ومن رام أخذ ثوبك فألق عليه رداءك"6.
وفي الإنجيل: "لا تصنعوا بِرّكم قُدَّام الناس لتراؤوا لهم فيحبط أجركم؛ لكن إذا صنعت رحمة فلا تُصوّت/ (2/9/ب) قدامك بالبوق كما يفعل المراؤون في المحافل والأسواق لكي يحمدهم الناس"1.وذلك في كتبهم كثير. فلو كان خطاب إبراهيم للثلاثة بلفظ واحد يدل على التثليث؛ فهذه كتبهم تخاطب الجموع الكثيرة بلفظ الواحد فيلزم منه إفساد التثليث. وأما قوله: "يا ربّ" فقد قدمنا أن لغة القوم تجيز ذلك، وأنهم يخطابون العظيم القدر الرفيع المنْزلة ولا يستنكر ذلك منهم، وقد قال زكريا عليه السلام: "قال لي الملك: ما تدري ما هذا؟ قلت: لا يا رب"2. ورأى يوشع رجلاً في يده السيف مصلتاً؛ فذهب إليه فقال: "أَمِنَّا أنت أم من عدونا؟ "، فقال: أنا رئيس جند الله3. فسجد يوشع. وقال: أَيُّ شيء يقول الرّبّ لعبد؟ فقال: اخلع نعليك فإن الموضع الذي أنت فيه مقدس"4. وهذا في كتب القوم كثير يخاطبون به أكابرهم وعظماءهم، ولما كان لفظ الرّبّ يطلقونه على غير الله تجوزاً وتوسعاً، احتاجوا إلى لفظ التأكيد والتكرار عند إرادة الرّبّ الحقيقي. فقيل لهم في التوراة والكتب العتيقة: "اعلموا / (2/10/أ) أن الله ربّكم وإلهكم وخالقكم ورازقكم". حتى يرتفع الاشتراك بين المجاز والحقيقة. وقال سبحانه في التوراة لبني إسرائيل: "اختنوا قلفة قلوبكم ولا
تقسوا رقابكم، الله ربّكم هو إله الآلهة وربّ الأرباب، إله عظيم مرهوب جبار، لا يرتشي ولا يحابي، وينصف الأيتام والأرامل الذين يقبلون إليه"1. وقد ذكرنا أن السجود كان سلام القوم على أكابرهم وتحيتهم لعظمائهم، فقد سجد يوشع للملك، والتوراة تشهد بأن إبراهيم ولوطاً وإخوة يوسف وأولاده قد فعلوا ذلك، وذلك مذكور مشهور2. قال مؤلِّفه-عفا الله عنه-في هذاالفصل من التوراةمعانٍ رديَّة فتأمل: منها قولهم: "إن الله قال لإبراهيم: لقد وصل إلى إثم سدوم وعامورا فقلت انزل الآن فانظر هل صنعوا وأثموا كما بلغني وإلاّ عرفت ذلك"3. فإن فيه نسبة الباري إلى عدم العلم بالمغيبات، ونسبة الملائكة إلى عدم الصدق وأنهم في موضع تهمة ومحل ظنه. والموضع / (2/10/ب) الآخر قولهم: "إن الملائكة أكلت الطعام عند إبراهيم ولوط، فنقلوا عن إبراهيم أنه أطعمهم خبز ملة، وصنع لهم عجلاً سميناً، وساقهم لبناً وسمناً، وأن لوطاً أطعمهم فطيراً"4. هذا وأهل الكتاب ينكرون قول أهل الإسلام إن أهل الجنة يغتذون بالطعام والشراب، ويقولون: لا طعام في الجنة ولا شراب ولا نكاح؛ بل يكون حالهم كحال الملائكة لا يأكلون ولا يشربون وهذه غفلة عظيمة. وقد قال تعالى في شأن الملائكة في هذه القصة: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُم لاَ تَصِلُ إِلَيهِ نَكِرَهم} . [سورة هود، الآية: 70] . وذلك كناية عن ترك الأكل ويشبه أن يكونوا أمسكوا5 طعام إبراهيم وباركوا عليه. وتقدموا إليه بإطعامه أبناء السبيل وذوي الحاجة.
6- وانتزع النصارى من التوراة قولها: "وأهبط الرّبّ على سدوم وعامورا ناراً وكبريتاً من بين يدي الرّبّ من السماء"1. فزعموا أن تكرار "الرّبّ" مرتين دليل لهم على اقنومين2، وأن الله أَبْهَم ذكر [الأقنوم] 3 الثالث ووكله إلى استخراج العلماء والفهماء4 / (2/11/أ) لتكثر أجورهم وتجزل مثوبتهم بالبحث والاستنباط. والجواب عن ذلك: أنه سبحانه5 إنما كرر لفظة الرّبّ للتأكيد ليُعْلِم عباده أنه هو المتولي عذاب الظالمين، وهذا موجود في كلّ لغة عند إرادة التأكيد وهو كقول القائل: نعوذ بالله من غضب الله، وكقول التوراة: "وصعد موسى إلى الله وناداه الله: قل لبني إسرائيل وأَعْلِم بني يعقوب قد رأيتم ما صنعت بالمصريين"6.وكررالله مرتين وكرر يعقوب والمعنى واحد. وقد قال أشعيا في نبوته: "إن الرّبّ رحم7 يعقوب ونجى إسرائيل"8. وقال أشعيا أيضاً: "تكلم يا يعقوب وقل يا إسرائيل ولا تخف"9. وفي التوراة: "قال موسى: يا ربّ الشعب الذين معني ستمائة ألف، وأنت قلت إنك تطعمهم لحماً شهراً كاملاً، فلو ذُبح لهؤلاء أنعام الأرض وثيرانها أو
صيد لهم سمك البحور أين كان يقع ذلك منهم؟ فقال الرّبّ: يد الرّبّ تكمل الأشياء، والآن ترى هل يتمّ كلامي أم لا؟ "1. فبطل ما تعلقوا به من قوله: "أنزل / (2/11/ب) الرّبّ من بين يدي الرّبّ". ويقال للنصارى: ما قولكم فيمن يدعي أن الأقانيم خمسة ويستشهد بقول الله تعالى في التوراة: (فدعا بنو إسرائيل، فصعد نحيبهم إلى الله، فرأى الله بَلِيَّتهم فذكر اله ميثاقه مع إبراهيم أبيهم، فنظر الله لهم وعلم الله حالهم واضطرارهم"2. وإن كان قوله: "أهبط الرّبّ على سدوم ... ". تدل على أقنومين. فهذه الآية من التوراة تدل على خمسة أقانيم. ولعل ثم أيضاً عدة أقانيم وراء هذه الخمسة أظهر منها ما أظهر وأبهم الباقي؛ ليكثر أجر الحكماء والعلماء في استنباط ما أبهم منها. وكذلك قال داود في مزمور الثامن عشر: "ناموس الرّبّ بلا عَيب، شهادة الرّبّ صادقة، أمر الرّبّ مستقيم، ووصية الرّبّ تدبر العيون، خشية الرّبّ زكية، أحكام الرّبّ عادلة"3. فهذا المزمور قد كرر (الرّبّ) ست مرات، أفتقول النصارى إن الأقانيم ستة؟! فبطل ما ادّعوه في قوله: "أنْزله الرّبّ على سدوم) . ونُزِّل ذلك منْزلة قوله: بسم الله الرحمن الرحيم، ولا فرق في التكرار والتأكيد / (2/12/أ) بين أن يأتي بالاسم الواحد مرتين وبين المغايرة بين الاسمين والمعنى واحد. 7- فإن قيل: دليلنا على ربوبية المسيح أنه أحيا الميّت، وأبرأ الأكمه وطهَّر الأبصر، ومشى على الماء، وصعد السماء، وحوَّل الماء خمراً، وكثَّر الطعام القليل، وأقام الز َمِن، وحمته الملائكة، وسترته الغمامة، وأخرج الشياطين من الآدميين.
والجواب: أنه لم يُسلَّم لكم هذه الدعاوى سوى هذه الأمة البارة وهي أمة محمّد صلى الله عليه وسلم، فلولا محمّد عليه السلام شهد لأخيه عيسى بالرسالة والنبوة لما عَرَّج أحد اليوم على أقوالكم ولا وثق بروايتكم، وإلاّ فما بال بني إسرائيل على كثرتهم لم يصدقوكم بما تنقلون؟! هذا وأنتم تنقلون عن أمور محسوسة إذا وقعت لم تكد تخفى. فإن قالوا: إن اليهود لعداوتهم لنا تمالؤوا على ستر هذه الخوارق بغياً وحسداً. قلنا لهم: فما بال من عدا اليهود من الأمم والطوائف كالفرس والديلم والترك والهنود والصين لم يصدقوكم على ذلك ويتّفقوا1 على دينكم ويتابعوكم على معتقدكم / (2/12/ب) وقد أَرَّخَ الناس أخبار العالم وحوادثه ودَّنوا في كتبهم عجائبه؟!. فما بال العالم يُكذبكم ويقولون: إن يسوعكم لم يحي مَيِّتاً قط، ولا أقام زمناً ألبتة، ولا طَهَّر أبرص أصلاً. وإن جميع ما تنقلونه من ذلك كذب ومين وإفك واختلاق لا أصل له ولا صحة. فلولا محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد بصدق أخيه المسيح، وأخبر أنه أحيا الميّت، وأبرأ الأكمه والأبرص، وخلق من الطين كهيئة الطير بإذن الله - لما عَرَّج أحد على أمثالكم وأشباهكم. فأما بقية الآيات التي تدعونها فإن ثبت أن نبيّنا صلى الله عليه وسلم أخبرنا بها أو أخبرنا صادق آخر من الأنبياء المتقدمين شيء منها سمعناه وآمنا به وصدقناه وكان عندنا عَلَماً من أعلام نبوته عليه السلام، فأما أنتم فإنا لا نصدقكم فيما تنقلون عن الأنبياء بعد وقوفنا على تخليطكم في منقولكم، وفساد عقولكم وقبولها لكلّ مستحيل، ألستم الذين تنقلون عن يوحنا الإنجيلي: "أن
كلمة الله التي هي علمه صارت لحماً وشعراً وظفراً؟ " ألستم الذين تنقلون عن أفريم:"أن اليدين اللتين خمرت طينة آدم سُمِّرت بالمسامير على/ (2/13/أ) الصليب، والشِّبْر التي مسحت السماوات عُلِّقت على خشبة، وأن من لم يقل إن مريم ولدت ربّها إلهها فهو محروم؟! "1. ألستم الذين زعمتم أنّ لوطاً وقع على ابنتيه فأحبلهما وأولدهما2؟!، وأنّ رؤبيل بكر يعقوب وقع على سُرِيَّة أبيه وفجر بها؟! 3، وأنّ يهوذا وقع على امرأة ابنه؟! 4، وأنّ دينا ابنة يعقوب افترعت وأزيلت بكارتها؟!! 5. وصيَّرتم ذلك قرآناً يتلى في بيِّعكم وكنائسكم بحضرة جموعكم، ألستم الذين زعمتم أن لله الخالق الباري ابناً، وأنه أرسل أنبياء فقهروا وغلبوا وظهر عليهم الشيطان وقل جدهم وقهر سلطانهم. واستولى على ملك الله، فاحتاج الله أن أرسل ابنه ذلك إلى الأرض. فولج فوائد امرأة من خلقه وأقام برحمها تسعة أشهر، ثم خرج من فرجها طفلاً، وبقي يتردد بين اليهود يدعوهم، وأن الشيطان قهره وأخرجه إلى البرية وسحبه من مكان إلى مكان ودعاه إلى أن يسجد له، فلما أتى عليه هذا الابن سلط عليه شرذمة من أَخس6 جنده وأدبر أعوانه؛ وهم اليهود فأخذوه وصفعوه / (2/13/ب) وصلبوه وأغضبوا والده وأثكلوه؟! وإذا كان هذا نقلكم فأيّ عاقل بعدها يسكن إليكم أو يعول في أمر عليكم؟!
فأما إحياء الميّت1 فقد حكينا أن إلياس أحيا ابن الأرملة2، وأن اليسع أحيا مَيِّتين [واحداً] 3 في حال4 حياته وآخر بعد وفاته5، وأن حزقيال أحيا الذين قتلهم بختنصر، وكانوا ألوفاً من الناس، ولهم من يوم قتلوا [نَيِّف وأربعون] 6 سنة، فقال الله لحزقيال: تنبأ على هذه العظام حتى أحييها لك7، وقد فعل قبر اليسع8 أعجب من فعل المسيح؛ لأن قوماً حملوا جنازة إلى الجبال فرأوا9 عَدُوّاً، فخافوا وطرحوا الميت عن رقابهم وابتدروا فزعه، فقام الميت، وجاء يمشي حتى دخل المدينة، فنظروا فإذا هم قد ألقوه على قبر نبي الله اليسع، وفعل حزقيال أبدع من فعل المسيح، وفعل موسى أغرب من فعله؛ إذ قلب الخشبة لها عينان تبصر بهما10، وأخرج من الرمل11 قملاً يسعى حتى ملأ قياطن فرعون وأرض مصر، وهذا أعجب وأغرب من فعل المسيح. وأما إبراء الأكمه من بني آدم: فلا شكّ أنّها من الآيات الباهرة أيضاً، وهو يلحق بإحياء الميّت؛ / (2/14/أ) لأن ذاك أحيا عضواً كان ميّتاً فأشبه إحياء الإنسان جملة، غير أن آية موسى12 أغرب عند العقلاء منهم. وذلك أن صنعه عينين
لخشبة يابسة جافة لا روح فيها أبدع. وأبدع من فتح عيني آدمي، ثم آية موسى كيف أراد أدارها وحولها، إذ بينما هي خشبة صارت حيواناً يبصر بعينيه ويأكل ما قدر عليه، وبينما هي حيوان إذ عادت شجرة لوز مثمرة، وبينما هي كذلك إذ عادت إلى حالها الأوّل، ثم إنها يستدعي بها الجواد والذباب والقمل والضفادع، ويثير بها الثلوج والمياه والظلمة، ويشق بها البحر، ويُجري بها المياه من الصخر، ويجاهد بها الجبابرة فَتَنْفُذ في كلّ ما عمل بها أعظم نفوذ، وهذا - فاعلموا - لم يكن للمسيح من الآيات مثله، وقد فتح يوسف الصّدّيق عيني أبيه يعقوب عليهما السلام كلّ ذلك يشهد به التوراة. وأما إبراء الأبرص1: فقد شهدت التوراة أيضاً أن مريم أخت موسى وهارون تكلمت في موسى فبرصت من ساعتا، فأخرجت عن العسكر، فرضي عنها فزال برصها2، ولم يدع عليها في الأوّل ولا / (2/14/ب) دعا لها في الثاني وذرنا عن نعمان الرومي أنه برص فرحل إلى اليسع، واستأذن عليه فلم يأذن له، وقال: قولوا له يذهب إلى الأردن فينغمس فيه سبعاً فإنه يبرأ، ففعل، فبرأ من برصه3. وأما مشيه على الماء4 فقد حكينا أن إلياس وتلميذه اليسع ق مَشَيَا على نهر الأردن جميعاً5، وكذلك يوشع بن نون قد مشى على الماء بتابوت السكينة هو ومن معه6.
وأما تحويل الماء خمراً1 فقد حكينا عن سفر الملوك من كتبهم أن إلياس أو اليسع قلب الماء زيتاً؛ فأغنى به بيتاً من الفقراء2. وذلك أعجب من فعل المسيح على الكلّ سلام الله. وأما تكثيره القليل من الطعام3، فقد حكي في التوراة أن موسى دعا الله فأطعم بني إسرائيل مَنَّاً وسلوى في البرية. وهم ستمائة ألف سوى النساء والصبيان4. وذلك أعجب وأغرب من آية المسيح - علهما السلام -. وقد حكي في سفر الملوك أن إلياس عليه السلام نزل بامرأة أرملة في زمن قحط شديد حتى هلك الناس. ومكثت السماء لم تمطر ثلاث سنين / (2/15/أ) فقال لها: هل عندك من طعام؟ قالت: والله يا نبيّ الله، ما عندي إلاّ كفّ دقيق في قلة لنا. أردت أن أخبزه لطفل صغير. وقد أيقنَّا بالهلاك. فقال عليه السلام: أحضريه ولا خوف عليك. فأحضرته بين يديه. فبارك عليه. فمكث عندها ثلاث سنين وستة أشهر؛ تأكل منه هي وأهلها وجيرانها حتى فرّج الله عن الناس5. ومَن كَثَّر القليل وأدامه أغرب في الإعجاز ممَّن كَثَّر ولم يدمه. وأما حراسة الملائكة له6، فالتوراة تشهد بأن الملك كان يسير في عمود الغمام أيام بني إسرائيل حتى شقّ بهم البحر وخلّصهم من فرعون7. وذلك أعجب من تخليص المسيح من يد الشيطان.
والعجب من النصارى يعتقدون أنّ المسيح ربّ الشيطان وربّ كلّ شيء ومع ذلك يُقِرُّون أنّ الشيطان حصره في البرية واستولى عليه. وقال له: اسجد لي. حتى خلصته الملائكة من يده وأنقذه من ورطته1. وأما صعوده إلى السماء2، فسائر كبتهم تشهد أنّ أخنوخ قد صعد إلى السماء3، وأنّ إلياء قد صعد إلى السماء4، فاستوت حالهما مع المسيح. / (2/15/ب) . والعجب أنّ الملائكة مأواها السماء وهي في زعم النصارى خدم المسيح، فكيف يعدون صعوده إلى السماء دلالة على الربوبية؟!. وأما شفاء الزمن5 من علة زمانته، فالتوراة شاهدة أن سارة حملت وهي عجوز فانية وولدت إسحاق ببركة نبيّ الله إبراهيم6، وكذلك الإنجيل يشهد أن أليصابات على كبر سنها حملت وولدت يحيى ببركة نبيّ الله زكريا7. وما ذلك إلاّ غضو أزيلت علته. فبطش بعد ضمان عطبته وزمانته. فاستوى الأمران. وأما ستره بالغمامة حين صعد إلى الجبل8، فالتوراة تشهد بأنّ بني إسرائيل إذ كانوا في التيه مع موسى، وكان الغمام يسترهم من حرّ الشمس وهم ستمائة ألف سوى النساء والصبيان وبهيم الحيوان9. وذلك أربعة سنة. وهذا
أعجب من ستر المسيح بالغمامة ومعه نفر يسيرة. وأما شفاء المجنون من جنونه1، فالتوراة تشهد أن موت الفجأة وقع في بني إسرائيل فقتل منهم في يوم واحد آلافاً منهم، فأخذ هارون / (2/16/أ) البخور في مجمرة وقام بين الأموات والأحياء، فكفّ الموت عن بقيتهم2، وما الجنون إلاّ مرض أصاب العقل، وهو دون مرض جملة البُنية. وكذلك نهشتهم الحيات في التيه فاتّخذ لهم حية من نحاس، فكان كلّ من لدغته حية جاء إلى الحية النحاس فيبرأ من علته3، فهاتان الآيتان من التوراة أعجب من فعل المسيح. وأما إجابة دعوته4، فالتوراة تشهد بأن إسحاق حين كبر وقرم إلى اللحم وقضى أولاده شهوته دعا ليعقوب وعيسى فاستجيب فيهما5. وكذلك قالت: إن يعقوب بارك ودعا لأولاده عند وفاته، فلم ترد دعوته6، ومما أخبر يعقوب تلميذ المسيح في رسالته: أن إلياس دعا على قومه فلم تمطر السماء ثلاث سنين وستة أشهر. ثم دعا بعد ذلك فزال الجدب7. وهذا أعجب من فعل المسيح وأغرب. وقد بقيت للأنبياء آيات لم يأت المسيح عليه السلام بنظيرها فنسمع بتسطيرها. والله أعلم.
الباب السابع: في إفساد دعوى الاتحاد والتثليث
الباب السّابع: في إفساد دعوى الاتّحاد والتّثليث في إفساد دعوى الاتّحاد والتّثليث1: نحكي فيه مقالات الفرق الثلاث من النصارى اليعاقبة والروم والنسطورية في دعوى اتّحاد اللاهوت بالناسوت. وكيف تناقضوا وتعارضوا، ثم نعكر على الجميع بالإفساد والإبطال2. اعلم أنّ فرق النصارى كثيرة ولكن المشهور منهم الآن [ثلاث] 3 فرق: اليعاقبة والروم والنسطور4. وعقائدهم في الإله مختلفة وآراؤهم متباينة ومقالاتهم متناقضة، ولم أر لهم قدماً يثبت ولا قاعدة تستقر في هذه الدعوى، وسبب خبطهم أن كلاًّ منهم يريد أن يفرِّع عن أصل مستحيل؛ مذهباً صحيحاً جائزاً عند العقلاء5 وما ذلك إلاّ كقول القائل: ومتى كان في الأنابيب خلف وقع الطيش في صدور الصِعَاد
الفرقة الأولى: فرقة يعقوب السروجي ويسمى البرادعي أيضاً. ادّعت أنّ المسيح أصاره الاتّحاد طبيعة واحدة [وأقنوما] 1 واحداً2.
قالوا: لأن طبيعة اللاهوت تركبت مع طبيعة الناسوت كما تركبت نفس الإنسان بجسده فصار إنساناً واحداً فكذلك المسيح. فالمسيح عندهم إله كلّه وإنسان كلّه وله طبيعة واحدة. / (2/17/أ) وهو يفعل بها ما يشبه أفعال الإله وما يشبه أفعال الإنسان وهو [أقنوم] واحد، [والأقنوم] 1 هو الشخص، والأقانيم هي: الأشخاص. ومجرد حكاية هذا المذهب يكفي في الرّدّ عليه؛ إذ حاصله أنّ الإله هو الإنسان والإنسان هو الإله. وسبيل الرّدّ على هذه الفرقة: أن يقول لهم: أخبرونا عن هاتين الطبيعتين اللتين أصارهما الاتّحاد طبيعة واحدة، هل تغيرت كلّ واحدة عما كانت عليه قبل التركيب أم لا؟ فإن زعمت أنهما لم يتغيرا بل بقيت طبيعة الإله بحالها وطبيعة الإنسان أيضاً بحالها؛ فقد نقضوا مذهبهم ورجعوا عن قولهم إلى قول من يقول: إن المسيح بعد الاتّحاد كَهُوَ قبل الاتّحاد. وسيأتي الكلام عليه.
وإن زعمت أن الطبيعتين قد صارتا طبيعة ثالثة، لا تشبه واحدة من الأوليين، فهذا تصريح بأنّ هذه الطبيعة لا إله ولا إنسان. فكان ينبغي على سياق هذا القول أن لا يصفوا المسيح بأنه إله ولا يصفوه بأنه إنسان؛ بل شيء آخر غريب عجيب؛ وذلك / (2/17/ب) لأن الطبيعتين كانتا قبل التركيب إلهاً كاملاً وإنساناً كاملاً، فإن كان التركيب قد أخرجهما إلى طبيعة غيرهما لم تكن تلك الطبيعة لا إلهاً ولا إنساناً. فإن زعموا أنّهما كانتا قبل التركيب كاملتين، والتركيب لم يخرجهما عن الكمال بل بقي المسيح [إلهاً كاملاً] 1 وهو بعينه إنسان كامل، فقد تحامقوا إذ زعموا أنّ القديم هو بعينه الحادث، وأنّ الزَّمني هو بنفسه الأزلي؛ وذلك بمثابة قول القائل: إن الحركة هي السكون وأنّ السواد هو البياض. وذلك هو الجنون. الحجّة الثّانية: الجمع بين الجوهرين2، [والأقنومين] في الجوهرية [والأقنومية] يوجب كون الطبعين طبعاً واحداً [والأقنومين] أقنوماً واحداً. فيسقط القول فيه بالدنايا إن كان المسيح إلهاً. أو يسقط القول بظهور الآيات إن كان المسيح إنساناً3. فبطل القول بكونه طبعاً واحداً [وأقنوماُ] واحداً.
الحجّة الثّالثة: لو قد صار الجوهران واحداً للزم أن يكون القديم هو الحادث من الوجه الذي هو قديم، / (2/18/أ) والمحدث [قديماً] 1 من الوجه الذي هو محدث. فبطل أن يكونا صارا واحداً. الحجّة الرّابعة: هذا الرأي2 من اليعقوبية مردود بأقوال المسيح في الإنجيل حيث يقول: "أنا ذاهب إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم"3. ففرق بين الذاهب والذي يذهب إليه. فبطل أن يكونا قد صارا واحداً، وإلاّ لاتّحد الذاهب ومن يذهب إليه والداعي والمدعوّ، ودعاء المسيح نفسه محال. الحجّة الخامسة: إن كان طبع الإله وطبع الإنسان قد صارا واحداً والإله خالق والإنسان مخلوق، فطبع4 الخالق هو طبع المخلوق، وطبع العلة هو طبع المعلول، وذلك محال. الحجّة السّادسة: إن كان جوهر الأزلي قد تغيّر [وأقنومه] قد تغيّر فقد صار الأزلي زمنياً والزّمنيّ أزليّاً، وذلك جهل من قائله. الحجّة السّابعة: إن كان جوهر5 الابن الأزلي، وجوهر الإنسان قد تغيّرا عن طباعهما فقد بطلت فائدة الاتّحاد التي يدّعيها النصارى؛ لأنّ فائدته عندهم أن يقع الفيض من الطبيعة اللاهوتية على الطبيعة الناسوتية / (2/18/ب) بحلولها فيه. وإذا كانت [الطبيعتان] 6 قد انقلبتا إلى ثالثة، فلا المفيد بقي مفيداً، ولا المستفيد بقي مستفيداً.
الحجّة الثّامنة: إن كان الجوهران و [الأقنومان] سليمين في المسيح، لم يصدق قول من يقول إنهما صارا واحداً بالعدد. وكيف يقال في الكثرة إنها واحد1 من الجهة التي هي كثرة؟!. وكيف يقال في الواحد إنه كثرة من الجهة التي هو بها واحد؟!. وإن كان الجوهران والأقنومان قد تفاسدا وعدما فكان ينبغي أن لا يوجد المسيح بل يعدم ويتلاشى. الحجّة التّاسعة: إن كان الجوهران و [الأقنومان] قد صارا واحداً بالعدد فيجب أن يبطل فعل هذا وفعل هذا؛ لأنّ المختل في الطباع إذا تركب منهم طبع آخر لم يَبن فعل الأوّل ولا الثاني. فكان يجب أن لا يظهر المسيح2 لا فعلاً إلهياً ولا فعلاً ناسوتياً، ألا ترى أنّ الاستقصات الأربع إذا تركب عنها جسم فلا شكّ أن ذلك الجسم ليس بنار محضة ولا هواء ولا ماء ولا تراب. فعلى سياق هذا كان يلزم أن يكون المسيح بالاتّحاد / (2/19/أ) الذي يدّعونه لا إله ولا إنسان، ويؤول القول بالاتّحادإلى رفع ثمرته وفائدته. الحجّة العاشرة: الإنجيل مصرَّح بأنّ المسيح كان يتَزَايد أوّلاً في بنيته ومعارفه وعلومه، والمتزايد غير الكامل فبطل أن يكون شيئاً واحداً؛ لأنّ الإله لا يتقلب ولا يتغيّر ولا يستحيل ولا يزيد. فإذا قلتم: إنهما قد صارا واحداً ثم انقلب وتغيّر، فيكون غير المنقلب منقلباً وغير المستحيل مستحيلاً.
وإذا انقلبت الكلمة فمن القالب لها؟!. ثم جوهر الابن على زعمهم غير مائت ولا1 فاسد. وجوهر الإنسان المأخوذ من مريم مائت وفاسد. فإن كان المجتمع منهما صار واحداً فقد صار بجملته لا مائتاً ولا غير مائت ولا فاسداً ولا غير فاسد. وذلك خبط وجهل. وإنه لقبيح بموجد أوجه خالقه بعد أن لم يكن أن يقول: إنه صار هو وخالقه شيئاً واحداً وطبيعة واحدة، ولا يقبح أن يقال: إن الخالق الباري أفاض على عبده النعماء. وقال فولس في أواخر الرسالة العاشرة: "الله مالك العالمين الذي لا يفسد ولا يرى، هو الله / (2/19/ب) الأحد، له الكرامة والحمد إلى أبد الآباد. جلّ وعلا2. الحجّة الحادية عشرة: صيرروة الجوهرين المتنافيين كالثلج والنار واحداً مستحيل ببداية العقول مع اشتراكهما ي أصل الجوهرية. فصيرورة خالق الجوهر مع الجوهر واحداً أولى3 بالاستحالة. الحجّة الثّانية عشرة: قال يحيى بن زكريا حين رأى المسيح: "هذا خروف الله وحمل الله الذي يحمل خطايا العالم"4. فَفَرَّق بينه وبين الباري تعالى فبطل أن يكونا واحداً. الحجّة الثّالثة عشرة: قال شمعون الصفا: "يا رجال بني إسرائيل إن يسوع رجل جاءكم من الله"5. وأيسوع اسم المسيح. فشهد شمعون وهو رئيس
أصحاب المسيح بأنّ المسيح رجل، وأن الله أرسله، أنه إنسان كلّه، وذلك تكذيب لليعقوبية في دعوى هذا النوع من الاتّحاد. الحجّة الرّابعة عشرة: سئل المسيح عن يوم القيامة، فقال: "لا يعرف ذلك إلاّ الأب وحده، فأما الابن فلا يعرفها"1. وقول المسيح أولى بالتصديق، وقد أخبر أنه لا يعلم بالمغيّبات، ولو قد صار مع الله شيئاً واحداً لعلم ما يعلمه الله / (2/20/أ) لأنّ الشيء الواحد لا يمكن أن يثبت لبعضه من الحكم ما يجب نفيه عن البعض، فبطل أن يكونا شيئاً واحداً. الحجّة الخامسة عشرة: الأناجيل الأربعة تذكر أنّ المسيح بكى على صديقه إلعازر، وفرح بتوبة التائب، وأكل في دعوات أصحابه، وشرب وركب الأتان، وتعب من وعر الطريق، وحزن2 من نزول الموت. وقال: "إلهي اصرف عني هذا الكأس". وهذه النقائص قبيح إضافتها إلى الابن الأزلي. فبطل أن يكونا صارا واحداً. فهذه حجج دامغة لليعاقبة قاضية بفساد ما ذهبوا إليه. وكثيراً ما [يحاولون] 3 تحقيق مقالتهم إذا ألزموا4 ما يعتقدونه من قتل المسيح وصلبه فلا يمكنهم ذلك إلاّ أن يفروا إلى مذهب النسطور.
الفرقة الثّانية: فرقة الملكية1؛ ومذهبهم أنّ المسيح بعد صدور الاتّحاد جوهران وهو [أقنوم]
واحد - وقد حكينا عنهم أنّ [الأقنوم] هو الشخص - قالوا: فله بطبيعة اللاهوت مشيئة كمشيئة الأب، وله بطبيعة الناسوت مشيئة كمشيئة إبراهيم وداود غير أنّه / (2/20/ب) واحد أي شخص واحد. فردّوا الاتّحاد إلى [الأقنوم] إذ رأوا1 الاتّحاد بالنسبة إلى الجوهر مستحيل. وسبيل الرّدّ على هذه الفرقة: أن نقول: إذا قلتم: إن المسيح بعد الاتّحاد باقٍ على طبيعته ومشيئته كما كان قبل الاتّحاد فقد أبطلتم الاتّحاد، إذ افتراق أحد الجوهرين بالطبيعة والمشيئة هو غاية الافتراق، وإذاكان ذلك كذلك، فلا معنى للاتّحاد. إذ الاتّحاد عبارة عن صيرورة أكثر من الواحد واحداً. وإذا كان جوهر الأزلي باقٍ بحاله وجوهر الإنسان باقٍ بحاله فقد آل الاتّحاد مجرد تسمية فارغة عن المعنى خالية عن الفائدة.
الحجّة الثّانية: هو أن نقول لهم: أتقولون إن اللاهوت اتّحد بالناسوت حقيقة أو مجازاً؟ !. فإن قالوا: إن ذلك [تجوز وتوسع] 1 أبطلوا وتجوزوا بإطلاق ما لم يجز إطلاقه على القديم سبحانه2. وإن قالوا: إنه اتّحد به حقيقة لزمهم أن تكون مشيئتهما3 واحد؛ لأن الواحد لا تكون له إلاّ مشيئة واحدة، إذ لو كان للواحد مشيئتان للزم إما أن يكونا متماثلتين أو مختلفتين، فإن كانتا / (2/21/أ) متماثلتين فإحداهما مغنية عن الأخرى، وإن كانتا مختلفتين تناقضت أحكامهما وامتنع حصول مرادهما. فثبت أنه لا بدّ من إبطال إحدى4 المشيئتين إن كان الاتّحاد حقيقة، أو إبطال الاتّحاد جملة أن يثبت المشيئتان. الحجّة الثّالثة: على الروم أصحاب الجوهرين و [الأقنوم] الواحد، هو أن نقول: إن قلتم: إن [الأقنومين]- أعني: [أقنوم] الأزلي [وأقنوم] الإنسان - قد صارا5 واحداً، فالجوهران أيضاً قد صارا واحداً، والقول [بصيرورة] 6 الجوهرين واحداً باطل، والقول بالأقنوم الواحد باطل. الحجّة الرّابعة: هذا المذهب فيه قباحة، وذلك أن صيرورة جوهرين مختلفي الطباع شخصاً واحداً [أقنوماً] لا يبوء به عاقل، إذ يلزم عليه أن يشار إلى المسيح بأنه قديم محدث إشارة واحدة.
الحجّة الخامسة: إن كان أقنوم المسيح قد صارا [أقنوماً] واحداً، وأحدهما زمني والآخر أزلي، فقد صار الأزلي زمنيّاً والزمنيّ أزليّاً، أو صار منهما شيء آخر لا أزلي ولا زمني وذلك محال. وعلى هذا يبطل فعل [أقنوم] الإنسان وهو الأكل والشرب وغيره، وقد وُصِف المسيح به (2/21/ب) بذلك، أو يبطل فعل [أقنوم] الإله؛ وهو إحياء الميت وتطهير الأرض وقد وُصف المسيح به. الحجّة السّادسة: إن كان [الأقنومان] قد صارا [أقنوماً] واحداً منع تنافي طباعهما فهذا إنما يتم بالامتزاج والاختلاط، فيلزم أن يتغير الإله ويستحيل مع طبع الإنسان، وذلك متعذر على ذات الباري تعالى. وأكثر الحجج الواردة على الفرقة الأولى ورادة على الفرقة الثانية لقولها باتّحاد الأقنوم. الفرقة الثّالثة: فرقة النسطور1 وهم نصارى المشرق المنسوبون إلى نسطورس أخذوا الأمانة
عن السليح1 ماري2 وعنتوما3، ساعدوا نسطورس على رأيه فنسبوا إليه. ومذهبها أنّ المسيح بعد الاتّحاد جوهران [وأقنومان] باقيان على طباعهما كما كانا قبل الاتّحاد وردّوا الاتّحاد إلى خاص البنوة وهي علم الباري. قالوا: فهذا الشخص المأخوذ من السيدة شارك الله في هذه الخاصية فصار بها ابناً ومسيحاً.
سبيل الرّدّ على هذه الفرقة: أن نقول: إذا/ (2/22/أ) قلتم إن الجوهرين [باقيان] 1 و [الأقنومين] كذلك على حالهم فلا موقع للاتّحاد وصار الاتّحاد اسماًساذجاًلا ثمرة له ولا فائدة. الحجّة الثّانية على النسطور: أن نقول: القول بكون المسيح [أقنومين] مُكذَّب بالحسّ؛ وذلك أن الذي يراه كلّ ذي بصر سليم من المسيح إنما هو [أقنوم] واحد، أي: شخص واحد، وتكذيب أصدق الحواس وهو البصر لا سبيل إليه. الحجّة الثّالثة: القول بكونه [أقنومين] يجر إلى السيلان ويفتح باب السفسطة ويشكك في الضروريات، فالقول به باطل إذ كون المسيح شخصاً واحداً [أقنوماً] احداً معلوم ضرورة، ومن زعم أن المسيح كان شخصين لم يسلم من خبل في عقله. الحجّة الرّابعة: هذا الرّأي أعني: القول [بالأقنومين] مُكذَّب بأقوال حملة الإنجيل الذين كانوا قبل صدور هذا الخلاف. فإنهم يشهدون بأن المسيح ابن داود بن إبراهيم، وأنه ولد في بيت لحم ووضع في معلف وذلك في أيام هيردوس فإنه صام وصلى وأكل وشرب وفرح وحزن وأنه كان شخصاً، / (2/22/ب) فالقول بأنه كان شخصين مردود بأقوال التلاميذ الذين هم أعرف الناس بالمسيح. الحجّة الخامسة: قال بطرس-صاحب المسيح-في كتاب فراكسيس: "يا بني إسرائيل، إن أيسوع الناصري رجل جاء من الله، وأن الله مسحه بروح القدس وبالقوة الإلهية"2. فشهد بطرس المؤتمن عند النصارى بأن المسيح رجل
واحد شخص واحد [أقنوم] واحد، فمن قال بأنه شخصان فقد خَطَّأَ بطرس وجَهَّله. ومن جَهَّل مثل بطرس منهم فهو بالجهل1 أجدر. الحجّة السّادسة على النسطور: قال فولس-الذي يسمونه فولس الرسول-: "واحد هو الله، وواحد هو المتوسط بين الله والناس"2. فشهد بأن المسيح شيء واحد وأنه غير الله الواحد. وقال فولس أيضاً: "إن ربّ جميع الشعوب واحد غني متّسع لكلّ من يدعوه وكلّ من يدعو باسم الرّبّ يحيي"3. ولكن كيف يدعوه من لم يؤمن به. وذلك يقضي بفساد مذهب النسطور؛ إذ مذهبهم أن المسيح شخصان، وفولس الرسول يقول: كلا، ولكنه واحد. الحجّة السّابعة على النسطور4: أن يقال لهم: إن كان المسيح شخصين فلا [يخلو] 5 / (2/23/أ) الأمر فيه من أن يكونا متجاورين أو متداخلين، فإن كانا متجاورين فيلزم منه أن يكون [أقنوم] الإله مذروعاً ممسوحاً له قدر وكمية، إذ كلّ شيئين تحاذيا فلا بدَّ أن يكونا متساويين أو متفاوتين، فإن كانا متساويين فقد ساوى [الأقنوم] الإلهي [الأقنوم] الإنساني وذلك محال. وإن كانا متفاوتين فإن كان أقنوم اللاهوت أصغر لم يصلح للربوبية، وإن كان أكبر فقد أخذ [الأقنوم] الإنساني منه بعضه بالمسامته والمحاذاة، والقدر الزائد منه على [الأقنوم] الإنساني يعود إليه التقسيم. فإن كان مساوياً [لأقنوم] الإنسان فقد ساوى الخالق المخلوق، وإن كان أصغر لم يصلح، وإن كان أكبر فقد ساوى أقنوم الإنسان بعض الإله والقدر الزائد يعود إليه التقسيم، وذلك يقضي بالكمية على الأقنوم الإلهي وهو محال.
وإن كانا متداخلين فلا يخلو أن يتداخلا تداخل امتزاج أو تداخل إدراع كلابس الدرع، فإن كانا تداخلا تداخل امتزاج حتى صارا طبيعة واحدة فهذا مذهب اليعقوبية / (2/23/ب) ، وقد أبطلناه. وإن تداخلا تداخل إدراع فيلزم منه أن يكون الأقنوم الأزلي الذي لا يوصف بالجسم قد تشكل الأجسام وصار له لحية وفرج مسامت لما تشكل به من [أقنوم] الإنسان، وكلّ ذلك محال فالقول به محال. الحجّة الثّامنة: الإنجيل يشهد: "بأن المسيح رفع وجهه إلى جهة السماء وابتهل في الدعاء وقال: يا أبتِ أدعوك فتستجيب لي، وأعلم أنك تستجيب لي في كلّ حين، ولكن إنما أدعوك من أجل هؤلاء القيام ليعلموا أنك أرسلتني"1. فهذا الداعي المبتهل لا يخلو من أن يكون [الأقنوم] اللاهوتي أو [الأقنوم] الإنساني، فإن كان [الأقنوم الإنساني] 2 فيلزم منه أن يكون الجسد مولداً من الأب [مرسلاً] 3 منه، وهذا ما لا يقول به نصراني ألبتة؛ لأن المولود من الأب عند سائرهم إنما هو الكلمة. وإن كان الداعي هو الأقنوم اللاهوتي فهذا فيه تدليس عظيم إذا المشاهد داعياً إنما هو الجسد المشاهد بائلاً وغائطاً. الحجّة التّاسعة: هذا المذهب مردود بقول يوحنا الإنجيلي إذ يقول في كتابه: "إن الكلمة صارت جسداً وحلّ فينا"4. وذلك / (2/24/أ) عند النصارى عبارة عن انقلاب [الأقنوم] اللاهوتي إنساناً مسيحاً، فكيف يقول النسطور: إن المسيح [أقنومان اثنان] 5 ويوحنا يقول: إنه واحد؟!.
الحجّة العاشرة: لا شكّ أنّ طائفتي الروم والنسطور يطلقون اللعن والجرم على طائفة اليعاقبة لقولهم: "إن طبيعة اللاهوت وطبيعة الناسوت قد صارتا طبيعة واحدة بالاتّحاد". فمن قال إنّ المسيح اثنان في العدد بعد كونه واحداً فهو [حقيق] 1 بهذا الذّمّ. فهذا ما يخص كلّ طائفة على انفرادها. وقد عرفت أنّ مقالة اليعقوبية أنّ المسيح عبارة عن طبيعتين لاهوتية وناسوتية، وأنهما بالتركيب صارتا طبيعة واحدة لها مشيئة واحدة. وأنّ مقالةالروم أنّ المسيح بعدالاتّحاد [طبيعتان] 2لكن [أقنوم] واحد. وأنّ مقالة النسطور أنّ المسيح بعد الاتّحاد [جوهران وأقنومان] 3. وردوا الاتّحاد إلى صفة البنوة4.
ومما يرد على الجميع ويفسد عليهم دعوى الاتّحاد، قول فولس في الرسالة الثّالثة: "أوسلتم تعلمون وتوقنون بأن يسوع المسيح حال فيكم، ولإن لم يكن حالاً فيكم (2/24/ب) إنكم لمرذولون، وأنا أرجو أن تكونوا لستم بمرذولين"1. فيجب على مقتضى قول فولس أن يكون اتّحاد اللاهوت بناسوت المسيح كاتّحاد المسيح بناسوت أمته ومتبعيه، ولإن كان من المستحيل أن يتّحد جسم المسيح بأجساد آلاف من النصارى في أقطار الأرض، فاتّحاد القديم جلّ جلاله بجسد المسيح أجدر بالاستحالة! 2.
القول في إبطال التّثليث: اعلم أنّ سائر النصارى مجمعون على الثّالوث، وهو أنّ ربهم أبٌ، وابن، وروح، فيعبّرون بالأب عن الذات، وبالابن عن النطق الذي هو الكلام، وبالروح عن الحياة 1. ويزعمون أنه لا يصحّ التّوحيد لموحّدٍ دون أن يعتقد هذا، فزعموا أنّ الأب جوهر 2، وأنّ له صفة حياة وصفة نطق.
قالوا1: فلا يكون الإله فاعلاً حكيماً إلاّ بعد كونه حياً ناطقاً فإذا وجب أن يكون الإله حيّاً ناطقاً، فهل الحياة والنطق ذوات أو صفات؟ اختلف فيه أكابرهم، فمنهم من قال: الحياة والنطق صفات2 لجوهر الأب. ومنهم من قال: بل هي ذوات بأنفسها. ومنهم من قال: بل هي خواص لذلك الجوهر. وطريق مفاوضتهم في ذلك: أن3 نقول لهم: هل / (2/25/أ) تثبون الألوهية لكل واحد من الأقانيم الثلاثة أم تزعمون أن الجميع إله واحد، أم تقولون إن الإله واحد منها والباقي صفات له؟ فإن قلتم: بأن الإله واحد والزائد صفات له، فقد أبطلتم القول بالثالوث وواففقتمونا على قولنا: إنّ الإله واحد وله صفات من العلم والقدرة والإرادة والحياة والسمع والبصر والكلام. وإنّ شيئاً من هذه الصفات ليست إلهاً وإنما ذات موصوفة بهذه الصفات، وفارقتم حينئذٍ قول مشائخ4 الأمانة إذ يقولون: "إن الأب إله واحد، وإنّ الأب أيسوع إله واحد، وإن الروح القدس إله ثالث". وأفسدتم صلواكم حيث تقرأون فيها: "الملائكة يمجدونك وابنك نظيرك في الابتداء وروح القدس مساويك في الكرامة".
وإن زعمتم أن الجميع إله واحد وأن واحداً من الثلاثة ليس إلهاً على انفراده فقد تركتم القول بالتثليث وعبدتم إلهاً واحداً متركباً من ثلاثة أقانيم وهذا ترك لما انطوت عليه الأمانة في أنّ كلّ واحد من الأب والابن والروح القدس [إله مستقل] 1 بالألوهية. / (2/25/ب) وهدم لأصل النصرانية إذ لا خلاف بينهم أن اللاهوت اتّحد بالناسوت. وإذا كان الإله عبارة عن الثلاثة الآب والابن والروح، فالأب والروح ما اتّحدا بالناسوت أصلاً، وإنما اتّحد به الابن الذي هو العلم أو النطق، فإذاً ما اتّحد الإله بل أحد الأقانيم الثلاثة، وذلك على تجرده لا يسمى إلهاً. وفي الأمانة: "إن المسيح إله حقّ وإنه أتقن العوالم بيد، وخلق كلّ شيء، وأنه نزل من السماء لخلاص الناس". وذلك مما يبطل هذا [الأقنوم] لأن الذي نزل إنما هو في زعمكم [أقنوم] الابن، فإذا كان الإله هو مجموع الثلاثة بطل أن يكون الابن هو خالق الأشياء ومتقن العوالم ومخلص الناس؛ إذ لا يوصف بذلك إلاّ الإله الذي هو مجموع الثلاثة القانيم وهي: الأب والابن والروح القدس. وإن زعموا أنّ كلّ واحد من الثلاثة الأقانيم إله ومجموعها إله واحد، قلنا لهم: أتزعمون أنّ كلّ واحد من الثلاثة إله حقيقة أو على سبيل التجوز والتوسع وأن الإله الحقيقي هو مجموع الثلاثة؟. فإن قالوا بهذا وصرفوه إلى مجرد التسمية دون الحقيقة تركوا القول بالثالوث وأثبتوا / إلهاً واحداً له صفات، ثم سَمُّوا صفاته آلهة تحكماً وتخرصاً بغير توقيف ولا دلالة، هدموا قول الأمانة: "إن المسيح إله حقّ"، وقالوا: بل هو إله تجوز. وأبطلوا عبادة المسيح حيث يقرأون في صلاتهم: تعالوا نسجد، تعالوا نتضرع للمسيح إلهنا، وردوا قول مشائخ الأمانة إذ يقولون: "المسيح إله حقّ، وإنه أتقن
العوالم وخلق كلّ شيء بيده". لأن الذي أتقن العوالم هو الإله بالحقيقة كما لا إله بالتسمية والتجوز، وهذا الإله الحقيقي لم يتّحد بجسد المسيح بل ما اتّحد به إلاّ [أقنوم] واحد، ويسمَّى إلهاً على سبيل التجوز والاستعارة. وإن زعموا أن كلّ واحد من الثلاثة الأقانيم إله كامل على الحقيقة إذا أفردوا، وأن الجميع إله واحد على الحقيقة إذا جمعوا، وبهذا القول يقولون فهذا في الدرجة العليا من الفساد والتهافت؛ وذلك أَنَّا نقول لهم: أيجوز خلو الإله عن الحياة والعلم؟ فإن جوَّزوا ذلك، قيل لهم: فإذا لا حاجة إلى الأقانيم إذ الإله مستغنٍ عنها. وإن قالوا: لا بدَّ للإله من أن يكون حيّاً عالماً، فيقال لهم: إذا قلتم إنّ كلّ واحدٍ / (2/26/أ) من الأقانيم تسعة فيصير التثليث تتسيعا، إذ حياة كلّ واحد من الأقانيم الثلاثة وعلمه [أقنومان] له، ثم كلّ واحد من التسع الأقانيم إله حقيقة وإنما يصير إلهاً حقيقة إذا ثبت وجوده وحياته وعلمه، إذ لا يجوز خلو الإله عن الحياة والعلم وحينئذٍ يتسلسل القول إلى إثبات آلهة لا نهاية لها. فهذا يلزم من يقول: إن كلّ واحد من الأقانيم الثلاثة له حياة وعلم. وإن قالوا: لا يثبت هذا الوصف إلاّ لواحد منها، امتنع عليهم وصف الثاني والثالث بالألوهية حقيقة لم تقرر أن الإله يجب أن يكون حيّاً عالماً، وبطل عليهم القول بالثالوث على كلّ الوجوه1. والله أعلم وأحكم.
المجلد الثاني
المجلد الثاني الباب الثامن: في الإبانة عن تناقض الأمانة ... الباب الثّامن: في الإبانة عن تناقض الأمانة في الإبانة عن تناقض الأمانة: نبيّن فيه فساد أمانتهم التي يلقبونها بشريعة الإيمان، وهي التي لا يتمّ لهم عيد ولا قربان إلاّ بها. وكيف أكذب بعضها بعضاً، وناقضه وعارضه، وأنه لا أصل لها في شرع الإنجيل. قال المؤلِّف - عفا الله عنه -: "ذكر المؤرخون1 وأرباب النقل أنّ الباعث لأوائل للنصارى على ترتيب هذه الأمانة / (2/27/أ) - الملقبة2 أيضاً بالتسبيحة والشريعة ولعن من يخالفها منهم وحرمه - هو أن أريوس3 أحد أوائلهم، كان يعتقد هو وطائفته توحيد الباري ولا يشرك معه غيره، ولا يرى في المسيح ما يراه
النصارى؛ بل يعتقد نبوته ورسالته، وأنه مخلوق بجسمه وروحه، ففشت مقالته في النصرانية فتكاتبوا واجتمعوا بمدينة نيقية1 عند الملك قسطنطين2 وتناظروا فشرح آريوس مقالته فردّ عليه الأكصيدروس3 بطريك الإسكندرية وشنع مقالته عند الملك قسطنطين ثم جلس الأكصيدروس وجماعة من حضر
فتناظروا، فطال تنازعهم، فتعجب الملك من انتشار مقالاتهم وكثرة اختلافهم وأقام لهم [النّزل] 1 وأمرهم أن يبحثوا عن القول المرضي، فاتّفق رأي الإكصيدروس وجماعة2 على نظم هذه الأمانة بعد أن أفسدوها دفعات وزادوا ونقصوا3 وهي هذه: "نؤمن بالله الواحد الأبّ ضابط الكلّ، مالك كلّ شيء، صانع ما يرى وما لا يرى، وبالرّبّ الواحد يسوع المسيح ابن الله الواحد بكر الخلائق / (2/27/ب) كلّها، الذي ولد من أبيه قبل العوالم كلّها، وليس بمصنوع، إله حقّ من إله حقّ من جوهر أبيه الذي بيده أتقنت العوالم، وخلق كلّ شيء، الذي من أجلنا معشر الناس ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسد من روح
القدس وصار إنساناً. وحبل به وولد من مريم البتول1، [وأوجع] 2 وصلب أيام فيلاطس النبطي، ودفن وقام في اليوم الثّالث - كما هو مكتوب - وصعد إلى السّماء، وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء، ونؤمن بروح القدس الواحد روح الحقّ الذي يخرج من أبيه روح محبته وبمعمودية واحدة لغفران الخطايا وبجماعة واحدة قديسية جاثليقية3 وبقيامة أبداننا وبالحياة الدائمة إلى أبد الآبدين4.
قال المؤلِّف - عفا الله عنه -: هذه الأمانة التي أجمع عليها اليوم سائر فرق النصارى من اليعاقبة والملكية والنسطورية، وهي التي يزعمون أنهم لا يتمّ لهم عيد ولا قربان إلاّ بها، وهي مع كونها لا أصل لها في شرع الإنجيل ولا1 مأخوذة من قول المسيح ولا أقوال تلاميذه مضطربة متناقضة / (2/28/أ) متهافتة2 يكذب بعضها بعضاً ويعارضه ويناقضه3. وبيان ذلك من وجوه: أحدها: قولهم: "نؤمن بالله الواحد الأب ضابط الكلّ مالك كلّ شيء صانع ما يرى ولا يرى". فهذا أوّل الأمانة قد أثبتوا فيه الانفراد لله4 بالألوهية والربوبية والوحدانية. وأنه المستبد بالخلق والاختراع. وأنه مالك كلّ شيء وضابطه وخالقه. فدخل في هذه المخلوقات المسيح روح القدس وغير ذلك. وذلك أنهما إن كانا مرئيين كالأجسام والأعراض فالأب الواحد خالقهما، وأن كانا غير مرئيين كالأرواح والعقول فالأب خالقهما وصانعهما، فهذا كلام حسن لو ثبتوا عليه ولم يشوشوه بالتشريك، غير أنهم نقضوا5 ذلك على الفور
فقالوا: "ونؤمن أيضاً أن مع هذا الإله الواحد المستبد بخلق ما يرى وما لا يرى [رباً آخر1 واحداً2 أتقن العوالم بيده وخلق كلّ شيء". وفي أوّل الأمانة بأن الله هو خالق كلّ شيء. ثم لم يلبثوا أن قالوا: كلا ولكن المسيح ابن مريم هو خالق كلّ شيء ومتقنه. وهذا غاية التناقض. وفيه عبادة رجل من بني آدم مع الله سبحانه. لأن يسوع المسيح اسم / (2/28/ب) للإنسان المنفصل من مريم، وذلك مناقض لاعتقاد الماضين من أسلافهم وأكابر دينهم ومُدوِّني إنجيلهم كما قدمناه في مواضعه. ومناقض لما اشتملت عليه التوراة والمزامير وسائر النبوات من توحيد الله وإفراده بالربوبية والألوهية. - الوجه الثّاني: قول الأمانة: "إن يسوع المسيح ابن الله بكر الخلائق الذي ولد من أبيه". وذلك مشعر بحدوث المسيح إذ لا معنى لكونه ابنه إلاّ تأخره عنه وتقدم والده عليه في الوجود. إذ الولد والوالد لا يكونا معاً في الوجود. إذ كونهما معاً مستحيل ببداية العقول. وكذلك قولهم: "إن يسوع بكر الخلائق كلّها". مع ما في لفظه من الزيادة، لا يفهم منه إلاّ أن المسيح خلقه الله قبل خلق كلّ الخلائق؛ لأن باكورة الشيء أوّله. وذلك مناقض لقولهم في الأمانة: "وليس المسيح بمصنوع بل هو إله حقّ". فبينا هو في الأمانة مولود مصنوع إذ نعتوه بكونه غير مصنوع، فصار حاصل هذا الكلام أن المسيح مخلوق غير مخلوق، وكفى بذلك تجاهلاً وخذلاناً؛ لأن الأب لا [يخلو] 3 أن يكون / (2/29/أ) ولد وَلَداً لم يزل. أو وَلَدَ ولداً لم يكن. فإن قالوا: ولد ابناً لم يزل.
قلنا لهم: فما ولد شيئاً إذ كان الابن لم يزل. وإن ولد ابناً لم يكن فالولد1 حادث مخلوق. وذلك مكذب لقول الأمانة: "إنه إله حقّ من جوهر أبيه. وإنه أتقن العوالم بيده وخلق كلّ شيءٍ". - الوجه الثّالث: قول الأمانة في المسيح: "إله حقّ من إله حقّ من جوهر أبيه". ينقضه قول المسيح في الإنجيل وقد سئل عن يوم القيامة، فقال: "لا أعرف ذلك، ولا يعرفه إلاّ الأب وحده"2. فلو كان من جوهر الأب لعلم ما يعلمه الأب، لكنه إنسان حقّ من إنسان حقّ من جوهر أبيه داود. إذ سئل داود وغيره من الأنبياء عن القيامة وأشياءكثيرة فقالواكقول المسيح هذا: لا نعلم ذلك، ولا يعلمه إلاّ الله وحده. ولو قال قائل: إن جوهر الماء من جوهر النار لكان [أحمق] 3. فكذلك من يقول: إن جسم إنسان وهو مركب من لحم ودم4 وشعر وظفر وأقذار وأسنان من جوهر الإله الذي يستحيل عليه هذه الأمور. ثم لو جاز أن يكون إله يأتي من إله أوّل لجاز أن يكون ثالث من ثاني ورابع من ثالث ولما وقف الأمر على غاية. وإذ5 أبطل / (2/29/ب) ذلك من أصله وجب الرجوع إلى قول المسيح: "إن أوّل الوصايا: الرّبّ واحد6. وقوله في إنجيل
يوحنا: "الله الإله الحقّ هو الذي أرسل يسوع المسيح1. وإلى قوله في إنجيل مرقس وغيره: "لا صالح إلاّ الله وحده"2. وإلى أوّل الأمانة: "إن الله واحد مالك كلّ شيء صانع ما يرى وما لا يرى". - الوجه الرّابع: قول الأمانة: "إن يسوع المسيح أتقن العوالم وخلق كلّ شيء". وذلك مناقض للإنجيل ومكذب له إذ يقول متى: "هذا مولد يسوع المسيح ابن داود"3. ومن أتقن العوالم وخلق كلّ شيء لا يكون متأخراً عن العوالم وتكون العوالم سابقة له. ثم مِن العالَم أمه مريم فكيف يوصف بأنه خالق أمه قبل أن تلده؟ ! ومِنَ العالَم الثياب التي لُفَّ بها والمعلف الذي أَكنَّه وهو طفل والطعام الذي نمَّى أعضاءه. وذلك من الغلوّ الذي لا يخفى فساده عن لبيب. أما كان في شيوخ الأمانة من تصفح فساد هذا الكلام قبل تسطيره؟ ألم يسمعوا إلى قول الإنجيل: "إن إبليس قال للمسيح: اسجد لي وأعطيك جميع ما في العالم وأملكك كلّ شيء"4. وإبليس بزعمهم / (2/30/أ) من جملة مَنْ خلقه المسيح، فكيف بقي خالق العوالم محصوراً في يد بعض العَالَم يسحبه من مكان ويحول بينه وبين مراده ويطمع في تعبده له وجعله من جملة أتباعه؟!. أعوذ بالله من العماء والضلال والغلوّ في الرجال. - الوجه الخامس: قول الأمانة: "إن المسيح الإله الحقّ الذي خلق كلّ شيء، نزل من السماء لخلاص الناس، وتجسد من روح القدس إنساناً وحبل به وولد".
في هذا الكلام عدة مفاسد، منها: أن المسيح اسم لا يخص الكلمة على تجردها ولا الجسد على تجرده. بل هو اسم يخص هذا الجسد المأخوذ من مريم والكلمة معاً. ولم تكن الكلمة في الأزل تسمى مسيحاً. فبطل أن يكون هو الذي نزل من السماء. والدليل على ذلك قولهم: "وتجسد من روح القدس". لأنه لو كان الذي نزل هو المسيح لم يكن لتجسده ثانية معنى. وتجسد المتجسد محال. ومنها: قولهم:"إنه نزل من السماء".وهذا الموصوف بالنُّزُول لا يخلو أن يكون الكلمةأوالناسوت، فإن/ (2/30/ب) زعموا أن الذي هو الناسوت فذلك مكذّب بنصوص الإنجيل إذ صرّحت بأن الناسوت مكتسب من جسد مريم. وإن زعموا أنه اللاهوت، قلنا لهم: أتعنون الأب أم صفته، وهي العلم؟! فإن زعموا أنه الأب نزل وتجسد لزمهم لحوق النقائص [بالباري] 1 من الأكل والشرب والقتل وحصر الشيطان وغير ذلك. ثم ذلك لا يقول به أحد منهم. وإن زعموا أن النازل المتجسد هو العلم المعبر عنه بالكلمة قلنا لهم: لو جاز على ما وصفتموه من التجسد لجاز أَحَدُ مَخذُورَيْن، وهو إما بقاء الباري ولا علم له، أو جعله عالماً بعلم قائم بغيره. ثم النُّزُول والصعود والحركة والانتقال والتفريغ والاشتغال، كلّ ذلك مستحيل على الباري وعلى صفاته2. وإذا كان ذلك كذلك بطل أن يكون النّازل من السماء هو المسيح؛ لأن المسيح اسم موضوع للمعنيين: الكلمة والجسد عندهم.
ومنها قولهم: "إنه إنما نزل وتجسد وحبل به لخلاص معشر الناس". فهم يريدون أن آدم لما عصى أوثق سائر ذريته في حبالة الشيطان / (2/31/أ) وأوجب عليهم الخلود تحت طباق النيران، فكان خلاصهم بقتل المسيح وصلبه والتنكيل به، فإنهادعوى لا دلالة عليها، وقدأبطلناها فيما تقدم. وهب أنا سلمنا لكم، فأخبرونا عن هذا الخلاص الذي يعني الإله الرّبّ الأزلي وفعل بنفسه ما فعل من الدنايا التي جرت عليه في زعمكم، ما هو؟ أو ممن خَلصكم؟! وبمَ خَلَّصكم؟! وكيف استقل بخلاصكم دون الأب والروح والربوبية بينه وبينهم أثلاثاً؟! وكيف صار مبتذلاً ممتهناً في خلاصكم دون الأب والروح؟!. فهذه عدة أسئلة، فإن زعموا أن الخلاص قد حصل لهم من تكاليف1 الدنيا وهمومها وأمراضها وأعلالها وهرمها وموتها، أكذبهم الحسُّ، فإنا نراهم ولا مزية لهم على سائر البشر. وإن زعموا أنهم قد خلصوا من هموم السعي في طلب الرزق والتكسب للعيال والتبذل في تحصيل ضرورات العيش أكذبهم الحسُّ أيضاً. وإن زعموا أنهم/ (2/31/ب) قد خصلوا من تكاليف الشرع، وأنهم قد حطّ عنهم المسيح بمجيئه الصوم والصلاة وسائر وظائف التكليف، وأنهم غير مؤاخذين بشيء منها، أكذبهم العافرون بما وُظِّف عليهم من الصوم والصلاة والقرابين وغير ذلك. وإن زعموا أنهم خلصوا من أحكام الدار الآخرة، وأن من تعاطى في الدنيا جريرة فزنى منهم وسرق وقتل وقذف لا يؤاخذ يوم القيامة بشيء من ذلك
أكذبهم الإنجيل والنبوات، إذ يقول المسيح في الإنجيل: "إني أقيم الناس يوم القيامة عن يميني وشمالي فأقول لأهل اليمين: فعلتم كذا وكذا فاذهبوا إلى النعيم المعدِّ لكم قبل تأسيس الدنيا، وأقول لأهل الشمال: فعلتم كذا وكذا فاذهبوا إلى العذاب المعدّ لكم قبل تأسيس العالم"1. وإذا كان هذا حالكم في الدنيا والآخرة، فأين الخلاص الذي تدعون أن الإله تعنى ونزل إلى الأرض وأكل وشرب وخامرته الهموم والغموم وذاق الموت ليحصِّله لكم، وسميتموه بسببه: "مخلص العالم". وإذا لم يحصل لكم الخلاص الذي تدعون فقد بطلت الأمانة. فهذا بحثنا عن ماهية الخلاص الذي جاء لأجله فلم / (2/32/أ) يتهيأ له؛ بل بقيتم مركوسين منكوسين على ما كنتم عليه قبل مجيئه. فأخبرونا ممن خلّصكم؟! هل كان قد غلبه عليكم غالب؟ أو سلبكم من يديه سالب؟ وهل كان معه مزاحم له عليكم أوقع بكم من المكروه ما اضطرّه إلى تجشمه هذه النقائص لخلاصكم؟!. فإن قلتم: إنه كان له عدوّ مناصب، قد عاث في مملكته حتى استولى2 عليها وحاز أطرافها وجرت3 فيها أحكامه شرقاً وغرباً وجنوباً وشمالاً، فما نرى هذا العدوّ الذي تدعون إلاّ أعظم منه مملكة. وأعزّ جانباً، وأنفذ قدرة، ومن كان هذا حاله فهو لا شكّ أحقّ بالعباد والبلاد منه.
