تفسير أحمد حطيبة

أحمد حطيبة

الأنبياء

تفسير سورة الأنبياء [1 - 6] سورة الأنبياء سورة مكية سرد الله فيها قصص كثير من الأنبياء تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر الله في أول هذه السورة يوم القيامة محذراً الناس من أن تبغتهم الساعة وهم في غفلتهم يعمهون، كما وصف حال كفار مكة وتعنتهم وإعراضهم عن البراهين الناصعة التي أتاهم بها النبي صلى الله عليه وسلم.

مقدمة في تفسير سورة الأنبياء وذكر فضائلها

مقدمة في تفسير سورة الأنبياء وذكر فضائلها الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ * مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء:1 - 6]. سورة الأنبياء هي السورة الحادية والعشرون من كتاب الله تبارك وتعالى، وهي من السور المكية التي نزلت قديماً في مكة، ولذلك كان عبد الله بن مسعود رضي الله تبارك وتعالى عنه يقول: الكهف ومريم وطه والأنبياء من العتاق الأول، وهن من تلادي. فـ ابن مسعود من المهاجرين مع النبي صلى الله عليه وسلم وكان معه في مكة، فيذكر أن هذه السور من حفظه القديم لما كان في مكة. وطالما أنها مكية فإن فيها خصائص السور المكية، من الاهتمام بأمر ترسيخ العقيدة ونفي الشرك بالله تبارك وتعالى. وبما أن اسمها سورة الأنبياء فسيكون فيها ذكر عدد من أنبياء الله سبحانه وتعالى، فقد ذكر فيها ستة عشر نبياً من أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام، بالإضافة إلى ذكر مريم عليها السلام، فقد ذكر في هذه السورة موسى وهارون وإبراهيم وإسحاق ويعقوب ولوط ونوح وداود وسليمان وأيوب وإسماعيل وإدريس وذو الكفل وذو النون ويونس وزكريا ويحيى، ومريم عليهم الصلاة والسلام. وهؤلاء الأنبياء ذكروا أيضاً في سورة الطور، فقد ذكر فيها موسى وهارون وإبراهيم وإسحاق ويعقوب ولوط ونوح وداود وسليمان وأيوب وإسماعيل وإدريس وذو الكفل وذو النون ويونس وزكريا ويحيى ومريم عليهم الصلاة والسلام. كما أنهم ذكروا في سورة الأنعام وزيد عليهم إلياس واليسع، ولم يذكر ذو الكفل في الأنعام. وذكر الله عز وجل هؤلاء الأنبياء للنبي صلوات الله وسلامه عليه ليبين له أنه ليس بدعاً من الرسل {مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:9]، فكلهم أرسلوا إلى أقوامهم، وكلهم ابتلاهم الله عز وجل ودافعوا عن دين الله، وكلهم دعوا قومهم إلى الله وكانت مواجهة قومهم لهم بالإعراض والتكذيب فنصر الله عز وجل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والمؤمنين على القوم الكافرين. وقد ذكر الأنبياء للنبي صلى الله عليه وسلم هنا حتى يطمئن قلبه ويزداد رسوخاً ويعلم أنه ليس أول من أوذي صلوات الله وسلامه عليه، فيتسلى بذكر الأنبياء، ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (رحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر) صلوات الله وسلامه عليه. وحين ذكر يوسف على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام يقول: (رحم الله أخي يوسف! لو لبثت في السجن ما لبث ثم جاءني الداعي لأجبته إذ جاءه الرسول فقال: ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن). فالنبي صلى الله عليه وسلم يترحم على سيدنا يوسف ويذكر صبره حين كان في السجن، وحين جاءه داعي الملك ليخرجه من السجن، فقال له: ارجع إلى ربك، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم متواضعاً: إنه لو كان هو لبادر بالإجابة. وقد ذكر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم سائر الأنبياء في سورة الأنعام فقال: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:83 - 87]. وبعد أن ذكر له هؤلاء مجتمعين قال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]، أي: اقتد بهؤلاء. وفي سورة الأنعام ذكر الله عز وجل نعمه على عبيده بالأنعام، والسورة أيضاً كسائر السورة المكية فيها ترسيخ أمر العقيدة وأمر الإيمان بالله سبحانه وتوحيد الألوهية والربوبية والأسماء والصفات، والأمر بالبعد عن الشرك بالله، وعن تشريع ما لم ينزل الله عز وجل به من سلطان، والبعد عن عبادة غير الله والذبح لغير الله سبحانه، على ما ذكر سبحانه في هذه السور.

تفسير قوله تعالى: (اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون)

تفسير قوله تعالى: (اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون) قال تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1]. بدأ الله هذه السورة العظيمة بقوله سبحانه: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1]، وفيه التذكير باليوم الآخر كعادة السور المكية، فذكر اليوم الآخر حتى يستعد الإنسان للحساب. {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} [الأنبياء:1]، اقتربت القيامة، كما ذكرهم بالآخرة في مواضع من القرآن كقوله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]، وقوله: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1]، وقوله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]، وقوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} [النحل:33]، وقوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ} [الزخرف:66]. فذكر هنا أنهم ينتظرون الساعة، وطالما أن ربنا أخبر أن الساعة آتية فلا شك أنها آتية، ومهما طال عمر الإنسان فهو لا شيء إذا ما قيس بأيام يوم القيامة، قال تعالى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47]. فالإنسان إذا عاش خمسين سنة يكون واحد على عشرين من يوم عند الله سبحانه وتعالى، وعلى ذلك فعمر الدنيا محدود وقليل وضئيل ويسير، فلما قال الله: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ) معناه: أن أمر الله قريب جداً وإن لم تأت الساعة الكبرى فستأتي ساعتنا نحن. قال تعالى: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1] لأن أكثر الناس على هذه الغفلة. وقال: ((اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ)) كعادة السور المكية في ذكر الناس، أما في السور المدنية فإنه يذكر الذين آمنوا، وذكر الناس في السور المكية بسبب أن أكثر الناس في هذا الوقت كفار، والله سبحانه وتعالى يخاطب الجميع، أما السور المدنية لما كان فيها ذكر التشريعات، وأن هذه التشريعات لن يقوم بها إلا المؤمنون فكان يخاطب الذين آمنوا، فالمؤمن هو الذي سيقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. أما في المرحلة المكية فكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو كفرة، وكان المؤمنون في ذلك الوقت عددهم قليل، حتى أسلم سيدنا عمر رضي الله عنه سنة ست من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم أو نحوها، فكان عدد المؤمنين ما بين أربعين إلى خمسة وأربعين من الرجال وعشر من النساء، فالخطاب لن ينزل لهؤلاء الأربعين أو الخمسين، ولكنه خطاب لجميع من يدعوهم النبي صلوات الله وسلامه عليه. فالمعنى: اقترب لجميع الناس -مؤمنهم وكافرهم- الحساب، والغالب على حال الناس الغفلة والإعراض عن ذكر الله والإعراض عن اليوم الآخر، وكثير من الناس إذا جئت تذكره بالموت، يقول: لا تذكرني بالموت فأنا أخاف من الموت، والخوف من الموت ليس كلمة يقولها الإنسان، بل حقيقة الخوف من الموت أن يعمل الإنسان ويستعد لليوم الذي يموت فيه، والذي يجيب فيه عن أسئلة الملكين في قبره. {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1] كان الصحابة يخافون من أن يغفلوا عن ذكر الله سبحانه وتعالى، وخاصة في الأوقات الفاضلة التي يستحب فيها ذكر الله عز وجل كذكر الله بعد الفجر، وبعد العصر -يعني: طرفي النهار- والقيام في السحر، فكانوا يحبون أن يذكروا الله عز وجل في جميع أوقاتهم وخاصة في مثل هذه الأوقات. روى الإمام مسلم عن أبي وائل، قال: غدونا على عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يوماً بعدما صلينا الغداة، -يعني: الفجر- قال: فسلمنا بالباب فأذن لنا، قال: فمكثنا بالباب هنيهة فخرجت الجارية فقالت: ألا تدخلون؟ فدخلنا، فإذا هو جالس يسبح، فقال: ما منعكم أن تدخلوا وقد أذن لكم؟ قالوا: لا إلا أنا ظننا أن بعض أهل البيت نائم، فقال ابن مسعود رضي الله عنه: ظننتم بآل ابن أم عبد غفلة، -يقصد نفسه- ثم أقبل يسبح. والمعنى: أن أهل بيته لم يكونوا نائمين في هذا الوقت وهو وقت الفجر؛ لأن ابن مسعود يوقظ زوجته وعياله ليصلوا الفجر ويذكروا الله عز وجل في هذا الوقت، سواء جلس هو في المسجد أو ذهب إلى بيته يذكر الله تبارك وتعالى. ثم أقبل يسبح، يعني: مع أن الضيوف جاءوه إلا أنه اشتغل بالتسبيح، حتى ظن أن الشمس قد طلعت فقال: يا جارية! انظري هل طلعت؟ قالت: فنظرت فإذا هي لم تطلع، فأقبل يسبح حتى إذا ظن أن الشمس قد طلعت، قال: يا جارية! انظري هل طلعت؟ فنظرت فإذا هي قد طلعت، فقال: الحمد لله الذي أقالنا يومنا. يعني: أعطانا هذا اليوم نذكره فيه، والإقالة هنا بمعنى: أن ربنا سبحانه وتعالى تكرم علينا وترك لنا هذا اليوم نعيش فيه، ونأخذ بذكره أجراً وثواباً. قال: الحمد لله الذي أقالنا يومنا ولم يهلكنا بذنوبنا. كأنه يقصد أن كل إنسان يستحق أن يحاسبه الله ويعذبه على ذنوبه التي يفعلها، ولكن الله سبحانه يتكرم على عباده ويرجئهم ويعطيهم الفرصة ليتوبوا إليه فيتوب عليهم سبحانه وتعالى، ويذكرونه فيذكرهم ويشكرهم سبحانه. قال: فقال رجل من القوم: قرأت المفصل البارحة. يعني: ما بعد وقت طلوع الشمس إلى أن يصلي ابن مسعود صلاة الضحى بدأ يكلم الضيوف، فأخبره رجل منهم أنه قرأ المفصل البارحة، يعني: في قيام الليل. والمفصل من أول قاف إلى آخر القرآن، أو من أول الحجرات إلى آخر القرآن، وهذا يعني أنه يقرأ أربعة أجزاء، وهذا شيء طيب. فلما قال ذلك قال له ابن مسعود: أهذّاً كهذ الشعر؟ إني لأحفظ القرائن التي كان يقرؤهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر من المفصل وسورتين من آل حم. الشاهد: أن ابن مسعود كان في هذا الوقت يذكر الله تبارك وتعالى، وأهل بيته أيضاً يذكرون الله سبحانه وتعالى في هذا الوقت، وقال لضيوفه: ظننتم بآل ابن أم عبد غفلة. فكانوا يخافون من الغفلة وإن كان أغلب الناس في غفلة، كما ذكر الله تبارك وتعالى {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1]، أي: معرضون عن ذكر الله تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث أفتأتون السحر وأنتم تبصرون)

تفسير قوله تعالى: (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث أفتأتون السحر وأنتم تبصرون)

إعراض المشركين عن القرآن حسدا

إعراض المشركين عن القرآن حسداً ثم قال تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} [الأنبياء:2 - 3]. سمى الله القرآن النازل من عنده ذكراً؛ لأنه تذكرة للخلق، وكذلك نبينا صلوات الله وسلامه عليه وصفه الله عز وجل بأنه ذكر، لأنه يذكر الناس كما ذكر في سورة التغابن. {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء:2] يعني هذا القرآن محدث في إنزاله، والقرآن كلام رب العالمين سبحانه ليس مخلوقاً، فهنا الذي حدث هو نزول القرآن من السماء إلى الأرض، وكل القرآن نزل إلى السماء الدنيا دفعة واحدة كما جاء في الأثر عن ابن عباس: أن الله عز وجل أنزل القرآن ليلة القدر إلى السماء الدنيا، ونزل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك على حسب الحوادث. فهنا الإحداث في القرآن معناه: أن مجيء القرآن من عند رب العالمين بحسب الحوادث التي تجد، {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء:2] يعني: كلما جاءتهم آية من الآيات من الله عز وجل استمعوا لهذه السور وهم يلعبون، واللعب هنا بمعنى اللهو، فهم يتلهون عن النبي صلوات الله وسلامه عليه ويعرضون عنه. فحالهم {لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} [الأنبياء:3] وأصلها: قلوبهم لاهية، يعني: قلوب هؤلاء القوم في لهو وفي انشغال عن الله عز وجل وعن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم بما فيها من وساوس وبما فيها من هم الدنيا وبما فيها من إعراض وشرك بالله رب العالمين سبحانه. {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنبياء:3] الذي أسروا النجوى هم الذين ظلموا، يعني: الكفار. (وأسروا): كتموا فيما بينهم. (النجوى): يتناجون فيما بينهم ويكلم أحدهم الآخر سراً: هذا ساحر هذا كذاب هذا كاهن أتانا بما يفرق بين المرء وزوجة والمرء وأبيه، فيكذبون على النبي صلى الله عليه وسلم ويسرون النجوى بظلمهم. فهم أسروا النجوى قائلين: {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الأنبياء:3]؟ يعني: ما هذا إلا بشر مثلكم، فكيف ينزل عليه القرآن ولا ينزل علينا، وهو مثل قولهم: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] يعني: بدل أن ينزل عليه كان سينزل على أحد من كبار القوم كـ الوليد بن المغيرة في مكة أو عروة بن مسعود في الطائف. فكأنهم استكثروا على النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليه ربه هذا القرآن غيرة وحسداً، والإنسان عندما يرى أن غيره أحسن منه يغار منه ويحسده، وديننا ينهانا عن ذلك، وربنا تبارك وتعالى يذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه نعمة أنعم بها عليه، فقال له: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33]، يطمئنه ربه سبحانه أنهم لا يكذبونه بل هم يعرفون أنه الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم؛ لكنهم يجحدون بهذه الآيات، فأنت تحكم على ظاهر ما يقولون إذ يقولون: كذاب، لكن الله عز وجل مطلع على ما في القلوب، فهم مصدقون بقلوبهم لكن ألسنتهم جاحدة: {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33]. فأسر هؤلاء النجوى فيما بينهم حسداً للنبي صلى الله عليه وسلم على ما أتاه الله عز وجل من فضله، لأن كلاً منهم كان يتمنى أن يكون هو النبي، والعرب كانت عادتهم أن يغار بعضهم من بعض، وربنا سبحانه وتعالى يقول: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:54] وكأن هذا اعتراض على الله سبحانه أن نؤتيه من فضله {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} [النساء:54] يعني: ليست هذه أول مرة ينزل الله فيها كتابه ولا أول مرة يؤتي إنساناً الحكمة من لدنه، {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} [النساء:54]. وهنا الكفرة والظلمة يقولون عن النبي صلى الله عليه وسلم: {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ} [الأنبياء:3] يعني: كأنهم يريدون أن يرسل إليهم ملك من الملائكة، ولو جاءهم ملك لما أطاقوا ذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما رأى جبريل بين السماء والأرض على هيئته الحقيقة فزع صلوات الله وسلامه عليه وهرب إلى بيته وقال لزوجته: (زملوني زملوني دثروني دثروني). وجبريل ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم على حقيقته إلا مرتين، أما سوى ذلك فكان يراه على هيئة رجل من أصحابه اسمه دحية الكلبي، فكان يأتيه في منظره وجماله وهيئته. ومن حكمة الله أنه ما أنزل القرآن مع ملك، وإلا لكان الإيمان جبراً وقهراً وقسراً، ولكان قال قائلهم معترضاً: كيف نطيق ما يطيق الملائكة، فجبريل هذا أخذ قرى المؤتفكات ورفعها كلها إلى السماء وقلبها وأتبعها حجارة من السماء، قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام:8 - 9]. يعني: لو جعلناه ملكاً في صورته الحقيقية لكان الإيمان جبرياً، بينما الله عز وجل يريد الإيمان الاختياري من أجل أن يحصل التكليف، ومن ثم الحساب على هذا الاختيار يوم القيامة، وإن كان علمه وقضاؤه وقدره غالباً وسابقاً أن منهم كافراً ومنهم مؤمناً، لكن شاء أن يجعل لك اختياراً وكسباً ليحاسبك على هذا الذي كسبته يوم القيامة، وأنت تستشعر كمال هذا الاختيار فتختار الحق أو الباطل. المقصود أن الله عز وجل لو أنزل ملكاً فإما أن ينزل الملك في صورته، وهم كانوا يخافون من العفاريت ومن الجن، حتى إنهم إذا مروا بصحراء في سفرهم قال الواحد منهم: أعوذ برب هذا الوادي، فكيف لو نزل ملك من السماء؟ لو نزل ملك لقضي الأمر ولكانوا آمنوا قهراً، وهذا لا يريده الله سبحانه وتعالى. أما الاحتمال الثاني فهو: أن ينزل الملك على هيئة البشر {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام:9]، فإذا نزل على صورة إنسان لرجعوا إلى الاعتراض الأول، وهو أن الرسول بشر.

إعراض المشركين عن الحق بدافع المكابرة

إعراض المشركين عن الحق بدافع المكابرة قال: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الأنبياء:3]: (الذين ظلموا) على الوصل فيها كأنها بدل من الواو في (أسروا) أي: من الذين أسروا الذين ظلموا، والفعل مضمر تقديره: يقولون، أي: الذين ظلموا يقولون: هل هذا إلا بشر مثلكم. وهي كقول الله عز وجل: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد:23 - 24] هنا الفعل مضمر تقديره: يقولون: سلام عليكم بما صبرتم. فيجوز أن تقرأ على الوصل كما بينا، أو على الوقف: {لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} [الأنبياء:3] ونقف ثم نقرأ: {الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الأنبياء:3]. ويجوز أن نقرأ: {لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الأنبياء:3] فنصل جميع الآية وهو الأفضل. قال: {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} [الأنبياء:3] هذا من قول الكفار، فيقول بعضهم لبعض: ما دمنا قلنا على هذا القرآن: إنه سحر، فكيف تصدقون بالسحر وأنتم تبصرون؟ يعني: وأنتم تعقلون وتعرفون أنه سحر، وهذا من التلبيس؛ لأن القائل يعلم أنه ليس سحراً وليس كذباً، ولكنهم يخادعون بعضهم، وقد عرفنا كيف كان الوليد بن المغيرة وأبو جهل وغيرهم من كبار المشركين يذهبون ليتسمعوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن عند الكعبة، وعند رجوعهم يجمعهم الطريق فيتعاهدون على ألا يستمعوا إليه، ثم إذا بهم يرجعون من الليلة التالية وهكذا. ومن جمال هذا القرآن وحلاوته يقول عنه الوليد بن المغيرة: إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وهو الذي قال فيه ربنا سبحانه وتعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا} [المدثر:11 - 16] يعني: كان يعرف أن هذا هو الحق، ويعترف أن هذا الكلام ليس من كلام البشر، ومع ذلك يعاند النبي صلى الله عليه وسلم ويمنع الناس من الإيمان به. وقد حصل مثل هذا من نساء المشركين حيث كن يذهبن إلى أبي بكر الصديق ويستمعن إليه وهو يصلي ويقرأ القرآن، حتى هم المشركون أن يطردوا أبا بكر الصديق رضي الله عنه من البلد. المقصود: أن القرآن له جمال وله حلاوة عظيمة عرفها المشركون وعرفها المؤمنون، فالمشركون عاندوا وجحدوا كلام رب العالمين سبحانه، فقالوا: إنه كذب وسحر من كلام البشر، وهم يعلمون أن الحق خلاف ذلك.

تفسير قوله تعالى: (قال ربي يعلم القول في السماء والأرض)

تفسير قوله تعالى: (قال ربي يعلم القول في السماء والأرض) قال تعالى: {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنبياء:4]. يعني: أنتم تناجيتم فيما بينكم فأطلعني ربي على ما تقولون وفضحكم بذلك. (قال ربي)، وهذه قراءة نافع وأبي جعفر وابن كثير وأبي عمرو وابن عامر ويعقوب. ويقرؤها شعبة عن عاصم: (قل ربي يعلم)، وهذه أيضاً قراءة حفص عن عاصم وقراءة حمزة والكسائي وخلف. ومعنى هذا أن الله قال للنبي صلى الله عليه وسلم قل لهم: إن ربي قد فضحكم، فهو يعلم ما تسرون من أقوالكم، فقال صلى الله عليه وسلم: ربي يعلم القول في السماء والأرض، فما من قول في السماء أو في الأرض إلا وقد علمه الله سبحانه، ولا يخفى عليه شيء يسمع القريب والبعيد يسمع الخفي وما هو جلي يسمع حديث الإنسان مع غيره، بل ويعلم ما لا يقوله الإنسان وإنما يكنه في قلبه. قال سبحانه: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنبياء:4] العليم بأمور هؤلاء وبأحوالهم تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (بل قالوا أضغاث أحلام)

تفسير قوله تعالى: (بل قالوا أضغاث أحلام) {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ} [الأنبياء:5]. {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ} [الأنبياء:5] وأضغاث الأحلام معناها: الأحلام التي ليس لها تأويل، فالحلم إما أن يكون رؤيا حقيقة أو أضغاث أحلام. والرؤيا ينزل بها ملك من الملائكة على الإنسان النائم، أما الضغث من الأحلام فهو الشيء الذي ليس له معنى ولا تفسير. {قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ} [الأنبياء:5] يعني: هذا الكلام الذي يقوله لكم هراء وليس له معنى كأضغاث الأحلام. وهم يعرفون كذبهم في ذلك. قال تعالى: (بل افتراه)، هنا يظهر تخبط المشركين، فهم أولاً قالوا: كلام محمد هو أضغاث أحلام، ثم رجعوا وقالوا: إنما هو قول افتراه، وهو شعر نظمه من عند نفسه، رغم أنهم أعرف الناس بأشعار العرب وأوزان الشعر، ويعرفون أن هذا القرآن ليس من هذا القبيل. قال تعالى: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ} [الأنبياء:5] يعني: إذا أرادنا أن نؤمن له بآية مثل عصا موسى أو يد موسى أو ناقة ثمود.

تفسير قوله تعالى: (ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون)

تفسير قوله تعالى: (ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون) قال تبارك وتعالى: {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء:6] يعني: الأمم السابقة لما جاءتهم الآيات لم يؤمنوا فأهلكهم الله عز وجل بتكذيبهم، فهل هؤلاء سيؤمنون؟ وقد ذهب إلى النبي صلوات الله وسلامه عليه مجموعة من الكفار منهم عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو سفيان بن حرب والنضر بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية وأمية بن خلف وأبو البختري والوليد بن المغيرة، فطلبوا منه آيات ذكرها الله في قوله: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه} [الإسراء:90 - 93] يعني: لو ارتقيت فلن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب مختوم من عند ربنا أنك نبي من عند رب العالمين. فلم يجبهم النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرهم أنه إنما بعث من عند الله بهذه الرسالة، وأنه قد أبلغهم ما أرسل به إليهم؛ فإن قبلوه فهو حظهم في الدنيا والآخرة، وإن ردوه عليه صبر حتى يحكم الله بينه وبينهم. وقد روي أن عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة وهو ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم عاتكة بنت عبد المطلب، كان من أشد الناس عليه مع عمه أبي لهب، وكان معهم فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم عنهم قال له: (يا محمد! عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم)، يعني: طلبوا منك أن تأتيهم بآية من الآيات التي ذكروها فلم تجبهم، وكانوا قد طلبوا منه أن يدعو الله أن يوسع لهم الأرض بأن يزيل ما حول مكة من الجبال، وهذه كلها مطالب حقيرة تدل على قلة عقولهم، رغم أنهم يعرفون الحق الذي جاء من عند رب العالمين بشهادة ربهم عليهم: {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33]. فهذا الرجل مثلهم في جهلهم فيقول للنبي صلوات الله وسلامه عليه: (سألوك لأنفسهم أموراً فلم تفعل، ثم سألوك أن تأخذ لنفسك ما يعرفون به فضلك، فلم تفعل)، يعني: ألم يطلبوا منك أن تسأل ربك أن يجعل لك بيتاً من زخرف، فأبيت، ثم سألوك أن تعجل لهم العذاب -وهذا من جهلهم وحماقتهم- فلم تفعل ذلك. ثم قال له: (أما أنا فلن أؤمن بك حتى تتخذ إلى السماء سلماً ثم ترقى فيه وأنا أنظر، ثم تأتي معك بصك معه أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك رسول من عند رب العالمين). ثم قال بعد ذلك: وايم الله لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك! لذلك قال الله عن هؤلاء: {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء:6]. فلو أتاهم بهذه الآيات فوسع لهم الأرض -مثلاً- لقالوا: إنما هذا من سحره، وقد طلبوا منه في ليلة من الليالي أن يشق لهم القمر، فدعا ربه صلوات الله وسلامه عليه ذلك، ثم أشار بيده إلى القمر فانشق القمر نصفين، فكان نصفه قدام الجبل ونصفه الآخر وراء الجبل. فلما رأوا انشقاق القمر قالوا: هذا من السحر، ثم قاموا يترقبون الواصلين إلى مكة من البوادي ليسألوهم عن رؤيتهم لانشقاق القمر، فكلما سألوا أحداً أكد لهم رؤية انشقاق القمر، ومع ذلك لم يؤمنوا. ولو كانت هذه الآية لجميع الناس لأهلكم الله سبحانه، لقوله تعالى لنبي إسرائيل لما أنزل عليهم مائدة من السماء: {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة:115]، وكما أهلك الله ثمود لما جاءتهم الناقة فقتلوها. فكان من رحمة ربنا سبحانه أن هذه الآية كانت للبعض من الناس وليست آية عامة وإلا لأهلك الجميع. وأثبت ربنا سبحانه وتعالى هذه الآية في كتابه فقال: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]، ولعلكم سمعتم حديث الدكتور زغلول النجار في هذه المسألة، حيث قال: إنه كان يلقي محاضرة في أمريكا وأثناء ذلك قام رجل أمريكي مسلم وقال: إن قوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1] هي سبب إسلامي، فقد تعرفت قبل فترة على مجموعة من المسلمين فأحببت أن أتعرف على الإسلام، فأهدى إلي أحد ترجمة للمصحف، فأخذت الترجمة وأول ما فتحتها ظهرت أمامي هذه السورة: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]، فتوقفت عن القراءة ولم أتقبل هذا الكلام، وبعد زمن كنت أشاهد برنامجاً تلفزيونياً فيه مقابلة مع أحد رواد الفضاء وإذا بالمذيع ينكر عليه صرف ألف مليون دولار من قبل الحكومة على مشروع من أجل وضع العلم الأمريكي فوق القمر. فقال رائد الفضاء: إننا صعدنا إلى القمر لأهداف علمية، ويكفينا أننا أتينا للناس بمعلومة لم يكونوا ليعرفوها ولو صرفوا أكثر من هذا المبلغ لولا الصعود إلى سطح القمر، وهذه المعلومة هي أننا وجدنا شقاً طولياً يطوق القمر كالسوار فأخذنا عينات من الشق والتقطنا الصور ثم بعثنا بها إلى علماء الجيولوجيا في الأرض، فقالوا: هذا دليل على حصول انفلاق للقمر في يوم من الأيام، ثم عاد والتحم ثانية. قال الرجل: فلما سمعت هذا الكلام عرفت أن هذا هو الحق ورجعت للقرآن مرة ثانية فأسلمت. وهذه القصة حكاها الدكتور زغلول النجار أكرمه الله في معرض كلامه عن هذه الآية. فالأمريكيون صرفوا ألف مليون دولار من أجل أن يثبتوا آية أثبتها الله في كتابه وجعلها معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، وصدق الله العظيم القائل: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت:53]. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الأنبياء [7 - 15]

تفسير سورة الأنبياء [7 - 15] يبين الله تعالى في كتابه عناد الكافرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث ردوا دعوته بالتهم الباطلة، والأكاذيب والأراجيف، فهلا سألوا أهل العلم والمعرفة بالكتب السماوية ليعرفوهم حقيقة هذا النبي؟ ولكنهم لا يسألون إلا أهل الجهل والظلم، فضلوا بسببهم، فأصابهم ما أصاب الأمم من هلاك ودمار، وقصمهم الله عز وجل جزاء صنيعهم.

إهلاك القرى التي تكذب المرسلين

إهلاك القرى التي تكذب المرسلين الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الأنبياء عليهم السلام: {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ * مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ * وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ * وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ * ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ} [الأنبياء:4 - 9]. يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات وما قبلها عن تعنت المشركين مع النبي صلوات الله وسلامه عليه، وكيف أنهم أنكروا أن يرسل الله عز وجل بشراً رسولاً، فربنا تبارك وتعالى يرد على هؤلاء: لو جعلنا هذا الرسول الذي تريدونه ملكاً لقضي الأمر، فلو كان ملكاً كما تريدون لقضي الأمر ولم تنظروا بعد ذلك، قال تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام:9]. فكون الرسول يكون بشراً فهذا مقتضى حكمة الله سبحانه وتعالى، لو لم يكن الرسول بشراً وكان ملكاً من الملائكة كما يريدون هم، فإذاً الملك سيبلغ الرسالة وهم من خوفهم من الملك سيستجيبون مباشرة لكلامه، وهذا غير ما أراده الله سبحانه وتعالى، فإنه أراد أن يكتسبوا أمر الإيمان ويستشعر أحدهم أنه مؤمن مكلف، وأن الله عز وجل جعل له الاختيار هل يأخذ هذا الدين فيثاب عليه أم يتولى فيعاقب عليه يوم القيامة، {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21]، أي: مرتهن بكسبه في اختياره لهذه الدنيا، فالله سبحانه تبارك وتعالى خلقهم، وجعل منهم مؤمناً، وجعل منهم كافراً، والله عليم حكيم سبحانه بمن يستحق أن يكون مؤمناً ومن يستحق أن يكون كافراً. المشركون أسروا فيما بينهم هذا الكلام، فقالوا: إن هذا كاهن، وشاعر، ويتكلم بأضغاث أحلام ليس له معنى، وكذبوا في هذا الذي يقولونه على النبي صلوات الله وسلامه عليه وقد عرفوا ذلك. ولذلك كان الكفار عندما يجلسون يتشاورون: ماذا نقول لهذه القبائل عندما تأتي؟ فيقول بعضهم لبعض: قولوا شاعر، فيرد الآخر ويقول لهم: لقد درسنا الشعر وقلناه وسمعناه فما هو بكلام الشعراء، قالوا: إذاً نقول عنه: كاهن، فهم كانوا يقترحون أشياء ويعتقدون أن ما يقولونه كذب، فهم كذابون فيما يقولون، فلذلك ربنا سبحانه وتعالى قال عن هؤلاء: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ} [الأنبياء:5]. قال تعالى: {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء:6]. يعني: هم قالوا هذا الكلام وهم يعرفون أنه كذب، فعندما يطلبون الآيات مع كذبهم وتخرصهم على النبي صلى الله عليه وسلم فأي آية يطلبون؟ وهل هناك أعظم من هذا القرآن الذي أعجبهم وعرفوا أنه حق من عند الله، ومنعهم الحسد من أن يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم؟

تفسير قوله تعالى: (وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم)

تفسير قوله تعالى: (وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم)

محمد رسول الله ليس بدعا من الرسل

محمد رسول الله ليس بدعاً من الرسل قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} [الأنبياء:7]. أوحى الله عز وجل إلى الأنبياء قبل النبي صلى الله عليه وسلم كما أوحى إليه، فليس هو بدعاً من الرسل، {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} [الأحقاف:9]، فالله عز وجل أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم كما أرسل الرسل من قبله، وأوحى إليه، فنزل عليه جبريل بالوحي من السماء كما أنزل الله عز وجل على الرسل السابقين الوحي من السماء. أتباع الرسل السابقين منهم من آمنوا فانتفعوا بإيمانهم، ومنهم من كفروا فأصابهم العذاب، فهؤلاء الكفار {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} [الأعراف:53] أي: مجيء هذا العذاب الذي وعدهم الله عز وجل به، وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم، وذكر لنا سبحانه وتعالى هذا المعنى، وتكرر في مواطن القرآن، في أربعة مواطن من القرآن. قوله: {نُوحِي إِلَيْهِمْ} [الأنبياء:7] فيها القراءتان: {نُوحِي إِلَيْهِمْ} [الأنبياء:7]، و {يوحِي إِلَيْهِمْ} [الأنبياء:7]. فالوحي من الله سبحانه تبارك وتعالى إلى أنبيائه ورسله، ما أرسل قبلكم رسولاً إلا يوحي إليه، فالأنبياء لا ينطقون عن الهوى، قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4] أي: وحي من الله سبحانه تبارك وتعالى يوحيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فينطق بالقرآن والسنة، فكله من عند الله رب العالمين سبحانه، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]. قوله: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) كذلك فيها قراءتان: قراءة الجمهور: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْر)، وقراءة ابن كثير والكسائي وخلف: (فَسلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) وهذه فيها معان كلها محتملة، فكأنه يريد أن يقول: يا أيها الكفار! اسألوا أهل الذكر، أي: أهل الكتب المنزلة سابقاً، وقد كان الكفار يسألون اليهود: هل هذا الرجل على حق أم لا؟ فأكثر اليهود كذابون، قال تعالى: {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء:51]، ولكن أهل العلم من اليهود الذين يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم بصفاته كـ عبد الله بن سلام وغيره، عرفوا النبي صلى الله عليه وسلم وعرفوا الحق، فكأن القرآن يقول لهم: اسألوا هؤلاء السابقين عن هذا الذي جاءكم في القرآن هل هو حق أم باطل؟ اسألوا من يقرأ التوراة والإنجيل، فهم أعلم بالأنبياء السابقين منكم، فتعرفون صدق ما يقوله النبي صلوات الله وسلامه عليه. وقيل: إنه أراد بأهل الذكر أهل القرآن، فيكون المعنى: اسألوا المؤمنين العالمين من أهل القرآن. إذاً: هذا اللفظ عام، فإذا جهلت شيئاً في هذا القرآن أو في دينك فاسأل أهل الذكر والعلم، والآيات التي في يوسف والنحل وفي سورة الأنبياء فإنها تدل على هذا المعنى. وهنا حادثة وقعت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، لما أفتى بعض الصحابة رجلاً أصابته شجة في رأسه أن يغتسل فمات منها بسبب الماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قتلوه قتلهم الله، هلا سألوا إذ جهلوا إنما شفاء العي السؤال) وهنا يقول لنا: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] فالإنسان الجاهل شفاؤه السؤال، فيسأل ويتعلم ويعرف ولا يفتي نفسه، ولا يستفتي جاهلاً فيضيعه كما فعل الناس بهذا الرجل المشجوج.