فما نرى هذا الرّبّ الذي تشيرون1 إليه إلاّ معزّاً2 بنفسه في مقاومة هذا العدوّ، مخاطراً بمهجته، مهوراً في رأيه، مدخولاً عقله، خفيفاً حكمه، إذ رام مكافحة من هو أثبت جناناً وأعزّ مكاناً، وأكثر أعواناً، فهذا بحثنا عمن كنتم في يده. فأخبرونا بمَ خلَّصكم؟ فإن زعموا أنه نزل إلى الأرض فربط الشيطان واستنقذكم من يده، وأهانه ونكل به غاية التنكيل، وعاقبه أشدّ العقوبة ومحى آثاره وطمس معالمه، وأهان جنده3 ومن يقول بقوله، فلعمري إن ذلك لقمن/ (2/32/ب) أن يعبد4 ويفزع إليه في النوازل ويصمد. وإن زعموا أن الأمر على العكس من ذلك، وإن المسيح الإله الرّبّ الذي يعبدونه، نزل إلى الأرض يروم خلاصكم، فاستعمل التقية وأعمل5 الروية وسكن إهاب امرأة، يقلب الأمر بطناً وظهراً ويُقْدِم تارة ويحجم أخرى، ثم استعار منها صورة إنسان، وأخفى نفسه بغاية الإمكان. وكان يفر من الناصرة إلى الجليل. ويتحول من خليل إلى خليل، والشيطان يطلبه ويرقبه. والمسيح يتباعد عنه ولا يقربه. ولما رآه الشيطان قد أعمل مطايا الحذار، و [اختار] 6 طول الاستتار بالحذار، وَكَّل به شرذمة من أتباعه، فآذوه ضرباً ثم قتلوه صلباً، لقد كذبوا وكذبت الأمانة التي لهم في دعوى الخلاص. فهذا بحثنا عن سبب خلاصكم الذي عوّلتم عليه. فأخبرونا أليس الأقانيم المعبودة الثلاثة
قديمة أزلية، وهي: أب وابن وروح قدس. فما الذي أوجب اختصاص الابن بالنُّزُول ومحاربة الشيطان، دون الأب والروح، مع استوائهم في الربوبية؟!. أكان أحْنى على العباد منهما وأرحم؟! أم جريمة الشيطان إليه أكبر وأقحم؟! وما الذي أصاره أولى بالتبدّل والتبديل من الأب والروح ونسبتهم في / (2/33/أ) الربوبية واحدة؟!. - الوجه السّادس: قول الأمانة: "وتجسد من روح القدس". وذلك باطل بنصّ الإنجيل؛ إذ يقول1 متى في الفصل الثاني من إنجيله: "إن يوحنا المعمداني حين عمَّد المسيح جاءت وروح القدس إليه من السماء في شبه حمامة"2. وذلك بعد ثلاثين سنة من عمر المسيح. وإذا كان ذلك كذلك بطل أن يكون متجسداً من روح القدس وكذبت الأمانة. وإذا كان لا بدَّ من تصديق المُخْبِر، فإخبار نبي الله يحيى بن زكريا أولى بالتصديق من أخبار مَن جاء بعد المسيح بمدة متطاولة، ونظم هذه الأمانة المتناقضة، ثم التجسد من شيء إنما يصح لو كان من جنسه كالماء مع الماء وكالنار والنار3. ولا تجانس بين الإله والإنسان، وبين القديم والحادث، وكلّ ذلك يرد الأمانة. ويبيّن زلل مَن4 عقدها. - الوجه السّابع: دعوى النصارى بأجمعهم أن المسيح ابن الله: إن كان كما يقولون فقد كذبت الأمانة في قولها: "إن المسيح تجسد من روح القدس". وإن كانت الأمانة صحيحة فالمسيح ابن روح القدس، وليس هو ابن الله. فقد تناقضت الأمانة واعتقادهم؛ إذ في صحّة / (2/33/ب) أحدهما بطلان الآخر. - الوجه الثّامن: قول الأمانة: "إن المسيح نزل من السماء، وحبلت به امرأة
وسكن رحمها". مُكَذَّب بقول لوقا الإنجيلي إذ يقول في قصص الحواريين في الفصل الرابع عشر منه: "إن الله هو خالق العالم بما فيه، وهو ربّ السماء والأرض، لا يسكن الهياكل، ولا يناله أيدي الرجال، ولا يحتاج إلى شيء من الأشياء؛ لأنه هو الذي أعطى الناس الحياة فوجودنا به، وحياتنا وحركاتنا منه1. فقد شهد لوقا بأن الباري وصفاته لا يسكن الهياكل، ولا تدنه أيدي الرجال، وذلك مُكذّب للأمانة في دعواها سكون الكلمة في هيكل، مريم، وتحولها إلى هيكل المسيح، ومفسد عليهم دعوى قتل المسيح وصلبه، إذ يقول لوقا: "إن الباري لا تناله أيدي الرجال". وشهد أيضاً بأن المسيح مخلوق؛ لأنه من جملة العالم الذي خلقه الله وذلك تكذيب لدعوى النصارى، ومَشَوَّش نظام الأمانة إذ يقول: "إن المسيح هو إله خالق غير مخلوق". وقد شهد فولس بأن المسيح عبد الله، وأن الله إله وربه، فقال في صدر رسالته الخامسة: "إني قد سمعت بإيمانكم، لست أَفْتَر من الدعاء/ (2/34/أ) لكم في صلاتي أن يكون إله سيدي يسوع المسيح الأب المجيد يعطيكم روح الحكمة والبيان، وينير عيون قلوبكم"2. فهذا فولس المؤتمن عندهم يشهد بأن الله هو إله المسيح، وذلك مما يبطل الأمانة التي لفقوها، والوثوق بهذا القول من فولس أولى من قول غيره، ممن جاء بعد المسيح. وهذا القول من فولس موافق لقول المسيح حيث يقول: "إني ذاهب إلى إلهي وإلهكم"3. - الوجه التّاسع: تسمية يسوع: "المسيح" يستدعي ماسحاً مسحه، وفاعلاً
فعله، وإذا كان مسيحاً بمعنى ممسوح، وقد ثبت بقول الأمانة: (أنه مصنوع) . فإذا قالت: إنه ليس بمصنوع، صار تقدير الكلام أن المسيح مصنوع، ليس بمصنوع ومخلوق ليس بمخلوق؟!. ولم تزل بني إسرائيل من زمن موسى يتخذون دهناً مجموعاً من عدة أنواع من الطيب في قرن معلق في الهيكل، تمسح به الكهنة من أرادوا تمليكه، وربما فار القرن عند دخول من يقع الاختيار على تمليكه، فيكون علامة على تمليكه1. وقد تنبأ داود على المسيح فقال: "من / (2/34/ب) أجل هذا مسحك ربك بدهن السرور أكثر مما مسح نظراءك"2. فشهد داود بأنه ممسوح، وأن الله ماسحه وأنه مربوب، وأن الله ربّه، وأن له نظراء قد مسحوا قبله، وذلك مناقض لقول الأمانة: "إن المسيح خالق غير مخلوق". وقال داود أيضاً نبوءة على المسيح في المزمور الخامس والأربعين: "يا من فاق الناس جمالاً لقد أفرغت الرحمة على شفاهك"3. فبيَّن أنه إنسان، وأنه جميل الصورة، وأن الله أفرغ الرحمة على فيه، فلو كان المسيح هو الله أو صفة من صفاته لاتَّحَدَ الماسح والممسوح والقائل والمقول له، وذلك مما يفسد الأمانة، ويزحزح أركانها. - الوجه العاشر: قول الأمانة: "إن يسوع بعد أن قُتل وصلب قام من الأموات،
وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين أبيه"1. وذلك من الكذب الفاحش، والاعتقاد الفاسد، أما كونه من الكذب الفاحش فإنه ليس أحد من القائلين هذا الكلام صعد إلى السماء ورأى ذلك عياناً وعاد إلى الأرض فأخبر به. وأما كونه من الاعتقاد الفاسد فإنه متى جلس شيء عن يمين شيء / (2/35/أ) أو عن جهة من جهاته دلَّ على حدث الشيئين، ثم لا خلاف عندهم أن جسد يسوع حادث؛ إذ قالوا: إن هذا الجسد الحادث قد جلس عن يمين الله - فقد اعتقدوا أن الباري تعالى [جسم] 2 من الأجسام. وسارووا في ذلك حشوية من اليهود القائلين بأن الله تعالى في صورة شيخ أبيض الرأس واللحية، وأنه ينْزل إلى الأرض، ويتردد فيها. وقد جمعوا في هذا الموضع بين أمرين متناقضين، وهو أنهم قالوا في أوّل الأمانة: "إن المسيح إله حقّ خالق كلّ شيء". فإذا قالوا ها هنا: إنه قتل وصلب ودفن بين الأموات فقد اعترفوا بأن المخلوق قتل خالقه، والمصنوع صلب صانعه. - الوجه الحادي عشر: قول الأمانة: "إن يسوع هذا الرّبّ الذي صلب وقتل مستعد للمجيء تارة أخرى؛ لفصل القضاء بين الأحياء والموات". للمنكر عليهم أن يقول: إنه لما تجشَّم أوّل مرة فجرى عليه من الشيطان وحزبه ما وصفتم من الأذى والإهانة والقتل والصلب فرَّ إلى أبيه ليستريح برهة، وتثوب إليه نفسه وتستجم قوته، وليستظهر بالعدد والعدد من عند أبيه / (2/35/ب) ، ثم يأتي ثانية لمحاربة عدوه، فإما عليه وإما له.
وأما قول الأمانة: "إنه يعود لفصل القضاء بين الأحياء والأموات". فهو نازل منْزلة قول القائل: وفي حياتي ما زودتني زادا لا ألفينك بعد الموت تندبني إذا زعموا أنه في المرة الأولى عجز عن خلاص نفسه حتى تَمَّ عليه من أعدائه ما تمّ، فكيف يقدر على خلاصهم بجملتهم في المرة الثانية؟!. - الوجه الثّاني عشر: قول الأمانة: "ونؤمن بروح القدس الذي يخرج من الله". فيه تصريح بأن المسيح وروح القدس [أخوان وأن الله أبوهما] 1 جميعاً. إذ تقول الأمانة: "إن يسوع ولد من أبيه، وإن روح القدس يخرج من أبيه". أيضاً. وذلك مُكذِّب بقول لوقا في إنجيله: "إذ حكى عن الملك أن الذي ولدته مريم هو روح القدس"2. وإذا كان المسيح من روح القدس في الإنجيل، وروح القدس من الله في الأمانة، فقد تناقض الإنجيل والأمانة؛ إذ الأمانة تجعلهما أخوين قد ولدا3 من الله. والإنجيل يقول:"لا بل المسيح من روح القدس، وذلك خبط عظيم". فقد وضح لك بطلان قول/ (2/36/أ) الأمانة: "إن المسيح ولد من أبيه قبل العوالم كلّها، وأنه بكر الخلائق كلّهم، فكيف يكون قبل العوالم، وقد سبقه روح القدس، بشهادة الإنجيل. - الوجه الثّالث عشر: قول الأمانة: "ونؤمن بمعمودية واحدة لغفران الخطايا". فيه مناقضة عظيمة لأصولهم، وذلك أن اعتقاد النصارى أنه لا يغفر خطاياهم بدون قتل المسيح، ولذلك سمّوه: "حمل الله الذي يحمل خطايا العالم". ودعوه أيضاً: "مخلص العالم من الخطيئة". فإذا آمنوا بأن المعمودية
الواحدة هي التي تغفر خطاياهم من ذنوبهم فقد صرحوا أنه لا حاجة إلى قتل المسيح لاستقلال المعمودية بالخلاص والمغفرة، فإن كان التعميد كافياً فقد اعترفوا بوقوع القتل عبثاً. وإن كان لا تحصل المغفرة بدون قتل المسيح فقد تناقضت الأمانة، وكذبت في دعوى المغفرة بالتعميد؛ إذ كان لا بدَّ من القتل. - الوجه الرّابع عشر: قول الأمانة: "ونؤمن بجماعة واحدة قديسية". يعنون من عقد لهم هذه الأمانة، التي نحن نتكلم على تناقضها ونوضح فسادها، / (2/36/ب) وفي الإيمان بها [ولهؤلاء] 1 القوم كفرٌ بالمسيح، وردّ لأقواله وأقوال تلاميذه، وبيانه هو: أن المسيح عليه السلام قد شحن إنجيله بتوحيد الله وتمجيده وتقديسه وتنْزِيهه عن الثاني والثالث وإفراده بالربوبية والألوهية، فقال عليه السلام: "الله واحد هو الله"2. وقال: "إن الله لم يره أحد قط"3. وقال: "لا ينبغي لأحد أن يعبد رَبيَّن"4. وقال: "لا صالح إلاّ الله وحده"5. ورفع وجهه إلى السماء وقال: "إلهي أنت الإله الحقّ الذي أرسلت المسيح"6. فهذه أقوال المسيح التي روتها عنه تلاميذه، ليس فيها تثنية ولا تثليث؛ بل مجردة لتوحيد الباري جلّ وعلا.
فإذا قالوا في الأمانة: "إنهم يؤمنون بأن الآلهة ثلاثة أزلية، وإن إلهاً واحداً ولد إلهاً مثله، وإن امرأة من بني آدم ولدت ربّها، وأرضعت خالقها ثديها، وأفرشته حجرها، وإن الرّبّ الذي أتقن العالم بيده كلّ شيء قد قوتل فقتل، وغولب فغلب، ودفن في المقابر، كما رَتَّبوه في أمانتهم، فلا شكّ في كفرهم بالمسيح وتلاميذه، لأن من آمن بالثالوث فقد كفر بالتوحيد فإن كانت [الأمانة] 1 صادقة فقد كذب / (2/37/أ) الإنجيل، وإن كان الإنجيل صادقاً فقد كذبت الأمانة، وتَبَيَّن عِشُّ من ألفها أو غلطه. وبعد - يرحمك الله - فقد أقام المسيح وتلاميذه وأكابر أصحابه برهة من الزمان بالناصرة والجليل وأورشليم وغيرها من البقاع، يصلون لله إله إبراهيم ويتعبدون له. فهل حفظ عنهم أو عن أحد ممن روى عنهم أنه كان إذا قام إلى مصلاّه وشرع يناجي مولاه يقرأ هذه الأمانة المتضمنة عبادة ثلاثة آلهة، بعضها آب، وبعضها ابن، وبعضها قاتل، وبعضها قتيل، وبعضها والد، وبعضها مولود، فكون المسيح وخيار أصحابه لم يؤثر عن واحد منهم من ذلك لفظة ولا كلمة واحدة من أدل دليل على افتعال هذه الأمانة، وجهل من عقدها، وسخريته بدين النصرانية، وقصده الإزراء بهم وإبداء عوراهم. - الوجه الخامس عشر: في طريق امتحان هذه الأمانة، ومعرفة حقّها من باطلها وصحتها من فسادها؛ بأقوال الأنبياء الذين تنبؤوا على المسيح، وأقوال أصحابه الذين شاهدوه وأخذوا عنه أقواله المروية عنه / (2/37/ب) وفي الإنجيل. فنقول لمن نظم هذه الأمانة وعقد هذه الشريعة: قد زعمت أن المسيح إله حقّ، وأنه أتقن العالم بيده، وخلق كلّ شيء، فنحن نورد عليك نصوص2
كتبك وآيات صحفك، وأقوال مشائخك، وسلفك، وما تنبأ به الأنبياء على من ادعيت ربوبيته، ونحاكمك إلى نفسك فنقول: قالت التوراة في آيات تفوت الحصر: "إن الله تعالى إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب واحد لا شريك له". وقال في العشر كلمات من التوراة: "أنا الله ربّك الذي أخرجتك من مصر بيدي القوية، لا يكن لك إله غيري"1. وقال: "لا تشبهوني بشيء مما في السماء ولا مما في الأرض ولا مما في البحار، أنا الله إله واحد جبار غيور، لا تتّخذوا آلهة غيري"2. وذلك في التّوراة كثير، وهو تكذيب لأهل الأمانة في قولهم: "إنّ مع الله إلهين آخرين؛ أحدهما إنسان من بني آدم". وقال أشعيا في نبوته: "قال إله إسرائيل: أنا الأوّل والآخر، وليس بعدي غيري"3. وقال: "عرف الحمار والثّور ربّه، ولم يعرف ذلك بنو إسرائيل"4. فقد أكذبهم أشعيا في نظم هذه الأمانة، ودعواهم أنّ الآلهة / (2/38/أ) ثلاثة قديمة أزلية. وقال داود في مزموره وهو يناجي ربّه: "يا ربّ إنك حين عبرت ببلاد أشيمون تزلزت5 الأرض من هيبتك، وانفطرت انفطاراً - ثم قال - ما لك أيها البحر هارباً مزبداً، وأنت يا نهر الأردن ما بالك وليت راجعاً، وما لكم أيّها الجبال طفرتن6 كالأيائل" - ثم أجاب عن ذلك بنفسه - فقال: "من هيبة الرّبّ تزلزت البقاع، واصطربت الشوامخ"7. فهذا الذي يليق بجلال الله وعظمته لا ما
وصفه به النصارى من الجوع والعطش، والتعب والسهر، والضعف والعجز، والانحصار في الرحم، والقتل والصلب، تعالى الله عن هذيانهم علوّاً كبيراً. وقال المسيح في إنجيله: "الله لم يره أحد قط"1. وقال أيضاً فيما رواه تلاميذه عنه: "إنّ أوّل الوصايا كلّها: اسمع يا إسرائيل الرّبّ واحد فاحبّه من كلّ قلبك ومن كلّ قوتك"2. ففي هذه الوصية سائر وصايا الأنبياء، وقال فيما رواه عنه يوحنا التلميذ: "إلهي أنت الإله الحقّ، وحدك الذي أرسلت يسوع"3. وقال له إنسان: "يا معلم صالح". فقال: "لم [تدعونني] 4 صالحاً، لا صالح / (2/38/ب) إلاّ الله وحده"5. وقال: "أنا ذاهب إلى إلهي"6. وقال: "إلهي أعظم مني"7. وقال: "إلهَي إلَهِي لِمَ تركتني؟ "8. وقال لوقا: "قال جبريل لمريم: إنك ستلدين ابناً يكون عظيماً، يجلسه الرّبّ على كرسي أبيه داود"9. فشهد عن الله تعالى بأن المسيح هو ابن داود. وقال بطرس، الحواري في الفصل السّابع من رسالته الأولى: "إن الله هو إله النعمة كلّها، وهو الذي دعانا إلى مجده الدائم بالسيد المسيح، له التسبيح والعزّ إلى دهر الداهرين"10. فهذا توحيد أنبياء الله تعالى لخالقهم، وتنْزيههم له سبحانه مسطور مزبور في كتبهم، قد نهجوه لأتباعهم، فتلقوه عنهم، وكلّ
ذلك تكذيب لهذه الأمانة، وردٌّ على من عقدها؛ فإنها تقول: إنه إله، وإنه أتقن العالم بيده وخلق كلّ شيء. وهذا جبريل يخبر عن الله أنه ولد من الناس وأن والده داود، وهذا المسيح يخبر عن نفسه بما سطرناه، فلا التفات بعدها للمحال المضمَّن في هذه الأمانة، التي هي في الحقيقة فساد الأمانة. وقد قال داود في المزامير: "إن المسيح رجل قد فاق الناس جمالاً"1. وشبَّهه برجل / (2/39/أ) كاهن، كان في زمن إبراهيم الخليل خادماً للبيت المقدس، فقال في مزموره: "يا مسيح أقسم الرّبّ إنك أنت الكاهن المؤيّد يشبه ملك الصادق"2. فما بال داود لم يقل إن المسيح هو الإله الحقّ الذي أتقن بيده العالم وخلق كلّ شيء، وإنه المولود من الله قبل الدهور، كما هذوا به الأمانة التي لهم؟!. وكيف يقول نبي الله داود إن المسيح رجل من الآدميين، يشبه كاهناً من الكهان؟! ويقول أصحاب الأمانة: كلا، ولكنه الإله الذي خلق الكاهن ملكي صادق وغيره. فإن قالوا: قد خبر جبريل مريم حين بشرها بأن الرّبّ معها، فقال لها: "مريم ربنا معك". قلنا: ليس كم ذهبتم إليه. وإنما أراد بالمعية ها هنا المعاضدة والمؤازرة وحسن الإرفاق والتعهد بالمعونة. والدليل عليه قول الله في التوراة لموسى: "اذهب برسالتي إلى فرعون، وأنا أكون معك، وراقبا للسانك"3. وقال ليوشع بعد وفاة موسى: "أنا أكون معك كما كنت مع عبدي موسى"4.
وقال حملة الإنجيل: "وكان الله مع الصبي"1. / (2/39/ب) وقد قال الله تعالى في كتابه الكريم: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٌ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُم وَلاَ خَمْسَةٌ إّلاَّ هُوَ سَادِسُهُم وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرُ إِلاَّ هُوَ مَعَهُم أَيْنَمَا كَانُوا ... } . [سورة المجادلة، الآية: 7] . وقد قال المسيح: "إنه أفضل من يونس وأفضل من سليمان"2. وقال فولس: "إن يسوع أفضل من موسى"3. وقال المعمداني حين عمد المسيح: "هذا الذي قلت لكن إنه يأتي بعدي وهو أقوى مني"4. فما نرى الحواريين ولا يوحنا ولا فولس قالوا كما قالت الأمانة: "إن المسيح إله الحقّ وأنه خلق كلّ شيء". والعجب من النصارى [يخبروننا] 5 أنّ المسيح كان رجلاً تجري عليه أحكام الآدميين، وأنه أقام مع الشياطين أربعين يوماً محصوراً في البرية وهو يجره من مكان إلى مكان، وأنه جاع وعطش، وفرح وحزن، ولبس الثياب، وركب الحمار، وبذل الجزية كسائر المستضعفين. فكيف تقول الأمانة: إن المسيح هو الإله الذي أتقن العالم، وخلق كلّ شيء؟!. هل ذلك إلاّ حمق ورعونة؟!. فإن كانت الأمانة صحيحة فقد كذب الإنجيل، وإن كان الإنجيل صادقاً فقدكذبت الأمانة وكذب من ألفها، فقد وضح أن هذه الأمانة منتقضة فاسدة / (2/40/أ) لا تثبت لأدنى نفخة من الحقّ.
ولنختم هذا الباب بإبطال التثليث1 المسطور في هذه الأمانة. فنقول للنصارى: قد زعمتم أن معبودكم عبارة عن ثلاثة أقانيم، وهي: الوجود والحياة والعلم. فما دليلكم على حصرها في هذا العدد؟! وبِمَ تنكرون على من يرى أنها أربعة، ويزيد القدرة فيصير التثليث تربيعاً؟!. فإن قالوا: لا حاجة إلى ذلك إذ في أقنوم العالم مندوحة عن إثبات القدرة. قلنا: لا نسلم لكم ذلك. فمن أين يلزم من حصول العلم حصول القدرة؟!. فقد يكون الواحد عالماً ولا يكون قادراً، إذ حظ العلم [كشف] 2 للمعلوم ومعرفته على ما هو به، وحظ القدرة الاختراع والإيجاد، فلا يلزم من معرفة الشيء إيجاده ولو جاز الاجتزاء بالعلم عن القدرة لجاز الاجتزاء بالحياة عن العلم، وكما لا يلزم من الحيّ أن يكون عالماً، فكذلك لا يلزم من العالم أن يكون قادراً وكما أن العلم لا يُفْقَدُ إلاّ ويخلفه ضدّه وهو الجهل، فكذلك القدرة لا يجوز أن تفقد إلاّ ويخلفها ضدّها وهو / (2/40/ب) العجز. وقد أوجد الباري تعالى العالم بعد أن لم يكن، وذلك أنثر القدرة لا أثر العلم، وإلاّ فقد كان العلم حاصلاً لله تعالى قبل الإيجاد وهو التعلق، فقد وجب وصفه تعالى بالقدرة. وإذا ثبت وصفه بالقدرة فقد وجب وصفه بالإرادة، إذ حظ القدرة الاختراع والإبداع. وحظ الإرادة التخصيص بالمقادير والأشكال والأزمان والأحوال. فقد بطل القول بالتثليث ووجب وصفه تعالى بالجلال والكمال. وذلك يستدعي وصفه سبحانه وتعالى بأنه واحد حيّ عالم قادر مريد سميع بصير متكلم. وهذه الصفات الزائدة على الثالوث قد نطقت به صحف أهل الكتاب. وهي موجودة في التوراة والإنجيل
، والزبور. ولو أردنا انْتزَاعها من كتبهم وإثباتها في هذا المختصر لما أعوزنا ذلك. ولكنا نؤثر الاختصار، فقد ثبت بهذه الوجوه الخمسة عشر بطلان الأمانة وانتقاضها وانتثار1 نظمها. وإذا بطلت شريعة الدين بطل الدين المبني عليها، ووجب الرجوع إلى / (2/41/أ) أقوال الأنبياء في توحيد الله سبحانه وإفراده بالربوبية سبحانه لا إله غير ولا ربّ سواه.
الباب التاسع: في إثبات الواضح المشهود من فضائح النصارى واليهود
الباب التّاسع: في إثبات الواضح المشهود من فضائح النّصارى واليهود في إثبات الواضح المشهود من فضائح النصارى واليهود: / (2/41/أ) نذكر في ما اشتملت عليه التوراة وإنجيل النصارى من الفضائح التي يأنف من إيرادها مجان الصبيان والمغفلون من النسوان، ولنبدأ بذكر فضائح اليهود، وتقدمهم هنا لتقدم كفرهم: 1- فضيحة عبدت قدماء اليهود عزيراً1، وقالوا: إنه ابن الله. وساووا في ذلك النصارى في عبادتهم المسيح. وقد أخبر الكتاب العزيز بالقصة
والمتأخرون من اليهود ينكرون ذلك ويجحدونه1. وليس الأمر كما يظنون بل قد صحّ أن تلك طائفة من أسلافهم يقال لها: المؤتمنية2. قال الله تعالى: {وَقَالَتِ اليَهُودُ عُزَيرٌ ابن الله ... } إلى قوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدوا إِلَهاً وَاحِداً} 3. فمن عبد المسيح وعَدَّه من الآدميين إنما تأسى بهم وتسبب بأسبابهم.
2- فضيحة أخرى: عبدت قدماء اليهود الكواكب والزهرة. / (2/41/ب) وقرَّبت لها القرابين، وقد أخبر بذلك نبي الله أرميا في نبوته. فقام أرميا فيهم فوعظهم وخوَّفهم بأس الله وسرعة بطشه وذكرهم بأيامه وما صنعه من الآيات. فتواثب عليه الشعب بأسرهم. وقالوا: إنا لا ندع البخور للزهرة والكواكب وهمّوا بقتله1. 3- فضيحة أخرى: عبدت اليهود العجل في حياة نبي الله موسى عليه السلام، وذلك حين ذهب عليه السلام إلى مناجاة ربّه وترك هارون خليفة عندهم. وكانوا حين أنجاهم الله من الغرق وأصعدهم من البحر ورأوا قوماً يعبدون أصناماً على صور البقر، فبقي ذلك في2 نفوسهم. فلما استبطأوا موسى صنع لهم السامري من الذهب عجلاً، فأقبلوا على عبادته، وتركوا عبادة الله الذي صنع لهم العجايب وأراهم الآيات3 فقام هارون فيهم خطيباً ووعظهم. فهمّوا أن يقتلوه فاعتزل عنهم في طائفة من قومه. وقد نطق بذلك الكتاب العزيز، قال الله تعالى: {وّاتَّخَذَ قَومٌ مُّوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِم عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوا أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُم / (2/42/أ) وَلاَ يَهْدِيهُم سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} . [سورة الأعراف، الآية: 148] .
4- فضيحة أخرى: من اليهود طائفة يقال لها الأشمعية1. مشبهة مجسمة يعتقدون أن خالقهم في صورة شيخ أبيض الرأس واللحية2، ويزعمون
أن له في السماء الثالثة خليفة يسمّونه الله الأصغر. ويزعمون أنه مُدَبِّر العالم1. وهم يقولن بالنسخ2. 5- فضيحة أخرى: من اليهود طائفة يقال لهم: العنانية3. وهم يوحدون ولكنهم يحيلون النسخ من جهة العقل والسمع جميعاً.
6- فضيحة أخرى: من اليهود طائفة تعرف بـ: الأصبهانية1. أصحاب أبي عيسى الأصبهاني، يزعمون أن أبا عيسى كان نبيّاً مبعوثاً قبل موسى وذلك على خلاف رأي سائر اليهود. فليس تعتقد اليهود أنه كان قبل
موسى نبيّ ألبتة. فينكرون نبوة شيث ونوح وإبراهيم وغيره ويقولون: "إن موسى هو مفتاح النبوة وبكر الرسالة". والتوراة التي بأيديهم تكذبهم. إذ هو مصرحة بأن أوامر الله قد وردت على من ذكرنا/ (2/42/ب) وانتهضوا دعاة إلى الله. وهذه نبوة دانيال تشهد بأن بختنصر حين غزا البيت المقدس حرق كتب الله المنَزَّلة على إبراهيم وشيث وغيره. قال دانيال: "وعدتها مائة كتاب وأربعة كتب"1. فمن زعم أنه لا نبي قبل موسى عليه السلام فنبوة دانيال حجّة عليه. 7- فضيحة أخرى: من اليهود طائفة تعرف باليوزعانية2 مشبهة. تزعم أن المسيح هو يوزعان. وأنه قد جاء مرة وسيأتي مرة أخرى. وتقول إن
مافي التوراةمما يظنه اليهودعلى ظاهره كالسبت وغيره إنماهي معانٍ وأسرارتشيرإلى مجيء مسيحهم يوزعان. 8- فضيحة أخرى: من اليهود طائفة تسمى البنيامية1 أصحاب بنيامين. موحدة غير أنها تعتقد أن لله تعالى [مضاداً] 2 يضاده. وهو فاعل الشّرّ غير أنه مخلوق من خلقه.
9- فضيحة أخرى: من اليهود طائفة تسمى الملكية1. يقولون بالتوحيد غير أنهم يزعمون أن الذي خلق العالم ليس هو الله بل ملك من الملائكة أقدره الله على ذلك. قالوا: (2/43/أ) وهذا الملك هو الذي كلَّم موسى من الشجر وفلق له البحر، ورأس هذه الطائفة: "مالك الصيدلاني". من أهل الرملة2.
10- فضيحة أخرى: من اليهود طائفة يعرفون بأصحاب المغار، وإنما سموا بذلك لأنهم صنفوا كتباً وتركوها في مغار وانقرضوا، فوجدت تلك الكتب وفيها تأويلات تخالف ما عليه اليهود1. 11- فضيحة أخرى: من اليهود طائفة أخرى تعرف بالفارجية أصحاب يوحنا بن فارج2 وكان على زمن أمريا. كانوا يعبدون صنماً يقال له "بعل" ويقربون لنجوم السماء كما هو مذكور في نبوة أرمياً. ونزلوا أرض مصر وتكلموا باللسان القبطي. والتوراة والنبوات عندهم مترجمة بالقبطي، ولا يعرفون شيئاً من العبراني ألبتة.
وقال الشهرستاني1: "يهود الروم على مذهب الأشمعية العراقيين". 12- فضيحة أخرى: من اليهود طائفة تعرف بالعيسوية2 أصحاب أبي عيسى الأصفهاني، وهم يعترفون بنبوة عيسى ومحمّد عليهما السلام غير أنهم يقولون: لم يرسلا / (2/43/ب) إلاّ لقومهما خاصة. ولم يؤمرا بنسخ شريعة موسى عليه السلام3. 13- فضيحة أخرى: من اليهود السامرة4 وهم طائفتان: طائفة تقر بنبوة موسى وهارون ويوشع بن نون لا غير. وتجحد نبوة من عداهم من النّبيّين. والطائفة الأخرى تعترف بنبوة كلّ من عدا عيسى ومحمّد عليهما
السلام1. وتزعم أن المسيح لم يبعث بعد وأنه سيأتي. ولهم خط غير الخط العبراني. وآراء غير آراء اليهود. ويخالفون اليهود في القبلة ولا يصلون إلى صخرة بيت المقدس ويتوجهون في صلاتهم إلى جبل بالشام2 وإليه يحجون وهو قريب من نابلس. وهم الذين يقال لهم
: لا مساس. ويرون تحريم أكل ما مسَّه غيرهم1. واليهود تزعم أنهم ليسوا من بني إسرائيل2. وبالجملة فقد ذكر العلماء أن عدة فرق اليهود إحدى وسبعون فرقة3. وكلّ فرقة من هذه الفرق تضلل الأخرى وتُبدِّعها. والمعروف الآن منهم أربع فرق: فرقة تعرف بالقرائين. وفرقة تعرف بالربانيين. وفرقة تعرف بالعيسوية. وفرقة / (2/44/أ) تعرف بالسامرة.
فأما هذه الفرق الأربع فيزعمون أنهم أهل توحيد لا يذكر بينهم اختلاف في ذلك. فأما القراؤون فمشبهة، وأما الربانيون فمعتزلة1، وأما العيسوية فتقرُّ بنبوة عيسى ومحمّد عليهما السلام، وأما السامرة فهم طائفتان كما تقدم. الكلام على اليهود: أما العيسوية المعترفون بنبوة محمّد عليه السلام ورسالته إلى العرب خاصة. فنقول لهم: إذا صدقتم محمّداً في قوله: (إنه نبي) لزمكم تصديقه في كلّ ما أخبر به، ومن جملة ما أخبر به أنه رسول الله إلى الناس أجمعين. قال الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيكُم جَمِيعاً} . [سورة الأعراف، الآية:158] . فإن قالوا: (الناس) أهل مكة لا غير. إذ كلّ ما في كتابه من هذه الآي فهو مخاطب به أهل مكة، وما كان منه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} . فالمخاطب به أهل المدينة. قلنا: لا نُسَلِّم لكم هذا التأويل. بل الناس المذكورون بالألف واللام لاستغراق جميع الناس من بني آدم. وقد أكَّده بقوله: {جَمِيعاً} ، والدليل على ذلك قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَلَ الفُرْقَانَ عَلَى2عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} . [سورةالفرقان، الآية:1] .وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلْنَّاسِ} . [سورة سبأ، الآية: 28] . {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [سورة الأنبياء، الآية:107] .
وقد صحّ عنه عليه السلام أنه قال: "بعثت إلى الأحمر والأسود" 1. يريد العربي والعجمي. وقد تواتر عنه عليه السلام أنه لم يختص بدعوته قوماً دون قوم، وأنه أرسل رسله إلى ملوك الأطراف والنواحي يدعوهم إلى دينه. والتواتر لا سبيل إلى ردّه. فمن صدَّقه عليه السلام في بعض أقواله لزمه تصديقه في جميع أقواله. وقد قتل عليه السلام المخالفين لملته من اليهود2 كما قتل موسى ويوشع وداود-عليهم السلام-من خالفهم من أهل الأديان، فهذا قولنا للعيسوية. فأما غير العيسوية فإنهم أنكروا النسخ، فمنهم من أنكره عقلاً، ومنهم من أنكره شرعاً. فالذين أنكروه عقلاً قالوا: يستحيل في العقل أن يتعبد الله عباده بشرع يأمرهم فيه بأمر في وقت ثم يأمر بنقيضه في وقت آخر. قالوا: وهذا هو البداء3. والبداءة لا يجوز إلاّ من جاهل بعواقب الأمور فأما الباري فلا يجوز منه ذلك. إذ الأمر الأوّل إن كان حقّاً / (2/45/أ) وحكمة فنقضه باطل وسفه وذلك لا
يليق بالحكيم سبحانه. فالتزموا ردّ ما جاء من الناسخ بعد موسى عليه السلام. و1 إنكار شرع من كان قبله من شرائع الأنبياء فالتزموه. وقالوا: ليس قبل موسى نبيّ أصلاً. فردّوا نبوة شيث وإدريس ونوح وإبراهيم ولوط وغيره. وقالوا: أوّل الأنبياء موسى بن عمران عليه السلام. وزعموا أن الأنبياء أربعة و [عشرون] 2 نبيّاً أوّلهم موسى3. فيقال لهم: إذا كان إنما مستندكم تعاقل العقلاء وتعارفهم وقياس الغائب على الشاهد، فاعلموا أن السيد قد يأمر عبده في وقت بفعل وينهاه عنه في وقت آخر. لعلمه بمصلحته في إيقاع الفعل وتركه في الوقتين جميعاً. وكذلك الوالد قد يأمر ولده في أوّل نشوئه بتحصيل الفضائل، فإذا بلغ مبالغ الرجال واحتاج إلى ما لا بُدَّ له منه أمره بالكسب، ونهاه4 عما كان يأمره به أوّلاً لعلمه
بمصلحته في الحالين. وكذلك الطبيب الماهر قد ينهى العليل في وقت عن الأغذية المقوية للمادة، ويأمره باستعمال اللطيف الذي لا / (2/45/ب) يخصب البدن ويزيد في المادة، فإذا نَقِه1 عاد فأمره بما كان ينهاه عنه لمعرفته بما يصلحه في الحالين. وقد عَلِمَ أوّلاً أنه سينهاه عما أمره به ويأمره بتناول ما نهاه عنه أوّلاً، وإذا كان ذلك حسناً من الوالد في ولده والطبيب في سقيمه، فما المانع أن يتعبد الله عباده في وقت بحكم يعلم أن مصلحتهم في التكليف به، ويطلق لهم الأمر من غير تقييد بمدة ليكون أدعى2 إلى المسارعة والامتثال، ثم يأمرهم في وقت آخر بترك تلك التكاليف واستعمال غيرها؛ لعلمه بكونها مصلحة لهم في ذلك الوقت، والشرائع مصالح للعباد. والله تعالى هو العالم بمصالح عباده على اختلاف أحوالهم وأوقاتهم! فما الذي جَوَّز ذلك للوالد والطبيب مع الجهل3 بالعاقبة، وأحاله4 من العَالِم بعواقب الأمور الذي لا يخفى عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء المدبِّر لعباده كما يشاء. {أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ الله رَبُّ العَالِمِينَ} . [سورة الأعراف، الآية: 54] . واعلم أن النسخ لا يدخل على الأخبار؛ لأن المخبر عنه يصير كذباً، وإنما يدخل / (2/46/أ) على الأحكام؛ لاختلاف المصالح باختلاف أحوال المكلّفين واختلاف الأوقات. فهذا بيان جواز النسخ عقلاً5.
فأما جوازه شرعاً فيستدل عليه من توراتهم التي يعتقدون صحّتها ليكون أفحم لهم وأقطع لعذرهم ونحن نثبت ما فيها من النسخ. والله الموفّق والمعين. فنقول: إن في توراتهم عدة مواضع تدل على تبدل الأحكام وذلك لاختلاف مصالح الأنام: الموضع الأوّل: قالت التوراة في السفر الأوّل يدعى سفر الخليقة: "إن الله تعالى خلق آدم وخلق من ضلعه حواء زوجه وبارك عليهما وقال: أنميا وأكثرا واملآ1 الأرض. وتسلطا على سمك البحور وطائر السماء والأنعام والدواب
وكلّ شيء على وجه الأرض، وقال لهما سبحانه: هائنذا1 قد أعطيتكما كلّ ما على وجه الأرض من شجر ودواب وعشب وطير من البحر والبر ليكون لمأكلكم"2. فهذا إخبار من الله أنه قد أباح لآدم وزوجه جميع الحيوان مطلقاً لمأكلهم، فهل ما أباحه الله لآدم مباح لكم / (2/46/ب) في شرع التوراة أم قد حرَّم عليكم كثيراً من ذلك؟!. وهَا هنا لا يحيرون جواباً ولا يجدون إلى الانفصال سبيلاً، فقد قال الله في التوراة لموسى وهارون: "قولا لبني إسرائيل لا تأكلوا من الأنعام التي على وجه الأرض إلاّ ما شقّ ظلفه وهو يجتر، الجمل حرام عليكم، والخنْزِير حرام، ولا تأكلوا من طير السماء النسر والحدأة والغراب، ولا أجناسهم، ولا البوم والعقعق والصعوة والرخمة وأجناسهم، ولا الهدهد والطاوس فهذا كله عليكم حرام"3. ومعلوم عندكم أن هذا مما أبيح لآدم وحواء بنصّ أوّل التوراة. فهل4 النسخ إلاّ أن يبيح الله الشيء على لسان نبيّ ثم يحرمه على لسان نبي آخر أو بالعكس. فكيف تقرأ اليهود ذلك ثم تكفر به؟! وإذا كفروا بما في أيديهم من كتب الله، كيف يطمع فيهم أن يؤمنوا بما ليس في أيديهم من عند الله؟!. الموضع الثّانيّ: قالت التوراة: "كان آدم يزوج بنيه من بناته بإذن الله له في ذلك"5. حُرم بعد ذلك6 فهذا نسخ / (2/47/أ) لشرع آدم نفسه. فإن قالوا: ذلك
لضرورة عدم اتساع الخلق. قلنا: قد كان الله تعالى قادراً على أن يخلق لهم أزواجاً ولا يحوجهم إلى وطء الأخوات. الموضع الثّالث: قالت التوراة: "جمع إسرائيل بين أختين في عصمته وهما1 ليئا وراحيل [ابنتا] 2 لابان"3. وإسرائيل نبي ثابت العصمة وهو عند اليهود والنصارى من الصالحين لا غير. وهو إسرائيل4 الله. ومنصبه يَجِل5 عن الإقدام على ما لا يحل ومن ظن به سوى ما ذكرناه فقد قدح فيه، ثم قالت التوراة في السفر الثالث منها: "لا تنكح المرأة على أختها فتغبطها وتجتلى عورتها في حياتها ولا يقترب من امرأة طامث في حيضها فمن فعل شيئاً من هذه النجاسات منكم أو ممن يقبل إلي ويسكن بينكم فلتبد تلك النفس"6. وهذا فاعلموا تحريم ما كان مباحاً لإسرائيل، ولا جواب لكم عن ذلك. الموضع الرّابع: "قال الله تعالى في التوراة: إبراهيم، قال: هائنذا يا رب. قال اذهب بابنك الذي تحبه فقربه لي قربانا / (2/47/ب) على أحد الجبال التي آمرك. فبكّر إبراهيم وذهب بالولد وبني مذبحاً وأوثق الولد ورفعه على المذبح وجذب السكين لينحره فناداه الملك: إبراهيم لا تذبحن الصبي فقد علم الله أنك تخشاه إذ لم تبخل عليه بولدك، ورفع إبراهيم بصره فرأى الكبش فذهب فأخذه ورفعه على المذبح"7. وهذا فاعلموا أنه لا معنى له غير النسخ
أفتقولون - ويلكم - إن ذلك بداء من الله - تعالى عن كفركم علوّاً كبيراً -؟!. الموضع الخامس: الجمع في النكاح بين الحرّة والأمة. قد كان جائزاً في شرع يعقوب فجمع في عصمته بين حُرتين وأمتين1 ثم نسخته التوراة بعد ذلك فلم تجزه. الموضع السّادس: قالت التوراة: "قال الله تعالى لموسى: اخرج انت وشعبك من مصر ليرثوا الأرض المقدسة التي وعدت بها أباكم إبراهيم أن أُوَرِّثها نسله2. فلما صار بهم موسى في التيه - قالت التوراة - قال الله تعالى: لا تدخلوها/ (2/48/أ) أنتم لأنكم أغضبتموني"3.فلم يدخلوها هم ولا موسى وهارون ولم يدخلها أحد ممن خرج من مصر سوى رجلين: يوشع بن نون وكالاب4 بن يوفينا. وهذا نسخ لشرع موسى نفسه.
الموضع السّابع: قالت التوراة: "قال الله تعالى لموسى: تنح عن هذا الشعب الخبيث القلوب القاسي الرقاب. فإني أهلكه وأبيده عن جديد الأرض وأبدلك شبعاً خيراً منه. فلم يزل موسى يصلي ويشفع فيهم حتى عفا الله عنهم فلم يهلكهم ولم [يبدهم1] 2. وهذا نسخ. الموضع الثّامن: تحريم السبت3. وقد أقام الناس من لدن آدم إلى زمن موسى لم يُتعبَّدوا بتحريم الأعمال فيه. بل كانت الأعمال فيه مباحةً ثم حرِّمت على لسان موسى. ولولا إيثار الاختصار لتلونا عليكم من هذا الجنس [كثيراً] 4. فهذه نصوص التوراة تصرح بنسخ الأحكام وتبديل الحرام حلالاً والحلال حراماً. فمن أشد كفراً وأبين ضلالاً من قوم يقرؤون التوراة ثم يكفرون بها / (2/48/ب) بعد اعتقاد صحّتها وينسبون أنبياء الله إلى تعاطي المحرمات ولاستباحة الفروج بغير أمر الله؟! ومن قدح في أنبياء الله فقد كفر بالله. ولو كان اليهود أولي أحلام لما رَدُّوا النسخ واعتلوا بأنه بداء مع وصفهم الله تعالى بالندم والأسف وذلك أشد شناعة من البداء. فرووا5 في السفر الأوّل من توراتهم: "أن الله رأى ظلم الناس
وشرّهم قد كثر على وجه الأرض فأسف الله إذ خلق آدم على الأرض فقال: لأزيلن ما على الأرض من البشر والأنعام والدواب وطير السماء؛ لأني قد ندمت على خلقي إيّاهم"1. فوصفوا ربّهم تعالى بالأسف والندم الدالين على غاية النقص والجهل بالعواقب ثم أنكروا النسخ وهو ضدّ البداء، إذ النسخ أمر بمصالح العباد في أوقاتهم وأحوالهم. وقد حكوا في توراتهم ما هو أقبح من البداء صريحاً فرووا في السِّفر الأوّل من التوراة: "أنه لما نظر بنو الله بنات الناس حساناً ونكحوا منهم ما أحبوا قال الله: لا تسكن الروح بعدها في بشر ولتكن أيامهم مائة وعشرين سنة"2. / (2/49/أ) فهذا إخبار من الله أنه لا يعمر بشراً أكثر من مائة وعشرين سنة ولا يسكن الروح في بشر، ثم نصت التوراة بعد هذا القول أن أرفخشد عاش من بعد ما ولد له شالح أربعمائة وثلاث سنين3. وعاش رعوا من بعد ما ولد ساروج مائتي سنة وسبع سنين4. وعاش إبراهيم مائة سنة [وخمساً وسبعين] 5 سنة6. وعاش إسحاق مائة سنة وثمان سنة7. وجماعة كثيرة عُمّروا أعماراً تزيد على ما حكوه عن الله تعالى. وهذا أشدّ من البداء لأنه كذب في الأخبار. وإذا كان هذا [جائزاً] 8 عندكم معشر اليهود فكيف تمنعون النسخ وتتعللون9 بأنه بداء من الله؟!!.
وقد جاء في قصة [حزقيا] 1 ملك يهوذا "أنه مرض فأوحى الله إلى أشعيا النبي عليه السلام أن قل لحزقيا يوصي فإنه ميت من علته هذه، فدخل عليه أشعيا وأخبره بوحي الله إليه في شأنه. فاستقبل حزقيا الجدار وبكى وتضرع إلى الله فنَزل الوحي على أشعيا النبي قبل خروجه من الدار يقول له، إن جزقيا يقوم من علته وينْزل إلى الهيكل / (2/49/ب) بعد ثلاثة أيام وأنه قد زيد في عمره خمس2 عشرة سنة"3. وإذا كانت كتب اليهود وتشهد بمثل هذه الأشياء لم يلتفت إليهم بعدها في ردّ النسخ. هذا وقد ابتدأ الله تعالى العالم بعد أن لم يكن وفرض تكاليف بعد أن لم تَجِب وأحدث أموراً ولم يدل ذلك على البداء، وقد نقل سبحانه عباده من حال إلى حال ومن صحة إلى سقم ومن حياة إلى موت ولم يدل على البداء. وكذلك نقلهم من جنس من التكاليف إلى جنس آخر لا يدلّ على البداء، وكأنه سبحانه يأمر عباده بالأمر فيتمرنوا عليه المدة الطويلة حتى يصير عندهم من قبيل الاعتياد، فيأمرهم بتركه والتزام سواه اختباراً لهم وامتحاناً لطاعتهم له. وهل امتثالهم لأمره طاعة محضة أو عادة مستصحبة4. وكلّ ذلك منه حسن. فلا يدل شيء من ذلك على البداء والاستدراك. فإذا وردت العبارة مطلقة بلفظ يوهم التأبيد ثم نسخت تَبَيَّنَّا5 أن المراد بها وقت دون وقت. وقد تمسكت اليهود بقول التوراة: "تمسكوا بالسبت أبدا الدهر"6. (2/50/أ) فظنوا أنّ ذلك للتأبيد، وأن لفظه نصّ لا يحتمل التأويل،
وقالوا: أمرت التوراة بقتل من أحل السبت وجوز فيه الأعمال1. قالوا: وقد أحدث سلفنا في السب حدثاً فمسخوا. واعلم أنّهم لما ألزموا بما في التوراة والنبوات من الأحكام التي نسخت وتجدد غيرها عدلوا إلى هذه اللفظة، وليس كما ذهبوا إليه إذ قوله: "تمسكوا بالسبت أبد الدهر" يحتمل صلة محذوفة وهي: "ما لم يأتكم نبيّ يأمركم بحِلِّه". والدليل على هذا الاحتمال أنه لو قرن بآخر الكلام وسيق معه لم يتناقض ولم ينب عنه وإذ كان الكلام يقبله حملناه عليه إذ نبوة عيسى ومحمّد لا سبيل إلى ردّها. وقول التوراة إن صحّ يمكن تخصيصه، فواجب أن يُخَصَّ لضرورة الجمع بين أقوال الصادقين حتى لا تقع المعارضة بين الأدلة القطعية، فتحريم العمل في السبت حكم من جملة الأحكام التكليفية فنسخه كنسخ سائر الأحكام. والدليل على أن قوله: "تمسكوا بالسبت أبد الدهر" / (2/50/ب) ليس للتأبيد بل لدهر مخصوص وزمان مؤقت، قول التوراة: "قال الله تعالى لنوح لما كثرت خطايا البشر: لا تسكن روحي2 في البشر إلى الدهر"3 - ثم قال بعد ذلك لموسى عليه السلام: "يعمل لك قبة الزمان [بصلئيل] 4 الذي من سبط يهودا5 الذي ملأته روح الله بالعلم والحكمة". - وقال أيضاً -: "كذلك في رفيقه الذي من سبط دان"6. وهما من البشر. فوضع أن لفظة الدهر لا تقتضي التأبيد.
وفي نبوة حزقيال أيضا: "إن الله تعالى قال له: تنبأ على هذه العظام وأنا أبث روحي فيهم فيحيون، ففعل"1. فقد سكنت روح الله في البشر. وفي التوراة: "إن الله تعالى قال لإبراهيم: إن أرض الشام له ولذريته من بعده أبد الدهر"2. في عدة مواضع من التوراة. وذلك لا يتقاضى إلاّ دهراً مخصوصاً بدليل خروجها من أيديهم3. فلم يرد سبحانه إلاّ المدة التي أقامت في أيديهم. وقالت التوراة: "إن الله تعالى قال لموسى: اصنع قبة الزمان ومن صفتها كيت وكيت وليلبس هارون ثياباً للتكهن من صورتها كذا وكذا للدهر"4. وليس بقاء القبة ولا هارون / (2/51/أ) مؤبداً.
وقالت التوراة في السِّفر الربع منها لموسى: "اصنع قرنين من فضة تستعين بهما على الدعوة للرحلة، فإذا نفخ فيهما اجتمع [بنو] 1 إسرائيل عند قبة الزمان [وبنو] 2 هارون هم الذين يهللون بالقرون ولتكن هذه سنة لكم إلى الدهر"3. وليس ذلك للتأبيد بل لدهر مخصوص. فثبت بذلك أن الذي وعد به إبراهيم من تمليك ولده الأرض مخصوص به ولد يعقوب في ذلك الدهر الذي انقضى ومضى ثم قد زالت من أيديهم وزال ملكهم عنها. وإذ قد ثبت بهذه النصوص أن لفظ: (الدهر) لا يقتضي التأبيد في سكنى روح الله في البشر ولا في ملك الأرض ولا في لباس هارون الثياب وضربه بالقرون للرحيل بل لدهر مخصوص في علم الله. فكذلك لفظ الدهر في تحريم السبت. وهذا هو أقوى ما تمسك به اليهود في تأبيد تحريم السبت ولا جواب لهم عما ألزمناهم من نصوص توراتهم. وأما احتجاجهم بمسخ من مسخ من أسلافهم قردة وخنازير، فذلك لتعديهم في السبت قبل نسخه إذ كانوا مكلّفين في ترك الأعمال فيه / (2/51/ب) فلما دلسوا على الله وخالفوا أمره وارتكبوا نهيه مع بقاء حرمته عاقبهم بالمسخ4، فلما
بعث الله نبيّه المسيح ابن مريم عليه السلام نسخ السبت وأباح الأعمال فيه1، وغيَّر كثيراً من الأحكام وآمن طوائف من اليهود بالمسيح عليه السلام وتركوا السبت فلم يُنسبوا بعد إلى عدوان ولم يمسخوا.
فقد ثبت جواز النسخ عقلاً ودللنا على وقوعه شرعاً واننقطعت معاذير اليهود1. - والله ربّنا المحمود 14- فضيحة أخرى: زعم اليهود: "أن روح الله قبل خلقه العالم كانت ترفرف على المياه"2. انظر - عافاك الله - إلى سوء هذا التعبير وسماجته، كأنهم يعتقدون أن حياة الباري تزايله وتفارق ذاته. فإن قالوا: إنما عنينا أن المياه كانت مصونة بحفظه عن الضياع. قلنا لهم: فليس للمياه اختصاص بذلك فهلا قلتم: وصان الله المياه وحفظها كي لا تضيع، ولِمَ استعملتم هذا اللفظ الموهم الموجب للالتباس، القاضي بالفكر الرديء والوسواس؟!
15- فضيحة أخرى: زعم اليهود أنّ الله تعالى حين أكمل خلقة العالم قال: / (1/52/أ) "تعالوا حتى نخلق بشراً شبهنا ومثالنا فخلق آدم"1. فلذلك اعتق كثير من اليهود التجسيم، فقال: إن الله في صورة آدمي وأنه شيخ أبيض الرأس واللحية وأنه جالس على كرسي والملائكة قيام بين يديه والكتب تقرأ بحضرته2 - والويل لليهود - من أين الله [شبه ومثال؟!] 3. {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} . [سورة الشورى، الآية: 11] .
16- فضيحة أخرى: زعم اليهود أن الباري لما خلق الخلق في ستة أيام استراح في اليوم السابع1. واعتقدوا بغلط2 أفهامهم أن الباري يعتوره التعب والنصب، وربما نُقل عن بعض اليهود أن الباري في اليوم السابع استلقى على ظهره واضعاً إحدى رجليه على الأخرى. وهذه الزيادة لم أقف عليها في نسخ التوراة غير أنها قد نقلت عن بعضهم3. ولست أبعد من عقولهم اعتقادها والبوح بها. 17- فضيحة أخرى: زعم اليهود: "أن الله تعالى قال لآدم وحواء: إنكما في اليوم الذي تأكلان فيه من الشجرة التي نيتكما عنها [تموتان] 4 موتاً"5. وذلك من الكذب الفاحش على الله فإن التوراة تشهد إنهما / (2/52/ب) عاشا بعد الأكل دهراً حتى رزقا الأولاد ورأيا فيهم البر والفاجر6. واليهود تزعم أن الجنة لا أكل فيها ولا شراب7. وهذا الموضع يكذبهم. وقد قررت ذلك في مسألة مفردة أثبت فيها اشتمال الجنة على أصناف من الملاذ من الأكل والشراب والنكاح8.
18- فضيحة أخرى: زعم اليهود أن نمرود1 لما بنى الصرح وشيَّده نزلالباري إلى الأرض حتى هدمه وحال بين نمرود2 وبين ما أراد من ذلك. واليهود كثيراً ما يطلقون في توراتهم نزول الباري فكأنما يعجزون الله تعالى عن القدرة على ما أراد حتى يصفونه بالحركة والانتقال والتفريغ والاشتغال. وذلك كلّه من صفات المحدثين ويتعالى عن ذلك ربّ العالمين. أين هذا من ألفاظ الكتاب العزيز حيث يقول: {فَأَتَى الله بُنْيَاهُم مِّن القَوَاعِد} 3. وقوله تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} 4. 19- فضيحة أخرى: زعم اليهود أن إبراهيم حين مرت به الملائكة لهلاك سدوم وعامورا مدائن لوط عليه السلام أضافهم وأطعمهم / (2/53/أ) خبزاً ولحماً وسقاهم سمناً ولبناً ولما باتوا عند لوط عشاهم فطيراً5. وذلك جهل عظيم إذ اعتقدوا أن الملائكة شأنهم شأن الآدميين يتناولون ما يتناوله الآدميون من الأغذية. وتلك أجسام روحانية إنما غذاؤها وقوت أرواحها جنس آخر روحاني لا يعرفه اليهود.
وقد قال أهل الكتاب: "إن المؤمنين في الجنان لا يأكلون ولا يشربون بل يكون حالهم عند الله كحال الملائكة". فكيف ناقضوا هَاهنا فزعموا أن الملائكة أكلت الطعام وشربت الشراب. وبهذا التحريف وشبهه تعلم أن أهل الكتاب ليس بأيديهم من كتب أنبيائهم إلاّ الرسوم1. وقد قال الكتاب العزيز: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُم لاَ تَصِلُ إِلَيهِ نَكِرَهُم وَأَوْجَسَ مِنْهُم خِيفَةً قَالُوا لاَ تَخَفْ} . [سورة هود، الآية: 70] . وذلك كناية عن عدم الأكل ويشبه أن يكون الملائكة وضعوا أيديهم على الطعام وتقدموا به إلى الفقراء وأبناء السبيل. 20- فضيحة أخرى: زعم اليهود - أبعدهم الله - أنّ نبيّ الله لوطاً لما2 تقدم / (2/53/ب) الله إليه بالخروج من تلك القرية الظالمة لم يسارع إلى الخروج وتباطأ في الامتثال. حتى جعل الملائكة يدفعون في ظهره دفعاً عنيفاً حتى أخرجوه كرهاً3. والأنبياء محاشون عن عوارض الشكوك فيما يأمر به الله سبحانه - أعوذ بالله من القد في عصم الأنبياء والتشبه بأمثال اليهود الأغبياء. 21- فضيحة أخرى: زعم اليهود أن نبيّ الله إبراهيم حين حضرته الوفاة وأشرف على القدوم على الله تعالى، ورّث ماله كلّه إسحاق ولده وحرّم
باقي أولاده1. فنسبوه - وهو خليل الله - إلى جهل وحيف يتَنَزه عنه جهال الصبيان وقد قال خاتم النّبيين: "إنّا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة"2.
22- فضيحة أخرى: زعم اليهود أنّ نبيّ الله يعقوب احتال على أبيه وقد كذب عليه قولاً وفعلاً وأوهمه أنه العيص1 ولده إذ كان إسحاق يحب العيص أكثر من يعقوب. وأنه لبس حلة أخيه العيص وجعل على ذراعيه وعنقه جلد ماعز حتى ذهب بدعوة [إسحاق] 2 التي ادّخرها3 للعيص فتمّت حيلته على أبيه ونجحت مكيدته وأن / (2/54/أ) إسحاق لما عرف حقيقة الحال تعجب من ذلك. وقال: "ليت شعري من هذا الذي ذهب بدعوتي"4. والأنبياء وأولادهم منَزّهون عن الكذب5 والتدليس وسائر الكبائر وعن كلّ ما يجر إليهم جرحاً أو يقتضي قدحاً. والعجب أن اليهود يظنّون أن هذه حيلة على إسحاق وهي في الحقيقة على الله عزوجل.
23- فضيحة أخرى1: زعم اليهود أن الذبيح هو إسحاق وليس هو إسماعيل2، فأكذبهم التواتر وسخر منهم البادي والحاضر، وذلك أن التواتر يشهد بأن الذبح والنحر إنما هو بمنى وهي موطن إسماعيل بن إبراهيم - عليهما السلام -. ولم تزل قرون الكبش - كبش إسماعيل - معلقة في جوف الكعبة إلى أيام ابن3 الزبير فاحترقت في فتنة الحجاج4 بن يوسف5.
والدليل على أن الذبيح إسماعيل وأن القصة كانت قبل أن يولد إسحاق قول التوراة: "إن إبراهيم لما أهوى بالسكين إلى نحر ولده ناداه الملك: إبراهيم، إبراهيم قد علمت أنك تخشى الله حيث لم تمنعه ابنك وحيدك"1. وهذا من أدلّ الدليل على أنه إسماعيل. فإن قالوا: فقد / (2/54/ب) نصت التوراة على أنه إسحاق. قلنا: ذلك من تحريفكم. والدليل على كذبكم قوله: "ابنك وحيدك" فلو قلنا: إنه إسحاق لكان قوله: "وحيدك" باطلاً. وكيف يكون إسحاق واحده وابنه إسماعيل أكبر منه؟! 2. فليس واحده سوى إسماعيل. وقد نقلنا التواتر ومن خالف المتواتر فهو مخصوم به. تابع للباب التّاسع: في إثبات الواضح المشهود من فضائح النّصارى واليهود 24- فضيحة أخرى: زعم اليهود أن الله تعالى لما رأى معاصي بني آدم قد كثرت على الأرض، قال: لقد ندمت إذ خلقت آدم. فأرسل ماء الطوفان وأباد ما على الأرض من الحيوان3 وزعموا أنه لما فعل ذلك ندم أيضاً وقال: لا أعود أفعل ذلك. وذلك مذكور في سفر الخليقة4 من توارتهم، فقبح الله هذه الأحلام التي تترفع5 عن أمثالها الأنعام. وهل خفي عن علام الغيوب ما سيقترفه العباد ويجري في مستقبل الزمان من الصلاح أو الفساد؟. وإنما يتصور الندم والأسف
من الجهل بعواقب الأمور، والباري تعالى عالم بالخفيات محيط بجزئيات ما فات وما هو آت. 25- فضيحة أخرى: / (2/55/أ) زعم اليهود أن الذي وسوس لآدم وحواء حتى أكلا من الشجرة ليس هو إبليس وإنما هي الحية1. قالوا: وكانت أحكم الدواب. فأما إبليس فلا يعتقدون بوجوده وليس له في توراتهم ذكر ألبتة2. والله تعالى يقول: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَان} . [سورة الأعراف، الآية: 20] .
والنصارى وهم أفخاذ منهم يخالفونهم في ذلك ويثبتونه ويعتقدون وجوده، وذكره في الأناجيل كثير1. 26- فضيحة أخرى: زعم اليهود أن نوحاً عليه السلام نام في خيمته فكشف الريح عورته فضحك منه ابنه حام فدعا عليه وعلى عقبه2. وذلك من ترهات العوام وخرافات العجائز، فجعله اليهود قرآنا يتلى في المحاريب.
27- فضيحة أخرى: زعم اليهود-أخزاهم الله-أن نبي الله لوطاً لما نجاه الله من عذاب سدوم، سكن كهف جبل. ومعه ابنتاه اللتان سلمتا من أهله. فلما استقر بهم الحال قالت إحداهما للأخرى: هلمي نسقي أبانا الخمر حتى إذا سكر ضاجعناه وأقمنا من أبينا نسلا. وأنهما فعلتا ذلك فوطئهما لوط فحملتا منه بولدين/ (2/55/ب) وهما مؤاب وعمون1. أبعد الله اليهود، كيف يحسن أن يبتلي الله من اصطفاه وارتضاه لرسالته بهذه الكبيرة؟ وكيف يحميه بالأمس ويهتك ستره اليوم؟ فأيّ فائدة في نشر هذه الفاحشة وتخليدها الكتب ليقرع بها الأنبياء قرناً بعد قرن وحقباً بعد حقب؟ 2. الله أكرم من ذلك.
28- فضيحة أخرى: زعم اليهود أن رؤبيل1 بكر يعقوب من ولده. زنى بسرية أبيه يعقوب وافتراشها2. وأن أباه يعقوب لما حضر أجله ودنت وفاته قرّع رؤبيل ابنه بذلك وعَيّره بين إخوته وقال له: يا رؤبيل حقاً لقد نجست فراشي وامتهنته فلذلك لست أعطيك السهم الزائد3. قالوا: وكان من سنة إبراهيم أن يرث الولد البكر سهمين من الميراث وغيره يرث سهماً واحداً4. فأي فائدة وأي حكمة في نقل هذه الفاحشة يُعيّر بها سبط عظيم من الأسباط؟ ومآثر الآباء مفاخر الأبناء. وهاهنا حَرْفٌ يتبيّن به كذب اليهود في توريث إبراهيم إسحاق / ماله كله وحرمان إسماعيل5. وهو أن سُنَّة إبراهيم توريث البكر من الأولاد سهمين. فكيف حرموه الميراث؟ هل ذلك من اليهود إلاّ غفلة وجهالة بما في أيديهم من كتب الله. 29- فضيحة أخرى: زعم اليهود أن يهوذا6 بن يعقوب زنى بكنتّه ثامار7 ورهنها على ذلك خاتمه وعصاه. وأنها حملت منه واشتهرت قصته وقصتها في بني إسرائيل وصارا بذلك شهرة8. هذا مع حظوته عند أبيه
ودعائه له بتخليد الملك والنبوة في عقبه حتى يأتي محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم1. فأي فخر في ذلك وأي فضل يودعوه التوراة ويعظموه تعظيم الوحي والتّنْزيل جيلا بعد جيل؟!. 30- فضيحة أخرى: زعم اليهود أن دينا2 بنة يعقوب خرجت وهي عذارء فرآها مشرك من عبدة الأوثان وهو سحيم بن خمون3 رئيس القرية فوقع عليها وافترعها، وأزال بكارتها، وأنْزل العار بأبيها نبيّ الله يعقوب، وأن حمور أباه جاء إلى بني يعقوب وتنصل وآمن والتزم أحكامهم هو وجميع أهل القربة. وأن بني يعقوب قالوا: لأهل القرية. إن أحببتم / (2/56/ب) الاستنان بسنتنا والدخول في ديننا فاختتنوا لنصير شعبا واحداً، ومكروا بهم واحتالوا عليهم. فلما اختتن كل من في القرية دخلوا عليهم فوجاً وهم بالسلاح وهم لا يستطيعون الدفع عن أنفسهم وقتلوهم عن بكرة أبيهم وانتهبوا أموالهم وحريمهم. وأن يعقوب لما انتهت إليه القصة قال لنيه: أنا رجل قليل العدد. الساعة يميل عليّ أهل هذه القرى والشعوب فيبيدوا [حضرائي] 4 وأنه اتخذ الليل جملاً فأصبح ولا أثر له بتلك البلاد5. فحكموا على أولاد نبي الله يعقوب بأنهم قتلوا المؤمنين وأبادوا
الموحدين وانتهبوا الأموال الحرام. ونحن نورك1 على اليهود في نقل هذه الأحاديث عن الأنبياء وأولاد2 الأنبياء. 31- فضيحة أخرى: زعم اليهود أن يعقوب عند منصرفه من حران3 طالبا بلاده تصارع مع الملك فغلبه يعقوب وتألم ورك يعقوب حين دنا منه الملك. وأن الملك بقي في يد يعقوب مقهوراً حتى قال له: دعني وأباركك4. فلهذا لا يأكل اليهود عرق الفخذ5. وربما قال بعض جهال اليهود: "إن الذي / (2/57/أ) صارعه يعقوب هو الله - تعالى الله عن جهلهم علواً كبيراً - وأستغفره من حكاية أقوالهم. 32- فضيحة أخرى: زعم اليهود أن الله تعالى نزل إلى الجنة ومشى فيها حين كلّم6 آدم. وأنه تعالى نزل إلى الأرض حتى أنقذ بني إسرائيل من
سحرة فرعون1. وأنه نزل إلى الأرض عندما كلم موسى من شجرة العليق2. وأنه نزل عندما كلم إبراهيم وبشره بالولد3. وأنه نزل حتى بلبل ألسن نمرود وقومه ومعهم من بنمء الصرح4. وكلّ ذلك جهل منهم بأن الباري يتقدس عن الحركات والتنقل في الجهات. فظنوا أن سماع آدم ونوح وإبراهيم وموسى كلام الباري من الجنة وشجرة العليق يقتضي الحلول أو يوجب على الباري الصعود أو النُّزُول5. 33- فضيحة أخرى: زعم اليهود أن هارون ومريم أخته وقعا في موسى وتناولوه وجرى بينهم شرّ وتحاسد. وأن مريم عابت على موسى نكاحه امرأة سوداء. وأنهما قالا له: أتظن أن الله تعالى إنكما كلمك وحدك كلمنا نحن أيضاً. قال اليهود فنَزل الله تعالى [إلى] 6 قبة / (2/57/ب) الزمان ودعا هارون ومريم وتوعدهما. وبرَّص مريم فصارت برصاء من ساعتها7. وكذب اليهود هذا ما لا يبتلى به أمثال هؤلاء الأعلام. إذ الحسد مرغمة لمقدور8 الله وهو كبيرة لا تجوز على الأنبياء. وهارون نبي ثابت العصمة.