سؤال أهل الذكر والحذر من اتباع الجهلة

سؤال أهل الذكر والحذر من اتباع الجهلة قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا} [الأنبياء:7] يعني: أشخاصاً من البشر، وليسوا ملائكة، {نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7]. يقول الإمام القرطبي: لم يختلف العلماء في أن العامة عليهم تقليد علمائهم، والمعنى: أن الإنسان العامي إذا جهل شيئاً من أمر الدين يسأل عالماً من العلماء، لكن لا يذهب ليبحث عن العلماء ويقعد ليرجح بينهم، وإنما يسأل من يطمئن إلى علمه ثم يعمل به ويلزمه تقليده في ذلك إذا سأله، فلا يرجح بين أقوال العلماء، فهو ليس عنده مقدرة على الترجيح، واحتج العلماء بقول الله عز وجل: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7]. كذلك أجمعوا على أن الأعمى لا بد له من تقليد غيره ممن يثق بتمييزه، يعني: في أمر القبلة، ولا يجوز له أن يتجه أي اتجاه، وإنما عليه السؤال. كذلك الإنسان الذي ينزل في بلد ولا يعرف اتجاه القبلة فيها ليس من حقه أن يصلي في أي مكان، ولكن يجب عليه أن يسأل، قال الله عز وجل: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7]، فلو فرضنا أنه صلى إلى أي اتجاه من غير أن يسأل ومن دون اجتهاد منه فصلاته باطلة، فلا بد أن يسأل، ولا يصلي إلى جهة يشك فيها، ولكن إن جهل ولم تتبين له الجهة ولم يجد من يسأله يجتهد قدر المستطاع، وصلاته صحيحة حتى ولو صلى عكس اتجاه القبلة. كذلك لم يختلف العلماء في أن الإنسان العامي الجاهل لا يجوز له أن يفتي نفسه ولا يفتي غيره، فلابد أن يسأل ويتبع ما قيل له في ذلك. وكثير من الناس تجد أنه تنزل به النازلة فإذا به يفتي لنفسه في الحال، ويقول لك: أنا اجتهدت وعملت، فنقول: في أي شيء اجتهدت وأنت لم تطلع لا على الكتاب وتفسيره، ولا على السنة وشروحها، ولم تعرف الفقه ولم تقرأ فيه؟! وما أكثر من يجتهد كذباً من الناس! بعض الجهلة من الناس يدخل مسجداً من المساجد وإذا به يقول: الإمام يخطئ، فيقوم يصلي ركعة خامسة مثلاً أو ينسى فيصلي ثلاث ركعات ويسلم، والحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به هؤلاء، فتجد بعض الناس إذا نسي الإمام ركعة من الركعات يقول: أعيدوا الصلاة، والأمر لا يحتاج إلى إعادة صلاة، ولكن نسي فصلى ثلاث ركعات، إذاً بقيت ركعة فيصليها ويسجد للسهو، والأمر لا يحتاج إلى كثير كلام، فقد سها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى ركعتين في صلاة رباعية وسلم منها صلى الله عليه وسلم، فقال له رجل كان يلقب بـ ذي اليدين: (يا رسول الله! أنسيت أم قصرت الصلاة؟ فقال له: لم أنس ولم تقصر، ثم نظر إلى الصحابة وقال: أكذلك؟ قالوا: نعم) مع أن من الصحابة من خرج من المسجد، ولكن بقي الأكثرون، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وصلى الركعتين الباقيتين، ثم سجد سجود السهو وانتهى الأمر. ونسي صلوات الله وسلامه عليه التشهد الأوسط فقام صلى الله عليه وسلم وأكمل صلاته، ثم سجد للسهو ولم يحدث شيء. وقام إلى الخامسة في صلاته صلى الله عليه وسلم فصلى بهم الرباعية خمس ركعات، وسجد السهو ولم يحدث شيء. فالحقيقة إذا سألت أهل العلم أجابوك فكان الأمر سهلاً، أما إذا استفتى الجهال بعضهم بعضاً فما أسهل ما يصعب على أنفسهم أمر دين الله سبحانه تبارك وتعالى، لكن قد يعيد الصلاة مرة ومرتين وثلاثاً لجهله في ذلك. وقد يأتي إنسان عنده سلس بول ويستفي جاهلاً، فيقول له: أعد الصلاة إذا أحسست بقطرة الماء قد خرجت منك وسط الصلاة، فيخرج من الصلاة ليتوضأ مرة ثانية، ثم يرجع يصلي فإذا به تنزل منه قطرة ماء مرة أخرى، فيخرج ليعيد الصلاة، وهذا بسبب جهله وبجهل من استفتاه، مع أن الدين ليس فيه ذلك، فإذا توضأت للصلاة فصل، حتى ولو نزلت هذه القطرة وأنت في الصلاة، فصلاتك صحيحة، بل ويجوز لك أن تصلي بعدها النافلة وأنت على حالك هذه طالما أنك مريض بسلس البول. فلا يفتي في هذه المسائل إلا أهل الذكر والعلم، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [يوسف:109]. فأرسل الله سبحانه تبارك وتعالى رسلاً بوحي من السماء ليعلموا الناس، حتى يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم الخلق ما علمه الله سبحانه، فقال في سورة النحل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} [النحل:43 - 44]، فإن كنت لا تعرف الكتب المنزلة ولا الحجج التي جاءت من عند الله، فاسأل أهل الذكر ولا تستكبر عن السؤال. وهنا قال لنا سبحانه تبارك وتعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] فلا تستكبر ولا تأنف من السؤال إن كنت جاهلاً، أو اقرأ وارجع إلى كتب أهل العلم وستعرف الحكم الشرعي.

تفسير قوله تعالى: (وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام)

تفسير قوله تعالى: (وما جعلناهم جسداً لا يأكلون الطعام) قال الله عز وجل: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} [الأنبياء:8]. ما جعلنا هؤلاء الرسل عليهم صلوات الله وسلامه جسداً لا يحتاجون إلى الطعام، بل هم يأكلون ويشربون، ولم يكن هؤلاء الرسل خالدين، بل جعلهم أجساداً وجعل فيها أرواحاً، وجعلهم يحتاجون إلى الطعام والشراب وإلى إخراج ذلك في بول وغائط ونحو ذلك، فيعتريهم ما يعتري المخلوق من أعراض الدنيا، من برد وحر، ومرض وتعب ونصب، فمثلهم كمثل غيرهم من الخلق، فالله عز وجل يخبر عن هؤلاء الرسل أنهم بشر من البشر.

تفسير قوله تعالى: (ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء)

تفسير قوله تعالى: (ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء) قال تعالى: {ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ} [الأنبياء:9]. وعدناهم بالنصر فنصرناهم كما وعدناهم، وإن كانوا قبل أن ينصروا قد ابتلوا ابتلاءً شديداً، وأوذوا في الله عز وجل أذىً شديداً، ثم صدقهم الله عز وجل بعد ذلك. وقد أخبر الله تعالى في سورة يوسف فقال: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110]، أي: أن الرسل يئسوا من إيمان قومهم، دعوا قومهم ولا أحد يجيب، وقد يلبث فيهم النبي فترة طويلة يدعوهم إلى الله فلا يستجيبون، كما فعل سيدنا نوح، فلبث فيهم تسعمائة وخمسين سنة، قال تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت:14] وقال الله عز وجل: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40] أي: عدد قليل من قومه، فيأتي الأنبياء يوم القيامة، النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الجماعة، والنبي ومع الرجل الواحد، والنبي وليس معه أحد عليهم الصلاة والسلام، فهذه هي دعوة الأنبياء لأقوامهم، فهم بشر يدعون بشراً قد يؤمنون وقد لا يؤمنون، ولكن يأتي النبي بما يدل على نبوته، فيأتي بالمعجزة من عند رب العالمين سبحانه، فالله عز وجل قال: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51]. ففي الدنيا ويوم القيامة ينصرهم الله عز وجل، ولكن قد يتأخر هذا النصر لحكمة من الله عز وجل، والنبي صلى الله عليه وسلم وعد بأنه ينتصر على المشركين، وقد مكث في مكة ثلاثة عشر عاماً يدعوهم إلى الله تعالى، وقد خرج عليهم مرة فآذوه وصبر، ثم خرج مرة أخرى فآذوه إيذاءً شديداً فصبر، ثم خرج في المرة الثالثة فوقف على الكفار منهم أبو جهل وغيره فقال: (ألا تسمعون؟ ألا تسمعون؟ والله لقد جئتكم بالذبح). قال هذا وكان مستضعفاً ومعه القليل من المؤمنين، والأكثرون هم الكفار، ومع ذلك يقف لهم بكل شجاعة ويقول: (والله لقد جئتكم بالذبح) يعني: جئتكم بالسيف من أجل أن أقطع رقابكم، وفعلاً كان هؤلاء ممن قتلوا في يوم بدر، فلما هاجر صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إلى المدينة جاء نصر الله في يوم بدر، لما قتل هؤلاء المشركون وألقوا في قليب بدر، وقف النبي صلى الله عليه وسلم على القليب ينادي على أهل القليب: (يا عتبة بن ربيعة! ويا شيبة بن ربيعة! ويا وليد بن عتبة!) وينادي على أبي جهل وغيرهم: (هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟) كانوا قد استأخروا النصر الذي يدعيه محمد، وتطاولوا على النبي صلى الله عليه وسلم. ويقول لنا ربنا: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ} [يوسف:110] وهذه لها معان منها: حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم، أو حتى إذا استيأس أتباع الرسل من أمر النصر ومن أمر هؤلاء الكفار أنهم لا يؤمنون، أو استيأس الكفار من كلام الرسل من أنكم تقولون لنا كلاماً وتعدوننا ثم لا يحصل. {جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف:110] ينجي الله سبحانه تبارك وتعالى من يشاء من عباده، وهنا قراءتان: {فَنُجِّيَ} [يوسف:110]، و (فََنُنْجي مَنْ نَشَاءُ) بنون العظمة. الله عز وجل ينجي من يشاء من عباده، ولا مانع من أن يقتل كثير من المؤمنين، فالله عز وجل ما قال ننجي المؤمنين جميعاً، ولكن قال: {فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف:110] فمنهم من نجا ومنهم من أخذه الموت أو استشهد في سبيل الله عز وجل. {وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110] الغرض أن الله سبحانه تبارك وتعالى وعد الرسل، ولا بد أن يتحقق وعد الله سبحانه الذي وعد به المرسلين. قال تعالى: {ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ} [الأنبياء:9] فأنجى الرسل وأنجى من يشاء سبحانه تبارك وتعالى، وأهلك من يشاء، فمن هؤلاء الذين ماتوا الكفار، ومنهم المؤمنون الذين ماتوا، فالمؤمنون شهداء، والكفار في نار جهنم خالدين فيها. قال سبحانه: {وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ} [الأنبياء:9]. يعني الذين أسرفوا على أنفسهم، وضيعوا دنياهم وأخراهم.

تفسير قوله تعالى: (لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم)

تفسير قوله تعالى: (لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم) ثم قال: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء:10] فنكر الكتاب لتعظيمه أي: أنزلنا إليكم كتاباً عظيماً فيه ذكركم، أي: فيه شرفكم، فتتشرفون بهذا الكتاب الذي هو بلسان عربي مبين. فقال: {فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء:10] وهنا الذكر بمعنى الشرف، أي: أنزلنا عليكم كتاباً باللغة العربية ليكون شرفاً لكم على غيركم من الأمم. فمن المفترض أنه إن جاءنا كتاب يشرفنا بلغتنا أن نفرح بهذا الكتاب، ونفرح بهذه المنزلة التي أنزلنا الله عز وجل إياها، ولكنهم غاروا على النبي صلى الله عليه وسلم وحسدوه. قال: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:10] أين عقولكم؟ هل تتركون هذا القرآن حتى يأخذ به الأعاجم؟! وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كان هذا العلم في الثريا لناله رجال من هؤلاء)، يعني: أمثال سلمان الفارسي وغيره رضوان الله تبارك وتعالى عليهم. وصدق النبي صلى الله عليه وسلم، فقد نال العجم أشياء كثيرة ما نالها العرب، حتى إنه يأتي الخليفة في زمن من الأزمنة ويسأل: من العالم في أرض مصر؟ فيقولون: فلان، فيقول: عربي أم أعجمي؟ قالوا: أعجمي، من العالم في أرض الشام؟ يقولون: فلان، فيقول: عربي أم أعجمي؟ قالوا: أعجمي، من العالم في المدينة ومكة في كذا في كذا حتى قالوا له: عالم عربي، فقال: لقد كادت روحي أن تزهق حتى ذكرتم عالماً واحداً. المقصود: أن القرآن ذكر للعرب وشرف لهم وتذكرة لهم، فالمفترض أن يعقلوا ما فيه فيعملون به، فيدفعهم إلى التقدم والرقي، ويدفعهم إلى أن يسودوا غيرهم من الأمم، ولكنهم تركوه وراءهم ظهرياً فعاقبهم الله سبحانه بما هم فيه. قال تعالى: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء:10] أي: فيه شرفكم، فهذا هو المعنى الأوجز في هذه الآية ورجحه الكثير من المفسرين كـ الطبري وغيره. وقيل: {فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء:10] أي: فيه ذكر أمر دينكم، يعني: الأحكام الشرعية ونحوها. أو {فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء:10] فيه ذكر ما تصيرون إليه يوم القيامة من جنة أو نار. {أو فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء:10] بمعنى: فيه حديثكم الذي تنسجونه فيما بينكم وتسرونه، فيذكره الله عز وجل لنبيه ويدافع عن دينه وعن نبيه صلى الله عليه وسلم، ويفضح هؤلاء المتكلمين. وقيل: {فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء:10] بمعنى: فيه مكارم الأخلاق، ولا شك أن هذا كله في هذا القرآن العظيم. ولكن أوجه المعاني {فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء:10] أي: فيه الشرف لكم بما يحمل من مكارم الأخلاق، وبما يحمل من إعجاز وتعجيز لخلق الله عز وجل. وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (القرآن حجة لك أو عليك) هذا القرآن العظيم الذي هو شرف لك إما أن تأخذه فيكون حجة لك، وإما أن تتركه وراءك فيكون حجة عليك. وجاء في صحيح مسلم من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملأ أو تملآن ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فموبقها أو معتقها). فالغرض بيان أن هذا القرآن إما حجة لك وإما حجة عليك، قال تعالى: {كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:10].

تفسير قوله تعالى: (وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة)

تفسير قوله تعالى: (وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة) ثم ذكر الأمم السابقة فقال: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً} [الأنبياء:11]. (كم) فيه إشارة إلى أن الأمم الذين قصمناهم كثير، فإذا قصم الشيء فلا رجوع، ولا ينفع التصليح فيه، فقد قصمهم الله سبحانه تبارك وتعالى وأبادهم وأهلكهم، قال تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:40]، ومنهم من سلط الله عز وجل عليه عباده المؤمنين، أو الكفار يسلطون على المسلمين العصاة. ولما تسبب اليهود في قتل يحيى بن زكريا على نبينا وعليه الصلاة والسلام سلط الله على أرضهم بختنصر، الكافر فأبادهم، وهذا من تسليط الله عز وجل على العصاة، فيسلط عليهم المؤمنين، وقد يسلط عليهم الكفار فيقتلونهم ويبيدونهم. إذاً: الإنسان المستقيم على التوحيد والذي يعرف حدود الله ويطيع ربه، فإن الله يكون معه وينصره، والإنسان الذي عرف الدين وتركه وراءه ظهرياً استحق أن يقصمه الله سواء بآية من الآيات من السماء أو على يد مؤمن أو على يد كافر، قال تعالى: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الأنبياء:11] يعني: كثيرين، فهناك قرى ظالمة أشركوا بالله عز وجل فأهلكهم الله، وبعدما أبادهم أنشأ قوماً آخرين.

تفسير قوله تعالى: (فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون حتى جعلناهم حصيدا خامدين)

تفسير قوله تعالى: (فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون حتى جعلناهم حصيداً خامدين) ثم رجع لمثل هؤلاء الذين قصمهم، قال: {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ} [الأنبياء:12]. أي: القوم المشركون لما جاء عذاب الله بواحدة من هذه الصور التي ذكرناها فـ {إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ} [الأنبياء:12] فإذا بالملائكة تنادي عليهم: {لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا} [الأنبياء:13] أي: ارجعوا مرة أخرى، على وجه السخرية، وإلا فأين سيسير؟ لن يفلت من الله سبحانه فتسخر منه الملائكة قائلة: {وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} [الأنبياء:13]. كنتم أنتم مالكين كل الديار ثم ركضتم تاركين البساتين والحقول والأنهار والأموال، فارجعوا لعلنا نسألكم عن هذا المال فتعطون زكاة أموالكم. فكانت السخرية منهم في وقت نزول العذاب عليهم، قيل لهم: {لا تَرْكُضُوا} [الأنبياء:13] لا تسرعوا، وارجعوا إلى ما أترفتم فيه، وأصل الركض الضرب بالرجل أو الضرب على الشيء، ومنه ركض فرسه، بمعنى: أنه ضرب برجليه على جانبي الفرس من أجل أن يجري الفرس، ويقول لنا هنا: {لا تَرْكُضُوا} [الأنبياء:13] فالمكان الذي كنتم أعزة فيه، والمكان الذي فيه أموالكم وأخذتم فيه من زخارف الدنيا وزينتها، ارجعوا {لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} [الأنبياء:13] أي: عما نزل بكم من العقوبة، واسألوا الأمم من قبلكم كيف أهلكهم الله سبحانه تبارك وتعالى. وقيل: {لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} [الأنبياء:13] أي: أن تؤمنوا مرة ثانية، فيطلب منكم الإيمان، وإذا نزل العذاب لا ينفع الإيمان، فكأن كلام الملائكة سخرية من هؤلاء، فكما كانوا يسخرون من الرسل سخرت منهم الملائكة في وقت نزول العذاب، وكأنهم سمعوا هذا النداء: {لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا} [الأنبياء:13]، فبحثوا عمن يقول هذا الكلام فلما لم يروا أحداً علموا أنه خطاب من السماء، وعلموا أن الملائكة تناديهم فأيقنوا بالعذاب، {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء:14]. وهذا نداء، كأنه يقول: الويل لي والهلاك، ينادي على نفسه بالهلاك، {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء:14]، اعترفوا في وقت لا ينفعهم فيه الاعتراف، وندموا حين لا ينفع الندم، فانتهى أمر الله سبحانه، وجاء العذاب من عند ربنا فما قدروا على شيء، فقولهم: {يَا وَيْلَنَا} [الأنبياء:14] لا ينفعهم بشيء. قال تعالى: {فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} [الأنبياء:15]. أي: حصدناهم جميعاً كالزروع أو الثمار التي تجنى وتحصد، فخمدت أنفاسهم، وضاعوا بتضييعهم رسل ربهم وبتضييعهم كتب الله سبحانه تبارك وتعالى، ففيها عظة عظيمة لكل إنسان مؤمن، أنه إذا اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبع كتاب الله الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم كان القرآن معه في الدنيا ومعه يوم القيامة، فانتفع هذا الإنسان، وإذا جعل القرآن وراء ظهره دفعه إلى نار جهنم، ففي الدنيا يسلط الله عز وجل عليهم من يشاء من مؤمنين أو كفار فيبيدونهم في الدنيا، ويوم القيامة يعذبهم الله العذاب الأكبر. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الأنبياء [16 - 24]

تفسير سورة الأنبياء [16 - 24] يخبر تعالى أنه خلق السماوات والأرض بالحق والعدل والقسط، ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى، وأنه لم يخلق ذلك عبثاً ولا لعباً، وينكر سبحانه على من اتخذ من دونه آلهة، وأخبر أنه لو كان في الوجود آلهة غيره لفسدت السماوات والأرض، فتقدس سبحانه عن الشريك وعن كل نقص وعيب، وتعالى عما يفترون ويأفكون علواً كبيراً.

تفسير قوله تعالى: (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين)

تفسير قوله تعالى: (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الأنبياء:16]. يخبرنا ربنا سبحانه وتعالى أنه ما خلق السماء والأرض وما بينهما لاعباً، وقد قال الله عز وجل: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران:190] وقال سبحانه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة:164]. أي: خلق الله عز وجل هذا كله وجعله آيات بينات معجزات لمن يعقل ويتفكر، أي: لأصحاب الألباب والقلوب السليمة والعقول المستقيمة. وأولو الألباب يتفكرون ويقولون: سبحانك ما خلقت هذا باطلاً، فيعرف الإنسان أن هذه السماوات العظيمة وما فيها من الأفلاك العظيمة الكثيرة الواسعة، وهذه الأرض وما خلق الله عز وجل فيها، مستحيل أن يخلق هذا بهذه الدقة، وبهذا النظام العظيم لعباً ولهواً وعبثاً، حاشا لله سبحانه وتعالى وهو العليم الحكيم الحليم سبحانه. والسماوات هذه التي لا نرى منها إلا السماء الدنيا، ولا نرى السماء كسماء حقيقة، وإنما نرى النجوم التي فيها؛ لأن السماء بعيدة عنها جداً، فدلنا الله عز وجل بهذه الأشياء القريبة إلينا، أن ننظر فيها ونتفكر فيها. وما علاك وكان فوقك فهو سماؤك، قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48]، أي: أنزله من السحاب الذي فوقنا لا من السماء حقيقة. فالمتفكر في هذه السماوات يجدها سبع سماوات طباقاً، ما بين السماء والسماء خمسمائة عام، وسمك السماء الواحدة خمسمائة عام، والله سبحانه وتعالى جعل لنا السماء الدنيا لنتفكر فيها، وجعل النجوم مصابيح وحفظاً، ولنتدبر في خلق النجوم، وفي خلق الشمس، وفي خلق القمر، وفي خلق الأرض، من خلق هذه الأشياء؟ إنه الله سبحانه وتعالى الذي أحاط بكل شيء علماً، يعلم ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما، وما فوق ذلك وما تحت ذلك، ولا يخفى عليه شيء سبحانه وتعالى. فهذه الشمس هي أقرب الكواكب من هذه النجوم إلينا، هذه الشمس يصل إلينا ضوءها خلال ثمان دقائق، والمسافة التي بيننا وبينها حوالي مائة وخمسين مليون كيلو متراً، والضوء يقطع مائة وخمسين مليون كيلو متراً في حوالي ثمان دقائق وثلث دقيقة، هذا في الشمس، فيا ترى النجوم التي فوقها كم المسافة بيننا وبين هذه النجوم؟ يقولون: إن ضوء بعض النجوم يصل إلينا في حوالي أربع سنوات، فكم تكون المسافة بيننا وبين النجوم؟ فنحن عندما ننظر إلى النجم يكون النجم قد تحرك من مكانه، ولا نرى الموقع الذي هو فيه الآن، وهذه النجوم كم عددها؟ أيضاً هذه المجرة التي نحن فيها يسمونها مجرة درب التبانة، وهذه الأرض بما فيها هي جزء من هذه المجرة، فكم عدد المجرات، يقولون: ألف مليون مجرة، فهذه المجرة التي نحن فيها هي واحدة من ألف مليون مجرة، فكم في هذه المجرات من كوكب وشمس وقمر ونجم؟ أعداد كثيرة جداً، يذكر العلماء أنها تحوي أكثر من مائة ألف مليون نجم في المجرة الواحدة، فإذا قلنا: كم في الأرض من مخلوقات: من أشجار وأنهار وبحار وجبال وطير وحشرات وإنسان وجان وملائكة؟ أحصى الله عز وجل كل شيء عدداً، وباقي هذه الكواكب والنجوم أحصى كل ما فيها من خلق لا نعلمه ويعلمه هو سبحانه وتعالى. هذا في السماء الدنيا، أما السماوات السبع التي تكلم ربنا عنها فيا ترى كم فيها من المخلوقات؟! فالله خلق هذا كله ويعلم ما فيه ويحصي كل شيء عدداً، فهل خلق ذلك لعباً ولهواً وغفلة؟ قال تعالى حاكياً عن عباده المؤمنين: {رَبنْا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191]. هذا الذي ينبغي أن يقوله الإنسان، لذلك أمرنا بأن نتفكر في المخلوقات، فقد جاء في الحديث الذي رواه الطبراني في الأوسط والبيهقي في الشعب عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تفكروا في آلاء الله ولا تتفكروا في الله). أي: تفكروا في نعم الله عز وجل عليكم، وفيما خلق لكم من أشياء وتفضل وأنعم بها عليكم، تفكروا في هذه الآلاء وفي هذه النعم، ولا تتفكروا في الله، من الذي يتفكر بالله ويحيط بالله عز وجل علماً؟! تفكر في آلاء الله؛ حتى تستدل على قدرة الله العظيمة الباهرة، وتعرف حقارة المخلوق كيف أنه يرى هذه النعم العظيمة، ويرى هذه الآيات الباهرة والقدرة القاهرة، ويرى في هذا الكون العظيم آيات رب العالمين، ومع ذلك يكفر بالله ويشرك بالله، فقال الله عز وجل لنا هنا: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الأنبياء:16].

تفسير قوله تعالى: (لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا)

تفسير قوله تعالى: (لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا) قال الله تعالى: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:17]. (لو) حرف يدل على امتناع وقوع الجواب لامتناع وجود الشرط أفضل، يعني: لا يحصل ولا يكون، ولكن على افتراض أنه يكون. فقال هنا: (لَوْ أَرَدْنَا) ولم يقل: إن أردنا؛ لأن (إن) شرطية تفيد أنه ممكن أن يحدث هذا الشيء، أما (لو) فتفيد أنه مستحيل أن يحصل هذا الشيء، ولكن قال ذلك على افتراض وقوعه، وحاشا له سبحانه وتعالى. فقوله: (لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا) قال أكثر المفسرين إن معنى اللهو هنا الزوجة، وهي لغة من لغات العرب، ففي لغة اليمن تسمي الزوجة لهواً وتوصف بذلك، يقول امرؤ القيس: ألا زعمت بسباسة اليوم أنني كبرت وألا يحسن اللهو أمثالي هذه امرأة اسمها بسباسة، يقول: هل زعمت هذه المراة أني كبرت في السن وأني لا أحسن التزوج؟ فقوله: وأن لا يحسن اللهو، معناه: الزواج، فهنا قالوا: معنى ذلك أن الله عز وجل يقول: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا} [الأنبياء:17]، أي: أن يتخذ زوجة وصاحبة وأن يتخذ ولداً وحاشا له سبحانه. {لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا} [الأنبياء:17] لو أردنا أن نتخذ ولداً لاتخذناه من الملائكة على طريق التبني، فأنت أيها الإنسان الحقير الضعيف، يا من خلقت من نطفة مذرة، ومن تراب ومن طين، تأتي وتنسب لله الولد. فربنا سبحانه وتعالى يذكر أنه مستحيل أن يكون له الولد وأن تكون له صاحبة، إنما الولد يكون للمخلوق الذي يحتاج إلى أن يمتد عمره، فابنه يكمل له ما بدأه، الله خلق الإنسان ليعمر الأرض، وعمارتها تحتاج إلى عمر طويل جداً، والإنسان ليس له هذا الأمر، فإذا أردنا أن تدوم عمارة الأرض فلابد من التناسل، وهنا لضعفه وعجزه واحتياجه احتاج للولد، وقبل ذلك احتاج للصاحبة، فخلق الله عز وجل له الأنثى ليكون منها الولد، فيخلفه الولد عندما يموت وهكذا. إذاً: فهنا للضعف والعجز احتاجوا أن يكون لهم الولد والصاحبة؛ حتى يستمر الجنس البشري في إعمار هذه الأرض، وليعبد الله سبحانه وتعالى. أما الله سبحانه وتعالى فحاشا أن يكون له ولد أو تكون له صاحبه؛ لأنه الباقي أبداً سبحانه وتعالى، ولأن حياته حياة دائمة أزلية دائمة سرمدية لا بداية لها ولا نهاية، وهو القادر على كل شيء، القاهر لكل شيء، فلا حاجة به إلى صاحبة أو إلى ولد، سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً. فإذاً: قوله سبحانه: (لَوْ أَرَدْنَا) وهذا لا يكون، (أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ من لدنا) من عندنا من الملائكة، وليس منكم أنتم يا أهل الشرك ويا أهل الأرض، (إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ). وهنا بدأ بلو، والمعنى: أنه لا يكون ذلك، وقال المفسرون: (إن) هنا بمعنى (ما) التي تأتي للجحود، والمعنى وما كنا فاعلين ذلك أبداً، وهذا لا يكون منه سبحانه وتعالى. وهذا مثل قول الله عز وجل: {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} [فاطر:23]، يعني: ما أنت إلا نذير، وكقوله سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف:81] أي: قل ما كان للرحمن ولد، وأنا أول العابدين لله سبحانه وتعالى، و (إن) احتمل في معناها أن تكون شرطية، يعني: أني أفترض المستحيل؛ لو كان للرحمن ولد فأنا أول من يعبده، وهذا لا يكون لله عز وجل، فأنا أعبد الله وحده وأنفي وجود الولد له سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه)

تفسير قوله تعالى: (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه) قال الله تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:18]. الله عز وجل يقذف الحق، والحق كلمات الله عز وجل، وأوامر الله، وتشريع الله سبحانه، والقرآن العظيم هو الحق من رب العالمين، وهو المواعظ والتشريعات التي جاءت من عند رب العالمين، يقذفها ويلقيها على باطل هؤلاء فتحرق صواعقها ما هم فيه من باطل، وما هم فيه من هزل، وما هم فيه من شرك بالله سبحانه وتعالى. قوله: (فَيَدْمَغُهُ) أي: يهلكه ويمحقه ويذله ويزيله. قوله: (فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ) أي: إذا هو زاهق مهلك مبعد، (وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) أي: للمشركين، فهؤلاء يحذرهم الله عز وجل ويخبرهم بمآلهم إن أصروا على باطلهم، ويقول لهم: (ولكم الويل) أي: العقوبة في نار جهنم، (مما تصفون) أي: مما تدعون لله عز وجل من الصاحبة والولد، وتتخذون أصناماً تقربكم إلى الله بزعمكم الباطل.

تفسير قوله تعالى: (وله من في السموات والأرض يسبحون الليل والنهار لا يفترون)

تفسير قوله تعالى: (وله من في السموات والأرض يسبحون الليل والنهار لا يفترون) قال الله تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} [الأنبياء:19]. وقال تعالى: {َمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا} [ص:27]، أي: خلق السماوات فهو يملكها بما فيها. وقال هنا: (وَلَهُ مَنْ) (من) للعاقل، أي: له كل من يعقل في السماوات وكل من يعقل في الأرضين، وهنا غلب العقلاء وإلا فهو يملك سبحانه من يعقل ومن لا يعقل. وأحياناً يذكر ما في السماوات وأحياناً يذكر من في السماوات والأرض، فقوله: (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ) اللام هنا تفيد الملك، فهو سبحانه يملك من في السماوات والأرض، كما تقول: هذا الكتاب لي وأنا أملكه. فقوله: (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) أي: أن الله سبحانه وتعالى يملك الخلائق كلها ويعلم أفعالهم وما يقولون. ثم قال: (وَمَنْ عِنْدَهُ) هنا تفضيل للملائكة على البشر؛ لأن البشر فيهم من يعصون وفيهم من يطيعون، أما الملائكة الذين عند الله فهم لا يعصون الله سبحانه وتعالى ما أمره. فهذه الآية مما يحتج بها على أن الملائكة أفضل من البشر، وخلق الله عز وجل البشر من طين، وخلق الملائكة من نور، ففضلهم بخلقتهم، وإن كان قد خلق الله من البشر من هو أفضل من الملائكة، وأقرب إلى الله عز وجل من الملائكة، وهو نبينا صلوات الله وسلامه عليه، لقد ارتفع جبريل إلى أقصى سدرة المنتهى وما استطاع أن يجاوز، ونبينا صلى الله عليه وسلم رفعه الله عز وجل وجاوز به ما شاء سبحانه وتعالى. فإذا كان سبحانه قد فضل محمداً صلى الله عليه وسلم على الملائكة فلا مانع من أن يفضل غيره من الأنبياء على الملائكة، ولكن ليس معنى ذلك أن نفضل جنس البشر على الملائكة؛ لأن الملائكة جنس لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، أما البشر ففيهم من يطيع ويعصي، فجنس الملائكة أفضل، ولكن هناك آحاد من البشر فضلهم الله عز وجل على الملائكة. فهؤلاء الملائكة الذين عند رب العالمين سبحانه لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون، فهم يعبدون الله عز وجل ولا ينقطعون إعياءً، ولا يصيبهم الملل والسآمة والتعب والمرض، إنما يعبدون الله عز وجل إلى ما يشاء الله سبحانه، فهم منذ خلقهم الله عز وجل مستمرون على عبادته سبحانه، فمنهم من هم قائمون يذكرون الله، ومنهم من هم راكعون يسبحون الله، ومنهم من هم ساجدون لله، وذلك إلى أن تقوم الساعة، ومع ذلك يقولون: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك، وهم الذين لم يعصوا ربهم سبحانه وتعالى أبداً. قوله: (وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) منه: حسر نظر الإنسان حسوراً أي: كلَّ وانقطع من طول المدى، فهذا هو الاستحسار، وتقول: إن البعير أحسر، بمعنى أعيا وتعب من كثرة المشي، فالملائكة لا يتعبون ولا ينقطعون عن عبادة ربهم سبحانه. قوله: (لا يَسْتَكْبِرُونَ) أي: لا يستنكفون ولا يستكبرون عن عبادة الله ولا يملون. قال تعالى: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:20] أي: يسبحون الله تعالى الليل والنهار، وينزهون الله سبحانه وتعالى، فيقولون: سبحان الله. قوله: (لا يفترون) يعتري الإنسان فتور فهو يريد أن يستريح قليلاً، فتراه يترك ما هو فيه، والإنسان إذا أكثر من الذكر والكلام تعب لسانه، أما الملائكة فلا يتعبون من ذلك، ولذلك قال رجل من التابعين وهو عبد الله بن الحارث: جلست إلى كعب الأحبار وأنا غلام، فقلت له: أرأيت قول الله تعالى للملائكة: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:20] أما يشغلهم عن التسبيح الكلام والرسالة والعمل؟ فقال: من هذا الغلام؟ فقالوا: من بني عبد المطلب، قال: فقبل رأسي ثم قال: يا بني! إنه جعل لهم التسبيح كما جعل لكم النفس، أليس تتكلم وأنت تتنفس وتمشي وأنت تتنفس؟! كذلك أهل الجنة يتفضل الله عز وجل عليهم ويكافئهم بأن يلهمهم التسبيح كما يلهمهم النفس. فإذاً: إذا كان الإنسان يأكل ويشرب ويتنفس ولا يحس أنه يتنفس، فكذلك التسبيح والذكر بالنسبة للملائكة وأهل الجنة، فأهل الجنة يلهمون التسبيح فلا يشغلهم شيء عن هذا.