ومريم لا خلاف بين أهل الكتاب في نبوتها1. فصدور الكبائر منهم تخرم الثقة بهم والطمأنينة إليهم. فلعن الله اليهود ما أكثر ما يتناولون أنبياء الله قتلاً وقذفاً. 34- فضيحة أخرى: زعم اليهود أن أسلافهم الذين شاهدوا الآيات مع موسى عندما خرجوا من البحر. قال لهم موسى: ادخلوا الأرض المقدسة التي وعدكم الله بها على لسان أبيكم إبراهيم. وأنهم أبوا عليه وخالفوا أمره2. قال الله عزوجل حكاية عنهم: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخَلَهَا أَبَداً مَّا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُون} . [سورة المائدة، الآية: 24] . وقال بعضهم لبعض: هلم فلنول علينا ولاة ويؤمر كلّ سبط رجلاً عليه وندع موسى ونرجع إلى مصر فقد كان الموت بين يدي فرعون [خيراً] 3 لنا من الدخول إلى الأرض التي وعدنا بها4. وهذا / (2/58/أ) مع ما شاهدوا من الآيات وعاينوا من العبر والمعجزات. فإن صدقوا في نقلهم فبئس السلف سلفهم. وإن كذبوا عليهم فبئس الخلف خلفهم.
35- فضيحة أخرى: زعم اليهود أن الله تعالى حين أراد قتل أبكار فرعون وجنوده قال لموسى: مُرْ بني إسرائيل أن يذبحوا حملاً وينضحون من دمه على أبواب دورهم حتى إذا جزت الليلة في أرض مصر ورأيت الدم عرفت أبوابكم من أبواب المصريين كيلا أهلككم معهم1. كأنهم يعتقدون أن الباري تعالى لا يرى إلاّ بإمارة ولا يعلم إلاّ بإشارة. {أَلاَ يَعْلَمُ مَن خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِير} . [سورة الملك، الآية: 14] . 36- فضيحة أخرى: زعم اليهود أن موسى عليه السلام لما جاء لميقات ربّه واستخلف هارون على قومه وأمره بإصلاح أحوالهم ونهاه عن اتباع سبيل من أفسد منهم خالف موسى في ذلك واتّخذ لهم عجلاً وأمرهم بعبادته2. وذلك مردود عليهم بما حكاه دانيال نبي الله في نبوته3؛ إذ قال: إن الذي صنع العجل لبني إسرائيل حتى عبدوه هو ميخا / (2/58/ب) السامري وكان آباؤه يعبدون البقر فاستتابه موسى ونفاه إلى الشام4. فالسامرة بالشام أكثر منهم بغيرها. وذلك موافق للكتاب العزيز حيث يقول: { ... وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} . [سورة طَه، الآية: 85] .
{فَأَخْرَجَ لَهُم عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ ... } . [سورة طَه، الآية: 88] . وإلاّ فكيف يحسن بهارون نبي الله وخليفة موسى صفيه، أن ينتدبه موسى لإصلاح1 فيدعو إلى الكفر الصراح؟!. 37- فضيحة أخرى: عبدت اليهود الكواكب والأصنام وقربوا لها القرابين وعاقروا الزنى وموسى بين أظهرهم حيّ فبينما هم مجتمعون إذ هجم (زمري) 2 رجل من قبيلة شمعون على بغي من البغايا يقال لها كشتي3 ابنة صور ففجر بها بحضرة الجمع. فضربهم الله بموت الفجأة فقتل منهم في يوم واحد أربعة وعشرين ألفا، كما شهد بذلك الإصحاح الثامن عشر من السفر الرابع من توراتهم4. 38- فضيحة أخرى: زعم اليهود أن موسى عند خروجه ببني إسرائيل من مصر قال لهم: استعيروا حليّ المصريين عارية. فلما فعلوا واستعاروا حلي المصريين القوم وثيابهم / (2/59/أ) أمرهم موسى أن يهربوا بها ويغصبوها. وقال: هذه أجرة سخرتكم. فلبسوها وذهبوا ليلا5. ومعلوم أنهم لا أجرة لهم على الأيتام والأرامل والمستضعفين من أهل مصر بل على فرعون وذويه الذين استوفوا منافعهم. وقد قال الله تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمَرُكُم أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} . [سورة النساء، الآية: 58] . وقد هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين المشركين كما فعل موسى غير أنه ترك من أهل بيته من أدّى
الودائع إلى أربابهاولم يخلل بأمانته صلى الله عليه وسلم1. 39- فضيحة أخرى: زعم اليهود أن الله تعالى أمرهم بالربا في التوراة وأباحه لهم. فلذلك استحلوه. وقالوا: لم يحرم علينا إلاّ فيما بيننا فقط2. وقد أخبر الكتاب العزيز عنهم بذلك فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُم قَالُوا
لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأَمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكَذبَ وَهُم يَعْلَمُون} . [سورة آل عمران، الآية: 75] 1. 40- فضيحة أخرى: زعم اليهود أن الله تعالى أمرهم أن يبنوا له قبة ينْزلها إذا سافر معهم وأنه اقترح عليهم صفتها فبنوها له على النعت الذي طلبه2. قالوا: فكان موسى / (2/59/ب) إذا أراد الرحيل قال: انهض إلينا يا رب لنكبِّتَ شانئيك. قالوا: فكان الباري جل اسمه يظعن بظعنهم ويقيم بإقامتهم3. وزعموا أن الله تعالى أبى مرة أن يسير معهم وقال: اظعنوا أنتم؛ فإني لا أظعن أنا بل أنا أبعث معكم ملكاً يغفر ذنوبكم4. وهذه الأقاويل تؤذن باستخفافهم بالله عزوجل. 41- فضيحة أخرى: زعم اليهود أن الله تعالى قال لإبراهيم: إن بني إسرائيل تستعبد بأرض مصر أربعمائة سنة5. وقد تضمنت توراتهم ذلك. ولا خلاف عند متأخريهم ومتقدميهم أن بني إسرائيل لم تستعبد بمصر سوى مائتي سنة وخمس عشرة سنة. ذكر ذلك محرور بن قصطنطين المنبجي أسقف منبج. وذلك خلف عظيم6.
42- إخبار الله تعالى بما يؤول أمر اليهود إليه من الكفر والعناد وسلوك سبل الضلال والفساد: ذكرت التوراة في أواخر السفر الخامس منها: "أن الله تعالى قال لموسى: أنت ميت ومنتقل إلى أبائك وأن هذا الشعب - يعني بني إسرائيل - سيضل ويتبع آلهة أخرى من آلهة الشعوب التي تُعبد من دوني / (2/60/أ) ويخالفني ويترك عهدي الذي عهدت فيشتد غضبي عليهم. وأخذلهم وأدير وجهي عنهم وأجعلهم مأكلا لأعدائهم وأنزل بهم شرّاً شديداً وغماً طويلاً"1. قال المؤلِّف: قد أخبر الله تعالى عنهم بذلك؛ فجاء الأمر2 كما أخبر سبحانه فكفروا وضلوا وعبدوا الأوثان والأصنام وقربوا القرابين للزهرة ونجوم السماء ونحروا لها النحور فلما بعث الله إليهم أرميا النبي عليه السلام قام فيهم فوعظهم وخوفهم وحرهم وأنذرهم. وقال: يا بني إسرائيل لِمَ تعملون هذا الشّرّ وتلتوون"3. عن طاعة الله وتهلكون الرجال والنساء من آل إسرائيل ولا تبقوا لكم بقية عند الله تعالى. بخرتم للنجوم والأوثان في أرض مصر وغيرها حتى أراد أن يهلككم ربكم ويصيركم عاراً بين الشعوب. فلما فرغ أرميا [من] 4 موعظته أجابوه وقالوا: أما ما قلت لنا عن الرّبّ فلا نقبله ولكنا نفعل ما أحببنا وحسن في أعينا. وننحر ونبخر5 لنجوم السماء ونقرب القرابين للزهرة كما كان يفعل آباؤنا / (2/60/ب) وأشرافنا في قرى يهودا وكنا بخير. ولم نعاين الشرّ والآن فمذ6 تركنا البخور للزهرة وأهملنا القرابين لها أعوزتنا الأشياء وجعنا، ثم تصايح الشعب كلّه على أرميا وقالوا
: نحن لا ندع البخور لنجوم السماء والقاربين لها بل نفعل كما فعل آباؤنا. فقال أرميا عليه السلام: "اجتمعوا1 يا معشر اليهود اسمعوا أقوال الرّبّ إله إسرائيل، قال الرّبّ: قد أقسمت باسمي العظيم أنه لا يذكر اسمي في جميع أفواه اليهود الذين بأرض مصر لأني معجل لهم الشّرّ ومهلكهم بالجوع والموت وسيعلمون أي القولين أصدق قولي أم قولهم"2. وكذلك أخبر صفنيا بن كوش النبي عليه السلام في نبوته: "قال صفنيا: قال الرّبّ لأزيلن إسرائيل عن وجه الأرض زوالاً. ولأبيدن طير السماء وسمك البحور. ولأنزلن عذابي بالخطاة من بين إسرائيل. ولأصيرن أيامهم عبرة. ولأهلكنهم عن حديد الأرض. ولأرفعن يدي على يهودا وسكان أورشليم. ولأهلكن كلّ من عبد بعلا الصنم. ولأعاقبن الذين يسجدون لنجوم السماء. كما فعلت/ (2/61/أ) بآبائهم الذين عبدوا الأصنام والنجوم والعجل"3. فالعجب من اليهود ينكرون أخبار الكتاب العزيز بعبادتهم عزيراً وهذه توراتهم ونبوات أنبيائهم تشهد عليهم بما هو أخبث من ذلك. وقد أخبر إليا النبي في كتابه وهو يشكو ببني إسرائيل إلى الله تعالى: "فقال: يا ربّ إن بني إسرائيل قد كفروا وضلّوا، فقتلوا أنبياءك وهدموا مذابحك، وها هم يريدون قتلي"4.
فقد تضافرت شهادات أنبيائهم بالكفر والضلال وعبادة غير الله تعالى. - شهادة موسى عليه السلام على خيار أسلاف اليهود بالكفر والفسق وارتكاب محارم الله واستحقاقهم الخزي واللعن في الدنيا والعذاب في الأخرى: - لما قربت وفاة موسى عليه السلام قال لمن حضره من اليهود: "قد عرفت جفاكم وقسوة قلوبكم وما تصيرون إليه. وكيف لا تكونون كذلك وقد أغضبتم الله وأنا حيّ بين أظهركم فمن بعد موتي أحرى أن تفعلوا ذلك". ثم قال عليه السلام: "أخطأ أولاد / (2/61/ب) الأنجاس الجيل المعوج المتقلب الجاهل الذي ليس بحكيم الناسي ما صنع الله إليه من الإحسان وأراه من العجائب. شرب الخمر وملأ بطنه فتبطن وغلظ وشحم ونسي الإله العظيم الذي خلقه وبعد من الله مخلصه - " ثم قال: "قال الله: أسخطوني بأوثانهم وأغضبوني بأصنامهم وذبحوا للشياطين ولم يقربوا لإله إبراهيم ولم يعرفه الجيل الجديد ونسي عهده. يا إسرائيل تركت الإله الذي أشبعك ونسيته وأسخطته، لأصرفن وجهي عنك ولأظهرن ما يكون من عاقبتك لأنك جيل خبيث أولاد من آسفني بآلهته وأسخطني بأوثانه. لأبتلينه بأمة جاهلة ضالة بعيدة عن الحكمة لا تعقل ولا تفهم". يقول الرّبّ: هذا كلّه عندي ومحفوظ في خزانتي إلى يوم النقمة1 أجازيهم في اليوم الذي تزل فيه أقدامهم لأن يوم هلاكهم قريب معد لهم. أنا الله الرّبّ وليس غيري. أنا أميت وأحيي وأسقم وأبرئ وليس [هارب] 2 من يدي. أنا3 الذي أشحذ سيفي وتجري الأحكام بيدي وأجازي الأعداء بالنقمة وأسكر / (2/62/أ) نبلي من الدم ويأكل سيفي لحوم الجرحى. أين هي آلهتهم التي توكلوا عليها وأكلت قرابينهم؟! فلتقم الآن وتغني عنهم شيئاً. والرّبّ سبحانه يرحم
شعبه وعلى الصالحين من عباده يترأف"1. فقد أخبر الله تعالى عن اليهود بما أخبر. وشهد عليهم الصادق موسى بما شهد. وصدق الله ورسوله. وتعيّن علينا وعلى كافة عباد الله بغض اليهود ومقتهم وتكذيب أقوالهم وردّ روايتاهم2. قال المؤلِّف - عفا الله عنه -: إنّا لم نعتمد فيما نقلناه على تعليقات علمائنا ومؤلّفاتهم حتى طالعنا توراة اليهود وأناجيل النصارى ومزامير داود ونبوات الأنبياء مرّة بعد أخرى. ونقلنا كما رأيناه واستنبطنا واستخرجنا مما وجدنا. فمنه ما نقلناه على نصّه ومنه ما أوجزناه لركاكة نصّه. وإن ما نقلناه من فضائحهم [قليل من كثير ويسير] 3 من خطير. والله الموفّق.
فضائح النصارى: اعلم أن جميع ما ذكرنا من فضائح اليهود لازم للنصارى أيضاً؛ لأن كلتاالطائفتين تعتقدحرمةالكتاب التي نقلنا/ (2/62/ب) منها وتعظمها جداً. وما النصارى إلاّفخذ من اليهود خلا الروم وقوم من المشرق فإنهم ليسوامن بني إسرائيل والذي يخصّ النصارى من الفضائح دون اليهودفمن ذلك: 43- فضيحة: زعم كلّ النصارى أن الكلمة الأزلية نزلت إلى الأرض فولجت فؤاد امرأة عذراء وسكنت برحمها تسعة أشهر تغتذي بفاضل قوتها ثم خرجت من فرجها إنساناً فتردد في الأرض بين الناس وناله ما ينال الأطفال من الآلام والإعلال وتقلبت به الأحوال إلى أن بلغ مبالغ الرجال. فلما شرع يشهر نفسه ويظهر قدسه توثبت1 عليه طائفة من عبيده فكذبوا فمه وسفكوا دمه وقتلوه ظمآنا وصلبوه عريانا2. فإذاقيل لهم: ماالذي أحوج الكلمة الأزلية إلى تجشم هذه القضية الدّنية؟ قالوا: إنما فعلت3 ذلك ليخلصنا من الجحيم ويخصصنا بالنعيم المقيم. تبالهم. أيزعمون أن الباري أوصفته عجز عن خلاص عباده حتى اعتضد بناسوت اكتسبه من امرأة منهم وما نراه أيضاً قدر / (2/63/أ) على خلاصهم وهو معافى بل جاء بخلاصهم فعطب. ورام سلامتهم فقتل وصلب، هذا لعمرك هو التلاعب بالدين. أعوذ بالله من الضلال واعتقاد الربوبية في الرجال.
44- فضيحة أخرى: زعم النصارى أنّ1 إلههم صلب مع اللصوص ودفن في المقابر بين الأموات وقام في اليوم الثالث إلى السماء وجلس فيها2. وذلك مما يأنف عن اعتقاده أهل الجنون وأرباب المجون، أسأل الله العافية. 45- فضيحة أخرى: زعم النصارى أن إبليس - لعنه الله - احتمل المسيح ورفعه على جبل عال وأراه الدنيا بأسرّها وقال: هذا كلّه لي وأنا أعطيكه3 إن خررت لي ساجداً4. هذا ينقض قولهم: إن المسيح ربّ إبليس وربّ كلّ شيء، وإذا كان إبليس عبداً للمسيح، فكيف يسومه السجود له؟!!. 46- فضيحة أخرى: روى النصارى أن جبريل قال مريم: إنك ستلدين ولداً تسميه يسوع المسيح يكون عظيماً يجلسه الرّبّ على كرسي أبيه داود، ويملك على بيت يعقوب5. ثم رووا عن بطرس أن المسيح / (2/63/ب) وأصحابه كانوا يبذلون الجزية لقيصر أسوة سائر المستضعفين6. وذلك تناقض عجيب. والصحيح ما أخبر به جبريل الأمين عن ربّ العالمين. وأما الرواية الثانية فيلزم من القول بصحّتها تكذيب جبريل. ومن كان عدوّاً لجبريل الأمين فهو عدوّ لله7 ربّ العالمين.
47- فضحية أخرى: عند النصارى ثلاثة آلهة قديمة أزلية ورجل من بني آدم وعبّروا عن ذلك بالأب والابن والروح القدس. وعيسى بن مريم1 على ما تشهد به صلواتهم الثمانية. وذلك باطل وكفر. والدليل عليه قول التوراة والإنجيل: "إن الله خالق العالم واحد لا شريك له"2. وأنه الإله الحقّ الذي لا ربّ غيره ولا معبود سواه على ما تقدم فمن أشرك مع الله غيره فقد كفر بالتوراة والإنجيل. 48- فضيحة أخرى: زعم النصارى أن المسيح خلقها آدم وذريته وسائر الخلق أجمعين. فيقال لهم: فمريم من خلقها؟ فإن قالوا: ليست من خلقه. نقضوا مقالهم. وإن زعموا أنه خلقها، فيقال لهم: يا نوكا كيف تلد المسيح وهو خالقها؟ أم كيف ترضعه وهو رازقها؟ / (2/64/أ) أسمعتم يا معشر العقلاء بامرأة ولدت خالقها وأرضعت ثديها رازقها؟!!. 49- فضيحة أخرى: زعم النصارى أن ربّهم وإلههم أكل وشرب ومشى وركب وهُزم وغُلب وصُفع وصُلب. وأكذبهم الإنجيل إذ يقول: "إن الله لا يأكل ولا يشرب ولا يراه أحد ولا رآه أحد قط إلاّ مات"3.
50- فضيحة أخرى: زعم النصارى أن معبودهم ين ولدته أمه في السفر لفته في الخرق وتركته في مذود1 من مذاود البقر إذا لم تجد موضعاً تجعله فيه2، تعالى الله ربّ الأرباب أن تحويه معالف الدواب بل لا تحويه الأقطار ولا يحده المقدار ولا تحيط به الجهات ولا تكتنفه الأرضون ولا السماوات3. 51- فضيحة أخرى: من مشائخ النصارى رجل يقال له أفريم يعظمونه جدّاً ويرون فيه وهو الذي يقول: إن الأيدي التي جبلت طينة آدم هي التي سمرت على الصليب. وإن الشّبر التي مسحت السماوات هي التي علقت على الخشبة. وهذا الرجل قد جمع إلى الكفر الجنون. والجنون فنون، ومن يعتقد فيه خير فهو أجهل وأكفر منه. 52- فضيحة أخرى: النصارى يعظمون غرغوريس وهو القائل: "إن الذي لا يألم ولا يتجع صار متجعاً. وإن الذي لا يحس صار محسوساً، وإن الذي لا يحد صار محدوداً، وصار الخالق مخلوقاً وإن من لا يقول إن مريم ولدت الله فهو بعيد عن ولاية الله"4.
قال المؤلِّف: وهذا خلاف قول النصارى وذلك أن عندهم إنما كان خاصية الاتّحاد وثمرته أن يقع الفيض الإلهي على الشكل الإنساني فتكسبه شرفاً. فأما أن يقع الأمر بالعكس فيكتسب الإله خسة ونقيصة، فهذا ما لا يقول به إلاّ جهلة القبط من النصارى. فأما أذكياؤهم فيأنفون من القول به. 53- فضيحة أخرى: على الطائفتين جميعاً رووا عن توراتهم: "أن الله تعالى قال لإبراهيم الخليل عليه السلام: إن ذريتك يستعبدون بأرض مصر أربعمائة سنة"1. قال مؤرخهم: إن هذا القول لم يتم بل أخلف2. لأن بني إسرائيل لم يمكثوا بمصر أكثر من مائتين وثلاثين سنة. وقال المنبجي أسقف منبج3: مائتي سنة وخمس عشرة سنة لا غيره. - كما تقدم في حاشية [وعد] 4 خليله / (2/65/أ) إبراهيم - على أنا لو أضفنا لهم5 إلى إقامتهم بمصر سني التيه وهي الأربعون لم
يكمل لهم العدد، والله تعالى محاشى عن وقوع الخلف في خبره. بل قوله الحقّ ووعده الصدق سبحانه وتعالى عما يشركون. 54- فضيحة أخرى: النصارى إذا تقربوا في الكنيس الذي لهم فأكلوا الخبز وشربوا الخمر، قالوا: قد أكلنا جسد الرّبّ وشربنا دمه، ورووا عن المسيح
أنه أعطاهم خبزاً. وقال: هذا دمي فاشربوه1. وهذا لعمرك إلى أن يعد جناية موجبة للعقاب أقرب من تسميته قربة مستدعية للثواب. فليت شعري أي شيء أبقوا لليهود ولم يبلغوا منه من النكاية إلى هذه الغاية بل قالوا: إنهم اقتصروا على قتله وصلبه. فأما النصارى فكأنهم لم يرضواله بهذاالقدرحتى ترقوا إلى تمزيق لحمه وشرب دمه. وهذالم يسمع به إلاّمن العدوّالمشاحن وأرباب الأحقادوالضغائن.
قال المؤلِّف: صَرَّح لي بهذا الحرف بعض النصارى وكان معنا في المجلس / (2/65/ب) رجل من عقلائهم. فقطع عليه الكلام وانتهره حتى فهم القصة من حضر ذلك المجلس. فأي فائدة وأي فضل وفخر في دعوى هذا المحال على عبد الله المسيح وجعله قرآناً يتلى؟ ... ولقباحة هذه الأقوال وسماجتها وبعدها من كلام الأنبياء صار كثير من النصارى يُسْلم من غير أن يطلع على محاسن دين الإسلام ونظافته من هذا الهذيان. بل تبرماً وتطيراً من قباحة ما عليه النصارى لا غير. 55- فضيحة أخرى: ترك طوائف من النصارى الاختتان وحرموه ورأوا أنه معصية. وأن إطالة القلف دين يُدان الله به وشرع لا يسع المكلف خلافه. فيجامع أحدهم امرأته وجلدة قفلته مستطيلة والأخرى عضوها بارز نات كأنه عرف ديك [فيكونان] 1 أقبح شيء وأسمجه. وراغموا التوراة والإنجيل وسائر النبيّين. أما التوراة فنصّت: "إن إبراهيم الخليل أمره الله بالختان فقال له: هذه عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك أن يختتنوا غرلة كل ذكر منكم ومن عبدانكم ليكون عهدي مَيْسَماً / (2/66/أ) في أجسادكم عهداً دائماً إلى الأبد. وكلّ ذكر لا يختتق غرلته. فلتهلك تلك النفس من شعبها لأنها أبطلت عهدي. فعمد إبراهيم فاختتن وهو إذ ذلك شيخ كبير وختن أولاده وعبدانه"2. فإذا كان هذا نصّ التوراة، أنه واجب إلى الأبد وأن تاركه يقتل؛ فقد وضح كفر من خالفه من النصارى. وغيرهم. وقد ترك الروم والفرنج وغيرهم الختان. هذا وقد اختتن المسيح وتلاميذه. والعجب من النصارى منهم من يَجُبُ مذاكيره ويخصي نفسه. وآخرون يحلقون لحاهم. ولم يأت ذلك في شرع ولا نزل به كتاب. ويتركون الختان. ولم يزل النصارى يختتنون بعد رفع المسيح إلى أن أتاهم رجل يدعى عندهم
فولس بعد المسيح بمدة متطاولة فقال لهم: "إن الختان ليس بشيء وإن الغرلة ليس بشيء"1. وما أعلم على النصارى أشأم من هذا الرجل - أعنى فولس - فإنه حلهم من الدين بلطيف خدعه. فحلهم من سنة الختان إذ رأى عقولهم قابلة لكل ما يلقى إليها2. 56- فضيحة أخرى: للنصارى كنيسة ببعض البلاد يحجون3 إليها ويعظمونها / (2/66/أ) ويزعمون أن يد الله تخرج إليهم من وراء ستر منها فتصافحهم وذلك في يوم من السنة، فبلغ ذلك بعض رؤساء دولتهم وقيل له: ألا4 تعجب من يد الله تعالى كيف تظهر للناس ويرونها؟! فمضى ذلك الرئيس إلى الكنيسة في ذلك اليوم. فلما ظهرت اليد قَرَّبه الأقساء إليها ليقبلها فلما رآها وضع يده فيها والتزمها فصاحوا به. وقالوا: الساعة يخسف بنا الأرض أو تسقط
علينا السماء وترسل الصواعق فنهلك. فقال: دعوا عنكم هذا فإني والله لا أدع هذه اليد من يدي حتى أرى وجه صاحبها. فلما شاهدوا منه التصميم قالوا له: أرجعت عن دين النصرانية وهو دين آبائك وأسلافك؟ قال: لا ولكني أردت الوقوف على سر ذلك. قالوا: فإنها يد أسقف من أصحابنا وراء هذا الستر. فلما رآه وشاهده أرسل يده وخرج من تلك الكنيس1 فلم يعد بعد. واشتهرت القصة. قال المؤلِّف: سمعت ذلك من كثير من أصحابنا المغاربة ثم شاهدت القصة مسطورة في تصنيف لبعض المغاربة2. 57- فضيحة أخرى: للنصارى صليب من حديد / (2/67/أ) معلق في قبة كنيسة لهم بالمغرب. قد وقف في الهواء بغير علاقة ولا دعامة والناس يحجون إليها ليشاهدوا الصليب ويتعجبون من تلك الآية. فأكثر التعجب من ذلك بعض ملوكهم. فقال لكاتب كان عنده من اليهود: ألا تعجب يا فلان من هذه الآية العظيمة التي في هذا الصليب؟ فذكر له اليهودي أن في جهات الصليب المذكورة حجارة المغناطيس العظام مخبأة في الجدار وفي ما يوازيه من سقف القبة وأرض الكنيسة فهي التي أوجبت قيامه ومنعته من السقوط. فحضر الملك إلى الكنيس المذكور في وقت خلوة وتقدم بالكشف عن الحجارة من بعض الجدران من الصليب. فاضطرب الصليب حتى خافوا أن يسقط فعرف حقيقة الحال وانصرف3. 58- فضيحة أخرى: للنصارى في بلد من بلاد المغرب4 أيضاً كنيسة
فيها ثريا معلقة نحو تعليق الصليب، ينْزل إليها نور من فوق فتتقد للوقت في وقت من السنة. فهم يعظمون ذلك اليوم ويفخمونه. فأطرق بها بعض ولاتهم فصار إليها فعرف حقيقة الحال / (2/67/ب) وذلك أنهم مَدُّوا من الجدار قصبة حديد مجوفة وأبرزوا لها أنبوباً دقيقاً على وزان طرف الذبالة. فإذا كان ذلك الوقت المخصوص أرسلوا نار. النفط في تيك القصبة فتخرج بسرعة فتتقد للوقت. فلما عرف وجه هذه الحيلة أمر بصفع السدنة وانصرف1. 59- فضيحة أخرى: زعم النصارى أن مريم أم المسيح تنّزل من السماء على الأرض دار المطران2 بطليطلة في يوم معروف من السنة بكسوة تلبسها له. وهم لا يشكون في صحّة هذا ببلادهم. قال بعض من نقلها: يا ليت شعري هل نزولها3 بغير إذن الأب أم بإذنه؟ فإن كان ذلك بإذنه فكيف لم يرسل بعض ملائكته ورسله ويوقر أم ولده ويصونها عن التبذل لرجل من جنسها أجنبي عنها؟ وإن كانت تنْزل بغير إذنه مستبدة برأيها، فكيف يجوز من الأب أن يصطفي لنفسه خائنة تخونه وتخرج من بيته بغير إذنه إلى رجل بكسوة تكسوه4 وتزينه بها؟ أترون الأب لا يعلم خيانتها وترددها إلى من ليس له بمحرم؟ / (2/68/أ) أو ترونها قد عشقت المطران فهي تتردد5 إليه شغفاً به؟ فما بالها لا تولي ذلك غيرها من خدمها حتى تتجشم هي بنفسها؟ 6. 60- فضيحة أخرى: للنصارى عيد بيت المقدس مشهور يعرف بعيد
النور، يحجون إليه في يوم من السنة. وإذا اجتمعوا عنده نزلت نار من تجويف القبة فتعلقت بذبالة القنديل فيتقد بسرعة فتكثر الأصوات وتعج بالدعاء والابتهال، فلا يشك الغر ولا يرتاب الغمر1 أن تلك آية نزلت من السماء دالة على صحة دينهم. ووجه الحيلة في ذلك أن رجلاً يختبئ في أفرير القبة من داخل وهي غلسة جداً. فإذا كان ذلك الوقت الذي يُكمل فيه اجتماعهم وقُرأ الإنجيل والكتب؛ أرسل الرجل قبسا من نار النفط فجرت على خيط مدهون بدهن البلسان فتبتدر2 الذبالة فيتقد. فيجأرون حينئذٍ بالأدعية. قال علماؤنا: وقد تفطّن لذلك بعض ولاة بيت المقدس فصار إليهم / (2/68/ب) في ذلك العيد وأراد أن يفضحهم بكشف القصة فبذلوا له مالاً فقنع به منهم وانصرف. ومعلوم أن ذلك لو كان نوراً لم يتقد منه المصابيح. إذ صفة النار الإحراف وصفة النور الإشراق فقط. ولو كان ذلك نازلاً من السماء كما يدعي النصارى لروئي خارج القبة. والدليل على كذبهم أن تلك البقعة أقامت في أيدي اليهود مدة طويلة ثم جاء الله بالإسلام ولم يُرَ شيء من هذا الجنس3. 61- فضيحة أخرى: النصارى يصلون إلى مشرق الشمس ويتّخذونها قبلتهم4. وقد كان المسيح عليه السلام طول مقامه يصلي إلى قبلة بيت
المقدس قبلة موسى بن عمران والأنبياء. "وقال: إني لم آت لأنقض1 التوراة بل لأكملها. وأن السماء والأر ليزولان وكلمة واحدة من الناسوت لا تزول حتى يتم بأسره"2. غير أن النصارى خالفوا المسيح والأنبياء واعتذروا في توجههم إلى المشرق بأنه الجهة التي صلب إليها ربّهم وقتل فيها إلههم فيقال لهم: يا حمقى لو كنتم أولي ألباب لَمَقَتُّم جهة الشرق وأبغضتموها / (2/69/أ) وتَطَيَّرتم بها ورفضتموها في أمور العادة فضلاً عن العبادة. وذلك لأنها الجهة التي لم يصل إليها المسيح ولا شهدت [لها الأناجيل ولا3 صَلَّى] إليها نبي من الأنبياء البتة. ثم إنها الجهة التي4 تشتت بها شملكم وبددت5 كلمتكم وفرقت جموعكم. فتعظيمكم لهذه الجهة هي أشأم الجهات عليكم، أمر يقتضي السخرية بكم والإزراء عليكم. وكان الأولى بكم أن لا تتحولوا عن جهة بيت المقدس لقول الإنجيل: "إن امرأة سامرية من اليهود قالت للمسيح: يا سيد، آباؤنا سجدوا في هذا الجبل للأب فكيف تقولون أنتم إنه أورشليم؟. فقال لها: أيتها المرأة أنتم تسجدون لما لا تعلمون، ونحن نسجد لما نعلم، فهذا المسيح6 يشهد أنه ليس لله قبلة يصلي إليها إلاّ بيت المقدس الذي هو أورشليم". فأنتم أعرف وأعلم من المسيح بما يجب لله تعال؟ - إنا لله وإنا إليه راجعون على عقولكم -. لقد رميتم فيها بداهية.
62- فضيحة أخرى: الروم من النصارى / (2/69/ب) على كثرة طوائفها لا يرون وجوب الاستنجاء، فيبول أحدهم ويغوط ويقوم من فوره إلى مصلاه وهو متضمخ ببوله1. وذلك مما أحدثوه بعد المسيح. وإلاّ فشرائع الأنبياء عليهم السلام قد وردت أن العبد لا يقوم إلى الصلاة إلاّ وهو على أكمل أحواله. فيجتمع لهم في الصلاة بأمور] 2 قبيحة منها: أن يقوموا بغير طهارة. ومنها: استدبارهم3 قبلة المسيح التي كان يصلي إليها. ومنها: دعواهم وتضرعهم إلى رجل من بني آدم أن يغفر لهم خطاياهم، ويكفر عنهم سيّئاتهم. وربما سألوه
بحقّ المسامير التي سمر بها في يديه وبالخشبة التي صلب عليها بزعمهم على ما أذكر منه طرفاً في آخر فضائحهم. 63- فضيحة أخرى: من النصارى من لا يقبل توبة [المذنب] 1 ما لم يعترف له بذنوبه. ويقر له بإجرامه ويشرح ما فعله في طول عمره. وأنه زنى وسرق وقتل وفعل كيت وكيت ويعدد الخائر2 ما ستره الله عليه ويبدي عورته لهم. فيجد أكابرهم الوسيلة إلى التحكم في ماله والتبسط في ما حواه من دنياه فيطوفون حوله3 / (2/70/أ) ويوظفون عليه ما رأوه4 لائقاً بماله واتسع حاله. ويبقى المثكل في أيديهم وفي قبضتهم طول عمره. وقد أُرِّخَت عليه سيّئاته وخلدت في دفاترهم قبائحه. وعرفها من لم يعرفها منهم ومن غيرهم. وعيرت بها أولاده وعقبه من بعده جيلاً بعد جيلٍ وقرناً بعد قرنٍ5. ولقد بلغني عمن لا أشك في صدقه وثبته أن النصارى عندنا بمصر أرادوا نصب رجل من أفضلهم بطريكا عليهم. فبينما هم على ذلك إذ جاء آخر من أكابرهم وذوي الهيبة فيهم، فاعترف أنه وهذا
المرشح للبتركة قد فعل كلّ واحد بصاحبه الفعل المحذور أيام الحداثة فتصادقا على ذلك. فأفسدوا على النصارى ما راموا من نصب الرجل وتوليته عليهم، وهذا أمر لا أصل له في شريعة ولا نصّ عليه ناموس؛ ولكنه شيء اختلقه الجهلة من مشائخ النصارى اختلاقاً وابتدعوه بعقولهم ابتداعاً. 64- فضيحة أخرى: (2/70/ب) زاد النصارى في صومهم الكبير1 جمعة يصومونها لهرقل2 ملك البيت المقدس. وسبب ذلك أن الفرس لما استولوا على البيت المقدس وقتلوا النصارى وهدموا الكنائس، أعانهم اليهود على ذلك وكانوا أشدّ فتكاً في النصارى من الفرس. فلما توجه هرقل إلى بيت المقدس تلقاه اليهود بالهدايا وسألوه الأمان فكتب لهم كتاباً يؤمنهم فيه على أنفسهم وأموالهم. فلما
دخل البيت المقدس شكى إليه النصارى ما لقوا من اليهود وكيف مالؤوا عليهم الفرس وسألوه قتل اليهود. فقال: كيف أقتلهم بعد أن أمنتهم؟ فقالوا: نحن نصوم عنك جمعة في أوّل الصوم الكبير كفارة لخطيئتك هذه. وندع أكل اللحم في الصوم ما دامت النصرانية. ونلعن من يخالف ذلك ونُعيَّره ونكتب به إلى الآفاق غفراناً لذنبنك. فأجابهم مسألتهم وملتمسهم وقتل اليهود قتلاً ذريعاً. فصاموا له جمعة في أوّل الصوم وكتبوا بذلك إلى سائر البلاد، وأهل بيت المقدس ومصر يصومونها. وبقية أهل / (2/71/أ) الشام لا يأكلون اللحم1 فيها ويصومون الأربعاء والجمعة2. ولا شكّ أنّ هذا وشبهه من باب التلاعب بالدين. وقد صار هذا النمط سجية للنصارى وخلقاً. أليس هم الذين عمدوا إلى إنسان قد تربى بينهم طفلاً ونشأ حتى صار كهلاً فاتّخذوه إلهاً،
وأعلنوا بعبادته سفاهاً وخاطبوه بالربوبية شفاهاً؟! نعوذ بالله من الضلال وأن نشرك مع الله الرجال. 65- فضيحة أخرى: للنصارى عيد يقال له: (عيد ميكائيل) ليس له أصل في شرعهم ألبتة، بل هو مما أحدثوه وابتدعوه. وسبب إحداثه على ما ذكر أهل العلم: أنه كان بالإسكندرية صنم1 وكان أهل الإسكندرية ومصر يُعَيَّدون له عيداً عظيماً2، ويذبحون له الذبائح، فولي بطركة الإسكندرية رجل يقال له: (الأكصيدروس) 3، فرام إبطال هذا العيد وتعطيل الصنم فلم يقدر من عوام النصارى. فقال: إن تعبدكم لصنم لا يضرّ ولا ينفع لضلال وكفر. فلو جعلتم هذا العيد لميكائيل المَلَك وذبحتم له الذبائح / (2/71/ب) لكان يشفع لكم عند الله. وذلك خير لكم من هذا الصنم. فأجابوه إلى ذلك فكسر ذلك الصنم واتّخذ منه صلباناً وسمي الهيكل (كنيسة ميكائيل) وتحول العيد فصار لمكيائيل إلى اليوم بمصر وتخومها ولا أصل له في زمن المسيح ولا في زمن الحواريين4. والشيء الضعيف لا يزيده الأمر الباطل إلاّ ضعفاً. والحقّ متسغن بنفسه عن أن يقوى بأمثال هذه الترهات.
66- فضيحة أخرى: للنصارى عيد يعرف بعيد الصليب1 لا أصل له ألتبة وهو مما أحدثوه بعد رفع المسيح كعيد ميكائيل وعيد النور وغيره. قال العلماء: "من ميلاد المسيح إلى أن وجد الصليب ثلاثمائة سنة وثمان عشرة سنة. وسبب إحداثه أن اليهود اتّخذوا المقبرة التي دفن فيها الشبه مزبلة يطرحون فيها الكناست والأوساخ تحقيراً لشأن المصلوب، وتصغيراً لقدره. فأقامت مزبلة نحواً من ثلاثمائة سنة إلى أن جاءت زوجة2 قصطنطين الملك فأمرت بالكشف عن المقبرة فظهرت لها فإذا / (2/72/أ) فيها ثلاث صلب وهم صليب اللصين والشبه. فقالت: كيف لنا أن نَعْلَم خشبة ربّنا التي صلب عليها؟ وكان هناك مريض قد أشرف على الموت، فأمرت فوضع عليه الصليب فلم يقم، فأمسته الثاني فلم يقم، فأمسته الثالث فقام وبرأ من علته كأن لم يكن به بأس. قال النصارى: فعلمت أنه صليب الرّبّ فعلقته بالذهب وبعثت به إلى الملك3.
وإذا كان هذا إنما جرى بعد المسيح بهذه المدة فكيف يعد مأخوذاً عن المسيح؟ وهذه الأعياد لو كانت معتبرة لكان الأولى أن تكون مسطورة في الإنجيل ومأخوذة عن التلاميذ، ولو بعث الله التلاميذ الآن لم يعرفوا مها ولا مما عليه النصارى شيئاً. إذ ما في أيديهم شيء مما كان عليه المسيح وأصحابه. ونحن - يرحمك الله - نسأل النصارى فنقول: أخبرونا بماذا استحق الصليب عندكم هذا التعظيم والتفخيم حتى صرتم تقبلونه وتمرونه على أعينكم وتصلبون به على وجوهكم؟ 1. فمنكم من يصلب على وجه بإصبع / (2/72/ب) واحد وهم القبط، ومنكم من يصلب بإصبعين وهم الروم. ومنكم من يصلب بالخمسة وبالعشرة وهم الفرنج2.
أفهذا دين نقلتموه عن الأنبياء وأخذتموه1 من شرائع الرسل؟ فأرونا ذلك في توراة موسى ونبوات أشعيا وأرميا ومزامير داود. وأَنَّى تجدون ذلك في هذه الكتب وهي مشحونة بالتوحيد كما قد بيّناه. وقد كان من حُكم الصليب لو كنتم أَلِبَّاء عقلاءً أن تمقتوه وتلعنوه وتميتوا ذكره وتخفوه فلا تعلنوه. فإن قالوا: إنما عظمناه لأنه شَرُف بصعود المسيح عليه ونحن نقبله ونعظمه لذلك. قلنا: فهلاّ تعظموا الحُمُر وتقبلوها وتسجدوا لها؛ لأن لوقا وغيره قد أخبر أن المسيح ركب حماراً عند دخوله المدينة والصبيان بين يديه ينادون: مبارك الآتي باسم الرّبّ2. فكان ركوبه لحمار في حال تعظيمه وكرامته وركوبه الصليب في حال تصغيره وإهانته. فهلاّ تعظمون الحمير وتضمخونها بالعير وتقبلونها فإنها أفضل من الصليب بكثير. / (2/73/أ) فشتان بين مركوب بالرئاسة مخصوص، ومركوب قرنه باللصوص. فلو عقل النصارى لأسقطوا ذكر الصليب ورفضوه ومقتوا ذكره3 وأبغضوه. فإن ذاكره يُعَرِّض بربّهم ويُنوِّه بثلبهم. تابع الباب التّاسع: في إثبات الواضح المشهود من فضائح النّصارى واليهود 67- فضيحة أخرى: النصارى مختلفون في السجود للصور. فمنهم من يؤثره ويهواه. ومنهم من كان يكرهه ويأباه. وأكثرهم على المذهب الأوّل بدليل أنّ كنائسهم لا تكاد [تخلو] 4 من الصور. وهذا مما أحدثوه بعد المسيح وأصحابه5 وهذه الأناجيل الأربعة في أيدينا ليس فيها شيء يدل على انتحال ذلك ألبتة. بل قد صرحت بالتوحيد من غير موضع كما قدمناه. وأيّ فرق بين السجود للصورة والسجود للوثن والصنم؟ ولو كان ذلك من الدين
لكان أولى الصور السميح وأولى الناس بالسجود لها الحواريون. وقد بقوا بعد المسيح حتى اخترموا لم يؤثر عنهم شيء من هذا القبيل. وقد ذكرنا أن التوراة قد
شددت وغلظت على من يفعل شيئاً من ذلك. / (2/73/ب) والمسيح عليه السلام قد1 قال في إنجيله: "إنه لم يأت لنقض التوراة بل جاء لإكمالها"2. فهذه التوراة مصرحة بتكفير عابد الصور. وهذا الإنجيل ليس فيه لها ذكر. وهذه كنائس النصارى مملوءة بها. فلم يبق إلاّ المجاهرة والعناد وعبادة الأنداد. 68- فضيحة أخرى: للروم كنيسة ببعض بلادهم يحجون إليها في يوم من السنة فيشاهدون صنماً بها. إذا قُرأ الإنجيل بين يديه درَّت ثدياه وخرج منه اللبن فيشاهده من حضر ويتحدث فيه من غاب ويعدها آية بيّنة ودلالة على الدين ليست بالهينة. ويحصل للسدنة بسبب ذلك مال عظيم. فبحث ملكهم عن ذلك فوجد القَيِّم قد ثقب من وراء الجدار طاقة لطيفة وهندمها حتى أوصلها بثدي الصنم وجعل فيها أنبوبة من نحاس وأصلحها بالجير وأخفى أمرها. فإذا كان يوم العيد فتحها وصبّ فيها لبناً فيخرج من ثدي الصنم ويسقط نقطَةً نقطةً على تدريج فلا يشكّ من حضر أنها آية ظهرت عند / (2/74/أ) تلاوة الإنجيل وبركة العيد. فلما انكشف له وجه هذه الحيلة ضرب عنق القيم وتقدم أن لا يبقى في الكنائس ببلده صورة3. فوقع بينهم اختلاف بذلك وكفَّر بعضهم بعضاً وبَدَّعه وتبرأ منه. 69- فضيحة أخرى: للنصارى صنم بالقسطنطينية له عيد في السنة تحج إليه النصارى من كلّ وجه في يوم مشهود. فإذا تلي الإنجيل بين يديه بكى بالدموع الغزار. فيشاهد ذلك من حضر ويكثرون الابتهال والدعاء ويعجون بالبكاء فاجتمع عنده مال واحتاج الملك إلى قرض فرام اقتراض ذلك وأخذه
فأبى عليه القَيِّم فحضر الملك إلى الكنيس بنفسه وقال للأسقف: اقرأ الإنجيل الساعة حتى نرى كيف يبكي الصنم. فقال: إنما يبكي في يوم واحد من السنة. فاستشعر الملك أن تلك مخرقة فتقدم يحفر ما تحت الصنم فوجد حفرة مصنوعة والصنم مُجَوّف من أسفله تجويفاً ضيّقاً فإذ كان ذلك اليوم وضع الأسقف في تلك الحفرة / (2/74/ب) قربة ماء وجعل فيها أنبوبة مستطيلة رقيقة متصلة برأس الصنم وستر الحفرة ستراً محكماً فإذا مسَّها ماسٌّ وأضغطها صعد الماء في الأنبوبة إلى رأس الصنم وقد حشي رأسه بالقطن فإن تشرب القطن الماء سالت منه دمعات وسقطت من عيني الصنم على تدريج بأمر قد أحكم وحيلة قد أتقنت. فلما اطلّع الملك على ذلك أمر بالصنم فأخرج وأخذ ما وجد بالكنيسة من المال وأدَّب القَوَمَة وشرّدهم1. 70- فضيحة أخرى: افترقت النصارى فرقاً كثيرة2 وتقاطعوا وتدابروا وكفّر بعضهم بعضاً وضلّله. والكل ضلال. فمنهم اليعقوبية ومنهم الملكية ومنهم النسطورية. وقد تقدم ذكرهم. ومنهم الآريوسية أصحاب أريوس. واعتقادهم أن المسيح مخلوق جسمه وروح وأنه ليس بإله ولا ربّ غير أن له سلطاناً على السماء، وأنه قد قُتل وصُلب. واتّفق النصارى بنيقية3 على لعنه والتبري منه وبسببه عقدوا الأمانة التي أوضحنا فسادها / (2/75/أ) وجهل من ألفها. ومن النصارى فرقة تعرف بالليانية4 شاركت السوفسطائية في السنلان في
المسيح خاصة فقالت: إن الذي تراه العين من المسيح ليس هو المسيح، وإنما هو خيال وإلاّ فالمسيح ليس يُتصور أن يرى1. وفي نفس دعواهم هذه ما يقضي بِرَدَّها إذ يقال لهم: إذا كان المسيح لا يرى وإنما هو خيال فمن أين لكم أن الذي أثبتموه خيالاً للمسيح أنه هو المسيح؟ ولعل الذي رأيتموه خيالاً ليس بخيالٍ أيضاً. ولعل أحدكم [حمار أو كلب أو حيوان] 2 آخر وإن كان آدميّاً في رأي العين وذلك قلب للحقائق. ومن النصارى من يقول: إن مريم لم تلد إنساناً3 وإنما ولدت جسداً وجاءت الكلمة فاتّحدت به فصار بها إنساناً كاملاً. ومن النصارى من يعتقد أن المسيح مولود من الأب والروح4. وأنّ الرّوح قوة تحل على الصالحين كما حلّت على يوحنا وهي التي تحلّ على القربان فتبارك فيه. وأنها إذاً من إرث الأنبياء أتتهم في صورة إنسان حسن الصورة. / (2/75/ب) .
ومن النصارى فرقة تسمى القافرونية تزعم أنّ أورشليم ليست بيت المقدس، وإنما هي قافرون بأفرنجة. ويزعمون أن المسيح ترائى لهم في تلك المدينة وهو يتّخذون القسيسين من النساء1. ومن النصارى فرقة تعرف بالمريمية يزعمون أن مريم حين ولدت المسيح لم تكن عذراء وأنهاكانت ولدت قبله عدةأولاد من يوسف2.
ومن النصارى فرقة تخالف سائرهم في أمرين: أحدهما تقول: إن مُلكَ المسيح على الأرض لا غير. والآخر يقول: إن في الجنة طعاماً وشراباً لكنه لا يبقى أكثر من ألف سنة1. ومن النصارى فرقة لا يدخلون الكنائس إلاّ عراة ويحرمون النكاح2. ومن النصارى فرقة يعبدون حَيَّة ويعظمونها كتعظيم المسيح3. ومن النصارى فرقة يزعمون أن المسيح جاء معه بجسد من السماء وجرى من مريم مجرى الماء في الميزاب4.
ومن النصارى فرقة تعرف بالوغانية ينكرون إنجيل يوحنا التلميذ لا يعترفون به ألبتة ويقولون: ليس المسيح إلهاً غير أنا قد أمرنا بعبادته1. ومن النصارى / (2/76/أ) فرقة تقول: "إن المسيح من الأب بمنْزلة شعلة نار أخذت من شعلة نار لم تنقص بالأخذ"2. وقد بقيت من النصارى فرق لو ذكرناها لأطلنا وخرجنا عن شرطنا في الاختصار وقد ذكر العلماء أن عدّة فرق النصارى اثنتنان وسبعون فرقة. 71- فضيحة أخرى: ترك طوائف من النصارى أكل اللحم في صيامهم وحرموه، وذلك مما أحدثوه بالرأي بعد المسيح وتلاميذه. فانتحلوا مذهب المانوية أصحاب ماني3 الزنديق. قال الشاعر في المانوية: تركنا اللحم للإفلاس والقلة والضيق فقالوا منويين بقول غير تحقيق ولو مَرَّ بنا ماني أكلناه على الريق
وبعد، فقد أكل الأنبياء والنجباء من عباد الله اللحم واغتذوا به فلو كان لذلك أصل لكان مذكوراً في نبواتهم ومأثوراً عنهم. 72- فضيحة أخرى: جوَّز النصارى على الباري تعالى النّزول والصعود والحركة والسكون وتلك أدلة حدث العالم عند المحقِّقين1. فإذا وصفوا الباري بذلك / (2/76/ب) فقد أبطلوا الدلالة على حدث العالم وذلك يمنع من إثبات الصانع. فكأنهم يحاولون إثبات الروبية بما يستدعي نفيها وإبطالها2. 73- فضيحة أخرى عظيمة: أكل النصارى لحوم الخنازير وأحلوه وذلك مما أحدثوه بعد المسيح وقد رفع الله المسيح وإن الخنْزير لحرام. فراغموا التوراة والإنجيل. أما التوراة فقال الله فيها: "الخنْزير حرام عليكم فلا تأكلوه"3.
وهذا نصّ لا يحتمل التأويل. وأما الإنجيل فقد حكى مرقس في إنجيله: "إن المسيح أتلف الخنْزير وغرق منهم في البحر قطيعاً كبيراً"1. وقال لتلاميذه: "لا تعطوا القدس الكلاب ولا تلقوا جواهركم قُدَّام الخنازير"2. فقرنها بالكلاب فمن أحلّ الخنْزير قد كفر بموسى والمسيح. فإن قالوا: إن بطرس رأى في النوم صحيفة نزلت من السماء فيها صور الحيوانات وصور الخنْزير وقيل له: يا بطرس كلّ منها ما أحببت"3. قلنا لهم: الشرايع والأحكام لا تنسخ بالمنام والأحلام ونحن نحاشي بطرس أن يخالف التوراة والإنجيل / (2/77/أ) بمنام رآه. والتوريك على من نقل ذلك عنه أولى من رفع القواعد الثابتة بالرؤيا والأحلام. 74- فضيحة أخرى: اعترض النصارى على قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلِيهِم فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْر} . [سورة النحل، الآية: 43] . قالوا: إنما عنى بأهل الذكر حملة التوراة والكتب العتيقة. وقد قال أهل الذكر: إن الله قد بعث أنبياء من النساء منهن مريم أخت موسى وخلدي ورفقا وأستار. فافتضح النصارى لما حققوا جريان الآية على سبب وهو أن مشركي العرب أَنِفَتْ أن يأتيها برسالة الله رجل منها، وودَّت أن لو كان الرسول إليهم مَلَكاً من ملائكة السماء، فقالوا ما أخبر الله به في كتابه: {وَقَالُوا لَولاَ أُنْزِلَ عَلَيهِ مَلَكٌ} . فقال الله: {وَلَو أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمْر} 4.
ثم قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً} . ولم نرسل الملائكة بل لم نبعث إلى البشر إلاّ من جنسهم فقل لمن تَعَنّد: فليسأل أهل الكتاب هل بعث الله قط الرسل إلى الناس / (2/77/ب) إلاّ من جنسهم فإنهم سيخبرونهم بصحّة ذلك. والنَّزاع لم يكن بين النبي عليه السلام وبين العرب في إرسال النساء أو الرجال، بل في إرسال الملائكة والآدميين1. هذا، إن سلمنا ما ادّعوه من نبوة هؤلاء النسوة. ونحن لم نصدّقهم فيما لم تقم عليه حجّة ولا دلّ عليه دليل ولم نتجاوز بهم القدر اللائق بهم والمشهود به على لسان أرميا وأشعيا - عليهم السلام - من لعنهم وخزيهم ومقتهم ولنا في ذلك أسوة حسنة بمن تقدمنا من أنبياء الله. فقد قال أشعيا فيهم: "عرف الثور من اقتناه، والحمار مربط ربه، ولم يعرف ذلك بنو إسرائيل"2. ومن لا يعرف ربه فالأولى أن لا يعرف نبيّه. ومن جهل المرسل جهل الرسول لا محالة. ومن غلط فأخرج من ديوان النبوة مثل نوح وإبرهيم وإسرائيل فغير عجيب منه إثباتها للنسوة المجاهيل.
75- فضيحة أخرى: ترك طوائف من1 النصارى النكاح المباح ورفضوا النساء ولم يروا بالتناسل وإبراز الذرية الصالحة إلى الوجود/ (2/78/أ) هذا شيء لو ما لأهم الناس عليه لانقطع التناسل وانقرض جنس الآدميين. وهذا - فاعلم - مما أحدثوه بعد المسيح وكأنهم [نَحَوْ] فيه نَحْوَ المتفلسفين من الطبائعيين. فإن تمسكوا بقوله في الإنجيل: "من ترك زوجة من أجلي فإنه يعطي للواحد مائة ضعف ويرث الحياة الدائمة"2. قلنا: في الفصل كلام أسقطتموه وهو قوله: "من ترك بنين وبنات أو حقولاً فإنه يعطى"3. وذلك مما لا نصححه عن المسيح إذ لا يجوز إجراء هذا الكلام على ظاهره، فإن الفرار عن الأولاد والأطفال وتركهم بلا كافل يكفلهم ومنفق ينفق عليهم مما لا يجوز، ومن نسب المسيح إلى الجهل بذلك فقد كفر بالمسيح. ثم ذلك على تقدير صحّته معارض بنصّين عن المسيح؛ أحدهما: قوله في جواب الزنادقة الذين جاؤوا متعنتين له: "إن الذي زَوَّجه الله لا يقدر أحد على تفريقه"4.
والآخر: قوله عليه السلام: "إن من طلق زوجته باطلاً فقد عرضها للزنا ومن تزوج بمطلقة فقد زنا بها"1. / (2/78/ب) . ثم النكاح والتناسل سنّة الأنبياء وخواص الأولياء ودأب النجباء والأقوياء. وقد امتن الله على إبراهيم وإسرائيل وزكريا ومريم وغيرهم بنعمة الأولاد كما هو مزبور مذكور في كتبهم. ومن رغب عن سنة الأنبياء التحق بالأغبياء2. وقد قال فولس في الرسالة الثانية عشرة: "إن القسيس محقوق أن يكون غير ملزم فإنه وكيل الله غير حقود. ولا يستبد برأيه ولا [مجاوزاً] 3 للمقصد4 في الخمر. ولا يسرع بيده إلى الضرب. وأن يكون محباً للغرباء والأعمال الصالحات. وأن يكون عفيفاً باراً ضابطاً لنفسه عن الشهوات. عنياً بالعلم والتعليم. ويكون له زوجة واحدة وبنون صالحون"5. فمن رفض النكاح ومنع منه فقدخالف من ذكرنامن الأعلام والقدوة. 76- فضيحة أخرى: مع غلبة الجهل على النصارى فهم أشدّ الناس دعاوى وأوسعهم تخرصاً على الله يزعمون أن فيهم اليوم من يمشي على الماء ويحيى الموت ويفعل العجائب. / (2/79/أ) ويدّعون أن بفارس بيعة لهم كانت على قنة جبل ولها مرتقى صعب وأن واحداً منهم دعا إلهه الذي صلبته اليهود فحطها له من أعلى الجبل حتى جعلها على وجه الأرض.
ويزعمون أن كنيسة بالسوس كانت بأعلى تل ولها بئر في أسفله، وأن القَيِّم بالكنيسة كبر وعجز عن النّزول فدعا ربّه المصلوب وتوسل إليه وأقسم عليه بالخشبة التي صلب عليها فرفع البئر إليه، فيدعي ذلك اليعقوبي على النسطوري، والنسطوري على الملكي1.
77- فضيحة أخرى: النصارى أنزل الناس لما في كتبهم ولما نصّ عليه المسيح من التواضع واللطف والإيثار؛ وذلك أن القتال لم يكن من سنة المسيح ولا من طريق تلاميذه الذين صحبوه. بل كان مذهبهم الذي جاء به المسيح الاستسلام إذا عجزوا والعفو إذا قدروا. وهم الذين رووا عنه في الإنجيل: "من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر. ومن نازعك ثوبك فزده رداءك، ومن سَخَّرك مِيلاً فامض معه/ (2/79/ب) اثنين"1. وهم الذين حكوا عنه في الإنجيل: "أحبوا مبغضيكم، وصلوا على لاعنيكم، وأعطوا من حرمكم، وصلوا من قطعكم، وأحسنوا إلى من أساء إليكم"2. وقالت أوائلهم: لو أراد المسيح نصب الحروب لم يستسلم فنحن لا نخالف سيدنا المسيح. وقد قال المسيح: "طوبى للذين يرحمون وأن الرحمة تكون لهم، طوبى للذين يصلحون بين الناس، أولئك أصفياء الله ونور بني آدم"3. فهم مع كونهم يروون ذلك عن المسيح أنزل الناس له وأبعدهم منه. وقد قال فولس في الرسالة الحادية عشرة: "اهرب من جميع الشهوات، وَاسْعَ للرّبّ وللإيمان والود والسلم. وتنكب المنازعات فإنها تولد القتال، وليس يحل لعبد
من عبيد الله أن يقاتل"1. فأمر فولس بترك ما يؤدي إلى القتال سداً للذريعة، فكيف خالفه النصارى وشرعوا الحروب وسفكوا الدماء الحرام؟ "2. 78- فضيحة أخرى: أخصت الحبشة من النصارى أولادهم وكذلك بعض الروم. / (2/80/أ) والخصي أشدّ المثلة وأفظع الذنوب. ثم هم يفعلون ذلك بأطفال لا دفاع عندهم. وتلك قسوة عظيمة وغلظة جسيمة. وقد قال المسيح عليه السلام: "طوبى للرحماء"3. ثم هم يخصونهم ويبيعونهم فيأكلون أثمانهم وهذه مَعَرَّة لو وافقتهم عليها الناس لذهب بنو آدم ومُحي جنس البشر. ثم هم يتصوفون في وجوههم ولحاهم بالحلق والنتف والكشط فيصيرون مع عوج ألسنتهم أسمج شيء خلق الله. وهذه كتب الأنبياء لم تأمر بشيء من هذا الجنس4. 79- فضيحة أخرى: ليس بين النصارى شيء من الأحكام والفرائض والسنن والمحتاج إليها في المعاملات والمناكحات، والأناجيل التي بأيديهم ليس فيها سوى مواعظ ووصايا قد خلطت بكفر صريح وأكاذيب كثيرة لم يصدقهم عليها أحد من الأمم. وأكثر ما يفزعون إلى أحكام المسلمين لخلو أكابرهم عن معرفة الحلال والحرام. وأي شيء استحسنوه بعقولهم شَرَّعوه وحكموا به فمن نازعهم من (2/80/ب) أهل ملتهم أحرموه ومنعوه من دخول الكنائس فيحكمون فيهم
بأحكام ما أنزل الله بها من سلطان1. قال أبو الطّاهر بن عوف رحمه الله: وليس يشتمل ديوان فقه النصارى على أكثر من خمسمائة مسألة ونيف وليست مأخوذة عن المسيح. 80– فضيحة أخرى: زعم النصارى أن يوحنا أحد مدوّني الإنجيل جلس بأفسس2 بلدة من بلاد الروم يكتب إنجيله فوقع مطر محى بعض ما كتب فغضب يوحنا ورفع وجهه إلى السماء وقال: أما تستتحيي أن تمحو اسم ابن إلهك، قالت النصارى: فلم تمطر تلك القرية من بين سائر البلاد3. ليت شعري ما طريق تصحيح هذه الدعوى، وهل البلدة اليوم تمطر أم لا؟ وإن كانت قد محلت فهل كان ذلك بسبب غضب يوحنا على ربّه وتخطئته
لخالقه أم لا؟ وبعد فلعلّ في بلاد الله بلاداً وبقاعاً كثيرة لا تمطر وأخرى لا تخلو من المطر. وقد حكى النصارى أن بين هذه [القرية] 1 وبين القسطنطينية نحواً من ألف فرسخ. وهذا دأبهم فيما يستشهدون به على/ (2/81/أ) أباطيلهم فإنهم يبعدون شاهدهم غاية البعد ليعسر على الممتحن مراجعته، وليت شعري هل كان يعدو أمر ذلك المطر إما أن يكون الله هو الذي ساقه أو مَلَكٌ من قِبَل الله أو سحابة سخرها الله، فإن كان إنما انتهر الغيم والسحاب فهذا سخيف العقل إذ وَبَّخ من لا يعقل ولا يفهم ولا ذنب له. وإن كان إنما وبخ الملك المتولي سوقها فهو جاهل إذ الملك إنما يصدر عن أمر الله تعالى. وإن كان إنما خاطب الله فقد زعم أن لله إلهاً فوقه. وبالجملة ففي إنجيل يوحنا هذا أمور انفرد بها عن أصحابه ولم يوافقوه عليها، والنصارى يكاتمونا2 اختلافهم ولا يبوحون به لنا؛ لأنه اختلاف في الإله نفسه وليس هو في الفروع فيغتفر. 81- فضيحة أخرى: قال النصارى: إن المسيح لم يتكلم في المهد ولم ينطق ببراءة أمه مريم صغيراً، بل أقام ثلاثين سنة واليهود تقذف أمه بيوسف النجار وتحكم بأنه ولد زنا. فلزم على سياق قولهم أنه لم تلقَ أُمٌّ بسبب ولدها من الشّرّ ما لقيت مريم من المسيح؛ لأنه فضحها وهتك سترها ودعا / (2/81/ب) إلى رميها3 بالزنا ولم يدفع عنها بحجّة تقطع شغب اليهود وهو قادر على ذلك. ثم إنه كَلَّفها عبادته فأوجب عليها الصوم والصلاة وألزمها ترك الشهوات ومخالفة الهوى فهي ملتزمة
لذلك إما خوفاً من عقابة أو رجاءً لثوابه. ثم قضى عليها الموت وجَرَّت غصصه1 وسلط عل جسدها البلى. وهذا شيء لم يُعرف في بِرِّ الأولاد وما سمعنا بعاقٍ بلغ هذا المبلغ من أمه. فبمقتضى قولهم إنه كان مشؤوماً عليها والله تعالى يقول في حقِّه: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَمَا كُنْتُ} - إلى قوله: {وَبَرّاً بِوَالِدَتِي} 2. 82- فضيحة أخرى: ربما عَرَّضَ بعض النصارى بردة ابن أبي السرح3 عن الإسلام. وقال: كيف يكون نبيّاً يوحي إليه ولا يعلم بحال من يرشحه ويختاره لكتابة الوحي. فيقال له: يا أخرق، النبيّ لا يعلم من المغيّبات إلاّ القدر الذي أعلمه الله به وكونه لا يعلم بفساد نية من يصحبه لا يقدح ذلك في نبوّته. فإن أبيت إلاّ القول بذلك فارغب بنفسك عن اتّباع المسيح؛ فإنك رويت وروى أصحابك وأهل دينك أن المسيح/ (2/82/أ) اختار رجلاً من تلاميذه الاثني عشر الذين شهد لهم بإدانة بني إسرائيل يوم القيامة وَوَلاّه صندوق مال الصدقات وقدمه على غيره من أصحابه ورشحه لأمانته وهو يهوذا
الأسخريوطي - كفر وفجر وواطأ اليهود على المسيح وارتشى منهم على المسيح ثلاثين درهماً وزاد على ابن أبي السرح بأن قتل نفسه كافراً. فأما ابن أبي السرح فإنه راجع الإسلام ومات مؤمناً1. فإذا كُفْر من كَفَر من أتباع النبيّ لا يقدح في نبوته بدليل أن اليهود كفروا بعد موسى في حياته عبدوا العجل. ولم يقدح ذلك في نبوة موسى وصحّة رسالته. 83- فضيحة أخرى: عاب النصارى قول ربّنا: {وَلَو شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} . [سورة السجدة، الآية: 13] 2. ونظائرها في إثبات الخير والشّرّ من الله تعالى3. وقالوا: لا يفعل
الله سوى الخير المحض. فأما الشّرّ فهو من الشيطان لا من الله. فالتزموا مذهب الثنوية1 القائلين بأن الخير من النور، وأن الشّرّ من الظلمة. فلزمهم
أن يكون مراد الله أقلّ وقوعاً وأن إرادة الشيطان أنفذ من إرادة الباري./ (2/82/ب) وكذلك يلزمهم من عزو الشرور إلى النفوس ممن ينكر وجود الشياطين من اليهود وغيرهم - أن يكون سلطان النفوس أنفذ من سلطان الله. ولو عقل النصارى واليهود لعرفوا في كتبهم ما أنكروا علينا إذ هو مسطور في صحفهم ولكن لا يهتدون إليه سبيلاً. قال الله تعالى في التوراة لموسى: "امض إلى فرعون وقل له: أرسل شعبي يعبدني وأنا أقسي قلب فرعون فلا يرسلهم"1. ثم قالت التوراة عقيب كلّ آية صنعها موسى بحضرة فرعون: "وقسى الله قلب فرعون فلم يؤمن كما قال الرّبّ"2. هذا تصريح من الله لا جمجمة3 بأنه سبحانه هو الذي يقذف في قلبه القسوة والكفر وهذا بعينه هو قول المسلمين أن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء؛ ولأنه تعالى لو أراد هداية فرعون لشرح صدره للإيمان ولم يقس قلبه كما قال تعالى: {فَمَنْ يُرْدِ الله أَنْ يَهْدِيَه يَشْرَحُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرْد أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} . [سورة الأنعام، الآية: 125] . ولما أخرج الصاع من رَحْلِ بنيامين جزع إخوته / (2/83/أ) وقالوا: من عند الله نزلت هذه الخطيئة. كما نطقت به التوراة4. وهذا دليل على أنهم كانوا يعتقدون صدور الخير والشّرّ من الله تعالى. وهذا الجنس في التوراة كثير. وقال5 بلعام بن فعرو - لما قال له الملك: العن لنا بني إسرائيل. فقال: إني لا أستطيع أن أفعل خيراً ولا شرّاً من قبل نفسي وإنما أقول ما أمرني به الرّبّ. ذكرت التوراة6 ذلك.
وقد قال المسيح في الإنجيل: "إني لم آت لأعمل بمشيئتي بل بمشيئة من أرسلني"1. وهذا نظير قوله تعالى: {وَمَا تَشَاؤُون إِلاّ أَنْ يَشَاءَ الله رَبُّ العَالَمِين} . [سورة التكوير، الآية: 29] . وقالت التوراة في عدة مواضع: "وقَسَّى الله قلب فرعون فلم يرسل بني إسرائيل"2. وذلك نظير قوله: {وَإِذ يُرِيكُمُوهُم إِذِ التَقَيتُم فِي أَعْيُنِكُم قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُم فِي أَعْيُنِهُم لِيَقْضِي الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} . [سورة الأنفال، الآية: 44] . وضرب المسيح مثلاً في الإنجيل: "فقال: إن ملكاً عمل وليمة ودعا إليها أهل مملكته وأمر ألا يتخلف عنها أحد فلما جلس فلم ير إلاّ بعض القوم فقال: المدعوّون كثير والحاضرون قليل"3. فبيّن عليه السلام عموم الدعوة وخصوص الهداية وذلك معنى قوله تعالى: {وَالله يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . [سورة يونس، الآية: 25] . فبيّن الله تعالى أن دعاء الأنبياء عموم / (2/83/ب) وهداية الله خصوص. فلا يستنكر قول الإسلام إن الله يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء. فلم ترد شريعة لم ينْزل كتاب الله إلاّ وهو متضمن ذلك. وبذلك يتحقق أن أصول الشرائع ومقاصدها واحد وإن اختلفت الأحكام التكليفية لاختلاف مصالح المكلفين4.
84- فضيحة أخرى: لازمة للنصارى واليهود وهي ما اشتملت عليه كتبهم من الاختلاف والتكاذب وقد ذكرنا فيما تقدم نُبذاً من ذلك ليستدل بها من وقف عليها على قلة ضبطهم لدينهم ولنذكر ها هنا ما وقع في التوراة من التكاذب. فمن ذلك ما وقع في تاريخ عمر آدم وأعمار مشاهير أولاده ففي نسخة من نسخ التوراة: أن آدم عاش مائة وثلاثين سنة ثم ولد على شبهه ولد فسماه شيت1. وفي نسخة أخرى: أنه لم يرزق شيت حتى صار له من العمر مائتان وخمسون سنة2. وعاش آدم بعد أن ولد له شيت ثمانمائة سنة / (2/84/أ) فولد له بنين وبنات ثم مات. وكان جميع عمر آدم تسعمائة سنة3. وفي نسخة: ألف وثلاثون سنة4.
ثم عاش شيت مائة وخمس [سنوات] 1 فولد له أنوش. وعاش من بعد ما ولد له أنوش تسعمائة واثنتي عشرة سنة ثم مات2. وفي نسخة تسعمائة وسبع سنين3. ثم رأيت هذا التناقض التكذيب جارياً في أعمار مشاهير أولاد آدم إلى نوح عليه السلام4. فلم تكد نسخة توافق أخرى وإذا كان هذا ضبطهم للتوراة وهي أُسُّ دينهم فكيف يوثق بهم فيما عداها؟.
وليس يمكن إضافة هذا التحريف إلى سواهم فإن التوراة لم ينقلها من اللسان السرياني إلى غيره إلاّ اليهود وذلك يشعر بتهاونهم بأمور دينهم وإلاّ فكيف يحسن أن يخبر عن شخص أن عمره مائة سنة. وأن عمر خمسين سنة ويكون الخبران صدقاً. وإذا كان هذا تحريفهم لما لا يتعلق به غرض ظنك بتحريفهم لما يتحققون به الدلالة على نقض أصولهم وذلك من مرغوبات النفس وحبّ الانتصار والتعصب القاضي بعمي البصيرة. ولن يتخلص من ذلك إلاّ موق قد / (2/84/ب) أعانه الله على قمع هواه وجعل الحق مطلوبه والانقياد إليه مراده ومقصوده. فهو ينقاد إليه حيث دعاه لَبّاه ولو على لسان عدوّه وبذلك وعد الله تعالى فقال عزوجل من قائل: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى} . [سورة النازعات، الآية: 40-41] . 85- فضيحة أخرى: زعم النصارى أن المسيح أراد بقتل نفسه تطهيرهم من خطاياهم. فيقال لهم: تطهير من آمن به واتّبعه أو تطيره من كفر به وخالفه؟! فإن قالوا: تطهير من كفر به. قلنا لهم: كيف يطهرهم من خطاياهم بأعظم من خطاياهم. وما هذا إلاّ بمثابة من غسل البول بالعذرة يريد تطهيره فإنه لا يزيد المحل إلاّ نجاسة. وعلى هذا ينبغي أن يكون اليهود الذين قتلوه
وصلبوه والأسخريوطي الذي نَمَّ عليه ونمرود وفرعون قد طهروا من خطاياهم وكذلك الهنود والمجوس وكلّ كافر على وجه البسيطة. وإن قالوا: إنما أراد تطهير من آمن به واتّبعه. قلنا: فكيف تكون معصية العدوّ طهرةً لولي؟ وإنما يُطَهِّر / (2/85/أ) الإنسان عملُه الصالح وتوبته الصادقة دون كُفْر من كَفَر. ثم إن كانوا قد آمنوا بالمسيح فإيمانهم يطهِّرهم فلا حاجة إلى قتل المسيح وصلبه. وإن قالوا: إنما أراد تطهير الحواريين. فيقال: وما هذا الذنب الذي لا يظهره إلاّ قتل الله وصلبه؟! ... ، وينبغي أن يكون [الحواريون] 1 شرار خلق الله؛ إذ كان لا يطهرهم إلاّ هذا القتل2 الذي لا يشابهه قتل3. فليت شعري أَيُّ ذنب لقوم هو عند النصارى خير من جبريل وميكائيل وسائر النبيين والمرسلين؟!. وإن قالوا: إنما أراد بتسليمه نفسه ليتهذّب الخَلْق و [يتعلموا] 4 الصبر على الشدائد والمحن ولا يضطربوا تحت مجاري الأقدار ليفوزوا بأجور الصابرين. قلنا: فإصلاحه لقلوبهم بخلق الصبر فيها والاحتمال مع بقاء جلاله وعظمته كان أليق بالربوبية. فإن كان إلهاً قادراً فهلا أصلح قلوبهم وهذّب نفوسهم من غير أن يتلبس بما وصفتهم من الصفح والضرب والقتل والصلب ليصلحهم. ثم أيّ صلاح يظهر في العالم بقتله؟ وأيّ فساد زال؟ أليس العالم على ما كان عليه/ (2/85/ب) قبل مجيئه؛ السارق يسرق، والفاسق يفسق، والقاتل يقتل
والظالم يظلم، وأسواق الشرور قائمة وعيون الشياطين عن إغواء الآدميين غير نائمة. بل قد زادت الشرور بما ذكرتم زيادة كثيرة؛ لأن أهل العالم بزعمكم قتلوه وصلبوه ونكلوا به وبتلاميذه الذين هم عندكم أفضل من الأنبياء والمرسلين. فقد تفاقمت الشرور واتسعت بمصرعه دائرة المحذور. وقد كان أهل العالم قبل مجيئه يعبدون الله تعالى، وإن عُبد صنم ففي العقول السليمة مندوحة عن المتابعة عليه. فلما جاء1 هذا الذي زعمتم أنه قتل وصلب عبد مع الله غيره. وإن كابرتم وقلتم: إن الخطيئة قد ارتفعت بمجيء المسيح وقتله صرتم ضحكة بين العقلاء على أنكم قد تأنستم بإزراء2 العقلاء بكم وتمرنتم على السخرية منكم. ألستم الذين تقرؤون بعد الفطر بجمعتين التسبيحة المشهورة عندكم وهي: "بصلبوت ربّنا يسوع المسيح بطل الموت / (2/86/أ) وانطفأت فِتَنَ الشياطين ودرست آثارها؟ "3. ألستم تقرؤون يوم الأحد من الصوم التسبيحة المشهورة عندكم وهي: "أن المسيح هو الذي أنقذ رعيته من الفتن والكفر وغلب بصومه الموت والخطيئة؟ "4. ألستم الذين تقرؤون بعد كل قربان: "يا ربّنا يسوع الذي غلب بوجعه الموت الطاغي؟ "5. كذلك قولكم في ثاني جمعة من الفطير: "إن فخرنا إنما هو بالصليب الذي بطل به سلطان الموت. وصرنا إلى الأمل والنجاة بسببه"6.
وفي هذه التسابيح التي لكم ما يضحك من تأملها إذ يحسن منه أن يقول: كيف بطل الموت بصلب المسيح وموته؟. ألسنا نرى الموت فافراً لا يشبع، والشيطان مستمراً على الإضلال والإغراء لا يقلع؟ وأنَّى يغلب الموت من قد مات وغلب. ويقهر الشيطان من قد قهر وصلب؟!!. 87- فضيحة أخرى: النصارى يقرؤون في الصلاة الأولى وهي التي يسمونها صلاة السحر وصلاة الفجر1.: "تعالوا نسجد ونتضرع للمسيح إلهنا أيها الرّبّ
خروف الله ارحمنا. أنت وحدك القدوس المتعالي. أيها المسيح الرّبّ إنا بكل / (2/86/ب) كلّ يوم إلى الأبد". اعلم أن هذه الصلاة للمسيح خاصة وقد صرحوا فيها بأن المسيح هو الله الرّبّ. وأنه وحده المتعالي المبارك إلى الأبد. وهو كما ترى الكفر الصراح الذي لا غبار عليه. وهو باطل بالتوراة والإنجيل والنبوات والمزامير. فأما التوراة فليس فيها شيء من هذه النجاسات ألبتة بل هي مشحونة بتوحيد الباري إله إبراهيم وتنْزيهه وإفراده بالربوبية. وقد قال في السفر الخامس منها: "الرّبّ واحد في السماء والأرض ليس غيره"1. وقال سبحانه في العشر الكلمات: "أنا الله الذي أخرجتك من مصر لا يكن لك إله غيري"2. وقال الله تعالى في التوراة: "لا تتخذوا أصناماً ولا أشباهاً في السماء فوق ولا في الأرض أسفل ولا في البحر تحت، ولا تسجدوا لها ولا تعبدوها أنا الله إله غيور"3. وقد كلم الله في التوراة آدم ونوحاً وإبراهيم ويعقوب وموسى وهارون وأمرهم ونهاهم كل ذلك4 يقول: "أنا الله وحدي". وقال الله لموسى: "أنا الله إله آبائك إبراهيم وإسحاق ويعقوب، لا يكن لك إله غيري"5. / (2/87/أ) . فحذرهم من الإشراك واتّخاذ إله آخر. وذلك من أدلّ الدليل على كفر النصارى6. أما الإنجيل فقال المسيح: "لا يقدر أحد أن يعبد رَبَّين"7. وقال: "لا صالح إلاّ الله الواحد"8. وقال: "أوّل الوصايا كلّها في الناموس اسمع يا إسرائيل
الرّبّ الإله واحد هو، فاحببه من كلّ قلبك"1. وقال المسيح لليهود: "أنتم تمجدون نفوسكم ولا تمجدون الله"2. وسئل عن القيامة، فقال: "لا يعرفها إلاّ الله وحده"3. ورفع وجهه إلى السماء وقال: (أنت الإله الحقّ وحدك"4. وأما المزامير والنبوات فكلّها توحيد أيضاً وليس فيها من كفر النصارى شيء ألتبة. قال داود في المزمور السابع عشر: "الله لا ريب في سلبه، كلام الرّبّ مختبر. وهو منجي من توكل عليه. لا إله إلاّ الرّبّ. لا عزيز مثله"5. وقال في المزمور التاسع عشر: "الرّبّ يستجيب لك. في يوم شدتك إله يعقوب ينصرك، ويرسل لك عوناً من قدسه. ومن صهيون يعضدك سؤلك. هؤلاء / (2/87/ب) بالخيل وهؤلاء بالمراكب. ونحن باسم إلهنا ندعو"6. فقد وضح لك أن هذه الصلاة التي للنصارى مقصورة على عبادة رجل من بني آدم، وأنها باطلة بما نصت عليه كتب الله المنَزّلة. 88- فضيحة أخرى: النصارى يقرؤون في صلاة الساعة الأولى7: "المسيح الإله الصالح الطويل الروح الكثير الرحمة الداعي الكلّ إلى الخلاص"8. هذه
الصلاة أيضاً من1 النمط الأوّل وهي باطلة بشهادة المسيح إذ نطق الإنجيل: "بأن إنساناً قال: يا معلم صالح ما أعمل من الصلاح؟ فقال: أتدعوني صالحاً؟! لا صالح إلاّ الله وحده"2. وإذا لم يرض المسيح أن يكون معلماً صالحاً، بل3 أنكر ذلك وأولى الصلاح لله وحده. فكيف تَخَطَّا النصارى أمره وزادوا حتى سموه الإله الصالح؟ وإذا أنكر عليه السلام القول الأوّل فالأولى أن ينكر هذه الصلاة وهذه القراءة. ثم قول النصارى: "المسيح الإله الصالح". وتخصيصه بذلك دون الآب والروح القدس فيه إبطال لمذهبهم في الثالوث؛ إذ لا خلاف عندهم / (2/88/أ) أن التعبد لأقنوم الكلمة على تجردها لي بجائز. إذ الإله المحقوق بالعبادة هو عبارة عن ثلاثة أقانيم وهي: الآب والابن والروح القدس. فما لم يتوجه المكلف بالعبادة إلى هؤلاء الثلاثة لم تعتبر عبادته. فإذا قصدوا المسيح بهذه الصلاة فإنما قصدوا أقنوماً واحداً والمسيح عندهم [ما] 4 اتّحد به سوى العلم. فأما الآب والروح فلما اتّحدا به. ثم هذه القراءة منهم تشعر بأن المسيح أصلح الثلاثة ثم لا يخلوا أن يقصدوا بهذا القول لاهوت المسيح أو ناسوته. فإن قصدوا ناسوته لزمهم أن يكون الجسد المخلوق إلهاً خالقاً وذلك جهل. وإن قصدوا لاهوته وهي صفة العلم لزمهم أن يكون صفات الله من العلم والقدرة آلهة معه وذلك لا يقول به عاقل. أما قولهم: "الطويل الروح". فإن زعموا به الروح التي زعموا أنها جاءته عند المعمودية فتلك إن كانت قديمة لم يصح وصفها بطول ولا قصر؛ إذ كل ما دخله المساحة وكان له طول / (2/88/ب) وعرض وعمق فهو جسم مخلوق حادث. وإن عنوا به
روح الإنسان على معنى أن المسيح صبر في زعمهم على إهانة اليهود مع قدرته على الانتصار فقد ناقضوا قولهم: "إنه الإله الصالح"؛ إذ الإله هو الذي لا تمتد إليه الأيدي وهو الذي يأمر عباده بالصلاح. أما من يشرع الفساد فلا يستحق اسم الصلاح. وأما قولهم: "الداعي الكلّ إلى الخلاص". فنقول: أدعاهم وأراد هدايتهم أم دعاهم ولم يرد ذلك؟ فإن كان قد أراد هدايتهم فلم يهتدوا فقد تحقق عجزه؛ إذ لم تنفذ إرادته ومثل هذا لا يصلح للربوبية. وإن كان قد دعاهم ولم يرد هدايتهم فقد ظلمهم بعدم إرادة هدايتهم وقد فعل الشّرّ وضد الصلاح. وهذا يهدم أصول النصارى في القول بالتحسين والتقبيح. وإن زعموا أنهم قد اهتدوا بدعائه أكذبهم شاهد الوجود. 89- فضيحة أخرى: النصارى يقرؤون في صلاة الساعة الثالثة: "يا والدة الإله السماوي أنت هي الكرمة الحقانية الحاملة ثمرة / (2/89/أ) الحياة إليك نتضرح لترحمي نفوسنا يا والدة الإله السماوي افتحي لنا أبواب رحمتك"1. أوّل ما نبدأ به أن نقول للنصارى: أخبرونا هل هذا القول منكم من أصول العقائد التي لا يسع المكلف جهله أو لا؟ فإن زعموا أنه لا بدّ للمكلفين من اعتقاده والصلاة به، وأنه لا رخصة لعبد حتى يعتقد أن لله والداً ولده وأُمّاً حملته وأرضعته. فإن قالوا: لا يسع [مؤمناً] 2 إلاّ ذاك. قلنا لهم: أخرجتم آدم وإبراهيم وموسى ومن بينهم من المؤمنين عن الإيمان؛ إذ لم يعرفوا ذلك ولا اعتقدوه ولا سمعوا به. ولو كان ذلك إيماناً وتوحيداً لم يجهلوه. وإن زعموا أن موسى وإبراهيم ومن بينهم كانوا يعتقدون أن لله والدةً حملت به ووالداً ولده. قلنا لهم: أرونا ذلك في توراة موسى ونبوات الأنبياء وأَنَّى يجدون إلى ذلك سبيلاً.
ثم نقول لهم: ما قولكم فيمن خرج عن دين السيح وخالفه من طبقات بني آدم أكفارٌ هم أم مؤمنون؟. فإن / (2/89/ب) قالوا: إنهم كفار فجار قد هلكوا بتكذيبهم المسيح. قلنا: فقولهم في أم المسيح: "إنها حملت ثمرة الحياة" كذب وزور وإفك وَمَين؛ إذ الذين هلكوا بانتهاك عرضها وقذفها من اليهود وغيرهم أكثر من أن يحصوا فقد كذبتهم في قولكم: "إنها الكرمة الحاملة ثمرة الحياة". وصارت بمقتضى ما ذكرتهم حاملة ثمرة الهلاك كما قال ولدها في الإنجيل: "لا تظنوا أني جئت لألقي على الأرض [سلاماً] 1 ما جئت لألقي عليها [سلاماً] 2 لكن سيفاً وأوقد بهاناراً"3. وإذا كان هذا قول المسيح وهو الثمرة التي ذكرتهم فما صدقتم في تسميته في صلاتكم (ثمرة الحياة) . واعلم أن هذه الصلاة أيضاً مقصورة على عبادة مريم عليها السلام وهي خارجة عن أصول النصارى؛ لأن جسد مريم لم يتّحد به شيء عند كافة النصارى بل جسدها كسائر أجساد بني آدم. فلو جاز أن يعبد مريم لكونها حملت بالمسيح عن عدة الله لجاز أن تعبد أليصابات4 وسارة وهاجر؛ إذ حملوا عن عدة الله تعالى. فقد زاد النصارى على الثالوث / (2/90/أ) إلهاً رابعاً وخالفوا أهل ملتهم من القدماء. 90- فضحية أخرى: النصارى يقرؤون في صلاة السادسة: "يا من سُمِّرت يداه على الصليب من أجل الخطيئة التي تجرأ عليها آدم. خرق العهدة المكتوب فيها خطايانا وخلصنا. يا من سُمِّر على الصليب وبقي حتى لصق على الخشبة
بدمه قد أحببت الممات لموتك، أسألك بالمسامير1 التي سمّرت بهم. نجّني يا الله"2. هذه القراءة وإن كانت تصلح لتعاليق المجان ومن يعتن بالأضاحيك فلا بُدّ أن نبيّن مراد النصارى بها، ومرادهم: أن آدم أبيح له كلّ شجر الجنة وقيل له: كُلْ مَا أحببت خلا شجرة معرفة الخير والشّرّ؛ فإنك في اليوم الذي تأكل تموت موتاً. قالوا: فلما أكل وخالف أمر ربّه وجب في حكم الله تعالى أن يميته موت الخطيئة لا موت الطبيعة؛ إذ سبق في علم الله أنه لا يفرغ العالم من نسله. فلما ورد عليه العتاب والتوبيخ أسف وندم على ما فعل. وأنه تعالى تاب عليه وبقي في عهدة قوله السابق / (2/90/ب) فلطف له وبعث المسيح فصام بدلاً من توسع آدم في تناول الشجرة. وصلب على خشبة بدلاً من تيك الشجرة. وسمّرت يداه بالجذع لامتدادها إلى الثمرة المنهي عنها. وسقي المرار لالتذاذ آدم بحلاوة ما أكله من الجنة. ومات بدلاً عن الموت الذي كان الله يهدد به آدم. وهذه دعوى لا برهان لهم عليها ولو ادّعاها بعض الناس لبعض من صلب في الدنيا قَبل المسيح أو بعده لما وجد النصارى إلى ردّ ذلك سبيلاً. وليس - وعزة الله - لما لفقوه من ذلك أصل في كتب الله لا في العتيقة ولا في الجديدة3. وقولهم: "خرق العهدة التي كتبت فيها خطايانا وخلصنا". وذلك أنهم يعتقدون أن خطيئة آدم التي جناها على نفسه قد شمل وزرها وتبعتها سائر ولده حقباً بعد حقبٍ وقرناً بعد قرنٍ إلى مجيء المسيح. وقد أبطلنا ذلك فيما تقدم وتلونا ما ورد في التوراة والإنجيل والمزامير مما يكذب هذه الدعوى4.
وقد قالت التوراة: "إن الله / (2/91/أ) قال لقابيل بن آدم: إن أحسنت تقبلت منك، وإن لم تحسن فإن الخطيئة رابضة ببابك أنت تقبل إليها وهي تتسلط عليك"1. فقد أخبرت التوراة أن في إحسان المحسن وقبول البر من الرجل البار مندوحة عن قتل المسيح وغيره. وقالت التوراة أيضاً: "أما هابيل فإنه يجزئ للواحد سبعة"2. وفي ذلك مندوحة عن القتل والصلب إذ الجزاء خلاص وزيادة. وقال الله تعالى في المزامير: "طوبى للرجل الذي لم يتبع رأي المنافقين ولم يقف في طريق المستهزئين ولم يجالس الخاطئين لكن في ناموس الرّبّ هواه، يدرس ليلاً ونهاراً"3. فقد شهد المزمور أن الاشتغال بقراءة كلام الله وعبادته مخلِّص لصاحبه وأن طوبى له. فلا حاجة إلى الخلاص بشيء آخر. وإلاّ فيلزم تكذيب داود في خبره عن الله تعالى. وقد قال التلاميذ للمسيح وسألوه: من العظيم في ملكوت الله تعالى؟ فقال: "من تواضع مثل الصبيان فهو العظيم في ملكوت الله"4. قد أخبر المسيح أنه لا حاجة إلى قتل وصلب بل من تواضع لله ولم يتكبر كفاه الله وخلّصه. / (2/91/ب) والعجب كيف تحكَّم النصارى بصحّة توبة آدم ويقولون: "إن ذريته مأخوذون بجريرته". وقد رووا في بعض نبوات أنبيائهم عن الله: "لا آخذ الولد بذنب والده، ولا الوالد بذنب ولده. طهارة الطاهر له
تكون وخطيئة الخاطئ عليه تكون"1. وذلك موافق لقوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} . [سورة الأنعام، الآية: 164] . والعجب كيف يثبتون عند سماع هذه القراءة ولا يستغربون ضحكاً؟! ولعمري ما بلغ أعداؤهم منهم ما بلغوا في أنفسهم في جعل مثل هذا السخف قرآناً يتلى. 91- فضيحة أخرى: النصارى يقرؤون في صلاة الساعة التاسعة: "يا من ذاق الموت من أجلنا في الساعة التاسعة إليك ابتهالنا، يا من سلّم نفسه إلى الآب لمّا علّق على الصليب لا تغفل عنا. يا مَن مِن أجلنا ولد من العذراء، واحتمل الموت، لا تخيّب من خلقت بيديك واقبل من والدتك الشفاعة فينا. ولا تنقض عهدك الذي عاهدت عليه إبراهيم وإسحاق ويعقوب"2. وفي هذه الصلاة يقرؤون أيضاً: "لما رأت / (2/92/أ) الوالدة3 الحمل والراعي ومخلّص العالم على الصليب قالت وهي باكية: "أما العالم ففرح4 بقبوله الخلاص، وأما أحشائي فتلتهب عندما أنظر إلى صلبوتك يا بني". والغَيّ قولهم: "يا من ذاق الموت من أجلنا". قد بيّنا خُلُو هذه الدعوى عن الفائدة، وأن القتل والصلب وقع باطلاً؛ إذ5 الخلاص الذي قتل لأجله لم يعرفوا له حقيقة ولا وقفوا من أمره على نبأ إلى الساعة. وما هو إلاّ عنقاء
مغرب1 يُسمع به ولا يُرى. على أن هذه القراءة مع أنها سبَّةُ2 على قارئها ففيها تناقض لا يخفى على من تأمله. وذلك: أن أوّلها يشهد بأنه قتل وصلب وذاق الموت من أجل خلاصهم. وقد سمته أمه بزعمهم: "مخلص العالم". فما حاجتهم إلى التضرع إليه ألا يخيبهم ولا يغفل عنهم وأن يمدوا إليه بشفاعة والدته؟ أهم شاكون في خلاصهم بقتله وصلبه؟ أم يقولون إن الأب لم يفِ له فخسر نفسه ولم يحصل لهم خلاص؟!!. وأما قولهم: "ولا تنقض عهدك الذي عاهدت عليه إبراهيم / (2/92/ب) وإسحاق ويعقوب"، فذلك غلط من النصارى. إذ ما عاهد إبراهيمُ وإسحاقُ ويعقوبُ الأبَ. قد قال المسيح: "الله لم يره أحد قط". وعلى مقتضى هذه الصلاة المدبرة يكون المصلوب المُسَمَّر اليدين بالمسامير هو الأب الذي عاهد إبراهيم وإسحاق ويعقوب. والذي غلّط النصارى هَا هنا أفريم - من جهال سلفهم -: "إن اليدين التي جبلت طينة آدم هي التي علقت على الصليب. وإن الشبر الذي مسحت السماء هي التي سمرت في الخشبة". فأستغفر الله من حكاية أقوال هؤلاء الضلال. وأما قولهم: "إن والدة إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب واقفة تبكي تحت خشبته وتناديه يا بني وإلهي أحشائي تحترق لصلبك". فلو سمعه بعض المجان لاتّخذه من أظرف ما يمجن به. لأن حاصله أن ابنها إلهها الذي ولدته. وخالقها هو ولدها الذي أرضعته.
ولاشتمال صلوات النصارى على هذا السخف يبالغون في ستر أحوالهم ولا يُعجبهم أن يحضر بِيَعهم أحد غيرهم. 92- فضيحة أخرى: / (2/93/أ) النصارى يقرؤون في صلاة الغروب: "يا والدة الإله العذراء أسعي في خلاصنا وافرحي يا والدة الإله. مباركة أنت في النساء ومبارك ثمرة بطنك لأنك ولدت لنا مخلّصاً. يا والدة الإله لا تغفلي عن وسائلنا1 ونجنا من المعاطب"2. وفي هذه الصلاة: "يا صابغ المسيح يوحنا اذكر جماعتنا ونجّنا". قولهم: "يا والدة الإله"، اعلم أن الألوهية عندهم تكون حقيقة وتكون مجازاً. فالإله الحقيقي هو الله الآب عندهم. والإله المجازي هو المعظم في الدين الذي يدعو إلى الله ويعلم الناس أوامر الله ويبيّن لهم أحكامه. فإن عنوا هَا هنا الإله الحقيقي سقطت مكالمتهم لبيان جنونهم. وإن عنوا القسم الثاني وهو الإله الذي هو مُعظم في الدّين كقول الله في التوراة لموسى عليه السلام: "أخوك هارون يكون لك مترجماً وأنت تكون له إلهاً مدبّراً"3. وكقول داود لعلماء بني إسرائيل في المزامير: "أنا قالت: إنكم آلهة وبني العلي كلكم تدعو"4. وكقول حبقوق النبيّ: / (2/93/ب) "إله يأتي من التيمن ومقدس من جبال فاران"5. يصف نبيّاً يخرج من الحجاز وصلوات الله عليه وسلامه.
فإذا قال النصارى في صلواتهم: "يا والدة الإله"، لَمْ يُعلم من هي المدْعوَّة. أهي أُمُّ1 إبراهيم فإنه في التوراة عظيم2 الله. أَمْ3 أُمُّ إسرائيل، فإنه في التوراة بكر الله4. أَمْ والدة موسى. فإنه في التوراة: [إله ومدبّر] 5. أَمْ [إحدى] 6 أمهات أصحاب داود فإنهم في المزامير آلهة؟! 7. وإذا كان هؤلاء يُدْعَون آلهة فقد صار اللفظ مجملاً. فمن التي دعوها لتنجيهم من المعاطب وتسعى في خلاصهم؟!. وقد زادوا في هذه الصلاة إلهاً سادساً، وهو يوحنا إذ قالوا: "يا يوحنا صابغ المسيح نجّنا من المعاطب". فصارت الآلهة ستة: الآب والابن وروح القدس والمسيح ومريم والمعمداني. وفي دعائهم يوحنا وطلبهم النجاة منه تكذيب لهم في دعوى الخلاص بقتل المسيح، إذ لو كانوا قد خلصوا بالمسيح لم يفتقروا إلى دعاء غيره. وحيث احتاجوا إلى الغير دلّ أنهم ما خلصوا وصار ما ادّعوه من قتل / (2/94/أ) المسيح خالياً عن الفائدة. 93- فضيحة أخرى: النصارى يقرؤون في صلاة النوم: "الملائكة يمدحونك بتهليلات مثلثة. لأنك قبل الكلّ لم تزل أيّها الأب. وابنك نظيرك في الابتداء. وروح القدس مساويك في الكرامة. ثالوث واحد".
أما قولهم: إن الملائكة يعتقدون الثالوث الذي يقولون به فبهت قبيح وكذب صريح بَنَوْهُ على فاسد معتقدهم. وإلاّ فمن أين علموا أن اعتقاد الملائكة ما حكوه عنهم والدليل على تخرص ذلك على الملائكة التوراة والإنجيل والمزامير فإنها شاهدة بالتوحيد وتنْزيه الباري عن الثاني والثالث. وقد قال لوقا: "إن جبريل حين خاطب مريم وسلّم عليها ارتاعت منه. وقالت: ما هذا السلام؟ فقال لها جبريل: اعلمي أبي أنا جبريل الواقف قدّام الله جئتك أبشرك"1. وقد أكثرنا من ذكر الشواهد على التوحيد مما يقضي ببطلان هذه القراءة وتبيّن تخرص من ألّفها. وفي قول النصارى / (2/94/ب) هَا هنا: "لأنك قبل الكلّ لم تزل"، يدلّ على حدث الابن والروح القدس لتأخرهما2 عن الأب في الوجود. إذ لو كانا قديمين لم يكونا مسبوقين. فإن عبّر النصارى عن صفتي العلم والحياة بالابن والروح. قلنا لهم: فالصفتان قديمتان أيضاً. فكيف يكون الأب قبل الكل والصفة لا تتأخر عن موصوفها؟ فالقراءة على ذلك باطلة. فنحن نسألهم عن الابن والروح أهما [إلهان أزليان أو مخلوقان حادثان؟] 3. فإن كانا حادثين4 مخلوقين فقد أبطلوا القول بألوهيتهما وأبطلوا القول بالتثليث. وإن كانا إلهين خالقين بطل أن يكون الأب سابقاً لهما وفسدت هذه التلاوة.
وأما قولهم: "ثالوثاً واحداً". فلا تظن أنهم يعتقدون أنها صفات للذات بل مرادهم أن الآلهة ثلاثة فقط بغير رابع. والدليل عليه إفراد كل واحد منهم بالذكر والتعبد والسؤال كما شهدت به الصلوات والأمانة التي لهم والتسابيح. ولو كانوا يردون ذلك إلى أنهم صفات للذات لاقتصروا على إفراد / (2/95/أ) الله تعالى بالذكر كما أفرد موسى عليه السلام والأنبياء - عليهم السلام -. فهل تجدون في التوراة والنبوات للتثليث ذكراً ألتبة؟ على أن النصارى قد عبدوا بني آدم، ألا تراهم كيف يقرؤون في الصلاة: "تعالوا نسجد تعالوا نتضرع للمسيح إلهنا". والمسيح هو المولود الذي ولدته مريم - عليهما السلام -. 94- فضيحة أخرى: النصارى يقرؤن في صلاة نصف الليل وهي الثامنة: "تبارك الرّبّ إله آبائنا وفوق المتعالي إلى الدهر. تبارك1 مجدك القدوس فوق المسيح وفوق المتعالي إلى الدهر. مبارك أنت فوق المسيح وفوق المتعالي إلى الدهر"2. وكرروا هذه الفوقية في هذه الصلاة دفعات. فوصفوا الله تعالى بأنه فوق المسيح وفوق مَن هو أعلى من المسيح وذلك مناقض لما قرؤوه في صلاة النوم إذ قالوا فيها: "إن المسيح نطير الله في الابتداء وإن روح القدس مساويه في الكرامة". فإن كان الله فوق المسيح بطل قولهم أنه نظيره. وإن كان المسيح نطيره بطل أن يكون فوقه. / (2/95/ب) فلا بدّ من إبطال أحد القراءتين ضرورة الوفاء3 بالأخرى. ثم نقول لهم: أليس أقنوم الوجود وأقنوم الحياة وأقنوم العلم متساوية في الأزلية والقِدَم واستحقاق الربوبية. فما الذي خصص أحدهم بالفوقية دون الآخرين وليس مقدماً عليهم؟.
فإن أبيتم إلاّ إثبات الفوقية له عليهما فقد أثبتم أنهما دونه. وذلك تشويش للثالوث وإن وفيتم1 بالثالوث أبطلتم هذه القراءة ولا سبيل إلى إبطالها. فإن التوراة والإنجيل والنبوات شاهد لها2 بالصحّة؛ إذ خصصت الباري بالألوهية ووصفته بأنه المتعالي فوق المسيح وفوق كل شيء. جلّ وعلا وتقدّس عما يقول الجاحدون علوّاً كبيراً. فهذه بهديكم ثمان صلوات قد اشتملت على الكفر والبهت والفجر وقلة الحياة. وذلك أن أحدهم يقوم [مضمخاً] 3 ببوله فيتوجه إلى مشرق الشمس - وهي جهة كان المسيح وغيره من الأنبياء يتنكبها في صلاته - فيناجي رجلاً من بني آدم فيقول في قراءته: "يا من قتله اليهود وصلبوه، وسمّروا يديه على خشبة وتركوه على جذعة بين اللصوص حتى أسالت الشمس دمه وحتى لصق بالخشبة / (2/96/أ) جسده. برحمة المسامير التي سمّرت بها في يديك ارحم من خلقت بيديك4 يا الله". وهذا - حوشيتم - لو خوطب به زعيم قرية أو رئيس محلة لتطيّر من سماعه وعجّل العقوبة لقائله. فكيف بمن يناجي بذلك إلهه وربّه جل وعلا؟!. سؤال على النصارى: نقول للنصارى: أخبرونا ما الذي صنعه الله بيسوع حتى صار ابناً له إذ لم تقولوا بالنبوة المعروفة المتّحدة من الزوجة والمملوكة؟.
فإن قالوا: "مسحه فصار بمسحه له مسيحاً وابناً. قلنا: أبينوا لنا هل مسحه بدهن؟ فإن قالوا: نعم. ساووا بينه وبين داود وغيره. إذ قال داود في مزاميره: "صبياً كنت في غنم أبي فأخذني ربّبي ومسحني بدهن مسيحه"1. وقال داود في مزمور آخر: "ائتمر2 الشعوب على الرّبّ وعلى مسيحه" 3. يعني: نفسه. وقال الله تعالي في السفر الثالث من التوراة ويسمى سفر الكهنة: "إن الحبر الممسوح من أولاد هارون هو الذي يتولى القرابين ورش الدم على زوايا المذبح"4. وذلك مشهور عندهم فالمسيح هو الممسوح فما زادوا أن وصفوه بوصف / (2/96/ب) كاهن. وفي الإصحاح الخامس من هذا السفر: "قال الله لموسى: اعمد إلى هارون وبنيه وخذ اللباس ودهن5 المسيحين الذي يمسح به الأحبار وخذ الجماعة كلها إلى باب قبة الأمد. وقدم هارون وألبسه لباس الكهنة وكلله بأكليل من ذهب وصب على رأسه من دهن المسيحين [وامسحه] 6 وقدسه. ففعل موسى ذلك بهارون"7. فما نرى المسيح له مَزِيَّة على داود وهارون في ذلك. وما نراه نسج له إلاّ على منوال من تقدم من صفوة الله تعالى. وقد حكوا عن إنجيل لوقا أن جبريل بشّر مريم بأن ولدها المسيح ابن داود يجلسه الرّبّ على كرسي أبيه داود، ويملكه على بيت يعقوب. وذلك يتقاضى أن
يكون1 أفضل منه أو معه في رتبة الفضل - فيالله العجب - جبريل يخبر عن الله أن المسيح هو ابن داود، وأنتم تقولون كلا ولكنه ربّ داود. لقد تباعد ما بينكم وبين جبريل, ومن كان عدوّاً لجبريل الأمين فهو لا شكّ عدوّ لله ربّ العالمين. وإن قالوا: إنما جعله مسيحاً وابناً بتسمية سماه بها وسمى نفسه ابناً له. قلنا: وكذلك يعقوب إذ حكيتم / (2/67/أ) لنا عن التوراة أن الله تعالى قال لموسى: "ابني بكري إسرائيل"2. والبكر أَجَلُّ قَدراً عند والده من غير البكر على ما لا يخفى. والتوراة تشهد بأن للولد الأكبر سهمين في الميراث ولغيره سهم واحد3 ثم4 هو جَدُّ المسيح وعامة الأنبياء من نسله فهلاّ عبدتموه واتّخذتموه إلهاً؟!. وإن زعموا أن المسيح إنما سمّاه الله ابناً للتربية وحسن التأديب - فلعمري - لئن كان الله قد غَذَّاه بغير رضاع وقوته بسوى الطعام المألوف وألبسه غير الثياب المعهودة وبعث إليه مَلَكاً يؤدبه واختلفت الملائكة إلى بيت أُمّه لزيارته وامتثال أوامره ليخالف بينه5 وبين سائر الناس إن ذلك لموضع شبهة. فأما وأمره في جميع أحواله على ما يعهد من الناس ولم تطهر له آية6 في صباه ولم يتكلم في المهد كما زعموا ولا زاد أبلغ ثلاثين7سنة على رجل من بني آدم. فما وجه ادعاء ربوبيته وألوهيته؟.
ولو أن النصارى قالوا: إنه تكلم في المهد وخلق من الطين كهيئة الطير كما يقول فيه المسلمون لوجدوا شعباً / (2/97/ب) يستريحون إليه ساعة وساعة. وإن قالوا: إنه إنما صار مسيحاً وابناً بمعمودية يوحنا، فقد اعترفوا بأن مريم لم تلد الابن المسيح في الحقيقة وإنما هي امرأة ولدت طفلاً من أطفال بني آدم. وحينئذٍ تكون بنوة المسيح مجرد تسمية لا غير. ويستوي حاله وحال من تَقَدَّمه في هذه التسمية من بني إسرائيل. وإن قالوا: إنما اتّخذه الله مسيحاً وابناً لأنه أطاعه1 طاعةً لم يطعها أحد قبله. وعبده عبادة لا يتصور أن يبلغها أحد. فنقول: كيف ذلك وإنما أطاع الله تعالى منذ عقل وبلغ مبالغ الرجال. وذلك دون [العشرين] 2 سنة وأنتم حكيتم لنا في التوراة أن موسى عليه السلام عَمَّر مائة وعشرين سنة3. فإذا طرحنا سِنَّ الصبي كان عمر المسيح خُمْس عمر موسى. وإذا كان الأمر كذلك فقد زادت أعمال موسى وطاعاته4 وأَرْبَت على طاعة المسيح. وقد حكيتم لنا أن موسى مَلَك جانباً كبيراً من الأرض وقاتل الجبابرة وجاهد العمالقة وأباد الفراعنة وقتل عوجاً مبارزة وواصل5 / (2/98/أ) لله أربعين يوماً وأربعين ليلة لا يذوق طعاماً وابتلى بخلاف قومه وكثرة تلونهم وتعنتهم بالجهل المركوز في طباعهم فصبر عليهم ورفق بهم وساسهم وتلقى أوامر ربّه بصدر فسيح وباع رحيب. فلم يهب جباراً وإن عَظُم قَدْرُه ولا نكل عن عدوّ وإن تفاقم أمره. حتى فتح الشام ودوخ البلاد. ولما دنا حمامه وزمه6
من المقدور زمامه. تقدم إلى خادم كان له يقال له: يوشع بن نون يفتح باقي بلاد الشام وأفاض عليه من فاضل همته وصحيح عزمته ما شَدَّد شكيمته وأَيَّد نحيزته فقاتل أربعة وعشرين مَلِكاً وأبادهم عن جديد الأرض. وهذه عبادات لم يتفق للمسيح عليهما السلام مع نزول سنه. وأنتم أخبرتمونا في الإنجيل أن المسيح كان مذ بلغ الحلم إلى أن ناهز الثلاثين مشتغلاً بتعلم التوراة واقتباس العلم من أتباع موسى فلم يكن يُحَارِب ولا يُحَارَب ولا امتحن بما امتحن به موسى. فقد كذبتم في قولكم / (2/98/ب) إنه اتّخذ ابناً لتقدمه في الطاعات على غيره. وكيف تستقيم لكم هذه الدعوى والمزامير تشهد بخلافهم. قال داود عليه السلام متنبئاً على المسيح: "أقسَم الرّبّ ولا يكذب إنك أنت الكاهن المؤيّد تشبه مملكي صادق"1. فشبه المسيح برجل كاهن كان في زمن إبراهيم الخليل وأقصى درجات الشبه أن يساوي المشبه به في الفضل. وهذا الكلام من داود يفضي بانحطاط درجة المسيح عن درجة إبراهيم وموسى - عيلهما السلام - إذ لا خلاف بين أهل الكتاب أن إبراهيم وموسى أفضل من ملكي صادق هذا الذي شُبه به المسيح فاعلم ذلك. وإن قالوا: إنه كان [له] 2 من النية ما لم يكن لموسى ولا غيره - والأعمال بالنيات. - قلنا: لو عكس عليكم الأمر وقيل لكم: بل نية موسى كانت أعظم وقصده كان أتم وأفخم. فبماذا كنتم تجيبون؟ فإن من كان له من أنواع العبادات والقُربات ما وصفنا فهو أحق بأن يقال إن نيته أعظم من نية غيره فقد بطل جميع ما تمسك / (2/99/أ) النصارى به في بنوة المسيح واستوت حاله وحال أحبار بني إسرائيل في المسيحية والبنوة.
وإنما أوردنا ما أوردنا من ذلك كسراً لحجج النصارى وهدماً لأباطيلهم. ونحن والحمد لله أسلم قلوباً لأنبياء الله وأحسن قولاً منهم وأجمل اعتقاداً صلوات الله عليهم أجمعين. اهـ.
الباب العاشر: في البشائر الإلهية بالعزة المحمدية
الباب العاشر: في البشائر الإلهية بالعزة المحمدية ... لباب العاشر: في البشائر الإلهيّة بالعزّة المحمّديّة في البشائر الإلهية بالعزّة المحمّدية: وتشتمل على قسمين: نذكر في القسم الأوّل: ما نصت عليه الأنبياء من لدن إبراهيم إلى المسيح - عليهم السلام - مما يشهد بنبوة محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحقّق رسالته وأنه عليه السلام أفضل النّبيّين والمرسلين. فلو لم يبعث محمّد صلى الله عليه وسلم لاختلفت أقوال الأنبياء ورُدَّت شهاداتهم وعكَّر ذلك على نبواتهم بالإبطال. وقد بالغوا - عليهم السلام - في التنصيص على اسمه ونعته وحليته وذكر أرضه وبلده وجميل سيرته وصلاح أمته / (2/99/ب) وسعادة ملته وأنه من ولد إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن. وأن دعوته تدوم إلى قيام القيامة. والقسم الثاني: ر فيه ما جاء من الآيات البيّنات والخوارق الباهرات مما تضمّنه الكتاب العزيز واشتملت عليه السنة الطاهرة فأوجب الله به الحجة وأنار المحجة وأقام منار الأبرار ومحى بذلك آثار الكفار. ولتقع البداءة بما في التوراة من ذلك1. - البشرى الأولى: قالت التوراة في الفصل العاشر من السفر الأوّل منها: "إن الله تعالى قال لإبراهيم: إن في هذا العام يولد لك ولد اسمه إسحاق. فقال إبراهيم: ليت2
إسماعيل هذا يحيى بين يديك يمجدك. فقال الله تعالى: قد استجبت لك في إسماعيل وإني أباركه وأُيَمِّنه وأعظمه جدّاً جِدّاً بما قد استجبت فيه وأُصيِّره لأمة كبيرة وأعطيه شعباً جليلاً وسيلد اثني عشر عظيماً"1. قلت: قد علم الموالف والمخالف والموافق والمفارق أنه لم يكن في ذرية إسماعيل مَنْ ظهرت بركته / (2/100/أ) ونمت أمته وأعطي الشعب الجليل سوى محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلقد ملئوا الأرض برحبها2 وطبقوا من شرق الدنيا إلى غربها. ودوخوا الآفاق وأربوا في العدد على أولاد إسحاق. وهم - والحمد لله - لا يزدادون على مرّ الأيام إلاّ نماءً وكثرةً. وهذا بالغ في شرف إسماعيل إذ فخر الولد يكسب الوالد فخراً ويرفعه دنيا وأخرى. وناهيك بمن يصفه الله بالعظم والبركة واليمن والجلاله وبأقل من هذه الوعود يثبت الفضل على سائر المخلوقات؛ إذ اليسير من الله عظيم والعظيم منه فلا شيء أعظم منه.
- البشرى الثّانية: قالت التوراة في الفصل التّاسع من السفر الأوّل: "إن الملك ظهر لهاجر وقد فارقت ساره. فقال يا هاجر مِن أين أقبلت؟ وإلى أين تريدين؟ فلما شرحت له الحال قال: ارجعي فإني سأكثر ذريّتك وزرعك حتى لا يحصون وها أنت تحبلين وتلدين ابناً تسمينه إسماعيل، لأن الله قد سمع تذللك1 وخضوعك. / (2/100/ب) وولدك يكون وحشي الناس2. وتكون يده فوق الجميع ويد الكل به. ويكون مسكنه على تخوم جميع إخوته"3. فهذه بشارة شافه الله تعالى بها هاجر على لسان ملكه وأخبرها أنه جاعل يد ابنها العليا ويد من سواه السفلى. ولم تتم هذه البشرى إلاّ بمبعث محمّد صلى الله عليه وسلم.
- البشرى الثّالثة1: قالت التوراة في الفصل الثالث عشر من السفر الأوّل أيضاً: "قال الله لإبراهيم: إني جاعل ابنك إسماعيل لأمة عظيمة لأنه من زرعك"2. - البشرى الرّابعة: قالت التوراة في الفصل العشرين من السفر الخامس: "قال موسى: أقبل الله من سينا3.وتجلى من ساعير. وظهر من جبال فاران. معه ربوات الأطهار عن يمينه"4.
فسيناء1 الجبل الذي كلم الله فيه موسى. وساعير2 هو جبل الخليل بالشام. وكان المسيح يتعبد فيه ويناجي ربّه. وفاران3 جبل بني هاشم الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحنث فيه ويتعبد4. وقد خصت التوراة محمّد صلى الله عليه وسلم / (2/101/أ) بزيادة على موسى وعيسى، فقالت: "معه ربوات الأطهار عن يمينه". وذلك كناية عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني بالربوات: الجماعات من الأكابر والمعظمين في الدين على مذهب تسمية العظيم القدر "رباً". فجمعوا الرّبّ ربوات ولم يقولوا (أرباباً) لفساد التعبير وسوء الترجمة. كما قال فولس مفسرهم: "إن جبل فاران متّصل ببلاد أرابيا"5. يريد بلاد العرب.
ويحتمل أن يكون أراد بالربوات جماعة الملائكة وهو الأقرب. لأن الربوات الجماعات واحدها: ربوة. قال داود في المزمور الثالث: "الرّبّ ناصري لا أخاف من ربوات الشعوب المحيطين بِيَ"1. فيكون ذلك كناية عن تأييد الله نبيّه محمّد صلى الله عليه وسلم وبالملائكة في حروبه وغزواته وترددهم إليه بالوحي والتَّنْزِيل. وفي التوراة: "إن إسماعيل سكن برية فاران ونشأ بها وتعلم الرمي"2. وذلك كلّه بمكة وإذا كان ذلك كذلك، فلم يأت من جبال فاران من دعا إلى الله وأظهر أحكامه ونشر أعلامه وشرع الدين القويم ونهج للأمم الطريق / (2/101/ب) المستقيم ومهد الحاج وعمّر الأندية وعمر رؤس الجبال وبطون الأودية بالتلبية سوى محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم. - البشرى الخامسة: قالت التوراة في الفصل الحادي عشر من السفر الخامس: "يا موسى إني سأقيم لبني إسرائيل نبيّا من إخوتهم. مثلك. أجعل كلامي في فيه. ويقول لهم ما آمره به. والذي لا يقبل قول ذلك النبي الذي يتكلم باسمي أنا أنتقم منه ومن سبطه"3.
قلت: هذه آثار النقمة على من فارقه لائحة وآثار النعمة على من وافقه واضحة. واعلم أن إخوة بني إسرائيل هم ولد إسماعيل ولا يجوز أن يكون هذا النبيّ المذكور من بني إسرائيل ألبتة لأن الله تعالى يقول لموسى: "نبي مثلك". ولم يبعث من بني إسرائيل نبي مثل موسى جاء بكتاب منَزَّل وشرع مبتدأ1. فوجب أن يكون من ولد إسماعيل ولم يقم من ولد إسماعيل من يمكن تنْزِيل هذا الوعد الحقّ عليه سوى2 رسول الله. فلو لم يبعث محمّد صلى الله عليه وسلم لأخلفته أقوال التوراة - وخبر الله تعالى محاشا عن الخلف بل قوله الحقّ ووعده الصدق سبحانه وتعالى ... / (2/102/أ) . - البشرى السّادسة: قالت التوراة في هذا السفر: "قال موسى لبني إسرائيل: لا تطيعوا العرافين ولا المنجّمين. فسيقيم لكم الرّبّ نبيّاً من أخوتكم مثلي، فأطيعوا ذلك النبي"3.
فإن قيل: فلعلّ هذا الموعود به بنو إسرائيل هو هارون أخو موسى ووزيره. أو يوشع خادمه ومشيره. قلنا: التوراة تأبى ذلك. إذ قد أخبرت أن هارون توفي في حياة موسى وعاش موسى بعده. وأما يوشع بن نون فهو من بني إسرائيل والله تعالى يقول: "من إخوتهم". ولم يقل من أنفسهم. والتوراة أيضاً قد1 سدت هذا الباب فقالت في آخر ورقة فيها من السفر الخامس: "ومات موسى فكان بنو إسرائيل يسمعون من يوشع ويطيعونه ولم يقع من بني إسرائيل بعد موسى مثل موسى الذي عرف الله وجهاً قِبَل وجه وصنع الآيات والعجائب"2. ثم هارون ويوشع قد كانا أقيما للنبوة قبل صدور هذا الخطاب من الله. ولا يصحّ أن يُنَزَّل على المسيح بإجماع الأمم. أما اليهود فهو عندهم كذَّاب أشِر. وأنه ما أحيا ميتاً قط ولا أبرأ أبرص. وأما / (2/102/ب) النصارى فهم يزعمون أنه الرّبّ الذي بعث الأنبياء وأرسل الرسل وأنه الذي خلق الخلق وأتقن العالم. فإن رجعوا القهقري وقالوا: إن المسيح مثل موسى فقد تناقض قولهم وخبطوا عشوى. وأما المسلمون فالمسيح عندهم نبي كريم غير أنه من بني إسرائيل والله تعالى يقول: "من إخوتهم" ولم يقل من أنفسهم. فبطل أن يكون المسيح أو غيره وتعيّن أن يكون محمّد صلى الله عليه وسلم ضرورة الوفاء بقول الله تعالى3. - البشرى السّابعة: قالت التوراة: "لما حضرت إسرائيل الوفاة وهو بمصر عند يوسف دعا أولاده فحضروا بين يديه فباركهم واحداً واحِداً ودعا لهم ولما انتهت النوبة إلى ابنه
يهوذا قال فيه: لا يعدم سبط يهوذا [مَلِكاً مُسلَّطاً] 1 وأفخاذه [نبيّاً مرسلاً] 2 حتى يأتي الذي لهالكل"3. وإنما عنى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ثبت ذلك فيما تقدم فهذه. سبع بشائر من التوراة باقية خالدة قد صانها الله عن التحريف وحماها عن التغيير والتصحيف ولو غسل / (2/203/أ) الخاطر4 من وضر الهموم وإنجاب عن القلب غيوم الغموم حتى تطهر النفس ويضيء الحسّ ويصفوا دهن الذهن لتوسعت في استخراج جميع ما في التوراة من أعلام نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم وفي هذا القدر بلاغ وكفاية. - البشرى الثّامنة: من مزامير داود في مزمور له: "سبحوا الله تسبيحاً جديداً، وليفرح بالخالق من اصطفى الله له أمته وأعطاه5 النصر وسدد الصالحين منهم بالكرامة. يسبحونه على مضاجعهم، ويكبرون الله بأصوات مرتفعة، بأيديهم سيوف ذوات شفرتين لينتقم بهم من الأمم الذين لا يعبدونه"6.
وقوله: "يكبرون الله بأصوات مرتفعة" إشارة إلى ما يفعله الحجيج من التلبية وهذه كلها صفات النبيّ محمّد وأمته1. - البشرى التّاسعة: قال داود النبي عليه السلام: "من أجل هذه بارك الله عليك إلى الأبد. فتقلد أيّها الجبار السيف لأن البهاء لوجهك والحمد الغالب عليك، اركب كلمة الحقّ وسمت التأله. فإن ناموسك وشرائعك مقرونة بهيبة يمينك / (2/103/ب) وسهامك مسنونة والأمم يخرون تحتك"2. ليس متقلد السيف من الأنبياء بعد داود سوى نبيّنا عليه السلام وهو الذي خَرَّت الأمم تحته وقرنت3 شرائعه بالهيبة. فإما القبول وإما الجزية وإما السيف. وتصديقه قوله صلى الله عليه وسلم: "نصرت بالرعب"4. فإن قالوا: سماه المزمور جباراً. قلنا: لا يمتنع أن يكون النبيّ جباراً على الكافرين رحيماً بالمؤمنين. كقوله تعالى: {أَذِلَّةً عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الكَافِرِين} . [سورة المائدة، الآية: 54] . وقد شهد
المزمور له بالنبوة صريحاً إذ أخبر أن له ناموساً وشرائع كنواميس الأنبياء وشرائعهم. وقال: إن دينه يظهر على كلّ دين فلم يُخْرم ما أخبر به. - البشرى العاشرة: قال داود في مزمور له: "إن ربّنا عظيم محمود جدّاً، وفي قرية إلهنا قدوس، ومحمّد قد عَمَّ الأرض كلها فرحاً"1. فقد نصّ داود على اسم محمّد وبلده وسماه قرية الله تعالى. وأخبر أن كلمته تعُم أهل الأرض2. - البشرى الحادية عشرة: قال داود في مزمور له: "إن الله أظهر من صهيون / (2/104/أ) إكليلاً محموداً"3. فهذا داود قد أكثر في مزاميره من ذكر سيدنا محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو محمود وأحمد والمحمود. ووصف داود له بأنه (إكليل) 4 يشير إلى أنه رئيس الأنبياء عليهم السلام. إذ الإكليل هو الذي يجعل على الرأس.
- البشرى الثّانية عشرة: قال داود في مزمور: "لترتاح البوادي وقراها. ولتصر أرض قيدار مروجاً. ولتسبح سكان الكهوف. ويهتفوا من قلل الجبال بحمد الرّبّ ويذيعوا تسابيحه في الجزائر"1. فليت شعري لمن البوادي من الأمم سوى أمة محمّد؟ ! ومن قيدار2 سوى ابن إسماعيل جدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!. ومَنْ سكن الكهوف وقلل الجبال سوى العرب؟!. - البشرى الثّالثة عشرة: في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال داود في مزمور له: "ويجوز من البحر إلى البحر ومن لدن الأنهار إلى منقطع الأرض. تخر أهل الجزائر بين يديه. وتلحس أعداؤه التراب وتسجد له ملوك الفرس. وتدين له الأمم بالطاعة / (2/104/ب) والانقياد. ويخلص المضطر البائس ممن هو أقوى منه. وينقذ الضعيف الذي لا ناصر له. ويرأف بالمساكين والضعفاء ويُصلَّى عليه ويبارك في كلّ حين"3.
وهذه صفات محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقد جرت الملوك بين يدي أصحابه، وأسروا ملوك الفرس والروم، ودانت له ولأمته الأمم ولحسوا التراب وصُلِّي عليه على توالي الأيام1. - البشرى الرّابعة عشرة: قال داود في مزمور تنبأ به على نبيّنا عليه السلام: "دامت شكايتي، ونزلت في مساكن قيدان. وكثيراً ثوت نفسي مع الذين يغضون السلم، وبالسلم كنت أتكلم فيهم وهم كانوا يحاربونني"2. فهذا تنويه بأن الساكن (ماسكن قيدار) هو رسول الله. وإلاّ فمتى فارق داود البيت المقدس ونزل بمكة في منازل قيدار ابن إسماعيل؟!. - البشرى الخامسة عشرة: قال داود في مزموره تنبأ به على كثرة أمة محمّد صلى الله عليه وسلم ودوام شرعه إلى الأبد / (2/205/أ) ووجوب النبوة له قبل خلق العالم: "ثماره مثل الزروع الكثيرة على وجه الأرض
كالذي يطلع من لبنان، ويدوم ذكره إلى الأبد. وإن اسمه لموجود قبل الشمس، وكلّ الأمم يتبركون به ويحمدونه"1. وهذه كلّها صفاته وصفات أمته وقد أخبر داود بتأبيد شرعه وتأييده وأنه لا نبيّ بعده وأنه خاتم الأنبياء. - البشرى السّادسة عشرة: قال داود في مزمور من المزمور الثاني له وتنبأ به على اتّساع خطة الإسلام: "أنت ابني وأنا اليوم ولدتك. سلني أعطيك. الشعوب ميراثك. وسلطانك إلى أقطار الأرض. ترعاهم بقضيب من حديد. ومثل آنية الفخار تسحقهم"2. قال مؤلِّفه: اعلم أنه لا يتصور من عارف صرف هذا المزمور عن سيّدنا محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم. لأنه عليه السلام هو الذي ورث الشعوب كلّها وبلغ سلطانه إلى أقطار الأرض ورعى الأمم وحاطهم بسيفه. ولا يمكن صرف هذا المزمور إلى داود؛ لأنه لم يرث سائر الشعوب / (2/105/ب) ولا بلغ سلطانه إلى أقطار الأرض، إذ ما ملك سوى ناحية من الأرض وهي البيت المقدس. ثم خرجت من بعده إلى أمة هذا النبيّ والأقطار والنواحي. وقد بلغ سلطان محمّد عليه السلام جوانب الدنيا وأطراف العالم ففتح الله عليهم الحجاز واليمن والحبشة والنوبة والهند والسند إلى الصين. ودوخت أمته الشام والعراق وفارس إلى الترك. وافتتحوا أرض مصر والمغرب الأقصى إلى بحر طنجة. فقد ورث محمّد سائر الشعوب وبلغ سلطانه إلى أقطار الأرض. فصارهذا المزمور مضاهياً لبشرى يعقوب في التوراة بمحمّدصلى الله عليه وسلم الذي نقلناه.
فأما قوله في أوّل المزمور: "أنت ابني"، فجرى فيه داود على عادتهم في إطلاق لفظة البنوة على النبيّ والمطيع لله فقد قال في التوراة: (إسرائيل ابني بكري"1. وقال المسيح في الإنجيل: "أنا ذاهب إلى أبي وأبيكم". - البشرى السّابعة عشرة: قال داود في مزمور له مخاطباً لربّه ومتنبئاً على رسوله صلى الله عليه وسلم / (2/206/أ) : "إلهي من الرجل الذي ذكرته، والإنسان الذي أمرته، ألبسته الكرامات والمجد، وملّكته على خلقك؟! "2. - البشرى الثّامنة عشرة: من نبوات نبيّ الله أشعيا قال أشعيا مبشراً برسول الله صلى الله عليه وسلم: "قيل لي: قم نظاراً فانظر ماذا ترى؟ فقلت: أرى راكبين مقبلين، أحدهما على حمار والآخر على جمل. يقول أحدهمالصاحبه: سقطت بابل وأصنامها للمنحر"3.
فراكب الحمار هو المسيح ابن مريم1. وراكب الجمل هو محمّد صلى الله عليه وسلم وهو أشهر بركوب الجمل من المسيح بركوب الحمار. وبمحمّد صلى الله عليه وسلم سقطت أصنام بابل2. البشرى منها أيضاً - قال أشعيا عليه السلام متنبئاً على مكة - شرفها الله تعالى -: "ارفعي ما حولك بصرك فتبتهجين وتفرحين من أجل أن الله يُصيّر إليك ذخائر البحرين. ويحجّ إليك عساكر الأمم، حتى يعم3 بك فطر4
الإبل المؤبلة1. وتضيق أرضك عن القطرات التي تجمع إليك. وتساق إليك كباش مدين. / (2/106/ب) وتأتيك أهل سبأ. وتسير إليك أغنام فاران. وتخدمك رجال [نبايوت] 2 يريد سدنة الكعبة وهم أولاد نبايوت3 ابن إسماعيل. وهذه الصفحات كلها حصلت بمكة فحملت إليها ذخائر البحرين. وحجّ إليها عساكر الأمم. وسيقت إليها أغنام فاران للهدايا والأضاحي. - البشرى التّاسعة عشرة: قال أشعيا النبيّ والمراد مكة: "أيتها المتغلفة في الهموم التي لم تنل حظوة إني جاعل حجرك بَلُّور. ومُوَنِّق أساسك بالحجر الاسما نجوني، ومزين حياطانك باللازورد. ومزخرف خدودك بالأحجار النفسية. وأعم أبناءك بالسلم. وأزينك بالصلاح والبر. وأبعد عنك الأذى والمكاره وأجعلك آمنة. ومن انبعث إليّ فإليك قصده وفيك حلوله. وتصيرين ملجأ [ووزراً] 4 لقاطنيك وسكانك"5.
وهذه صفات مكة والكعبة والمسجد الحرام. لأن مهدي1 بني العباس والملوك قبله وبعده قد تأنقوا في بناء المسجد الحرام بالأحجار النفيسة والذهب والأصباغ / (2/107/أ) واللازورد. وحملت تيجان الملوك وذخائرهم فحليت بها الكعبة. ولقد شاهدت شقوف الحرم وهي تكاد تلمع البصر حسناً. فمن رام صرف كلام النبيّ أشعيا هذا إلى غير مكة من البلاد أَكّد خاطره وأكدى سعيه ولم يظفر ببيت آخر وحرم آخر ينْزل ذلك عليه. ولا يمكن تنْزيل ذلك على البيت المقدس؛ لأنه لم يكن متغلغلاً في الهموم ولا سقوط الحطوة2 بل هذه صفة الكعبة فاعلم ذلك. -[البشرى] 3 العشرون: قال أشعيا يخاطب الناس عن محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تفهّمي أيّتها الأمم إن الرّبّ أهاب بِيَ من بعيد. وذكر اسمي وأنا في الرحم. وجعل لساني كالسيف الصارم وأنا في البطن. وحاطني بظل يمينه. وجعلني كالسهم المختار من كنانته. وخزنني لسره وقال لي: أنت عبدي. فصر في وعد لي حقاً قدام الرّبّ. وأعمالي بين يدي إلهي. وصرت محمّداً عند الرّبّ. فبإلهي حولي وقوتي"4. فهذا (2/107/ب)
نبي الله أشعيا قد صرح باسم نبيّنا ولم يجمجم وأعرب عنه ولم يجمجم. فلا حاجة بنا مع بيان أشعيا عليه السلام إلى مترجم. وقوله: "إنّ الرّبّ أهاب بِي من بعيد". يريد أنه لم يكن من بني إسرائيل ولا من بلدهم بل من غيرهم. فليرونا آخر اسمه محمّد جاء بشريعة جديدة داعية إلى الله إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب حتى تنصرف هذه البشارات إليه. - البشرى الحادية والعشرون: قال أشعيا النبي والمراد هاجر أم العرب: "سبحي أيتها النزور1 الرقوب2 واغتبطي بالحمد لقد زاد ولد الفارغة المَجفُوَّة على ولد المَشْغُولة المَحْظِيّة. وقال لها الرّبّ: أوسعي مواضع خيامك ومُدِّي مضاربك وطَوِّلي أطنابك واستوثقي من أوتادك. فإنك ستنبسطين وتنتشرين في الأرض يميناً وشمالاً. ويرث ذريتك الأمم. ويسكنون القرى المعطلة البنيان"3. فهل بقي بعد هذا البيان بيان؟! وهل تليق هذه النبوة بغير هاجر ونسلها أو الكعبة شرفها الله تعالى. / (2/108/ب) . - البشرى الثّانية والعشرون: قال أشعيا نبؤة على محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عبدي الذي يرضي نفسي. أعطيه كلامي. فيظهر في الأمم عدلي. ويوصيهم بالوصايا. لا يضحك ولا يصخب. يفتح العيون العور. ويسمع الآذان الصم. ويحيى القلوب الميتة.