تفسير قوله تعالى: (أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون)

تفسير قوله تعالى: (أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون) قال الله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ} [الأنبياء:21]. معنى هذه الآية سيكرر مرتين، فهنا يقول لنا: (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ) وبعد هذا يقول: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [الأنبياء:24]، يعني: هل اتخذوا آلهة من الأرض يحيون الموتى؟ قل هاتوا حججكم العقلية أو النقلية التي تثبت ذلك. فكأنه يكرر ويقول أولاً: انظروا بعقولكم، هل ترون غير ما ذكرنا؟ الأمر الثاني: هاتوا أدلة على ما تقولون في ذلك، فقال سبحانه وتعالى: (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ) يعني: هذه الآلهة التي صنعتموها من حجارة ومن رمال ومن تراب ومن عجوة ومن غيرها؛ هل هذه الآلهة تنشر وتخلق وتحيي بعد الإماتة؟ هذا دليل عقلي، فأنت فكر وانظر ماذا تعبد من دون الله؟ وهذا سيدنا إبراهيم لما كسر الأصنام وناظر قومه صلوات الله وسلامه عليه قالوا: {مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} [الأنبياء:59 - 61] أي: يشهدون عليه أنه فعل هذا الشيء، {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:62 - 63] هذا دليل عقلي (اسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ). فهنا رجعوا إلى عقولهم، {فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} [الأنبياء:64]، أي: في ترككم لها مهملة لا حافظ عندها، {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ} [الأنبياء:65]، يعني: أقاموا الحجة على أنفسهم واعترفوا بعجز آلهتهم. فقال لهم إبراهيم: فكما أنها لا تنطق وتكسرت فكيف تعبدونها من دون الله؟ هذه هي الحجة العقلية، فهنا قال لهم الله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ} [الأنبياء:21].

تفسير قوله تعالى: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا)

تفسير قوله تعالى: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) قال الله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء:22]. قوله: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ) أي: لو كان في السماوات والأرض آلهة غير الله سبحانه وتعالى لَفَسَدَتَا، وهذا يسمونه: دليل التمانع، يعني: أنتم تقولون: إن هناك آلهة غير الله، نقول: لو كانت هذه الآلهة موجودة فإنها ستأمر وتنهى، وستخلق، وستحيي، وستميت، كذلك سيكون هناك إله يريد أن يخلق والثاني لا يريد الخلق، إله يريد أن يخلق كوكباً والثاني لا يريده، فهنا سيتعارض الإله الأول مع الإله الثاني، وبالتالي تخترب السماوات وتخترب الأرض، فهل خربت السماوات والأرض؟ A لم تخرب، فعدم وجود هذا الخراب والفساد دليل على عدم وجود أكثر من إله، فهو إله واحد ينظم أمر الكون كله، ويدبر أمر الخلق كلهم وهو الله سبحانه لا شريك له. قال: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا) أي: في السماوات والأرضين، (آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) فلما لم تفسدا دل ذلك على أنه لا إله إلا الله سبحانه وتعالى. (فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) أي: أنه تعالى سبح نفسه لنسبحه سبحانه ولننزهه عن الشرك وعن أن يكون معه إله، أو تكون له صاحبة، وعن أن يكون له الولد. قوله: (فسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ) هذا يدل على عظمة رب العرش، ما السماوات السبع والأرضين السبع، وكل وهذه المسافات الشاسعة ليست في جنب كرسي الله عز وجل إلا كحلقة مرمية في فلاة، وهذا الكرسي الذي خلقه الله عز وجل ما هو بجوار عرش الرحمن الذي استوى عليه سبحانه إلا كحلقة في فلاة، فكيف يكون هذا العرش؟ إنه عرش عظيم، فالله عز وجل رب هذا العرش الذي خلقه لا يحتاج إليه، وهو مستغن عنه وعما دونه، وهو سبحانه منزه عما يصفونه وعما يقولونه.

تفسير قوله تعالى: (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون)

تفسير قوله تعالى: (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) قال الله تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]. قوله: ((لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ)) يعني: لا يسأله أحد من الخلق: لم فعلت هذا الشيء؟ فمن سأل الله عن شيء لم فعلته؟ فقد رد حكم الله، كأنه يرفض أن ربنا يقول له: (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) فيقول: لا، أنا سأسأل، وهذا الذي يسأل ويتعنت ويعترض على قضاء الله وقدره مصيره النار. قال: (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) وهنا تظهر عظمة ربنا سبحانه وتعالى، فقد أمر بالإيمان بالقضاء والقدر، الذي أذل به الرقاب، وأعجز عن معرفته جميع خلقه، لا أحد يعرف شيئاً عن قضاء الله وقدره، حتى يحقق الله عز وجل ما يريده، فالمؤمن يؤمن بالقضاء والقدر. قوله: (وَهُمْ يُسْأَلُونَ) لم تفعلون هذا الشيء؟ أي: إذا فعل الله الشيء فلا أحد يقدر أن يسأل الله سبحانه وتعالى على ما فعل، أما هم فيسألون ويجازون على ما فعلوا من خير أو شر؛ لأن الملك لله وهو الإله الحق سبحانه وتعالى. ذهب رجل إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكأنه من القدرية الذين يتكلمون في القضاء والقدر، فقال له: يا أمير المؤمنين، أيحب ربنا أن يعصى؟ هذا سؤال مغلف، فهو أراد أن يقول: لماذا ربنا ترك عباده يعصونه؟ وكأنه يريد أن يقول: طالما أن ربنا تركهم يعصونه فهو يريد هذا، وهم مثابون حتى في المعصية التي يفعلونها، فالرجل سأل علياً رضي الله عنه وقال: أيحب ربنا أن يعصى؟ فماذا أجاب عليه رضي الله عنه؟ قال له: أفيعصى ربنا قهراً؟ هنا سؤال بسؤال والجواب واضح فيه. وأيضاً: ربنا سبحانه وتعالى خلق الكفر وخلق الإيمان، فهل خلق الكفر لأنه يحبه؟ A لا، الله يكره الكفر ولكن أراده، والإرادة يدخل فيها ما يحبه وما لا يحبه، فخلق المؤمن ويحب المؤمنين، وخلق الكافر ويبغض الكافرين. فالله عز وجل خلق الكفر وخلق الإيمان، وخلق المعصية وخلق الطاعة، وخلق الخير وخلق الشر، الله خالق كل شيء سبحانه وتعالى، وهو في خلقه محمود على ما يخلق سبحانه وتعالى، وفي كل شيء من خلقه آية من آياته سبحانه وتعالى، ووجودها حتمي؛ لأن الله سبحانه وتعالى أرادها. فهذا الرجل سأل علياً رضي الله عنه: أيحب ربنا أن يعصى؟ فقال له علي رضي الله عنه: أفيعصى ربنا قهراً؟ يعني: ربنا لا يعصيه أحد غصباً عنه، ولا يغلبه أحد، لكن ربنا أراد أن توجد هذه المعصية، وأراد أن يوجد الكفر وأن يوجد الإيمان، ولكن القدرية يقولون: نحن نخلق أفعالنا. فقال له الرجل: أرأيت إن منعني الله الهدى، ومنحني الردى، أأحسن إلي أم أساء؟ يعني: يقول له: إذا كان ربنا هو الذي منعني الهدى وجعلني ضالاً، فلماذا يعذبني؟ كذلك إن أعطاني الردى والضلال والكفر وأهلكني أأحسن إلي أم أساء؟ حاشا لله سبحانه وتعالى! فكان جواب علي رضي الله عنه أن قال: إن منعك حقك فقد أساء، وإن منعك فضله فهو له يؤتيه من يشاء سبحانه وتعالى. فالإنسان الذي يجادل ويضيع وقته سيلاقي من يجيبه كما أجاب علي رضي الله تعالى عنه هذا الإنسان وغيره، ولكن على الإنسان المؤمن أن يعرف أن العمر محسوب، وأن القضاء والقدر مكتوب، وأنه مأمور أن يؤمن بذلك ولا يقع في الذنوب، ولا يضيع وقته في الجدل ويقول: لماذا ربنا خلق؟ لماذا ربنا فعل؟ لا يسأل عن ذلك، فهنا الآية الدامغة المانعة من المحادة: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23].

تفسير قوله تعالى: (أم اتخذوا من دون الله آلهة)

تفسير قوله تعالى: (أم اتخذوا من دون الله آلهة) قال الله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:24]. لقد كرر مرة ثانية: هل اتخذوا من دونه آلهة؟ الأول دليل عقلي، فقال لهم: استدلوا بعقولكم، أما الآن فهاتوا دليلاً نقلياً على ما تقولون، أين النصوص التي في أيديكم أن ربنا أمركم أن تعبدوا هذه الآلهة؟ فهم كانوا يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] نقول لهم: من الذي أمركم بهذا الشيء، إذا كنتم تعبدون الله سبحانه فالله نهاكم عن الشرك، وإذا كنتم تزعمون أنه أمركم بالشرك فهاتوا برهانكم وهاتوا الدليل على ما تقولونه؟ قوله: (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) أي: من دون الله سبحانه وتعالى (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ) أي: دليلكم. (هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) يعني: هذه الكتب السابقة هل أمرتكم بهذا الشيء، وهل فيها هذا الشيء الذي ادعيتموه. (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ) أي: أكثرهم معرضون عن الحق، فهم لا يحاولون أن يتعلموا هذا الحق.

الأسئلة

الأسئلة

حكم من قصر في عمل أدى إلى وفاة شخص

حكم من قصر في عمل أدى إلى وفاة شخص Q كنت أعمل في شركة تقوم بمد مواسير تحت الأرض، وأنا مسئول عن حفر خندق في الأرض؛ لأني مهندس أعرف الطول والعرض، ففي مرة من المرات أثناء حفر خندق لم أنتبه إلى الأطوال اللازمة، فدخل أحد العمال في الخندق فسقط عليه فمات، فماذا يجب علي؟ A لا فرق بين كونه لم يأخذ الأطوال اللازمة، سواء كان إهمالاً أو تكاسلاً أو ظناً منه أن الأرض صلبة، فعليك الكفارة، وهي صيام شهرين متتابعين، والدية على عاقلتك، إلا إذا قامت الشركة بدفع هذه الدية.

حكم من احتلم وأنزل أثناء الصيام

حكم من احتلم وأنزل أثناء الصيام Q نمت بعد صلاة الفجر وأنا صائم فرأيت منياً بعد استيقاظي من النوم، فما الحكم؟ A عليك أن تغتسل فقط، وليس عليك قضاء هذا اليوم.

حكم من فقد ماله في بيت غيره

حكم من فقد ماله في بيت غيره Q ذهبت إلى منزل خالي وكان معي في حقيبتي مال خاص بي بالدولار والريال، وعندما نزلت من منزل خالي ذهبت إلى مكة للصرافة لتحويلها إلى عملة مصرية، فلم أجد المبلغ وأصابتني صدمة شديدة استمرت ثلاثة أيام، وبعد ثلاث سنوات قال لي خالي: إن الولد كان عمره اثنتي عشرة سنة وهو غير مكلف، وهو الذي سرق المال، فما عليه؟ A طالما أنك نسيت المال في بيت خالك ومشيت صار لقطة في هذا البيت، والذي يجدها يصير هذا المال أمانة عنده، ويلزمه أن يردها إلى صاحبها، فإذا كان خالك قد لقي المال أو امرأة خالك أو أحد كبير صار هذا المال لقطة، وهذا الذي لقيه مسئول عن هذه الأمانة ويلزمه أن يردها إليك. لكن هذا الطفل الصغير هو الذي أخذ المال، وظل ثلاث سنين لا أحد يعرف، فهذا أمر لا يتخيل، كيف يأخذ طفل صغير خمسة عشر ألف ريال وثمانمائة دولار ولا أحد في البيت يعرف؟ وبعد ثلاث سنين أرسل يقول: أنا عرفت الآن أن الولد أخذ المال، إذاً: عليه أن يبحث أين ذهب بهذا المال، وهذا المال دين في عنق هذا الغلام، الذي كان عمره اثنتي عشرة سنة، فإذا كان الأب أو الأم مفرطين في ذلك، وقد وجدا هذا المال في يده وسكتا عنه، فهما مسئولان عن غرامة هذا المال.

حكم الائتمام بالمسبوق

حكم الائتمام بالمسبوق Q ذهب شخص إلى المسجد فوجد الجماعة قد انتهت، فهل له أن يأتم بمسبوق؟ A نعم يجوز أن يأتم بمسبوق، والجمهور على جواز الجماعة الثانية، والجماعة الأولى هي الأصل، فالإنسان المسلم يحرص على الأولى؛ لأن الأجر والثواب العظيم في الجماعة الأولى، والجماعة الثانية هي جماعة ولكن ليست في الفضل كالجماعة الأولى، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، وآمر رجلاً أن يؤم الناس، ثم أخالف إلى أقوام يتخلفون عن صلاة الجماعة فأحرق عليهم بيوتهم)، فهنا لو كان الأمر أنهم لم يتخلفوا عن صلاة الجماعة، لكان من السهل أن يقولوا: نحن نصلي جماعة ثانية في بيوتنا، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعذرهم وما سألهم حتى يعذرهم بل قال: (فأحرق عليهم بيوتهم). فإذاً: الجماعة الأولى هي الأصل أن تصليها وتحافظ عليها. وإذا حصل لك عذر وأتيت المسجد وقد انتهوا من الصلاة، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنك إذا جئت إلى المسجد فأدركته فلك الأجر، فإذا جئت فوجدتهم قد صلوا بعضاً وبقي بعضاً فصليت معهم فلك مثله، فإن أتيت وقد انتهوا فصليت وحدك فلك أجر الجماعة بنيتك، طالما أنك حريص على الجماعة الأولى. لكن لا تظل تتخلف عن الجماعة الأولى بزعم إنك ستصلي جماعة ثانية، وتضيعها وتقول: هي هي، فليست هي هي، والأصل هي الجماعة الأولى، ولذلك ذكر بعض الأئمة مثل الإمام الشافعي رحمه الله وغيره أنه إذا كان المسجد له إمام راتب ومؤذن فلا تجوز فيه الجماعة الثانية، ومن تأخر عنه فليصل وحده منفرداً. إذاً: نحرص على الجماعة الأولى حتى نصليها، فإذا كان لعذر وجئنا للمسجد ووجدنا جماعة ثانية جاز لنا أن نصلي معها، وإذا لم نجد جاز لنا أن نصلي فرادى، ولك الأجر بالنية على ذلك. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الأنبياء [25 - 32]

تفسير سورة الأنبياء [25 - 32] على المسلم أن يقرأ القرآن ويتدبر معاني الآيات التي يقرؤها وما فيها من البيان والحكمة والموعظة، فإن هذا القرآن العظيم فيه من الأسرار والمعجزات ما لا يحصر، بل هي في تجدد وظهور إلى أن تقوم الساعة، فكلما تقدم الزمان زاد اكتشاف ما في هذا القرآن من المعجزات.

تفسير قوله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه)

تفسير قوله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه)

الهدف الأسمى من إرسال الرسل هو الدعوة إلى التوحيد

الهدف الأسمى من إرسال الرسل هو الدعوة إلى التوحيد الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الأنبياء: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ * وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ * أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ * وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ * وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:25 - 32]. يخبرنا ربنا سبحانه وتعالى في هذه الآيات أنه لم يرسل من قبل النبي صلى الله عليه وسلم رسولاً إلا بأهم شيء خلق الله عز وجل الخلق من أجله، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]. فقوله: {أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، هذه هي دعوة المرسلين لقومهم؛ يدعونهم إلى توحيد الألوهية، فقد كانوا يعرفون توحيد الربوبية، أي أن الله هو الرب سبحانه، الذي يخلق، والذي يرزق، والذي ينفع، والذي يضر، والذي يعز، والذي يذل، الذي بيده أقدار الخلق، كانوا يعرفون أنه الله ولكنهم كانوا لا يفردون الله بالعبادة، بل كانوا في الغالب يعبدون غير الله من الأصنام أو الملائكة أو الجن أو البشر، وقد ينصب بعضهم نفسه إلهاً على الناس ليعبدوه من دون الله. فربنا سبحانه ما أرسل من رسول إلا بهذه الدعوة، وهي أن يدعو الخلق إلى لا إله إلا الله، يدعوهم ليكونوا مسلمين لله رب العالمين سبحانه وتعالى، فمن عهد آدم عليه السلام والأنبياء يدعون إلى دين الإسلام، أي: الاستسلام لله سبحانه وتعالى بأن يسلم العبد نفسه لربه يتصرف فيه كما يشاء، يأمره بما يشاء، يشرع له ما يشاء، فهو الذي بيده مقاليد خلقه جميعهم. فقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ} [الأنبياء:25]، إلا بهذه الدعوة، {إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ} [الأنبياء:25]، وقراءة الجمهور: (إلا يوحى إليه)، وحفص قرأها: {إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ} [الأنبياء:25]، أي: الله سبحانه وتعالى يوحي إليه. والوحي من الله عز وجل، وهو العلم الذي ينزله على نبي من أنبيائه سبحانه وتعالى وصلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وذلك بأن يرسل رسولاً من السماء، أو يلقي في روع النبي الأمر، وهذا الأمر أو الوحي هو: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، أي: فاعبدني وأمر قومك أن يعبدوني.

معنى لا إله إلا الله

معنى لا إله إلا الله {أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]. كلمة (لا إله إلا الله) معناها: لا معبود بحق إلا الله سبحانه وتعالى، فلا يصح أن تقول: لا معبود إلا الله؛ لأن هناك معبودات كثيرة تعبد من دون الله، ولا يصلح أن تقول: لا رب إلا الله؛ لأنه لم يرسل الرسل من أجل أن يقولوا لا رب إلا الله؛ لأن أغلب الخلق يعرفون أنه لا رب إلا الله، إنما أرسلوا من أجل أن يدعوا إلى لا إله إلا الله. ومقتضى الربوبية هي أفعاله هو سبحانه وتعالى، والتي لا يشاركه غيره فيها، أي: أنه هو الرب، الخالق، الرازق، المحيي، المميت سبحانه وتعالى، ومقتضى الألوهية أفعال من خلقه تتوجه إليه سبحانه وتعالى، فلذلك أرسل إليهم الرسل حتى يعبدوه وحده سبحانه وتعالى ويتركوا عبادة غيره، فكل الشرائع جاءت بذلك، وإن اختلفت شرائع المرسلين في الأحكام من الحلال والحرام، وفي كيفية بعض العبادات، أما في التوحيد فلا يوجد اختلاف أبداً، فإنه سبحانه وتعالى ما أنزل كتاباً ولا أرسل رسولاً إلا ليدعو إلى توحيده سبحانه بأن يعبدوه وحده ولا يشركوا به شيئاً. إذاً: كلمة (لا إله إلا الله) معناها: لا معبود يعبد حقاً إلا الله وحده لا شريك له، قال سبحانه: {إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، أي: فأمرهم سبحانه أن يعبدوه، وهذه أيضاً فيها قراءتان عند الوقف عليها، فالجمهور يقفون بالنون، أما يعقوب فوقف عليها بالياء {فَاعْبُدُونِي} [الأنبياء:25].

تفسير قوله تعالى: (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا)

تفسير قوله تعالى: (وقالوا اتخذ الرحمن ولداً) قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} [الأنبياء:26]، الذين قالوا ذلك هم المشركون. وقيل: نزلت في خزاعة حيث قالوا: الملائكة بنات الله، فادعوا أن الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناث، وكذبوا في ذلك، وادعوا أن الملائكة بنات الله سبحانه وتعالى. وهؤلاء ما أعجب جهلهم! لأن الواحد منهم يأنف أن تكون له بنت، كما قال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [النحل:58]، ويأخذ الأنثى ليئدها ويدسها في التراب، ثم ينسبها لأعظم الخالقين سبحانه وتعالى {تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14]، يقول: إن الله خلق الملائكة واتخذها إناثاً، وإن الملائكة بنات الله من صاحبة الله حاش لله سبحانه وتعالى. فزعم هؤلاء الكفار أن الملائكة بنات الله، لذلك كانوا يعبدونهم طمعاً في شفاعتهم لهم، ثم جاء اليهود وطوائف من الناس فقالوا: إن الله عز وجل خاتن إلى الجن، والملائكة من الجن، ومعنى خاتن أي: اتخذهم أصهاراً وله زوجة من هؤلاء وله أولاد! وحاشا لله سبحانه وتعالى أن يكون له ذلك. قال سبحانه: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ} [الأنبياء:26]، سبح نفسه سبحانه وتعالى، و (سبحان) مصدر من الفعل: أسبح، تقول: أسبحه تسبيحاً، وأصلها: أبرئ الله سبحانه من كل سوء ومن كل نقص ومن كل عيب، وهذا معنى التمجيد، أي: أنه لا يمس بسوء سبحانه وتعالى، ولا يعتريه سوء أو نقص حاش له سبحانه. ومن معاني كلمة (سبحان): الخفة والإسراع إلى الشيء، وأصلها من سبح، ومنها السباحة، يقال: فلان يسبح، أي: يعوم في البحر بخفة، فقولك: سبحان الله، معناه: أسارع خفيفاً إلى طاعة الله سبحانه وتعالى، يعني: لا أتثاقل عن طاعته وعن عبادته سبحانه وتعالى. و (سبحان) أيضاً كلمة تعجب من القول عندما يكون شنيعاً وعظيماً فيقول: سبحان الله! على وجه التعجب من هذا القول. وقد تأتي بمعنى السبح أي: النفس، فيقول الإنسان: أنت أعلم بما في سبحانك، يعني: أنت أعلم بما في نفسك. إذاً: فسبحان الله معناها: أنزه الله سبحانه وتعالى وأقدسه وأسارع في طاعته سبحانه. {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء:26]. أي: هؤلاء ليسوا أولاده، بل هم عباده سبحانه، إذاً: الملائكة عباد الله وهم ليسوا من الجن؛ لأن الملائكة خلقهم الله عز وجل من نور، والجان خلقهم الله عز وجل من مارج من نار، فهناك فرق بين خلق الجن وخلق الملائكة، وإن كان إبليس قد عبد الله عز وجل في الماضي، أي أنه وصل في العبادة إلى درجة عظيمة حتى صار يعبد الله مع الملائكة، لكن أصله من النار، وعلم الله منذ خلقه ماذا سيحدث له وكيف يكون مصيره. قال الله سبحانه وتعالى: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء:26 - 27]، قال عنهم: عباد، ولم يقل: عبيد، مع أن كلاً منهما مأخوذ من العبودية، ولكن العباد يكون الغالب فيهم الطاعة، أما العبيد فكأن فيها شيئاً من التحقير، فلو قال: عبيد، فهم عبيد له سبحانه وتعالى يملكهم، ولكنه شرفهم وكرمهم، فقال عنهم: {عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء:26]. قال تعالى: {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ} [الأنبياء:27]. أي: لا يجرؤ ملك من ملائكة الله أن يتكلم قبل أن يأذن الله عز وجل له، أو أن ينزل من السماء إلى الأرض قبل أن يأذن الله عز وجل له. {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء:27]. إذاً: لا ينطقون إلا بما أذن الله عز وجل لهم، ولا يسبقونه بالقول أبداً، ويعملون مطيعين لأوامر الله عز وجل.

تفسير قوله تعالى: (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم)

تفسير قوله تعالى: (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) قال تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]. وفي سورة مريم قال: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64]، وذلك عندما قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل: (لم لا تزورنا أكثر مما تزورنا)، فأنزل الله سبحانه وتعالى في سورة مريم: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64]. أي: إذا أخر الله عنك جبريل فليس هذا بنسيان، ولكن الله عز وجل لحكمة يؤخره، ولحكمة وتشريع يرسله. ويقول: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} [مريم:64] فالملائكة يقولون: الله يملكنا وما أمامنا وما خلفنا، وكل ما حولنا يملكه الله سبحانه وتعالى، وهنا أخبر عن العلم، أن الله يعلم ما بين أيديهم، أي ما هو أمامهم، وما خلفهم، يعلم كل شيء في نفوس الملائكة، في أقوالهم وفي أفعالهم، ولا يجرءون على الشفاعة إلا لمن رضي الله عز وجل له ذلك، {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]، فتشفع الملائكة يوم القيامة؛ لأن الله عز وجل يشفع من يشاء من خلقه، فيشفع عباد الله المؤمنين وكذلك الملائكة وغيرهم. فيشفعون بإذن الله عز وجل {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]، أي: لهم أن يشفعوا لمن ارتضى أن يشفعوا له، وليس لهم أن يشفعوا لكل أحد. ثم قال تعالى: {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:28]، الملائكة المطيعون يخشون الله سبحانه وتعالى، وهم من خشيته في غاية الشفقة والخوف، مع أنهم مطيعون لله فلا يعصون الله سبحانه وتعالى أبداً، {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:28]. إذاً: أحرى بالإنسان الذي هو كثير العصيان لله عز وجل أن يكون فيه هذه الخشية، فالملائكة لا يعصون الله سبحانه وتعالى ويفعلون ما يؤمرون، وهم مع ذلك في غاية الخوف من الله سبحانه وتعالى، فلم لا يخاف الإنسان من ربه سبحانه وتعالى؟

تفسير قوله تعالى: (ومن يقل منهم إني إله من دونه)

تفسير قوله تعالى: (ومن يقل منهم إني إله من دونه) قال تعالى: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ} [الأنبياء:29]، وحاش لهم أن يقولوا ذلك، ولكن الغرض أن هؤلاء زعموا أن الملائكة بنات لله، {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} [مريم:88]، فربنا يقول: لو قال الملائكة ذلك، لكنت سأعذبهم عذاباً عظيماً. {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:29]، يكون جزاؤه أن يدخله ناراً مشتعلة، ناراً حامية، نار جهنم تتجهم لمن يدخل فيها، فهي نار مظلمة فيها الجهومة، وفيها الغلظة والشدة، وفيها النار مستعرة. {فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ} [الأنبياء:29]، أي: كهذا الجزاء الفظيع، {نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:29]، كل ظالم، كل مشرك يشرك بالله عز وجل ندخله نار جهنم.

تفسير قوله تعالى: (أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما)

تفسير قوله تعالى: (أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما)

المعنى الأول لفتق السماوات والأرض

المعنى الأول لفتق السماوات والأرض قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء:30]. هنا آية من آيات الله في الكون العظيم حولنا، ولا شك أن الله سبحانه حين يقول: {أَوَلَمْ يَرَ} [الأنبياء:30]، إذاً هؤلاء يرون، ولذلك فإنه سيعذبهم؛ لأنهم لم ينظروا في هذا الكون حتى يعرفوا قدرة الله الباهرة، وعظمته القاهرة سبحانه وتعالى، كيف دبر أمر هذا الكون. {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنبياء:30]، إذاً: هنا الخطاب للكفار، فهم يرون منذ أن كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك الذين يأتون من بعدهم يرون حتى تقوم الساعة، وكل يرى آيات الله عز وجل، ويعلم أن هذا الحق من عند الله رب العالمين سبحانه وتعالى. {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا} [الأنبياء:30]. قال المفسرون في معناها: الرتق: السد، الشيء المسدود الملصق بعضه على بعض. والفتق: هو انفتاح اللصق. إذاً: هنا كأنه شيء مغلق مسدود ففتق أي: فتح، والصحابة فهموها كذلك، يقول ابن عباس رضي الله عنه وغيره: كانتا شيئاً واحداً ملتزقتين ففصل الله بينهما بالهواء، وما أجمل تفسير ابن عباس رضي الله تبارك وتعالى عنه! وكأنه ينظر إلى أشياء لا يراها غيره. ابن عباس يقول: إن السماوات والأرض كانتا ملتزقتين في بعض وربنا فتقها، ولكن الكفار هل كانوا يرون ذلك؟ هل رأوا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ثم افتتقا عن بعضهما؟ لا شك أنهم في الماضي لم يروا ذلك، ولكن الله يقول: {أَوَلَمْ يَرَ} [الأنبياء:30]، إذاً هناك شيء هم يرونه أمامهم، والله عز وجل يقول: انظروا إلى حكمة الله فيه، لذلك جاء عن ابن عباس وعن عكرمة وابن زيد وغيرهم قالوا: إن السماوات رتقها الله عز وجل بالمطر، كانت لا تمطر فأنزل منها المطر، أي: كأن السماء في جفاف ومن ثم أنزل المطر فحصل هذا الفك. والأرض كانت لا تنبت فنزل المطر عليها فإذا بها تتفتق وتتصدع وتتشقق وجذور النبات يدخل فيها وتطلع الأشجار، فتفتقت الأرض بهذا النبات، وهذا هو ما يراه هؤلاء، فهم يرون أمامهم البذرة توضع في الأرض ثم ينزل المطر فتنمو البذرة وتتصدع الأرض حولها، فيرون أمامهم هذه الآية: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء:30]. وهذا تفسير صحيح أن {كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء:30]، أي: فتق الأرض بذلك، وفتق السماء بنزول المطر منها، وهذه آية من الله سبحانه وتعالى يراها هؤلاء، يرون السحابة صافية ليس فيها شيء، ثم يتجمع فيها الماء إلى أن تظلم، ثم تبدأ تتفتق وينزل منها المطر، إذاً {كَانَتَا رَتْقًا} [الأنبياء:30]، أي: سحابة مغلقة، وبعد هذا انفتحت ونزل منها المطر، هذا الذي يراه الكفار دائماً في الماضي وفي الحاضر.

المعنى الثاني لفتق السماوات والأرض

المعنى الثاني لفتق السماوات والأرض وهنا معنى آخر وهو معنى صحيح، ولكنه أكتشف بعد ذلك، {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا} [الأنبياء:30]. يقول علماء الفلك: إن الكون كله كان شيئاً واحداً مقفولاً -السماوات والأرض والنجوم، كلها كانت شيئاً واحداً- وحصل انفجار عظيم يوماً من الأيام الذي هو بدء الخلق، فالله عز وجل فتق ذلك وتطايرت النجوم فذهب كل نجم إلى مكانه، والكون لا زال يتسع كما أخبر الله عز وجل بذلك. هذا الكلام لم يقله المسلمون وإنما قاله الكفار، والله يقول: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53]، فالكفار رأوا ذلك، والمسلمون سمعوا كلام هؤلاء وأخذوا هذا الشيء، فقالوا: هذا موجود في كتاب ربنا سبحانه وتعالى، وابن عباس لم ير ذلك ولم يبحث في الفلك، وقال ذلك منذ ألف وأربعمائة سنة، يقول ابن عباس: كانت السماوات ملتصقة بالأرض، يعني: النجوم والكواكب والشمس والأرض كانت كلها ملتصقة مع بعضها وربنا سبحانه وتعالى فتق ذلك، وأبعد بعضها عن بعض. إذاً: معنى الآية {أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء:30]، أي: باعدنا بينهما، انفصلت كل مجرة إلى مكانها، فإن الكون فيه مجرات كثيرة جداً تبلغ أكثر من مائة ألف مليون مجرة، والمجرة الواحدة فيها أكثر من مائة ألف مليون كوكب ونجم مثل هذه الشمس التي نراها، فكل هذا كان شيئاً واحداً، فالله عز وجل خلق السماوات والأرض، وفتق بعضها عن بعض، ثم رفع السماء على الأرض، وكان عرشه على الماء، ثم استوى فوق سماواته سبحانه وتعالى. {أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء:30]، فجعل النجوم تدور في أفلاكها، وكذلك الأرض لها فلك معين تدور فيه، والمجموعة الشمسية كلها تدور بطريقة معينة، فالله عز وجل يصنع ما يشاء في خلقه سبحانه وتعالى. هذا خلق الله، الذي قال لهؤلاء الكفار: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53]، انفتق الكون، ومن ثم ربنا سبحانه وتعالى يقول: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ} [الذاريات:47]، أي: بقوة {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات:47]، إذاً: انفتقت الكواكب عن هذه الأرض وسنوسع هذا الكون، وأصحاب الفلك يقولون: إن الكون فعلاً يتسع اتساعاً عظيماً جداً، وإن كل كوكب يدور حول نفسه ويدور حول مركزه، مثل كواكب المجموعة الشمسية، فالشمس تدور وتجري في هذا الفلك كما يشاء الله عز وجل، والأرض وكواكب المجموعة الشمسية تدور كل واحدة حول نفسها ومن ثم تلف حول الشمس في مدار معين. فقد قال ربنا: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40]، أي: في فلك يدورون، كما سيأتي كلام الله عز وجل بعد ذلك.

آية الماء وأهميته في الحياة

آية الماء وأهميته في الحياة ثم قال سبحانه: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30]. فالله سبحانه وتعالى يبين هنا حقيقة علمية من قبل ألف وأربعمائة سنة، والآن علماء الطبيعة وعلماء الطب وغيرهم يقررون هذا ويقولون: إن كل شيء مخلوق من الماء. فالماء هو الأصل في كل شيء، ففي جسم الإنسان قالوا: إن الماء يشكل أكثر من تسعين بالمائة من الجسم، وهكذا بقية الأحياء الحية؛ منها ما يشكل الماء فيه تسعين بالمائة من حجه، ومنها ما يشكل الماء فيه ستين بالمائة وأخرى خمسين بالمائة، وهكذا. فالله عز وجل خلق من الماء كل شيء فيه حياة، ونحن لم نر هذا الخلق، ولكن من العلماء من بحث عن ذلك فتوصلوا إلى هذه الحقيقة، وهي أن أصل الحياة هذا الماء، ولذا قال تعالى بعد ذلك: {أَفَلا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء:30].

تفسير قوله تعالى: (وجعلنا في الأرض رواسي)

تفسير قوله تعالى: (وجعلنا في الأرض رواسي) قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ} [الأنبياء:31]. أي: جعل الجبال العظيمة رواسي تثبت الأرض بسبب ثقلها، وقال عنها في سورة النبأ: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} [النبأ:6 - 7]، أي: جعل الجبال أوتاداً تثبت الأرض، مثل الأوتاد التي تعمل للخيمة من أجل تثبيتها، حيث يجعل أكثره تحت الأرض وقليل منه خارج الأرض لتربط إليه حبال الخيمة، فالله سبحانه وتعالى جعل الجبال ثقيلة راسية وجعلها أوتاداً تثبت سطح الأرض. وكانوا في الماضي يقولون: إن الجبال هي مرتفعات من الأرض، والآن قالوا: إن التعبير كلام خاطئ، فالجبال ليست مرتفعة من الأرض فقط، بل إن الجبال لها جذور تحت الأرض، وهذه الجذور أطول بكثير من الجبل الظاهر لنا فوق سطح الأرض، فأربعة أخماس طول الجبل تحت الأرض، والخمس فقط هو الذي فوق الأرض. فالجبال رواسي من أجل أن تثبت قشرة الأرض، هذه القشرة التي سمكها ما بين ثلاثين إلى مائة وستين كيلو متر، ثم تحتها الحرارة شديدة جداً والمعادن ذائبة، وتوجد في باطن الأرض المياه الجوفية وغيرها، وكأن قشرة الأرض عائمة على سوائل تحتها، فلو تركها الله سبحانه وتعالى هكذا فإنها مع دورانها حول نفسها، من اليمين إلى اليسار، أي: عكس عقارب الساعة، ومع دورانها حول الشمس؛ فإن القشرة الخارجية سوف تميل وتضطرب مثل المركب الذي فوق البحر، ولذلك جعل الله عز وجل الجبال أوتاداً تربط قشرة الأرض فلا تميل الأرض ولا تهتز ولا تضطرب. فالله عز وجل سماها هنا (رواسي) وذكر هناك أنها أوتاد على الأرض. قال: {أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل:15]، يعني: لئلا تميل بكم قشرة الأرض التي أنتم فوقها فلا تستطيعون العيش عليها. ثم قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا} [الأنبياء:31]. بعد أن ذكر الجبال وأنها رواسي، قال: {وَجَعَلْنَا فِيهَا} [الأنبياء:31]، يعني: في هذه الجبال {فِجَاجًا سُبُلًا} [الأنبياء:31]، والفج: هو الطريق الواسع الذي بين جبلين، فإذا كان طريقاً ضيقاً فهو الشعب. فقال هنا: {فِجَاجًا سُبُلًا} [الأنبياء:31]، أي: جعل هذه الطرق بين الجبال مسلوكة وليست مغلقة، فإنه سبحانه وتعالى لو جعل الأرض كلها جبالاً لكان السفر والتنقل صعباً على الإنسان، ولكن الله برحمته سبحانه جعل من خلال هذه الجبال فجاجاً، أي: الطرق الواسعة التي يمكنكم أن تسيروا فيها فتبلغوا أماكنكم. {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [الأنبياء:31]، لو تخيلت أن الأرض كلها جبال، من الأمام والخلف، وعن اليمين واليسار، فإنك لن تستطيع أن تحدد مكانك وأنت تسير، ولكن يجعل الله الجبال ويجعل الشعب الصغير بينها، ويجعل الفجاج، أي: السبل الكبيرة، حتى نستطيع تحديد الأماكن ونهتدي إلى الوصول إلى ما نريد، {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [الأنبياء:31]، يعني: في السير من خلال هذه السبل.

تفسير قوله تعالى: (وجعلنا السماء سقفا محفوظا)

تفسير قوله تعالى: (وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً) قال تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:32]. السماء سقف محفوظ، يعني: من أن يقع ويسقط على الأرض، وهذا صحيح. والسماء هو كل ما علاك وأظلك، من نجوم وأقمار وكواكب وغيرها، والسماء الدنيا عالية لا يمكن الوصول إليها، وقد زينها الله سبحانه وتعالى بمصابيح، وهي النجوم، إذاً فكل ما هو موجود في هذه السماء يعتبر سماء بالنسبة لنا، والله عز وجل يمسك هذا بقدرته سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:41]، وإن هنا بمعنى: ما النافية، {إِنْ أَمْسَكَهُمَا} [فاطر:41]، يعني: ما أمسكهما، أي: لا يقدر على إمساكهما أحد من بعده سبحانه وتعالى. فهنا جعل السماء سقفاً محفوظاً قالوا: محفوظاً من أن يقع ويسقط على الأرض، هذا معنى. وقيل: محفوظاً بالنجوم من الشياطين، يعني: حفظ السماء بالنجوم من الشياطين الذين يسترقون السمع، وهذا المعنى صحيح أيضاً، قال في آية أخرى: {وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [الحجر:17]. وقيل: محفوظاً من الهدم والنقض، ومن أن يبلغه أحد بحيلة، أي: لا أحد يستطيع أن يصل السماء ويسترق السمع فيها. أما قول من قال: إننا وصلنا إلى القمر، فنقول: القمر ضاحية من ضواحي الأرض، فأما السماء فإن بيننا وبين أقرب النجوم إلينا مسافة أربع سنوات ضوئية، والسنة الضوئية هي المسافة التي يقطعها الضوء خلال سنة كاملة، والضوء يقطع حوالي ثلاثمائة ألف كيلو متر في الثانية الواحدة، فإذا أردنا أن نعرف هذه المسافة فنضرب ثلاثمائة ألف كيلو متراً في ستين ثانية نحصل على المسافة خلال دقيقة، ثم نضرب هذه المسافة في ستين دقيقة فنحصل على المسافة خلال ساعة، ثم نضربها في أربعة وعشرين ساعة فنحصل على المسافة خلال يوم، ثم نضرب هذه المسافة في ثلاثمائة وخمسة وستين يوماً فنحصل على المسافة خلال سنة، فسبحان الله العظيم! فالغرض أن الله عز وجل جعل هذه السماء سقفاً محفوظاً، فلا يقدر أحد أن يصل إلى السماء التي فيها أمر الله عز وجل لا بحيلة ولا بغيرها، فلا يصلها إلا من شاء سبحانه وتعالى. وقيل: سقفاً محفوظاً فلا يحتاج إلى عمد يرفع عليها. وقيل: ((مَحْفُوظًا))، أي: مرفوعاً، وقيل: محفوظاً من الشرك ومن المعاصي. كذلك الغلاف الجوي للأرض وهو ما حول الأرض؛ جعله الله سبحانه وتعالى حافظاً لما تحته، فقد حفظ جو الأرض من مصائب كثيرة جداً، منها الإشعاعات التي تأتي من الكواكب التي حول الأرض، ومنها الحجارة الكثيرة التي تنتج من اصطدام المذنبات بالشمس أو بغيرها من الكواكب، حيث يتجه بعضها نحو الأرض فيدخل الغلاف الجوي للأرض ويقوم بإذابتها وحفظ سطح الأرض، وهذه الحجارة كثيرة جداً تقدر بالملايين في اللحظات القليلة. فالله سبحانه وتعالى من فضله وكرمه جعل احتراقها بسبب سرعتها، فهي تجري بسرعة عظيمة تصل إلى حوالي أربعة وسبعين ألف كيلو متر في الساعة الواحدة، وبعضها يشاء الله عز وجل أن تدخل إلى الغلاف الجوي، فإذا دخلت فإن الهواء يقوم بتقليل سرعتها، وربما بعد ذلك يقوم بإحراقها، أو يصل بعضها إلى الأرض ويعمل حفراً كبيرة، وقد بلغ عدد هذه الحفر أكثر من مائة وعشرين حفرة. فالله عز وجل يجعل هذه تخترق الغلاف الجوي؛ ليرينا آية من آياته، وهي أنه لو شاء لجعل هذه الملايين من الحجارة كلها تخترق الغلاف الجوي وتنزل على الأرض، ولجعل الإشعاعات الضارة التي تخرج من الشمس تخترق الغلاف الجوي كذلك وتدخل علينا فتؤذينا، ولكن الله سبحانه جعل حولنا سقفاً محفوظاً يحفظ هذه الأرض وهو الغلاف الجوي حولها. قال سبحانه وتعالى بعد أن ذكر هذه الآيات: {وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:32]، هم عن آيات الليل والنهار، عن آيات خلق الله سبحانه وتعالى لهذا الكون معرضون، أي: معرضون عن الله وعن معرفة الله؛ لذلك فهم لم يعرفوا الله جل وعلا، ولم يقوموا بعبادته سبحانه وتعالى، بل أعرضوا عن عبادته فاحتاجوا أن يرسل إليهم رسلاً يدعونهم أن يعبدوا الله وحده لا شريك له. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الأنبياء [33 - 37]

تفسير سورة الأنبياء [33 - 37] كتب الله الموت على كل مخلوق، فجميع الخلائق مرجعها إلى الله، وذلك في يوم الوعيد، حيث يري الله الكافرين جزاء تكذيبهم، ويدخلهم النار فلا يجدون لهم ناصراً، ويبهتون بدخولها فلا يستطيعون ردها ولا يبعدون عنها.

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون)

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الأنبياء: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ * وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ * وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ * خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ * وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ * بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلا هُمْ يُنظَرُونَ} [الأنبياء:33 - 40]. أخبر الله سبحانه وتعالى عن آياته الكونية العظيمة حتى يتدبر فيها الخلق، فقال أولاً: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء:30]، فتق الله عز وجل السماوات بأن فتق السحاب وأنزل الأمطار، وفتق الأرض فأخرج منها الأشجار، وجعلها آية للخلق، وقد بدت هذه الآية بوضوح في هذا الزمان كما ذكرنا، فقد ذكر العلماء أن السماوات والأرض كانتا شيئاً واحداً ثم فرق الله سبحانه وتعالى بينها وفصل بينها. ثم ذكر الله آية خلق السماوات والأرض والجبال التي جعلها في الأرض لئلا تميد بهم، وجعل السماء سقفاً محفوظاً، وهذه من آيات الله تبارك وتعالى حتى يتفكر الإنسان المخلوق الضعيف، {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ} [النازعات:27] أنت أيها الإنسان الضعيف المخلوق من تراب، هل أنت أقوى أو هذه السماوات وهذه الأرض وهذه الجبال؟ فلم تتطاول على ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من كتاب ربك؟ لِمَ لا تؤمن به؟ ثم قال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} [الأنبياء:33]، لو شاء الله عز وجل لجعل الليل سرمداً إلى يوم القيامة، ولو شاء لجعل النهار سرمداً إلى يوم القيامة، فمن يعكس هذا ويأتيكم بالأمر الآخر؟ لا أحد يقدر على ذلك إلا الله سبحانه تبارك وتعالى، فخلق الله هذه الأرض وجعلها راحة للعباد، يستريحون عليها، وجعلها مهاداً وفراشاً، وجعل لهم وسائل الراحة فيها، فإن عبدوا الله عز وجل استراحت قلوبهم، وأنزل عليهم البركات من السماء والأرض كما قال: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96]. وسبل الراحة يسرها الله عز وجل لخلقه، فالراحة القلبية هي أهم شيء، ولن يستريح قلب الإنسان أبداً وهو بعيد عن الله، {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]. وخلق الله عز وجل لك ما تستريح به من أرض من سماء من جبال من ثمار من أشجار من أنهار من بحار، خلق لك أشياء كثيرة، ولو أنك عبدت الله لجعل لك فيها رزقاً حسناً عظيماً، وأنزل عليك البركات من السماء ومن الأرض، فانظر إلى آيات الله وقدرته العظيمة، ومنحه الكريمة التي يعطيها لعباده، وتدبر في آيات الله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [الأنبياء:33]، {وَهُوَ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} [الفرقان:47] {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا} [النبأ:9 - 10]. فجعل النوم سباتاً تستغرقون فيه فتنسى الدنيا، وتنسى المشاغل، وهذا من فضل الله عز وجل، ولو أصاب الإنسان الأرق لعرف فضل الله عز وجل عليه في النوم، ولعرف قدر النوم، فمن يحرم من النوم كيف يكون حاله؟ سيذهب عقله من شدة احتياجه إلى النوم، وعدم قدرته عليه، فاحمد ربك سبحانه أنك إذا أويت إلى فراشك، ووضعت رأسك عليه، فمن نعمة الله عز وجل أن جعل النوم سباتاً. وقال الله: {وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} [الفرقان:47]، ولذلك كان يقوم النبي صلى الله عليه وسلم من نومه فيقول: (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور)، فجعل الله الليل لباساً، وجعل النوم سباتاً، وجعل النهار نشوراً، جعل النهار ضياءً تبحث فيه عن رزقك، وجعل الليل مظلماً حتى تستريح من عناء النهار، وحتى يستر الله سبحانه تبارك وتعالى على عباده. {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [الأنبياء:33]، جعل سبحانه آيتين: آية الليل، وآية النهار، فلا الليل سابق النهار، ولا الشمس تسبق القمر وتدركه، كل في فلك يسبحون، أي: يدورون، الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلكه الذي خلقه الله عز وجل له لحكمة من الله سبحانه تبارك وتعالى. يقول العلماء: أول ما خلق الله عز وجل هذه الأرض، كانت تدور بطريقة معينة، تدور عكس عقرب الساعة تدور الأرض وهي في مكانها حول نفسها في محور، وتدور حول الشمس في فلك. قالوا: وكان الليل أربع ساعات والنهار أربع ساعات، ولم يزل دوران الأرض حول نفسها ودورانها حول الشمس يتباطأ حتى وصلت إلى ما نحن عليه: الليل والنهار أربع وعشرون ساعة، يزيد الليل فينقص النهار، ويزيد النهار فينقص الليل. وتظل الأرض على هذا الحال حتى يأتي أمر الله عز وجل وتطلع الشمس من مغربها. يقولون: والقمر يدور حول الأرض بطريقة معينة وبعد معين، وفي كل سنة يبعد القمر عن الأرض (3سم)، ويظل يبعد حتى يأتي أمر الله عز وجل، حيث يدخل القمر في جاذبية الشمس فيجتمعان كما قال الله: {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [القيامة:9] وحينئذ تقوم الساعة. ويقول هؤلاء العلماء: الأرض تدور بطريقة معينة، وتباطأت بعدما كان الدوران سريعاً أربع ساعات ليل، وأربع ساعات نهار، فوصل الأمر إلى الحال الذي نحن عليه الآن، وستظل تبطئ من دورانها إلى غاية أنها لا تقدر أن تدور من اليمين إلى الشمال عكس عقرب الساعة، وسيأتي عليها ساعة تكون في دورانها معكوسة، قالوا: وإذا انعكست تطلع الشمس من المغرب ولا تطلع من المشرق، وهذا هو الذي قاله لنا النبي صلوات الله وسلامه عليه، فمن علامات الساعة أن الشمس تطلع من مغربها، فهذا أمر الله سبحانه وتعالى الذي يقول لنا: تدبروا في هذا الكون، وهذا كلام الكفار الذين قالوا ذلك ويصدقون ما في كتاب رب العالمين سبحانه تبارك وتعالى، وما في سنة النبي صلى الله عليه وسلم. قال الله: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء:33]، وحسب ما يريده سبحانه تكون الدورة سريعة أو بطيئة، تطلع الشمس من مشرقها أو تطلع من مغربها، فأمر الله عز وجل لابد أن يكون، فهو خالق ذلك، وهو المتحكم فيه، وهو المدبر لأمره سبحانه. {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء:33] الفلك هي الخشبة التي في المغزل، والقمر تابع للأرض يدور حولها، والأرض والقمر كلاهما يدوران حول الشمس، والكواكب التسعة التي في المجموعة الشمسية كلها تجري حول الشمس، وكل كوكب في فلك معين جعله الله سبحانه وتعالى له، لا هذا يخرج من فلكه ولا هذا يخرج من فلكه، كل له مدار لا يصطدم بالثاني. هؤلاء التسعة الكواكب التي تدور حول الشمس قال العلماء: اكتشفنا كوكباً عاشراً أيضاً، وهو يدور حول الشمس، لكن ما رأيناه، إنما الحسابات الرياضية دلت على وجود كوكب عاشر يدور حول الشمس، وهذا الكوكب الذي اكتشفوه بالعمليات الحسابية يدور في مدار بيضاوي أو حلزوني حول الشمس، ويدور في مدار لا يصطدم مع الأرض أو القمر، والمجرة كلها تتحرك في هذا الكون، والله عز وجل يدير هذا كله، ويقول لك: انظر في السماء وتعجب من خلق الله عز وجل.

تفسير قوله تعالى: (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد)

تفسير قوله تعالى: (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد) قال الله لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} [الأنبياء:34]. الكفار طلبوا أن يكون الرسول المبعوث إليهم خالداً لا يموت، وكان الكفار يقولون عن النبي صلى الله عليه وسلم: {شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور:30]، هذا شاعر سيموت في يوم من الأيام وننتهي منه ومن دعوته، فالله عز وجل يجيبهم: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} [الأنبياء:34] يعني: لو مُت الآن فسيحفظ الله دينه، ونور الله لا يطفئه أحد، فالله عز وجل متم نوره {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32]، {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33]. لم نجعل لبشر من قبلك الخلد، مات الرسل ورسالاتهم باقية. {أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34]، لو مت فهل هم سيخلدون؟! كلكم تموتون: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27]، ورسالة الله عز وجل باقية، مات الرسول صلى الله عليه وسلم وحملها من بعده فهم يبلغونها حتى تقوم الساعة. وقراءة نافع وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف: {أَفَإِينْ مِتَّ} [الأنبياء:34]، وباقي القراء وهم ابن كثير وأبو جعفر وأبو عمرو ويعقوب وابن عامر يقرءون: ((أفإن مُت))، والمعنى واحد.

تفسير قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت)

تفسير قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت) قال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء:35]. كل ما جعل الله عز وجل فيه روحاً لابد أن يذوق الموت، الإنسان والحيوان والجان، كل ما فيه أرواح خلقها الله عز وجل لابد وأن يميتها ويذيقها هذا الموت، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء:35]. {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35]. ((وَنَبْلُوكُمْ)) أي: نختبركم، فيبتلي الله عز وجل الإنسان بالمصائب التي يراها شروراً، ويبتليه بالكفار وهم أشرار، ويبتليه بالفجار وهم أشرار، ونبلوكم أيضاً بالخير، نمتحنكم، نفتح عليكم الدنيا، نعطيكم من المال، نعطيكم من البنين، نعطيكم من المناصب، نعطيكم من زهرة الدنيا، وهذا بلاء من الله عز وجل. فالإنسان حين يرى ذلك من الخير أو من الشر عليه أن يصبر لأمر الله سبحانه، وينظر في نفسه، ويحرص أن ينجح في هذا الامتحان، فلينفق المال في الحلال، ينفق على نفسه، على أهله، على ولده، ينفق على الفقراء والمساكين وأقربائه، ينفق كما أمر الله عز وجل في وجوه الإنفاق الشرعية، أما من رسب في الامتحان فإنه يتجه إلى الحرام، يريد أن ينمي ماله بالحرام، يدخل الأموال في الربا، يدخل في المبايعات الخاطئة، يدخل في الرشا، يدخل في الأشياء التي يحرمها الله سبحانه تبارك وتعالى. {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35] كله بلاء من الله عز وجل، والمؤمن ينتفع بالنصيحة، فإذا به ينجح في الامتحان، وإذا جاءه الخير رضي بفضل الله وحمد الله سبحانه، وفعل به ما يرضي ربه سبحانه، وإذا جاءته المصائب والأقدار، وجاءته الشرور يصبر لأمر الله، ولا يخرج عن قوله أبداً، ولا يعترض على أمر الله سبحانه تبارك وتعالى. الإنسان المؤمن يعلم قول الله سبحانه: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، فإذا ابتلاك الله عز وجل بشيء لا تقول: لماذا؟ فالله لا يسأل عن شيء، ولكن تسأل الله عز وجل وتقول: (اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها)، ولكن الله عز وجل أعلم بالخير. أم سلمة لما مات زوجها أبو سلمة وكان من أفاضل الناس رضي الله تبارك وتعالى عنه، وكانت لا ترى أحداً أفضل منه، وما كان على بالها أبداً أن تكون زوجة للنبي صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام، فلما مات زوجها وبكت عليه، قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (قولي: اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها)، فالسيدة أم سلمة فكرت في عقلها: ومن خير من أبي سلمة؟ في نظرها أنه لا يوجد أحسن منه، ولاشك أنه يوجد أفضل من أبي سلمة، فـ أبو بكر الصديق أفضل منه، وعمر بن الخطاب أفضل منه، وكذلك عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله تبارك وتعالى عن الجميع، والنبي صلى الله عليه وسلم أفضل من الجميع صلوات الله وسلامه عليه، فهي فكرت وقالت: من خير من أبي سلمة؟! ولكن قالت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها)، فأخلف عليها رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فكان هو الخيرة لها رضي الله تبارك وتعالى عنها، وصلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً. قال الله: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35]، على الإنسان إذا جاءته الفتنة أن ينظر في أمر نفسه، وينظر في أمر الله عز وجل، ما الذي يريده الله عز وجل منه، فيصبر على الشر، يصبر على البلاء، وإذا كانت الفتنة بالمال أو البنين أو النساء فينظر ما الذي يرضي ربه فيصنعه، وما يغضب الله فيبتعد عنه. قال: {وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35]، هذا تهديد وتخويف من الله عز وجل، يعني: مهما أعطيناك من أمور الدنيا، فأنت راجع إلينا، فانظر بِمَ سترجع إلينا هل أنت متضجر على أمر الله سبحانه؟ هل أنت معترض على قضاء الله وقدره؟ أو أنك راضٍ بقضاء الله، صابر لأمر الله سبحانه تبارك وتعالى؟ فإذا جاءت فتنة المال والبنين فاعمل بما يرضي ربك سبحانه تبارك وتعالى. قال: {وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35]، هذه قراءة الجمهور، وقراءة يعقوب: ((وإلينا تَرجِعون)).

تفسير قوله تعالى: (وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا)

تفسير قوله تعالى: (وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزواً) قال الله: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} [الأنبياء:36]. كان الكفار حين يرون النبي صلى الله عليه وسلم في مكة يستهزئون به، ويسخرون منه صلوات الله وسلامه عليه، ومرة سجد عند الكعبة صلوات الله وسلامه عليه فوضع بعض السفهاء سلا بعير -كرش بعير مذبوح- فوق ظهره صلوات الله وسلامه عليه وهو ساجد، وبقوا يستهزئون بالنبي صلوات الله وسلامه عليه حتى أخرجه الله سبحانه وتعالى من بين أظهرهم، وهاجر إلى المدينة، وعز الله عز وجل الإسلام وجنده بعد ذلك. قال: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا} [الأنبياء:36]، (هُزُواً) هذه قراءة حفص عن عاصم فقط، ((هزواً)) من غير همز، وغيره من القراء يهمزون، وحمزة سيقرؤها كبقية القراء ((هزءاً)) في الوصل، وإذا وقف عليها قال: ((إلاهزاً)) أو إلا ((هزواً)). {إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} [الأنبياء:36]، يستهزئون به، قائلين: {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} [الأنبياء:36] يعني: أهذا الذي يسفه آلهتكم، وآلهتهم سفيهة، وهم أدرى الناس بذلك، ويعرفون مدى ما هم فيه من سفاهة، وما آلهتهم عليه من حقارة، ومع ذلك يعصون النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يؤمنون بالنبي صلوات الله وسلامه عليه. يقول: {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} [الأنبياء:36] كأنهم يريدون أن يكرموا الآلهة، وكان لهم مع آلهتهم مواقف عجيبة جداً، فهم الذين صنعوا هذه الآلهة ومع ذلك يعبدونها، يصنعها المشرك من حجر ثم يقعد يعبد هذا الإله الذي صنعه، فالشيطان طمس على عقل هذا الإنسان، فلا يتفكر في الذي يصنعه، فكانوا يعبدون الأصنام بدلاً من عبادة رب العالمين سبحانه تبارك وتعالى. لما هاجر مصعب رضي الله تبارك وتعالى عنه إلى المدينة، وكان يدعو أهل المدينة، قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وما من بيت إلا ودخله الإسلام بسبب وجود مصعب رضي الله تبارك وتعالى عنه، فكان ممن أسلم على يد مصعب بن عمير رضي الله تبارك وتعالى عنه معاذ بن عمرو بن الجموح وعمرو بن الجموح، وكان عمرو سيد بني سلمة رضي الله تبارك وتعالى عنه، وكان له صنم يعبده من دون الله اسمه مناة، فمر عمرو بن الجموح على مصعب، وقال: ما هذا الذي جئتمونا به؟ فقال له مصعب: إن شئت جئناك فأسمعناك القرآن، فذهب إليه وأسمعه صدراً من سورة يوسف عليه السلام، فـ عمرو بن الجموح لما سمع ذلك وكان سيداً في قومه قال: إن لنا مؤامرة في قومنا، يعني: نستشير قومنا، فدخل على صنمه مناة وقال له: يا مناة! تعلم والله ما يريد القوم غيرك، فهل عندك من نكير؟ وخلع سيفه وأعطاه، وقال له: دافع عن نفسك فهؤلاء يريدون بك شراً. أي عقل هذا العقل؟! التمثال هو الذي صنعه من حجر، فكيف يعبده من دون الله سبحانه تبارك وتعالى، ويقول له: خذ هذا السيف ودافع به عن نفسك! وخرج وترك السيف معه، فدخل ابنه معاذ بن عمرو بن الجموح وأخذ السيف من الصنم، فلما رجع وجد الصنم قد أخذ منه السيف، فعجب لذلك وقال: أين السيف الذي كان معك؟ ويحك إن العنزة لتمنع استها، ثم أوصى أهله بالصنم، وخرج لأمر من أموره، فأخذ ابنه ومجموعة من الفتيان الصنم وربطوه بكلب ميت، ورموا به مع الصنم بين القاذورات، فلما جاء عمرو بن الجموح نظر إليه وهو مرمي مع كلب ميت بين النجاسة فقال: والله لو كنت إلهاً لم تكن أنت وكلب وسط بئر في قرن أف لمثواك إلهاً مستدن الآن فتشناك عن سوء الغبن يعني عرفنا الآن أنك لا تنفع أن تكون إلهاً، وجمع قومه وقال لهم: ألستم على ما أنا عليه؟ فقالوا له: نعم، أنت سيدنا، قال: فإني آمنت بما أنزل على محمد صلوات الله وسلامه عليه، فتابعه قومه فأسلموا. هذا الرجل العظيم كان أعرج وفي يوم أحد خرج أولاده يقاتلون، وقالوا: نحن نغني عنك، فقال: لا، وذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخاصم أولاده، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (أرأيت إن قتلت أأطأ بعرجتي هذه الجنة؟ قال: نعم) فقاتل في سبيل الله حتى قتل في ذلك اليوم رضي الله تبارك وتعالى عنه. والمقصود بيان كيف أن هؤلاء الكفار كانوا يعبدون الأصنام، وهم يعرفون أنها لا تنفع ولا تضر، وأنها لا تملك لنفسها شيئاً! فهذا هو العجب، وليس العجب مما يدعو إليه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا معنى لتعجبهم من ذلك وقولهم: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]، فالكفر يطمس نور العقول، ويجعل الإنسان ينظر للشيء على خلاف منظره، ويفتن الإنسان بجهله وكفره وحماقته. وكان رجل من المشركين سادناً لصنم القبيلة التي هو منها وهي بنو سليم، وفي يوم من الأيام وجد ثعلبين صعدا إلى رأس الصنم وبالا عليه، فقال: أرب يبول الثعلبان برأسه لقد ذل من بالت عليه الثعالب فكسر الصنم وقال لقومه: هذا ليس إلهاً، وذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن: (فسأله: ما اسمك؟ فقال: غاوي، فقال: بل أنت راشد)، كان اسمه غاوي بن عبد العزى فغير النبي صلى الله عليه وسلم اسمه فسماه راشد بن عبد ربه رضي الله تبارك وتعالى عنه. وقد قال الله سبحانه تبارك وتعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الأنعام:10]، يعني: يا رسولنا عندما يستهزئ بك قومك، فأنت لست بدعاً من الرسل، ولكن أنت مثل الرسل الذين من قبلك، وهنا قال: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} [الأنبياء:36] أي: بآيات رب العالمين يكفرون.

تفسير قوله تعالى: (خلق الإنسان من عجل)

تفسير قوله تعالى: (خلق الإنسان من عجل) قال الله تعالى: {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ} [الأنبياء:37]. خلق الله عز وجل الإنسان من ضعف، فهو ضعيف وفي طبيعته أوصاف من الأوصاف التي أمر أن يقاوم هذه الأوصاف التي فيه، ففي طبيعته الشح والبخل، وأمره بالإنفاق، ولو لم تكن في طبيعة الإنسان الشح لما أمر أن ينفق أصلاً، وخلق الله في قلب الإنسان شهوة حب المال، وحب النساء، وحب البنين، وأمره أن يقاوم ذلك ويهذبه، فيحب ما أمر الله عز وجل به، فيتزوج ويأتي امرأته في حلال، وحرم عليه الزنا، وحرم عليه الفواحش ما ظهر منها وما بطن، فالشريعة جاءت لتهذب الإنسان. ومن ضمن ما فُطر عليه الإنسان العجلة، قال الله: {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء:37] ففي طبيعة الإنسان التسرع والاندفاع، وأمر بالحلم وعدم الطيش وعدم التهور، وأمر أن يمسك نفسه، ففي مسند أبي يعلى بسند حسن من حديث أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (التأني من الله والعجلة من الشيطان، وما من أحد أكثر معاذير من الله، وما من شيء أحب إلى الله من الحمد). وفي قصة أشج عبد القيس لما وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم، فأصحابه عندما قدموا المدينة أسرعوا لينظروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلوا من الرحال وأقبلوا على النبي صلى الله عليه وسلم مسرعين، لكن هذا الرجل تأخر قليلاً، فخلع ثياب السفر، وتنظف ولبس ثياباً نظيفة، ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما نظر إليه قال: (إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة)، يعني: عندك حلم، وعندك أناة، فهذان خلقان يحبهما الله عز وجل من العبد: أن يكون حليماً متأنياً. قوله تعالى: {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء:37] المعنى: ما كان يستعجل به الكفار من قولهم: ربنا آتنا قطنا، آتنا العذاب الذي تتوعدنا به! كقولهم: {إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} [الأنفال:32]. قال الله: {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي} [الأنبياء:37] اصبروا، انظروا آيات الله عز وجل في الكون، وانظروا آيات الله عز وجل التي ينزلها على من يكفر وكيف يعذبه، {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ} [الأنبياء:37]. فعلى الإنسان ألا يتعجل، فهو مأمور بمقاومة العجلة، لكن ليس التأني في كل شيء، فأمور الخير يأمرنا الله عز وجل أن نسابق ونسارع إليها، وقد جاء في سنن أبي داود من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (التؤدة في كل شيء إلا في عمل الآخرة)، فعلى الإنسان أن يكون حليماً متأنياً في كل شيء إلا في عمل الآخرة، فلا يؤجل عمل الآخرة، إذا جاء وقت الصلاة يقوم يصلي، إذا جاء وقت العمل يقوم يعمل، إذا جاء وقت أمر بمعروف أو نهي عن المنكر، فلا يسوف، ولذلك قال الله: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9]، فتسعى إلى الصلاة بمعنى تهتم بذلك وتتوجه كما أمرت، وليس المعنى أن تجري، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الجري إلى الصلاة فقال: (إذا أتيتم إلى الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وائتوها وأنتم تمشون، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا). وفي الآية الأخرى قال الله عز وجل: {وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولًا} [الإسراء:11]، فالإنسان متعجل يريد الخير سريعاً، يريد المكسب السريع، يريد الدنيا بسرعة، من العجلة الشيطان، فالإنسان الذي يريد المكسب السريع يدله الشيطان على الربا، ويدله على الرشوة، ويدله على السرقة، ويدله على أكل مال اليتيم، ويدله على أكل الحرام، ويدله على الشرور، فلا تعجل ورزقك سيأتي، ولكن سارع للخيرات كما أمرك الله عز وجل. نسأل الله عز وجل أن يعييننا على فعل الخيرات وترك المنكرات، وعلى حبه سبحانه تبارك وتعالى. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الأنبياء [37 - 47]

تفسير سورة الأنبياء [37 - 47] أخبر الله عز وجل في العديد من آياته في القرآن عن بعض مشاهد يوم القيامة، وما يكون فيها من أهوال فظيعة، لا يقدر الإنسان على تحملها؛ وذلك من أجل أن يستعد الإنسان لذلك اليوم، ويعمل له، ويأخذ أهبته لملاقاته بما يستطيع من أعمال صالحة.