وما أعطيه لا أعطيه غيره. أحمد يحمد الله حمداً حديثاً. يأتي من أفضل الأرض، فتفرح به البرية وسكانها، ويوحدون الله على كلّ شرف. ويعظمونه على كلّ رابية. لا يضعف ولا يغلب. ولا يميل إلى الهوى ولا يذل الصالحين الذين هم كالقصب الضعيف بل يُقوي الصديقين المتواضعين. وهو نور الله الذي لا يطفئ. أثر سلطانه على كتفه"1. فهذا أشعيا نبي الله قد أعلن باسم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أعلنت به الأنبياء. وهذا الكلام من أشعيا إبانة واضحة لمن كان مطلبه الحقّ والهدى ولم يمل به التعصب والهوى إلى الاعتداء.
- البشرى الثالثة والعشرون: قال نبيّ الله أشعيا / (2/108/ب) مُنَوِّها باسم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتفرح البادية العطشاء ولتبتهج البراري والفلوات ولتزهو. فإنها ستعطي بأحمد1 أحسن محاسن لبنان حتى تصير كالدساكر2 والرياض، وسيرون جلال الله وبهاء إلهنا"3. فذكر البراري القفار أنها تصير بأحمد صلى الله عليه وسلم مأهولة معمورة محجوجاً إليها. أفلا يستحيي من يُحجم عن الإسلام من نبيّ الله أشعيا أن يرد قوله؟!. وكيف يصح الإيمان بأشعيا مع إبطال أقواله ورد أخباره وتكذيب شهادته والقدح في رواياته؟! وأَيّ شكّ في صدر لبيب بعد سماعه أشعيا ينصّ على اسم نبينا واسم أرضه. - البشرى الرّابعة والعشرون: قال أشعيا: "هتف هاتف في البدر وقالوا: خلوا طريق الرّبّ. وسهلوا لإلهنا السبيل في القفر. فستمتلئ البادية مياهاً ونقيص فيضاً. وتصيراً الآكام4 دكادك5.
والوعر سهلاً. وتظهر كرامة الرّبّ. الرّبّ يقول ذلك1. وذلك كله إشارة إلى ما مهد الله برسله محمّد عليه السلام والصلاة. / (2/109/أ) . - البشرى الخامسة والعشرون: قال أشعيا: "يا آل إبراهيم خليلي الذي قويته ودعوته من أقاصي الأرض. لا تخف ولا ترهب فأنا معك. ويدي العزيز مهدت لك. جعلتك مثل الجرجر2 الحديد تدق ما يأتي عليه دقاً. وتسحقه سحقاً حتى تجعل هشيماً. تلوي به هوج الريح. وأنت تبتهج وترتاح وتكون محمداً"3. ألا ترى هذا النبي الكريم الذكر العظيم القدر لا يكاد يخلي كلامه من التبرك باسم سيد المرسلين حتى كان ذلك عليه ضربة لازب وحتم واجب4.
فهؤلاء الأنبياء الأطهار والأصفياء الأبرار يصرحون باسم محمّد. فلا حاجة بنا بعدها إلى الاستنباط والاستخراج. - البشرى السّادسة والعشرون: قال أشعيا النبي عليه السلام معلناً باسم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني جعلت اسمك محمّداً. يا محمّد يا قدوس الرّبّ اسمك موجود من الأبد"1. فهل بقي بعد ذلك لزائغ مقال أو لطاعن عن مجال؟ وقول أشعيا أن اسم محمّد موجود من / (2/109/ب) الأبد موافق لقول داود الذي حكيناه: "إن اسمه موجود قبل الشمس"2. وقوله: "يا قدوس الرّبّ". يعني: يا مَنْ طَهَّره الرّبّ وخلّصه من شوائب بشريته واصطفاه لنفسه. - البشرى السّابعة والعشرون: وشهد لهذه الأمة بالصلاح والديانة: "سأرفع علماً لأهل الأرض بعيداً، فيصفر لهم من أقاصي الأرض فيأتون سراعاً"3. فالنداء هو ما جاء به النبيّ عليه السلام من التلبية في الحجّ. وهم الذين جعلوا لله الكرامة فوحدوه وعبدوه
وأفردوه بالربوبية وكسروا لأصنام وعطلوا الأوثان. والعلم المرفوع هو النبوة، وصفيره هو دعاؤهم إلى بيته ومشاعره فيأتونه سامعين مطيعين. - البشرى الثّامنة والعشرون: قال أشعيا النبي والمراد مكة شرّفها الله: "سُرِّي واهتزي أيتها العاقر التي لم تلد. وانطقي بالتسبيح. وافرحي إذ لم تحبلي. فإن أهلك يكونون أكثر من أهلي"1. يعني بأهلي: أهل بيت المقدس. ويعني بالعاقر: مكة شرّفها الله. / (2/110/أ) لأنها لم تلد قبل نبيّنا عليه السلام نبيّاً2. ولا يجوز أن يريد بالعاقر بيت المقدس؛ لأنه بيت الأنبياء ومعدن الوحي فلم تزل تلك البقعة وَلاَّدة.
- البشرى التّاسعة والعشرون: قال أشعيا النبيّ - ونصّ على خاتم النبوة: "ولد لنا غلام يكون عجباً وبشيراً. والشامة على كتفه. أركون السلام. إله جبار. سلطانه سلطان السلامة. وهو ابن عالمه. يجلس على كرسي داود"1. قال المؤلِّف (الأركون) هو العظيم بلغة الإنجيل، والأراكنة، المعُظَّمون: (لما أبرأ المسيح مجنوناً من جنونه قالت اليهود: إن هذا لا يخرج الشياطين من الآدميين إلاّ بأركون الشياطين"2. يعنون: عظيمهم. وقال المسيح أيضاً في الإنجيل: "إن أركون هذا يدان"3. يريد إما إبليس أو الشرير العظيم الشّرّ من الآدميين. وسماه إلهاً على نحو قول التوراة: "إن الله جعل موسى إلهاً لفرعون"4. أي: حاكماً عليه ومتصرفاً فيه. وعلى نحو قول داود للعظماء من قومه: / (2/110/ب) إنكم آلهة"5. فقد شهد أشعيا بصحّة أمر محمّد رسول الله ووصفه بأخص علاماته وأوضحها وهي: شامته6. فلعمري لم تكن الشامة لسليمان ولا للمسيح. وقد
وصفه بالجلوس على كرسي داود. يعني: أنه سيرث بني إسرائيل نبوتهم وملكهم ويبتزهم رئاستهم. - البشرى الثّلاثون: قال أشعيا ووصف أمة محمّد عليه السلام: "ستمتلئ البادية والمدن من أولاد قيدار. يسبحون من رؤوس الجبال ينادون، هم الذين يجعلون لله الكرامة ويسبحونه في البر والبحر"1. - البشرى الحادية والثّلاثون: وقال أشعيا والمراد هاجر أو مكة: "أنا رسمتك على كفي، وستأتيك أولادك سراعاً. ويخرج عنك من أراد أو يخيفك ويخزيك، فارفعي بصرك إلى ما حولك فإنهم سيأتونك ويجتمعون إليك. قسماً باسمي إني أنا الحيّ لتلبسي الحلل وتزيني بالأكاليل مثل العروس، ولتضيقن خراباتك من كثرة سكانك والراغبين فيك. ولينهزمن كلّ من يناوؤك ولتكثرن أولادك / (2/111/أ) حتى تقولي من رزقني هؤلاء كلهم وأنا وحيدة فريدة نزور رقوب؟: فمن رَبَّى هؤلاء ومن تكفل لي بهم؟! "2.
وذلك إفصاح من أشعيا بشأن الكعبة. فهي التي ألبسها الله الحلل الديباج الفاخرة ووكّل بخدمتها الخلفاء والملوك. ومكة هي التي رَبَّى لها الأولاد من حجاجها والقاطنين بها. فالحمد لله الذي أوضح لنا الدين وقمع الملحدين. - البشرى الثّانية والثّلاثون: قال أشعيا: "مثل الريح العقيم يأتي من التيمن. والظالم يظلم. والمنتهب ينتهب"1. (التيمن) تهامه. وشُبِّه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالريح العقيم في تدميره الكافرين، وأنه عليه السلام يبعث في زمن جاهلية يظلم بعضها بعضاً وينتهبه، فجاء الأمر كما تنبأ به أشعيا عليه السلام. - البشرى الثّالثة والثّلاثون: قال أشعيا ونَبَّه على انتشار العلم من الحجاز إلى أقطار الأرض: "يا سكان التيمن اسقوا العطاش الماء، وقوتوهم بخبزكم"2. فالماء هَا هنا كناية عن العلم. قال المسيح في الإنجيل: / (2/111/ب) "من شرب من هذا الماء يعطش. ومن شرب من الماء الذي أسقيه لا يعطش أبداً. بل تنبع مع بطنه عين ماء الحياة"3.
يريد بالماء: العلم والحكمة. وذلك إخبار من أشعيا عن ظهور كتاب الله وسنة نبيّه. وكذلك قوله: "قوتوهم بخبزكم" على نحو قول المسيح في الإنجيل: "أنا هو خبز الحياة الذي من أكل منه لم يمت"1. وهذه كلّها كلمات متروكة الظاهر مؤولة. -[البشرى] 2 الرّابعة والثّلاثون: قال أشعيا حاكياً عن الله تعالى: "اشكر حبيبي وابني أحمد"3. فسمّاه الله حبيباً وسمّاه ابناً على اصطلاح اللسان العبراني. كتسمية إسرائيل ابناً غير أنه خصّه عليهم بمزيه. فقال: "حبيبي ابني اشكره". فَتَعَبُّد مثل أشعيا بشرك محمّد صلى الله عليه وسلم ووضف عليه وعلى قومه شكره وإجلاله ليتبيّن قدره ومنْزلته عنده. وتلك منقبة لم يؤتها غيره من المرسلين. -[البشرى] 4 الخامسة والثّلاثون: قال أشعيا: "إن الأمة التي كانت في الظلمات رأت نوراً باهراً. والذين كانوا في الدجى وتحت ظلال الموت سطع عليهم الضوء. فلقد أكثرت من الأتباع / (2/112/أ) والأحزاب لم يستكثر للاغتباط بهم. فأما هم فإنهم فرحوا بين يديك كمن يفرح يوم الحصاد وعند اقتسام الغنائم. لأنك فككت النير أيضاً الذي كان أذلهم والعصا التي كانت على أعناقهم. وكسرت القضيب الذي كان يستعبدهم مثل كسرك من كسرت في يوم مدين"5.
وذلك موافق لقول الله تعالى في نعت نبيّه محمّد صلى الله عليه وسلم: {وَيَضَعُ عَنْهُم إِصْرَهُم وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَت عَلَيهُم} . [سورة الأعراف، الآية: 157] . وبرسول الله صلى الله عليه وسلم زالت1 ظلمة الشرك وحصل ضوء الإيمان. فكسر الأصنام وأباد الأوثان. وأعلن بالقرآن وعبد الرحمن. -[البشرى] 2 السّادسة والثّلاثون: قال أشعيا: "إنا سمعنا من أطراف الأرض صوت محمّد"3. وهذا إفصاح وليس بجمجمة وإعراب من أشعيا باسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليُرنا أهل الكتاب نبيّاً نصّت الأنبياء على اسمه صريحاً سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم. -[البشرى] 4 السّابعة والثّلاثون: قال أشعيا - وسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم / (2/112/ب) ربّاً وإلهاً كتسمية موسى في التوراة -: "إنّ الرّبّ الإله سيظهر بالعزّ والحول والقوّة. أجره معه وعمله أمامه. فهو كالراعي الذي يحوط غنمه ويذودهم عن مراتع الهلاك"5.
والدليل على ما قلناه أنه جعل (الرّبّ الإله) المذكور هو إنساناً له أجر وعمل. وقوله: (أجره معه) . يشير إلى الغنائم التي أحلت له وصفاياها، وقد وصفه أشعيا بالجهاد في سبيل الله واستيلائه على أعدائه بالحول والقوّة والعزّ. وكذلك كان عليه السلام. وهو1 وأمته الذين قهروا الجبابرة وكسروا الأكاسرة وأبادوا الفراعنة والقياصرة واستولوا على ممالك العالم2 وهابتهم طبقات بني آدم. ومن شَدَّ طَرَفاً من مغازيهم عرف صحّة ما قلناه. -[البشرى] 3 الثّامنة والثّلاثون: قال أشعيا وذكر ما امتن الله به على أهل الحجاز واليمن من أهل ملة محمّد صلى الله عليه وسلم: "إن المساكين والضعفاء والذين جفت ألسنتهم من الظمأ سأسقيهم ماء حيث لا ماء لهم. / (2/113/أ) أنا الرّبّ أجيب دعوتهم ولن أهملهم بل أفجر لهم في الجبال الأنهار. وأجري بين القفار العيون. وأجعل في البدو آجاماً. وأجري في الأرض العطشى معيناً. وأنبت في القفار غروساً. ليعلم الناس أن يد الرّبّ فعلت ذلك. وقدوس إسرائيل ابتدعه"4. فقد نصّ على أرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفها بصفاتها وما فجر بها من الأنهار وأجرى من العيون وأنبت من الخيرات لأهلها. وذكر أن يده هي التي فعلت ذلك. وقد أكثر أشعيا عليه السلام من ذكر محمّد وأحمد ووصفه أرضه وبلاده وبيته ومنازل أبيه إسماعيل. فلم يبق لجاحد علة ولا لمنكر ريبة.
-[البشرى] 1 التّاسعة والثّلاثون: قال أشعيا أيضاً: "لتسبحني وتحمدني حيوانات البر من بنات آوى حتى الأنعام. لأني أجريت الماء في البدو لتشرب منها أمتي المصطفاة التي اصطفيتها"2. هذا يصدّقه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وَلَّى على أهل مكّة عتاب بن أسيد فقال له: "يا عتاب / (2/113/ب) أتدري على ما ولّيتك؟. ولّيتك على أهل الله". قالها مرّتين أو ثلاثاً3. وكنَّى عن أهل الحجاز والبراري ببنات آوى والأنعام لسكنى الفيافي والقفار. وأخبر أشعيا أن الله تعالى اصطفى هذه الأمة من بين سائر الأمم. -[البشرى] الأربعون: قال أشعيا: "أنا الرّبّ ولا إله غيري. أنا الذي لا يخفى عليه خافية. بل يخبر العباد بما لم يكن قبل أن يكون، وأكشف لهم الحوادث والغيوب. وأُتِم مشيئتي كلها إني سأدعو طائراً من البدو البعيد الشاسع"4. والطائر المدعو من البدو البعيد الشاسع هو محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم5.
-[البشرى] 1 الحادية والأربعون: قال أشعيا متنبئاً على ما شرحه الكتاب العزيز من نعيم أهل الجنة: "يا معشر العطاش توجهوا إلى الماء والورود. ومن ليس معه فضة فليذهب و [يمتر] 2 ويأكل ويشرب من الخمر واللبن مجاناً بلا ثمن"3. ذلك تصديق لقوله تعالى: / (2/114/أ) {فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّر طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّن خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٍ مِّن عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُم فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ} . [سورة محمّد صلى الله عليه وسلم، الآية: 15] . وفي ذلك تكذيب للنصارى واليهود وكطائفة من أهل الأهواء إذ قالوا: ليس في الجنة شيء من هذه الملاذ. [البشرى] 4 الثّانية والأربعون: قال أشعيا وتنبأ على دعاء محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم الكافة وأخبر أن رسالته عامة إلى الناس أجمعين: "إني أقمتك شاهداً للشعوب، ومدبّراً وسلطاناً للأمم. لتدعو الأمم الذين لم تعرفهم. ويأتيك الأمم الذين لم يعرفوك هرولة وشدّاً من أجل الرّبّ إلهك. قدوس إسرائيل هو الذي أحمدك، فاطلبوا ما عند الرّبّ واستجيبوا له. وليرجع الخاطئ عن خطيئته والفاجر عن فجوره وليتب5 إلي لأرحمه"6.
فهذه نبوة مفصحة وبشرى مصرحة باسم أحمد صلى الله عليه وسلم. وكأن كلماتها قد جمعها أشعيا من الكتاب العزيز والسنة الطاهرة. -[البشرى] 1 الثّالثة والأربعون: وقال أشعيا: "إن الله سبحانه نظر في الناس فلم ير من يعين على الحقّ فأنكر ذلك. / (2/114/ب) وبعث وليه فأنفذه بذراعه ومهد له بفضله. فاستلأم العفاف والبر كالدرع ووضع على رأسه إكليل الإغاثة والفلح. ولبس الخلاص لينتقم من المبغضين له المعاديين. ويجزي أهل الجزاء2 جزاءهم أجمعين ليدوم اسم الله في مغارب الأرض وليخشع في مشارقها لجلاله سبحانه"3. فقد استلأم عليه السلام بالبر والتقى ولبسه والتحفه وارتدى، وخلّص أولياءه وانتقم من أعدائه. وأعلن باسم الله في مشارق الأرض ومغاربها. فهذه نبوات ظاهرة وبشارات متضافرة يؤمن بها من قضى الله له بالتوفيق ويجحدها من عدل به عن نهج الطريق. -[البشرى] 4 الرّابعة والأربعون: قال أشعيا وتنبأ بها على مكّة: "قومي وأزهري مصباحك فقد دنا وقتك وكرامة الله طالعة عليك، فقد تخلل5 الأرض الظلام وغطى على الأمم كلّها
الضباب، يشرق عليك إشراقاً. يظهر عليك كرامته. فتسير الأمم إلى نورك. والملوك إلى ضوء طلوعك1./ (2/115/أ) إنهم سيأتونك ويحجون إليك من البلد البعيد. ويتربى بنوك وبناتك على السرر والأرائك"2. وهذه نبوءة على تخصيص مكّة بشدّ الرحال إليها وتمليك أهلها وظهور الإيمان بالله منها. وإزالة ظلم الجهل بمصباح العلم المأخوذ عن أولادها. فمن أبى من المخالفين تنْزيل هذا الكلام على مكّة والكعبة [فليرنا] 3 كعبة أخرى في الأرض شرقاً وغرباً وشريعةً هاديةً من الضلال. وملة ثابتة خالدة على مرّ الأحوال. -[البشرى] 4 الخامسة والأربعون: وقال أشعيا باسم الكعبة وحجها وتعظيمها: "إنه سيرد عليك أبناؤك من بلد بعيد. ومعهم فضتهم وذهبهم من أجل اسم الرّبّ إلهك قدوس إسرائيل الذي أحمدك. وتبنى أبناء الغرباء سورك. وتخدمك ملكوهم. وتفتح أبوابك آناء5 الليل والنهار فلا تغلق. وتدخل إليك أرسال الأمم. وتقاد إليك ملوكهم أذلة. وكلّ أمة لا تخضع لك تتبدد تبديداً. والشعوب التي لا تخدمك/ (2/115/ب) تصطلم اصطلاماً. وتأتيك الكرامة من صنوبر لبنان البهي. ومن الأبهل لتبخر به بيتي وموضع قدمي ومستقر كرامتي. والقوم الذين كانوا يذلونك يأتون لتقبيل آثار أقدامك. وأجعلك كرامة إلى الأبد وغبطة وفرحاً إلى دهر الداهرين
و [سترضعين] 1 ألبان الشعوب. وتصيبين من ذخائر الملوك. و [تعلمين] 2 أني أنا الرّبّ مخلصك. والذي يجعل مصابحك تزهر إلى الأبد"3. فهذا أشعيا قد نصّ فصرح وحقق أمر بيت الله العتيق وأفصح [فليوجد لنا] 4 المخالف بيتاً لله تعالى موصوفاً بهذه الصفات مخصوصاً بهذه الكرامات مشتملاً على قدم إبراهيم مقبلاً مقبولاً في الغداة والأًصيل. -[البشرى] 5 السّادسة والأربعون: قال أشعيا مخاطباً للنبيّ محمّد صلى الله عليه وسلم: "هكذا يقول الرّبّ قدوس إسرائيل ستقوم لك الملوك إذا رأوك وتسجد لك السلاطين. لأن وعد الله حقّ وأنا الذي انتخبتك واخترتك وفي / (2/116/أ) شدائدك أعنتك. لنفسي اجتبيتك وجعلتك ميثاقاً للشعوب ونوراً للأمم. لترث الأرض وتطلق الأسرى المسجونين وتؤمنهم. وتجعل الجبال طرقاً مذللة. وتوافيك الأقوام من بلاد شاسعة. فسبحي أيتها السماء6 واهتزي أيتها الأرض فرحاً وابتهجي أيتها الجبال بالحمد. فقد تلاقى الرّبّ شعبه ورحم المساكين من خلقه"7. اعلم أن هذه النبوة لا تليق بغير رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مختار الله ومجتباه ومنتخبه من خلقه. الذي أعانه على شدائده. وهو رجل واحد بغير أعوان ولا معتضد بأنصار حتى قهر الملوك فدانوا بدينه. والتزموا شرعه وتقيدوا بأحكامه وأخذوا بسنته طوعاً وكرهاً واختياراً وجبراً. وورث الأرض وفتحها هو وأمته شرقاً وغرباً
وجنوباً وشمالاً. وقيد الملوك والطغاة. وفكّ الأسرى والمسجونين. وأمن الجبال الوعرة ودكّها فصارت شرائع وطرقاً1 مسلوكة. وقد كانت العرب قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم / (2/116/ب) محبوسة بأرضها [لا يتجاوزونها] 2 من خوف فارس وكسرى وقيصر وغيرهما من الملوك. وأطلقها الله برسوله من سجنها. وأورثهم أرض فارس وقيصر وغيرهما وملكهم أموالهم فاستخرجوا ذخائرهم وحازوا معاقلهم وتملكوا عقائلهم. فإن قيل: ما معنى قول أشعيا في أوّل هذه البشارات: "يا قدوس إسرائيل". قلنا: هو إنما يخاطب في أيامه بني إسرائيل. وبنو إسرائيل إذا دعوا الله قالوا: يا قدوس إسرائيل افعل بناكذا وكذا. فاحتاج أن يخاطبهم بما يفهمون. -[البشرى] 3 السّابعة والأربعون: قال أشعيا وتنبأ على الكعبة والركن الأسود: "هكذا يقول الرّبّ: هأنذا ناصب للأمم علماً وآية. وهي أنهم يأتونك بأبنائهم وبناتهم على أيديهم وأكتافهم وتكون الملوك ظؤورتك4 وعاقل نسائهم مرضعاتك ويخرون على وجوههم سجداً لك ويلحسون تراب أقدامك. فتعلمين حينئذٍ أني أنا الرّبّ الذي لا يخزى الراجون لدى"5. الظوؤورة: جمع ظئر. وهي: الداية والمزيِّنة / (2/117/أ) والمرضعة يشير إلى ما قام الملوك ونساء الملوك من خدمة المسجد الحرام وتحلية الكعبة وتزيينها بالديباج والذهب والفضة وتغليفها بالمسك وغسلها بالماورد المفتوق فيه الطيب6 الفاخر. وتذللهم
حولها وخضوعهم لأهلها وتطوافهم حولها. وتقبيلهم حجرها. حفاة الأقدام حسر الرؤوس مبتذلين متواضعين. فأي بيان أبين من هذا البيان لمن نوّر الله قلبه وجوهر لبه وأراد به الخير وحماه من الهوى؟!!. -[البشرى] 1 الثّامنة والأربعون: قال هوشاع2 النبيّ وتنبأ على محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الرّبّ أنا الرّبّ الإله الذي رعيتك في البدو. وفي أرض قفر خراب غير مأهول. وفي أرض لا أنيس بها"3. وما يعرف من هذا حاله سوى محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أبوه إسماعيل عليه السلام. -[البشرى] 4 التّاسعة والأربعون: قال هوشع متنبأ على أمة محمّد عليه السلام: "قال الله: إنها أمة جليلة عزيزة لم يكن مثلها قط / (2/172/ب) ولا تكون. النار تحرق من أمامها ومن خلفها"5. وتلك أمة النبيّ محمّد صلى الله عليه وسلم وهي التي لا تقوم لها شيء من الأمم كأنها النار في إحراقها، وقد وصفها الله بالجلالة والعزّة6 وأنه لم يكن في العالم مثلها ولا يكون
أبداً. وتلك تزكية ومدحة جليلة وثناء فخم من الله لهذه الأمة. وهو دليل محبته لها لأنه تعالى إذا أحب شيئاً فخّمه وعظمه. فلله ربنا الحمد السرمد والمدح المؤبد. -[البشرى] 1 الخمسون: قال هوشع النبيّ على محمّد صلى الله عليه وسلم: "وقد بلغ وقت النعمة ودنا ميقات الجزاء، فليعرف بنو إسرائيل الجهلة النبي السفير وليتبينوا2 شأنه. فإنه لا خفاء بالرجل الذي عليه روح السفارة. وإن كثرة إثمهم وخطاياهم هي التي حملتهم على الخبث"3. قوله: "قد بلغ وقت النعمة". يعني بذلك وقت محمّد صلى الله عليه وسلم، فشهد هوشاع أنه نعمة على العالمين نظيره قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} . [سورة الأنبياء، الآية: 107] . -[البشرى] 4 الحادية الخمسون: قال هوشاع وهو أحد الاثني / (2/118/أ) عشر وتنبأ على أمة محمّد عليه السلام: "إن
إفرام قد اكتفى بالكذب والفرية، وبنو إسرائيل ويهوذا قد عنوا بالكذب والخيانة حتى نزلت أمة الله الأمة المقدسة المؤمنة"1. وهذه صفة أمة محمّد صلى الله عليه وسلم. -[البشرى] 2 [الثّانية] 3 والخمسون: قال ميخا النبيّ وتنبأ على بيت الله الحرام وما يحجه من الناس: "إنه يكون في- آخر الأيام بيت الرّبّ مبنياً على قلل الجبال وفي أربع رؤوس العوالي. يأتيه جميع الأمم يقولون: تعالوا نطلع إلى جبل الرّبّ"4. وذلك كله صفة البيت العتيق وجبل عرفة. فإن زعم أهل الكتاب أن ذلك بيت المقدس لم يصحّ قوله: "إن ذلك إنما يكون في آخر الأيام". وبيت المقدس قد كان موجوداً معظماً في زمن ميخاً قائل هذه النبوءة. والنبيّ إنما يتنبأ على شيء لم يأت ولا يتنبأ على ما هو حاضر عنده. -[البشرى] 5 الثّالثة والخمسون: قال حبقوق وسمى محمّد رسول الله مرّتين في نبوته: "إن الله جاء من التيمان. والقدوس / (2/118/ب) من جبل فاران. لقد أضاءت السماء من بهاء محمّد. وامتلأت الأرض من حمده. شعاع منظره مثل النور. يحوط بلاده بعزّة. تسير المنايا أمامه. وتصحب سباع الطير أجناده. قام فمسح الأرض فتضعضعت له الجبال
القديمة. وانخفضت الروابي. وتزعزعت ستور أهل مدين. ولقد حاز المساعي القديمة - ثم قال: زجرك في الأنهار واحتدام أصواتك في البحار. وركبت الخيول. وعلوت مراكب الإنقاذ. وستترع في قسيك إغراقاً وترعاً. وترتوي السهام بأمرك يا محمّد ارتواء. ولقد رأتك الجبال فارتاعت. وانحرف عنك شؤبوب1 السيل. ونعرت2 المهاري نعيراً ورعباً. ورفعت أيديها وجَلا وخوفاً. وسارت العساكر في بريق سهامك ولمعان نيازكك3. تدوخ الأرض غضباً وتدوس الأمم زجراً. لأنك ظهرت بخلاص أمتك وإنقاذ تراث آبائك"4. اعلم أنه من رام صرف نبوة حبقوق هذه عن محمّد صلى الله عليه وسلم فقد رام ستر النهار وحبس الأنهار. وأنّى يقدر/ (2/119/أ) على ذلك وقد سماه باسمه مرّتين وأخبره بقوة أمته وسير المنايا أمامهم واتباع جوارح الطير آثارهم. وهذه النبوة لا تليق إلاّ بمحمّد ولا تصلح إلاّ له ولا تنَزَّل إلاّ عليه فمن حاول صرفها عنه فقد حاول ممتنعاً. -[البشرى] 5 الرّابعة والخمسون: قال صفنيا النبي عليه السلام وتنبأ على كلمة التوحيد هي شهادة أن لا إله إلاّ الله: "أيّها الإنس تَرجوا اليوم الذي أقوم فيه للشهادة. فقد حان أن أُظهر
حكمي لحشر الأمم كلها. هنالك أجدد لهم اللغة المختارة ليعلنوا باسم الرّبّ جميعاً ويعبدوه في ربقة واحدة. ويأتون بالذبائح في تلك الأيام من معابر أنهار كوش"1. واللغة المختارة هي لغة العرب. وهي التي طبقت الأرض وملأت الدنيا وتكلم غير أهلها وهجروا لغاتهم لخفتها. ومعابر أنها ركوش هي نواحي اليمن والحجاز، وهي التي تساق منها الأغنام والهدي إلى بيت الله الحرام. فمن ظن أن (كوش) تحمل أغنامه وذبائحه إلى الشام وبيت المقدس فقد ظنّ عجزاً. -[البشرى] 2 الخامسة والخمسون: (2/119/ب) قال زكريا النبيّ وتنبأ أيضاً على جمع كلمة التوحيد وصيرورة الدين ديناً واحداً: "أنه يكون الرّبّ يومئذٍ ربّاً واحداً ويكون اسمه اسماً واحداً"3. وقد صار الأمر كذلك بمحمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم، شرقاً وغرباً فجنوباً وشمالاً، فمن شَذَّ عن ذلك فإلى النار. -[البشرى] 4 السّادسة والخمسون: قال زكريا أيضاً: "وفي ذلك اليوم يكون اسم الرّبّ القدوس على كلّ شيء حتى على لجام الفرس"5. فقد تمت هذه النبوة ببعثة محمّد صلى الله عليه وسلم. وصار اسم الله على كلّ شيء من ثوب
ودار وسلاح وذهب وفضة وغير ذلك. وذلك شيء لم يكن يعرف قبل بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم. -[البشرى] 1 السّابعة والخمسون: قال أرميا النّبيّ عليه السلام وخاطب بها محمّداً صلى الله عليهما حاكياً عن الله: "من قبل أن أصورك في الرحم عرفتك. ومن قبل أن تخرج من الرحم قدستك وجعلتك نبيّاً للأمم. لأنك بكل ما آمرك تصدع2. وإلى كلّ من أرسلتك تتوجه. وأنا معك لخلاصك يقول الرّبّ: / (2/120/أ) أفرغت كلامي في فمك إفراغاً. فانظر فقد سلطتك اليوم على الأمم والممالك لتنسف وتهدم وتبتر وتسحق وتغرس وتبني ما رأيت"3. قال المؤلِّف: قول أرميا: "أفرغت كلامي في فمك إفراغاً"، نظير لقول الله تعالى في التوراة: "أجعل كلامي في فمه"4. يعني النبيّ عليه السلام. وهذه نبوات متضافرة ودلالات متظاهرة. فسبحان من بخس اليهود والنصارى حظهم من الإيمان بها والتمسك بسببها. -[البشرى] 5 الثّامنة والخمسون: قال أرميا أيضاً وتنبأ على نصر الأمة المحمّدية على اليهود والنصارى وغيرهم: "إني مُهيِّج عليكم يا بني إسرائيل من البعد أمة عزيزة أمة قديمة. أمة
لا تفقهون لسانها وكلّها مجرب جبار"1. فهذه هي الأمة الحنيفية العربية التي سلطها الله على كلّ من كفر به وعبد معه عجلاً ووثناً. واتّخذ من دونه آلهة أخرى. وقد صدق الله في خبره ووفى بقوله سبحانه تعالى. -[البشرى] 2 التّاسعة والخمسون: وقال أرميا متنبئاً على أمة محمّد صلى الله عليه وسلم: "إني جاعل شريعتي في / (2/120/ب) أفواههم وأكتبها في قلوبهم، وأكون لهم إلهاً ويكونون لي شعباً. ولا يحتاج الرحل أن يتعلم من غيره الدين والملة ومعرفة الله. بل يصير الكلّ عارفين بالله صغيرهم وكبيرهم, وأنا أغفر حينئذٍ ذنوبهم ولا أقرعهم بخطاياهم"3. هذه النّبوة الجليلة القدر شاهدة بأن هذه الأمة هي أمة الله. وأن هذا الشعب الطاهر شعبه، وكفى بذلك فضلاً وشرفاً. فلا نعلم أمة تقرأ كتاب ربّها عن ظهر قلب المَلِك إلى الأتوني سوى هذه الأمة المحمدّية. فأما من عداها من الأمم فإنما يقرؤون من الصحف ويسمعون من غيرهم. -[البشرى] السّتّون: قال أرميا أيضاً وتنبأ على إزالة ملك الفرس وهلاك فارس بالمسلمين من أمة محمّد صلى الله عليه وسلم: "يقول الرّبّ: إني كاسر قوس4 [عيلم] 5 رأس عزّهم وجبروتهم
وإني أغري بعيلم أربعة رياح من أربع جهات السماء، وأبدد أهلها في تلك الجهات، وأفض عيلم قدام أعدائهم فضّاً. وأفُلُّهم قدام طالبي أنفسهم فلاًّ, وأنْزل عليهم البلاء والرجز / (2/121/أ) الأليم حتّى أفنيهم ثم أنصب كرسي بعيلم، وأبيد من هناك من الملوك"1. عيلم هي العراق. والملوك الذين كانوا بها هم ملوك الفرس ونزوله تعالى (بعيلم) هو نزول الأمة المحمّدية التي ذكر في النبوة المتقدمة أنها شعبه وأمته، ونصب كرسيه بها هو إقامة الخلفاء من أهل بيته بها وبناؤهم بها المساجد والجوامع والمدارس لإقراء كلامه وسنن رسله، ولا خفاء أن ذلك كلّه لم يتحقق إلاّ بمحمّد وأمته. -[البشرى] 2 [الحادية] 3 والسّتّون: قال أرميا وشافه بها محمّداً رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعد آلات الحرب فإني أُبدد بك الشعوب، وأبدد بك الخيل وفرسانها والمراكب وركبانها، وأبدد بك الطغاة لتجازي الكذابين بأوزارهم التي ارتكبوها. هذا قول الرّبّ"4. فقد صدق الله ورسله، وبدّد برسول الله صلى الله عليه وسلم شعوب المشركين وخيلها وفرسانها ومراكبها وركبانها وانتقم به وبأمته من الكذابين من الفرس والديلم والروم وأهل الكتاب، فكذب الفرس أنهم / (2/121/ب) أناطوا الألوهية والربوبية بالنار. واليهود أنهم قذفوا أنبياءهم وحكموا بأن معبودهم جسم من الأجسام. وكذب النصارى لاعتقادهم أن ربّهم الذي خلقهم ورزقهم هو رجل من بني آدم. وكذب اليهود
إناطتهم الربوبية بالأنداد من الحجارة والخشب، وكذب الصائبة وغيرهم إناطتهم الربوبية بالكواكب ونجوم السماء، فسلط الله عليهم رسوله محمّداً صلى الله عليه وسلم، فأباد1 أبدادهم وأخمد نيرانهم وكسر صلبانهم ومحق أوثانهم وأفنى فرسانهم. -[البشرى] 2 الثّانية والسّتّون: قال حزقيال النبيّ متنبئاً على هذه الأمة العربية المحمّدية: "إن كرمة أخرجت ثمارها وأغصانها، فأشرفت على الأكابر والسادات، وارتفعت وبسقت أفنانها، فلم تلبث تلك الكرمة أن قلعت3 بالسخط ورمي بها على الأرض فأكلتها. فعند ذلك غرس4 غرس في البدو وفي الأرض المهملة المعطلة / (2/122/أ) العطشى وخرجت من أغصانه فأكلت تلك حتى لم يوجد فيها [عصا] 5 قوية ولا قضيب بأمر السلطان"6. يريد بالغرس الأوّل: ملل النصارى واليهود وسائر الطوائف. وكيف سخط الله عليهم وأباد جموعهم واجتثت أصولهم وفروعهم. ويريد بالغرس الجديد الذي غرسه في البدو والأرض العطشى هذه الأمة الغريبة والشريعة المحمّدية
واستيلاءها على ممالك من تقدم حتى لم يدع لها عزّاً ولا سلطاناً إلاّ احتوت عليه وأكلته وهذه نبوءة واضحة وبشارة صادقة. -[البشرى] 1 الثّالثة والسّتّون: وقال حزقيال أيضاً وهو يتهدد اليهود ويصف أمة محمّد صلى الله عليه وسلم: "وأن الله مظهرهم عليكم وباعث فيهم نبيّاً، ومنَزِّل عليهم كتاباً. ومملكهم رقابكم فيقهرونكم ويذلونكم بالحقّ، وتخرج رجال بني قيدار في جماعات الشعوب، معهم ملائكة على خيل بيض متسلحين فيحيطون بكم، وتكون عاقبتكم إلى النار"2. نعوذ بالله من النار. -[البشرى] 3 الرّابعة والسّتّون: / (2/122/ب) قال دانيال النبيّ عليه السلام وذكر محمّداً رسول الله صلى الله عليه وسلم باسمه فقال: "ستنْزع في قسي إغراقاً، ترتوي السهام بأمرك يا محمّد ارتواء"4. فهذا تصريح بغير تعريض وتصحيح ليس فيه تمريض. فإن نازع في ذلك منازع فليوجد لنا] 5 آخر اسمه محمّد له سهام تنْزع. وأمر مطاع لا يدفع.
-[البشرى] 1 الخامسة والسّتّون: قال دانيال عليه السلام: "طوبى لمن أدرك أيام الألف والثّلاثمائة والخمسة والثّلاثين"2. وقد اعتبر العلماء العارفون بأيام الناس وتواريخهم فلم يجدوا ذلك ينْزل على واقعة بعد أيام دانيال سوى عدد من كان من المسلمين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عام الحديبية وهي مقدمات الفتح3. -[البشرى] 4 السّادسة والسّتّون: قال دانيال النبيّ عليه السلام حين سأله بختنصر عن تأويل رؤيا رآها ثم نسيها: "رأيت أيّها الملك صنماً عظيماً قائماً بين يديك رأسه من ذهب، وساعداه من الفضة. وبطنه وفخذاه من الناس وساقاه من حديد، ورجلاه من خزف،
ورأيت حجراً لم يقطعه يد إنسان قد جاء وصَكَّ / (2/123/أ) ذلك الصنم فتفتت وتلاشى وعاد رفاتاً. ثم نسفته الريح فذهب وتحوّل ذلك الحجر فصار جبلاً عظيماً حتى ملأ الأرض كلّها. هذا ما رأيت أيّها الملك. فقال بختنصر: "صدقت. فما تأويلها؟ ". قال دانيال: "أنت الرأس الذي رأيته من الذهب. ويقوم بعدك ولداك اللذان رأيت من الفضة وهم دونك. ويقوم بعدهما مملكة أخرى وهي دونهما وهي التي تشبه النحاس. والمملكة الرّابعة تكون قوية مثل الحديد الذي يدق كلّ شيء. فأما الرجلان التي رأيت من خزف فمملكة ضعيفة وكلمتها مشتتة. وأما الحجر الذي رأيت قد صَكَّ ذلك الصنم العظيم ففتته فهو نبيّ يقيمه الله إله السماء والأرض من قبيلة شريفة قوية، فيدق جميع ملوك الأرض وأممها حتى تمتلئ منه الأرض ومن أمته. ويدوم سلطان ذلك النبيّ إلى انقضاء الدنيا. فهذا تعبير رؤياك أيّها الملك"1. فقد أخبر دانيال عن الله تعالى أن2 نبيّنا هو خاتم الأنبياء ودولته خاتمة الدول. وصدق بنبوته هذه جميع النبوات الواردة في رسول الله صلى الله عليه وسلم3.
-[البشرى] 1 السّابعة والسّتّون: / (2/123/ب) قال دانيال النبيّ أيضاً: "رأيت في نومي كأن الرياح الأربع قد هاجت وتموج بها البحر. واعتلج اعتلاجاً شديداً. ثم صعد منه أربع حيوانات عظام مختلفة الصور؛ الأوّل مثل الأسد وله أجنحة نسر. والحيوان الثاني مثل الدّبّ وفي فمه ثلاثة أضلاع، وسمعت قائلاً يقول له: قم فكل من اللحم واستكثر منه. والحيوان الثالث مثل النمر. وفي جبينه أربعة أجنحة من حديد عظام فهو يأكل ويدق برجليه ما بقي. ورأيته مخالفاً لتلك الحيوانات وكانت له عشرة قرون فلم يلبث أن نجم له قرن صغير من بين تلك القرون ثم صار لذلك القرن عيون، ثم عظم القرن الصغير جداً أكثر من سائر القرون، فسمعته يتكلم كلاماً عجيباً وكان ينازع القديسين ويقاوهم. قال دانيال: فقال لي الرّبّ: تأويل الحيوان الرابع مملكة رابعة تكون في آخر الممالك وهي أفضلها وأجلها تستولي على جميع الممالك وتدوسها وتدقها وتأكلها / (2/124/أ) رغداً"2. فقد شهد دانيال النبيّ عليه السلام وأخبر عن الله أن أمتنا هي الدائمة إلى الأبد. وأن ملتنا هي التي لا يقاومها أحد. وهي التي كانت أكلت الأمم ودقتها وداستها واستولت عليها بإذن الله. ووعده الحقّ وخبره الصدق. فهل يبقى بيان أبين من الله تعالى على ألسن أنبيائه الأطهار؟ وقد3 قال من فسر كتب أهل الكتاب: "إن الحيوان الأوّل هو
دولة أهل بابل. والحيوان الثاني دولة أهل الماهين1. والحيوان الثالث دولة الفرس، والحيوان الرابع دولة العرب. وفي ذلك تصديق قول الله في التوراة لإبراهيم عليه السلام: "إني أبارك إسماعيل ولدك وأعظمه جدّاً جِدّاً2 ومن تولى الله تعالى تعظيمه وتفخيمه وبركته كيف لا يكون كذلك؟ !!. -[البشرى] 3 الثّامنة والسّتّون: قال دانيال: "سألت الله وتضرعت إليه أن يبيّن لي ما يكون من بني إسرائيل، وهل يتوب عليهم ويرد إليهم ملكهم ويبعث فيهم الأنبياء أو يجعل ذلك في غيرهم؟ قال دانيال / (2/124/ب) عليه السلام: "فظهر لي الملك في صورة شاب حسن الوجه فقال: السلام عليك يا دانيال إن الله يقول: إن4 بني إسرائيل أغضبوني وتمردوا عليَّ وعبدوا من دوني آلهة أخرى. فصاروا من بعد العلم إلى الجهل ومن بعد الصدق إلى الكذب. فسلطت عليهم بختنصر فقتل رجالهم وسبي ذراريهم وهدم بيت مقدسهم وحرق كتبهم وكذلك فعل من بعده بهم. وأنا غير راضٍ ولا مقيلهم عثرتهم. فلا يزالون في سخطي حتى أبعث مسيحي ابن العذراء البتول فأختم عليهم عند ذلك باللعن والسخط فلا يزالون ملعونين، عليهم الذلة والمسكنة، حتى أبعث نبيّ بني إسرائيل الذي بشرت به هاجر وأرسلت إليها ملاكي فبشرتها، فأوحي إلى ذلك النبيّ وأعلمه الأسماء، وأزينه بالتقوى. وأجعل البر شعاره. والتقوى ضميره. والصدق قوله. والوفاء طبيعته. والقصد سيرته. والرشد سنته. أخصه بكتابٍ مصدق لما بين يديه من الكتب وناسخ لبعض ما فيها، أسري / (2/125/أ) به إليّ، وأرقيه من سماء
إلى سماء، حتّى يعلو فأُدنيه وأُسلِّم عليه وأوحي إليه ثم أرده1 إلى عبادي بالسرور والغبطة، حافظاً لما استودع، صادعاً بما أمر، يدعو إلى توحيدي باللين من القول والموعظة الحسنة. لا فظّ ولا غليظ. ولا صخاب في الأسواق، رؤوف بمن والاه، رحيم بمن آمن به، خشن على من عاداه، فيدعو قومه إلى توحيدي وعبادتي، ويخبرهم بما رآى من آياتي فيكذبونه ويؤذونه - قال المؤلِّف - ثم سرد دانيال قصة رسول الله صلى الله عليه وسلم حرفاً حرفاً مما أملاه عليه الملك حتى وصل آخر أيام أمته بالنفخة وانقضاء الدنيا"2. ونبوته كبيرة وهي الآن في أيدي النصارى واليهود يقرؤونها. وفيها ما وصفنا من إشادة الله بذكر هذه الأمة وذكر نبيّها واتصال مملكتهم بالقيامة. ولكن الحسد وفساد المربي صار قتّار عن السعادة والله الموفّق. -[البشرى] 3 التّاسعة والسّتّون: قال يوحنا الإنجيلي: قال يسوع المسيح في الفصل الخامس عشر / (2/125/ب) من إنجيله: "إن الفارقليط روح الحقّ الذي يرسله أبي هو يعلمكم كلّ شيء"4.
(فالفارقليط) هو: محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله بعد المسيح، وهو الذي علّم الناس كلّ شيء، قال يهودي لرجل من الصحابة1: علمكم نبيّكم كلّ شيء حتى الخراة؟ فقال أجل: "لقد نهى أن يستقبل أحدنا القبلة ببول أو غائط"2. وقد سماه المسيح (روح الحقّ) وذلك غاية المدحة وأعلى درجات المنحة. واعلم أن النصارى اختلفوا في تفسير لفظة الفارقليط على أقوال: فقيل: إنه (الحماد) . وقيل: (الحامد) . وقيل: (المعز) . وأكثر النصارى على أنه (المخلًِّص) . فإن فرّعنا عليه فلا خفاء بكون محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم مخلِّصاً للناس من الكفر والمعاصي والجهل. ومنقذهم من دركات الهلاك بإرشادهم إلى توحيد الله وعبادته. قال عليه السلام: "إني آخذ بحجركم وأنتم تقحمون في النار"3. وبذلك سمّى المسيح نفسه في الإنجيل؛ إذ قال: "إني لم آت لأدين العالم بل لأخلّص العالم"4. والنصارى يقرؤون في صلاتهم: "يا والدة الإله لقد ولدتي لنا / (2/126/أ) مخلّصاً". وإذا كان المسيح مخلّصاً لا بدّ من مخلص آخر لأمته. فأما على بقية الأقوال، فليس لفظ أقرب إلى محمّد من الحامد والحماد. فقد وضح أن
(الفارقليط) هو: محمّد عليه السلام1. -[البشرى] 2 السّبعون:
قال يوحنا التلميذ أيضاً لتلاميذه: "إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي وأنا أطلب من الأب أن يعطيكم فارقليطاً آخر يثبت معكم إلى الأبد. روح الحقّ الذي لم يطق العالم أن يقبلوه؛ لأنهم لم يعرفوه. ولست أدعكم أيتاماً لأني سآتيكم عن قريب"1. قد نقلنا تفسيرهم (للفارقليط) وأنه على صحيح أقوالهم: (المُخلِّص) وقد ذكر المسيح أنه لا بدّ من (فارقليط) آخر يثب إلى الأبد. وثبوت النبي إلى الأبد ممتنع. فلم يبق إلاّ حمل الكلام على الشريعة التي جاء بها النبيّ. وهذه شريعة نبيّنا صلى الله عليه وسلم باقية على أس قويم ومنهج من الحقّ مستقيم. لا تنقض بوفاقه ولا تنقرض ولا يتخلل الخلل خلالها ولا يعترض. وذلك نظير قوله تعالى: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّين} . [سورة الأحزاب، الآية: 41] . وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا نبي بعدي"2. فالنصارى في ذلك بين أمرين: وهو إما أن يقولوا: إنه محمّد رسول الله، / (2/126/ب) وإما أن يقولوا: إن المسيح أخلف قوله ولم يفِ بوعده وتركهم أيتاماً بغير نبيّ يتكفل بأمورهم ولم يأتهم عن قريب كما وعد، بل إنما أراد أن هذا النبيّ المخلص هو الذي يأتيهم عن قريب، ولم أر أحداً من النصارى يحسن تحقيق مجيء هذا (الفارقليط) الموعود به. إذ بعضم يزعم أنه ألسن نارية نزلت من السماء على التلاميذ3 ففعلوا الآيات والعجائب. وذلك خلاف ما أخبر به المسيح؛ إذ المسيح ذكر (فارقليطاً) آخر. وذلك يشير إلى أوّل تقدم لهم. وهذه الألسن لم يتقدم محيؤها ولم تعرف أوّلاً. ثم ذلك كذب من قائله؛ إذ سِير التلاميذ تشهد بأنهم بعد المسيح امتهنوا تقتيلاً وعذبوا بأنواع
العذاب. وذلك تكذيب لمن زعم أنه نزل عليهم من السماء ألسن من نار تؤيدهم على أعدائهم. ثم المسيح يقول: إن هذا (الفارقليط) الآخر يأتي بعده ويدوم مع الناس إلى الأبد ويعلّم الخلائق كلّ شيء. وأنه قد سمي روح الحقّ. فكيف تقول النصارى إنه هو هذا الذي يزعمون أنه ألسنة من نار نزلت ثم انقضت ومضت ولم تدم إلى الأبد ولم تعلّم أحداً شيئاً؟!. / (2/127/أ) ، هل هذا إلاّ جهل من قائله، وحمل لكلام الأنبياء والرسل على الخلف والكذب؟! فقد وضح أن هذا الموعود به على لسان المسيح إنما هو محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد وصفه المسيح: "بأنه لم يطق العالم أن يقبلوه؛ لأنهم لم يعرفوه". يريد أنه يأتي في زمن الغالب على أهله عبادة الأوثان وتعظيم الصلبان وسجر النيران. قد نبتت على ذلك أجسادهم وثبتت عليه آباؤهم وأجدادهم فما راعهم إلاّ رسول قد جاءهم من التوحيد بما لم يعرفوه. وهاجم جمعهم بفطم1 ما ألفوه فقالوا ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين2. وقالوا: أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب3. فلذلك لم يقبلوه والنبيّ على الحقيقة لا يعرفه إلاّ من فاض عليه من فيضه. وارتاض في فسيح روضه. -[البشرى] 4 [الحادية] 5 والسّبعون: قال يوحنا: "قال المسيح: من يحبني يحفظ كلمتي، وأبي يحبه وإليه نأتي،
وعنده نتخذ المنْزل، كلمتكم بهذا لأتي عندكم مقيم، والفارقليط روح القدس الذي يرسله أبي هو يعلمكم كلّ شيء / (2/127/ب) وهو يذكركم كلّ ما قلت لكم، أستودعكم سلامي لا تقلق قلوبكم ولا تجزع فإني منطلق وعائد إليكم، لو كنتم تحبونني كنتم تفرحون بمضيي إلى الأب. فإن أنتم ثبتم فيّ ثبت كلامي فيكم كان لكم كلّ ما تريدون وبهذا يمجد أبي"1. وقد شهد المسيح عليه السلام بأن محمّدا هو (روح القدس) 2. كما شهد أوّلاً بأنه روح الله، وأن الله أرسله، وأنه يعلم الناس كلّ ما يحتاجونه إليه من أمر معاشهم ومعادهم، وأخبر تلاميذه أنهم إن ثبتوا على وصيته في تعظيم أمر هذا المخلّص الثاني والتزام أوامره واجتناب نواهيه والحثّ على اتباعه كان لهم ما أرادوا. نظير ذلك من الكتاب العزيز قوله تعالى: {وَلَو أَنَّ أَهْلَ الكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوا لَكَفَّرْنَا عَنْهُم سَيِّئَاتِهِم وَلأَدْخَلْنَاهُم جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَلَوْ أَنَّهُم أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِم لأَكَلُوا مِن فَوْقِهِم وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} . [سورة المائدة، الآية: 65-66] . قال المؤلِّف: إنه لما قربت مدة المسيح وانتهاء مقامه في الأرض ودنا رفعه منها حمَّل أصحابه هذه الأمانة ليؤدوها إلى من بعدهم. / (2/128/أ) وكذلك فعل سائر الأنبياء والرسل كما نقلنا عنهم. ولهم في ذلك مقاصد:
أحدها: أن يقوموا لله تعالى بما وجب من حقّه في تعظيم من عظَّم من أهل صفوته، فقد قال الله تعالى في التوراة لإبراهيم: "إني سأعظّمه جدّاً جِدّاً"1. قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُم رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُم لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} . [سورة آل عمران، الآية: 81] . والثّاني: أن يحصلوا لأممهم أجرين: أجر الإيمان بنبيّ حاضر ونبيّ كريم مرتقب ودليله قوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتّين - وذكر منهم - رجلاً من أهل الكتاب آمن بنبيّه ثم أدركه وآمن به"2. والثّالث: دفع الشكوك عن ضعفاء أتباع هذا النبيّ فإنه اتصل بهم أن الأنبياء من المتقدمين قد تنبؤا عليه وذكروه باسمه ووصفوا بلده وأرضه وقومه وميزته زالت عنهم عوارض الشكوك فأثبتوا فيهم. لذلك قال الله تعالى في محكم كتابه: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُم فِي التَّورَاةِ وَالإِنْجِيلِ} . [سورة الأعراف، الآية: 157] . وعزّ من قائل: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ3 وَمُوسَى} . [سورة الأعلى، الآية: 18-19] . وقال سبحانه: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} . [سورة الشعراء، الآية: 196] .
-[البشرى] 1 الثّانية والسّبعون: قال المسيح وتنبأ بذلك على شهادة الرسول له بالنبوة والرسالة وتكذيب اليهود فيما رموه به من الكذب والزور ونسبوه إلى أمه الطاهرة من الفجور. قال فيما حكاه يوحنا عنه: "إذا جاء الفارقليط الذي أبي أرسله، روح الحقّ الذي من أبي هو يشهد لي، قلت لكم هذا حتّى إذا كان تؤمنوا به ولا تشكوا فيه"2. تدبّروا - أتَمَّ الله علينا وعليكم نعمة الإسلام ووفّقنا وإيّاكم لشكر متابعته عليه السلام - ما اشتملت عليه فصول (الفارقليط) من الإفصاح بشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم. واعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد شهد للمسيح في غير موضع من الكتاب العزيز بالنبوة والرسالة وصدقه فيما جاء به من عند الله كقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} . [سورة المؤمنون، الآية: 50] . وقوله تعالى: {إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} . [سورة النساء، الآية: 171] . وقد أكذب اليهود في فريتهم على المسيح وعلى أمه إذ نسبوه إلى بنوة الزنا. وقالوا: إن به شيطاناً يتخبطه ويغويه. / (2/129/أ) وزعموا أن (بعل زبول) رئيس الشياطين هو الذي يعينه على الآيات والعجائب كما شهد بذلك الإنجيل. فلهذا استشهد المسيح بمحمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "روح الحقّ الذي أبي أرسله هو يشهد لي". وقول المسيح هذا يشعر بتقدم رسالة محمّد
رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن المسيح عليه السلام ذكر ذلك بلفظ الماضي فقال: "الله أرسله"، ولم يقل: (إنه يرسله) . ويؤيدّ ذلك قول محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وقد سئل: متى وجبت لك النبوة؟ فقال عليه السلام: كنت نبيّاً وإن آدم لمنجدل في طينته"1. وقول المسيح للتلاميذ: "ذكرت لكم هذا قبل أن يكون حتى إذا كان لا تشكوا". تحريض لهم على متابعته والمسارعة إلى متابعته. والكلام وإن كان مع من كان حاضراً من التلاميذ، والمطلوب منه ما قدمناه من المقاصد الثلاث. وقد روي أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك بعض الحواريين وهو سلمان الفارسي ويوصيه ذلك الحواري: / (2/129/ب) "أسلم سلمان2. ولا جرم أن طائفة من
النصارى عند مبعثه ابتدرت إلى الإيمان كنصارى نجران1. وإلى هلم جرا الداخلون في دين محمّد صلى الله عليه وسلم من النصارى واليهود أكثر من الخارجين منه. فما يحصى2 من أسلم منهم من علمائهم وصنفوا الكتب في معائب ما كانوا عليه ومحاسن ما صاروا إليه. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. وحقَّ القول على آخرين فلم يستنيروا بنور الهدى. وصدف بهم عن وصايا3 المسيح ما حقّ عليهم من الارتكاس في مهاوي الرّدى. فهم المرادون بقول الكتاب العزيز: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيهِ كَلِمَةُ العَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} . [سورة الزمر، الآية: 19] . ويقول أشعيا النبيّ عليه السلام: "عرف الثور والحمار ربّه وجهل ذلك بنو إسرائيل"4. ولقد بَكَّتهم بطرس صاحب المسيح في الفصل الثالث من رسالته الثانية فقال: "لقد كان خيراً لهم ألا يعرفوا طريق الحقّ من أن يعرفوه ثم ينصرفون إلى خلافه ولنوكهم الظاهره أنالتهم الأمثال الصادقة القائلة، إنهم كالكلب العائد في قيئه والخنْزير الذي اغتسل ثم تمرغ / (2/130/أ) في الحمأة"5.
-[البشرى] 1 الثّالثة والسّبعون: قال المسيح فيما رواه يوحنا أيضاً: "إن خيراً لكم أن أنطلق لأني إن لم أذهب لم يأتكم الفارقليط؛ فإذا انطلقت أرسلته إليكم، فإذا جاء فهو يوبخ العالم على الخطيئة، وإن لي كلاماً كثيراً أريد قوله ولكنكم لا تستطيعون حمله. لكن إذا جاء روح الحقّ ذاك الذي يرشدكم إلى جميع الحقّ. لأنه ليس ينطق من عنده بل يتكلم بما يسمع. ويخبركم بكلّ ما يأتي. ويعرفكم جميع ما للأب"2. قال المؤلِّف: في هذا الفصل عدة معاني فليتدبرها اللبيب: منها: أن المسيح عليه السلام اعترف بأن هذا (الفارقليط) الآتي أفضل منه؛ إذ قال: "إن الخيرة لهم في انطلاقه ومجيء الفارقليط الآخر". ومنها: قوله: "فإذا انطلقت أرسلته". وهذا صحيح المعنى من حيث إن مجيء المصطفى موقوف على ذهاب المسيح. ومنها أنه أخبر: "أن هذا الآتي هو الذي يوبخ العالم على الخطيئة". وقد فعل ذلك رسول الله ووبخ العالم على خطاياهم، المجوس على عبادة النار، ووبخ اليهود على عبادة عزير والعجل، ووبخ النصارى على عبادة / (2/130/ب) الثالوث، ووبخ الصابئة على عبادة الكواكب، ووبخ كفار العرب والهنود على عبادة الأصنام والأنداد، فكان أمره في ذلك مصحِّحاً لما نطق به المسيح من أنه إذا جاء عليه السلام وبّخ الأمم على الخطيئة. ومنها: أن المسيح أخبر أن هذا (الفارقليط) الآخر الآتي: "هو الذي يخبرنا بكلّ ما يأتي، ويعرفنا كلّ شيء للأب". وهذه حال محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن أبوا
ذلك فليخبرونا مَنْ هو الذي جاء مخلِّصاً (فارقليط) آخر بعد المسيح فوبخ العالم على الخطيئة. وأرشد الخلق إلى عبادة الله وطاعته، وحذرهم من عصيانه ووبال مخالفته، وعرفهم ما لله تعالى عليهم من الحقوق في أنفسهم وأموالهم، ودامت شريعته واستمرت مع الناس إلى الأبد؟!. وقد قال المسيح في الفصل الأوّل: "إن هذا الرجل الآتي بعده يعلم الناس كلّ شيء، وأنه يدوم معهم إلى الأبد. [فليوجدوا لنا] 1 ذلك وإلاّ فليكذبوا قول المسيح هذا ويردوا2 صحّته. فقد دار أمرهم فيه بين الإسلام أو تكذيب المسيح في خبره. فإن رجعوا القهقرى وزعموا / (2/131/أ) أنها الألسن النارية التي يزعمون أنها نزلت من السماء على التلاميذ وانقضت ومضت. قلنا: الويل لكم. ألم يقل المسيح: "إن هذا الفارقليط شيء واحد". فكيف يقولون: إنها عدة وجماعة نزلت؟!. وقال: "إنه يدوم إلى الأبد عندكم". فكيف تزعمون أنه أقام أياماً قلائل ثم ذهب؟! 3. لقد كاد الله هذه العقول وحاد بها عن سواء السبيل. وفي هذا الفصل من كلام المسيح4 دلالة على أن كلّ ما ينطق به محمّد صلى الله عليه وسلم من آية مبرورة وسنة مأثورة وموعظة وأدب ونهي وطلب فهو متلقى بالقبول. إذ يقول: "إنه لا يتكلم من عنده بل بما يسمع". نظيره قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} . [سورة النجم، الآية:3-4] . - البشرى الرّابعة والسّبعون: قال المسيح فيما حكاه يوحنا التلميذ عنه: "قالت امرأة من أولاد يعقوب
للمسيح: يا سيد آباؤنا سجدوا في هذا الجبل وأنتم تقولون إنه أورشليم؟ فقال المسيح: يا هذه آمني فإنه ستأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم يسجدون / (2/131/ب) للأب"1. قال المؤلِّف: وهذا القول من المسيح عليه السلام تنويه بأمر الكعبة. فإن التوجه إليها على يد محمّد صلى الله عليه وسلم نسخ ما عداها. وصار السجود لله تعالى لا في أورشليم ولا في غيرها بل إلى جهة الكعبة لا غير2. -[البشرى] 3 الخامسة والسّبعون: قال المسيح لمن حضره: "الحقّ أقول لكم إنه سيأتي قوم من المشرق والمغرب فيتكئون مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب. وتخرج بنو الملكوت إلى الظلمة البرّانية خارجاً. هنالك يكون البكاء وصرير الأسنان"4. قال المؤلِّف: وذلك القول من المسيح تنويه بأمة محمّد إذ ليسوا من الذين خاطبهم المسيح بهذا الكلام، فهم الذين يكونون في رفقة إبراهيم وإسحاق ويعقوب. قال الله تعالى: {إِنَّ أَولَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ والَّذِينَ آمَنُوا والله وَلِيُّ المُؤْمِنِينَ} . [سورة آل عمران، الآية: 68] .
-[البشرى] 1 السّادسة والسّبعون: قال متى التلميذ: "سأل التلاميذ المسيح فقالوا: يا معلم لماذا تقول الكتبة إن إلياء يأتي؟ فقال عليه السلام: إن إلياء يأتي ويعلمكم كلّ شيء. وأقول لكم: إن إلياء قدجاء فلم يعرفوه بل فعلوا/ (2/132/أ) به كالذي أرادوا"2. وقد فسروا إليا بأنه نبيّ. وقد ذكر: "إن إلياء قد أتى ولم يعرفوا قدره". فلا بدَّ من الوفاء بقول المسيح إن إلياء يأتي ويعلم الناس كلّ شيء. ولم يأتِ بعد المسيح من علَّم الناس كلّ شيء من أمر الدنيا والآخرة سوى محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم. -[البشرى] 3 السّابعة والسّبعون: قال يوحنا الحواري: "قال المسيح إن أركون العالم سيأتي وليس لي شيء"4. قال المؤلِّف: (الأركون) بلغته العظيم القدر. و (الأراكنة) هم العظماء. وقد قال أشعيا في وصف محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أركون السلام"5. يعني: عظيم الخير والبر. وقال المسيح عليه السلام: "إن أركون العالم يدان"6. يشير إلى السلطان الظالم، والإدانة هي شدّة المحاسبة. فقول المسيح: "إن أركون العالم سيأتي وليس لي شيء". يريد أن: (الفارقليط) الذي قدمنا ذكره يأتي ويستولي على سائر الملك وينسخ كلّ شرع فلا يبقى مع شرعه شرع معتبر ولا حكم مقرر.
-[البشرى] 1 الثّامنة والسّبعون: قال يحيى بن زكريا - عليهم السلام - لأصحابه: "إن الذي يأتي من بعدي / (2/132/ب) هو أقوى مني وأنا لا أستحق [أحل معقد] 2 خفه"3. وما ذلك إلاّ محمّد عليه السلام. ولا يليق أن يكون المسيح أصلاً؛ لأن المسيح جاء مع يحيى لا بعده4. فيحيى أكبر منه بستة أشهر لا غير كما نطق به الإنجيل5. -[البشرى] 6 التّاسعة والسّبعون: قال متى التلميذ: "قال المسيح: ألم تقرؤوا أن الحجر الذي أرذله البناؤن صار رأساً للزاوية من عند الله7 كان هذا. وهو عجيب في أعيننا ومن أجل ذلك أقول لكم: إن ملكوت الله ستؤخذ منكم وتدفع إلى أمة أخرى تأكل ثمرتها. ومن سقط على هذا الحجر يتشدخ. وكلّ من سقط عليه يمحقه"8. فليت شعري من هذه الأمة التي دفعت لها ملكوت الله فأكلت ثمرتها بعد المسيح غير أمة محمّد؟! ومَن هو هذا الذي كلّ من غزاه انشدخ، وكلّ مَن تولى هو غزوه وقتاله محقه سوى محمّد صلى الله عليه وسلم وأمته؟!.