تفسير قوله تعالى: (خلق الإنسان من عجل سأريكم آياتي)

تفسير قوله تعالى: (خلق الإنسان من عجل سأريكم آياتي) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الأنبياء عليهم السلام: {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ * وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ * بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلا هُمْ يُنظَرُونَ * وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ * أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ * بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ * قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ * وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:37 - 47]. يخبرنا ربنا سبحانه تبارك وتعالى هنا عن خلق الإنسان، وكيف أنه خلق ضعيفاً، وفيه التهور والعجلة والاندفاع والطيش. قال تعالى: {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء:37]، أي: في تركيبه وخلقه، ففيه تهور واندفاع وعجلة إلى الشيء. وعندما أمرنا الله سبحانه أن نكون حلماء، وأن يكون عندنا صبر، كان لابد أن يجعل في النفس ما يدافع ذلك فلو أن طبيعة الإنسان الحلم لما أمره الله عز وجل بالحلم، ولو أن طبيعة الإنسان لا توجد فيها شهوة لما نهاه الله عز وجل عن الزنى. فطبيعة الإنسان ركبت فيه الشهوة الغضبية فتجده يندفع، وركبت فيها الشهوة الجنسية فيحب أن يتزوج أو أن يقع في الحرام، والله عز وجل يريد تهذيب شهوات الإنسان، فأمره إذا غضب أن يكون غضبه لله سبحانه وتعالى، وإذا سارع واستعجل أن تكون مسارعته في الخير وليس في الشر. وأما التهور والاندفاع إلى الحرام فقد هذبها الله في الإنسان وقال له: أنت مخلوق من عجل، أي: فيك عجلة وتهور واندفاع وطيش، فهذبها بالتعلم وبالتحلم. والإنسان لن يكون حليماً بين يوم وليلة، ولكن بالتأني شيئاً فشيئاً، وبفضل الله عز وجل عليه يصبح صبوراً حليماً.

بيان فضل التأني والحلم

بيان فضل التأني والحلم فربنا يخبرنا عن خلق الإنسان أنه خلق عجولاً. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (التأني من الله، والعجلة من الشيطان). فإذا كان العبد متأنياً فهذه هبة من الله عز وجل، والعجلة من الشيطان ومن وسوسته، فإنه يظل وراء الإنسان إلى أن يجعله متهوراً ومتعجلاً، فيندفع في القول الذي لا يريد أن يقوله ويقع في الحرام. وفي الحديث: (وإن العبد ليتكلم بالكلمة من غضب الله لا يلقي لها بالاً تهوي به في النار سبعين خريفاً). وقد يندفع الإنسان في الكلام فيقع في الكفر والعياذ بالله، وقد يندفع فيطلق امرأته مع اندفاعه، وقد أمرنا الله سبحانه وتعالى بالحلم وقال: {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء:37]. فتصبر. وهذه الآية يرد فيها الله سبحانه وتعالى على الكفار الذين كانوا يتعجلون العذاب، ويقولون: {رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا} [ص:16]، ويقولون: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32]. فجهلهم وطيشهم دفعهم لتعجل الانتقام، وتعجل العذاب من عند الله.

وعيد الله للمشركين تحقق في بدر

وعيد الله للمشركين تحقق في بدر فقال لهم الله: {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي} [الأنبياء:37] أي: لا تستعجلوا، فترون هذه الآيات. وكان من آياته العظيمة ما حدث لهم في يوم بدر، فقد جاءوا بعددهم وعُددهم، وجاءوا بحدهم وحديدهم؛ لمحاربة النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، والإجهاز على هذا الدين. فلما جاءوا وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم لشيء آخر، ولم يفكر أنهم سيأتون بهذا العدد. وكان قد خرج لأخذ عير قريش، فلما وصل إلى أرض بدر علم أن قريشاً قد تجهزت وخرجت للقائه صلى الله عليه وسلم، وكان المسلمون الذين مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلث عدد الكفار، فكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً. وأما العُدد التي كانت معهم فقد كانت عُدد تكفيهم لأخذ القافلة فقط، وليس لمقاومة جيش، فإذا بهم يجدون أنفسهم فجأة أمام هؤلاء، فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن رأيهم، فأجابه هؤلاء الصحابة الأفاضل وطلبوا منه صلى الله عليه وسلم أن يقاتلهم، وأنهم سيثبتون، وقالوا له: إنك لو أمرتنا أن نمشي حتى نأتي برك الغماد لأتيناها ولا نعصيك في أمرك. وقالوا له: امض لأمر الله ونحن معك. وقد أراهم الله سبحانه تبارك وتعالى الآيات العظيمة، فإن الكفار وفيهم أبو جهل وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وغيرهم من كبار الكفار، جاءوا ومعهم جنود الكفر في زهو وفي غرور يريدون أن يستأصلوا شأفة الإسلام والمسلمين. فلما قدموا إلى بدر أراهم الله عز وجل آياته العظيمة، فقد كانت الملائكة تنزل من السماء ويراها الكفار تقاتل مع المؤمنين فقد كان المؤمن يرفع سيفه ليضرب به رأس الكافر فيسبقه سوط الملك في ضربه، فتخضر عين الكافر من ضربة الملك عليها قبل أن يصل إليها سيف الإنسان المسلم، فأرى الله عز وجل آياته للفريقين، للمؤمنين ليثبتوا، وللكفار ليريهم الذي كانوا يتعجلونه. (ولذلك وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قتلى بدر من المشركين ونادى عليهم، فنادى على أبي جهل وعلى الوليد بن عتبة وعلى عتبة بن ربيعة وعلى شيبة بن ربيعة، وقال لهم: إنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم؟ حقاً؟! فقال له عمر رضي الله عنه: يا رسول الله! ما تسمع من أجساد قد جيفت -يعني: صاروا جيفاً في القليب، فقال: والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لي منهم)، يعني: هم يسمعون أكثر مما تسمعوني؛ فقد عرفوا الحق من عند الله سبحانه، وأراهم آية من آياته. فقال لهم الله في هذه السورة المكية: {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ} [الأنبياء:37]، أي: فعلى ماذا تستعجلون؟ فكان حتفهم بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم في السنة الثانية، وقتل كبرائهم من مشيخة قريش الكفرة. وفي قوله تعالى: {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ} [الأنبياء:37] قراءتان، قرأها الجمهور بنون مكسورة في آخرها، فإذا وصلوها قرءوها: {فَلا تَسْتَعْجِلُونِ * وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} [الأنبياء:37 - 38]. وقرأها يعقوب في الوقف والوصل بالياء في آخرها (فلا تستعجلوني)، يعني: لا تعجلوا عليّ بالطلب، فإني قد أمرت، وما أردته فهو كائن وحاصل بكم.

تفسير قوله تعالى: (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين)

تفسير قوله تعالى: (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) قال تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الأنبياء:38]. أي: متى يوم القيامة؟ فالسؤال الذي دائماً كان يسأله الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين قولهم: أنتم تخوفونا بيوم القيامة، والخروج من القبور، والعرض على ربنا، فلماذا لم يأت؟ ومتى هذا الوعد؟ وخاصة عندما قال الله لهم في سورة النحل وهي مكية: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل:1]. فيقولون: أين هذا الذي أتى؟ فما جاء هو ولا غيره.

تفسير قوله تعالى: (ولو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار)

تفسير قوله تعالى: (ولو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار) قال الله تعالى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنبياء:39]. وفي هذه الآية شرط، ولم يأتي بجوابه؛ لنتخيله نحن. قال تعالى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ} [الأنبياء:39]، ولو علموا فمستحيل أن يتمنوا ذلك اليوم، ولخافوا وذعروا وارتعبوا ولآمنوا. وهذا هو الجواب الذي سيكون لهذا الشرط، أي: لو يعلمون ذلك لآمنوا. فلو علموا علم اليقين ورأوا هذا الشيء أمامهم ماثلاً يوم القيامة ورأوا العذاب لقالوا: آمنا، ويندمون ولا ينفعهم ندمهم. قال تعالى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ} [الأنبياء:39]. ويكفون من كف الشيء، يعني: يستخدم كفه في صده وكفه، ومنه: يتكفف الناس، ويستكف الناس، يعني: يطلب من الناس بكفه. فالإنسان عندما تأتي عليه مصيبة أو تأتي عليه نار أو يأتي عليه شيء فإنه يدفعه ويكفه بيده قال تعالى عن أهل النار: ((حين لا يكفون عن وجوههم عن النار))؛ لأن أيديهم فيها السلاسل والأغلال. فعندما تأتي النار على وجوههم لا يقدرون على صدها ومنعها عن أنفسهم شيئاً. ففي الدنيا يطفئ الإنسان النار بيده، وأما في يوم القيامة فلا يقدر على ذلك، قال تعالى: {حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ} [الأنبياء:39]. وذكر الوجوه والظهور؛ لأنهم كانوا يكلحون بوجوههم للنبي صلى الله عليه وسلم، فإذا نظروا إليه نظروا إليه بغضب، ويكلحون في وجهه، ثم يعترضون عليه ويعطونه ظهورهم، فلا يؤمنون ولا يصدقون. فقد كان الكافر عندما يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقابله بوجه عبوس، فيوم القيامة تأكل النار وجه هذا الإنسان الذي عبس به للنبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا، وأعطى النبي صلى الله عليه وسلم ظهره، واتخذ هذا القرآن مهجوراً، وجعله وراءه ظهرياً. فهم بدلاً من أن يعطوه وجهاً حسناً، ويطلبون العلم منه، ويتعلمون هذا الدين العظيم أعرضوا، فكان جزاؤهم أن النار تأكل وجوههم وظهورهم وأبدانهم. قال الله سبحانه: {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} [الأنبياء:39]. فلا هو يقدر أن يكف النار عن نفسه بيده، ولا أحد من الناس يغيثه وينصره ويأخذ ما به من نار وغيرها. فيوم القيامة يصرخ هذا الإنسان، ولا أحد يجيره وينصره من الله سبحانه تبارك وتعالى، قال تعالى: {لا يَكُفُّونَ} [الأنبياء:39]، أي: لا يستطيع هو أن يزيل هذه النار، ولا أحد ينصره. قال تعالى: ((بَلْ تَأْتِيهِمْ))، أي: الساعة {بَغْتَةً} [الأنبياء:40]، وإن لم تكن القيامة فستأتيهم ساعتهم بغتة. وساعة الكافر وقت خروج روحه، فيرى ملائكة الجحيم، سود الوجوه، ومعهم مسوح من النار، وحنوط من النار، وأكفان من النار، ويقولون: اخرجي يا روح الكافر. فيرتعد هذا الإنسان الكافر فتتفرق الروح في جسده من شدة الرعب، فينتزعها الملك كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فتتمزق وتتقطع منه العروق والعصب، كما يشبهها النبي صلى الله عليه وسلم بانتزاع السفود الذي هو مليء بالشوك من الصوف المبلول. فإذا جاءت ساعتهم ((بغتة))، أي: فجأة {فَتَبْهَتُهُمْ} [الأنبياء:40] أي: تصدمهم الساعة حين تأتيهم. والبهت: الشيء المفاجئ الذي يدهش ويحير الإنسان، فيجلس محتاراً لا يعرف رأسه من رجليه. فكذلك هؤلاء تأتيهم الساعة، أي: يوم القيامة. أو تأتيهم الساعة يعني: يومهم وميقاتهم وموعدهم وموتهم، فإذا بهم مبهوتون متحيرون لا يقدرون أن يعملوا شيئاً، كالإنسان المبهوت يجلس متحيراً، فاتحاً فاه لا يعرف يتكلم بشيء، ولا يقدر أن يدفع عن نفسه، فكذلك هؤلاء تأتيهم الساعة فجأة من حيث لا يحتسبون ولا يظنون. {فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلا هُمْ يُنظَرُونَ} [الأنبياء:40]، أي: فلا يستطيعون رد الساعة. {وَلا هُمْ يُنظَرُونَ} [الأنبياء:40]، أي: لا يمهلون، فلا يوجد تأخير ولا إمهال ولا توبة ولا غيرها.

تفسير قوله تعالى: (ولقد استهزئ برسل من قبلك)

تفسير قوله تعالى: (ولقد استهزئ برسل من قبلك) قال تعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الأنبياء:41]. يعني: إن الاستهزاء ليس أمراً جديداً، فاصبر ولا تكن عجولاً كعجلة هؤلاء ولا تطلب من ربك سبحانه ما لم يأتِ الآن، ولكنه سيأتي بعد ذلك. فقال له ربه: لقد استهزئ بمن قبلك من الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، فاستهزأ بهم أقوامهم فكانت النتيجة ((فحاق))، يعني: نزل بهم نزول إحاطة، وقد يمكن لشخص إذا أتى له شيء من العذاب أن يهرب، وأما هذا فلا؛ لأنه أحاط به العذاب ودار به فلم يستطع أن يهرب منه. قال تعالى: {فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ} [الأنبياء:41]، أي: بالذين سخروا من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الأنبياء:41]. كما قال تعالى: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر:43]، فهم سخروا واستهزءوا من وجود البعث والنار والعذاب، فيقول لهم: هذا الذي كنتم تسخرون منه وتستهزئون به قد أحاط بكم فلا تقدرون على الفرار منه.

تفسير قوله تعالى: (قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن)

تفسير قوله تعالى: (قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن) قال تعالى آمراً نبيه صلوات الله وسلامه عليه أن يقول لهؤلاء المشركين: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} [الأنبياء:42]. والكلاءة: الحفظ والحراسة. يعني: من يحرسكم فيمنعكم من الله عز وجل ليلاً أو نهاراً، ومن ينصركم ويدافع عنكم إذا جاء أمر الله سبحانه؟ قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ} [الأنبياء:42] أي: من يحفظكم ويحرسكم ويصونكم من بأس الله وقوته وقدرته سبحانه تبارك وتعالى؟ {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [الأنبياء:42]. فلا يستطيع أحد أن يحميكم من الله عز وجل في أي وقت من ليل أو من نهار. قال تعالى: {بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:42]، أي: بل هم عن هذا القرآن الذي فيه ذكر الله عز وجل وفيه التذكرة بآياته عز وجل، ((معرضون))، أي: قد أعطوه ظهورهم، فلذلك أكلتها النار يوم القيامة، {حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ} [الأنبياء:39].

تفسير قوله تعالى: (أم لهم آلهة تمنعم من دوننا)

تفسير قوله تعالى: (أم لهم آلهة تمنعم من دوننا) قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأنبياء:43]. أي: أضرب عن هذا، بل ألهم آلهة؟ فـ (أم) هي المنقطعة التي تقدر بـ (هل) أو (بالهمزة)، و (بل)، فيكون المعنى: بل ألهم آلهة من دون الله عز وجل ينصرونهم ويحفظونهم ويمنعونهم؟ وهل هذه الآلهة (الأصنام) إذا نزل عذاب الله تستطيع أن تدافع عنهم؟ وهم أعلم الناس بأن الأصنام لا تدفع عن نفسها فضلاً عن أن تدفع عن غيرها فهل لهم آلهة تمنعهم من بطشنا، وتدفع عنهم عذابنا؟ قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} [الأنبياء:43]. أي: لا الآلهة تستطيع أن تنصر نفسها، ولا هؤلاء الكفار يقدرون أن ينصروا أنفسهم، {وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} [الأنبياء:43]، أي: ولا هم منا يمنعون ويجدون من يصحبهم فيرفق بهم، ويجيرهم من الله سبحانه تبارك وتعالى. فكأن المصاحبة هنا مثل الإنسان عندما يخاف من قوم يهرب منهم، وعندما يحب أن يرجع إليهم يأتي بشخص معه يصحبه ويدخل معه، فيدخل في جوار فلان الذي أجاره، فيكون معنى قوله: {وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} [الأنبياء:43] لا يجيرهم أحد من عذابنا.

تفسير قوله تعالى: (بل متعنا هؤلاء وآباءهم)

تفسير قوله تعالى: (بل متعنا هؤلاء وآباءهم) قال الله سبحانه: {بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} [الأنبياء:44]. يعني: كأن الذي جعلهم يستكبرون ويتعالون على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين هو أنهم متعوا، أي: أعطاهم الله عز وجل في الدنيا المال والبنين، وأعطاهم من فضله ومن كرمه سبحانه، فإذا بهم يتطاولون على ربهم سبحانه وعلى رسوله صلوات الله وسلامه عليه، أي: إننا متعناهم وبسطنا لهم من الرزق هم وآبائهم حتى اغتروا بهذه الدنيا. كما قال تعالى: {حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} [الأنبياء:44]، يعني: طالت أعمارهم في النعمة، وعمروا السنين الطويلة في النعم. وقد قال تعالى: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} [قريش:1 - 2]. فقوله: {لِإِيلافِ} [قريش:1]، أي: ألفوا ذلك. وقد كانوا يذهبون صيفاً إلى الشام وشتاءً إلى اليمن، ويأتون برزقهم الذي ساقه الله عز وجل إليهم، وهم أهل الحرم، وقد أمنهم ربنا سبحانه وتعالى وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت:67]. فجعلهم في أمان، وجعل لأهل الحرم مكانة وسط العرب، وجعل لهم رحلتين، يأتون فيهما بالأرزاق يميناً وشمالاً من اليمن ومن الشام، وأمنهم وأعطاهم الثمرات، وجعل بلدهم بلداً آمناً يجبى إليه من كل الثمرات، كما قال تعالى: {رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا} [القصص:57]. وأراد منهم أن تكون النتيجة كما قال: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60]، فكان جزاء إحسان الله أن عبدوا غيره سبحانه وتعالى، فمتعهم وأعطاهم وقال: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183]. وقال سبحانه هنا: {بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} [الأنبياء:44]، أي: في النعمة. وقالوا: نحن كنا في نعمة وكذلك آباؤنا، فافتخروا بذلك. وأوصلهم افتخارهم أن وصلوا إلى المقابر يفتخرون بعظام الموتى. قال الله عز وجل: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر:1]. والتكاثر: المفاخرة والافتخار، {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:2]، فتلهوا بذلك، وقالوا: نحن أكثر عدداً منكم، وانظروا إلى آباءنا الذين ماتوا كانوا أكثر من آبائكم، وقبيلتنا أكبر من قبيلتكم. قال تعالى: ((حتى طال عليهم العمر))، أي: في الفخر في نعمة الله، وظنوا أن الذي أعطى النعمة لا يأخذها، فجحدوا نعم الله عز وجل واستكبروا على خلق الله سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون)

تفسير قوله تعالى: (أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون) قال الله سبحانه: {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الأنبياء:44]. وكأنه هنا يذكر الكفار بقدرة الله سبحانه على تبديل الأحوال، من حال إلى حال آخر، وهم يرون تنازع الفرس والروم على الأرض، وهما أكبر بلدين موجودين وأكبر إمبراطوريتين. قال تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم:2 - 4]. والله عز وجل يأتي بجنود من مكان فيغلبون الجنود الذين في المكان الآخر، وتصبح الأرض التي في يد الأول بيد الثاني، فتقصر الأرض من جهة وتطول من جهة، أفلم يرَ الكفار مثل ذلك، بأن الله يأتي الأرض فينقصها من أطرافها؟ فقد يكون الإنسان يملك ممالك كثيرة فيأتي عليه جيش من أعدائه فيأخذ نصف ما بيده أو أكثر، فتضيع مملكته أو كثير منها، وتصير من حق الآخر. فإذا كانت الدنيا دول تدول وتضطرب وتتغير مرة مع هؤلاء، ومرة مع هؤلاء، فمن الذي يعصمكم أنتم من الله؟ فقد تطاولتم وكنتم في النعم، أفلا تخافون أن يأخذ الله عز وجل منكم هذه النعم؟ فكأنه يذكرهم بالنظر إلى ما حولهم، من أن الأرض قد يملكها إنسان ثم فجأة يأخذها غيره، والعرب كانوا يعرفون ذلك حين يغير بعضهم على بعض، وتغير القبيلة على قبيلة ثانية وتأخذ ما بأيديهم، ثم ترجع الثانية تغير عليهم وتسترد ما أخذوه، فتكون الأموال بأيديهم ثم فجأة تصير إلى آخرين، ثم فجأة ترجع إليهم، فتكون الدنيا دولاً فلا يغتر الإنسان بالدنيا التي معه. وهذا معنى من المعاني الواردة في الآية، فكأن معنى: {نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد:41]. أي: بالقتل والسلب والغصب وأخذ أموال البعض وإعطائها للبعض الآخر. فهذه آية كانوا يرونها أمامهم. وقالوا: إن من معاني هذه الآية: {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الأنبياء:44]. إن الأرض كلها كفر، ثم ظهر الإسلام، وبدأ الإسلام غريباً، ثم زاد الإسلام وزاد جنوده، إلى أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ثم جاء الجهاد في سبيل الله سبحانه وانتصر المسلمون على الكفار، وفتحت الأرض أمامهم، فزادت أرض المسلمين وقلت أرض الكافرين، ثم فتح المسلمون مكة، وفتحوا ما حولها من البلدان، ودانت لهم الحجاز جميعها، ثم توجهوا إلى الشام فاتحين، ثم توجهوا إلى الجنوب وإلى الشرق وإلى الغرب، وفتح الله عز وجل من فضله ومن كرمه على المسلمين؛ فأصحاب هذا القول يرون أن الآية نزلت في مكة قبل الفتوحات. والقرآن صالح لكل زمان ومكان، والله عز وجل يأتينا بالمعنى الذي يفهم في وقت على معنى، وهو معنى صحيح، ثم يجد الأمر، ويجد أمراً أمامه، فيقول للكفار الموجودين: {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الأنبياء:44]، فيجدون بعد النبي صلى الله عليه وسلم أن البقاع التي في أيدي المسلمين تزيد، والتي في أيدي الكفار تقل، ولا يزال الأمر كذلك إلى أن يأتي أمر الله سبحانه، ولا يترك الله عز وجل بيت حجر ولا مدر إلا ويدخله هذا الدين العظيم، وهذا معنى من المعاني.

الإعجاز العلمي في قوله تعالى: (أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها)

الإعجاز العلمي في قوله تعالى: (أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها) وعلماء الفلك لهم معنى آخر إضافة إلى ذلك، وهو ليس إلغاء لهذا المعنى؛ لأن المعنى الذي ذكروه هو معنى عُرف الآن، ولم يكن معروفاً من قبل ألف وأربعمائة سنة، فهم الآن حين يكتشفون شيئاً، فهذا دليل على أن هذا القرآن العظيم معجز، فهو في كل وقت يفهم على معنى صحيح موجود فيه، ولا يأتي معنى يلغي معنى آخر، فلا يكون المعنى الذي اكتشفه العلم الآن يلغي المعنى القديم، وإنما المعنى القديم على ما هو موجود، وهو معنى صحيح. فعلماء الفلك يقولون في قوله تعالى: {أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الأنبياء:44]، إن الأرض يحدث لها انكماش دوري، فعندما تنفجر البراكين في داخل الأرض تخرج الغازات من داخلها، وتخرج المواد الموجودة في داخل الأرض، فيصير مكان البركان فارغاً في الداخل فتنكمش الأرض على نفسها. وهذا كلام الدكتور زغلول النجار، وكلامه جميل جداً في هذه الآيات الكونية، ففي كلامه أشياء عظيمة جداً وجميلة، وتفسيرات جميلة. وإن كنا نقول: إنه ليس معنى كون هذا التفسير صحيحاً أنه يلغي التفسير الماضي؛ لأنه لا يمكن أن تكون الأمة منذ ألف وأربعمائة سنة ماضية تفسر هذه الآية على معنى خطأ لا يفهمونه من القرآن، ولكن هي معان صحيحة، وإنما يضاف معنى إلى معنى، ويظهر الله عز وجل ما يجد من أشياء. فيذكر لنا أن الأرض تنكمش على نفسها باستمرار، فنقصانها من أطرافها يكون في انكماشها. ويذكر أنهم اكتشفوا: أن هذه الأرض كان حجمها ألفي مرة قدر حجمها الآن. فهي تنكمش على نفسها شيئاً فشيئاً؛ بسبب البراكين والزلازل وما يخرج منها، فتنكمش الأرض على نفسها بذلك، فهذا معنى من المعاني التي يذكرها علماء الفلك في ذلك. ومن المعاني التي يذكرها علماء الفلك في الآية أنهم يقولون: عوامل التعرية تأكل من قمم الجبال، من الهواء وغيره، وتنزل فيه منخفضات وترفع فيه أخرى، ويقولون: إن وزن العمود الصخري وهذا كلام الدكتور زغلول أيضاً، من مركز الأرض إلى أي نقطة على سطح الأرض لابد أن يكون مستوياً في كتلته مع كل عمود على أطراف الأرض جميعها. فإذا جاءت عوامل التعرية وأخذت من فوق الجبال ونزلت على المنخفضات، فإنه يحصل نوع من عدم التساوي. يقول: ولو طغى الأمر على ذلك مع دوران الأرض حول نفسها، ودورانها حول الشمس فإن القوة الطاردة المركزية تطير الأشياء التي هي أثقل وزناً حتى تعود الأرض إلى ما كانت عليه ويجعل الله عز وجل شيئاً آخر عوضاً عما ذهب بسبب عوامل التعرية، وهي البراكين التي تخرج من الأرض، فتعيد التوازن إلى سطح الأرض مرة ثانية، فهذا إنقاص للأرض من مرتفعات، وإعلاء لمنخفضات غيرها، فيتغير الأمر، وتتساوى كل الأعمدة الصخرية التي في الأرض. وهذا معنى من المعاني التي يذكرها علماء الفلك. ثم يقول الله عز وجل: {أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الأنبياء:44]؟ يعني: إذا رأوا أننا نصنع ذلك بالجبال، ونصنع ذلك بالبراكين التي لا يقدرون أن يقاوموها، ونصنع ذلك بالأرض فنجعلها دولاً للناس مرة في يد فلان ومرة في غيره، أفهم يغلبوننا؟ وهم قد أشركوا بالله تبارك وتعالى، ولا يملكون لأنفسهم شيئاً، وهو الذي يملك هذه القدرة العظيمة، أفهو الذي يغلب؟ قال تعالى: {أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الأنبياء:44]؟ و A مستحيل أن يكونوا هم الغالبين، وقد رأينا كيف صنع ما صنع بهؤلاء المتكبرين.

تفسير قوله تعالى: (قل إنما أنذركم بالوحي)

تفسير قوله تعالى: (قل إنما أنذركم بالوحي) ثم قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} [الأنبياء:45]. أي: بهذا القرآن، الذي جاء بالمواعظ، وجاء فيه التهديد والوعيد، وجاء فيه التشريع من رب العالمين، وجاء فيه التذكرة بقصص الأولين، وما يكون من أمر الساعة. قال تعالى: {إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ} [الأنبياء:45]. يقول الله للنبي صلى الله عليه وسلم: إن هؤلاء صمت آذانهم فلا يسمعون، ولن ينتفعوا بهذا الدعاء الذي تقوله. يقول تعالى: {وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ} [الأنبياء:45]، أي: دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء، فهم مثل الأصم، ومهما ناديت الأصم من قريب أو من بعيد لا يسمعك، وكذلك هؤلاء في آذانهم وقر، فلا يسمعون ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم سمع إجابة. وهذه قراءة الجمهور: {وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ} [الأنبياء:45]. وقرأ ابن عامر: (ولا تسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون)، يعني: أنت لا تسمع الأصم. والصم: جمع الأصم. فلا تسمع هؤلاء الذين لا يسمعون ولا ينتبهون إليك، طالما أن الله غلف على قلوبهم، فهم لا يفقهون ولا يفهمون.

تفسير قوله تعالى: (ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك)

تفسير قوله تعالى: (ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك) قال تعالى: {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ} [الأنبياء:46]. والنفخة الشيء اليسير، ومنها نفحة المسك. فلو أن شيئاً من عذاب الله عز وجل مس هؤلاء لصرخوا وقالوا: {يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء:46]، أي: لئن مسهم شيء يسير من عذاب الله؛ ليقولون معترفين بظلمهم: {يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء:46]. ولكن قولهم هذا لا يقولونه إلا عندما يأتيهم العذاب، وإذا جاءهم العذاب لا ينفعهم هذا القول مهما ندموا ومهما تابوا.

تفسير قوله تعالى: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة)

تفسير قوله تعالى: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة) قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء:47]. ويوم القيامة يعرض ويظهر ما كان خفياً في الدنيا. وأعمال العباد التي كانت معنوية صارت مجسدة حقيقية يوم القيامة، وتوضع فوق الميزان، وكل إنسان له ميزانه، قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء:47]، أي: الموازين العادلة، والموازين جمع ميزان. والقسط مصدر، ولذلك يوصف به المفرد، فيقال: الميزان القسط، ويوصف به المثنى، فيقال: الميزانان القسط، ويوصف به الجمع فيقال: الموازين القسط؛ لأن القسط مصدر، فيوصف به في الإفراد والتثنية والجمع بنفس الصورة. قال تعالى: ((وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ)). {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} [الأنبياء:47]. وحبة الخردل أقل الحبوب وزناً. قرأها نافع وأبو جعفر (وإن كان مثقالُ)، وقرأها الجمهور: ((وإن كان مثقالَ حبة))، أي: وإن كان عملك مثقال حبة. وعلى القراءة الأخرى: (إن كان مثقالُ حبة من خردل) يكون المعنى: وإن وجد مثقال حبة من خردل. {أَتَيْنَا بِهَا} [الأنبياء:47]، فهذه أقل الأعمال لا يضيعها الله عز وجل، كما قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]. قال سبحانه هنا: {أَتَيْنَا بِهَا} [الأنبياء:47]، أي: أحضرناها في يوم القيامة. {وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]، وأنت لن تقدر أن تحسب ما يحسبه الله سبحانه، ولا أن تعد ما يعده الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: {وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]، أي: نحسب عليكم أعماركم وأعمالكم وأقوالكم ونواياكم، ونحسب عليكم كل ما صنعتم ونحاسبكم ونجازيكم عليه الآن. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الأنبياء [47 - 63]

تفسير سورة الأنبياء [47 - 63] ذكر الله عز وجل قصص الأنبياء والرسل في القرآن العظيم للعظة والاعتبار، والتفكر في آيات الله وسننه في المكذبين لرسله، وحتى يتعظ المؤمن فيصبر في سبيل الله كما صبر الأنبياء والمرسلون، ومن هؤلاء الأنبياء موسى وهارون وإبراهيم عليه الصلاة والسلام.

تفسير قوله تعالى: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة)

تفسير قوله تعالى: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ * وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ * وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ * وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ * قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ * قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} [الأنبياء:47 - 64]. يخبرنا الله تبارك وتعالى في هذه الآيات عن وضع الموازين بالقسط ليوم القيامة، وكل إنسان له ميزان يوزن عليه عمله يوم القيامة، ولذلك جمعها هنا، وذكر أنها الموازين القسط، أي: الموازين العادلة، وقال: إن وضع الميزان القسط يكون في يوم القيامة. يعني: إن الموازين العادلة تكون يوم القيامة، فلا تظلم نفس شيئاً، والنكرة هنا تفيد العموم، أي: إنه لا تظلم نفس من أعمالها ولو شيئاً يسيراً، حتى وإن كان هذا الشيء مثقال حبة من خردل، والخردلة أصغر الحبوب على الإطلاق. قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا} [الأنبياء:47]، أي: جئنا بها يوم القيامة، حسنة كانت أو سئية. {وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] أي: نحسب عليكم ما تفعلونه، ونحاسبكم به يوم القيامة. وجاء في الحديث الذي رواه أحمد والترمذي من حديث عائشة رضي الله عنها أن رجلاً قعد بين يدي النبي صلوات الله وسلامه عليه فقال: يا رسول الله، إن لي مماليك يكذبونني ويعصونني، وأشتمهم وأضربهم، فكيف أنا منهم؟ أي: إن هذا الرجل عنده مماليك فيهم الشرور، فهم يكذبون ويخونون ويعصون سيدهم، وهو يرد ذلك بأن يشتمهم ويضربهم، فهو يسأل عن أمره معهم يوم القيامة، فالرجل خائف من الحساب؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم)، يعني: يوم القيامة. قال: (فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافاً لا لك ولا عليك، وإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلاً لك، وإن كان عقابك فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل). إذاً: فالإنسان الذي يملك مملوكاً ليس مصرحاً له أن يعمل فيه ما يريد، وسيحاسب يوم القيامة على ما عمل فيه، وعلى قدر ما صنع في هذا المملوك الذي يملكه. وكذلك الحيوان الذي يملكه الإنسان إذا ضربه بقسوة وشدة، فيوم القيامة يأخذ الله عز وجل هذا الإنسان، ويحاسبه على ما صنعه بالحيوان، بل إن الحيوانات يقتص الله عز وجل لبعضها من بعض، فيقتص للجلحاء من ذات القرن يوم القيامة. فلما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك للرجل، تنحى الرجل فجعل يبكي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما تقرءون كتاب الله؟ أما قرأت هذه الآية: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [الأنبياء:47]، فقال الرجل: والله يا رسول الله ما أجد لي ولهؤلاء شيئاً خيراً من مفارقتهم، أشهدك أنهم أحرار)، فتخلص منهم بهذه الصورة، وحررهم لله عز وجل، وكان من الممكن أن يبيعهم ويأخذ ثمنهم، ولكن الرجل خاف من الموقف العظيم بين يدي الله عز وجل، ولم يعلم هل الشتم والضرب أكثر أم الذي فعلوه أكثر؟ فحررهم وتخلص من أمرهم. فعلى الإنسان الذي ينظر في غده، ويخشى من حساب يوم القيامة، فيحاسب نفسه على كل عمل عمله، فيوم القيامة توضع الموازين بالقسط، فلا رشوة ولا مجاملة لأحد، ولكن إن كان العمل صالحاً نجا، وإن كان سيئاً هلك، فعلى الإنسان أن ينظر في أعماله، فإنه سيحاسب عليها يوم القيامة. وكم من إنسان يضحك ويلعب ويلهو، وينسى الموقف يوم القيامة بين يدي الله عز وجل، وأنه سيسأل عن مثقال الذرة. قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]. فقد ينطق بالكلمة لا يلقي لها بالاً تهوي به في النار سبعين خريفاً؛ لأن هذه الكلمة تغضب الله تبارك وتعالى. وقد ينسى الإنسان فيمزح بكلمة ويظن أنها سهلة، وهي عند الله عظيمة، وهذه السيدة عائشة تقول للنبي صلى الله عليه وسلم: (حسبك من صفية أنها كذا، تشير بأنها قصيرة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته) يعني: أنها كلمة في غاية المهانة والقذارة، لو مزجت بماء البحر -الذي هو الطهور ماؤه الحل ميتته- لمزجته أي: لخلطت ماء البحر وأفسدته، ولو أن الإنسان اطلع على الغيب لرأى هول ما يقوله ويقع فيه من آثام وشرور، فليحاسب الإنسان نفسه على ما يقول، وعلى ما يظن، وعلى ما ينوي، وعلى ما يفعل. قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا} [الأنبياء:47] أي: حفظناها يوم القيامة. {وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] أي: وكفى بنا حاسبين على الإنسان يوم القيامة. وعندما يعترض المنافق على ربه سبحانه ويأبى ألا يشهد عليه أحد إلا من نفسه، ينطق الله عز وجل جل أعضاءه فتنطق أعضاؤه بما كان يصنع في الدنيا، فتنطق اليدان والرجلان، وتنطق جميع حواسه فإذا به يدعو على نفسه وعلى أعضائه يقول: سحقاً لكن فعنكن كنت أناضل، أي: كنت أدافع عنكن، فسحقاً لكن.

تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان)

تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان) يقول الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} [الأنبياء:48]. ذكر هنا موسى، وقد ذكر ربه كثيراً، وبينه وبين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أنبياء كثيرون، ولكن منهم من قص الله عز وجل علينا قصته، كالمسيح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ومنهم من لم يقصه الله عز وجل لنا. فبين موسى وبين محمد صلى الله عليه وسلم أنبياء كثيرون من بني إسرائيل، وقد كانت طبيعة بني إسرائيل أنهم لا ينقادون لأحد إلا أن يكون نبياً من عند الله عز وجل يوجههم ويهديهم، فهم مثل الخراف الضالة يحتاجون إلى الراعي دائماً، ولذلك لما جاء المسيح عليه الصلاة والسلام قال: (إنما بعثت إلى خراف بني إسرائيل الضالة). وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم رسولاً لكل الأمم، للإنس والجن صلوات الله وسلامه عليه، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] فموسى تكرر ذكره باعتباره صاحب شريعة، والقرآن شريعة عظيمة، بل أعظم شرائع رب العالمين، وأعظم كتب رب العالمين، وهو المهيمن على ما قبله، والشاهد على ما قبله، والناسخ لكل ما قبله. وقد أوتي موسى الكتاب، وأوتي التوراة، فكانت أعظم الكتب في حينه، ثم بعد ذلك ظل من بعده من أنبياء بني إسرائيل يحكمون به، حتى بعث المسيح عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فنسخ الله عز وجل بالإنجيل بعض ما في التوراة فأحل أشياء كانت حرمت عليهم، وجاء بأشياء من عند الله سبحانه وتعالى، وجاء بالإنجيل كتاب مواعظ يعظ الخلق به. فالكتاب الذي يشبه القرآن ككتاب تشريع هو التوراة، فقد كانت التوراة كتاب تشريع، ولذلك كثيراً ما يذكر موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام قدوة للنبي صلى الله عليه وسلم أي: أنه كان صاحب شريعة مثلما أنت صاحب شريعة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم فضل على الرسل، وجعل القرآن مهيمناً على كل الكتب السابقة. وموسى ذكر في القرآن أكثر من مائة وثلاثين مرة؛ لأنه من أولي العزم من الرسل، ولصبره على بني إسرائيل يدعوهم إلى الله عز وجل، فقد صبر عليهم كثيراً، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقتدي به، وإذا أوذي يقول: (رحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر). قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} [الأنبياء:48] فذكر هنا موسى وهارون، والتوراة إنما نزلت على موسى، وهارون أمر بأن يحكم بها، وكان نبياً مع موسى. والفرق بين النبي والرسول: أن النبي يوحى إليه من عند الله عز وجل، ومكلم بالوحي من الله تبارك وتعالى، ومأمور بالتوحيد وتبليغه للناس، وأن ينصح الخلق، ولكن ليست معه رسالة خاصة يدعو الناس إليها. فكان موسى صاحب رسالة وهي: التوراة، وأما هارون فكان يحكم بالتوراة التي نزلت على موسى، فإذاً: هو ليس صاحب رسالة، ولكنه نبي من عند الله، ويوحى إليه من الله تبارك وتعالى، ومعين لموسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام. قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ} [الأنبياء:48] والفرقان: التوراة، وسميت فرقاناً لأن الله عز وجل فرق بها بين الحق والباطل. فقد كانت التوراة كتاب تشريع من عند رب العالمين، وتبين لهم الحلال من الحرام، والخطأ من الصواب، وما يفعل وما يترك. وذكر في الآية: (الفرقان) أي: نصرناه بالتوراة على فرعون وجنوده. قالوا: لأن الله عز وجل ذكر بعد ذلك: {وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} [الأنبياء:48] فيكون المعنى: آتيناه النصر، وآتيناه الكتاب من عند رب العالمين. فعلى هذا القول: يكون الفرقان هو نفسه الضياء، وهو نفسه الذكر من عند رب العالمين. يعني: التوراة هي فارقة بين الحق والباطل، وهي ضياء من عند رب العالمين، وهي ذكر من عنده سبحانه. قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} [الأنبياء:48]، وذكراً أي: تذكرة للمتقين. وقد وصف التوراة هنا بأنها ضياء، والضياء فيه نور ولكن فيه إحراق، وفيه شدة، فقد وضعت عليهم الآصار بتعنتهم، والقرآن وصفه الله عز وجل بأنه نور من عنده سبحانه وتعالى، والقرآن وضع عنا هذه الآصار، وما جعل علينا في الدين من حرج، ولكن في شرع بني إسرائيل كان عليهم الآصار وعليهم الأغلال، حتى إن الرجل إذا بال وسقطت قطرة من بوله على ثيابه لم يؤمر بغسله فقط، وإنما كان يؤمر بقرض جسمه الذي أصابه البول بالمقراض. فلما جاء أحد بني إسرائيل ونهاهم عن ذلك عذب، ورآه النبي صلى الله عليه وسلم في نار جهنم وهو يعذب في النار؛ لأنه نهى بني إسرائيل عن شرع ربنا تبارك وتعالى، فكان عليهم الآصار والأغلال، التي وضعها ربنا سبحانه وتعالى عليهم. قال سبحانه: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157] فما كان على الأمم السابقة من آصار وقيود وأغلال هذا كله مرفوع عنا، وليس في شريعتنا ذلك، فشريعتنا نور من رب العالمين، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]. قال تعالى: {وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} [الأنبياء:48] يعني: الذي إن يتذكر بأحكام رب العالمين هو التقي.

تفسير قوله تعالى: (الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون)

تفسير قوله تعالى: (الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون) قال تعالى: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:49]. فهؤلاء هم الذين تنفعهم الذكرى، وقد قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55] فإذاً: الذكرى لا تنفع أي أحد، وإنما الإنسان المؤمن. وقال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى} [الأعلى:9 - 11]. فلا يتذكر بمواعظ الله عز وجل إلا الإنسان التقي الذي يخاف من الله، ولا يجتنب التذكرة، ويجتنب الموعظة ولا ينتفع بها إلا الإنسان الشقي، {الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} [الأعلى:12]. فهنا يخبرنا سبحانه عن هؤلاء المتقين الذين ينتفعون بالتذكرة، وهم الذين يخشون ربهم بالغيب، ويذكرون الله عز وجل ويخافون منه تبارك وتعالى. ويذكرون بالساعة فيشفقون منها، فيذكرون الله عز وجل في غيبتهم عن الناس فلا ينتهكون محارم الله تبارك وتعالى، وكذلك إذا غابوا عن أعين الناس، فلم يرهم أحد استحيوا أن يقعوا في المعاصي، وخافوا أن ينتهكوا حدود الله وحرماته سبحانه وتعالى. إذاً: فهم في حال حضورهم مع الناس أو غيبتهم عنهم لا يعصون الله سبحانه، ويخافونه سبحانه، والله غيب لم يروه، ولكن عرفوه من آياته وصفاته سبحانه وتعالى، فخافوا منه، فهم يخشون ربهم بالغيب، وهم من الساعة مشفقون، وهم من يوم القيامة خائفون وجلون، وإذا ذكروا بالساعة يبكون ويدعون ربهم سبحانه أن ينجيهم من هول الموقف يوم القيامة. قال تعالى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ} [الأنبياء:50] أي: وهذا القرآن العظيم مثل التوراة، فكما كانت التوراة فرقاناً بين الحق والباطل، كذلك هذا القرآن فرقان من رب العالمين، يفرق به بين الحق والباطل، وهو الذكر المبارك، قال تعالى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ} [الأنبياء:50] أي: ما جاء من عندك، ولا تكلمت أنت به من عند نفسك، ولكنه نزل من عند رب العالمين من السماء، فهذا ذكر مبارك، أي: فيه الخير، وفيه البركة، وفيه الثبوت، فهو ثابت لا يزول أبداً. قال تعالى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ} [الأنبياء:50]، أي: يا معشر العرب، ويا معشر من جاءكم هذا القرآن أفأنتم له منكرون؟ أفتنكرون هذا القرآن العظيم وقد تحداكم ربنا سبحانه بما فيه فلم تقدروا على سورة من مثله، وهو معجز لكم، لا تقدرون على الإتيان بمثله؟ ثم شرع يذكر لنا من قصص الأنبياء على نبينا وعليهم الصلاة السلام.

تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا إبراهيم رشده)

تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا إبراهيم رشده) قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [الأنبياء:51]. وقد ذكر قبل ذلك موسى وهارون ولقد ذكر لنا في هذه السورة الكريمة ستة عشر نبياً بأسمائهم، وذكر فيها السيدة مريم أيضاً، والراجح أنها ليست نبية، وإن كان ربنا أوحى إليها وألهمها، ولكنها ليست نبية، وإنما هي صديقة عليها السلام. وقد ذكر الله عز وجل في سورة الأنعام سبعة عشر نبياً قال تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [الأنعام:83 - 84] وذكر سبعة عشر نبياً بإبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام. وفي هذه السورة ذكر سيدنا إبراهيم ثالث بني، بعد أن ذكر قبله موسى وهارون، وإبراهيم بمعنى: الأب الرحيم بلغتهم، وكان يلقب بأبي الضيفان؛ لأنه كان إذا جاءه ضيف أكرمه كرماً عظيماً نافعاً، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله. قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ} [الأنبياء:51] والرشد: الصلاح وحسن الخلق. فإبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام آتاه الله عز وجل رشده من قبل موسى وهارون، وإن كان الله عز وجل قد ذكر موسى وهارون قبله في هذه السورة، ولكن إبراهيم من قبلهم، وهو وأبوهم على نبينا وعليه الصلاة والسلام. فآتاه الله عز وجل الرشد، فقيل: بمعنى النبوة، وقيل: بمعنى الصلاح، أي: أصلحناه قبل أن يكون نبياً عليه الصلاة والسلام. فكان يجادل ويناظر الناس بعبادتهم لغير الله سبحانه ثم أكرمناه بالنبوة. قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [الأنبياء:51] أي: كنا عالمين أنه أهل لذلك، وأنه مستحق لهذا الصلاح الذي جعلناه فيه، وصالح للنبوة عليه الصلاة والسلام.

تفسير قوله تعالى: (إذ قال لأبيه وقومه)

تفسير قوله تعالى: (إذ قال لأبيه وقومه) قال تعالى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ} [مريم:42] أي: اذكر حين قال لأبيه ذلك. {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء:52] وقد كان أبوه يصنع التماثيل لقومه. وقد كان إبراهيم عليه السلام في محن عظيمةً، وقد ابتلي بكل من حوله عليه الصلاة والسلام، فقد ابتلى في نفسه وفي أبيه وفي ابنه وفي زوجه وفي القوم الذين هم معه، ثم هاجر إلى قوم آخرين ليبتلى فيهم بلاءً عظيماً، وكل هذا البلاء في ذات الله سبحانه وتعالى، ولذلك رفعه ربنا درجةً عظيمة جداً صلوات الله وسلامه عليه، فقربه وجعله خليلاً له. والخليل: الحبيب القريب، فهو أقرب الأحبة. فجعله الله عز وجل له خليلاً، واتخذ محمداً خليلاً، وفضله على جميع الأنبياء والمرسلين، عليهم جميعاً الصلاة والسلام. قال سبحانه: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ} [الأنبياء:52] واسم أبيه آزر، كما قال تعالى في سورة الأنعام: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام:74 - 75]. وقد كان أبو إبراهيم عليه الصلاة والسلام وقومه في العراق، وبعد ذلك هاجر إلى الشام، وكان أهل العراق عباد أوثان، يعبدون التماثيل من دون الله عز وجل، وكان أهل الشام يعبدون الكواكب من دون الله، فناظرهم إبراهيم على ذلك. وكان إبراهيم في كل موطن يصبر صبراً عظيماً، فقد صبر مع أبيه فناظره وجادله ودعاه إلى ربه سبحانه، وفي النهاية قال له أبوه: {أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:46 - 47]، فناظر أباه باللطف، قال تعالى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم:42 - 45]. ففي كل دعوة يدعوه بقوله: يا أبت، تحنناً وتقرباً لأبيه وتلطفاً معه، لعل أباه يستجيب، فما كان من الأب إلا أن نهره؛ لأنه صانع التماثيل لقومه، فلما يئس منه إبراهيم: {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم:47] وتركه، وقال: لن أتركك من دعوتي، وسأدعو ربي سبحانه تبارك وتعالى لعله يستجيب لي، {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:47]، أي: مكرماً لي، فلعله يستجيب لي. ودعا قومه إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، قال سبحانه: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء:52] والتمثال: اسم موضوع لما مثل، وهو الذي يصنعه الإنسان على هيئة الشيء ومثاله، فيقال: مثلت الشيء بمعنى: أني مثلته بشيء آخر، وجعلته مثله، فكانوا يصنعون التماثيل، ويعبدونها من دون الله سبحانه، وكانت هذه التماثيل على هيئة أشخاص.

تفسير قوله تعالى: (قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين)

تفسير قوله تعالى: (قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين) قال تعالى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء:52] أي: ملازمون لعبادتها، ومستديمون ومقيمون عليها {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} [الأنبياء:53] وهكذا الإنسان الذي ليس عنده حجة يقول: إن أباه كان يفعل هذا الشيء. فهم قالوا: {وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} [الأنبياء:53] أي: فنحن نعمل مثل آبائنا، وكأنهم كانوا يظنون أن آباءهم أفضل منهم، فكانوا يعملون ما يعمله آباؤهم من غير تفكير. {قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنبياء:54]، أي: لا أنتم ولا آباؤكم على هدى، وكلكم في ضلال مبين، وفي خسران وجرم عظيم. {قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} [الأنبياء:55]، أي: هل هذا جد أم أنك تمزح معنا وتعلب؟ {قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [الأنبياء:56] ربكم الحقيقي المستحق للعبادة هو الذي خلق السماوات والأرض. (الَّذِي فَطَرَهُنَّ): أي: أوجدهن على غير مثال سابق، وابتدأ خلقهن ولم يكنَّ قبل ذلك. وفطر الشيء أي: ابتدع خلقه، والله عز وجل خلق السماوات والأرض من العدم، وبدأ خلقهن تبارك وتعالى. {وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [الأنبياء:56]، أي: أنا أشهد بقدرة الله سبحانه، وأنه رب السماوات والأرض، وأنه يستحق أن يعبد وحده. {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} [الأنبياء:57]، يعني أنه لم يكتف بالإنكار بلسانه، وإنما أنكر أيضاً بيده، ويقسم {وَتَاللَّهِ} [الأنبياء:57]، وتاء القسم تختص بالله عز وجل وحده، ولا يوجد قسم بالتاء يكون لغير الله تبارك وتعالى، فهي مختصة به وحده لا شريك له، وأما الواو فتدخل على الاسم الظاهر، والباء يقسم بها في الظاهر والمضمر. قال الله سبحانه هنا على لسان إبراهيم: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ} [الأنبياء:57] يعني: لأمكرن ولأصنعن بهم شيئاً حتى أريكم أن هؤلاء ليسوا أهلاً لأن يعبدوا. فقال: {بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} [الأنبياء:57]، أي: عندما تذهبون إلى العيد، فهناك سأتوجه إلى الأصنام وأكيد بها.

تفسير قوله تعالى: (فجعلهم جذاذا)

تفسير قوله تعالى: (فجعلهم جذاذاً) قال تعالى: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:58]. قال المفسرون: كان لهم عيد في كل سنة يخرجون فيه خارج المدينة للعب والمرح، ويرجعون بعد ذلك إلى أصنامهم، فإبراهيم عليه الصلاة والسلام انتظر ذلك، فقوله: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} [الأنبياء:57] أي: بعد أن تخرجوا للعيد سأتجه إلى الأصنام لأحطمها، وكأنهم أرادوا من إبراهيم أن يخرج معهم إلى عيدهم؛ لعله يهتدي بحسب ظنهم وزعمهم، فلما شدوا عليه أن يخرج معهم قال: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89] أي: أنا مريض لا أقدر على أن أخرج معكم، فذهبوا وتركوه فتوجه إلى أصنامهم، {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا} [الأنبياء:58]، أي: كسرهم قطعاً، وهذه قراء الجمهور، وقراءة الكسائي: (فجعلهم جِذَاذاً)، بمعنى: كسراً وحطاماً. {إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ} [الأنبياء:58] وقد كانت الأصنام مرتبة، فالصنم الأكبر أولاً وبعده الأصغر فالأصغر فالأصغر، وكان القوم لما أرادوا أن يخرجوا أتوا بأطعمتهم إلى هذه الأصنام، من أجل أن تبارك لهم فيها بزعمهم، وتركوا طعامهم عند الأصنام حتى يرجعوا ليأكلوه بعد أن تحل فيه البركة بزعمهم. وذكر الطبري وابن أبي حاتم عن السدي قال: رجع إبراهيم عليه السلام إلى آلهتهم فإذا هي في بهو عظيم، أي: فناء عظيم أو في صالة عظيمة، وإذا مستقبل باب البهو صنم عظيم إلى جنبه أصغر منه، بعضها إلى جانب بعض، وإذا هم قد جعلوا طعاماً بين يدي الأصنام يظنون أنها ستبارك لهم فيه، وقالوا: إذا رجعنا وجدنا الآلهة بركت في طعامنا فأكلنا. فلما نظر إليهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام قال: {أَلا تَأْكُلُونَ} [الصافات:91] يكلم الأصنام ويسخر منها، أي: هم قد وضعوا لكم الأكل من أجل تأكلوا. {مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ} [الصافات:92]، أي: لماذا لا تتكلمون ولا تردون، {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} [الصافات:93] فكسر رءوسهم بيمينه، وترك الكبير، وعلق فيه الفأس. قال تعالى: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:58] أي: يتعظون ويقولون: إن هذا الكبير هو الذي كسر الصغار من أجل أن يبقى هو وحده الإله. فلما رجعوا من العيد ورأوا الأصنام {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:59] أي: من الذي عمل هذا بآلهتنا {إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:59]. {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:60] وكأن إبراهيم قال لهم: إني سقيم وسأرجع، وكأنه جهر وقال: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} [الأنبياء:57] وظن أنهم لم يسمعوه، وقد سمعه بعض ضعفائهم، أو بعض من كانوا حوله، فشهدوا عليه {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:60] أي: شاباً يقال له إبراهيم قالوا: كان عمره ستاً وعشرين سنة في هذا الوقت. {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} [الأنبياء:61]، يعني: كأن الملك -وهو النمرود - يريد أن يحقق العدالة، فقال: هاتوه وأتوا بالشهود أمام الناس لعل الناس يشهدون عليه، من أجل ألا نظلمه ولا نعاقبه من غير شهادة، فيشهدون بأنهم رأوه وهو يكسر الأصنام. {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ} [الأنبياء:61] أي: أمام الناس يرونه، لعلهم يشهدون عليه.

تفسير قوله تعالى: (قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا)

تفسير قوله تعالى: (قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا) {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:62] وهذا سؤال تحقق هنا: {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:62]؟ فكان A { قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} [الأنبياء:63] أي: انظروا إلى الفأس أين هو؟ فالصنم الكبير هو الذي عمل هذا العمل. {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:63]. وكأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام يعلق شيئاً على شيء، وهذا من معاريض الكلام، ومن التورية في الكلام، وهو أن يأتي بكلمة لها معنيان: معنى قريب، ومعنىً بعيد؛ فكأن إبراهيم يقصد في الكلام: إن نطق هؤلاء فهذا هو الفاعل ولكن هؤلاء لا ينطقون، فليس هذا هو الفاعل. فكأنه يقول لهم: من الذي يفعل هذا؟ وهؤلاء لا ينطقون، فهل هذا هو الذي يصنع ذلك؟ فإن نطق فهو الفاعل. هذا قول من الأقوال التي ذكروها في هذه الآية. وقال الكسائي: إنه يوقف هنا: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ} [الأنبياء:63]، ثم يستأنف: {كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:63]، فكأنه يقول: بل فعله من فعله، وكبيرهم هذا. وهذا من باب التعريض في الكلام، فهم سيفهمون بأنه فعله كبيرهم هذا، وأنه لا يقصد شيئاً آخر غير ذلك. وهو يقصد: فعل ذلك من فعل، وسكت ثم قال: {كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:63]، أي: اسألوا هؤلاء التماثيل، واسألوا هذا الكبير إن كانوا ينطقون {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:63]. وجاء في الأثر عن عمر رضي الله عنه: إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب. يعني إن الإنسان إذا اضطر إلى شيء كما اضطر إبراهيم فله أن يعرض بدلاً من أن يكذب، ففرق بين الكذب، وهو أن يتكلم عن الشيء الخطأ وهو يقصد ما يقول، وبين التورية، وهي أن يتكلم بالشيء ويقصد لازمه، فيتكلم بشيء له معنيان ولا يقصد معناه الصريح وإنما يقصد المعنى الآخر البعيد الذي لا يستحضره السامع، فيظن المعنى الخاطئ. {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:62] وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم هذا كذباً، قال صلى الله عليه وسلم: (لم يكذب إبراهيم صلى الله عليه وسلم إلا ثلاث كذبات، ثنتين في ذات الله، قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89] وقوله: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء:63] وواحدة في شأن سارة). وفي رواية قال: (لم يكذب إبراهيم النبي صلى الله عليه وسلم في شيء قط إلا في ثلاث، قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89] وقوله لـ سارة: أختي، وقوله: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا)) [الأنبياء:63]) إذاً: فإبراهيم كذب ثلاث مرات. والراجح أن هذه الثلاث المرات من التعريض في الكلام ولم يقصد الكذب المحض. والكذب ثلاث مرات في حياته كلها شيء قليل جداً، وهن في ذات الله عز وجل، وقد قال الحديث: إنهن كن في ذات الله سبحانه، ولم يكذب لنفسه، ولما كان هذا النبي عليه الصلاة والسلام مرتبته عند الله مرتبة عظيمة جداً، فإنه لما كذب ثلاث مرات كأنه نزل عن هذه المرتبة قليلاً، فتقدم عليه نبينا صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه لم يكذب أبداً صلوات الله وسلامه عليه. وعندما يؤتى إلى إبراهيم يوم القيامة، ويقال له: اشفع لنا أنت خليل الرحمن، يقول: (أنا خليل ومن ورائي خليل، ويذكر كذباته الثلاث). ويخاف من ذلك يوم القيامة. وأما نبينا صلى الله عليه وسلم فلم يعرض على شيء لا من كذب ولا غيره، ولا ينطق إلا بحق، سواء في جده أو في هزله صلى الله عليه وسلم، حتى في ضحكه مع الناس، فكان لا ينطق إلا بالحق، صلى الله عليه وسلم. فلذلك يوم القيامة يتقدم ويقول: (أنا لها، أنا لها) صلوات الله وسلامه عليه. ومقام النبوة مقام عظيم جداً، فعندما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لم يكذب إبراهيم صلى الله عليه وسلم النبي إلا ثلاث كذبات: ثنتين في ذات الله، قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89]) يعني: أنه مريض، فكأنه يقول: قلبي سقيم ومريض مما أراكم عليه من الشرك، فعدت كذبة. (وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء:63]) وتأويل هذا: بل فعله كبيرهم إن كان يفعل ذلك فهو الذي فعل، ولكن كأنه لا يفعل، فليس هو، أو بل فعله من فعله وكبيرهم هذا، يعرض في ذلك. وعلى كل سميت هذه الكذبة الثانية. (وواحدة في شأن سارة)، ولم يجعل هذه في ذات الله، وإن كانت حقيقتها أنها أيضاً في الله عز وجل، لأنه له فيها نصيباً؛ فإنه لما جاء مع سارة إلى مصر وكان يحكمها جبار من الجبابرة قيل له: إنه دخل رجل اسمه إبراهيم ومعه امرأة هي من أجمل الخلق ومن أجمل نساء الناس، وكانت سارة من أجمل النساء؛ فسأله الجبار: من هذه؟ فلو قال امرأتي لقتله، فلذلك عرض إبراهيم في الكلام وقال: أختي، وقال لها: (إني قلت له: إنك أختي، فلا تكذبيني، أو فلا تكذبينني)، من أجل أن يحمي نفسه من القتل لعله يبلغ رسالة الله سبحانه وتعالى، وقد عدت هذه كذبة، وإن كان مضطراً إليها. ومن الممكن أن يقال: هذه أيضاً في الله عز وجل، وإنها بلاء ابتلي بها في الله، ولكن إبراهيم لعظيم منزلته عدت عليه هذه الثلاث كذبات. وقد يصنع الأنبياء والمرسلون أشياء قد تكون إحساناً من غيرهم، ولكنهم قد يلامون على هذا الشيء، فجعلت هذه ثلاث كذبات لإبراهيم من هذا الباب. وقيل: بل وأخرى رابعة ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر، وهي قوله: هذا ربي، لما ناظر أهل عبادة الكواكب، فإنه فلما جن عليه الليل ورأى كوكباً قال: هذا ربي، وإن كان إبراهيم يقصد إن هذا ربي في زعمكم، أي: أنكم تزعمون أن هذا ربي. وقد كتبت عليه هذه من ضمن الكذبات، وإن كان قالها وقت المناظرة لهؤلاء. يقول العلماء: الكذب: هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه. وإبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يقل هذا من باب الكذب، وإنما قاله من باب التعريض، أي: أنه يذكر الكلمة التي تحتمل أكثر من معنى، ويقصد معنى بعيداً والسامع يظن المعنى القريب. والغرض: أنه قال لهم: {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} [الأنبياء:64]. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الأنبياء [52 - 77]

تفسير سورة الأنبياء [52 - 77] لقد جعل الله تعالى إبراهيم عليه السلام أمة لتوفيته بمراتب العبودية لربه، وقد ابتلي إبراهيم في ذات الله بلاء شديداً فصبر وصابر وجاهد فأفلح، وقد أقام الحجة على قومه عبدة الأوثان بأبرع أسلوب، وجعلهم يعملون فساد أمرهم، لكن الكفر يعمي البصائر، فنكسوا وعاندوا وأبوا إلا الكفر والنار، وتحريق إمام الأبرار، وهيهات هيهات أن يغلبوا من كان الله عضده ونصيره.

حجة المشركين قديما وحديثا

حجة المشركين قديماً وحديثاً الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الأنبياء: {فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ * قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} [الأنبياء:64 - 70]. ذكر الله عز وجل في هذه الآيات وما قبلها قصة إبراهيم - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - مع أبيه وقومه وهم يعكفون على التماثيل والأصنام، فأنكر عليهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام وقال: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء:52] قالوا محتجين بغيرهم من المشركين، - أي: بصنيع الآباء -: {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنبياء:53 - 54] وكأنهم حين يقولون: وجدنا آباءنا، قد أتوا بحجة في نظرهم، وهي أن الآباء خير من الأبناء، فكأنهم يقولون: آباؤنا خير منا يفهمون ما لا نفهم، فنحن نقلدهم، فكان جواب إبراهيم: {لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنبياء:54]. ونفس الجواب كان يقوله النبي صلى الله عليه وسلم للمشركين، عند قولهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23] فيقول لهم: {أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف:24]. قالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه يسب الآلهة ويسفه الآباء ويفرق بين المرء وأقربائه، صلوات الله وسلامه عليه، يعني: أنهم يرفضون هذا الدين. فالمشركون كانوا يعظمون الآباء، ولذلك ذهب رجل من المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يحتج عليه، فيقول له: أسألك بالله أأنت خير أم عبد المطلب؟ يعني: يريد أن يحرجه في الكلام، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم! وكأن الرجل يريد عند سؤاله ذلك أن يقول له النبي صلى الله عليه وسلم: أبي خير مني؛ لأن عادتهم إذا سئل أحدهم: أنت أحسن أو أبوك؟ أن يقول: أبي، فإن ظفر بهذا الجواب من النبي صلى الله عليه وسلم سيقول له: أبوك كان يعبد الأصنام وأنت لا تعبدها، أفأنت أحسن من أبيك؟ فيريد أن يلزمه بما ليس لازماً له، فلذلك لم يجبه النبي صلى الله عليه وسلم أصلاً عن هذا الهراء الذي يقول. فالمشركون ليست عندهم حجة عقلية ولا نقلية، فلذلك كان احتجاجهم {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا} [الزخرف:23]، فنحن نقلد آباءنا وآباؤنا خير منا، فلذلك يجيبهم إبراهيم بهذا A { كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنبياء:54]. ثم قال الله عن المشركين: {قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} [الأنبياء:55] أي: هل أنت تتكلم جاداً أو مازحاً؟ {قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [الأنبياء:56] أي: الذي فطر وخلق السماوات والأرض وابتدعهن وأنشأهن ولم يكن موجودات قبل ذلك، فالله تبارك وتعالى هو الذي فطرهن وأنا أشهد بأنه هو الرب الواحد لا شريك له.

كيد إبراهيم للأصنام

كيد إبراهيم للأصنام ثم قال لهم: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء:57] قالها إبراهيم في نفسه ولكن سمعها البعض الذين شهدوا عليه بعد ذلك. قوله: {بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} [الأنبياء:57] أي: حين تخرجون إلى عيدكم. فخرجوا إلى عيدهم وجعلوا الطعام تحت الأصنام لتبركها بزعمهم فإذا بإبراهيم يتوجه إلى هذه الأصنام فيخاطبهن: ما لكم لا تأكلون؟ ما لكم لا تنطقون؟ {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ * فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} [الصافات:93 - 94] أي: فأقبلوا على إبراهيم مسرعين إليه، لما جعل هذه الأصنام جذاذاً إلا كبيراً لهم على ما ذكرنا. فسألوا: من فعل هذا بآلهتنا؟ فأجاب من سمع إبراهيم: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ} [الأنبياء:60 - 61] أي: أتوا بإبراهيم عليه السلام وسألوه: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:62 - 63]. فعرض بالكلام الذي فهموا منه أن الذي فعل ذلك هو كبيرهم، وكأنه يقول لهم: هل الكبير يفعل هذا الشيء في الأصنام الصغيرة؟ والمعنى: أنه تعليق بالمستحيل، أي: أن هذا الكبير لو كان ينطق لكان هو الذي فعل ذلك، والحال: أنه لا ينطق، فيكون ليس هو الذي فعل هذا. أو على تفسير الكسائي ووقفه: (بل فعله، كبيرهم هذا إن كانوا ينطقون)، وهنا كأنه يرى الوقف على قوله: (بل فعله) يعني: فعله من فعله، أو الذي فعله فعله، فاسألوا الكبير إن كانوا ينطقون، وهم لا ينطقون، فحيرتهم هذه الكلمة من إبراهيم عليه السلام. وقوله تعالى: {فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ} [الأنبياء:64] أي: كأنهم استاءوا قليلاً من عدم تكلم آلهتهم، وكيف تُعبد هذه الأصنام، فرجعوا إلى أنفسهم ثم قالوا فيما بينهم: {إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} [الأنبياء:64] أي: نحن الذين ظلمنا وأخطأنا بترك هذه الأصنام - التي لا تقدر أن تدافع عن نفسها - من غير حراسة لها، فهنا كأنهم يشهدون على أنفسهم بأنهم على باطل، وكأنهم يقولون: لم تعبدون هذه الأصنام التي لا تنفع ولا تضر؟ وقوله تعالى: {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ} [الأنبياء:65] يعني: بعدما استاءوا قليلاً لأن أصنامهم لا تستطيع حراسة نفسها، فكأنهم قالوا: كان المفروض أن نحرسها نحن، ومعنى: (نكسوا): قلبوا. وقوله تعالى: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ} [الأنبياء:65] كأن المعنى: هذه الأصنام لا تنطق وأنت تعرف ذلك ونحن أيضاً نعرفه، يعني: لست وحدك الذي تعرف ذلك، ولكن نكسوا على رءوسهم كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، كأن العقول ذهبت فلا يفهم أصحابها ما يقولون فيجادلون فيما لا يفهمون؛ لأنه لا عاقل يقول هذا الكلام، فهم يقولون لإبراهيم: (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ)، إذاً: فطالما أنها لا تنطق لماذا تعبدونها من دون الله سبحانه؟! فنكسوا على رءوسهم فإذا بهم لا يفهمون.