فإن زعم النصارى أنه عني بالحجر نفسه. قلنا لهم: ما هكذا أخبرتمونا عنه، بل الذي حكيتم لنا أن شرذمة من اليهود وقعوا / (2/133/أ) عليه فمحقوه وقتلوه وصلبوه. وهذا شيء لم نسمعه إلاّ منكم ولا نُقل إلينا إلاّ عنكم. وإذا قلتم: إن أراذل اليهود ظهروا عليه وشدخوه بطل قولكم إن المسيح عني بالمثل نفسه. فإن أبيتم إلاّ أن يكون المسيح هو رأس الزاوية فقد أكذبتم نفوسكم في القتل والصلب والإهانة؛ لأن الرأس من الناس1. والرئيس منهم هو الذي يرتفع ويجل عن امتداد يد الهوان إليه. فإن ثبتم على دعوى القتل والصلب والإهانة تعيّن صرف المثل المذكور إلى من جاء بعد المسيح، ولم يأتِ بعده مَن صيّره الله رأساً للعالم وأوتيت أمته ثمرة الملكوت سوى محمّد وأمته. وقد أخبر المسيح عليه السلام بأن اليهود والنصارى يسلبون الملك والرئاسة ويصير ذلك إلى المسلمين إذ يقول: "إن ملكوت الله ستؤخذ منكم وتدفع إلى أمة أخرى تأكل ثمرتها". والمسيح عليه السلام صادق في قوله محقّ في خبره. ولم يأتِ بعد أمة المسيح مَن صار الملك والرئاسة والشريعة القائمة والكلمة القاهرة سوى هذه الأمة / (2/133/ب) العربية التي بها الأنبياء قبل المسيح كما قدمناه2. فهذا ما بقي في الإنجيل من البشرى برسول الله صلى الله عليه وسلم مما حماه الله عن أيدي الأعادي.
- البشرى الثّمانون: قال يوحنا التلميذ في كتاب رسائل التلاميذ المسمّى فراكسيس: "يا أحبائي إيّاكم أن تؤمنوا بكلّ روح، ميّزوا الأرواح التي من عند الله من غيرها. واعلموا أن كلّ روح تؤمن بأن يسوع المسيح قد جاء وكان جسدانياً فهي من عند الله. وكلّ روح لا تؤمن بأن يسوع المسيح، وكان جسدانياً فليست من عند الله. بل من المسيح الكذاب الذي سمعتم به وهو الآن في العالم"1. فقد شهد الحواري بأن محمّد من عند الله؛ لأن محمّد قد آمن أن المسيح قد جاء وكان جسدانياً. فأما اليهود فلم يؤمنوا بالمسيح ولا كثير من أهل ذلك الزمان. واليهود إلى الآن في انتظار مسيح آخر. ولا مسيح يأتي سوى المسيح الدجّال الكذاب الذي حذرت منه الأنبياء - عليهم السلام -. فهذا الحواري يوحنا قد شهد / (2/134/أ) بصدق محمّد وأمته، وأن اعتقادهم في المسيح هو الاعتقاد الحقّ، وقد أكذب النصارى بقوله هذا في دعوى ربوبية المسيح. إذ فرَّق في قوله بين الله وبين الميسح. وشهد أن الله غيره وأنه غير الله. -[البشرى] 2 [الحادية] 3 والثّمانون: قال شمعون الصفا رئيس الحواريين في كتاب فراكسيس: "إنه قد حان أن يبتدأ الحكم من بيت الله ابتداء"4. فبيت الله الذي ذكره الحواري هو الكعبة شرّفها الله. ومنها كان ابتداء الحكم الجديد. ولا يحسن تنْزيل هذا الكلام على
بيت المقدس؛ لأن حكم ذاك كان مستمراً عند صدور هذا الكلام من شمعون. ولا يليق إلاّ بشرع جديد ولا يقال فيما كان مستمراً إنه قد حان أن يبتدأ. -[البشرى] 1 الثّانية والثّمانون: قال فولس الذي يسمونه فولس الرسول في رسالة من رسائله وهي الرّابعة إلى بعض إخوانه: "إنه كان لإبراهيم ابنان أحدهما من أَمَةٍ والآخر من حرة، فأما ابن الأمة فكان مولده كمولد سائر البشر، وأما ابن الحرة فإنه ولد بالعِدَةِ / (2/134/ب) من الله وهما شبيهان بالناموسين والغرضين. أما هاجر فشبيهة بجبل سيناء الذي في بلاد أرابيا2 الذي هو نظير أورشليم هذه. وأما سارة فهي نظير أورشليم التي في السماء"3. فقد أفاد قول فولس هذا أموراً: منها: أن إسماعيل وأمه هاجر قد كانا أوطنا أرض العرب (أرابيا) ، لأن عجمة فولس العرب (الأرب) . فنقل العين همزة. ومنها: أن جبل سيناء4 متّصل بوادي العرب التي هي أرابيا. وهو الذي قالت التوراة: "جاء الله من سيناء"5. ومنها: أن بيت مكّة نظير بيت المقدس بشهادة فولس. ومنها: أن كلا الولدين صاحب ناموس وشريعة وأحكام وفرائض. وقد تعصب فولس هذا على إسماعيل وأمه في موضعين من هذا الكلام وهما قوله: "إن إسماعيل مولده كمولد سائر البشر". و"تشبيه هاجر بالكعبة التي في الحجاز، وسارة بالكعبة التي في السماء". وقد غلط فولس فيهما جميعاً.
أما قوله: "إسماعيل لم يولد بِعدَة من الله تعالى"، فليس الأمر كما ذكر / (2/135/أ) بل ما ولد إسماعيل إلاّ بعد أن مَنَّ الله على ما بينته من التوراة. أما قوله:"إن هاجر شبيهة بسيناء". فَمِنْ غَلَطِه أيضاً وسوء استنباطه واستخراجه، وذلك أن هذا التشبيه الذي صار إليه ليس منصوصاً عليه لا في التوراة ولا في الإنجيل ولا في شيء من النبوات ألبتة ولم يتقدم إلى القول به أحد من الحواريين. فلم بثق1 الإنجيل فولس هذا: "إن الحرة في المجلة أفضل من الأمة؟! ". فشبّه الأمة ببيت الله في الأرض، وشَبَّه الحرة ببيت له في السماء استحساناً لذلك بعقله. وذلك شيء لا اعتبار له ولا تعويل عليه. وتحكيم العقل في كلّ مورد ومصدر جهل وخرق من فاعله. فالفاضل في الحقيقة من كان عند الله فاضلاً أو شهدت له نبوة نبي بالفضل. وقد اعتبرنا - رحمك الله - شهادات التوراة والنبوات والأناجيل الأربعة فَلَم نجد لما ذكره هذا الرجل من تفضيل ساره وابنها على هاجر وابنها [أصلاً] 2 يتمسك به، بل قد وجدنا التوراة خاصة تشير إلى تفضيل هاجر وابنها وذلك في عدة مواضع: / (2/135/ب) . منها: أَنّا وجدنا التوراة تنطق صريحاً أن الله ارتضى هاجر لبكر3 إبراهيم، ورأينا التوراة فضلت البكر من الأولاد في الميراث وحسن الثناء فجعلت للبكر سهمين من الميراث ولمن سواه سهماً واحداً4. وقالت في حقّ بعضهم: "ابني بكري أرسله يعبدني"5. فمن ولدت البكر لإبراهيم أفضل ممن لم تلده لأن الشجرة إنما يعرف فضلها من ثمرتها وقد أثمرت هاجر بكراً طيباً.
ومنها: أن الله تعالى قال لإبراهيم: "دع أَمَتَك وابنك ولا يهمنك أمرهما"1. وتكفل الله بهما وتولاهما وإنما يتولى الله الصالحين من عباده. فتسلمهما سبحانه من يد إبراهيم خليله وكان خير كافل لهما. ومنها: ظهور الملك لهاجر ومكالمتها من غير حجاب ورأفته بها وقوله لها: "شدي يديك بهذا الصبي، فإن الله تعالى قد سمع تضرعك وأن ولدك هذا يعظمه الله جِدّاً جدّاً"2. وهذا لم يتفق لسارة أصلاً. ومنها: تفجير الله لها عين ماء من أرض صلد وبرية معطشة موحشة كلّ / (2/136/أ) ذلك قد شهدت به التوراة. فمن رام غضّاً من هاجر وابنها من اليهود والنصارى فقد أزرى على نفسه وكشف عورته بيده وأبان عن جهله بالتوراة والنبوات. ومنها: جعل بيتها ومسكنها وضريحها بيتاً مقدساً محجوجاً إليه3 تُعفِّر الملوك والأكابر جباهها بترابه ويطوفون به كما يطوف بعرش الرحمن، لا مندوحة لمن استطاع إليه سبيلاً عن إتيانه وحجه. ومنها: سلامة نسلها من المسخ فلم يمسخ أحد من أولاده هاجر قردة ولا خنازير، ولم يلعن صريحاً كما لعن بنو إسرائيل على لسان موسى وأشعيا وداود وعيسى بن مريم في نبواتهم وصحفهم على ما تشهد به التوراة وكتب الأنبياء.
ومنها: تنبؤ الأنبياء-عليهم السلام-عليها وعلى نسلها وموضع سكنها وشهادتهم بدوام مملكتهم وقيام شريعتهم ولزوم أحكامهم إلى قيام القيامة [فليوجد لنا] 1 فولس هذا المتعصب على أبوينا [اللذين] 2 كانا في كفالة الله واحداً من هذه الفضائل لمن تعصب له. {وَأّنَّ الفَضْلَ بِيَدِ الله يُؤْتِهِ مَن يَشَاءُ وَالله ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} . [سورة الحديد، الآية: 29] . (2/136/ب) . -[البشري] 3 الثّالثة والثّمانون: قال موسى في السفر الأوّل من التوراة: "قال إبراهبم: يا ربّ ها أنا ميّت وليس لي ولد وإنما يرثني غلامي اليعازر الدمشقي. فقال الله: كلا لا يرثك هذا بل ابنك الذي يخرج من صلبك هو الذي يرثك، فاخرج انظر إلى نجوم السماء فإن كنت محصيها فإنك ستحصي ولدك أيضاً"4. وما نعلم الآن من طبق الأرض وملأ أكناف الدنيا من ولد إبراهيم سوى ولد إسماعيل، فأما اليهود من ولد إسحاق فهم خول وذمة لبني إسماعيل في سائر الأرض كلها، وإنما ورد ذلك مورد الامتنان والإنعام على إبراهيم، ولم يكن الله تعالى ليمتن على خليله بالأولاد الدبري المسموخين قردة وخنازير وعباد العجول. وأما النصارى من ولد إسحاق فمشردون شَرَّدهم بنو إسماعيل خلف منقطع البحور وفي أطراف مغرب الأرض. فهذه نبوة ظاهرة وآية قاهرة لا يقدر مخالف على جحدها وردها.
-[البشرى] 1 الرّابعة والثّمانون: وفي هذا السفر الأوّل من التوراة قال موسى عليه السلام: "فلما أصبح إبراهيم أخرج هاجر وولدها إسماعيل ودفع لها زادا ومزادا. وانتهى في أمرهما إلى ما أمره به ربّه تعالى. فحملت الصبيّ على كتفها وشخصت / (2/137/أ) فوصلت إلى برية سبع فنفذ ماؤها، فوضعت الصبي تحت شجرة شيح إذ سمع الله صوت الصبي فنادى مَلَك الله هاجر من السماء فقال: ما بالك يا هاجر ليفرج كربك وروعك فقد سمع الله صوت الصبي قومي فاحمليه وتمسكي به، فإن الله جاعله لأمة عظيمة ومعظمة جِدّاً جدّاً. وأن الله فتح عينيها فرأت بئر ماء فدنت وملأت المزادة وشربت وسقت الصبي. وكان الله معها ومع الصبي حتى تربَّى. وكان مسكنه في بريقة فاران"2. فهذه أربع وثمانون بشارة عن الأنبياء وأتباع الأنبياء. وقد تضمنتها كتب الله المنَزَّلة من لدن إبراهيم الخليل إلى أتباع المسيح منوّهة باسم محمّد صريحاً واسم أرضه التي يخرج منها وبلده التي نشأ بها. مصرحة بتعظيم شأنه وتفخيم أمره. شاهدة بأنه عليه السلام خاتم الأنبياء وأنه حبيب الله وروحه ومختاره من عباده. مُعَرِّفة العباد / (2/137/ب) بعظم خطره عند الله وزلفته لديه، وأن دينه خير الأديان وشريعته خير شريعة. وملته أفضل ملة. وأمته أصدق أمة. وأن شريعته ناسخة لجميع الشرائع وأنها لا تنسخ بل تبقى ما بقيت الدنيا3. قال المؤلِّف: وإنما نقلت قليلاً من كثير. ويسيراً من خطير، ولو استوعبت جميع ما في كتب الله من الإشارة بذكر المصطفى صلى الله عليه وسلم وذكر أمته لأطلت الكتاب وخرجت إلى حد الإسهاب. فهذا القسم الأوّل من هذا الباب. والله الموفّق.
القسم الثّاني منه: في آيات رسول الله صلى الله عليه وسلم وإثبات معجزاته الباهرة للعقول الخارقة للعادة: واعلم أنه قد كان في الأنبياء - عليهم السلام - من له الآية والنبوة معاً مثل: موسى والمسيح وقد ذهبت آياتهما بذهابهم. فلم يبقَ في أيدي الناس منها إلاّ ذكرها. ومنهم من كانت له آية وليست له نبوة مذكورة مثل اليسع فإنه أحيا ميتاً في حياته وميتاً بعد وفاته ولم ينقل عنه أنه تنبأ نبوة ألبتة. ومنهم من كانت له نبوة1 / (2/133/أ) ولم يكن له آية مثل حزقيال النبي ويوشاع2. ومنهم من لم تكن له3 آية ولا نبوة وهو معدود في الأنبياء مثل مالاخي4 وناحوم5.
وقد أثبت أهل الكتاب نبوة جماعة من النسوان مثل مريم1 وحنة2 وخلدى واستار ورفقاً ولم يكن لواحدة منهن كتاب ولا آية وهن [معدودات] 3 في زمرة الأنبياء عندهم. فأما سيّدنا محمّد صلى الله عليه وسلم فقد جمع الله له النبوة والآية والتنبؤ. فتنبأ به الأنبياء وأخبروا بمجيئه قبل كونه على ما تقدم في القسم الأوّل من هذا الباب. وأما النبوة فأخبر صلى الله عليه وسلم بذلك وأنبأ وعَرَّف بأشياء كثيرة من المغيّبات التي لا يتصور الوقوف على علمها إلاّ بتوقيف4 من الله وإنباء منه سبحانه وكان ذلك يصدر منه على أنواع: فمنه: ما أخبر به صلى الله عليه وسلم مما وقع واتّفق وسلم في الأزمان الماضية والعصور المتفرقة من عظائم الأمور ومهام الخطوب من مبتدأ خلق الله العالم إلى قيام القيامة؛ فذكر شأن / (2/138/ب) آدم وحواء وشأن مشاهير بني آدم مثل: شيث وإدريس ونوح وإبراهيم والأسباط5 ويوسف وموسى والمسيح وسرد قصصهم ومجرياتهم، وذكر مشاهير سير الملوك والجبابرة والفراعنة وما اتّفق للأنبياء والأصفياء معهم. هذا مع القطع بأميته عليه الصلاة والسلام، وأنه كان عربياً لا
يحسن الخط ولا قرأ ولا سمع كتاباً1 قط. بل إنما نشأ بأرض قفار بين أجبل وسياسب2 منقطعة الأطراف عن العمران فوافق خبره ما في صحف الأوّلين لم يخرم منه حرفاً. ومنه: ما أخبر به أصحابه وحوارييه وأهل بيته فوقع في زمانه واتّفق في أيامه، ومن أخبر إنساناً في نفسه ممالم يلفظ به لم يمتر في أنه صادق محقّ. ومنه: ما أخبر به مما3 سيقع بعد موته بزمان فوقع كما أخبر عليه السلام ولم يغادر منه [حرفاً واحداً] 4. وذلك مودع في كتابه الذي جاء به من عند الله وفي سنته الصادقة التي نقلها إلينا نقلة هذا الكتاب. فلو تطرق التشكيك إليها لتطرق إلى الكتاب العزيز. وقد ثبت نقل الكتاب بأقوالهم وصحّ. فكذلك ثبتت (2/139/أ) السنة بأقوالهم أيضاً والحكم فيهما واحد من حيث لزوم العمل. قال عليه الصلاة والسلام: "أوتيت القرآن ومثله معه"5. ولو قال قائل من اليهود والنصارى لعلّ أصحاب هذا النبيّ تمالؤوا على دعوى هذه المغيّبات والآيات لنبيّهم وقيَّدوها في كتابه وسننه ترويجاً وإفكاً
لقوبلوا1 بمثل ذلك فيمن [ينتمون] 2 إليه. فما أجابوا به عن أنفسهم كان جواباً مِنَّا لهم. وكلّ سؤال انقلب على سائله سقط جوابه عن المسؤول. فهذا ما يتعلق بإنبائه عن الغيب الذي لا يدخل تحت مقدرة البشر. وأما آياته عليه الصلاة والسلام وخوارقه ومعجزاته فكثيرة جِدّاً. وقد صنف العلماء وأرباب السير فيها التصانيف الكثيرة3. ونحن نقتصر في هذا المختصر
منها على لُمْعة [بها] 1 يحصل الغرض والمعونة من الله سبحانه2. 1- معجزة: قد اشتهر عند أهل التواتر أن محمّداً صلى الله عليه وسلم كان أمّيّاً عربيّاً ناشئاً بأرض لا علوم بها ولا معارف ولا كتب تتضمن معرفة أخبار / (2/129/ب) المتقدمين يعرفون ذلك من حاله ضرورة. فلم يفجأهم3 أن تلي عليهم كتاباً من الله فيه مائة وأربع عشر سورة4. وقال لهم: هذه آية صدقي وإن مَن جاء منكم بمثل هذا الكتاب أو بعشر سور من مثله أو بسورة واحدة من مثله فلست صادقاً في أن الله أرسلني إليكم. فأجمعوا ولم يقدموا وأصمتوا ولم يتكلموا. هذا مع تقريعهم وعيب آلهتهم وانتقاص أوثانهم وأصنامهم وتسفيه
أخلاقهم وإظهار تعجيزهم على رؤوس الملأ نيفاً وعشرين سنة بقوله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُم لِبَعْضٍ ظَهِيراً} . [سورة الإسراء، الآية:88] .وقوله تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ الله إِنْ كُنْتُم صَادِقِينَ} . [سورة هود، الآية:13] . فأخبر أنهم [لا يقدرون] على ذلك ولا [يفعلونه] أبداً فكان كما جزم وحَتّم. وقال تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ} 1. فكلما زادهم تقريعاً ازدادوا خضوعاً. هذا وَهُمْ أهل البراعة في النظم والنثر والخطب يرتجلون ذلك ارتجالاً، ويتنافسون فيه تنافساً ويتناقشون عليه مناقشة. فما عدلوا إلى الحرب إلاّ والذي دُعوا إليه من المعارضة أشقّ عليهم وأصعب. فمن وجوه إعجازه: حسن تأليفه، ورقة ترصيفه وفصاحته وبلاغته الخارقة لعادة / (2/140/أ) أهل البيان حتى قال البلغاء منهم حين سمعوه: إن هذا إلاّ سحر مبين2. ثم هو في سرد القصص الطوال وأخبار القرون الماضية
[التي يضعف] 1 في عادة الفصحاء عندها الكلام ويذهب ماء البيان -آية لمتأمله من ربط الكلام بعضه ببعض. والتئام سرده، وتناسب وجوهه مع نظمه العجيب وأسلوبه الغريب المباين لأساليب كلام الفصحاء ومناهج نثرها ونظمها. ومن وجوه إعجازه: ما انطوى عليه من الإخبار بالمغيّبات مما لم يكن فوقع على الوجه الذي أخبر به كقوله: {لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ} 2. وقوله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} 3. وقوله: {وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُم وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ} 4. وكقوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ الله وَالفَتْحُ ... } . [سورة النصر، الآية: 1] . إلى آخرها. فدخل الناس في دين الله أفواجاً ودخلوا المسجد الحرام آمنين كما قال عليه السلام، واستخلف الله أصحابه وأمته في الأرض. ومكَّن لهم دينهم وملَّكهم من أقصى الشرق / (2/140/ب) إلى أقصى الغرب حتى دوَّخوا البلاد وملؤوا أقطار العالم. كما قال عليه السلام: "زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها. وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي
منها"1. وتلى عليهم ذلك وأخبرهم به وهم في حالة لا يستطيع أحدهم أن يذهب لقضاء الحاجة فكان كما أخبر صلى الله عليه وسلم. وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . [سورة الحجر، الآية:9] . فهو محفوظ من تغيير الأعداء والمخالفين وتبديلهم إلى قيام الساعة. هذا مع اشتماله على هتك أستارهم وإبداء عوارهم. وأنَّى يقدرون ويستطيعون إضاعة ما تكفل الله بحفظه!. ومن وجوه إعجازه: ما اشتمل عليه من تقريع اليهود والنصارى والمنافقين بما اشتملت عليه كتبهم وصحفهم بتكذيب من كذبوا من الرسل وقتل من قتلوا من الأنبياء2 وعبادتهم العجل وعزيراً والمسيح وأمه. فلا جرم أن كثيراً منهم لما عرف ذلك وأدركته السعادة وساعده التوفيق أسلم من فوره وصدق نبوته وآمن برسالته فسعد في دنياه وأخراه. ومنهم من غلبت عليه شقاوته وأدركته النفاسة3 وخشي أن يستلب الرئاسة فاستمر على غيه وانهمك في بغيه حتى هلك / (2/141/أ) وسكن من الجحيم في أسفل درك. ثم هو فيما اشتمل عليه من توحيد الباري وتنْزيهه وتقديسه وتحميده وتمجيده وتسبيحه وتهليله وترغيبه وترهيبه، ووصف الباري تعالى بسعة الرحمة والمغفرة والرضوان والحلم والصفح، وما أعدّ لعباده من البر والنعم وإكرام النّزل إن صاروا إليه - آية من الآيات يعرفها ويقر بها وقف على ذلك وقابل به ما اشتملت عليه الكتب المقدمة والصحف
المتقدمة والصحف الدَّارسِة كما بيّناه فيما مضى من هذا المختصر1. فلو لم يأتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم بآية وخارق سوى سورة واحدة من هذا الكتاب العزيز لاستقلت ونهضت بإثبات النبوة2. فكيف وقد أتى عليه السلام بخوارق عظام وآيات طوام؟!.
2 - معجزة: انشقاق القمر. قال ابن مسعود1: واستدل رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدق نبوته لانشقاق القمر فرقتين، وقال ابن مسعود: لقد رأيت الجبل بين فرقتي القمر فقال عليه السلام: اشهدوا. فقال كفار قريش: سحركم / (2/141/ب) ابن أبي كبشة. فقال رجل: إن كان سحر، فإنه لا يبلغ الأرض كلّها فاسألوا من يأتيكم من بلد آخر هل رأوا ذلك فجاء الناس من الآفاق فأخبروا بمثل ذلك. فقال الكفار: هذا سحر مستمر. رواه خلق كثير من أعيان الصحابة خيار المسلمين كأنس بن مالك2، وابن عباس3 وابن عمر4، وعلي بن أبي طالب5، وجبير6 بن مطعم، في خلق كثير. ورواه عن هؤلاء
أعلام التابعين ووجوه الأمة. وقد تضمنها الكتاب العزيز. قال الله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وانْشَقَّ القَمَرُ وَإِنْ يَرَوا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌ} . [سورة القمر، الآية: 1-2] . فلا التفات بعد ذلك إلى قول مخذول. ولو جاز هذه الآية لجاز ردّ آية موسى وعيسى - عليهما السلام. والطريق في النقل واحد، وإذا كان إنما اعتماد المتأخر على نقل من تقدم فمن أصارهم بتصحيح أخبارهم أولى من غيرهم. هذا وهم ينقلون عن أسلافهم المنكر والمستحيل. ونحن إنما ننقل مُحَوِّزات العقول. وإن طعن في آية انشقاق القمر يهودي1 قلنا له: ما دليلك على2 انشقاق البحر لموسى؟ أو يشكك في ذلك نصراني. قلنا له: ما حجتك على انشقاق حجاب الهيكل عند صلب الشبه3 الذي أشركته مع الله في الربوبية؟ فإذا قالا: النقل الصحيح والخبر الصريح. قلنا: من أصار عباد الصلبان والعجول أولى بالقبول من أخبار الموحدّين العدول؟!. 3- معجزة: حبست الشمس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ووقفت عن جريانها، خَرَّج الطحاوي4 في مشكل / (2/142/أ) الحديث أسماء بنت عميس5 رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوحى إليه ورأسه في حجر علي فلم
يصلِّ علي العصر حتى غربت الشمس فقال عليه السلام: أصليت العصر يا عليّ؟ قال: لا. فقال عليه السلام: اللهم إنه كان في طاعتك وطاعة رسولك فاردد عليه الشمس. قالت أسماء: فرأيتها غربت ثم رأيتها طلعت بعد ما غربت ووقفت على الجبال. وذلك بالصهباء بخيبر"1.
قال العلماء1: لا ينبغي لمن سبيله العلم التخلف عن حديث أسماء، فإنه علم من أعلام النبوة. وروى يونس2 بن بكير عن ابن إسحاق لما أسري بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم وأخبر قومه بالرفقة والعلامة التي في العير، قالوا: متى تصل؟ فقال: يوم الأربعاء؛ فلما كان يوم الأربعاء أشرفت قريش ينظرون وقد وَلَّى النهار ولم تصل بعد، فدعا فزيد له في النهار ساعة ووقفت الشمس عن جريانها وسيرها حتى وصلت العير فشاهدوها3. وإن اعترض على ما شهدت أسماء رضي الله عنها مُخالف من النصارى قيل له: ألم تروُوا عن مريم المجدلانية التي أبرأها / (2/142/ب) المسيح من الجنون أموراً عظاماً من أمور المسيح؟ فإذا قالوا: بلى. قيل لهم: ما الذي جعل امرأة حديثة عهد بجنون أولى بالصدق والعدالة من امرأة غريبة لبيبة عاقلة؟ وإن قدح في ذلك يهودي؛ قيل له: ألم تحكوا عن مريم أخت موسى وهارون أموراً جمة من أعلام موسى؟ فإذا كانت أخت الإنسان مؤتمنة على ما تحكيه من أعلام أخيها وعِزُّه عِزٌّ لها، فأسماء أولى بذلك وهي أجنبية.
4- معجزة: نبع الماء العذب من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم والروايات فيه كثيرة وأمره مشهور منشور بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه جمع كثير من الصحابة منهم: أنس وجابر وابن مسعود، قال أنس1 وغيره: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحانت صلاة العصر فالتمس الناس الوضوء فلم يجدوه، فَأُتِيَ عليه السلام بوضوء فوضع يده في الإناء وأمر الناس أن يتوضؤوا منه. قال أنس: فرأيت الماء ينبع من بيد أصابعه صلى الله عليه وسلم فتوضؤوا من عند آخره. قيل له: فكم كنتم؟ قال: زهاء / (2/143/أ) ثلاثمائة رجل، وذلك بالسوق عند الزوراء"2. وفي الصحيح عن ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما معنا ماء، فأتي بماء فصبّه في إناء ثم وضع كفه فيه فجعل الماء ينبع من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم "3. وفي الصحيح أيضاً عن جابر بن عبد الله: "عطش الناس يوم الحديبية ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة فتوضأ منها وأقبل الناس نحوه فقالوا: ليس عندنا ماء إلاّ ما في ركوتك هذه. فوضع عليه الصلاة والسلام يده في الركوة فجعل الماء يفور من أصابعه كأمثال العيون، قال: فقلت: كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة"4. روى ذلك جمع كثير من الصحابة5.
وعن عبادة بن الصامت في حديث مسلم الطويل في غزوة بواط1، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا جابر2 ناد الوضوء -[وذكر الحديث بطوله -] 3 ولم يجد سوى قطرة في عَزْلاء شَجْب4 فأتى به النّبيّ عليه السلام فغمزه5 بيده وتكلم بشيء لا أدري ما هو، وقال: ناد بجفنة الرّكْب6 / (2/143/ب) فأتيت بها فوضعها بين يديه فبسط يده في الجفنة وفَرَّق أصابعه وصب جابر عليه. وقال: بسم الله، قال: فرأيت الماء يفور من بين أصابعه. ثم فارت الجفنة واستدارت حتى امتلأت وأمر الناس بالاستقاء فاستقوا حتى رووا. فقلت: هل بقي أحد له حاجة؟ فرفع عليه السلام يده من الجفنة وهي ملأى"7. وبالجملة فحديث نبع الماء من بين أصابعه عليه السلام متواتر مستفيض، وقد روى مالك في الموطّأ عن معاذ بن جبل: "في غزوة تبوك أنهم وردوا العين وهي تَبِضُّ8 بشيء من ماء مثل الشِّراك9 فغرفوا بأيديهم من العين في إناء
حتى اجتمع منه شيء ثم غسل عليه السلام فيه وجهه ويديه وأعاده فيها فجرت بماء كثير فاستقى الناس"1. قال ابن إسحاق: فانخرق من الماء ما له حسّ كحسّ الصواعق2. وروى البراء3 وسلمة بن الأكوع4 في قصة الحديبية: "أنه عليه السلام أتى بئراً ما تروي خمسين شاة، قال: فنَزحناه فلم ندع فيها ماء، فجلس عليه السلام على جانبها وأتي بدلو / (2/144/أ) فتفل فيها ودعا الله، فجاشت البئر بالماء فارتووا وأرووا ركابهم". وقيل5: بل غزر عليه السلام سهماً من كنانته في قعر البئر فروى الناس حتى ضربوا بعطن6 وكان عدتهم أربع عشرة مائة7.
وروى أبو قتادة قال: "اشتكى الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره العطش فدعا بميضأة ثم التقم فمها - فالله أعلم أنفث فيها أم لا - فشرب الناس حتى رووا ملؤوا كلّ إناء معهم، فَخُيِّل إلي أنها كما أخذها مني"1. وروى مثله عن عمران بن الحصين وفي كتاب مسلم: "أنه عليه السلام قال لأبي قتادة: احفظ عليّ ميضأتك فإنه سيكون لها نبأ" فكان ما ذكرت"2. وعن عمران بن حصين: "أنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه أصابهم عطش في بعض أسفاره فبعث رجلين، وقال: ستجدان امرأة بمكان كذا معها بعير عليه مزادتان فأتيا بها، فذهبا إلى حيث ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجداها أتيا بها النبي عليه السلام فجعل في إناء من مزادتيها. وقال فيه ما شاء الله أن يقول، ثم أعاد الماء في المزادتين ثم فتحت / (2/144/ب) عِزَالَيْها3 وأمر الناس فملأوا أسقيتهم كلّها حتى ملأوا كلّ إناء معهم. قال عمران: وتخيل إلي أن المزادتين لم يزدادا إلاّ امتلاءً. ثم أمر عليه السلام فجمع لها من الأزواد حتى ملأوا ثوبها وقال: اذهبي فإنا لم نرزأ من مائك شيئاً ولكن الله هو الذي سقانا" - الحديث بطوله - فرجعت4 إلى قومها فكان ذلك سبب إسلامهم"5.
وقال سلمة بن الأكوع] 1: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل من وضوء؟ ". فجاء رجل بإداوة2 فيها نطفة3 من ماء فأفرغها في قدح فتوضأنا كلّنا ندغفقه4 دغفقة حتى تطهرنا5 عن آخر فكنا أربع عشرة مائة"6. وفي حديث عمر: "وذكر ما أصابهم في جيش العسرة من العطش حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه. فرغب أبو بكر إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الدعاء فرفع يده فلم يرجعهما حتى أسكبت السماء فملؤوا ما معهم من آنية فلم تجاوز السحابة العسكر"7.
وعن [عمرو بن سعيد] 1: "أن أبا طالب قال للنبيّ عليه السلام وهو رديفه بذي المجاز: عطشت / (2/145/أ) وليس عندي ماء، فنَزل نبي الله صلى الله عليه وسلم وضرب بقدمه الأرض فخرج الماء فقال: اشرب"2. وقيل له3 في سنة من السنين: هلك الناس من العطش "فاستسقى عليه السلام فلم يفرغ من دعائه حتى سقي الناس وجاءه أهل العوالم يشكون كثرة المطر فقال عليه السلام: "اللهم حوالينا ولا علينا"4. قال المؤلِّف - عفا الله عنه -: هذه عدة من المعجزات تتعلق بهذا الفن. وفيها ما هو مساوٍ لآية موسى عليه السلام. وفيها ما هو أبهر للعقول من فعل موسى. إذ نبع الماء من الأرض والحجر معتاد لا عجب. فأما نبع الماء من أصابع يد آدمي هو العجب. فإن نازع في هذه الآيات المتعلقة بسقي الخلق الكثير في المعاطش5 من بين أصابعه عليه السلام منازع من اليهود. قيل له: من أين لك أن موسى عليه السلام سقى بني إسرائيل ماءً عذباً من
حجر [الصوَّان] ؟ 1. أذلك شيء عاينته أم هو الخبر والنقل والرواية؟ فإنه يفزع في ذلك إلى نقل اليهود إذ لا طريق له سواه، فيقال له عند ذلك: ما الذي جعل عباد/ (2/145/ب) العجل وبعلز بول الصنم والزهرة أولى بالعدالة من عباد الله المؤمنين المخلصين له؟! وإن نازع في ذلك نصراني. قيل له: ألم تروُوا أن المسيح عليه السلام لما قرب من أورشليم قال لرجلين من تلاميذه: اذهبا إلى القرية التي أمامكما فإنكما ستجدان أتاناً وجحشاً فأتياني بهما ففعلاً وأتيا بالأتان والجحش2. فما دليلكم على تصحيح ذلك عن المسيح؟ أذلك3 مما يمكن اليوم معرفته دون الرواية؟! فما الذي جعلكم أحقّ بما تروون منا بما نروي عن ثقاتنا؟!! وقد بعث نبيّنا رجلين ووصف لهما المرأة والماء الذي معها، وذلك أعجب من قول المسيح في الأتان والجحش. 5- معجزة: وهي تكثير الطعام اليسير ببركته صلى الله عليه وسلم. روى جابر بن عبد الله، قال: "سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً فأعطاه يسيراً من شعير فما زال الرجل يأكل منه وأهله وضيفه حتى كاله بعد حين. فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لو لم تكله لأكلتم منه وقام4 بكم"5.
وقال / (2/146/أ) أبو1 طلحة في حديثه المشهور: "أطعم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانين رجلاً من أقراص شعير جاء بها أنس تحت إبطه"2. وقال جابر بن عبد الله: "أطعم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق من صاع شعير وعناق3 ألف رجل حتى تركوه وانحرفوا4، وإن البرمة5 لتغط6 كما هي وإن العجين ليخبر"7. وقال أبو8 أيوب: "صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولصاحبيه أبي بكر وعمر قدر ما يكفيهما من الطعام، فقال النبيّ عليه السلام: ادع لي ثلاثين رجلاً من أشراف الأنصار. فدعوتهم فأكلوا حتى تركوه ثم قال عليه السلام: ادع لي ستين رجلاً. فأكلوا حتى تركوه ثم قال عليه السلام: ادع لي سبعين رجلاً. فدعوتهم فأكلوا حتى تركوه فلم يخرجوا حتى أسلموا وبايعوا، قال أبو أيوب: فأكل من طعامي ذلك مائة وثمانون رجلاً"9.
وقال سمرة بن جندب: "أُتي عليه السلام بقصعة فيها لحم فتعاقبوها من غدوة إلى الليل يقوم قوم ويقعد آخرون"1. وقال عبد الرحمن2 بن أبي عمرة [عن أبيه] 3 وسلمة بن الأكوع4 وأبو هريرة5 / (2/146/ب) وعمر بن الخطاب6: "أصاب الناس مخمصة7 مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم في
بعض مغازيه فدعا ببقية الأزواد فجاء الرجل بالقبضة الطعام وفوق ذلك فجمعه على نطع1، قال سلمة: فحزرته كَرَبْضَة2 العنْز ثم دعا الناس بأوعيتهم فلم يبق في الجيش وعاء إلاّ ملأؤه ثم فضلت فضلة من ذلك". وقال أبو هريرة: "أمرني النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن [أدعو] 3 له أهل الصفة4 فتتبعتهم حتى جمعتهم فوضعت بين أيدينا قصعة فأكلنا ما شئنا وفرغنا، وهي مثل ما كانت [حين] 5 وضعت إلاّ أن فيها أثر الأصابع"6. وقال عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليه: "جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب وكانوا أربعين ومنهم من يأكلالجذعة7 ويشرب الفرق8، فصنع لهم
مداً من طعام فأكلوا حتى شبعوا وبقي كما هو، ثم دعا بعُسٍّ1 فشربوا حتى رووا وبقي العُسُّ كأنه لم يشرب منه"2. وقال أنس: "بنى عليه السلام بزينب وأمرني أن أدعو من لقيت فدعوت من لقيت فقدَّم إليهم / (2/147/أ) مُدّاً من تمر جُعل حيساً3 فتناولوا منه حتى شبعوا وعدتهم زهاء ثلاثمائة رجل، ثم قال لِيَ: ارفع. فرفعت فما أدري أكان حين وضع أكثر أم حين رفع"4. وقال عمر: "أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أزود أربعمائة راكب من أحمس5. فقلت: ما عندنا إلاّ آصع من تمر. فقال عليه السلام: اذهب وزودهم. فذهبت فزودتهم منه وكأنه بحاله". وذكر هذه الآية جمع كبير من الصحابة6.
وقال جابر في حديث وفاء دين أبيه بعد موته: "بذلت لغرماء أبي من اليهود كلّ ماله فلم يرضوا به وكان مال أبي تمراً ولم يكن في ثمره سنتين ما يفي بدينهم، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد جداد المثر وهي في البياد فمشى بينها ودعا الله، قال جابر: فوفيت منه غرمائي وفضل لنا مثل ما نجد في كلّ سنة. فتعجب اليهود من ذلك"1. وقال أبو هريرة: "أصاب الناس مخمصة فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل من شيء؟ فقلت: نعم. شيء من تمر في مزود. قال: فأتني به فأدخل / (2/147/ب) يده فأخرج قبضة فبسطها ثم دعا بالبركة، ثم قال: ادع عشرة. فدعوتهم فأكلوا حتى شبعوا، ثم قال: ادع عشرة. فأكلوا حتى أكل الجيش كله وشبعوا. فقال عليه السلام: خذ ما جئت به. فأكلت منه حياة رسول الله، وأبي بكر، وعمر، وجهزت منه كذا وكذا وسقاً في سبيل الله، قال أبو هريرة: وكان عدة ذلك التمر بضعة عشرة تمرة"2. وحديث أبي هريرة أيضاً حين أصابه الجوع: "فاستتبعه النبي صلى الله عليه وسلم فوجد قدحاً من لبن قد أهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره عليه السلام أن يدعو أهل الصفة، قال: فقلت في نفسي: ما هذا القدح فيهم كنت محتاجاً أن أصيب منه شربة أتقوّى بها. فدعوتهم، فقال: اسقهم. فشربوا حتى رووا من عند آخرهم. ثم قال
عليه السلام: بقيت أنا وأنت يا أبا هريرة. اقعد فاشرب. فما زلت أشرب ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اشرب. حتى قلت: والذي بعثك بالحقّ ما أجد له مسلكاً. فأخذ القدح وسمّى الله تعالى / (2/148/أ) وشرب الفضلة"1. وروى هذا الحديث الجم الغفير والخلق الكثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تلقى ذلك التابعون بإحسان ثم أخذ ذلك عنهم أكابرهم الأعلام من المسلمين. فمن نازع في هذه الآيات البيّنات وتوقف في شيء منها من أهل الكتاب. قلنا له: بأي وجه ثبت عندك أن موسى أطعم قومه في البرية مَنّاً وسلوى2، وأطعم المسيح أصحابه ومن حضر إليه من أهل القرى خبزاً وسمكاً وهم الجمع الكبير من سمك وخبز يسير فأشبعهم وفضلت فضلة كبيرة3، وبارك إلياس على دقيق الإسرائيلية فقام بها وبجيرانها ثلاث سنين. و [أشهرا] 4؟. فإذا فزع إلى الروايات والأخبار الصحيحة عنده. قيل له: قد أجبت نفسك عنا وكفيتنا مؤنة الجواب. فإن رام قدحاً في أخبارنا لم ينفك من عكس ذلك عليه. 6- معجزة: ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم كلام الحجر والشجر وشهادتها له بالنبوة وإجابة داعيه صلى الله عليه وسلم. قال ابن عمر: "كنا معه في سفر فدنا أعرابي فقال: يا أعرابي / (2/148/ب) إلى أين تريد؟ فقال: إلى أهلي. قال: هل أدلك
على خير؟ قال: وما هو خير؟ قال: تشهد1 أن لا إله إلاّ الله، وأني رسول الله2. قال: من يشهد لك على ما تقول؟ قال: هذه الشجرة السَّمُرة3 التي بشاطئ الوادي. فأقبلت السَمّرة تخد الأرض حتى قامت بين يديه فاستشهدها ثلاثاً فشهدت لله ولرسوله ثم رجعت إلى مكانها"4. وقال بريدة5: "سأل أعرابي رسول الله صلى الله عليه وسلم آية، فقال: قل لتلك الشجرة رسول الله يدعوك. قال: ففعل. فمالت الشجرة عن يمينها وشمالها وبين يديها وخلفها ثم جاءت تخد الأرض حتى وقفت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: السلام عليك يا رسول الله، فقال الأعرابي: مرها فلترجع إلى موضعها. فأمرها فرجعت حتى استوت بمكانها كما كانت. فقال الأعرابي: مرني أن أسجد لك. فأبى عليه السلام فقال: ائذن لي في تقبيل يدك ورجليك. فأذن له صلى الله عليه وسلم "6.
وفي الصحيح عن جابر بن عبد الله في حديثه الطويل: "ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم / (2/149/أ) يقضي حاجته فلم يجد شيئاً يستتر به فإذا بشجرتين بشاطئ الوادي فأخذ بغصن من إحدى الشجرتين، وقال: إنقادي بإذن الله. فانقادت معه كالبعير الذلول وفعل بالأخرى مثل ذلك، ثم قال: التئما عليّ بإذن الله. فالتأمتا1 - وفي [رواية] 2 أخرى - قال يا جابر اذهب فقل لهذه الشجرة تلحق بصاحبتها. [فزحفت الشجرة] 3 حتى لحقت بأختها فجلس خلفها فقضى حاجته"4. وكذلك حكى أسامة بن زيد عن النخلات والحجارة وأنه دعاها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبلن يتعادين حتى قضى عليه السلام حاجته ثم رجعن يتعادين إلى أماكنهن5. وقال يعلى6 بن مرة: "رأيت شجرة من الطلح جاءت فأطافت برسول الله
صلى الله عليه وسلم ثم رجعت إلى منبتها فقال عليه السلام: "إنها استأذنت في السلام عليّ"1. روى هذه المعجزات جماعة من علماء الصحابة وزهادهم كعبد الله ابن عمر وبريدة وجابر وابن مسعود2 ويعلى بن مرة وأسامة بن زيد3 وأنس بن مالك4 وعليّ بن أبي طالب5 وابن عباس6 / (2/149/ب) وغيرهم7. وتلقى ذلك عنهم الجم الغفير والخلق الكثير من التابعين.
قال الأستاذ الإمام ابن1 فورك - رحمة الله عليه -: "بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم [سائر] 2 ليلاً [في غزوة الطائف] 3 اعترضت له سدرة فانفرجت له نصفين فدخل بينهما ومَرَّ وبقيت السدرة على حالها إلى يوم الناس هذا، وذلك بالطائف وهي الآن تعرف بسدرة النبي صلى الله عليه وسلم يحترمها الناس"4. فإن ارتاب بشيء من هذه الآيات يهودي أو نصراني فيقال له: ألست زعمت أن موسى عليه السلام أقام عصاه في قبة الزمان بين عصي قومه فأخضرت وذلت أغصاناً وورقاً وأثمرت لوزاً5؟! ألست زعمت في إنجيلك أن المسيح أتي شجرة تين وهو وأصحابه ليصيبوا منها فلما لم يجد فيها ثمرة دعا عليها فيبست وجفت لوقتها وساعتها وصارت جذعاً يابساً؟ 6 فما طريقك في تصحيح ماادعيته بعد ألفي عام؟ فإنه كلمارضي جواباًخُصم به. 7- معجزة: ومن معجزاته عليه السلام حنين الجذع وهو مشهور معروف وحديثه متواتر، قد خرجه أهل الصحيح ورواه الأكابر / (2/150/أ) من أصحابه منهم: أُبَيُّ7 بن كعب وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك
وعبد الله1 بن عمر وعبد الله2 ابن عباس وسهل بن [سعد] 3 وأبو سعيد4 الخدري وبريدة5 وأم سلمة6 والمطلب بن أبي7 وداعة [كلهم يحدّث بمعنى هذا الحديث] 8.
قال الترمذي: "وحديث أنس صحيح". قال جابر1: "كان في المسجد جذع من النخل كان عليه السلام يقوم إليه في خطبته فلما اتّخذ له المنبر سمعنا لذلك الجذع صوتاً كصوت العشار2 - وفي رواية أنس3 - حتى ارتج المسجد بخواره فكثر بكاء الناس لما رأوه - وفي رواية المطلب - حتى تصدع وانشق - فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليه فسكت. فقال عليه السلام: إن هذا بكى لما فقد من الذكر، فوالذي نفسي بيده لولا ما التزمه لم يزل هكذا. تحزناً على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر به صلى الله عليه وسلم فدفن تحت المنبر"4. وحكى الإسفراييني5: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه إلى نفسه فجاء يخرق الأرض فالتزمه ثم أمره فعاد إلى مكانه6.
وكان الحسن البصري / (2/150/ب) إذا حدَّث بحديث الجذَع بكى وقال: "يا عبد الله الخشبة تحن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقاً لمكانه من الله فأنتم أحقّ أن تشتاقوا إليه"1. روى حديث الجذع عالم كبير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقاه التابعون بإحسان وهو من الأحاديث الصحيحة المستفيضة2. 8- معجزة: ومن معجزاته عليه السلام تسبيح الطعام بين يديه صلى الله عليه وسلم قال الصحابة: "لقد كنا نسمع تسبيح الطعام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يؤكل"3. 9- معجزة: ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم تسبيح الحصى في يده. قال أنس: "أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم كفاً من حصى فسبحن في يده حتى سمعنا التسبيح ثم صبهن في يد أبي بكر فسبحن"4.
وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: "كنا بمكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إلى بعض نواحيها فما استقبله جبل ولا شجر إلاّ قال: السلام عليك يا رسول الله"1. وقال جابر بن عبد الله: / (2/151/أ) "لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يمرّ بحجر ولا شجر إلاّ سجد له صلى الله عليه وسلم" 2. وفي حديث العباس: "إذ3 اشتمل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أهل بيته بملاءة
ودعا لهم بالستر من الناس كستره إيّاهم بملاءته. فأمّنت أسكفة الباب وجدران البيت: آمين آمين"1. 10- ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم اضطراب الجبل لهيبته وسكونه بأمره. [عن أنس] 2: "صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان [أُحداً] 3 فرجف بهم فقال عليه السلام: اثبت أحد فإنما عليك نبيّ وصدِّيق وشهيدان. فقتل عمر وعثمان"4. ومثل ذلك عن أبي هريرة: "في حراء [- وزاد - معه عليّ] 5 وطلحة والزبير، فقال عليه السلام اسكن حراء فإنما عليك نبيّ أو صدِّيق أو شهيد"6. شاهد7 ذلك رواه جماعة من أعيان الصحابة ومشاهير الأمة.
11- معجزة: قال ابن عمر: "قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر: {وَمَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ} . [سورة الزمر، الآية: 67] . ثم قال: يمجد الجبار نفسه فيقول: أنا الجبار أنا الكبير المتعال....، قرجف المنبر حتى قلنا: ليخرن عنه"1. 12- معجزة: ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم / (2/151/ب) سقوط الأوثان بإشارته. قال ابن عباس: "كان حول البيت ثلاثمائة وستّون صنماً مثبتة الأرجل بالرصاص، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح جعل يشير إليها2 بقضيب كان في يده ولا يمسّها، ويقول: {وَجَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} . [سورة الإسراء، الآية: 81] . فما أشار إلى وجه صنم إلاّ وقع لقفاه، ولا لقفاه إلاّ وقع لوجهه حتى ما بقي منها صنم"3. ومثله في حديث ابن مسعود4.
13- معجزة: ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم سجود الأشياء له. قال بحيرا1 الراهب حين رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا سيّد العالمين يبعثه الله رحمةً للعباد، فقال له أشياخ من قريش: ما علمك بذلك يا بحيرا؟ فقال: إنه لم يبق شجر ولا [حجر] 2 إلاّ سجد له وَخَرَّ بين يديه ولا يسجد إلاّ لنبيّ"3.
14- معجزة: ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم إظلاله بالغمام؛ وفي الحديث1: "أنه عليه السلام أقبل وغمامة تظله من الشمس فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجر، فلما جلس مال الفيء إليه"2. "ورأت خديجة بنت خويلد زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم مع ميسرة / (2/152/أ) غلامها من الشام وغمامة تظله من حرّ الشمس"3. ومن أنكر ذلك من اليهود والنصارى ورد4 عليهم مثله في غمام موسى وعيسى، واضطرتهم الحال إلى التصديق وإلاّ شَوَّشُوا5 قواعدهم إذ طريق الثبوت واحد.
15- معجزة: قالت عائشة: "كان عندنا داجن1 فإذا كان عندنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قَرَّ وثبت مكانه فلم يجئ ولم يذهب، وإذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء وذهب"2. 16- معجزة: ومن معجزاته عليه السلام كلام العجماء وشهادتها له بالنّبوّة والرسالة؛ قال عمر: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في محفل من أصحابه إذ جاء أعرابي ومعه ضبّ قد صاده فقال: من هذا؟ قالوا: نبي الله. فقال: واللات والعزى لا آمنت بك حتى يؤمن بك هذا الضّبّ. وطرحه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي عليه السلام: يا ضبّ. فأجابه بلسان مبين: لبيك وسعديك يا زين مَن وافى القيامة. فقال: من تعبد؟ قال: الذي في السماء عرشه وفي الأرض سلطانه وفي البحر سبيله وفي الجنة رحمته وفي / (2/153/ب) النار عقابه. قال: فمن أنا؟ قال: رسول ربّ العالمين3 وخاتم النبييّن قد أفلح مّن صدّقك وخاب مَن كذّبك. فأسلم الأعرابي"4.
وهذا أعجب من كلام الأخرس للمسيح، إذ كلام جنس الآدمي غير بعيد بخلاف الحيوان البهيم. 17- معجزة: ومن معجزاته عليه السلام كلام الذئب. وقد جرى ذلك مراراً. قال أبو سعيد الخدري: "بينا راعٍ يرعى غنماً له إذ عرض له الذئب لشاة فانتزعها الراعي منه فأقعى1 الذئب، وقال للراعي: [ألا تتقي الله؟] 2 حلت بيني وبين رزقي. فقال الراعي: العجب من ذئب يتكلم بكلام الآدميّين. فقال الذئب: ألا أخبرك بأعجب من ذلك؟ رسول الله بين الحرتين يحدّث الناس بأنباء ما قد سبق، فجاء الراعي فأسلم وحدّث الناس بذلك"3. وفي طريق آخر4: "أنت أعجب مني أقمت في غنمك وتركت نبيّاً لم يبعث الله نبيّاً قط أعظم منه، قد فتحت له أبواب الجنة وأشرف أهلها ينظرون إليه وإلى أصحابه. فأسلم الراعي لذلك".
وفي طريق آخر1: "أنت أعجب مني أقمت في غنمك وتركت نبيّاً لم يبعث الله نبيّاً قط أعظم منه، قد فتحت له أبواب الجنة وأشرف أهلها ينظرون إليه وإلى أصحابه. فأسلم الراعي لذلك". وقال صفوان2 بن أمية وأبو3 سفيان بن حرب: رأينا ذئباً يطرد ظبياً فدخل الظبي الحرم فانصرف الذئب / (2/153/أ) قال: فعجبنا من ذلك. فقال الذئب: أعجب من ذلك محمّد بن عبد الله بالمدينة يدعوكم إلى الجنة وتدعونه إلى النار. فقال أبو سفيان: "واللات والعزى لإن ذكرت هذا بمكة لتتركنها خلوفاً4.
18- معجزة: قال أنس بن مالك1: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر حائط رجل من الأنصار وفيه غنم فسجدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: نحن أحقّ بالسجود لك منها يا رسول الله"2. وقال أبوهريرة: "دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم حائطاً، فجاء بعير فسجدله"3.
وقال ثعلبة بن مالك1، وجابر ابن عبد الله2، ويعلى بن مرة3، وعبد الله بن جعفر4، وعبد الله5 بن أبي أوفى: "كان ببعض حيطان المدينة جمل لا يدخل أحد الحائط إلاّ شدّ عليه الجمل، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه
فوضع الجمل. مشفره في الأرض وبرك بين يديه فخطمه، وقال: ما بين السماء والأرض شيء إلاّ ويعلم أني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ عاصي الجنّ والإنس". 19- معجزة: روى الإسفرائيني: أن العضْبَاء1 ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم / (2/ 153/ب) بعد وفاته لم تأكل ولم تشرب ثم ماتت غما عليه صلى الله عليه وسلم 2. وروى أن يعفور حماره بعد وفاته جاء إلى بئر فردَّى نفسه فيه فهلك3.
20- معجزة: روى ابن وهب: أن حمام الحرم أظلت رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح عند دخوله مكّة فدعا لها بالبركة1. 21- معجزة: [عن عبد الله بن قرط] 2 قال: قُرِّب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدنات خمس أو ستّ في يوم عيد لينحرهن فازدلفن إليه بأيّهن يبدأ صلى الله عليه وسلم3. الباب العاشر: في البشائر الإلهيّة بالعزّة المحمّديّة 22- معجزة: قالت أم [سلمة] 4: "بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحراء إذ نادته ظبية: يا رسول الله! قال: ما حاجتك؟ قالت: صادني هذا الأعرابي ولي خشفان5 في ذلك الجبل أرضعهما وأرجع. قال: أو تفعلين؟ قالت: نعم. فأطلقها فذهبت ورجعت فانتبه الأعرابي وأسلم وخلَّى عن الظبية فخرجت تعدو في الصحراء وهي تقول: أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنك رسول الله"6.
23- معجزة: ومن معجزاته تسخير السباع لغلمانه، قال سفينه1 مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرسلني عليه السلام إلى معاذ باليمن فانكسرت بيَ السفينة فطلعت إلى جزيرة فاستقبلني الأسد / (2/154/أ) فقلت: أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعي كتابه. فهمهم وجعل يغمزني بمنكبه حتى أقامني على الطريق. فلما رجعت من اليمن لقيت الأسد أيضاً
فهمهم بشيء فقصصت ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنه يقول: سَلِّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم"1. وكذلك جرى لسفينة في فتوح الشام2 حكاه الواقدي.
24- معجزة: وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذن شاء [لقوم من بني] 1 عبد القيس بين أصابعه ثم خلاّها فصار ذلك مَيْسماً2 وبقي فيها وفي نسلها بعد3. 25- معجزة: أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عطش في بعض أسفاره وكانوا ثلاثمائة رجل فجاءته عنْزل فحلبها عليه السلام فأروى الجند هم على غير ماء ثم قال لرافع: املكها وما أراك تقدر. فربطها فوجدها قدذهبت. فقال عليه السلام: إن الذي جاءبهاهوالذي ذهب بها4. رواه ابن5 قانع وغيره.
قال المؤلِّف: هذه الآية نظير آية صالح عليه السلام. 26- معجزة: روى الواقدي أن النبيّ عليه السلام أرسل رسله إلى الملوك يدعوهم إلى الدين والإيمان / (2/154/ب) بالله عزوجل فخرجوا متوجهين فأصبحوا في يوم واحد وكلّ رجل منهم يتكلم بلغة القوم الذين أرسل إليهم1. قال المؤلِّف: هذه الآية مضاهية ما حكاه الإنجيل عن أصحاب المسيح الذين أرسلهم2. فإن قدحوا فيها ومنعوا صحّتها لم يسلموا من مقابلتهم مثل ذلك فيما نقلوه، إذ طريق الثبوت واحد. 27- معجزة: قال أبو هريرة: أهديت يهودية للنبي عليه السلام بخيبر شاة مسمومة فأكل وأكل القوم. فقال عليه السلام: "ارفعوا أيديكم، إن الذراع تخبرني أنها مسمومة"، ثم قال لليهودية: "ما حملك على ذلك؟ ". قالت: قلت: إن كان نبيّاً لم يضرَّه، وإن كان ملكاً أرحت الناس منه. فقال عليه السلام: "ما كان الله ليسلّطكِ عليَّ".
روى ذلك جابر1 بن عبد الله، والحسن2، وأبو سلمة3، وأنس4، وأبو هريرة5، وأبو سعيد6. قال ابن عباس7: "فدفعها لأولياء بشر بن البراء فقتلوها، وقد خُرِّج حديث الشاة في الصحيح".
28- معجزة: روى فهد1 بن عطية، قال: "أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصبي وقد شَبَّ ولم يتكلم / (2/155/أ) قط، فقال له: من أنا؟ فقال: أنت رسول الله2. وهذه الآية مضاهية لآية المسيح في كلامه المجنون الأخرس، وكما لا يقدح تكذيب اليهود لا يقدح تكذيب النصارى لآية محمّد عليه السلام. 29- معجزة: قال مُعَرِّض3 بن معيقب: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فرأيت عجباً، أتي بصبي يوم ولد فقال له: من أنا؟ قال رسول الله. فقال له: صدقت بارك الله فيك. وذلك في حجّة الوداع بمكّة فهو مبارك اليمامة صدق الله ورسوله"4.
30- معجزة: قال الحسن1: "أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أنه طرح بُنَيَّة له في وادي كذا، فمضى معه إلى الوادي وناداها باسمها: يا فلانة أجيْبِي بإذن الله. فخرجت وهي تقول: لبيك وسعديك. فقال لها: إن أبويك قد أسلما فإن أحببت أن أردك إليهما، فقالت: لا حاجة لي بهما وجدت الله خيراً لي منهما"2. 31- معجزة: ومن معجزاته حياة الشاب الأنصاري بعد موته: قال أنس: "توفي شاب من الأنصار وله أم عجوز عمياء قال أنس: فسجيناه وعزيناها، فقالت: أمات ولدي؟ قلنا: نعم. فقالت: اللهم إن كنت تعلم/ (2/155/ب) إني هاجرت [إليك] 3 وإلى نبيّك رجاء أن تعينني على كلّ شدّة، فلا تحملن عليّ هذه المصيبة، قال أنس: فما برحنا حتى كشف الثوب عن وجهه فطعم وطعمنا4.
قال المؤلِّف: قال نقلة الإنجيل: "إن المسيح أحيا ابن المرأة"1، وهذه الآية أعظم شأناً منها؛ إذ هي جرت على يد امرأة ضعيفة من أتباع نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم ببركة هجرتها إليه صلى الله عليه وسلم فكما لا يضرّ ردّ اليهود لآية المسيح فكذلك لا يضرّ ردّ النصارى لآية محمّد صلى الله عليه وسلم. 32- معجزة: عن عبد الله بن عبيد الله الأنصاري، قال: كنت فيمن دفن ثابت2 بن قيس بن الشماس وكان قتل باليمامة فسمعناه حين أدخلناه القبر يقول: محمّد رسول الله، أبو بكر الصّدِّيق، عمر الشهيد، عثمان الرحيم، فنظرنا فإذا هو ميّت"3. 33- معجزة: أخرى من جنسها، قال النعمان4 بن بشير: "بينا زيد5 بن خارجة ماراً في بعض سكك المدينة إذخَرَّ ميتاً فرفع وسُجِّي فسمعوه بين العشائين النساء يصرخن حوله يقول: "أنصتوا أنصتوا.
وحسر عن وجهه/ (2/156/أ) وقال: محمّد رسول الله النبي الأمّيّ خاتم النّبيّين كان ذلك في الكتاب الأوّل، ثم قال: صدق صَدق [وذكر أبا بكر وعمر وعثمان] 1، ثم قال: السلام عليك يا رسول الله، ثم خرَّ ميتاً كما كان"2. 34- معجزة: قال سعد بن أبي وقاص وجماعة من الصحابة: لما كان يوم أحد أصيبت عين [قتادة] 3 حتى وقعت على وجنته فردّها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت أحسن عينيه4.
قال المؤلِّف: هذا أغرب مما نقلته التوراة عن يوسف الصّدِّيق عليه السلام في عيني أبيه، فقد جمع الله لنبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم ما تفرق من آيات الرسل والأنبياء وذلك فضل من الله يؤتيه من يشاء. 35- معجزة: نقل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أثر سهم في وجه أبي1 قتادة الأنصاري في يوم ذي قَار2، قال أبو قتادة: فما ضرب عليّ ولا قاح3.
36- معجزة: روى النسائي عن عثمان1 بن حنيف، قال: جاء أعمى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ادع الله أن يكشف لي بصري. قال: انطلق فتوضأ ثم صل ركعتين ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيّك محمّد نبيّ الرحمة، يا محمّد إني أتوجه بك / (2/156/ب) إلى ربّك أن يكشف عن بصري. اللهم شفّعه فِيَّ. قال: فرجع الأعمى وقد كشف الله عنه بصره2. قال المؤلِّف: هذه الآية تُؤمه آية3 الإنجيل، وتؤمه آية اليسع في نعمان الرومي وقد حكيناهما فيما تقدم4.
37- معجزة: ومن معجزاته عليه السلام إبراء علّه الاستسقاء: مرض ابن ملاعب الأسنة1 بالاستسقاء فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولاً، فأخذ عليه السلام قبضة من الأرض فتفل عليها ثم أعطاها رسوله فأخذها متعجباً يرى أنه قد هزى به. فأتاه بها وهو على شفا2 فشربها الرجل فشفاه الله تعالى3. قال المؤلِّف - رحمه الله - حكت التوراة4 أن موسى أمر قومه أن يسقوا مَنِ اتَّهمها زوجها بالزنى من طين يكون أسفل المذبح مخلوط برماد بقرة، فإن كانت المرأة فجرت أسفح بطنها وفخذاها5، وإن كانت برية سلمت من ذلك وحملت بذكر6، وهذه الآية أنْزل منها.
38- معجزة: روى العقيلي1 عن حبيب2 بن فديك أن أباه ابيضت عيناه فكان لا يبصر به شيئاً فنفث رسول الله صلى الله عليه وسلم/ (2/157/أ) في عينيه فأبصر، فرأيته بعد يدخل الخيط في الإبرة وهو ابن ثمانين سنة3. 39- معجزة: لما تعسر فتح خيبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأعطين الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله. فلما أصبح دعا عليّاً رضوان الله عليه وكان أرمد، فجيء به يقاد فتفل في عينيه فبرأ لوقته، وتقدم بالراية4. وفي هذه القصة عدة من الآيات شفاء عينيه، والإخبار عن دوام حياته وحياة الرسول إلى الغد، وأن خيبر لم تفتح قبل الغد مع كونها محصورة، وأن عليّاً رضوان الله عليه محبوب الله، وأن الفتح يكون على يده.
40- معجزة: ورُمي كلثوم1 بن الحصين يوم أحد في نحره فتفل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فبرأ2، وتفل على ضربة بساق سلمة3 بن الأكوع يوم خيبر فبرأت4. وأصاب السيف رجل زيد5 بن معاذ فتفل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فصحت وبرأت6.
41- معجزة: انكسرت ساق عليّ1 بن الحكم يوم الخندق فتفل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم / (2/157/ب) فبرأ مكانه ولم ينْزل عن فرسه2. 42- معجزة: اشتكى عليّ وجعاً فركله برجله، وقال: اللهم اشفه، فما اشتكى ذلك الوجع بعد3. 43- معجزة: قطع أبو جهل يوم بدر يد معوَّذ4 بن عفراء فجاء يحمل يده فبصق عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وألصقها فلصقها فلصقت وصحت مثل أختها5. رواه ابن6 وهب.
قال المؤلِّف: هذه والله أبهر للعقول من آية الإنجيل في اليد اليابسة1، وفي أذن العبد ملخس ليلة الفزع2، فالويل لمن كذب بشيء من ذلك. 44- معجزة: أصيب شقّ خبيب3 بن يساف يوم بدر حتى مال فردّه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ونفث عليه فبرأ وصحّ4. قال المؤلِّف: هذا نظير ما حكوه من شفاء المخلع في الإنجيل. 45- معجزة: جاءت امرأة من خثعم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصبي لها لم يتكلم، فأخذ عليه السلام ماء فتمضمض به وغسل يديه فأعطاها إيّاه وأمر بسقيه الصبي، ففعلت فبرأ الغلام وعقل عقلاً يفضل عقول
الناس وتكلم1. وهذه نظيرة آية الإنجيل وأبهر منها. 46- معجزة: قال/ (2/158/أ) ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: "جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بابن لها به جنون فمسح صدر الصبي فثع2 ثعة فخرج منه مثل الجرو الأسود فذهب وعوفي الغلام"3. قال المؤلِّف: من نازعنا في هذه الآية وما يشاكلها، قلنا له: ما دليلك على أن المسيح أخرج الجني من ابن الرجل الذي سأله4، ومن مريم خادمته5؟ فما أجاب به فهو جواب لنا.
47- معجزة: كان في كفّ شرحبيل1 الجعفي سلعة2 تمنعه القبض على السيف وعنان الدابة، فشكاها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فما زال عليه السلام يمسحها بكفه المباركة حتى رفع كفّه وقد زالت ولم يبق لها أثر3. 48- معجزة: سألت جارية رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً وهو يأكل فأعطاها من بين يديه وكانت قليلة الحياء، فقالت: إنما أريد من الذي في فيك. فناولها من فيه - ولم يكن عليه السلام يسأل شيئاً فيمنعه - فلما استقرّ في جوفها ألقى عليها من الحياء ما لم تكن امرأة بالمدينة أشدّ حياء منها ببركة رسول الله صلى الله عليه وسلم4.