تفسير قوله تعالى: (قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا)

تفسير قوله تعالى: (قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئاً) وقوله تعالى: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ} [الأنبياء:66]. يعني: إذا كانت هذه الأصنام لا تنطق ولا نفعت نفسها أفتنفعكم أنتم؟! ولو بشيء بسيط. وقوله: ((مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا)) (شَيْئًا): نكرة في سياق النفي فتعم كل شيء، بمعنى: أقل الأشياء وأحقرها لا تقدر أن تنفعكم به. وقوله: {وَلا يَضُرُّكُمْ} [الأنبياء:66] أيضاً شيئاً. وقوله: {أُفٍّ لَكُمْ} [الأنبياء:67] كلمة أف يقولها الإنسان الذي يشم رائحة منتنة، فكأن المعنى: أف من هذا الشيء الذي تعبدونه. وفي قوله تعالى: {أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء:67] ثلاث قراءات هذه أولها، وثانيها: ((أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ)) [الأنبياء:67]، وثالثها: ((أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ)) فكأنه متأفف ضجر منهم ومن نتنهم وخبثهم في عبادتهم غير الله تبارك وتعالى. قوله: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:67] أي: أين ذهبت عقولكم؟!

تفسير قوله تعالى: (قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم)

تفسير قوله تعالى: (قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم)

لجوء الجبابرة إلى القوة عندما تغلبهم الحجة

لجوء الجبابرة إلى القوة عندما تغلبهم الحجة وقوله تعالى: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ} [الأنبياء:68]. هنا منطق القوة لا منطق العقل، ودائماً من كان على الكفر عندما يغلب لا يعرف النقاش، وإنما يقوم في النهاية ليرد بالقوة. والمعنى: انصروا الآلهة بإحراقه يعني: انتصروا لآلهتكم ولو بأشنع طريقة، وهي قتل إبراهيم عليه السلام. فقاموا يجمعون لإبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام الحطب لإحراقه وأحضروا له حاجات يحرقونه فيها. روى الطبري فيما ذكر عن السدي قال: فلما رجعوا جمعوا لإبراهيم الحطب، حتى إن المرأة لتمرض فتقول: لئن عافاني الله لأجمعن لإبراهيم، على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فأخروه حتى جمعوا له حطباً كثيراً لكي يحرقوه حريقاً مضنياً، والمقصود من هذا كله قتلة شنيعة لإبراهيم عليه السلام، لكي لا يقول أحد آخر مثلما يقول إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام. فأخروا إبراهيم حتى جمعوا هذه الأحطاب، فلما جمعوا له وأكثروا من الحطب وأرادوا إحراقه، هنا ظهرت القدرة الربانية، فكل الكون يريد أن يطفئ هذه النار عن إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه.

الاعتماد على الله وحده

الاعتماد على الله وحده وإبراهيم لا يستنصر إلا بالله سبحانه وتعالى، روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار). ولاحظ قوله: (حين ألقي في النار) فإنهم لم يستطيعوا أن يقربوه إلى النار ثم يدفعوه فيها؛ لأنها ليست ناراً بسيطة، فلو اقتربوا منها لاحترقوا. فدلهم الشيطان على المنجنيق، وأول ما صنع المنجنيق في هذا الوقت، والمنجنيق: آلة رافعة، فوضعوا فيها إبراهيم عليه السلام وألقته في الجو ليقع في النار. قال ابن عباس رضي الله عنه فيما رواه البخاري: (وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]). فهذه الكلمة كلمة عظيمة، والكون كله يريد أن يدافع عن إبراهيم عليه السلام، السماوات والأرض والدواب والملك المسئول عن المطر، والملائكة التي بين السماء والأرض، فكلهم يريدون الدفع عن إبراهيم عليه السلام، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه ابن ماجة عن عائشة مرفوعاً: (لم تبق يومئذ دابة إلا أطفأت عنه النار، إلا دابة واحدة وهي الوزغ، فإنها كانت تنفخ عليه) وهي نوع من الأبراص، لكنها نوع سام. ولذلك كان يقتلها النبي صلى الله عليه وسلم ويسميها الفويسقة ويأمر بقتلها، يقول ابن عباس: (إلا الوزع كانت تنفخ عليه؛ فلذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلها). وقالوا: كان عمر إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار ستاً وعشرين سنة، صلوات الله وسلامه عليه. وروى البخاري عن ابن عباس قال: كان آخر قول إبراهيم حين ألقي في النار: حسبنا الله ونعم الوكيل. هذه الكلمة العظيمة التي أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين، وقال تعالى: {فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:129]. ومعنى: حسبي، أي: كافيّ، وكأنها جواب من إبراهيم عليه السلام على الكون كله، وكأنه يقول لإبراهيم: ندافع عنك، والجواب من إبراهيم: لا، الله سبحانه وتعالى هو الذي يكفيني وحده فقط، فأنجاه الله تبارك وتعالى. فإذا بإبراهيم حين يلقى في النار يقول: حسبي الله ونعم الوكيل، يريد نصر الله السريع له.

زوال خاصية الإحراق في النار بأمر الله

زوال خاصية الإحراق في النار بأمر الله كأن الملائكة تنتظر للنصرة بأمر الله، إما بأن يفتحوا خزائن السماء للمطر ليطفئ النار أو بغير ذلك، لكن هناك ما هو أعجل من ذلك بكثير، فالنار نفسها تتحول إلى شيء آخر، بقوله سبحانه: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69]. فالنار التي هي محرقة صارت برداً وسلاماً، وأصبحت ناراً من حيث المنظر فقط، مثلما فعل مع سيدنا موسى حين أتى للشجرة، وهي شجرة يانعة مزهرة ناظرة وفيها نار، فلا النار تحرق الشجرة ولا الشجرة تطفئ النار، فأخذ قبساً منها فإذا بها نور لا نار. كذلك هذه النار يحولها الله عز وجل شيئاً آخر، ففي نظر الناس هي نار لكنها كانت على إبراهيم برداً وسلاماً. ولو قال الله: كوني برداً على إبراهيم، لتألم إبراهيم من شدة بردها، ولكن قال: {كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا} [الأنبياء:69] أي: كوني برداً وكوني سلاماً على إبراهيم، فكانت أحلى أيام عمره هي تلك المدة التي مكثها في النار المأمورة. وقوله تعالى: {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} [الأنبياء:70] أي: أرادوا أن يكيدوا لإبراهيم وأن يحرقوه بأفظع وأشنع طريقة، وهي هذه النيران المجتمعة لرجل واحد، فإذا بالله عز وجل ينجي إبراهيم ويقول للنار: {كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] ويجعل هؤلاء هم الأخسرين، أي: أشد الناس خسراناً، بدخولهم نار جهنم والعياذ بالله، كما قال الله: {فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} [الأنبياء:70]. قال تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:71]. أي: أرض البركة، أرض الشام، وهي أرض المحشر، الأرض التي فيها بيت المقدس، وبارك الله عز وجل فيها وجعل فيها المسجد الأقصى، نسأل الله عز وجل أن يحرره من دنس اليهود والمشركين، فجعلها الله أرضاً مقدسة، وفيها الأنبياء، فجعلهم من أرض الشام. فأمر الله إبراهيم أن يهاجر إلى أرض أخرى، وكان في العراق عليه الصلاة والسلام، فهاجر منها إلى الشام بأمر الله عز وجل. قوله: {وَلُوطًا} [الأنبياء:71] ولوط هو ابن هاران، وهاران هو أخو إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فلوط ابن أخيه، فيصير إبراهيم عم لوط عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام. فتوجها إلى الشام، ولكن كل منهما في مكان، فإبراهيم نبي في مكان ولوط نبي في مكان آخر. قوله: {إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:71] أي: فيها بركة من الله عز وجل، في زرعها وثمارها؛ لذلك فهي كثيرة الخصب، ففيها البساتين، وفيها الحقول الخصْبة الكثيرة، وفيها الثمار والأنهار، وبورك فيها أيضاً لأنها موطن الأنبياء، فأكثرهم منها. والبركة معناها: ثبوت الخير، وأصلها من بروك البعير، يقال: برك البعير، إذا نزل على الأرض وثبت عليها، فالبركة الخير الثابت الدائم.

تفسير قوله تعالى: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة)

تفسير قوله تعالى: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة) وقوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} [الأنبياء:72]. الزمن بعيد ما بين القصة الآنفة وبين ((وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ)) فإبراهيم رزق ذلك بعدما جاوز الثمانين أو التسعين سنة عليه الصلاة والسلام، فما بين إلقائه في النار وبين وهبة الله عز وجل له إسحاق ويعقوب ستون سنة أو قريب منها. وهب الله له إسحاق بدعوته، وقبل إسحاق كان إسماعيل على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ولكن إسماعيل كان ابناً له من أمة، أي: ليس من زوجة، من هاجر، وكانت أمة لإبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وزوجته بها سارة، وسارة كانت أجمل نساء العالمين عليها السلام، فرزق منها بعد ذلك إسحاق، وبعد ذلك جاء من إسحاق يعقوب فيصير حفيداً لإبراهيم؛ لذا قال الله في يعقوب: نافلة، فهو سأل الله عز وجل أن يرزقه الولد، فرزقه إسماعيل ورزقه من زوجته على الكبر إسحاق، وأعطاه من غير سؤال يعقوب ((نَافِلَةً))، يعني: ابناً لإسحاق، ويعقوب هو إسرائيل، ومن إسرائيل جاء كل الأنبياء الذين بعده إلا نبينا صلوات الله وسلامه عليه، فجاء من الفرع الآخر لإبراهيم وهو إسماعيل على نبينا وعليه الصلاة والسلام. وقوله تعالى: {وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ} [الأنبياء:72] أي: أنبياء لله عز وجل، فوصفهم بالصلاح، وهم أحق الخلق بأن يكونوا من الصالحين. فكأن الله يقول: جعلنا فيهم الصلاح عامدين، لطاعة رب العالمين، فخلق فيهم القدرة على الطاعة وكل ما يكتسبونه بعد ذلك فهو بتوفيق الله سبحانه. وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء:73] معنى: أئمة، أي: رؤساء في الخير، والمعنى: جعلناهم أئمة يقتدى بهم في أعمال الخير الصلاح. وقوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء:73] أي: أوحى الله عز وجل إليهم عن طريق إنزال الملائكة كيف يعملون الخيرات، وكيف يصلون لله رب العالمين، وكيف يزكون، ووصفهم بقوله: ((وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ)) معناه: في غاية الخشوع وغاية التقرب إلى رب العالمين سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (ولوطا آتيناه حكما وعلما)

تفسير قوله تعالى: (ولوطاً آتيناه حكماً وعلماً) وقوله تعالى: {وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:74]. انظر إلى جمال القرآن، فهذا انتقال من شيء إلى شيء، فانتقل أولاً من قصة موسى وهارون إلى قصة إبراهيم، ومنها إلى قصة لوط، ثم يذكر نوحاً بعد ذلك، فينتقل من قصة لأخرى بطريقة. والانتقال بهذه الصورة من قصة إلى قصة أخرى يسمى في علم البلاغة: حسن التخلص، فينتقل من قصة إلى أخرى من غير أن يقول مثلاً: مشهد جديد، وإنما هي كلها متصلة ببعضها، ويخرج من شيء إلى شيء من غير أن تشعر أنك خرجت ودخلت في شيء آخر. سيدنا لوط عليه السلام هاجر مع إبراهيم من ديار العراق إلى الشام، وكان في طرف الروم يدعوهم إلى رب العالمين سبحانه وتعالى، وكانت سبع قرى في سدوم يدعوهم لوط عليه الصلاة والسلام. وقوله: {وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:74] الحكم: النبوة، فيحكم بين الناس بأمر الله سبحانه وتعالى، وآتاه الله علماً ومعرفة بأمر الدين، وما يقع به الحكم صحيحاً مستقيماً. وقوله تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ} [الأنبياء:74] هنا ذكر الله عن الأنبياء أشياء مختصرة، وقد طول الله قصة سيدنا لوط على نبينا وعليه الصلاة والسلام في الحجر، وكذا في سورة هود وسورة العنكبوت، وذكره بصورة متوسطة في الأعراف، أما في هذه السورة فذكرت بصورة مختصرة، وفي النجم إشارة بسيطة إليها في قوله تعالى: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} [النجم:53 - 55]. فهنا ذكرها في هذه الإشارة؛ لأن القرآن يطيل في مواضع ويقصر في مواضع ويشير في أخرى، فهنا يقول الله لنا: {آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ} [الأنبياء:74] والخبائث: هي إتيان الذكران من العالمين، وذكر الله في الشعراء أنه قال لهم: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء:165 - 166]. وكان جوابهم على لوط: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ * قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ} [الشعراء:167 - 168] أي: أنا مبغض لهذا العمل الكريه الذي تفعلونه. ثم قال: {رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ} [الشعراء:169] فأنجاه الله عز وجل بما دبره له وذكره في سورة الحجر وفي هود قبل ذلك. قال سبحانه وتعالى هنا: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ} [الأنبياء:74] السوء في طباعهم، فهم فسقة خرجوا عن الدين وعن طاعة الله سبحانه وتعالى. وأصل الفسق: الخروج، مثلما تقول: فسقت الرطبة، يعني: خرجت البلحة من قشرتها، فهؤلاء فسقوا، أي: خرجوا عن طاعة الله رب العالمين، فأصبحوا كما أخبر الله بقوله: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} [النجم:53] المؤتفكات هي قرى قوم لوط، يعني: من كانوا أصحاب الإثم والبعد عن الله سبحانه وتعالى، والجريمة الفظيعة التي لم تعمل في الأرض قبل هؤلاء القوم هي إتيان الذكران من العالمين. ولفظ: (أَهْوَى) يشعر بأنه من فوق إلى تحت؛ لأن جبريل رفعها إلى السماء، ثم قلبها على من فيها، وأتبعهم ربهم سبحانه بحجارة من سجيل منضود، وصفها الله بقوله: {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83]. فأهلكهم بهذه الصورة، أي: رفعوا إلى السماء وقلبت بهم أرضهم وأتبعوا بحجارة من نار جهنم، والعياذ بالله. لكن لوطاً ومن معه نجاهم الله عز وجل برحمته سبحانه، كما قال الله: {وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنبياء:75]. (إنه) هنا بمعنى: (لأن)، فأتى الحكم وبعده التعليل، فيكون المعنى: أنجيناه لأنه من الصالحين. أو: أنجيناه بصلاحه عليه الصلاة والسلام، ويوم القيامة ندخله برحمتنا في جنتنا، ونجعله من أهل الشفاعة الذين يشفعون لمن يشاء الله عز وجل. أو معنى: ((أَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا)) أي: وفقناه في الدنيا، فوهبناه النبوة، ويوم القيامة نجعله في الجنة.

تفسير قوله تعالى: (ونوحا إذ نادى من قبل)

تفسير قوله تعالى: (ونوحاً إذ نادى من قبل) ثم ذكر نوحاً على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وهذا سابع نبي يذكر في هذه السورة. قال الله تعالى: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} [الأنبياء:76] أي: من قبل لوط ومن قبل إبراهيم، بل نوح هو قبل الأنبياء على نبينا وعليه الصلاة والسلام وبعد آدم. وقوله: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الأنبياء:76] أي: أن نوحاً دعا قومه ليل نهار، قال ربنا سبحانه وتعالى على لسانه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} [نوح:5 - 7] ولم يقل: جعلوا أناملهم في آذانهم؛ لتصوير مبالغتهم في إعراضهم وعدم إرادتهم السماع. ثم قال: {وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} [نوح:7] أي: غطوا وجوههم بثيابهم. وقال: {وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} [نوح:7] يعني: لا يريدون أن يسمعوه، وأصروا على كفرهم وبعدهم عن الله، واستكبروا استكباراً عظيماً. قال الله سبحانه هنا: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} [الأنبياء:76] أي: بعدما دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، لم يقل: قد كفروا فنتركهم، بل صبر فيهم واستمر ألف سنة إلا خمسين عاماً، وفي النهاية لما كان الآباء يوصون الأبناء بالكفر وعدم الإيمان، ثم الأبناء يوصون من بعدهم، وهكذا، دعا عليهم فقال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح:26] أي: لا تذر على الأرض أحداً من أهلها، لماذا؟ قال: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:27] أي: ألف سنة إلا خمسين وأنا أدعوهم إلى الله عز وجل وكل الأجيال تنشأ على هذا الفجور والكفر. وقد فصل الله سبحانه وتعالى أمر نوح في سورة الأعراف وأطال في سورة نوح، وكيف أنه جعل له علامة لقرب أجلهم، تحول التنور، أي: إذا خرج ماؤه فهي علامة على مجيء أمر الله، فاركب السفينة، وعلمه الله صنعها وأنجاه عز وجل بها قال الله: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40]. ويأتي الطوفان فيغرق جميع من على الأرض، انفتحت أبواب السماء، وانفتح ما في الأرض من آبار وغيرها، وانطبق ماء السماء على ماء الأرض فأغرق الله سبحانه وتعالى الكفار جميعهم. وقوله تعالى: {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الأنبياء:76] أي: أهله المؤمنون؛ لأن من أهله ابنه ولم ينج كما قال الله: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود:45] قال: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46] فأهله هنا من معه من المؤمنين. فنجاه الله وأهله من الكرب العظيم بالدعوة إليه عز وجل والصبر عليها، وفي النهاية كتب له ومن معه النجاة من انفجار الأرض ماء، وتفتيح أبواب السماء بالماء، فهو كرب فظيع جداً، وهو في سفينة، فهو يشعر بكرب من هؤلاء الكفار ومن الجو المحيط به، وفي النهاية ترسو السفينة على الجودي بأمر الله سبحانه وتعالى. وقوله تعالى: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الأنبياء:77] أي: نصرناه على القوم؛ لأن (على) تفيد الاستعلاء، ولكن (من) هنا بمعنى (على)، أو يكون الفعل (نصر) مضمناً معنى (انتقم) فتبقى (من) على معناها، فكأن المعنى هنا: (انتقمنا من الذين كفروا) فهو نصر عظيم من الله سبحانه وتعالى، وهو انتقام شديد نزل بهم، ففي الدنيا أغرقوا وفي الآخرة سيحرقون. وقوله تعالى: {فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنبياء:77] لو قال هنا: أغرقناهم، فيحتمل أن ينجوا أحد، ولكن (أغرقناهم أجمعين) فيه تأكيد أن الجميع غرقوا في الماء، فلم يبق أحد منهم. ثم ذكر بعد ذلك قصة داود وسليمان، كما سيأتي إن شاء الله. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الأنبياء [78 - 80]

تفسير سورة الأنبياء [78 - 80] ذكر الله سبحانه وتعالى قصة داود وسليمان إذ حكما في قضية الغنم التي أكلت العنب، وبين سبحانه أن سليمان كان حكمه أرفق بسبب ما حباه سبحانه من الفهم، وقد أخبر سبحانه أنه آتى داود وسليمان علماً وحكماً كانا من خلاله يقضيان بين الناس، إلا أنه أعطى سليمان في مسائل الحكم ما لم يعط داود، كما أنه سبحانه جعل الجبال والطير تسبح مع داود، وعلمه صنعة الدروع التي تقي الناس بأسهم.

تفسير قوله تعالى: (وداود وسليمان إذا يحكمان في الحرث)

تفسير قوله تعالى: (وداود وسليمان إذا يحكمان في الحرث) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ * وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء:78 - 80]. يذكر الله عز وجل لنا في هذه الآيات ذكراً عن داود وسليمان عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، وهذه السورة مذكور فيها ستة عشر نبياً. الثامن والتاسع على ترتيب السورة هما داود وسليمان عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، قال تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} [الأنبياء:78]، وهما منصوبان بفعل محذوف مقدر، تقديره: واذكر سليمان وداود عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، حين كانا يحكمان في الحرث، قيل: كان كرماً -أي عنباً- عناقيده مدلاة. {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} [الأنبياء:78]، وهم رعاة الغنم، فقد دخلت غنمهم في الليل في هذا المكان وتناولت الزرع فنفشته أي: رعت فيه، فأكلت عناقيد العنب بالليل، فمعنى: نفشت أي: رعت في الليل، وأصل النفش هو الرعي للإبل أو للغنم بالليل. قال سبحانه: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء:78] يعني: ناظرين للحاكم وللمحكوم، فالذي حكم داود وسليمان، والمحكوم عليهم هم الخصوم. وداود هو الأب، وسليمان ابنه عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، وداود ملك ونبي وسليمان ملك ونبي عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، ولكن في هذه القصة إشارة إلى أن داود كان كبيراً، وسليمان كان صغيراً، والله سبحانه وتعالى علم الاثنين فجعل هذا نبياً وهذا نبياً، وأعطى لكل منهما حكماً وفهماً، وفي هذه القصة أمر واضح، وهو أن سليمان فهم ما لم يفهمه داود على نبينا وعليهما الصلاة والسلام، وقوله: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79]، أي: الاثنين على علم وعلى حكم من الله عز وجل، ولكن فهمنا سليمان هذه المسألة وغيرها من المسائل، وجعلناه يفهم ويستوعب ما لم يفهمه داود على نبينا وعليهما الصلاة والسلام.

تفسير قوله تعالى: (ففهمناها سليمان)

تفسير قوله تعالى: (ففهمناها سليمان)

اجتهاد الأنبياء في الحكم

اجتهاد الأنبياء في الحكم قال سبحانه: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:79] والتفهيم فضل من الله يعطيه الإنسان فيشعر أن الخطأ في كذا والصواب في كذا. فهما نبيان اجتهدا، والنبي إذا اجتهد يكون مأجوراً في اجتهاده، وهل يمكن أن يجتهد النبي ويخطئ؟ نقول: يمكن أن يجتهد ويخطئ، لكنه إذا أخطأ لا يقر على الخطأ، وهذا هو الفرق بين الحاكم وبين النبي. والوحي مستحيل أن يقع الخطأ ولا يصححه، والنبي لا يقع في الكبائر، والراجح أنهم مبتعدون عن الصغائر لا يقعون فيها، ولكن قد يكل الله عز وجل حكم مسألة لاجتهاد نبي من الأنبياء، ويترك له أن يحكم فيها، فقد يخطئ وقد يصيب، لكن الفرق بينه وبين غيره أنه إذا أخطأ لا يقر على خطئه، بل ينزل عليه الوحي يصوب له ما أخطأ فيه. فمن هذا الباب كان النبي صلى الله عليه وسلم يحكم بين أصحابه، ويقول: (إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له بنحو مما أسمع)، فهو صلى الله عليه وسلم يقضي في المسألة بالبينة وبالشهود، وهذا هو المطلوب منه شرعاً، ولكن إذا أخطأ الشهود أو كذبوا على النبي صلى الله عليه وسلم فإن الله عز وجل يعلمه ذلك، ولم ينزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم في كل قضاء قضاه بين اثنين لحكمة من رب العالمين سبحانه، وهي أنه لو كان كل قضاء يقضيه بين الناس ينزل عليه فيه الوحي، فكيف سيصنع الخليفة الذي سيأتي من بعده إذا أراد أن يقضي بين الناس؟ لاشك أنه سيخاف أن يخطئ في الحكم وسيقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان معصوماً وكان الوحي ينزل عليه، فحتى لا يقع هذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقضي بنحو مما يسمع، فيسمع من الشهود طالما أنهم ثقات، والخطأ في النهاية هم الذين سيتحملونه. فالأنبياء يقضون بين الخلق، وقد ينزل الوحي فيبين من هو صاحب الحق، مثل الرجل الذي ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاختصم مع رجل آخر، وسأله النبي صلى الله عليه وسلم فأقسم، وقال: والله الذي لا إله إلا هو ما له عندي شيء، فنزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم يخبره أن هذا حلف كاذباً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أعط الرجل ماله وقد غفر الله لك بتوحيدك) أي: أن هذا الإنسان حين قال في حلفه: والله الذي لا إله إلا هو استحضر عظمة الله عز وجل وتوحيده فكان هذا الحكم خاصاً بهذا الرجل فقط، أو كان قبل أن يعرف النبي صلى الله عليه وسلم الحكم الجديد وهو أن اليمين الغموس صاحبها في النار. فهذه قضية من القضايا التي حلف فيها رجل كاذباً أمام النبي صلى الله عليه وسلم، فنزل الوحي يخبره أنه كاذب. لكن هل في كل قضية من قضاياه صلى الله عليه وسلم كان ينزل عليه الوحي؟ لا، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا بشر مثلكم، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له بنحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً، فإنما هي قطعة من النار، فليأخذ أو فليذر). وحتى لا يساء الظن في داود يقول الله: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79]، أي: أن الاثنين على علم عظيم لا تعلمه أنت، فلا تنكر عليهما شيئاً مما صنعوا. فقد آتينا سليمان فهماً أعظم في هذه المسألة، ففهم ما لم يفهمه داود عليه الصلاة والسلام، فكان حكمه أرفع من حكم داود.

حكم داود وسليمان في الغنم التي نفشت في الزرع

حكم داود وسليمان في الغنم التي نفشت في الزرع والقصة أن الخصوم جاءوا إلى داود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، أحدهم يشكو أنه صاحب زرع والبعض الآخر كانوا أصحاب أغنام وقد تركوا الغنم ترعى بالليل فاقتحمت البستان فأكلت العنب الموجود فيه. فكان حكم داود عليه الصلاة والسلام أن الغنم لصاحب البستان. فلما خرج الخصوم على سليمان عليه الصلاة والسلام سألهم عن الحكم، فقالوا: كذا، فقال: لعل الحكم غير هذا، فانصرفوا معي، فانصرفوا معه فذهب إلى أبيه فقال: يا نبي الله -هذا خطاب الابن لأبيه- إنك حكمت بكذا وكذا -ما قال له إن هذا الحكم خطأ- ولكن قال: وإني رأيت ما هو أرفق بالجميع، قال: وما هو؟ قال: ينبغي أن تدفع الغنم إلى صاحب الحرث فينتفع بألبانها وأصوافها ويدفع الحرث إلى صاحب الغنم ليقوم عليه. إن حكم سليمان عليه الصلاة والسلام كان أرفق، وحكم داود لم يكن خطأً، ولكن التسديد من الله عز وجل كان لسليمان، فحين وجد داود أن الزرع الذي أكلته الغنم قيمته تساوي قيمة الغنم، حكم بأن الغنم لصاحب البستان فيكون حكمه صحيحاً، وحكم سليمان عليه الصلاة والسلام كان أرفق من حيث إن أصحاب الغنم ليس عندهم من المال غيرها، فحتى لا يكونوا بغير مال حكم بأخذ الغنم منهم فترة معينة، ينتفع بها أصحاب الزرع، حتى إذا زرع أصحابها البستان ونما الكرم أخذ أصحاب الغنم أغنامهم وأصحاب البستان بستانهم، فكان حكمه أرفق من حكم داود عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، فقال داود: (وفقت يا بني، لا يقطع الله فهمك) أو كما ذكر. وهذا مروي عن ابن مسعود وعن مجاهد وعن غيرهم، فيكون الحكم شرعياً، حكم به نبي من أنبياء الله عليه الصلاة والسلام، ولما كان الحكم الآخر أرفق نقض الحكم الأول، فحكم به داود عليه السلام.

حكم داود وسليمان بين المرأتين اللتين أكل الذئب ولد إحداهما

حكم داود وسليمان بين المرأتين اللتين أكل الذئب ولد إحداهما وهل هذه القصة هي الوحيدة؟ لا، فقد جاء في سنة النبي صلى الله عليه وسلم أنه حصل مثل هذا، قضية يحكم فيها داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام بحكم مما اجتهد فيه، ويحكم سليمان بحكمه الصائب في ذلك. من ذلك ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة قال: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينما امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت هذه لصاحبتها: إنما ذهب بابنك أنت، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك أنت). كل واحدة منهما لا تعرف هل أخذ الذئب ولدها أم ولد صاحبتها لكن الخوف من الزوج حمل كل واحدة على أخذ الذي نجا من الذئب لتعود به إلى زوجها، فتحاكمتا إلى داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فقضى به للكبرى. ولا يجوز أن تسيء الظن بداود على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وتظن أنه قضى به للكبرى لأجل كبرها، بل إنه اجتهد واستفرغ وسعه في الاجتهاد في القضية حتى وصل في النهاية إلى أن هذا الولد ابن للكبرى. المرأة الكبرى أخذت الولد وانطلقت به فمرت على سليمان، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فخرجتا على سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينكما، قالت الصغرى: يرحمك الله هو ابنها، فقضى به للصغرى). إذاً: الله سبحانه آتى سليمان فهماً لم يؤته لداود في مسائل الحكم.

حكم داود سليمان في المرأة التي شهد عليها بالزنا زورا

حكم داود سليمان في المرأة التي شهد عليها بالزنا زوراً ويوجد قضية ثالثة من هذه القضايا ذكرها الحافظ ابن كثير نقلاً عن ابن عساكر في ترجمة سليمان عليه الصلاة والسلام في تاريخه، من طريق الحسن بن سفيان عن صفوان بن صالح عن الوليد بن مسلم عن سعيد بن بشير عن قتادة عن مجاهد عن ابن عباس: (أن امرأة حسناء كانت في زمان بني إسرائيل راودها عن نفسها أربعة من رؤسائهم فامتنعت، فاغتاظوا منها لأنها لم توافقهم على الزنا والعياذ بالله، فشهدوا عليها عند داود أن كلبها يزني بها، فلما شهد الأربعة وهم من كبار القوم، وظن أنهم صادقون أخذ بكلام الأربعة وأقام عليها الحد فرجمها، فماتت المرأة مظلومة، قال: ثم لما كان عشية ذلك اليوم جلس سليمان واجتمع معه ولدان. فقد كان صغيراً وقت حدوث هذه القضية، فقعد مع أطفال صغار معه، واستحضر هذه القضية وعملها لعبة يلعبها أمام داود. فانتصب سليمان حاكماً، وتزيا أربعة منهم بزي أولئك وآخر بزي المرأة، وشهدوا عليها بأنها مكنت كلبها من نفسها، فقال سليمان: فرقوا بينهم، أي: فرقوا بين الشهود الموجودين: فسألهم: ما كان لون الكلب؟ فسأل الأول: فقال: كان لونه كذا. وسأل الثاني: ما كان لون كلبها؟ قال كذا، ثم الثالث ثم الربع، فاختلف الأربعة، فكل واحد ذكر لوناً، فتنبه داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام لذلك وأتى بالأربعة الشهود وفرق بينهم، وسألهم عن لون الكلب فكل واحد ذكر لوناً، فأمر بقتلهم جميعاً، لأنهم تسببوا في قتل المرأة. وقد استفاد من هذه الآية بعض الحكام حكماً احتج به على الكفار، فإن الوليد هدم كنسية دمشق فكتب إليه ملك الروم: إنك هدمت الكنيسة التي رأى أبوك تركها، فإن كنت مصيباً فقد أخطأ أبوك، وإن كان أبوك مصيباً فقد أخطأت، يعني: يريد منه أن يقع في أبيه فلو قال له: أبي كان مخطئاً سيشنع عليه، وإن قال: أنا المخطئ، سيقول له: كان أحق بالملك رجلاً آخر غيرك. فأجابه الوليد وأرسل إليه بهذه الآية: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:78 - 79]، قال: كان داود وسليمان على نبينا وعليهما الصلاة والسلام قد حكما في هذه القضية، فالله سبحانه وتعالى قال: {َكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79]، أي: هذا حكم بحكم وبعلم، وذاك حكم بحكم وبعلم، ولكن الله عز وجل زاد الآخر فهماً على الأول فاحتج بهذه الآيات على ملك الروم. فالنبي له أن يجتهد ولكن لا يقر على خطأ، فإذا أخطأ نزل الوحي يبين الخطأ، لكن غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليسوا كذلك، فالإنسان لا يجوز له أن يجتهد إلا وهو أهل للاجتهاد، ففي الحديث عن بريدة رضي الله عنه وهو عند أبي داود وهو صحيح قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (القضاة ثلاثة: واحد في الجنة واثنان في النار؛ فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به)، أي: أنه عرف الحق من علمه ومن اجتهاده فقضى بهذا الحق الذي عرفه، فهو في الجنة. الثاني: قال: (ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار)، أي: هو عارف وعالم بالحق ولكنه قضى بغير الحق، فهو في النار. الثالث: قال: (ورجل قضى للناس على جهل)، ولم يذكر أصاب أم أخطأ، فكأن الذي يقضي بجهل سواء أصاب أم أخطأ هو في النار، لأنه ليس من حقه الاجتهاد، وليس من حقه القضاء، وليس من حقه أن يفتي في الأحكام وهو لا يعرف هذه الأحكام. والحق واحد، يعرفه الإنسان ويقضي به، فإن فعل ذلك استحق أن يكون من أهل الجنة.