49- ومن معجزاته / (2/158/ب) إجابة دعائه وهذا باب متسع جدّاً، وإجابة دعائه صلى الله عليه وسلم متواتر معلوم ضرورة فكان إذا دعا لرجل أدركت الدعوة ولده وولد ولده. قال أنس: "قالت أمي: يا رسول الله خويدمك أنس ادع الله له. فقال: اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما آتيته. قال أنس: فوالله إن مالي لكثير وإن ولدي وولد ولدي ليعادُّون اليوم على نحو المائة وما أعلم أحداً أصاب من رفيع العيش ما أصبت، ولقد دفنت بيدي هاتين مائة من ولدي ولا أقول سقطاً ولا ولد ولد"1. ودعا صلى الله عليه وسلم لبعد الرحمن بن عوف بالبركة2. قال عبد الرحمن: "فلو رفعت حجر لرجوت أن أصيب تحته ذهباً3، ومات عبد الرحمن فحفر الذهب في تركته بالفؤس حتى مَجَلَت منه4 أيدي الرجال وكان له أربع زوجات فأخذت كلّ زوجة في ربع الثمن مائة ألف درهم5، وقيل: بل صولحت مطلقته في مرضه على ثمانين ألف6، وأوصى عبد الرحمن بخمسين ألفاً بعد صدقاته / (2/159/أ)
الماشية في حال صحّته وعوارفه الكثيرة1، وأعتق ثلاثين2 عبداً، وتصدق في مجلس واحد بقافلة فيها سبعمائة جمل بما عليها من البر والبضاعة حتى أقتابها3 وأحلاسها4 رضي الله عنه5. كلّ ذلك ببركة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. ودعا عليه السلام لسعد بن أبي وقاص أن يجيب الله دعوته6 فما دعا قطّ إلاّ استجيب له7 فكانت دعوته مشهورة.
ودعا عليه السلام أن يعزّ الله الإسلام بعمر فاستجيب1 له وعَزَّ بهالإسلام، قال ابن مسعود: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر2. وأصاب [أهل] 3الإسلام عطش فقال عمر: يا رسول الله ادع الله لنا أن يسقينا. فدعا عليه السلام فجاءت سحابة فسقت الناس حاجتهم ثم أقلعت4.
ودعا عليه السلام في الاستسقاء فسقوا، فجاءه أهل العوالي يشكون كثرة المطر وتهديم الدور فدعا صلى الله عليه وسلم برفعه فأقلع1. وقال عليه السلام لأبي قتادة: "أفلح وجهك اللهم بارك له في شعره، وبشره"، فعاش سبعين سنة وكأنه ابن خمس عشرة سنة2. وقال للنابغة3: لا يفض اللهفاك4، قال: فعاش / (2/159/ب) مائة وعشرين سنة. وقيل: أكثر من ذلك فما سقطت له سن5.
وقال لابن عباس: "اللهم فقّهه في الدين وعلّمه التأويل"1. فسمي بعد الحبر2 وترجمان القرآن. وقال لعبد الله3: "اللهم بارك له في صفقة يمينه"4، فما اشترى شيئاً إلاّ ربح فيه. ودعا عليه السلام للمقداد بالبركة5.
فصارت عنده غرائر1 من المال. ودعا بمثل ذلك لعروة بن أبي الجعد2. فقال عروة: لقد صرت أقوم في السوق فما أرجع حتى أربح أربعين ألفاً3. وقال البخاري في حديثه: "فكان لو اشترى التراب لربح فيه". [روى مثل هذا لغرقدة أيضاً] 4، وندت له ناقة فدعا الله فجاءه بها إعصار ريح حتى ردّها عليه صلى الله عليه وسلم.
ودعا عليه السلام لأم أبي هريرة1، وقد كانت نالت منه فأسلمت من ساعتها2 وقصتها مشهورة. ودعا لعليّ - رضوان الله عليه - أن يُكفى الحرّ والبرد، فكان عليّ بعدها يلبس لباس الصيف في الشتاء ولباس الشتاء في الصيف ولا يصيبه حرّ ولا برد3.
ودعا لفاطمة سلام الله عليها: ألاّيجيعها. قالت: فماجعت قط بعدها1. وسأله الطفيل بن عمرو آية لقومه/ (2/160/أ) فقال: اللهم نَوَّر له. فسطع نور بين عينيه، فقال الطفيل: اللهم في غير وجهي فإني أخاف أن يقولوا مُثْله2. فتحوَّل النور إلى طرف سوطه كالقنديل، فكان يضيء في الليلة المظلمة فسمي ذا النور3.
ودعا عليه السلام على مضر فأقحطوا حتى استعطفته قريش فدعا لهم فسقوا وأخصبوا1. ودعا عليه السلام على كسرى أن يمزق الله ملكه2 ففعل الله ذلك وقتله ابنه شِيْروَيه3 ولم يقم بعدها للفرس قائمة. وأخبر عليه السلام فيروز4 عامل كسرى في الليلة التي قتل فيها وهو بالمدينة، فكان الأمر كما أخبر فأسلم فيروز فأسلم من معه5.
وقطع عليه إنسان صلاته فدعا عليه أن يقطع الله أثره فَأُقْعد1. وقال لآخر: كُلْ بيمينك. فقال: لا أستطيع. فقال له: لا استطعت. فلم يرفعها بعد إلى فيه2.
وقال لعتيبة1 بن أبي لهب: "اللهم سَلِّط عليه كلباً من كلابك"، فأكله الأسد بعد أن حرسه أهله وصانوه2. ودعا على النفر الذين وضعوا السَّلَى3 عليه ساجد وسماهم واحداًواحداً، قال ابن مسعود: فلم ينج منهم واحد / (2/160/ب) لقد رأيتهم قتلى يوم بدر4.
وكان الحكم1 بن العاص يَخْتَلج2 بوجهه في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه السلام: "كذلك فكن". فابتلي بهذه العلة إلى أن مات3. قال المؤلِّف: هذه الآية نظيرة ما في الإنجيل من دعاء المسيح على شجرة تين فيبست4. ودعا عليه السلام على مُحَلَّم5 بن جَثَّامة فهلك فلفظته الأرض فواروه فلفظته أيضاً دفعات فجعلوه بين رضمتين - وهما جانبي الوادي - ثم رضموه بالحجارة6.
وجحد رجل1 بيع فرس وهي التي شهد بها خزيمة2. فقال: اللهم إن كان كاذباً فلا تبارك له فيها. فأصبحت من ليلتها على ثلاث قوائم3.
50- ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم انقلاب الأعيان له، روى الفِرَبْري1 عن البخاري بإسناده عن أنس بن مالك: أن أهل المدينة فزعوا مرة فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرساً لأبي2 طلحة كان به قطاف3 فكان بطيئاً فلمارجع عليه السلام قال: إناوجدناه لَبَحراً4 فكان بعد لا يحارى"5.
وخفق فرسا لُجَعيل الأشجعي1 بمخفقة2 كانت في يده وبرك3 عليها فلم يملك رأسها نشاطاً وباع من باطنها باثني عشر ألفاً4. وركب حماراً قطوفاً5 / (2/161/أ) لسعد بن عبادة فَرَدَّ هِمْلاجا6لا يساير7. وكانت شعرات من شعره صلى الله عليه وسلم في قلنسوة8 خالد بن الوليد، فلم يشهد بها قتالاً إلاّ رزق النصر9.
وفي الصحيح عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما أنها أخرجت جبة طيالسة1 وقالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسها"، فنحن نغسلها للمرض يستشفى بها2. وكانت قصعته عليه السلام عند بعض العلماء وكان يجعل فيها الماء للمرضى فيستشفون3 ببركتها4. وأخذ جهجاه الغفاري5 القضيب6 من يد عثمان ليكسره على ركبته فصاح الناس به فأخذته الأكلة7 فقطعها ومات بها قبلالحول8.
وسكب من فضل وضوئه في بئر قباء فما نزفت بعد1. ومرّ على بئر فسأل عنه فقيل: اسمه (بيسان) ، وماؤه ملح، فقال عليه السلام: "بل هو (نعمان) ماؤه طيب"، فصار كذلك"2. وكان لأم3 مالك عُكَّة تهدي فيها للنبي سمناً فكانت أبداً تجدها مملوءة سمناً فكانت تقيم بإدامهم4. وغرس لسلمان الفارسي ثلاثمائة ودية5 فلم يمت منها / (2/161/ب) واحدة، وأطعمت من عامها خلاً واحدة غرسها غيره فلم تطعم فنَزعها ثم وضعها فلحقت بأخواتها، وقصة سلمان مشهورة. وأعطاه نذراً6 من الذهب، وقال: أَدِّه فيما7 عليك، فقال: أين يقع هذا
فيما عليّ يا رسول الله؟ فأخذه عليه السلام فَقَلَّبه على لسانه فوفَّى منه أربعين أوقية كانت عليه وبقي منه له مثل ذلك1. قال حنش2 بن عقيل: شرب رسول الله صلى الله عليه وسلم [سويقا] 3 وسقاني فَضْلَه، وما برحت أجد شبعاً ورياً وبرداً4. وصلى معه قتادة5 بن نعمان العشاء الآخرة في ليلة مظلمة فأعطاهعرجوناً، وقال: انطلق فإنه سيضيء لك من بين يديك عشراً ومن خلفك عشراً. فأضاء له العرجون حتى دخل بيبته6.
ودفع لعكاشة1 بن محصن جذل2 حطب حين انكسر سيفه، وقال: اضرب به. فعاد في يده سيفاً صارماً طويلاً أبيض شديد المتن وذلك في يوم بدر فقاتل به وشهد المشاهد إلى أن استشهد في قتال الردة وكان يسمى: "العون"3. هاتان الآيتان تجريان مجرى انقلاب العصا حية صلوات الله على سيّدنا محمّد وسلامه / (2/162/أ) ودفع لعبد الله4 بن جحش يوم أحدوقد ذهب سيفه عسيب5 نخل فرجع في يده سيفاً6.
51- ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم بركة يده في إمرارها على ضروع الشياة الحوَائل1 فتدر ألبانها كفعله في شاة2 أم3 معبد. وشاة4 معاوية5بن ثور، وشاة6 أنس،
وغنم حليمة مرضعته وشارفها1، وشاة عبد الله بن مسعود وكانت لم يَنْزُ عليها فحل2، وشاة المقداد3. وكلّ ذلك مستفيض عند أهل العلم والحديث. 52- ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم تحويل الماء لبناً وهو أعجب من تحويل الماء خمراً وزيتاً كما حكى أهل الكتاب عن كتابي4 الإنجيل5 وسفر الملوك6. قال حماد7 بن سلمة: "زود رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه سقاء من ماءبعد أن
أوكاه ودعا فيه فلما حضرتهم الصلاة نزلوا فَحَلُّوه فوجدوه لبناً طيباً وفي فمه زبدة"1. وهذا أنزل من تحويل الماء دماً كما فعل موسى بمصر. 53- ومسح عليه السلام بيده المباركة رأس عمير2 بن سعد وبرك فعاش ثمانين سنة لم يشب رأسه3. وكل ذلك ببركة يد رسول الله صلى الله عليه وسلم / (2/162/ب) وفعل ذلك بغير واحد من المسلمين
منهم السائب1 بن يزيد ومدلوك2، ومسح على بطن عتبة3 بن فرقد وظهره فكان يوجد له طيب يغلب طيب نسائه4
وجرح عائذ1 بن عمرو يوم حنين2 فسلت الدم عن وجهه ودعا له فكانت له غرة كغرة الفرس ببركة يدنبي الله صلى الله عليه وسلم3. ومسح على رأس قيس4 بن زيد الجُذامي ودعا له فعاش مائة سنة ورأسه أبيض وموضع كفّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وما مرت عليه يد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسود غربيب، فكان يدعى الأغر5.
وكذلك فعل بعمرو بن ثعلبة الجهني1، ومسح على وجه رجل من المسلمين فكان لا يزال على وجهه نور2، وكان لوجه قتادة3 بن ملحانبريق حتى كان ينظر في وجهه كما ينظر في المرآة لأنه صلى الله عليه وسلم مسح بيده على وجهه4. ووضع يده عليه السلام على رأس حنظلة5 بن حذيم وبرك عليه،
فكان حنظلة يؤتى بالرجل قد ورم وجهه وبالشاة قد ورم ضرعها فيضعه على موضع كف رسول الله صلى الله عليه وسلم فيذهب الورم ويجد الشفاء1. ونضح وجه / (2/163/أ) زينب2 بنت أم سلمة بماء، فما يعرف كان في وجه امرأة من الجمال ما في وجهها3.
ومسح على رأس صبي به عاهة فبرأ واستوى شعره1، وفعل ذلك بجماعة من المجانين والمرضى فشفوا وصحوا. قال المؤلِّف: وعند هذه الآية صح قول أشعيا النبي حيث يقول متنبئاً على محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم: "روح الرّبّ عليّ من أجل هذا مسحني وأرسلني، لأنذر العميان بالنظر والمأسورين بالتخلية، وأبشّر بالسنة المقبولة"2. فقد أنذر العميان وأطلق الأسارى من أيدي ملوك مثل كسرى وغيره، وكانت العرب في أسارهم يؤدون لهم الأتاوة والخراج، وبشر بالسنة المقبولة صلى الله عليه وسلم، وأطلق المجانين من أيدي الشياطين.
وأتاه رجل به أَدْرَة فأمره عليه السلام أن ينضحها بماء من عين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمج فيها، فذهب الرجل وفعل ذلك فشفي من إدرته1. قال المؤلِّف - عفا الله عنه - هذا أعجب من قول المسيح لنعمان الأبرص: اذهب إلى عين كذا وانغمس فيها / (2/163/ب) سبع مرات فبرئ2، وألطف من قول موسى لأخته مريم وقد تبرصت: اخرجي عن عسكرنا وابعدي عنه سبعة أيام. حتى عوفيت3. وأعظم من آية الإنجيل التي حكوها في صاحبة4 النَّزيف. وعن طاوس5 قال: لم يؤت النّبيّ صلى الله عليه وسلم بأحد به جنون فصك في صدره إلاّ ذهب الجنون عنه6.
قال المؤلِّف: هذا ألطف مما فعل المسيح إذ ما خرج الجني من الصبي الذي كلمه أبوه فيه حتى صرع الصبي ولبطه وكاد1 أن يموت2، وهذا طاوس يخبر أنه بمجرد مسّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صدر المجنون فيذهب جنونه. وأخذ عليه السلام قبضة من تراب يوم حنين ورمى بها وجوه الكفار وقال: "شاهت الوجوه". وانهزموا يمسحون التراب عن أعينهم3. وشكى إليه أبو هريرة النسيان وقلة الحفظ فأمره ببسط ثوبه والنبي يحدّث فلما حدّثه ضَمَّ الثوب إلى صدره، قال أبو هريرة: فما نسيت شيئاً سمعته بعد4. وكان جرير5 بن عبد الله لا يثبت على الخيل فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم / (2/164/أ) صدره ودعا له فكان أثبت العرب وأفرسهم6.
ومسح رأس عبد الرحمن1 بن زيد بن الخطاب وكان دميماً ودعا له فَفَرع الرجال تماماًوطُولاً2. 54- ومِن آياته عليه السلام اطلاعه على الغيوب، وإعلام الله له بما يكون قبل كونه. قال العلماء والأئمة: "وهذه المعجزة من جملة معجزاته معلومة لنا على القطع واصلة إلينا بتواتر النقل لكثرة رواتها واتفاق معانيها". قال حذيفة: "قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاماً فما ترك شيئاً يكون إلى أن تقوم الساعة إلاّ حدّثنا به، حفظه مَنْ حفظه، ونسيه مَنْ نسيَه، وقد علم3 أصحابي هؤلاء أنه ليكون مني الشيء، فأعرفه فأذكره كما يذكر الرجل وجهاً إذا غاب عنه ثم إذا رآه عرفه"4. ثم قال حذيفة: " [واللهِ] 5 ما أدري أنسيَ أصحابي أم تناسوه، والله ما ترك
رسول الله صلى الله عليه وسلم من قائد فتنة إلى أن تنقضي1 الدنيا يبلغ من معه ثلاثمائة فصاعداً إلاّ قد سمّاه لنا باسمه واسم أبيه وقبيلته2. (/ (2/164/ب) . وقال أبو ذرّ: "لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يحرك طائر جناحيه في السماء إلاّ ذَكَّرنا منه علماً"3. وقد خرج أهل الصحيح والأئمة ما أعلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه من الظهور على أعدائه وفتح مكّة4 وبيت المقدس5 واليمن والشام
واليمن1. وظهور الأمن حتى تظعن المرأة من الحيرة2 إلى مكّة لا تخاف إلاّ الله3. وأنّ المدينة سَتُغزى4. وتفتح خيبر على يد عليّ فيغد يومه5، وأخبرهم بما يفتح الله على يدي أمته من الدنيا وما يؤتون من زهرتها6.
وقسمتهم كنوز كسرى وقيصر1. وأنه ستكون لهأنماط2. ويغدو أحدهم في حلة ويروح في أخرى وتوضع بين يديه صحفة وترفع أخرى ويسترون بيوتهم كما تستر الكعبة3. وأنهم سيمشون المطيطاء4 وتخدمهم بنات فارس والروم ويقاتلهم الترك والخزر والروم5.ويقاتلهم الترك والخزر والروم6.
وأخبرهم بذهاب كسرى وفارس1 حتى لا كسرى ولا فارس بعده. وذهاب قيصر حتى لا قيصر بعده2. وأخبرهم أن الروم ذوات قرون إلى آخر الدهر3. وأخبرهم بذهاب الأمثل / (2/165/أ) فالأمثل من الناس4،وقبض العلم وظهور الفتن والهرج5. وقال: "إنه زويت له الأرض فأري مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمته ما زوي له منها"6. فلهذا امتدت مملكة أمته - صلوات الله عليه وسلامه - من المشارق إلى المغارب كما ترى، حتى بلغت من أقصى الهند إلى بحر طنجة حيث لا عمارة وراءه.
وقال عليه السلام: "لا تزال طائفة من أمّتي ظاهرة على الحقّ لا يضرّهم من ناوأهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك. فقيل: يا رسول الله وأين هم يومئذٍ؟. قال: بيت المقدس" 1. وأخبر عليه السلام بملك بني أمية2 واتّخاذهم مال الله دولاً3. وأخبر
بخروج بني العباس بالريات السود1 وملكهم أضعاف ما ملكوا2. وأخبر عليه السلام بخروج المهدي3. وأخبرنا بما ينال أهل بيته رضوان الله عليهم أجمعين4. وأخبر بقتل عليّ بن
أبي طالب رضوان الله عليه، وأن أشقى الناس الذي يخضب لحيته الكريمة من رأسه1. وقال عليه السلام: "يقتل عثمان وهو يقرأ بالمصحف"2. وأن الله سيلبسه قميصاً وأن المنافقين/ (2/165/ب) يريدون خلعه3، وأنه سيقطر دمه "على قوله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: من الآية:137] 4.
وقال عليه السلام: "إن الفتن لا تظهر ما دام عمر حيّاً"1. وأخبر عليه السلام بقتال الزبير لعليّ2. وأخبر أن عماراً3 تقتله الفئة الباغية4. وقال لعبد الله بن الزبير: "ويل للناس منك وويل لك من الناس"5. وقال في قزمان6 وقد أبلى مع المسلمين: "إنه لمن أهل النار". فقتلنفسه7.
وقال عليه السلام لجماعة فيهم أبو هريرة وسمرة1 بن جندب، وحذيفة: "آخركم موتاً في النار". فكان بعضهم يسأل بعضاً، فكان سمرة آخرهم موتاً هرم فاصطلى بالنار فاحترق2 فيها3. وقال في حنظلة4 الغسيل: "سلوا زوجته فإني رأيت الملائكة تغسله". فأخبرتهم أنه خرج للحرب جنباً أعجله الحال على الغسل5، قال أبو سعيد:
وجدنا رأسه يقطر ماء. وقال عليه السلام: "الخلافة في قريش"1. فها هي لم تعدهم. وقال: "يكون في ثقيف كذاب ومبير"2. فكانا وهما: الحجاج3، والمختار4.5. وقال:"إن فاطمة أوّل أهل بيته لحوقاً به"./ (2/166/أ) فكانت6.وأنذر عليه السلام بالردة7.
وقال: "الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تصير ملكاً". فكانت كذلك بولاية الحسن رضوان الله عليه1. وأخبر بشأن أويس2 القرني ووصفه بحليته وأن له والدة وأنّه كان به برص فدعا الله فشفاه إلاّ موضع الدرهم، وأن عليّاً وعمر [سيلقيانه] 34. فكان كل ذلك صلوات الله على سيّدنا محمّد وآله.
وأخبر عليه السلام أنه سيكون بعد ثلاثون دجّالاً فيهم أربع نسوة وآخرهم الدّجّال الكذّاب1 وكلهم يكذّب على الله وعلى رسوله. وقال عليه السلام: "خير القرون2 قرني ثم الذين يلونهم ... ". الحديث3. فكان الأمر كذلك. وقال: "لا يأتي زمان إلاّ والذي بعده شرّ منه"4.
وأخبر عليه السلام بظهور القدرية1 والرافضة2 والخوارج ووصفهم بصفاتهم3 والمُخْدَج الذي فيهم4، وأن سيماهمالتحليق5.
وأخبر عليه السلام بأن رعاء الشاة يتطاولون في البنيان وأن الأمة تلد ربتها1، وأن قريشاً والأحزاب لا يغزونه أبداً وهو الذي يغزوهم2. وأخبر عليه السلام بأن أمته يغزون في البحر كالملوك على الأسرة3.
وأخبر / (2/166/ب) فقال: "لو أن الدين والعلم عند الثريا لنالهرجل من فارس"1. فكان جميع ما قال وأخبر به صلى الله عليه وسلم. وهاجت ريح في غزاته فقال عليه السلام: "هاجت لموت منافق". فلما رجعوا إلى المدينة وجدوا ذلك2. وقال لجلسائه: "ضرس أحدكم في النار أعظم من أحد". قال أبو هريرة: فذهب القوم وبقيت أنا ورجل فقتل مرتداً يوم اليمامة3. وأخبر عليه السلام بالذي غَلَّ خرزاً من المغنم فوجدت في رحله4 وبالذي
غَلَّ الشملة1، وأخبر بناقته2. وحيث هي باقية حين ضلت وكيف تعلقت بشجرة بوادي كذا فوجدت على النعت الذي ذكر3. وأخبر بكتاب حاطب4 إلى أهل مكّة5. وبالمال الذي تركه العباس عند أم الفضل6 فكان ذلك سبب إسلامه7.
وأخبر عليه السلام بأنه سيقتل أُبّيّ1 بن خلف فقتله2. وقال في عتبة بنأبي لهب: "إنه سيأكله الأسد". فأكله بعد أن حُرِس3. وأخبر عن مصارع أهل بدر قبل كونها فكان جميع ذلك4. وقال: "إن الحسن يصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين"5. وأخبر عليه السلام بقتل أهل مؤتة6 يوم قتلوا". وبينه وبينهم أكثر من شهر7.
وأخبر بموت النجاشي1/ (2/167/أ) ومات وهو بأرض الحبشة2. وبينهما ما قد علم. وأخبر فيروز بقتل كسرى يوم قتل فأسلم فيروز ومن معه3. وأخبر أبا4 ذرٍّ بطريده ورآه في المسجد نائماً وحده فقال: كيف بك يا أبا ذرٍّ إذا أخرجت منه؟ قال: أسكن المسجد الحرام. قال: فإذا أخرجت منه5 - الحديث بطوله -، فجرى ذلك كله. وأخبر بعيشهوحده وبموته وحده فمات بالرَّبْدة6 وحده7. وقصته مشهورة.
وأخبر عليه السلام بأن أسرع أزواجه لحوقاً به أطولهن يداً فكانت زينب لطول يدها بالصدقة1. وأخبر بقتل الحسن رضوان الله عليه بالطَّف2. وأخرج بيده تربة وقال: "في هذه مضجعه"3. وقال لزيد بن صوحان4: "يسبقه عضو منه إلى الجنة"، فقطعت يده في الجهاد5.
وقال في الذين معه على الجبل: "اثبت حراء، فإنما عليك نبيّ وصدّيق وشهيد". فقتل عمر وعثمان وعليّ وطلحة والزبير وطعن سعد1. وقال لسراقة2:"كيف بك إذا ألبست سواري كسرى؟ ".فلما أُتي عمربهماألبسهماإياه. وقال: الحمدلله الذي سلبهماكسرى وألبسهما سراقة3. وقال عليه السلام لعمر في سهيل4 بن عمرو حين / (2/167/ب) قالله ما قال: "عسى أن يقوم مقاماً يسرك يا عمر". فقام بمكّة حين بلغه وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخطب خطبة يثبت فيها بصائرهم على الإسلام5 وكذلك فعل بالشام أيضاً.
وقال لخالد بن الوليد حين وجّهه لأكيدر1: "إنك ستجده يصيد البقر". فكان الأمر كذلك2. إلى ما أخبر به عليه السلام جلساءه من أسرارهم وبواطنهم ونَبَّه عليه السلام من أسرار المنافقين وكفرهم وإلحادهم حتى صار أحدهم يقول لأصحابه: اسكت فوالله لو لم يكن عنده مَنْ يُخبر لأَخْبَرتْه حجارة البطحاء3.
وأعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بصفة السحر الذي سحره لبيد1 بن الأعصم وحيث جعله، فوجد على تيك الصفة وفي ذلك المكان2. وأعلم قريشاً أن الأَرَضَة قد أكلت صحيفتهم التي كتبوها على بني هاشم خلا قوله: باسمك اللهم3. ووصف عليه السلام لقريش بيت المقدس حين كَذَّبوه في خبر الإسراء4، وأعلمهم بشأن العير الواصلة فلم يخرم من ذلك حرف5.
إلى ما أخبر به عليه السلام من الحوادث التي ستكون ولما تجيء بعد، كقوله: "عمران بيت المقدس / (2/168/أ) خراب يثرب، وخراب يثرب خروج الملحمة، وخروج الملحمة فتح القسطنطينية"1. وهذا نوع من معجزاته لا يكاد يحصر لكثرته واتساعه. 55- ومن ومعجزاته عليه السلام عصمته من أعدائه على كثرتهم: قال الله له: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: من الآية48] . وقال سبحانه: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: من الآية67] . وقال سبحانه: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: من الآية36] . وقال عزّ من قائلٍ: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ} [الحجر:95] .وقال: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [لأنفال: من الآية30] . الآيات. قالت عائشة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحرس حتى نزل قوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: من الآية67] . فأخرج عليه السلام رأسه من القبة فقال: أيها الناس انصرفوا فقد عصمني ربّي عزوجل2".
وكان عليه السلام إذا نزل منْزلاً اختار له أصحابه شجرة يقيل تحتها فأتاه أعرابي وهو غورث1 بن الحارث فاخترط سيفه، وقال: من يمنعك مني؟ فقال: الله. فأرعدت يده وسقط سيفه وضرب برأسه الشجرة حتى سال دمه2. والحديث في الصحيح3، فنَزل قوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: من الآية67] . وجرى ذلك له مرات، منها يوم بدر وقد انفرد من أصحابه4. ومنها في غزوة غطفان5 مع رجل يقال/ (2/168/ب) له دعثور6 ابن الحارث وأنه أسلم فلما رجع إلى
قومه الذين أغووه بذلك قالوا له: أين ما كنت تعدنا؟ وكان أبسلهم وأشجعهم، قال: إني نظرت إلى رجل أبيض طويل دفع في صدري فوقعت لظهري وسقط السيف من يدي فعرفت أنه ملك فأسلمت1. وكانت حمالة2 الحطاب تضع العضاء - وهي جمر3 - على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنما يطؤها كثيباً أهيل4.5.
وقد ذكر ابن إسحاق أن حمالة الحطب حين بلغها قول الله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبّ} [المسد: من الآية1] 1. وذمّها الله مع زوجها جميعاً أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس ومعه أبو بكر وفي يدها فهر من حجارة فلما وقفت عليهما لم تر سوى أبي بكر وأخذ الله ببصرها عن نبيّه فلم تره فقالت: يا أبا بكر، أين صاحبك؟ فقد بلغني أنه هجاني والله لو وجدته لضربته بهذا الفِهْر2 فاه3. وقال الحكم بن أبي العاص: "تواعدنا على النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا رأيناه سمعنا صوتاً ما ظننا أنه بقي بتهامة أحد، فوقعنا مغشياً علينا فما أفقنا حتى قضى صلاته وانصرف إلى أهله، ثم تواعدنا ليلة أخرى فجئنا حتى إذا رأيناه جاءت الصفا والمروة / (2/169/أ) فحالت بيننا وبينه4.
وعن عمر قال: تواعدت أنا وأبو1 جهم بن حذيفة ليلة لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئنا منْزله فسمعناه يقرأ: {الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ} [سورة الحاقة، الآيات: 1-8] ، إلى قوله تعالى: {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَة} . [الحاقة الآيتان: 1-8] . فضرب أبو جهم على عصدي وقال: انج. وفررنا هاربين2. ولما اجتمعت قريش على قتل نبيّ الله وبَيَّتوه خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام على رؤوسهم وقد ضرب الله على أبصارهم فذر التراب على رؤوسهم وذهب فجعل الرجل يتناول من على رأسه تراباً وذهبوا خائبين3. ومن هذا القبيل كفاية الله له في الغار بما هيأ الله له من الآيات من نسج العنكبوت على باب الغار حتى قال أمية بن خلف حين قالوا: ندخل
الغار-: إن على الغار من نسج العنكبوت ما أرى أنه قبل أن يولد محمّد. ووقفت حمامتان على فم الغار، فقالت قريش: لو كان فيه أحد لما كان هناك الحمام1. وقصته مع سراقة مشهورة، وذلك أن قريشاً جعلت في رسول الله الجعائل فركب سراقة بن مالك واتبعه حتى إذا قرب منهما دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم / (2/169/ب) فساخت قوائم فرسه في أرض صلبة ومحجر صلد، فخر عنها واستقسم بأزلامه فخرج له ما يكره، ثم اتبعهما ثانية حتى إذا دنا منهما وسمع قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله لا يلتفت قال أبو بكر: أُتينا يا رسول الله. فقال: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} . [التوبة: من الآية40] . فساخت قوائم فرسه ثانية إلى ركابها فَخَرّ عنها زجرها فنهضت ولقوائمهما مثل الدخان. فناداهم بالأمان فكتب له النبي صلى الله عليه وسلم كتاب أمان كتبه أبو بكر، وقيل: كتبه ابن2 فهيرة. وأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يدع الطلب
يلحق بهم فانصرف سراقة يقول للناس: كفيتم ما ها هنا. ووقع في نفسه ظهور النبي صلى الله عليه وسلم1. ورآهم آخر من الرعاة فخرج ينشد يعلم قريشاً، فلما ورد مكّة ضرب على قلبه فأنسي ما قدم له حتى رجع إلى موضعه2. قال ابن إسحاق: "وجاءه أبو جهل بصخرة وهو ساجد وقريش ينظرون إليه ليطرحها عليه، فلزقت بيده ويبست يده إلى حد عنقه فرجع القهقري وسأله فدعا له حتى انطلقت يداه، وكان حلف لقريش لئن رآه ليدمغنه فسألوه عن شأنه / (2/170/أ) فذكر أنه عرض له دونه فَحْلٌ ما رأى مثله هَمَّ به أن يأكله، فقال عليه السلام: ذلك جبريل لو دنا مني لأخذه"3.
وذكر السمرقندي1 أن رجلاً من بني المغيرة أتى النبي صلى الله عليه وسلم ليقتله فطمس الله على بصره فلم [يره] 2. وكان يسمع قراءته ولا يهتدي إليه فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتى نادوه3. وعن أبي هريرة قال: "إن أبا جهل وعد قريشاً لئن رأى محمّداً ليؤذينّه، فلما صلى النبي أعلموه فأقبل فلما قرب منه ولَّى هارباً ناكصاً على عقبيه متقياً بيديه فسئل عن ذلك، فقال: لما دنوت منه أشرفت على خندق مملوء ناراً كدت أهوي فيه وأبصرت هولاً عظيماً وخفق أجنحة قد ملأت الأرض. فقال عليه
السلام: "تلك الملائكة، لو دنا لاختطفته عضواً عضواً"1. وعن شيبة2 بن عثمان الحجبي، قال: لما كان يوم حنين وكان حمزة قتل أبي وعمي، قلت: اليوم أدرك ثأري من محمّد. فلما اختلط الناس أتيته من خلفه ورفعت سيفي لأصبه عليه فلما دنوت منه ارتفع لي شواظ من نار أسرع من / (2/170/ب) البرق فوليت هارباً، وأحس بيَ النبي صلى الله عليه وسلم فدعاني فوضع يده على صدري وهو أبغض الخلق إليَ فما رفعها إلاّ وهو أحبّ الخلق إليَّ، وقال لي: أُدن فقاتل، فتقدمت أمامه أضرب بسيفي وأقيه بنفسي ولو لقيت تلك الساعة أبي لأوقعت به دونه3. وعن فضالة4 بن عمير، قال: أردت قتل النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح وهو يطوف بالبيت فلما دنوت، قال: أفضالة؟ قلت: نعم. قال: ما كنت تحدث به نفسك؟ قلت: لا شيء. فضحك واستغفر ليَ ووضع يده على صدري فسكن قلبي.
فوالله ما رفع يده حتى ما خلق الله من شيء أحب إليّ منه صلى الله عليه وسلم1. ووفد عامر2 بن الطفيل وأربد3 بن قيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عامر قال لأربد: أنا أشغل عنك وجه محمّد بالحديث فاضربه أنت. فلما خرجا من عنده ولم يصنع شيئاً، قال: أين ما عزمت عليه؟ قال: والله ما هممت به إلاّ وجدتك بيني وبينه أفأضربك بالسيف؟ 4. ومن عصمة الله له أن كثيراً من اليهود والكهنة أنذروا به قريشاً ووصفوه لهم وأخبرهم بسطوته / (2/171/أ) بهم وحَضُّوهم على قتله فحماه الله وعصمه من كلّ سوء حتى بلغ فيه كرامته. قال المؤلِّف: وقد روي عن أفاضل الصحابة أنهم سمعوا ليلة ولادة رسول
الله صلى الله عليه وسلم يهودياً ينادي صاحبه على أطم1 من آطام2 المدينة: يا فلان إنه قد طلع في هذه الليلة نجم أحمد3. وذلك مواطئ لقول المجوسالذي حكاه النصارى في إنجيلهم عند مولد المسيح4، وأنَّى لهم بتحقيق تلك الحكاية عن المجوس إلاّ بالطريق التي ثبتت به أخبارنا، فإن قدحوا في صحة أخبارنا لم يسلموا من مثل ذلك فيما صاروا إليه، وقد حكى الصنارى أنّ أم المسيح حين خافت عليه هيرودس هوبَتْ إلى مصر وهو طفل5، فأما رسول الله فعصمه الله من كيد أعدائه وهو بين أظهرهم وقد جهدوا جهدهم ولم نحتج إلى ما نقله المخالفون. 56- ومن معجزاته عليه السلام إمداد الله له بالملائكة وطاعة الجن له، قال الله تعالى في كتابه الكريم: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} ، [سورة الأنفال: من الآية12] . وقال عزّ من قائل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ6 فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ ... } ، [سورة الأنفال: من الآيتان 9-10] ، وقال: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ
الْقُرْآنَ} ، [الاحقاف: من الآية29] ، وقد رأى الجن جماعة من أصحاب نبيّنا عليه السلام وكذلك شاهدوا جبريل وهو يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان1، ورأى جبريل عليه السلام ابن عباس2 وأسامة3 وغيرهما. وأبصر سعد4 جبريل وميكائيل عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله في صورة رجلين عليهما ثياب بيض5. وقد كانت الملائكة تصافح عمران بن حصين صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم6. ورأى ابن مسعود الجن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم7. ولما قتل مصعب بن عمير أخذ راية المسلمين ملك على صورته فكان النبي
عليه السلام يقول له: تقدم يا مصعب. فقال: لست بمصعب. فعرف أنه ملك1. قال المصنِّف: إن طعن في هذه الشهادات المتضافرة يهدي أو نصراني وَرَد عليهم فيما حكوه عن بطرس وابني زيدي من أنهم رأوا الملائكة بالجبل2 وقد جاءت للمسيح، وكذلك ما رواه اليهود من مجيء الملائكة لإبراهيم ولوط وموسى3. وكل سؤال انعكس على السائل سقط جوابه عن المسؤول. وقد أَرَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم جبريلَ / (2/172/أ) لحمزة في الكعبة فخر حمزةُ مغشياً عليه4. وحكى جماعة من العلماء أن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه قال: "بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم [جالس] 5 إذ أقبل شيخ في يده عصا فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد عليه النبيّ. وقال: نغمة الجن فمن أنت؟ قال: أنا هامة بن الهيثم بن لاقش
بن إبليس - فذكر أنه لقي نوحاً ومن بعده ... ، في حديث طويل، وأقرأه عليه السلام سوراً من القرآن1. وقد حكى الواقدي أنّ خالداً قتل العُزَّى عندما هدم بيتها2. 57- ومن دلائل نبوته ما نطقت به قدماء الشعراء الموحدّين من التنويه
بشأنه صلى الله عليه وسلم مثل: تبع1 والأوس2 بن حارثة، وكعب3 بن لؤي،
وسفيان1 بن مجاشع، وقس2 بن ساعدة،
وما ذكرهسيف1 بن ذي يزن الملك، وما عرف به زيد2 بن عمرو بننفيل. وورقة3 بن نوفل،
وعثكلان الحميري1شامول2 صاحب تبع.
وما حكاه علماء اليهود وأسلم لَمَّا حقق أمره مثل عبد الله1 بن سلام وابني2 سعية وابن3 يامين ومخيريق4 وكعب الأحبار5 من أحبار اليهود وعلمائهم.
وكذلك ما حكاه أحبار النصارى و [متديّنوهم] 1 مثل: بحيرا الراهب2 / (2/172/ب) ، و [نسطور الحبشة] 3 وصاحب بصرى4 وضغاطر5 وأسقف الشام6
والجارود1، والنجاشي ملك الحبشة2، وسلمان وأساقفة نجران3 ممن آمن وحقّق وأسلم وصدق. 58- ومن دلائل نبوته عليه السلام ما نطقت به الكهان: مثل شافع4 بن كليب وشقّ وسَطِيح5
وسواد1 بن قارب الدوسي وخنافر2.
وأفعى نجران1، وجِذْل بن جِذْل الكندي2، وابن خَلَصة الدوسي3،
وسعدى1 بنت كريز، وفاطمة ابنة النعمان2، إلى ما سمع من الأصنام3 ونطقت به هواتف الجان4، ووجد مكتوباً على الحجارة المدفونة بالقلم الأوّل5. إلى ما ظهر عند مولده من الآيات مما حكته
أمه والنسوة الثقات من كونه حال بروزه كان رافعاً بصره إلى السماء1، وأنها رأت نوراً خارجاً معه2، ورأين النجوم وقد تدلت من الأفق3، والنور قد أضاء حتى ملأ الأرض إلى ما جرى عند ولادته من ارتجاج
أبواب كسرى وسقوط شرفاته1، وغيض ماء بحيرة طبرية، وخمود نار فارس وكان لها ألف عام لم تخمد2، وحراسة السماء بالشهب وقطع رصد الشياطين3.
وكونه عليه السلام لم يكن له ظل في شمس / (2/173/أ) ولا قمر لأنه نور كله1، وكان الذباب لا يسقط على جسدهوثيابه2. وأعلم أصحابه بموته ودنوّ أجله3. وأخبرهم أن قبره بالمدينة يكون4 وفي
بيته سكنه1. ونداء الملائكة عند غسله: ألا تنْزعوا قميصنبيّ الله صلى الله عليه وسلم2. 59- ومن دلائل نبوّته صلى الله عليه وسلم ما أظهر الله على يد أصحابه وأمته من الكرامات والآيات البيّنات، وذلك زيادة في تخصيصه وآياته وصدقه وزلفته عند الله تعالى، وهذه الدلالة متّسعة جداً فلنقتصر منها على لمعة يسيرة يحصل
الغرض، ففي صدور الكرامات والآيات على يد الأتباع برهان ظاهر على صدق المتبوع1. - قالت عائشة: لما حضرت أبا بكر الوفاة، قال: يا بنية إن أحبّ الناس إليَّ بعدي أنت، وإن أعزّ الناس عليّ فقره بعدي أنت وإني كنت نحلتك جداد عشرين وسقاً من مالي فوددت والله أنك حزتيه، وإنما هو أخواك وأختاك2. قالت: هذان أخواي، فمن أختاي، قال: ذو بطن ابنة خارجة فقد ألقي في روعي / (2/173/ب) أنها جارية، فولدت أم كلثوم3.
- وروي عن عمر أنه نادى: يا سارية1 الجبل. يقول ذلك لبعض أمراء المسلمين حين أحاط به العدو، وبينهما أكثر من شهر، فأسمع الله سارية صوتَه، فكانت سبب سلامة المسلمين2، وهذه كرامة لا توازيها كرامة. - وروى سيف بن عمر الأسدي3 أن عمر اعترض الذين سيَّرهم إلى العزاة فرأى فيهم فتية فكرهم وتفرَّس فيهم الشّرّ، وتعجب الناس من كراهيته فيهم، ولم يرد أن يشهر أمرهم للناس، فكان فيهم من غزا عثمان وقتله وقتل عليّ بن أبي طالب وأثاروا الفتن على الناس بعد4.
- وروي أنّ عليّاً1 رضوان الله عليه قدم عليه قوم من الخوارج من أهل البصرة فيهم رجل يقال له: الجعد بن بَعْجَة، فقال له: اتّق الله يا عليّ فإنك ميت. فقال عليّ رضوان الله عليه: بل مقتول، ضربة على هذا تخضب هذه - يعني لحيته من رأسه -، عهد معهود وقضاء مقضي وقد خاب من افترى2. - ولما حضر الناس لبيعة عليّ جاءه عبد الرحمن3 بن مْلْجَم المُرَادِي / (2/174/أ) فردّه
مرتين أو ثلاثاً ثم أتاه، فقال: ما يحبس أشقاها ليخضبن هذه من هذه ثم تمثل: أشدد حيازيمك1 للموت فإن الموت لاقيك2 ولا تجزع من الموت3 إذا حلّ بواديك4 - ودعا عبد الله بن جحش قبل يوم أحد بيوم فقال: اللهم إنَّا لاقو عدوّنا غداً، وإني أقسم عليك يا رب لما يقتلوني ويبقروا بطني ويجدعوني5، فإذا قلت لي: لم فُعِل بك هذا؟ فأقول: اللهم فيك. فلما التقوا وفعلوا به ذلك، فمرّ عليه الذي سمعه بالأمس يدعو بذلك فقال: اللهم أما هذا فقد استجيب له، وأنا أرجو أن يعطى ما سأل في الآخرة6.
- وذكر سيف بن عمر أنه لما كانت وقعة البحرين والمسلمون أميرهم العلاء1 بن الحضرمي فلما كانوا بالدهناء2 حيث لا ماء أراد الله أن يريهم آية عظيمة فلما نزل الناس نَفَرت ركابهم في جوف الليل فلم يبق معهم منها بعير إلاّ زاد ولا مزاد، وذلك حين نزل الناس وقبل أن يَحُطُّوا، فهجم عليهم من الغم ما لم يهجم على أمة / (2/174/ب) حتى أفضى بعضهم إلى بعض فنادى منادي العلاء: أن اجتمعوا. فاجتمعوا إليه، فقال: ما هذا الذي ظهر فيكم وغلب عليكم؟ فقالوا: كيف لا نكون كذلك ونحن إن بلغنا غدالم تَحْم شمسه حتى نصير حديثاً. فقال: لا تراعوا ألستم مسلمين؟ ألستم في سبيل الله؟ ألستم أنصار الله؟ قالوا: بلى. قال: فأبشروا فوالله لا يخذل الله من كان في مثل حالكم. فلما طلع الفجر صلّى بنا، ومنا المتيمم ومنا من بات3 على طهوره لعدم الماء، فلما قضى صلاته جثا على ركبتيه وجثا الناس فنصب في الدعاء ونصبوا معه فلمع لهم سراب مع طلوع الشمس فالتفت إلى الصفّ، وقال: رايد ينظر ما هذا؟ فرجع فقال: سراب. فأقبل على الدعاء، ثم لمع لهم آخر فكذلك ثم لمع آخر فقال العلاء: ماء. فقام وقام الناس فنَزلوا على ماء كثير فشربوا واغتسلوا، فما تعالى النهار حتى أقبلت الإبل تُكْرَد4 من كل وجه فأناخت إليهم وعليها أزوادهم، فقام كل رجل
منهم إلى ظهره فأخذه فما فقدوا سِلْكاً فأرووها وشربوا العَلَّ1 بعد النَّهَل2 ثم ترحوا، قال: وفيهم أبو هريرة صاحب / (2/175/أ) رسول الله صلى الله عليه وسلم فعمد إلى إداوة فملأها ثم تركها على الماء فلما أبعدوا قال أبو هريرة لرفيقه: ارجع بيَ إلى الماء. فرجع فإذا الإداوة مملوءة والأرض بلاقع3 فحقق وحققوا أنها آية من الله عزوجل. - ولما انتهى العلاء إلى البحر وجد العدوّ قد تحرَّز من المسلمين في الجانب الآخر فجمع المسلمين وخطبهم فقال: إن الله - وله - الحمد قد أراكم من آياته في البر ماء تعتبرون4 به في البحر فانهضوا إلى عدوّكم واستعرضوا البحر إليهم فإن الله قد جمعهم لكم بدارين5، فقالوا: نفعل والله ولا نهاب بعد الدهناء أحداً. فارتحلوا بأجمعهم حتى جاءوا ساحل البحر فدعا ودعوا: "يا أرحم الراحمين، يا كريم يا حليم، يا أحد يا صمد، يا حيّ يا محيي الموتى، يا حيّ يا قيوم، لا إلهَ إلاّ أنت يا ربنا". فأجازوا6 البحر فإذن الله يمشون على مثل رملة ميثاء7 فوقها ماء يغمر أخفاف الإبل، وإن ما بين الساحل ودارين مسيرة يوم وليلة لسفن
البحر في بعض الأحوال، فالتقوا بعدوّهم فما تركوا منهم مخبراً وسبوا الذراري واستاقوا الأموال فبلغ / (2/175/ب) سهم نفل الفارس ستة آلاف، والراجل ألفين فلما فرغوا من عدوّهم رجعوا عودهم على بدئهم1 حتى عبروا أيضاً، فقال عفيف بن المنذر2 شاعرهم: ألم تر أن الله ذَلَّل بَحْرَه وأنزل بالكفار إحدى الجَلاَئِل3 دَعَوْنا الذي شَقَّ البحار فجاءنا بأعجب من فَلْق البحار الأوائل ولما اتّصل الخبر بأبي بكر رضي الله عنه قال: إن هذا من عظيم الآيات، اللهم اخلف محمّداً فينا4. - ومن كرامات هذه الأمة كلام العجماء: ورى سيف بن عمر أنسعداً5 والمسلمون بالقادسية6 وهم في الغزاة قرموا إلى اللحم فأرسلوا مَنْ يطلب لهم شيئاً من الغنم والبقر فتحصن أصحابها وأحرزوا ماشيتهم
فرأى عاصم1 بن عمرو رجلاً على أجمة2 فسأله أن يدله على البقر والغنم، فحلف له وقال: لا أعلم. وإذا هو راعي تلك الأجمة فصاح منها ثور: كذب والله هَا نحن أولاء، فدخل فاستاق الثيران فأتى بها العسكر، فقسمها عاصم على المسلمين فأخصبوا، وبلغ ذلك الحجاج بن يوسف أيامه فأنكره فحضر/ (2/176/أ) إليه جماعة ممن سمع الثور يقول ذلك فشهدوا به عنده3. - ومن كراماتهم في هذه الغزاة ما رآه رستم4 - الذي كان على الفرس - رأى فيما يرى النائم كأن ملكاً نزل من السماء حتى دخل عسكر فارس فختم السلاح أجمع ثم دفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدفعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمر رضي الله عنه5. - ومن كراماتهم المشهور: أن أسيد6 بن حضير، وعباد7 بن بشر كانا عند
نبي الله صلى الله عليه وسلم في ليلة ظلماء حندس يتحدثان حتى إذا خرجا من عنده أضاءت لهما عصى أحدهما فمشيا في ضوئها، فلما تفرق بهما الطريق أضاءت لكل واحد منهما عصاه فمشى في ضوئها، انفرد بإخراجه البخاري1. - ومن ذلك أن أم2 أيمن مولاة خرجت من مكّة مهاجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهي ماشية ليس معها زاد وهي صائمة في يوم شديد الحرّ فأصابها عطش شديد، فبينا هي بالروحاء3 أو قريباً منها إذا بحفيف شيء فوق رأسها، قالت: فرفعت رأسي فإذا أنا بدلو من السماء / (2/176/ب) مدلى برشاء أبيض. قالت: فدنا مني حتى إذا كان حيث استمكن منه تناولته فشربت منه حتى رويت. قال: فلقد كنت بعد ذلك أطول في الشمس في اليوم الشديد الحركي أعطش فما عطشت بعدها4.
- ومن ذلك أيضاً أن البراء بن مالك لقي جيشاً من المشركين وقد استعلى المشركون على المسلمين فقالوا له: يا براء إن رسول الله قال: إنك لو أقسمت على الله لأبرَّك1، فأقسم على ربّك. فقال: أقسمت عليك يا ربّ لما منحتنا أكتافهم. فمنحوا أكتافهم. ثم التقوا أيضاً على قنطرة السوس قاتلوا في المسلمين فقالوا له: أقسم يا براء على ربّك. فقال: أقسمت عليك يا ربّ لما منحتنا أكتافهم. فمنحوا أكتافهم2. - وفي رواية أنه لما كان يوم تستر3 انكشف المسلمون، فقال البراء: أقسمت عليك يا ربّ لما منحتنا أكتافهم وألحقتني بنبيّك. فمنحوا أكتافهم فاستشهد4. ومن ذلك أيضاً أن الملائكة كانت تسلم على عمران بن الحصين وتصافحه فلما اكتوى انقطعت عنه، فلما كان قبيل موته عاودته فسلمت عليه رضي الله عنه5.
- ومن ذلك / (2/177/أ) قال بعضهم1: غزونا مع العلاء بن الحضرمي دارين فدعا بثلاث دعوات فاستجيب له فيهن، نزلنا منْزلاً فطلب الماء ليتوضأ فلم يجده، فقام فصلى ركعتين وقال: اللهم إنا عبيدك وفي سبيلك نقاتل عدوّك، اللهم اسقنا غيثاً نتوضأ منه ونشرب فإذا توضأنا لم يكن لأحد في نصيب غيرنا، فسرنا قليلاً فإذا نحن بماء حين أقلعت عنه السماء فتوضأنا منه وتزودنا. - قال الراوي: فملأت إداوتي2 وتركتها مكانها حتى أنظر هل استجيب له أم لا؟ فسرنا قليلاً ثم قلت لأصحابي: نسيت إداوتي، فجئت إلى ذلك المكان فإذا به كأنه لم يصبه ماء قط وأخذت إداوتي، ثم سرنا حتى أتينا دارين والبحر بيننا بين العدوّ، وقال: يا عليم يا حكيم يا عليّ يا عظيم، إنّا عبيدك وفي سبيلك نقاتل عدوّك فاجعل لنا إليهم سبيلاً. وتَقحَّم3 البحر فخضنا ما يبلغ لبودنا4 فخرجنا إليهم، فلما رجعنا مرض بفؤاده فمات فطلبنا ماء نغسله فلم نجده فلففناه في ثيابه ودفناه فسرنا/ (2/17/ب) غير بعيد فإذا نحن بماء كثير، فقال بعضنا لبعض: فلو رجعنا فاستخرجناه ثم غسلناه. فرجعا فطلبناه فلم نجده. فقال رجل من القوم: إني سمعته يقول: "يا عليّ يا عظيم يا حكيم أخفِ عليهم موتي ولا تطلع على عورتي أحداً". فرجعنا وتركناه5.
- ودخلت في أذن رجل من أهل البصرة حصاة فعالجها الأطباء فلم يقدروا عليها حتى وصلت إلى صماخه فأسهرت ليله ونغصت عيش نهاره، فشكى ذلك إلى بعض أصحاب الحسن فقال: ويحك إن كان شيء ينفعك الله به فدعوة العلاء بن الحضرمي التي دعا بها في البحر وفي المفازة. قال: وما هي رحمك الله؟ قال: يا عظيم يا حليم يا حكيم1. فدعا بها فوالله ما برحنا حتى خرجت من أذنه ولها طنين حتى صكَّت الحائط وبرأ2. - قال المؤلِّف: هكذا رأيتها في عدة مصنفات وفيها تقديم وتأخير وزيادة ونقصان، فالرأي أن يدعو الإنسان بهذه الرواية مرّة وبالرواية الأخرى مرّة أخرى ليأتي على كلّ ما ورد منها3. - وقال / (2/178/أ) ثابت البناني4: شكا قَيِّمُ أنس بن مالك إلى أنس عطش أرضه فصلّى أنس ودعا، فثارت سحابة حتى غشيت أرضه وملأت، صهريجه فأرسل غلامه فقال: انظر أين بلغت هذه؟ فنظر فإذا هي لم تعد أرضه5.
- وقالت مولاة أبي أمامة الباهي: كان أبو1 أمامة يحب الصدقة ويجمع لها الدنانير الدراهم والفلوس وما يُؤكل حتى البصلة ونحوها فلا يقف سائل إلاّ أعطاه ما تهيأ له، قالت: فأصبحنا يوماً وليس معنا ولا عندنا شيء من الطعام وليس في البيت سوى ثلاثة دنانير. فوقف به سائل فأعطاه ديناراً ثم آخر فأعطاه ديناراً ثم وقف ثالث فأعطاه الثالث، قالت: فغضبت. فاستلقى على فراشه وأغلقت عليه الباب حتى أذن المؤذن بالظهر فجئته فأيقظته فراح إلى مسجده صائماً فرققت عليه فاستقرضت ما هيأت له به عشاء وسراجاً ووضعت المائدة ودنوت من فراشه لأمهد له فوجدت تحته ثلاثمائة دينار فقلت في نفسي: ما صنع الذي صنع إلاّ ثقة بذلك فعددتها فإذا ثلاثمائة دينار فتركتها/ (2/178/ب) على حالها حتى انصرف عن المسجد بعد العشاء فلما دخل البيت ورأى ما هيأت له حمد الله وتبسم في وجهي وجلس وتعشّى فلما فرغ قلت: يغفر الله لك جئت بما جئت به ثم تركته بمضيعة. قال: وما ذاك؟ قلت: ما جئت به من هذه الدنانير. ورفعت الفراش عنها، ففزع حين رآها وقال: ويحك ما هذا؟ قلت: لا أعلم إلاّ أني وجدتها هَا هنا على ما ترى. قالت: فكثر فزعه2.
- وقال ميمون1 بن مهران: شهدت جنازة عبد الله بن عباس بالطائف فلما وضع ليصلى عليه جاء طائر أبيض حتى دخل في أكفانه فالتمس فلم يوجد فلما سُوِّيَ عليه سمعنا صوتاً ولا نرى شخصاً يقول: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي} [سورة الفجر الآيات: 27-30] 2. - ولما أتى العطاء إلى زينب زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمر رضوان الله عليه وقسمته في وجوه البرّ رفعت يديها إلى السماء، وقالت: اللهم لا يدركني عطاء لعمر3 بعد عامي هذا. فماتت قبل أن يدركها4.
- وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: / (2/179/أ) أسلمت أم1 شريك عزيّة بنت جابر بن حكيم الدوسية وجعلت تدخل على أهل مكّة فتدعو النساء إلى الإسلام سرّاً ترغبهن فيه، فلما ظهر أمرها لأهل مكّة قالوا: نبعثك إلى قومك. قالت: فحملوني على بعير ليس تحتي شيء ثم تركوني ثلاثاً لا يطعمونني ولا يسقونني، وكانوا إذا نزلوا منْزلاً أوثقوني في الشمس واستظلوا هم وحبسوا عني الطعام والشراب، فبينما هم كذلك، وأنا في الشمس إذا بشيء بارد على صدري فتناولته فإذا هو دلوٌ من ماء فشربت منه قليلاً ثم نزع مني فرفع ثم عاد فتناولته فشربت منه ثم رفع مراراً ثم نزل ليَ فشربت حتى رويت ثم صببت سائره على جسدي وثيابي، فلما استيقظوا وجدوا أثر الماء على ثيابي ووجدوا هيئتي حسنة، فقالوا: حَلَلْتِ سقاءنا فشربتي منه. قالت: لا والله. ولكنه كان من الأمور كيت وكيت. فقالوا: لئن كنت صادقة لدينك خير من ديننا. فلما نظروا إلى أسقيتهم وجدوها كما تركوها فأسلموا، ثم جاءت هي فوهبت نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم بغير مهر فقبلها ودخل بها2.
- وكانت (2/179/ب) حفصة1 ابنة سيرين2 تسرج المصباح وتقومإلى مصلاها فربما طفئ المصباح فيضيء لها البيت حتى تصبح3. - قال المؤلِّف: ووقفت على كرامة غريبة لسلف هذه الأمة وهي ما رواه سيف بن عمر في الفتوح قال: حاصر المسلمون بهرسير4 من أرض العراق فلما اشتد عليهم الحصار وأبطأ على المسلمين الفتح أشرف عليهم رسول من الحصن، فقال: إن الملك يقول لكم هل لكم إلى المصالحة على أنّ لنا ما يلينا من دجلة إلى الجبل ولكم ما يليكم من دجلة إلى الجبل؟ أما شبعتم، لا أشبع الله بطونكم. فبدر الناس أبو مفزَّر الأسود بن قطبة وقد أنطقه الله بشيء لا يدري ولا نحن ما هو فأجابه بالفارسية وهو لا يعرف من الفارسية شيئاً ولا نحن. فرجع الرسول إلى الملك بما سمع من أبي مفزر ورأيناهم يقطعون إلى المدائن هاربين فقلنا له: يا أبا مفزر ما قلت له؟ قال: لا والذي بعث محمّدً بالحقّ ما أدري ما هو إلاّ أنّ عَلَيَّ سكينة، وأنا أرجو أن أكون قد أُنطقت بالذي هو خير. وأنْبَأَت الناس
يسألون عن ذلك حتى / (2/180/أ) جاءه سعد فقال: يا أبا مفزّر ما قلت للرسول فوالله إنهم لهراب؟ ثم نادى سعد في الناس ثم نَهَدَ1 بهم فوجد القوم قد هربوا وتركوا المدينة ووجدوا منهم قوماً خارج المدينة فأسروهم، وسألهم المسلمون لأي شيء هربوا وتركوا المدينة؟ فقالوا: بعث الملك إليكم يعرض عليكم الصلح فأجاب متكلمكم إنه لا صلح بيننا أبداً حتى نأكل عَسَل إفريدين بأُترج كوثي. فقال الملك: لا طاقة لا طاقة لأحد بهؤلاء وأسرع الجلاء والهرب2. - وقال مالك3 بن دينار رضي الله عنه: لما ولي عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - قال: رعاة الشاء في رؤوس الجبال: من هذا الخليفة الصالح الذي قد قام على الناس؟ قال: فقيل لهم: وما علمكم بذلك؟ قالوا: إنه إذا قام خليفة صالح كفت الذئاب والسباع عن شائنا4. - قال مالك بن أنس الإمام رضي الله عنه: "كان يونس بن يوسف5 من العباد ومن خيار الناس فذهب يوماً إلى المسجد فلقيته امرأة في طريقه
فوقع في نفسه منها، فقال: اللهم إنك جعلت بصري / (2/180/ب) لي نعمة وقد خشيت أن يكون عليّ نقمة فاقبضه إليك. قال: فعمي. وكان ابن أخ له1 يقوده إلى المسجد فإذا استقبل الجدار اشتغل الصبي يلعب مع الصبيان فإن نابته نائبة حصب الصبي فأقبل إليه، فبينا هو ذات يوم صحوة في المسجد إذ أحس في بطنه بشيء فحصب الصبي فشغل الصبي مع الصبيان حتى خاف الشيخ على نفسه. فقال: اللهم كنت جعلت لي بصري نعمة فخشيت أن يكون علي نقمة فسألتك فقبضته إليك، وقد خشيت الآن الفضيحة فاردد عليّ بصري. فانصرف إلى منْزله بصيراً، بغير قائد. قال مالك: فرأيته أعمى ورأيته بصيراً صحيحاً2. - وحجّ3 المنصور4 سنة سبع وأربعين ومائة فلما قدم المدينة بعث إلى جفعر5 بن محمّد وقال: أحضره إلي مُتعباً، قتلني الله إن لم أقتله.
فتغافل عنه الربيع1 لينساه، ثم أعاد ذكره للربيع، وقال: ابعث من يأتي به قتلني الله إن لم أقتله. فلما كان في الثالثة أحضره الربيع، وقال: أبا عبد الله اذكر الله فإنه قد أرسل إليك للتي لا شوي لها. فقال جعفر - رضوان الله عليه -: لا حول ولا قوّة إلاّ بالله / (2/181/أ) العلي العظيم. ثم أعلم المنصور بحضوره. فلما دخل قال: يا عدوّ الله اتّخذك أهل العراق إماماً يُؤَدُّون إليك زكاة أموالهم وتلحد في سلطاني وتبغيه الغوائل، قتلني الله إن لم أقتلك. فقال: يا أمير المؤمنين إن سليمان عليه السلام أعطي فشكر، وإن أيوب ابتلى فصبر، وأن يوسف ظلم فغفر، وأنت من ذلك السِّنخ2. فقال له المنصور: [أنت عندي يا أبا عبد الله] 3 البريء الساحة، والسليم الناحية، القليل الغائلة، جزاك الله من ذي رحم أفضل ما ذوي الأرحام عن أرحامهم. ثم تناول يده فأجلسه معه على فراشه ثم دعا بالغالية والطيب فغلَّفه بيده حتى خلت لحيته قاطرة، ثم قال: في حفظ الله وكلأته. ثم قال: يا ربيع الحقّ أبا عبد الله بجائزته وكسوته، سِرْ أبا عبد الله في حفظ الله وفي كنفه. قال الربيع: فلحقه بذلك فقلت له: إني قد رأيت من هذا الرجل في أمرك ما لم تره، ورأيت بعد ذلك ما قد رأيت فما قلت يا أبا عبد الله حين دخلت عليه؟
قال: قلت: اللهم احرسني بعينك التي لا تنام / (2/181/ب) واكنفني بركنك الذي لا يرام، واغفر لي بقدرتك عليّ، فلا أهلك وأنت رجائي، اللهم إنك أكبر وأجل ممن أخاف وأحذر، اللهم بك أدفع في نحره وأستعيذ بك من شرّه1. - مسألة: [إن] 2 قال بعض النصارى: أن لا نبيّ بعد المسيح، أكذبه ما في كتاب فراكسيس وهو رسائل الحوريين إذ قال في الفصل الحادي عشر منه: "إنه قدم في تيك الأيام أنبياء من بيت المقدس فقام أحدهم يسمى أغابوس3 فتنبأ لهم وقال: إنه سيكون في هذه البلاد قحط شديد"4.
وقال أيضاً في هذا الفصل: "إنه كان في بيعة أنطاكية أنبياء منهم: برنابا وشمعون ولوقش وما ناين وشاؤل فهؤلاء الخمسة بأنطاكية"1. وقال أيضاً في الفصل الخامس عشر من الكتاب: "إنه كان [لفيلبس المبشر] 2 أربع بنات متنبئات"3. وقال لوقا في كتاب فراكسيس أيضاً: "إن النفر المتوجهين إلى أنطاكية كان نزولهم على بيت عيناً لأنهم كانوا أنبياء"4. قال مؤلِّفه: من زعم أنه لا نبي بعد المسيح فهو جاهل بدين النصارى / (2/182/ب) إذ لا خلاف عندهم أن فولس صاحب الأربع عشر رسالة هو رسول جاء بعد رفع المسيح، وقد حكى في رسالته أنه أدرك من أصحاب المسيح شمعون الصفا ويعقوب، فقد بطل قول من قال: إنه لا نبيّ بعد المسيح. فإن قيل: فقد حَذَّرَنا المسيح عليه السلام في الإنجيل من الأنبياء الكذبة الذين يلبسون لباس الحملان وهم في الباطن بصور الذئاب الضارية ثم وصفهم فقال: ومن ثمارهم تعرفونهم5. قلنا: هذا تصريح من المسيح عليه السلام بمجيء الصادق إذ خصّ التحذير بالكذبة ولولا ذلك لم يقل: "ومن قِبَل ثمارهم تعرفونهم". ولقال: لا نبيّ بعدي، ولم يحوجهم إلى الاستدلال بثمارهم على كذبهم، كلا ولكنه صريح
بمجيء النبي الصادق ونصّ عليه في غير موضع من إنجيله كما تقدم، ثم الكاذب من لم يقم على نبوّته برهان. وقد جاء نبيّنا محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم بآيات ظاهرة ودلالات متضافرة كانشقاق القمر وتسليم الحجر واستجابة الشجر وإبراء الأبرص والأجذم والمجنون والآدر / (2/182/ب) ونطق الذارع وخسف الأرض بعدوّه عند الإتباع وتفجير الماء ونطق العجماء والإخبار عن الغيوب، والنصر في مواطن الحروب والكتاب العزيز الذي أخرس الشقاشق1 وفضح المنافق وعجز الجنّ والإنس عن الإتيان بمثله وأناط الفصحاء والحكماء حبالهم بحبله. قال المسيح عليه السلام: "ومن قِبَل ثمارهم تعرفونهم"، وقد علم الموافق والمفارق أن محمّداً صلى الله عليه وسلم لم تثمر شجرة دعوته عبادة غير الله، فلم يشرك مع الله سواه، ولا جعل له نِدّاً من خلقه، ولا ادّعى له ولداً، ولا قال: اعبدوا إلهين اثنين ولا ثالث ثلاثة، ولا عَبَدَ رجلاً ولا عجلاً لا كوكباً ولا وثناً، بل أمر بعبادة الله إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، والإخلاص له وتنْزيهه عن النقائص والآفات والحلول في المحدثات والتدنس بالزوجات، ولم يجعل الله ولداً ولا والدً بل خلع الأنداد ونبذ الأضداد، وأمر بطاعة الله ونهى عن معصيته وزهد في الدنيا ورغب في الأخرى، وجاء بكتاب من عند الله يشتمل على الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر / (2/183/أ) وبر الوالدين وصلة الرحم وحفظ الجار وفرض الصدقات والأمر بالصيام والصلاة والحثّ على محاسن الأخلاق ومكارم العادات، ثم كسر الأصنام وعطل الأوثان وأخمد النيران وأعلن بالأذان1. فأما هو في نفسه صلى الله عليه وسلم فأربى على سائر الأمم في العبادة وتقدم إخوانه من المرسلين في الإرشاد والإفادة، فهذه ثمار محمّد صلى الله عليه وسلم التي صارت أعلق به من الغرام ببني عذرة، والإقدام بابن أبي صفرة. وقد بين يوحنا الإنجيلي أن التحاذير إنما كان من الدجال قال في رسالته الثانية: "إنه قد خرج في العالم ضُلاّل كثيرون لا يعترفون بالمسيح الجسداني، فمن كان من2 هؤلاء فهو الضالّ المضل، فأما المقيم على تعليم السيد المسيح فالأب يكون معه"3. والتعليم الذي أمر به المسيح هو توحيد الباري وتنْزيهه، وقوله: "أنا نبيّ الله ورسوله وعبده، لا أعمل
بمشيئتي بل بمشيئة من أرسلني"1. كما تقدم فهذا تعليم المسيح الذي دعا إليه وعلّمه، فمن أقام عليه فهو مؤمن بالمسيح، ومن راغمه فهو الضالّ المضل كما / (2/183/ب) أخبر المسيح عليه السلام. قال المؤلِّف - عفا الله عنه -:واعلم أنه لو جاز أن يتمسك بنهي عيسى في الإنجيل عن الأنبياء الكذبة في ردّ محمّد صلى الله عليه وسلم لجاز أن يتمسك بنهي موسى في التوراة عن الأنبياء الكذبة في ردّ عيسى، فقد قال الله في السفر الخامس من التوراة بعد ذكر النبي الصادق: "فأما الذي يقول ما لم آمره به ويدعو باسم آلهة أخرى فليقتل ذلك قتلاً فإنما يريد أن يضلكم عن الطريق - ثم قال -:إن أشكل عليكم معرفة ما لم أقله مما قلته فانظروا فإني لا أتم قول الكاذب ولا أكمل فعله، لأنه قال ما لم أقله وإن ما تَقَوَّله كذب وجرأة وصفاقة وجه، فلا تخافوه ولا تفزعوا منه"2. ولمّا لم يقدح ذلك في حقّ عيسى لم يقدح مثله من الإنجيل في حقّ محمّد صلى الله عليه وسلم. فإن قيل: فمن هم الكذبة الذين ذكروا في توراة موسى وإنجيل عيسى؟ قلنا: لا يلزمنا بيانهم ولكنا نتبرع بذلك ونقول: قد نَجَمَ كذابون ونَبَغ متمحلون وقد أخبر بمجيئهم بطرس صاحب / (2/184/أ) المسيح، فقال: "اعلموا أنه ما [جاءت] 3 قط نبوة من مشيئة البشر بل من روح القدس سيق بها قوم عند الله مطهرون، وقد كانت أيضاً في الشعب أنبياء كذبة كما أنه
يكون أيضاً فيكم معلمون كذبة أولئك الذين يدخلون إلى فرقة الهلكة، ويفتتن بنجاستهم قوم كثير، ويفترون على صحة الحقّ أولئك الذين دينونتهم لا تبطل وهلكتهم لا تنعس"1. فأخبر بطرس بأنه قد كان ويكون في شعب بني إسرائيل من يفتري على الله الكذب. قلت: وقد جرى مثل ذلك من أراذل العرب وأدعياء النبوة الكاذبة جماعة كالأسود العنسي2 باليمن، ومسيلمة3 باليمامة، وطليحة4، وسجاح5
في آخرين فحام على أكثرهم حَمَام الحِمام1 وصُرعوا بسيوف أهل الإسلام، وأحق الله الحقّ وأبطل الباطل وحَلَّى نبيه حلية الرسالة وعطل العاطل. فإن قيل: قال المسيح في الإنجيل: "إنه سيقوم مسيح كذاب وأنبياء كذبة ويأتون بآيات وعلامات فيضلوا الناس إن قدروا على ذلك". وحتى يتم / (2/184/ب) ما قاله دانيال عليه السلام في نبوته2. قلنا: أما [المتنبؤون] 3 فقد ذكرنا مجيئهم وكيف أكذبهم الله وأبادهم، وأما المسيح الكذاب فهو الدجال الكذاب الضالّ المضل الذي حذرته الأنبياء قومهم، وقال فيه نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم: "إنه جعد4 قطط5 أعور العين اليمنى كأنها عنبة طافية، أشبه الناس بعبد العزى6 بن قطن"7.
"بين عينيه: (ك ف ر) ، يقرأ كل مؤمن ومؤمنة كاتب وغير كاتب"1. "تتقدمه سوء مجاعة"2. فقال أعرابي: "بأبي أنت يا رسول الله بلغني أن الدجال الكذاب يجيء إثر جوع ومعه جبال من الثريد، أترى لي صلى الله عليك أن أتبطن من ثريده حتى إذا تضلعت آمنت بالله وكفرت بالدجال. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إذاً يكفيك الله بما يكفي به المؤمنين"3.
واعلم أن قصة الدجال مشهورة عند سائر1 الأمم، ولم يبعث نبي بعد نوح عليه السلام إلاّ وقد حذّره قومَه2، وقصة صاف3 بن صياد صحيحة / (2/185/أ) عند أهل الحديث4 ونحن نؤثر الاختصار.
قد شهد يوحنا الإنجيلي أن المسيح الكذاب الآن موجود في الدنيا غير أنه لم يظهر بعد، فقال في الفصل الرابع من رسالته الأولى: "إن المسيح الكذاب الذي سمعتم به سيأتي، وإنه الآن في العالم"1. وذلك مصدق لما ذكره محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن ابن صياد اليهودي2. وقد أطنب فولس في ذكره في الرسالة التاسعة وحذر إخوانه من فِتنَتِهِ فقال: "يا إخواني أطلب إليكم ألا تعجلوا ولا تشدهوا من كلمة ولا من روح ولا من رسالة تأتيكم، فإنه لعل إنساناً يطغيكم بنحو من الأنحاء، وليس يكون ذلك حتى يأتي [الارتداد] 3 أولاً ويظهر إنسان الخطيئة ابن البوار الصداد اللدان، ويستكبر على كلٍّ وحتى يجلس في هيكل الله ويخبر عن نفسه، وإنما هو الأثيم الذي يأتي في آيته بالقوى والآيات والعجائب الكاذبة ومكائد الشيطان، وجسد يبيده سيدنا يسوع المسيح بروح فيه"4. وقد شهد يوحنا / (2/185/ب) الإنجيلي في رسالته الأولى أن الدجاجلة من بني إسرائيل لا من غيرهم، فقال: "إن هذه الساعة هي آخر الزمان وقد
سمعتم أنه يجيء المسيح الكذاب، والآن قد كان مسيحون كذابون كثيرون ومِنَّا خرجوا"1. فأخبر أن الدجاجلة الكذابين من بني إسرائيل لا من بني إسماعيل2، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن بين يدي الساعة [دجالين كذابين] 3 قريباً من ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول الله". وفي راوية: "فيهم أربع نسوة"4. فإن قيل: كيف يجوز إجراء الخوارق على يدي أرباب المخارق. قلنا: قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني5: "أما على يد مُدَّعي النبوة فلا، وأما على يد مدعّي الربويبة فنعم. إذا الأوّل يؤدي إلى إفحام الرسل والتباس دليل التصديق على المكلّفين بخلاف ذلك في مدعي الربوبية فإن سمات الحدث عليه ظاهرة"6.
والذي ارتضاه الأئمة أن الله يفعل ما يريد ويضل من يشاء من العبيد غير أن الكاذب ينتج الله له [ما يُكَذِّبه] 1 ويناقضه، أو يخلق العلم الضروري بالمكلّفين بكذبه2. والذي يدل على جريان الخارق على يد المارق نصّ التوراة والإنجيل والقرآن والسنة كما تقدم. والله أعلم وأحكم. نجز الكتاب الملقَّب بـ: [تخجيل مَنْ حَرَّفَ الإِنْجِيلَ] ولله الحمد، رحم الله مَنْ قرأه ودعا لمؤلِّفه بالرحمة والرضوان وكاتبه وجميع المسلمين. وصلى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه وأتباعه وذرّيّاته والتابعين وتابع التابعين إلى يوم الدين.
خاتمة البحث الحمد لله فاتحة كل خير وخاتمة كلّ نعمة، أحمده عزوجل وأشكره على توفيقه وعونه، وعلى جميع نعمه الظاهرة والباطنة وبعد. فإن مَنْ أهم النتائج التي توصلت إليها من خلال بحثي ما يأتي: 1- إن الاطلاع على الكتاب المقدسة عند أهل الكتاب وغيرهم جائز لأهل العلم ممن أراد مجادلتهم وبيان ما فيها من التحريف والتبديل والباطل، وإنه غير جائز للعامي والحدث الغر من الناس. 2- إن مجادلة اليهود تكون في الأمور الآتية: - إثبات وقوع النسخ في شريعتهم من التوراة وما يتبعها من الكتب المقدسة لديهم. - بيان مواطن التحريف والتبديل والتناقض في كتبهم المقدسة وإثبات عدم حجيتها وصلاحيتها. - بيان بطلان عقائدهم الفاسدة وأقوالهم الباطلة في الذات الإلهية والنبوة والأنبياء اليوم الآخر وغيرها. - إظهار فصائحهم المخزية وأفعالهم القبيحة خلال تاريخهم. - إثبات نبوة عيسى عليه السلام. - إثبات نبوة محمّد صلى الله عليه وسلم ونسخ الإسلام للشرائع السابقة. 3- إن مجادلة النصارى تكون في الأمور الآتية:
- إثبات وحدانية الله عزوجل وتنْزيهه عن الضد والند والولد. - إثبات بشرية المسيح عليه السلام وعبوديته لله عزوجل. - بطلان أسس العقيدة النصرانية المنحرفة (التثليث والاتّحاد، صلب المسيح تكفيراً عن الخطيئة، محاسبة المسيح للناس يوم القيامة) . - نقد قانون الأمانة. - تفسير الألفاظ التي ضلّ فيها النصارى في كتبهم المقدسة لديهم. - بيان مواطن التحريف والتبديل والتناقض في كتبهم المقدسة لديهم. - إظهار فضائح اعتقاداتهم وعباداتهم وطقوسهم وحيل رهبانهم وأحبارهم. -إثبات نبوة محمّد صلى الله عليه وسلم ونسخ الإسلام للشرائع السابقة. 4- إن دلائل نبوّة محمّد صلى الله عليه وسلم متنوعة ومتعددة، فمنها بشارات الأنبياء السابقين صلوات الله وسلامه عليهم، والإرهاصات السابقة لبعثته صلى الله عليه وسلم، والمعجزات الكثيرة ومن أعظمها معجزة القرآن الكريم الخالدة، ودعوته صلى الله عليه وسلم إلى مكارم الأخلاق وكمال شريعته، وسيرته صلى الله عليه وسلم وأحواله قبل البعثة وبعدها، وتأييد الله له بالنصر والتمكين في الأرض، وسيرة أصحابه - رضي الله عنهم - الذين حملوا لواء الدعوة من بعده، وكرامات الأولياء والصالحين من أمته صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك من الدلائل التي تكفي مفرداتها في إثبات النبوة والرسالة للنبي صلى الله عليه وسلم، فكيف بمجموعها؟!!. 5- إن ما توصل إليه علماء المسلمين قديماً من نتائج في علم الأديان مثل: بيان بعض مواطن التحريف والتناقض في الكتب المقدسة، وإن
النصرانية الحالية (المنحرفة) من مبتدعات بولس واختراعاته وغير ذلك من التنائج تؤكده أبحاث الباحثين المعاصرين من اليهود والنصارى وأقوال مفكريهم وأحبارهم. وهذا دليل على أسبقية علمائنا المسلمين ودقة ملاحظاتهم واستنتاجاتهم. 6- إن في السنة النبوية المطهرة مادة غنية يستفيد منها الباحث في علم الأديان، ينبغي الاستفادة منها ودراستها دراسة مستفيضة من هذا المنظور.
4- الاستفادة من تراث علمائنا المسلمين في علم الأديان - خاصة في مجال نقد الكتب المقدسة عند اليهودية والنصارى - عن طريق ترجمتها وتبسيطها ونشر الأجزاء النقدية منها في كتيبات صغيرة ليسهل توصيل ما بها من المعلومات النقدية إلى الشخص العادي من اليهود والنصارى وغيرهم وتعريفهم بما في كتبهم المقدسة لديهم من مواطن الضعف والقصور، وإبراز البديل لأديانهم الباطلة وهوالإسلام الحقّ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. 5- المتابعة المستمرة لخطط التنصير والاستشراق والغزو الكفري وفضح أهدافها وأساليبها وبيان أخطارها ووضع الخطط الكفيلة بمقاومتها. والله أعلم. اللهم اغفر لي فيما أذنبت لا تؤاخذني فيما أخطأت وتقبل مني فيما قدمت ... فأنت نعم الولي ونعم النصير. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
مصادر ومراجع
مصادر ومراجع ... فهرس المراجع: - القرآن الكريم. 1- أبحاث الفكر اليهودي - د. حسن ظاظا، الطبعة (1) ، دار القلم، بيروت، دمشق 1407هـ. 2- أثر أهل الكتاب في الفتن والحروب الأهلية د. جميل عبد الله المصري، الطبعة (1) ، مكتبة الدار بالمدينة المنورة، 1410هـ/ 1989م. 3- أثناسيوس الرسولي (القديس) - الأبّ متى المسكين، الطبعة (1) ، مطبعة دير القديس أنبار مقار، وادي النطرون، القاهرة، 1981م. 4- الأجوبة الفاخرة عن الأسئلة الفاجرة - للإمام القرافي (شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي ت 682هـ) ، الطبعة (1) ، دار الكتب العلمية، بيروت، 1406هـ/ 1986م، ونسخة أخرى بتحقيق الطالب ناجي محمّد داود - رسالة دكتوراه مقدمة في جامع أم القرى بمكة للعام الجامعي 1405-1405هـ. 5- أحكام الجنائز وبدعها - للمحدِّث محمّد ناصر الدّين الألباني، الطبعة (4ت) ، المكتب الإسلامي، بيروت 1406هـ. 6- الإحكام في أصول الأحكام - للآمدي (سيف الدين أبو الحسن عليّ بن أبي عليّ ت 631هـ) مكتبة محمّد عليّ صبيح، القاهرة، 1387هـ. 7- أخبار بطاركة كرسي المشرق من كتاب المجدل - عمرو بن متى، طبعة روما، مكتبة المثنى، بغداد، 1896م. 8- أخبار بطارقة كرسي المشرق من كتاب المجدل - ماري سليمان، طبعة روما، مكتبة المثنى، بغداد، 1896م. 9- اختلافات في تراجم الكتاب المقدس وتطورات هامة في المسيحية - اللواء أحمد عبد الوهّاب، الطبعة (1) ، القاهرة. 10- الأدب الجدلي والدفاعي في اللغة العربية بين المسلمين والنصارى واليهود - للمستشرق الألماني: مورتز شتاينشنيدر (باللغة الألمانية) ، طبع لاينبرج عام 1877م، وأعيد طبعه عام 1966م، بفيسبادن - ألمانيا.
POLEMISCHE UND APOLOGE TSCHE LITERATUR IN ARABISCHER SPACHE ZWISCHEN MUSLIMEN CHRISTEN UNOJUDEN, MORITZ STEINS CHNEIDER 11- أدلة الوحدانية في الرّدّ على النصرانية - للإمام أحمد بن إدريس القرافي، تحقيق: عبد الرحمن دمشقية، الطبعة (1) ، 1408هـ/ 198م. 12- أدلة اليقين في الرّدّ على كتاب ميزان الحقّ وغيره من مطاعن المبشرين - عبد الرحمن الجزيري، الطعبة (1) ، مطبعة الإرشاد، القاهرة، 1353هـ/ 1934م. 13- أسباب نزول القرآن - لأبي الحسن عليّ بن الواحدي، تحقيق: السيد أحمد صقر، الطبعة (2) ، دار القبلة، جدة، 1404هـ/ 1984م. 14- الاستيعاب في معرفة الأصحاب - لابن عبد البرّ (الإمام يوسف بن عبد الله بن محمّد بن عبد البرّ ت 463هـ) ، تحقيق: عليّ محمّد البجاوي، مكتبة نهضة مصر، القاهرة. 15- أسد الغابة في معرفة الصحابة - لعز الدين ابن الأثير - (أبي الحسن عليّ بن محمّد الجرزي ت 630هـ) ، كتاب الشعب - القاهرة. 16- إسرائيل حرفت الأناجيل والأسفار المقدسة - المهندس أحمد عبد الوهّاب، الطبعة (1) ، مكتبة وهبه، القاهرة، 1972م. 17- أسرار الكنيسة السبعة - الإرشيديا كون حبيب جرجس، الطبعة (6) ، مكتبة المحبة، القاهرة، 1977م. 18- الأسفار المقدسة في الأديان السابقة للإسلام - د. عليّ بن عبد الواحد وافي - دار نهضة مصر - القاهرة. 19- الأسماء المبهمة في الأنباء المحكمة - للخطيب البغدادي (الحافظ أبي بكر أحمد بن عليّ الخطيب البغدادي ت 463هـ) تحقيق: د. عزّ الدين على السيد الطبعة (1) ، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1405هـ/ 1984م. 20- الإصابة في تمييز الصحابة-لابن حجر (الحافظ أحمد بن عليّ بن حجر العسقلاني ت 852هـ) دار الكتب العلمية - بيورت. 21- أصول الدين - للرازي (فخر الدين محمّد بن عمر الخطيب الرازي ت 606هـ) تحقيق: طهَ عبد الرؤوف، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة.
22- أصول الدين - للبغدادي (أبي منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي البغدادي ت 429هـ) ، الطبعة (2) ، دار الكتب العلمية، بيروت، 1400هـ/ 1980م. 23- الأصول والفروع - لابن حزم (الإمام أبي محمّد عليّ بن أحمد ابن حزم ت 456هـ) ، دار الكتب العلمية، بيروت 1404هـ/ 1984م. 24- إظهار الحقّ - للشيخ رحمة الله الهندي، تحقيق: د. أحمد حجازي السقا، دار التراث العربي، القاهرة. 25- اعتقادات فرق المسلمين والمشركين - فخر الدين الرازي، مراجعة عليّ سامي النشار، مكتبة ألبا، مكّة المكرّمة، 1402هـ/ 1982م. 26- الأعلام - للأستاذ خير الدين الزركلي، الطبعة (5) ، دار العلم للملايين، بيروت 1980م. 27- الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام - للإمام القرطبي (أبي عبد الله محمّد بن أحمد بن أبي بكر الأنصاري القرطبي ت 671هـ) ، تحقيق: د. أحمد حجازي السقا، دار التراث العربي، القاهرة، ونسخة أخرى بتحقيق: الطالب فايز سعيد صالح عزام، رسالة دكتوراه مقدمة في جامعة أم القرى، بمكّة، للعام الجامعي 1405هـ. 28- الإعلام بمناقب الإسلام - لأبي الحسن العامري ت 381هـ، تحقيق: أحمد عبد الحميد غراب، الطبعة (1ـ) ، مؤسسة دار الأصالة - الرياض، 1408هـ/ 1988م. 29- أعلام النبوة - للماوردي (أبي الحسن عليّ بن محمّد الماوردي الشافعي ت 450هـ) ، تحقيق: محمّد المعتصم بالله البغدادي، الطبعة (1) ،دار الكتاب العربي، بيروت،1407هـ/ 1987م. 30- أعلام النساء في عالمي العرب الإسلام، عمر رضا كحالة، الطبعة (3) ، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1397هـ/ 1977م. 31- إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان - لابن القيم (الإمام أبي عبد الله محمّد بن أبي بكر بن قيم الجوزية ت 751هـ) .
32- إفحام اليهود - للمهتدي السموآل بن يحيى المغربي ت 570هـ، تحقيق: د. محمّد عبد الله الشرقاوي، الطبعة (1) ، دار الهداية القاهرة، 1406هـ/ 1986م. 33- أقانيم النصارى - د. أحمد حجازي السقا - الطبعة (1) ، دار الأنصار، القاهرة. 34- الاقتصاد في الاعتقاد - لأبي حامد الغزالي، الطبعة (1ت) ، دار الكتب العلمية، بيروت، 1403هـ. 35- اقتضاء الصراط المستقيم ومخالفة أصحاب الجحيم - لابن تيمية (الإمام تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية ت 728هـ) ، تحقيق: حامد الفقي، الطبعة (1) ، دار الكتب العلمية، بيروت، 1407هـ/ 1987م. 36- الله واحد أم ثالث - محمّد مجدي مرجان، دار النهضة العربية - مصر. 37- الله واحد في الثالوث القدوس - القمص زكريا إبراهيم - الطبعة الرابعة، مركز العبية، السويس، مصر. 38- الانتصارات الإسلامية في كشف شبه النصرانية - نجم الدين الطوفي (سليمان بن عبد القوي الطوفي الصرصري ت 716هـ) ،تحقيق: د. أحمد حجازي السقا، مطبعةدارالبيان، مصر. 39- إنجيل برنابا - تحقيق: سيف الله أحمد فاضل، الطبعة (2) ، دار القلم - الكويت - 1403هـ. 40- إنجيل نور لحياتي - إصدار الكنيسة القبطية - القاهرة. 41- الإنجيل والصليب - الأستاذ عبد الأحد داود - القاهرة - 1351هـ. 42- أهل الذمة في مصر العصور الوسطى - د. قاسم عبده قاسم، الطبعة (1) ، دار المعارف، القاهرة، 1977م. 43- إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون، إسماعيل باشا البغدادي، دار العلوم الحديثة، بيروت. 44- بدائع الزهور في وقائع الدهور - لأبي البركات محمّد بن أحمد ابن إياس الناصري الحنفي، تحقيق: محمّد مصطفى، الطبعة (2) ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1402هـ/ 1982م.
45- البداية والنهاية لابن كثير (الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير ت 774هـ) ، دار الفكر العربي، القاهرة. 46- البهران في عقائد أهل الأديان، للسككي الحنبلي (العلامة أبي الفضل عباس بن منصور التريني ت 683هـ) ، تحقيق: د. بسام عليّ العموش الطبعة (1) ، مكتبة المنار، الأرد، 1408هـ/ 1987م. 47- بنو إسرائيل في الكتاب والسنة - د. محمّد سيد طنطاوي، الطبعة (1) ، الزهراء للإعلام العربي، القاهرة، 1407هـ/ 1987م. 48- البيان والإعراب - للمقريزي (تقي الدين أحمد بن عليّ المقريزي ت 845هـ) المحموديةالتجارية، القاهرة،1356هـ. 49- بينات المعجزة الخالدة - د. حسن ضياء الدين عتر، دار النصر، حلب، 1395هـ. 50- تأويل مختلف الحديث للإمام ابن قتيبة الدينوري ت 276هـ، دار الكتاب العربي، بيروت. 51- تاج العروس من جواهر القاموس - للزبيدي (محمّد مرتضى الحسيني الزبيدي ت 1205هـ) ، تحقيق: إبراهيم الترزي: إصدار وزارة الإعلام بالكويت سنة 1392هـ/ 1972م. 52- تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي - د. حسن إبراهيم حسن، الطبعة (1) ، مكتبة النهضة المصرية، القاهرية، 1967م. 53- تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام - للذهبي (للسنوات 663-680هـ) ميكروفيلم بدار الكتب المصرية تحت رقم 10761 تاريخ، القاهرة. 54- تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام (السيرة النبوية، المغازي، عهد الخلفاء الراشدين، للذهبي (الحافظ شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذهبي ت 748هـ) ، تحقيق: د. عمر عبد السلام تدمري وغيره، الطبعة (1) ، دار الكتاب العربي، بيروت 1407هـ/ 1987م. 55- تاريخ الأدب العربي، كارل بروكلمان، (باللغة الألمانية) .
56- تاريخ الإسرائيليين - شاهين بك مكاريوس، مطبعة المقتطف بمصر، 1904م. 57- تاريخ الكنائس والأديرة في القرن الثاني عشر الميلادي - لأبي المكارم، إعداد وتعليق الراهب صموئيل السرياني. 58- التاريخ الكبير - للإمام البخاري (محمّد بن إسماعيل ت 256هـ) ، دار الكتب العلمية - بيروت. 59- تاريخ الكنيسة - يوسابيوس القيصري، ترجمة القصص مرقس داود - مكتبة المحبة، القاهرة، 1979م. 60- تاريخ المسيحية (المسيحية في العصور الوسطى) - جاء المنفلوطي، دار التأليف والنشر للكنيسة الأسقفية، القاهرة. 61- التاريخ المجموع - سعيد بن البطريق (البطريق أفيتشيوس) ، مطبعة الآباء اليسوعيين، بيروت، 1905م. 62- تاريخ المسيحية (فجر المسيحية) ، حبيب سعيد. 63- تاريخ الأمم والملوك - لابن جرير الطبري (الإمام محمّد بن جرير الطبري) ، الطبعة (4) ، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، 1403هـ/ 1983م. 64- تاريخ بغداد أو مدينة الإسلام، للخطيب البغدادي (أحمد بن عليّ الخطيب ت 463هـ) ، دار الكتب العلمية، بيروت. 65- تاريخ دمشق، لابن عساكر (الحافظ عليّ بن الحسن بن هبة الله ابن عساكر ت 571هـ) ، صورة مخطوطة بمكتبة الظاهرية بدمشق، نشر مكتبة الدار بالمدينة المنورة 1407هـ. 66- التبصير في الدين - لأبي المظفر الإسفرايئني ت 471هـ، تحقيق: كمال يوسف الحوت، الطبعة (1) ، عالم الكتب، بيروت، 1403هـ/ 1983م. 67- تثبيت دلائل النبوة - للقاضي عبد الجبار (عبد الجبار بن أحمد الهمذاني تحقيق: د. عبد الكريم عثمان، دار العربية، بيروت. 68- تجريد أسماء الصحابة، للحافظ الذهبي، دار المعرفة، بيروت.
69- تحفة الأريب في الرّدّ على أهل الصليب - لأبي محمّد عبد الله الترجمان الميورفي ت 832هـ، تحقيق: عمر وفيق الداعون، الطبعة (1) ، دار البناء الإسلامية، بيروت، 1408هـ. 70- ترانيم ومدائح منتخبة، مكتبة المحبة، القاهرة. 71- تعجيل المنعفة بزوائد رجال الأئمة الأربعة - لابن حجر العسقلاني ت 852هـ) ،طبعة دار المحاسن، القاهرة،1966م. 72- تفسير القرآن العظيم - للإمام ابن كثير ت 774هـ، الطبعة (1) ، دار المعرفة بيروت، 1407هـ/ 1987م. 73- تقريب التهذيب - للحافظ ابن حجر، تحقيق: عبد الوهّاب عبد اللطيف - دار المعرفة، بيروت. 74- تلبيس إبليس، لابن الجوزي (جمال الدين عبد الرحمن بن الجوزي ت 597هـ) ، الطبعة (2) ، دار الكتب العلمية، بيروت، 1407هـ/ 1987م. 75- تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل - للقاضي أبي بكر الباقلاني (محمّد بن الطيب الباقلاني ت 403هـ) ، تحقيق: عماد الدين أحمد حيدر، الطبعة (1) ، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، 1407هـ. 76- تنْزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة - عليّ بن محمّد بن عراق، مراجعة عبد الوهّاب عبد اللطيف وعبد الله الغماري، 1375هـ. 77- تنقيح الأبحاث للملل الثلاث: (اليهودية، المسيحية، الإسلام) - لسعد بن منصور بن كمونة اليهود، دار الأنصار، مصر. 78- تهذيب تاريخ دمشق الكبير لابن عساكر - تهذيب الشيخ عبد القادر بدران ت 1346هـ، الطبعة (2) ، دار المسيرة، بيروت، 1399هـ/ 1979م. 79- تهذيب التهذيب، للحافظ ابن حجر، الطبعة (1) ، دار الفكر، بيروت، 1404هـ/ 1984م. 80- التوراة السامرية - ترجمة الكاهن السامري: أبو الحسن إسحاق الصوري، تحقيق: د. أحمد السقا، الطبعة (1) ، دار الأنصار، القاهرة، 1398هـ/ 1978م.
81- الثقات - لابن حبان (الحافظ أبي حاتم محمّد بن حبان التميمي البستي ت 354هـ) ، دائرة المعارف العثمانية - حيدر آباد - الهند 1398هـ. 82- جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للإمام أبي جعفر الطبري، الطبعة (2) ، مطبعة الحلبي، مصر، 1388هـ/ 1968م. 83- الجامع الصحيح - للإمام البخاري (محمّد بن إسماعيل البخاري ت 256هـ) ، مع فتح الباري. 84- الجامع الصحيح - للإمام الترمذي (محمّد بن عيسى بن سَوْرة الترمذي ت 279هـ) ، بتحقيق: أحمد محمّد شاكر، الطبعة (1) ، دار الكتب العلمية، بيروت، 1356هـ/ 1937م. 85- الجامع الصحيح للإمام مسلم (مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري ت 261هـ) ، بتقحيق: فؤاد عبد الباقي، الطبعة (1) ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1375هـ/ 1955م. 86- الجامع لأحكام القرآن - للإمام القرطبي (أبي عبد الله محمّد بن أحمد الأنصاري ت 671هـ) ، تحقيق: أحمد عبد العليم البردوني، دار الكاتب العربي للطباعة، القاهرة، 1387هـ. 87- الجرح والتعديل - لابن أبي حاتم (عبد الرحمن بن أبي حاتم ت 377هـ) ، مطبعة دائرة المعارف النظامية بحيدر آباد، 1381هـ. 88- الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح - للإمام ابن تيمية، نشر السيّد عليّ صبح المدني، مطابع المجد التجارية، جدة. 89- الجوهر الثمين في سير الخلفاء والملوك والسلاطين - لابن دقماق (إبراهيم بن محمّد بن أيدمر العلائي ت 809هـ) ، تحقيق: د. سعيد عاشور، إصدارات جامعة أم القرى بمكّة. 90- حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة - جلال الدين عبد الرحمن السيوطي ت 911هـ، تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة (1) ، مطبعة البابي الحلبي، القاهرة، 1387هـ/ 1967م. 91- الحروب الصليبية في المشرق والمغرب - محمّد العروسي المطوي، الطبعة (2) ، دار المغربي الإسلامي، بيروت، 1982م.
92- الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى - د. محمّد ربيع هادي المدخلي، الطبعة (1) ، مكتبة لينة للنشر والتوزيع، القاهرة، 1409هـ/ 1988م. 93- حلّ مشاكل الكتاب المقدس - القس منسي يوحنا، مكتبة المحبة، القاهرة. 94- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء - للحافظ أبي نعيم (أحمد بن عبد الله الأصفاني ت 430هـ) ، الطبعة (1) ، مطبعة السعادة، مصر، 1394هـ. 95- حول تاريخ الأنبياء عند بني إسرائيل، م. ص. سيجال، ترجمة: د. حسن ظاظا، دار القلم، دمشق بيروت،1407هـ/1987م. 96- حياة قسطنطين العظيم - يوسابيوس القيصر، ترجمة القمص مرقس داود، مكتبة المحبة، القاهرة، 1970م. 97- الخصائص الكبرى - للحافظ السيوطي (أبي الفضل جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي ت 911هـ) ، الطبعة (1) ، دار الكتب العلمية، بيوت، 1405هـ/ 1985م. 98- خطط المقريزي (المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار) - للإمام المقريزي (تقي الدين أحمد بن عليّ بن عبد القادر ت 845هـ) ، مطبعة بولاق، القاهرة، 1270هـ. 99- دائرة المعارف القرن البريطانية، الطبعة (15) ، في عام 1983م. THE NEW ENCYCLOPEDIA BRITANICA (READ REFERINCE) . 100- دائرة معارف العشرين - محمّد فريد وجدي، الطبعة (3) ، دار المعرفة، بيروت، 1971م. 101- دائرة المعارف القرن الأمريكية، طبعة عام 1959م. ENCYCLOPEDIA AMERICANA 102- دائرة المعارف اليهودية، أورشيلم - إسرائيل 1978م. ENCYCLOPEDIA JU-DAICA JERUSALAM – ISRAEL – 1978. 103- الداعي إلى الإسلام - للأنباري النحوي (كمال الدين أبي البركات عبد الرحمن بن محمّد الأنباري ت 577هـ) ، تحقيق: سيد حسن باغجوان، الطبعة (1) ، دار البشائر الإسلامية، بيروت، 1409هـ/ 1988م.
104- درء تعارض العقل والنقل - للإمام ابن تيمية، تحقيق: د. رشاد سالم، الطبعة (1) ، إصدار جامعة الإمام محمّد بن سعود الإسلامية، الرياض، 1399هـ/ 1979م. 105- دراسة تحليلية لإنجيل مرقس تاريخياً وموضوعياً، د. محمّد عبد الحليم مصطلى أبو السعد، الطبعة (1) ، مطبعة الجيلاوي، القاهرة، 1404هـ/ 1984م. 106- الدر المنثور في التفسير بالمأثور - للسيوطي (جلال الدين عبد الرحمن السيوطي ت 911هـ) ، المطبعة الميمنية - القاهرة. 107- الدرر في اختصار المغازي والسير - لابن عبد البرّ ت 463هـ، تحقيق: د. مصطفى ديب البغا، الطبعة (2) ، مؤسسة علوم القرآن، دمشق، 1404هـ/ 1984م. 108- دلائل النبوة - للبيهقي (أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي ت 458هـ) ، تحقيق: د. عبد المعطي قلعجي، الطبعة (1) ، دار الكتب العلمية، بيروت، 1405هـ/ 1985م. 109- دلائل النبوة - لأبي نعيم الأصفهاني ت 430هـ، تحقيق: د. محمّد رواس قلعة جي وعبد البرّ عباس، الطبعة (2) ، دار النفائس - بيروت، 1406هـ/ 1986م. 110- دلائل النبوة - للغريابي (الحافظ أبي بكر جعفر بن محمّد الغريابي ت 301هـ) ، تحقيق: محمود بن الحداد وأم عبد الله بنت محروس العسلي، دار طيبة، الرياض. 111- الدين والدولة في إثبات نبوة محمّد صلى الله عنه وسلم - عليّ بن ربن الطبري ت 247هـ، تحقيق: عادل نويهض، الطبعة (2) ، دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1979م. 112- الديانات والعقائد في مختلف العصور - الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار، الطبعة (1) ، مكّة المكرّمة، 1401هـ/ 1981م. 113- ذيل مرآن الجنان - لليونيني البعلبكي (قطب الدين أبي الفتح موسى بن محمّد اليونيني ت 726هـ) ، الطبعة (1) ، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد الدكن، الهند، 1374هـ/ 1954م. 114- الرّدّ الأثري المفيد على البيجوري في شرح جوهرة التوحيد - عمر بن محمود أبو عمر، الطبعة (1) ، دار الكتب الأثرية، الأردن، 1409هـ/ 1989م.
115- الرّدّ على النصارى - صالح بن الحسين الجعفري ت 668هـ، مخطوطة بمكتبة أيا صوفيا رقم 2246م بتركيا. 116- الرّدّ على النصارى - صالح بن الحسين الجعفري، تحقيق: د. محمّد محمّدِحسانين، الطبعة (1) ،مكتبة وهبة، القاهرة،1409هـ. 117- الرسالة السبعية بإبطال الديانة اليهودية - للمهتدي الحبر إسرائيل بن شموئيل الأورشليمي. تحقيق: عبد الوهّاب طويلة، الطبعة (1) ، دار القلم، دمشق، بيروت 1410هـ/ 1989م. 118- رسالة في اللاهوت والسياسة - باروخ سبينوزا، ترجمة د. حسن حنفي، الهيئة المصرية للتأليف، القاهرة، 1971م. 119- الروح للإمام ابن قيِّم الجوزية ت 751هـ، تحقيق: محمّد اسكندريلدا الطبعة (1) ، دار الكتب العلمية، بيروت، 1402هـ/ 1982م. 120- الروضة الأنف في شرح السيرة النبوة لابن هشام - للإمام عبد الرحمن السهيلي ت 581هـ، تحقيق: عبد الرحمن الوكيل، الطبعة (1) ،دار الكتب الحديثة، القاهرة،1387هـ/1967م. 121- الروضتين في أخبار الدولتين: النورية والصلاحية - لأبي شامة (شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي ت 665هـ) ، تحقيق: د. محمد حلمي محمّد أحمد، إصدار المؤسسة المصرية العامة بإشراف وزارة الثقافة المصرية. 122- السامريون واليهود - د. سيد فراج سيد، دار المريخ للنشر - الرياض. 123- سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد - للإمام محمّد بن يوسف الصالحي ت 942هـ، تحقيق: د. مصطفى عبد الواحد، إصدار المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة، 1392هـ/ 1972م. 124- سلسلة الأحاديث الصحيحة - للألباني (الشيخ محمّد ناصر الدين الألباني) من منشورات المكتب الإسلامي، بيروت. 125- سلسلة الأحاديث الضعيفة - للألباني، من منشورات المكتب الإسلامي، بيروت.
126- السلوك لمعرفة دول الملوك - للمقريزي، نشر د. محمّد مصطفى، زيادة الطبعة (2) ، مطبعة لجنة التأليف والترجمة، القاهرة، 1970م. 127- السنكسار الجامع لأخبار الأنبياء والرسل والشهداء والقديسين - وضع الأنبا بطرس الجميل والأنبا ميخائيل والأنبا يوحنا وغيرهم، نشر مكتبة المحبة القبطية الأرثوذكسية، القاهرة. 128- سنن أبي داود - للحافظ أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني ت 275هـ، تحقيق: محمّد محيي الدين عبد الحميد، دار الباز للنشر والتوزيع، بمكّة المكرّمة. 129- سنن الدارمي - لأبي محمّد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ت 255هـ، عناية محمّد أحمد دهمان - دار إحياء السنة النبوية - بيروت. 130- السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم، تأليف: مجموعة من اللاهوتيين، نشر وطبع مجمع الكنائس في الشرق الأدنى، بيروت، 1973م. 131- سنن النسائي - للحافظ أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي ت 303هـ، الطبعة (1) ، مطبعة الحلبي، 1383هـ/ 1964م. 132- السنة - لابن عاصم (الحافظ أبي بكر عمرو بن أبي عاصم الضحّاك الشيباني ت 287هـ) ، ومعه ظلال الجنة في تخريج السنة - للشيخ محمّد ناصر الدين الألباني، الطبعة (1) ، المكتب الإسلامي، بيروت، 1400هـ. 133- سير أعلام النبلاء - للذهبي (الإمام شمس الدين محمّد بن أحمد الذهبي ت 748هـ) ، تحقيق: د. شعيب الأرناؤوط وزملائه، الطبعة (1) ، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1402هـ/ 1982م. 134- السيرة النبوية - لابن هشام (أبي محمّد عبد الملك بن هشام الذهبي النحوي ت 218هـ) ، تحقيق: د. همام عبد الرحيم سعيد ومحمّد أبو صعيليك، الطبعة (1) ، مكتبة المنار، الأردن، 1409هـ/ 1988م. 135- شرح الشفا - عليّ القاري، مطبوع بهامش نسيم الرياض، الطبعة (1) ، المطبعة الأزهرية المصرية، 1327هـ. 136- شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - للإمام اللالكائي (أبي القاسم هبة الله ابن الحسن بن منصور البطري اللالكائي ت 418هـ) ، تحقيق: د. أحمد سعد حمدان، الطبعة (1) ، دار طيبة، الرياض.
137- شرح جوهرة التوحيد - إبراهيم بن محمّد البيجوري ت 1277هـ، الطبعة (1) ، دار الكتب العلمية - بيروت، 1403هـ/ 1983م. 138- شرح صحيح مسلم - للإمام النووي (محيي الدين أبي زكريا يحيى بن شرف الخزامي ت 676هـ) ،المطبعة المصرية، القاهرة. 139- شرح العقيدة الطحاوية - للإمام ابن أبي العزّ الحنفي، الطبعة (4) ، المكتب الإسلامي، بيروت، 1391هـ. 140- شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري - الشيخ عبد الله بن محمّد الغنيمان، الطبعة (1) ، مكتبة الدار بالمدينة، 1405هـ. 141- شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، لابن قيّم الجوزية ت 751هـ، تحرير الحساني حسن عبد الله، دار التراث، القاهرة. 142- شفاء الغليل في بيان ما وقع في التوراة والإنجيل من التبديل - للجويني (أبي المعالي إمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله الجويني ت 478هـ) ، تحقيق: د. أحمد السقا، الطبعة (1) ، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، 1398هـ/ 1978م. 143- الشفاء بتعريف حقوق المصطفى - للقاضي عياض بن موسى اليحصبي الأندلسي ت 544هـ) ، تحقيق: محمّد أمين قرة عليّ وزملائه، الطبعة (2) ، مؤسسة علوم القرآن، دمشق، 1407هـ/ 1986م. 144- شمائل الرسول صلى الله عنه وسلم ودلائل نبوته وفضائله وخصائصه، لابن كثير ت 774هـ، تحقيق: مصطفى عبد الواحد، دار المعرفة، بيروت. 145- الشمائل المحمّدية - للإمام الترمذي ت 279هـ، إخراج: محمّد عفيف الزغبي، الطبعة (2) ، دار المطبوعات الحديثة، جدة 1406هـ/ 1986م. 146- صبح الأعشى في صناعة الإنشا - للقلقشندي (أبي العباس احمد بن عليّ القلقشندي ت 821هـ) ، نسخة مصورة عن الطبعة الأميرية - المؤسسة المصرية لتأليف والترجمة، إشراف وزارة الثقافة المصرية.
147- الصحاح - للعلامة إسماعيل بن حماد الجوهري، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، الطبعة (2) ، 1402هـ. 148- الصفات الإلهية في الكتاب والسنة النبوية - د. محمّد أمان بن عليّ الجاهي، الطبعة (1) ، إصدار المجلس العلمي بالجامعة الإسلاميّة، 1408هـ. 149- صفة الصفوة - لابن الجوزي (الإمام جمال الدين أبي الفرج بن الجوزي ت 597هـ) ، تحقيق: محمود فاخوري ومحمّد رواس قلعة جي، الطبعة (2) ،دار الوعي، حلب،1389هـ/1969م. 150- الصليب في الإسلام - حبيب زيات - مطبعة القديس يولس في حريصا، 1935م. 151- صحيح الجامع الصغير وزيادته - للشيخ محمّد ناصر الدين الألباني، الطبعة (2) ، المكتب الإسلامي، بيروت، 1406هـ. 152- صحيح سنن ابن ماجه - للشيخ محمّد نصار الدين الألباني، الطبعة (1) ، نشر مكتب التربية العربية لدول الخليج. 153- صحيح سنن النسائي - للشيخ محمّد نصار الدين الألباني، الطبعة (1) ، نشر مكتب التربية العربي لدول الخليج، المكتب الإسلامي، بيروت، 1409هـ. 154- الضعفاء الكبير - للعقيلي (الحافظ أبي جعفر محمّد بن عمرو العقيلي ت 322هـ) ، الطبعة (1) ، دار الكتب العلمية، بيروت، 1404هـ/ 1984م. 155- ضعيف الجامع الصغير - للشيخ محمّد ناصر الدين الألباني، الطبعة (2) ، المكتب الإسلامي، بيروت، 1408هـ، 1988م. 156- ضعيف سنن ابن ماجه - للشيخ الألباني، الطبعة الأولى، نشر مكتبة التربية العربية لدول الخليج. 157- طبقات الشافعية - للسبكي (تاج الدين أبي نصر عبد الوهّاب ابن تقي الدين ت 771هـ) ، تحقيق: عبد الفتاح الحلو ومحمود الطناحي، الطبعة (1) ، مكتبة عيسى البابي الحلبي، القاهرة.
158- الطبقات الكبرى - لابن سعد (محمّد بن عبد الله بن سعد البصري ت 230هـ) ، دار صادر، بيروت، 1377هـ. 159- العبادات المسيحية، الأرشمندريت إلياس، القاهرة، 1981م. 160- العقائد الوثنية في الديانة النصرانية - محمّد طاهر التنير ت 1352هـ، تحقيق: محمّد بن إبراهيم الشيباني، الطبعة (1) ، مكتبة ابن تيمية الكويت، 1408هـ/ 1987م. 161- عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن - الشيخ حمود بن عبد الله التويجري، الطبعة (2) ، دار اللواء، الرياض، 1409هـ/ 1989م. 162- علاقة الإسلام باليهودية - أ. د. محمّد خليفة حسن أحمد، دار الثقافة للنشر، القاهرة، 1988م. 163- علل الحديث - لابن أبي حاتم (الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي ت 327هـ) ، دار المعرفة، بيروت، 1405هـ/ 1985م. 164- العلل المتناهية في الأحاديث الواهية - لابن الجوزي ت 597هـ، تحقيق: إرشاد الحقّ الأثري، فيصل آباد، لاهور، باكستان. 165- العلم الشامخ في إيثار الحقّ على الآباء والمشايخ - العلامة صالح بن مهدي المقبلي ت 1108هـ، الطبعة (2) ، دار الحديث، 1405هـ/ 1985م. 166- غريب الحديث، - للخطابي (الإمام أبي سليمان أحمد بن محمّد الخطابي البستي ت 388هـ) ، تحقيق: د. عبد الكريم العزباوي، إصدارات جامعة أم القرى بمكّة، 1402هـ/ 1982م. 167- الغزو الفكري والعالم الإسلامي - د. عليّ عبد الحليم محمود، الطبعة (2) ،مكتبة عكاظ للنشر والتوزيع،1402هـ/1982م. 168- الفارق بين المخلوق والخالق - باجة دي زاده (الأستاذ عبد الرحمن بن سليم البغدادي) ، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة. 169- فتاوى ابن تيمية - للإمام ابن تيمية، جمع عبد الرحمن بن قاسم، الطبعة (1) ، مطابع الرياض.
171- فتح الباري شرح صحيح البخاري - لابن حجر العسقلاني ت 852هـ، تحقيق: الشيخ عبد العزيز بن باز، دار المعرفة، بيروت. 172- فتح المنان في نسخ القرآن - عليّ حسن العريفي، الطبعة (1) ، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1973م. 173- الفصل في الملل والأهواء والنحل - للإمام ابن حزم الظاهري ت 456هـ، تحقيق: د. محمّد إبراهيم نصر، ود. عبد الرحمن عميرة، دار الجيل، بيرت، 1405هـ/ 1985م. 174- فضائل الصحابة ت للإمام أحمد بن حنبل، تحقيق: وصي الله بن محمّد عباس، الطبعة (1) ، إصدارات جامعة أم القرى، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1403هـ/ 1983م. 175- الفكر الديني اليهودي - د. سحن ظاظا، الطبعة (2) ، دار القلم، بيروت، دمشق، 1407هـ. 176- فلسفة الفكر الديني بين الإسلام والمسيحية - لويس عرديه وج. قنواتي، ترجمة صبحي الصالح، ود. فريد جبر، الطبعة (1) ، دار العلم للملايين، بيوت، 1967م. 177- فهرس الكتاب المقدس - د. جورج بوست، الطبعة (5) ، مكتبة المشعل، بيروت. 178- الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة - للإمام محمّد عليّ الشوكاني ت 1250هـ، تحقيق: عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني-الطبعة (2) ،المكتب الإسلامي، بيروت، 1392هـ. 179- قاموس أكسفورد للكنيسة المسيحية (بالإنجليزية) . THE OXFORD DICTIONARY OF THE CHRISTIAN CHURCH – F.C. CROSS AND F.L. LIVINGSTONE. 180- القاموس الجديد العالمي للكنيسة المسيحية (بالإنجليزية) . THE NEW INTERNATIONAL DICTIONARY OF THE CHRISTIAN CHRUCH – J.D DOUGLAS.
181- قاموس الكتاب المقدس - جيمس هاستنج (باللغة بالإنجليزية) ، طبعة ابدنبورج بريطانيا الطبعة (2) ، 1963م. 182- قاموس الكتاب المقدس - تأليف: مجموعة من الأستاذة اللاهوتيين - القاهرة. 183- القاموس المحيط - للفيروزآبادي (مجد الدين محمّد بن يعقوب ت 817هـ) ،الطبعة (2) ،مؤسسة الرسالة، بيروت،1407هـ/ 1987م. 184- القبائل العربية في مصر في القرون الثلاثة الأولى للهجرة - عبد الله خورشيد البري، دار الكتاب العربي، القاهرة، 1967م. 185- القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم - د. موريس بوكاي، دار المعارف، القاهرة. 186- قصص الأنبياء - للحافظ ابن كثير ت 774هـ، تحقيق: محمّد أحمد عبد العزيز، الطبعة (1) ، دار الكتب العلمية، بيروت، 1403هـ/ 1983م. 187- قصص الأنبياء - الأستاذ عبد الوهّاب النجار، الطبعة (3) ، دار إحياء التراث، بيروت. 188- قصة الحضارة - ول ديورانت، ترجمة محمّد بدران وغيره، بإشراف جامعة الدول العربية، الطبعة (3) ، القاهرة، 1973م. 189- قصة الكنيسة القبطية (تاريخ الكنيسة الأورثوذكسية المصرية) - إيريس حبيب المصري، الطبعة (5) ، مطبعة الكرنك، الإسكندرية، 1984م. 190- الكامل في ضعفاء الرجال - لابن عدي (الإمام الحافظ أبي أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني ت 365هـ) ، تحقيق: يحيى مختار غزاوي، الطبعة (3) ، دار الفكر، بيروت، 1409هـ. 191- الكتاب المقدس - ترجمة تفسيرية - الطبعة (2) ، طبعة جي، سي. سنتر القاهرة. 192- الكتاب المقدس - طبعة دار الكتاب المقدس، القاهرة. 193- الكتاب المقدس - منشورات دار المشرق، بيروت، 1983م. كشف الأستار عن زوائد البراز - للحافظ نور الدين الهيثمي ت 807هـ. تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، الطبعة (1) ، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1979م.
195- كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، مصطفى بن عبد الله الشهير بـ (حاجي خليفة) ، دار العلوم الحديثة، بيروت، 1360هـ/ 1941م. 196- الكنْز الجليل في تفسير الإنجيل - د. وليم إدي، طبع ونشر مجمع الكنائس في الشرق الأدنى، بيروت، 1973م. 197- الكنْز المرصود في قواعد التلمود - د. روهلنج، ترجمة د. يوسف نصر الله، الطبعة (1) ، دار القلم، بيروت، دمشق، 1408هـ/ 1987م. 198- لب اللباب في تحرير الأنساب - جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، مكتبة المثنى، بغداد. 199- لسان العرب - لابن منظور (أبي الفضل جمال الدين بن مكرم ابن منظور الإفريقي) ، دار صادر، بيروت. 200- لسان الميزان - لابن حجر العسقلاني ت 852هـ، الطبعة (2) ، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1390هـ/ 1971م. 201- اللالئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة، للسيوطي ت 911هـ، بيروت، 1395هـ. 202- اللباب في تهذيب الأنساب - لابن الأثير الجزري (أبي المحاسن عليّ بن أبي الكرم الشيباني ت 630هـ) ، دار صادر - بيروت - 1400هـ/ 1980م. 203- لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية-للإمام السفاريني، (محمّد بن أحمد السفاريني) ،المكتب الإسلامي، بيروت. 204- ما هي النصرانية؟ - الشيخ محمّد تقي العثماني، مكتب دار العلوم كراتشي، 1403هـ. 205- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد - للحافظ الهيثمي (نور الدين عليّ بن أبي بكر الهيثمي ت 807هـ) ، مؤسسة المعارف، بيروت، 1406هـ/ 1986م. 206- المجتمع القبطي في مصر في القرن 19م، - رياض سوريال، مكتبة المحبة، القاهرة.
207- مجموعة الرسائل الكبرى - للإمام ابن تيمية ت 728هـ، دار إحياء التراث العربي، بيروت. 208- مجموعة الشرع الكنسي (قوانين الكنيسة المسيحية الجامعة) ، جمع وترتيب الأرشمندريت حنانيا إلياس كاب، مطبعة النور، بيروت، 1975م. 209- محاضرات في النصرانية، الأستاذ محمّد أبو زهرة، الطبعة (3) ، دار الكتاب الحديث، الكويت. 210- محمّد رسول الله هكذا بشرت به الأناجيل، بشرى زخارى ميخائيل، الطبعة (2) ، عالم الكتب، القاهرة. 211- محمّد صلى الله عنه وسلم في التوراة والإنجيل والقرآن - إبراهيم خليل أحمد، دار المنار، القاهرة، 1409هـ/ 1989م. 212- محمّد في الكتاب المقدس - الأستاذ عبد الأحد داود، ترجمة فهمي شما، الطبعة (2) ، دار الضياء للنشر، قطر، 1405هـ. 213- محمّد نبي الإسلام في التوراة والإنجيل والقرآن - الأستاذ محمّد عزت الطهطاوي، مطبعة التقدم، القاهرة. 214- المختار في الرّدّ على النصارى - للجاحظ (أبي عثمان عمرو ابن بحر الجاحز ت 255هـ) ، تحقيق: د. محمّد عبد الله الشرقاوي، الطبعة (1) ، دار الصحوة للنشر، القاهرة، 1405هـ/ 1984م. 215- مختصر علم اللاهوت - الحقير فرنسيس أيوب رئيس أساقفة حلب، منشورات المطبعة الكاثوليكية، بيروت. 216- مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة-للإمام ابن قيم الجوزية اختصره الشيخ محمّد بن الموصلي، مكتبة المتنبي، القاهرة. 217- المدخل إلى السنن الكبرى - للحافظ أبي بكر البيقهي ت 458هـ، تحقيق: د. محمّد ضياء الرحمن الأعظمي، دار الخلفاء لكتاب الإسلامي، الكويت. 218- المدخل إلى الكتاب المقدس - حبيب سعيد - نشر دار التأليف والنشر للكنيسة الأسقفية بالقاهرة، بالاشتراك مع مجمع الكنائس بالشرق الأقصى.
219- مسألة صلب المسيح بين الحقيقة والافتراء - أحمد ديدات - ترجمة عليّ الجوهري، دار الاعتصام، القاهرة. 220- المستدراك على الصحيحين في الحديث - للحافظ الحاكم (أبي عبد الله محمّد بن عبد الله النيسابوري ت 405هـ) ، وبذيله التلخيص للحافظ الذهبي، طبع بإشراف د. يوسف المرعشلي، دار المعرفة، بيروت. 221- مسند الإمام أحمد بن حنبل - للإمام أحمد بن حنبل الشيباني ت 241هـ، الطبعة (2) ، دار الكتب العلمية، بيروت، 1398هـ/ 1978م. 222- المسيح إله أم إنسان؟ - محمّد مجدي مرجان، دار النهضة العربية، مصر. 223- المسيحية نشأتها وتطورها، شارل جنيبر، ترجمة: د. عبد الحليم محمود، المكتبة العصرية، صيدا. 224- مشكل الآثار - لأبي جعفر الطحاوي (الإمام أحمد بن محمّد ابن سلامة الأزدي) الطبعة (1) ، حيدر آباد - 1333هـ. 225- مشكاة المصابيح - للتبريزي (محمّد بن عبد الله الخطيب) ، تحقيق: الشيخ محمّد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، 1399هـ. 226- المصباح المنير في غريب الشرح الكبير - أحمد بن محمّد المقري الفيومي ت 770هـ، المكتبة العلمية، بيروت. 227- مصر في العصور الوسطى، د. عليّ إبراهيم حسن، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة. 228- مصنف ابن أبي شيبة - لابن أبي شيبة (عبد الله بن محمّد بن أبي شيبة العبسي، ت 235هـ) ، ضبطه كمال يوسف الحوت، الطبعة (1) ، دار التاج، بيروت، 1409هـ/ 1989م. 229- المعارف للإمام ابن قتيبة (أبي محمّد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري ت 276هـ) ، الطبعة
231- معجم البلدان - ياقوت الحموي (شهاب الدين أبي عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي، ت 626هـ) ، دار صادر، بيروت، 1376هـ/ 1957م. 232- المعجم الفلسفي - إصدار مجمع اللغة العربية بالقاهرة - عالم الكتب، بيروت، 1399هـ/ 1979م. 233- معجم قبائل العرب القديمة والحديثة - عمر رضا كحالة، الطبعة (2) ، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1398هـ/ 1978م. 234- المعجم الكبير - للحافظ الطبراني (أبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني ت 360هـ) ، تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي، الطبعة (1) ، الدار العربية للطباعة، بغداد. 235- معجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية - المقدم عاتق بن غيث البلادي، الطبعة (1) ، دار مكّة للطباعة، مكّة، 1402هـ. 236- المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي - نشر د. أ. ي. ونسنك مكتبة بريل في ليدين بهولندا، 1936م. 237- المعجم الأوسط للحافظ الطبراني، تحقيق: د. محمود الطحان، الطبعة (1) ، مكتبة المعارف، الرياض. 238- المغازي - محمّد بن عمر الواقدي، تحقيق: د. مارسدن جونس مؤسسة الأعلمي، بيروت. 239- المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة للحافظ محمّد بن عبد الرحمن السخاوي ت 902هـ، تحقيق: محمّد عثمان الخشت، الطبعة (1) ، دار الكتاب العربي، بيروت، 1405هـ. 240- مقارنة الأديان (اليهودية - المسيحية) - د. أحمد شلبي، الطبعة (7) ، مكتبة النهضة العربية، القاهرة، 1983م. 241- مقامع هامات الصلبان ومراتع روضات الإيمان في الرّدّ على عبدة الأوثان - لأبي عبيدة الخرزجي ت 582هـ، تحقيق: د. محمّد شامة وقد نشره بعنوان: (بين الإسلام والمسيحية) ، مكتبة وهبة، القاهرة.
242- مقدمة مسند بقية بن مخلد ت 276هـ، تحقيق: د. أكرم ضياء العمري الطبعة (1) ،مطبعة بساط، بيروت،1404هـ/1984م. 243- الملل والنحل - للشهرستاني (أبي الفتح محمّد عبد الكريم الشهرستاني ت 548هـ) ، تحقيق: محمّد سيد كيلاني، دار المعرفة، بيروت. 244- من دحرج الحجر؟ - فرانك موريسون (باللغة الإنجليزية) ، طبع فايبر أنه فليبر، لندن: WHO MOVED THE STONE? FANK MORISON, PB. FABER AND FABER, LONDON. 245- المناظرة الكبرى بين الشيخ رحمة الله والدكتور القسيس فندر - تحقيق: د. محمّد عبد القادر خليل، الطبعة (1) ، دار ابن تيمية للنشر، الرياض، 1405هـ. 246- مناهل الصفا بتخريج أحاديث الشفا - للحافظ السيوطي ت 911هـ) ، الطبعة الحجرية البقديمة. 247- مناهل الصفا بتخريج أحاديث الشفا - للحافظ السيوطي، تحقيق: سمير القاضي، الطبعة (1) ، دار الجنان ومؤسسة الكتب الثقافية، بيروت 1408هـ/ 1988م. 248- المنتخب الجليل مِن تخجيل مَنْ حَرَّف الإنجيل - لأبي الفضل المالكي السعودي، مخطوطة بمكتبة أحمد الثالث تحت رقم: (17659، بتركيا، ومصورة ميكروفيلم بمركز البحث العلمي بجامعة أم القرى، تحت رقم: 68/15 عقيدة) . 249- المنتخب الجليل مِن تخجيل مَنْ حَرَّف الإنجيل - لأبي الفضل المالكي، مكتبة أحمد المليجي، مصر، 1322هـ. 250- المنجد في اللغة والأعلام-الطبعة (27) ،المكتبة الشرفية، بيروت. 251- منهاج السنة النبوية - لابن تيمية ت 728هـ، تحقيق: د. محمّد رشاد سالم، الطبعة (1) ، نشر جامعة الإمام محمّد بن سعود بالرياض. 252- منهج الأشاعرة في العقيدة - د. سفر بن عبد الرحمن الحوالي، الطبعة (1) ، الدار السلفية، الكويت، 1407هـ. 253- موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان - للحافظ الهيثمي، تحقيق: محمّد عبد الزراق حمزة، دار الكتب العلمية، بيروت.
254- المواقف في علم الكلام - القاضي عبد الرحمن بن أحمد الإيجي، عالم الكتب، بيروت. 255- موجز تاريخ المسيحية - القمص يسطس الدويري، مطبعة ملجأ الأيتام القبطي الخيري، بمصر، 1949م. 256- موسوعة أطراف الحديث النبوي الشريف - إعداد: محمّد السعيد بن بسيوني زغلول، الطبعة (1) ، عالم التراث، بيروت، 1410هـ/ 1989م. 257- الموسوعة العربية الميسرة، دار نهضة لبنان، بيروت، 1406هـ/ 1986م. 258- موسوعة تاريخ الأقباط والمسيحية - زكي شنودة، الطبعة (1) ، مكتبة النهضة المصرية، 1974م. 259- الموضوعات - لابن الجوزي (أبي الفرج عبد الرحمن بن عليّ ابن الجوزي ت 597هـ) ، من منشورات المكتب السلفية بالمدينة المنورة - 1360هـ. 260- الموطّأ - للإمام مالك بن أنس، تصحيح: محمّد فؤاد عبد الباقي، كتاب الشعب، القاهرة. 261- المسيح في مصادر العقائد المسيحية - المهندس أحمد عبد الوهّاب، الطبعة (1) ،مكتبة وهبة، القاهرة،1398هـ/1978م. 262- مباحث في علوم القرآن للشيخ مناع القطان، الطبعة (12) ، مؤسسة الرسالة، بيروت. 263- المطالب العالية للحافظ بن حجر العسقلاني، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي الطبعة (1) ، المطبعة العصرية، الكويت. 264- المفردات في غريب القرآن - للراغب الأصفهاني ت 502هـ، تحقيق: محمّد سيّد كيلاني، دار المعرفة، بيروت. 265- مَن روى عن أبيه عن جدّه، لابن قطلوبغا (الشيخ الزين أبي العدل قاسم بن قطلوبغا، ت 879هـ) ، تحقيق: الدكتور باسم الجوابرة، الطبعة (1) ، مكتبة المعلا، الكويت، 1409هـ. 266- النبوات - للإمام ابن تيمية ت 728هـ، دار يالكتب العلمية، بيروت، 1405هـ/ 1985م.
267- النبوة والأنبياء - للشيخ محمّد عليّ الصابوني، الطبعة (1) ، عالم الكتب، بيروت، 1405هـ. ن 268- النبوة والأنبياء في اليهودية والمسيحية والإسلام - أحمد عبد الوهّاب، الطبعة (1) ، مكتبة وهبة، القاهرة، 1400هـ. 269- النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة - لابن تغري بردي (جمال الدين أبي المحاسن يوسف بن تغري بردي الأتابكي ت 874هـ) ، طبعة دار الكتب المصرية، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، القاهرة. 270- النسخ بين الإثبات والنفي - د. محمّد محمود فرغلي - دار الكتاب الجامعي. 271- نسيم الررياض في شرح شفاء القاضي عياض - للخفاجي (أحمد شهاب الدين الخفاجي المصري) ، الطبعة (1) ، المطبعة الأزهرية المصرية، 1327هـ. 272- نقد التوراة أسفار موسى الخمسة - د. أحمد حجازي السقا، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، 1976م. 273- النصرانية والإسلام - محمّد عزت الطهطاوي - دار الأنصار، القاهرة. 274- النصيحة الإيمانية في فضيحة الملة النصرانية - للمهتدي نصر بن يحيى بن عيسى المتطبب، تحقيق: الطالب محمود عبد الرحمن قدح، رسالة ماجستير مقدمة في الجامعة الإسلاميّة للعام الجامعي: 1407هـ. 275- نقض أساس التقديس - للإمام ابن تيمية، مخطوط بمكتبة المخطوطات بالجامعة الإسلاميّة، ميكروفيلم تحت رقم: (3625) . 276- النكت على كتاب ابن الصلاح - للحافظ ابن حجر ت 852هـ، تحقيق: د. ربيع المدخلي، إصدار المجلس العلمي بالجامعة الإسلاميّة، 1404هـ/ 1984م. 277- النهاية في غريب الحديث والأثر - لابن الأثير (مجد الدين أبي السعادات المبارك ابن محمّد الجزري ت 606هـ) ، تحقيق: محمود محمّد الطناحي وطاهر أحمد الزواوي، نشر أنصار السنة المحمدية، لاهور، باكستان. 278- النهاية في الفتن والملاحم، للإمام ابن كثير ت 774هـ، تحقيق: محمّد أحمد عبد العزيز، دارالحديث،1401هـ/1980م.
279- نواسخ القرآن، لابن الجوزي - تحقيق: محمّد أشرف المليباري، إصدار المجلس العلمي، بالجامعة الإسلاميّة. 280- هداية الحياري في أجوبة اليهود والنصارى - للإمام ابن القيم (محمّد بن أبي بكر بن قيّم الجوزي ت 751هـ) ، تحقيق: د. أحمد حجازي السقا، الطبعة (2) ، المكتبة القيمة، القاهرة، 1399هـ. 281- هدية العارفين بأسماء المؤلِّفين وآثار المصنفين - إسماعيل باشا البغدادي، دار العلوم الحديثة، بيروت. 282- همجية التعاليم الصهيونية - بولس حنا مسعد - المكتب الإسلامي، 1388هـ/ 1969م. 283- الوافي بالوفيات - للصفدي (صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي ت 764هـ) ، دار النشر فرانز شتاير، فيسبادن بألمانيا - 1402هـ. 284- الوسائل العلمية للإصلاحات القبطية - حبيب جرجس، المطبعة التجارية، مصر. 285- وفيات الأعيان - لابن خلكان. (أبي العباس شمس الدين أحمد ابن محمّد بن أبي بكرت 681هـ) ، الطبعة (1) ، مطبعة السعادة، 1367هـ. 286- يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء - د. رؤوف شلبي. 287- اليهودية - د. محمّد بحر عبد المجيد، مكتبة سعيد رأفت، القاهرة، 1978م. 288- اليهودية والمسيحية - د. محمّد ضياء الرحمن الأعظمي، الطبعة (1) ، مكتبة الدار بالمدينة المنورة، 1409هـ/ 1988م.