أقول العلماء في تعدد الحق في المسألة الاجتهادية

أقول العلماء في تعدد الحق في المسألة الاجتهادية اختلف العلماء في مسائل الاجتهاد، هل الحق في المسألة واحد، أو ممكن أن يتعدد فنقول كل مجتهد مصيب؟ والراجح أن الحق واحد، إذ لا يعقل أن يجتهد اثنان في مسألة فيقول واحد هي حلال والثاني يقول هي حرام ويكون الحق مع الاثنين، فتكون حلالاً وحراماً في الوقت نفسه، لا يكون هذا الشيء. ولكن المجتهد الذي يصيب يؤجر أجرين: أجراً على اجتهاده وأجراً على إصابته، والمجتهد الذي يخطئ يؤجر أجراً واحداً على أنه اجتهد في هذا الأمر حتى وإن أخطأ. ولذلك في صحيح مسلم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران) يعني: دخلت القضية إلى الحاكم فحكم فيها باجتهاده وكأن في الحديث تقديماً وتأخيراً. ومعنى (اجتهد) استفرغ الوسع وبذل الجهد في ذلك فوصل إلى شيء معين وقناعة معينة فحكم بهذا الشيء، فيكون له أجران إذا أصاب، (وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر). أما العلماء الذين قالوا: كل مجتهد مصيب، فقد احتجوا بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصحيح قال: فإنه لما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب جاءه جبريل فقال: وضعت السلاح، فوالله ما وضعنا سلاحنا، ثم أمره أن يتوجه إلى بني قريظة، فنادى النبي صلى الله عليه وسلم في الناس وقال: (لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة)، فاجتهد الصحابة في ذلك، فالبعض قالوا إنه أراد الاستعجال، فنصلي ونسرع، والفريق الثاني قالوا: قصد أن الصلاة ستكون هنالك، فلم يصلوا العصر حتى وصلوا بني قريظة، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم وعرف الأمر فلم يلم أحداً من الفريقين ولم يخطئ واحداً من الاثنين صلوات الله وسلامه عليه. قالوا: لو كان أحد الفريقين مخطئاً لبين له صلى الله عليه وسلم. وقال الفريق الآخر: لعله إنما سكت صلى الله عليه وسلم عن تعيين المخطئين؛ لأنهم غير آثمين، والوقت الآن ليس وقت تعنيف أو تأنيب، فطالما أنه اجتهد فأصاب له أجران، أو اجتهد فأخطأ فله أجر، فيكون أحد الفريقين مخطئاً، ولكن الجميع مأجور، لذلك استغنى النبي صلى الله عليه وسلم بما ذكره: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر) ولم يعنف واحداً من الفريقين. والأرجح: أن المجتهد إذا اجتهد فأخطأ -طالما أنه من أهل الاجتهاد- فله أجر وإن كان مخطئاً، وإذا كان يجتهد ويصيب فله أجران: أجر على الإصابة وأجر على الاجتهاد. وهذه القضية التي قضى فيها سليمان وداود على نبينا وعليهما الصلاة والسلام لو حصلت في شريعتنا، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (العجماء جبار، والمعدن جبار، والبئر جبار). جبار أي: هدر، والعجماء: البهيمة. وفي الحديث: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على أهل الحوائط حفظها بالليل، وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهله). ففرق بين الليل وبين النهار، والكلام على الحقول والبساتين المفتوحة؛ لأن صاحب الماشية لو ظل يحرسها بالليل والنهار لن يستطيع أن يتفرغ لبقية أعماله أبداً، ولكن صاحب الماشية يذهب في النهار إلى حقله وماشيته معه، وجاره في حقله وماشيته معه، فلو فرضنا أن ماشية الآخر جاءت إلى حقلك فإنك ستردها بالنهار، لكن في الليل إذا اعتدت ماشية الغير على مزرعتك فإن صاحبها يغرم. أما بالنهار فيلزم صاحب كل مزرعة أن يحرس مزرعته حتى لا تدخل فيها ماشية الآخر، إلا إن تعمد صاحب الماشية بأن قادها ودخل بها البستان فإنه يضمن ليلاً أو نهاراً، لكن إذا كان بالليل لزمه أن يضعها في الحظيرة ويقفل عليها بحيث لا تهجم على مزرعة غيره، وإذا فرط في الليل أو لم يفرط فإن عليه الضمان. قال: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:79] فالله سبحانه وتعالى أعطى سليمان الفهم، وأعطى داود الحكم والعلم، وأعطاه أيضاً الصوت الجميل الذي تسمعه الجبال فتردد معه التسبيح، وأيضاً الطير فقد كان داود عليه الصلاة والسلام يمر بالجبال مسبحاً فتداوله بالتسبيح، وأي إنسان يرفع صوته فإن صدى الجبال يردد معه، فهل سيكون مثل داود؟ لا؛ لأن الجبال تسبح حقيقة معه عليه الصلاة والسلام، فهو يسبح وجمال صوته وعظمة الخشوع الذي هو فيه تجعل الجبال تخشع وتردد معه تسبيح الله سبحانه وتعالى. مع أن الجبال صامتة جامدة، ولكن {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]، فكل شيء يسبح بحمد الله سبحانه وتعالى، ونحن لا نسمع ولا نفقه تسبيحهم. وإنما كانت الجبال تردد مع داود بأمر الله سبحانه وتعالى، قال سبحانه: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} [سبأ:10]، ومعنى (أوبي معه) أي: رجعي معه هذا التسبيح. والطير كلمت سليمان وسبحت مع داود، فأعطى الله سبحانه كلاً منهما من فضله ومن هبته سبحانه وتعالى. وقال هنا: يسبحن أي: يصلين معه، كذلك يسبحن بصوت يسمعه داود.

تفسير قوله تعالى: (وعلمناه صنعة لبوس)

تفسير قوله تعالى: (وعلمناه صنعة لبوس) قال: سبحانه: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} [الأنبياء:80]. واللبوس عند العرب بمعنى عدة الحرب، وقد اختصه الله عز وجل بصنع الدروع: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سبأ:11]، فهو سبحانه وتعالى عليم وبصير بهم، فقال له: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ:11]، فقد كانت الدروع صفائح من حديد يلبسها الإنسان، لكنه جعلها حلقاً، ليسهل لبسها على الإنسان. قال: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} [سبأ:11]، والسابغ هو الساتر للبدن كله، وجعله يصنعها من حلقات كأنها سلسلة، يضع الحلقة على الحلقة، ويضع المسمار بينهما، قال: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ:11] أي: اجعل المسمار على قدر الحلقة، لتبقى الحركة في الدرع نفسه، وهو عبارة عن حلقات متصلة، بين كل حلقة وحلقة مسمار يصل الحلق بعضها ببعض، فإذا لبسها الإنسان في الحرب استطاع أن يتحرك وأن يصبر على الكر والفر وأن يدافع عن نفسه. {لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} [الأنبياء:80]، الضمير راجع إلى هذه اللبوس، فتعلم الناس منه صناعة الدروع. قال: {لِتُحْصِنَكُمْ} [الأنبياء:80]، وهذه قراءة ابن عامر وأبي جعفر وحفص عن عاصم. القراءة الثانية قراءة شعبة عن عاصم وهي قراءة رويس عن يعقوب: (لِنحصنكم من بأسكم) بنون الجماعة التي تدل على التعظيم، وهي تعود إلى الله سبحانه وتعالى، أي: حتى نحفظكم ونحرزكم من بأسكم، ومن حربكم ومن قتالكم. وباقي القراء يقرءون: ((لِيُحْصِنَكُمْ)) أي: ليحصنكم بها من بأسكم فتتقون بها السيوف والرماح ونحو ذلك، فتعلمتم بعد هذه الدروع وطورتم فيها، فهل شكرتم الله سبحانه وتعالى الذي أنعم عليكم بذلك؟ قال: {فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء:80] ولم يكن داود وحده من الأنبياء صاحب صنعة، بل كثير من الأنبياء كانت لهم حرف، وقد أخبر الله عز وجل عن أنبيائه أنه يرزقهم سبحانه، ولا يجعل رزقهم على أحد أبداً؛ فلا أحد يتكفل لهم بطعام ولا شراب إلا هو سبحانه، ولذلك جعل رزق النبي صلى الله عليه وسلم كما قال: (وجعل رزقي تحت ظل رمحي)، فرزقه صلى الله عليه وسلم بالجهاد في سبيل الله، فله خمس المغنم صلوات الله وسلامه عليه، أما الفيء فأمره إليه صلوات الله وسلامه عليه يقسمه كيف يشاء. فداود عليه الصلاة والسلام كان يصنع الدروع، وأيضاً كان يصنع الخوص ويبيعه وهو ملك، ولا يأخذ من أكل المملكة شيئاً عليه الصلاة والسلام. وأيضاً كان آدم عليه الصلاة والسلام يعمل بيده ويحرث ويزرع الأرض ويأكل من كسب يده عليه الصلاة والسلام. ونوح كان نجاراً عليه الصلاة والسلام، ولقمان الحكيم كان خياطاً، وطالوت كان دباغاً، ثم جعله الله عز وجل رئيساً على بني إسرائيل وقائداً لهم.

تفسير سورة الأنبياء [81 - 82]

تفسير سورة الأنبياء [81 - 82] لقد أكثر الله عز وجل في القرآن من ذكر قصص الأنبياء مع أقوامهم، وذلك ليقتدي بهم المسلم في دعوته، ومنهجه، ومقارعة الباطل وأهله، وليستلهم منها الدروس والعبر، وليعلم كيف عاش أنبياء الله تعالى، وصبروا حتى أتاهم نصر الله.

ضرورة التأسي بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام

ضرورة التأسي بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الأنبياء: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ * وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ * وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء:81 - 84]. ذكر الله تبارك وتعالى في هذه الآيات وما قبلها نبذاً عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فذكر من قصصهم في هذه السورة التي سميت باسمهم ما يزيد المؤمن إيماناً، ويجعله يرى أمامه أسوة وقدوة حسنة في أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام، فيقتدي بهم في أفعالهم ودعوتهم وقيامهم وصبرهم على المحن التي ابتلاهم الله عز وجل بها، ويتعلم منهم كيف كانوا يأتمرون في أقوالهم بأمر الله سبحانه وبشريعته. ونتعلم من هؤلاء الأنبياء عدم الاعتماد على أحد إلا على الله سبحانه وتعالى، في مطعمنا ومشربنا وملبسنا، فهو الذي يرزقنا. وقد كانوا عليهم السلام أصحاب حرف وصناعات، حتى أن داود عليه الصلاة والسلام وهو نبي يحكم بشرع الله سبحانه وتعالى كان لا يأكل إلا من عمل يده، وليس هو وحده، ولكن كل أنبياء الله عز وجل كانت لهم حرف يحترفونها، ويأكلون ويشربون من هذه الحرف، ومن ما عملت أيديهم. وقد ذكر الله عز وجل داود عليه الصلاة والسلام هنا: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء:80]. وما من أحد إلا ويعلمه الله عز وجل شيئاً يصلح له، ويكون فيه معاشه ورزقه. فمن الناس من لا يستفيد مما علمه الله سبحانه، فيترك العمل ويسأل الناس، ويستسهل أن يأخذ رزقه من الحرام. وما من مخلوق إلا وقد قسم له الله عز وجل رزقه، ولا بد أن يأتيه هذا الرزق، فعلى الإنسان المؤمن أن يبحث عن وظيفته بالطرق الحلال، ولا يقل قد ضيق الله عز وجل علي، ويتوجه إلى الحرام؛ فإن رزقك مقسوم، وكسبك معلوم، ولن يزداد شيئاً على ما قسمه الله عز وجل، فابحث عن الحلال تجد الحلال، ويرزقك الله سبحانه تبارك وتعالى، وائتس بهؤلاء الأنبياء الذين كانوا لا تلهيهم صنعتهم ولا كسبهم الرزق عن الدعوة إلى الله عز وجل، ولا تشغلهم عن المرتبة العظيمة التي هم فيها، وهي مرتبة النبوة. وقد كان داود عليه السلام يصنع الدروع في قومه -كما ذكر القرآن- وكان يصنع الخوص، ويبيع ذلك، وكان يأكل من عمل يده، وهو ملك على قومه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان عمله الجهاد في سبيل الله سبحانه، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (وجعل رزقي تحت ظل رمحي). فكان أشرف الرزق له صلى الله عليه وسلم أن يجاهد، وكان له خمس الفيء وخمس الغنيمة، ومع ذلك فقد كان لا يأخذ شيئاً لنفسه صلى الله عليه وسلم، إلا قدر ما يكفيه صلوات الله وسلامه عليه، ويكون الباقي للمسلمين. وكان يقول: (ليس لي من أموالكم ولا مثل هذه)، يأخذ من جنب البعير شعرة، ولا يستقلها صلى الله عليه وسلم، قال: (إلا الخمس، والخمس مردود عليكم) يعني: حتى الخمس الذي سيكون نصيبه صلى الله عليه وسلم من الفيء كان يأخذ منه ما يكفيه هو وأهله صلى الله عليه وسلم، ويرد الباقي على المسلمين، وعلى الزوار والأضياف والفقراء والمحتاجين.

تفسير قوله تعالى: (ولسليمان الريح عاصفة)

تفسير قوله تعالى: (ولسليمان الريح عاصفة)

تسخير الله الريح لسليمان عليه السلام

تسخير الله الريح لسليمان عليه السلام قال الله عز وجل: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} [الأنبياء:81]. فسخر الله عز وجل له الريح عاصفةً، تجري بأمره. والعاصفة الشديدة التي تجري بسرعة شديدة جداً. وأصل العصف: التبن، وهو القشر الذي يبقى بعد أن ينزع الحب، فعندما تشتد الريح يطير هذا العصف والقشور، فسميت الريح العاصف؛ لأنها تطير بمثل ذلك فلا يبقى، فريح عاصفة أي: شديدة الوقوع. فسخرها الله عز وجل لنبيه سليمان لما سأله: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص:35 - 39]. أي: أمسك هذا أو امنن وأعط من شئت فلن نسألك عن هذا الذي كنت سألته. وقد جعل له الله عز وجل ملكاً لا يكون لأحد من بعده، ومن آداب النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما أمسك شيطاناً تسلط عليه في الصلاة، خنقه وأراد أن يربطه في سارية المسجد ليصبح يلعب به الصبيان، قال صلى الله عليه وسلم: (فذكرت دعوة أخي سليمان: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص:35]، فتركته).

تعليم الله لسليمان لغات الطير والحيوان

تعليم الله لسليمان لغات الطير والحيوان فلما طلب عليه السلام ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده سخر له الله عز وجل جنوداً عظيمة جداً، من الإنس والجن والطير والدواب، لا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى، وأفهمه لغاتها، حتى إنه سمع من النملة عندما قالت: {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:18] فسمع دعاءها، وفهم كلامها، قال تعالى: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل:19]. وهذا يذكره الله عز وجل من سير هؤلاء عليهم الصلاة والسلام حتى نتبع هؤلاء في حمدهم لربهم وشكرهم له سبحانه، وحتى نعلم أن الأنبياء منهم من ابتلي بالخير فحمد وشكر، منهم من ابتلي بالضر فصبر وأجر، فكل له الأجر عند الله سبحانه. فسليمان عليه السلام أعطاه الله عز وجل الريح، قال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً} [الأنبياء:81]، أي: شديدة الهبوب {تَجْرِي بِأَمْرِهِ} [الأنبياء:81]، كما قال تعالى: {رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} [ص:36]، أي: تسير بالسحاب وتحمله إلى حيث أراد، فتجري الريح رخاءً حيث أصاب.

شكر الله عند حدوث النعم

شكر الله عند حدوث النعم وعندما أعطاه الله ذلك، ونظر في هذا الملك العظيم؛ حتى إنه ليسمع كلام النملة ودعاءها قال: {رَبِّ أَوْزِعْنِي} [النمل:19]، أي: حفزني وادفعني واجعل في ما يهيجني لحسن الدعاء، وحسن الطلب. {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل:19] وهذه ليست دعوة سليمان وحده، وإنما هي دعوة الصالحين من المؤمنين، فإنهم يدعون: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف:15]. فذكر الله عز وجل دعوة سليمان في النمل، وذكر دعوة المؤمن الصالح في الأحقاف، والمؤمن يتعلم من هؤلاء الأنبياء كيف يشكر النعم. والله عز وجل ما شيء أحب إليه من الحمد، فيحب من عباده أن يحمدوه، فإذا أعطي أحد نعمة فليحمده ويشكره، فإن حمده وشكره أحب إليه من هذه النعمة التي أعطاها لهذا العبد. فذكر الله الأنبياء ما أعطاهم وما ابتلاهم حتى نأتسي ونقتدي بهم، فإذا أنعم الله عز وجل على أحدهم بالخير وجده حامداً شاكراً، وإذا ابتلاه بالشر وجده شاكراً صابراً لله تبارك وتعالى. قال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} [الأنبياء:81]، والأرض التي باركنا فيها أرض الشام، تجري إليها الريح بأمر سليمان عليه الصلاة والسلام، وإلى حيث شاء الله عز وجل من هذه الأرض أو إليها. {وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} [الأنبياء:81]، أي: عالمين بتدبير هذا الكون كله، وكيف دبرنا لسليمان أمره، وكيف سخرنا له هذه الريح؟ فنحن نعلم أمر الريح وأمر سليمان، وأمر كل شيء. ((وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ)) وليس بسليمان وحده، ولا بالريح وحدها، ولكن كنا بكل شيء عالمين.

تسخير الشياطين لسليمان عليه السلام

تسخير الشياطين لسليمان عليه السلام قال تعالى: {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ} [الأنبياء:82]. يغوصون يعني: تحت الماء في البحار، والغواص: الإنسان الذي ينزل في أعماق البحر، حتى يأتي بالدر وبالجوهر وباللؤلؤ من داخل البحار فلم يسخر الإنس للغوص، ولكنه سخر الجن لذلك قال: {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ} [الأنبياء:82]. وقال: (منهم)؛ لأنها ليست المهنة الوحيدة للشياطين عند سليمان؛ وإنما {وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ} [الأنبياء:82]، فمنهم من هو في عمل عال، ومنهم منهم في أعمال حقيرة. قال: {وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} [الأنبياء:82] أي: لا يقدرون أن يهربوا من سليمان، ولا يرفضون له طلباً من مطالبه، وإنما هم مسخرون له، كما قال تعالى: {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} [ص:37]، من فوق وتحت، يفعلون له ما يشاء من سلاح وحصون وقصور، ويصنعون له التماثيل، وينحتون له القدور والجواب فسخرهم له يصنعون ذلك، ومنهم من يغوص في البحر، فيأتيه بما يريد من درر ولؤلؤ وغيره.

إيتاء الله لسليمان علم الفراسة

إيتاء الله لسليمان علم الفراسة وكذلك وهب الله داود وسليمان وآتاهما ما قال تعالى: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79] فسخر مع داود الجبال يسبحن، وسخر له الجمادات، وسخر لسليمان هذا الذي ذكره سبحانه وتعالى في هذه الآية. وأعطاه الله من علم النبوة الفراسة، وهي علم عظيم من الله عز وجل. والإنسان صاحب الفراسة يتفرس في الشيء، أي: يتوسم وينظر إليه فيكشف ما وراء ذلك من أشياء، ولذلك جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسم)، والمعنى: أن ناساً اختصهم الله بهذا العلم من أنواع العلوم، وهو علم الفراسة. والفِراسة بالكسر والفَراسة بالفتح، فمعناها بالكسر النظر والتثبت ودقة النظر، والتعرف على الأحوال، والتأمل في الشيء، وتوقع ما يكون هذا الشيء. وأما الفَراسة: فهي ركوب الخيل والفرس. فمعنى: (إن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسم)، يعني: ينظرون في الشيء، ويتوقعون وراءه شيئاً، فيكون على النحو الذي توقعوه، ولقد اختص الله عز وجل بها سليمان عليه السلام فأعطاه منها الكمال، وأعطى غيره من الخلق دون ذلك، وربنا سبحانه وتعالى يعطي كل إنسان ما يصلح له. وعلم الفراسة علم عظيم جداً، وأصله موهبة من الله، وليس من اكتساب الإنسان، وإنما الإنسان يتعلم العلوم الشرعية، ولكن في النهاية هذا من الله للإنسان، فقد يكون على شيء من أمر الفراسة قد يزيد وقد يقل.

فراسة عمر رضي الله عنه

فراسة عمر رضي الله عنه وقد كان سيدنا عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه له تفرسات عجيبة جداً، فكان ينظر في الأشياء ويتوقعها، فتكون على النحو الذي يتوقعه رضي الله تبارك وتعالى عنه. فروي عنه أنه رأى رجلاً وهو يسير، فقال عمر رضي الله عنه: هذا كاهنهم. وفي رواية قال: لست ذا رأي إن لم يكن هذا الرجل في الكهانة، يعني: كان كاهناً في الجاهلية. وقال: علي بالرجل! فأتوا به، فسأله عمر: هل كنت كاهناً؟ فقال الرجل: ما رأيت استقبل مسلم بشر من ذلك، يعني: أنا رجل مسلم، وتستقبلني بهذا الشيء. فلما ألح عليه عمر قال: نعم. كنت كاهناً في الجاهلية. ومن فراسته التي تفرد بها عن الأمة رضي الله تبارك وتعالى عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فأنزل الله عز وجل القرآن: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125]). ولم ينزلها الله من أجل أن عمر قالها، فالقرآن قد نزل إلى السماء الدنيا قبل عمر وقبل غيره، ولكن الغرض أن عمر وافق القرآن، وإلا فقد قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105] والزبور هو كتاب داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام. والذكر: القرآن أي: قد كتبنا ذلك في القرآن، وأثبتناه في الزبور قبل أن نخلق الأنبياء، فقد كتبنا: أن الأرض سيرثها عبادي الصالحون. إذاً: فالقرآن كان موجوداً قبل وجود النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل وجود عمر، وقبل وجود غيره. وإنما عمر رأى ذلك فوافق ما هو مكتوب عند الله عز وجل في كتابه. أيضاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! لو أمرت نساءك أن يحتجبن) فنساء النبي صلى الله عليه وسلم كن يخرجن دون حجاب، ولم ينههن النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ لأنه لا ينهى إلا أن يأتي إليه الوحي، فلما طلب عمر ذلك نزلت الآية على ما قاله عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه. وأنزل الله عز وجل في ذلك آيات الحجاب، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59] إلى آخر الآيات. وأيضاً قال عمر لنساء النبي صلى الله عليه وسلم حين أغضبن النبي صلى الله عليه وسلم: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} [التحريم:5]، ونزل القرآن بما قاله عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه. وشاوره النبي صلى الله عليه وسلم في الأسرى في يوم بدر، وشاور أبا بكر وغيره، فرأوا أنه لا يقتلهم، وإنما يأخذ منهم مالاً ليستعينوا به على جهادهم، ونزل القرآن يوافق عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، ويخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:68].

الفراسة لا تستلزم العصمة

الفراسة لا تستلزم العصمة فالغرض أن عمر كان من أعظم الناس فراسة رضي الله عنه تبارك وتعالى عنه، وليس معنى ذلك أن ما يقوله أو يحدث به كله صواب، أو أنه إذا رأى رأياً فلا يشور أحداً. وإنما المعنى: أن الله عز وجل يرينا بعض آياته في بعض من خلقه. فإن عمر رضي الله عنه جاءته امرأة تشكو زوجها، فقالت: هو من خير أهل الدنيا، يقوم الليل حتى الصباح، ويصوم النهار حتى المساء. ثم أدركها الحياء فقال لها عمر بن الخطاب: قد أحسنت الثناء. ولم تذهب المرأة فـ عمر الذي هو صاحب الفراسة العظيمة، لم يفهم مقصدها، وإنما فهمه كعب بن سوار فقال لـ عمر رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين لقد أبلغت الشكوى إليك، أي: شكت شكوى كبيرة وعظيمة، فقال: علي بزوجها، فجاء زوجها فقال لـ كعب: اقض بينهما، فقال: أقضي وأنت شاهد؟ قال: إنك قد فطنت لما لم أفطن له من حاجتها. فقال: إن الله عز وجل يقول: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] ثم قال لزوجها: صم ثلاثة أيام، وأفطر عندها يوماً -يعني: كأنك متزوج أربع نسوة؛ فإذا كنت متزوجاً أربع نسوة فمن حقها أن تجعل لها كل أربعة أيام يوماً، فصم ثلاثة أيام وأفطر عندها يوماً- وقم ثلاث ليال وبت عندها ليلة. أي: كأنك متزوج أربع نساء. فقال عمر رضي الله عنه: لا أدري من أي أمرك أعجب، من فهمك شكواها، أم من قضائك بينها وبين زوجها، اذهب إلى البصرة فاقض بين أهلها. فجعله قاضياً لأهل البصرة. فلم يكن علم الفراسة مختصاً بـ عمر وحده ولا بـ كعب وحده، ولكن الله عز وجل قسم من ذلك العلم لمن يشاء من خلقه، فجعل لهم نصيباً.

فراسة عثمان بن عفان رضي الله عنه

فراسة عثمان بن عفان رضي الله عنه هذا عثمان رضي الله تبارك وتعالى عنه ينظر إلى أحد الصحابة ويقول: يأتي أحدكم وفي عينيه أثر الزنا؟ فقال أنس رضي الله عنه: أوحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقال: لا. ولكنه شيء يجعله الله عز وجل في قلب المؤمن، فكان كما قال.

فراسة علي رضي الله عنه

فراسة علي رضي الله عنه وعلي بن أبي طالب كان له من ذلك أيضاً شيء عجيب رضي الله تبارك وتعالى عنه. ومن ذلك: أن رجلين من قريش دفعا إلى امرأة مائة دينار، وقالا: لا تدفعيها إلى أحد دون صاحبه. ولبثا حولاً، فجاء أحدهما فقال: إن صاحبي قد مات، فادفعي إليّ الدنانير، فرفضت المرأة وقالت: إنكما قلتما: لا تدفعيها إلى أحد منا دون صاحبه، فلست بدافعتها إليك، فاستعان عليها بأهلها وجيرانها، فأعطته. ثم ظهر الثاني بعد كذا وقال لها: ادفعي إلي الدنانير. فقالت: إن صاحبك قد أخذها، فقال: أولم نأمرك ألا تدفعيها لأحد دون صاحبه؟ فرفعها لـ عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، فأراد عمر أن يقضي عليها، فلما كاد يقضي عليها قالت له: ارفعنا إلى علي رضي الله عنه، فرفعهما إلى علي رضي الله عنه، فعرف علي أنهما مكرا بها من أجل أن يأخذوا منها مائتي دينار بدلاً من مائة دينار، فقال لها علي رضي الله عنه: أليس قد قلتما! لا تدفعيها إلى أحد منا دون صاحبه؟ فقالا: بلى. قال: فاذهب فائت بصاحبك! فبطلت حيلتهما.

فراسة إياس بن معاوية

فراسة إياس بن معاوية ومن أصحاب الفراسة الذي كانوا مشهورين بذلك أحد القضاة وهو إياس بن معاوية بن قرة إياس المزني رضي الله تبارك وتعالى عنه، فقد كان له من ذلك حظ عظيم جداً، وكان الناس يذهبون يتعلمون من إياس وكان أبوه معاوية بن قرة صحابياً، رضي الله تبارك وتعالى عنه، وكان إياس مشهوراً بالفراسة، وكانوا يتعلمون منه ذلك، وهذا العلم هبة من الله، فمن أراده فليتعلم العلوم الشرعية؛ ليفتح الله عليه في ذلك. ومن قضاء إياس الذي كان الناس يعجبون منه: أن رجلاً استودع رجلاً مالاً، ثم رجع فطلبه فجحده، فأتى إياساً فأخبره، فقال له إياس: انصرف حتى أنظر في أمرك، واكتم أمرك، ولا تعلمه أنك أتيتني، ثم عد إلي بعد يومين. فدعا إياس هذا الرجل، وقال له: إني قد حضر إلي مال كثير، وأريد أن أودعه عندك، فاذهب وجهز له بيتاً فذهب الرجل وجهز له بيتاً، وبعد يومين جاء الرجل الأول إلى إياس، فقال له إياس: اذهب إليه وقل له: أعطني مالي وإلا شكوتك للقاضي. فأعطاه ماله، ثم ذهب إلى إياس يطلب منه المال، فزجره وانتهره، وقال له: لا تقربني يا خائن!. وقصة أخرى عجيبة لـ إياس بن معاوية في ذلك: جاءت أربع نسوة إلى مجلسه، فقال إياس: أما إحداهن فحامل، والأخرى مرضع، والثالثة ثيب، والرابعة بكر! فتعجبوا من أمره، وسألوا فكن كما قال: فسألوه كيف عرف ذلك وهن متحجبات؟ فقال: أما الحامل فكانت تكلمني وترفع ثوبها عن بطنها، أي: مع ثقل الحجاب. وأما المرضع فكانت تمسك بثديها، فعرفت أنها مرضع. وأما الثيب: فكانت تكلمني وعيني في عينها. وأما البكر فكانت تكلمني وعينها في الأرض. يعني: المرأة الثيب عندها جراءة ليست عند المرأة البكر، فاكتشف الأربع من مجرد الكلام معه. وقصة أخرى عجيبة من قصصه رضي الله عنه: أن رجلاً استودع غيره مالاً، فجحده هذا الإنسان، فرفعه إلى إياس، فسأله: أين أعطيته هذا المال؟ فقال: في البرية، في الصحراء فقال: أين هو؟ قال: عند الشجرة الفلانية. فسأل إياس غريمة: أتعرف مكان الشجرة؟ فقال: لا. فقال إياس للمدعي: اذهب إليها فعلك دفنت المال عندها، فلعلك إن رأيتها تذكرت أين وضعت المال. فذهب الرجل فجلس إياس مع المدعي عليه ينظر في القضايا، ثم سأل المدعى عليه: أتراه وصل إلى الشجرة؟ فقال: لا. إن المسافة بعيدة. فأخذه وقرره بما عليه من مال.

فراسة الخليفة العباسي المعتضد

فراسة الخليفة العباسي المعتضد وممن كان يضرب به المثل في الفراسة المعتضد أحد خلفاء بني العباس، فقد كانت له عجائب في الفراسة، فكان يتفرس في الشيء فيكون على النحو الذي رآه. ومما يذكرون عنه: أنه كان جالساً يشاهد الصناع، فرأى فيهم عبداً أسود منكر الخلقة، شديد المرح، يعمل ضعف ما يعمل الصناع، فيبني بناء ثم يجلس ينظر إلى العمال. فقال لبعض جلسائه: أي شيء يقع لكم في أمره؟ أي: ما رأيكم في هذا الشيء، فقالوا: من هذا حتى تصرف إليه نظرك؟ قال: لقد رأيت فيه أنه لا يخرج من حالين، فإما أن يكون معه دنانير قد ظفر بها أو أنه يتستر بالعمل من أجل أن يسرق. فدعاه، ودعا بالضراب فضربه، وحلف له إن لم يصدقه أن يضرب عنقه، فلما هدده اعترف الرجل وقال: لي الأمان؟ فقال: نعم إلا فيما يجب عليك بالشرع، وهذا من ذكائه، فقال: كنت أعمل في الآجر -أي: في الطوب- فاجتاز رجل في وسطه هيمان، فجاء إلى مكان فجلس فيه، فحل الهيمان وأخرج منه دنانير، فقتلته، ثم حملته على كتفي، فطرحته في الفرن، فأحرقته، ثم أخرجت عظامه، فطرحتها في دجلة. فأنفذ المعتضد من أحضر الدنانير وإذا مكتوب عليها، فلان بن فلان، فعرف صاحبه، فجاء بامرأته، فقالت: هذا زوجي، ولي منه هذا الطفل، خرج وقت كذا وكذا، ومعه ألف دينار، فغاب إلى الآن، فسلمها الدنانير، وأمرها أن تعتد من زوجها، وأمر بضرب عنق هذا الأسود، ثم حرقه كما حرق صاحبه.

فراسة الخليفة العباسي المنصور

فراسة الخليفة العباسي المنصور والخليفة العباسي المنصور أيضاً كان له مثل ذلك؛ فقد جاءه رجل فأخبره أنه خرج في تجارة، فكسب فيها مالاً، فدفع هذا المال إلى امرأته، ثم طلبه من المرأة، فذكرت أنه سرق من البيت. فإذا بـ المنصور يسأله أسئلة غريبة: هل لها ولد من غيرك؟ قال: لا. فدعا المنصور بقارورة فيها طيب له رائحة نفاذة، لا نظير له في البلد، ثم قال للرجل: خذ هذا الطيب لعله يذهب همك، فأخذه، فجعل المنصور أربعة من الناس على أبواب المدينة، كل واحد على باب المدينة، وأمرهم إن شموا رائحته على أحد غير هذا الرجل أن يأتوا به، وقد تخيل أن المرأة لها عشيق آخر تحبه، وأنها خانت زوجها وسرقته من أجل هذا العشيق. وإذا كانت قد أخذت المال وأعطته العشيق فمن باب أولى أن تعطيه الطيب، فكان كما ظن المنصور، فأخذ العشيق، وأعاد المال لصاحبه. ودخل شريك مرة على المهدي فقال للخادم: هات عوداً للقاضي، وشريك القاضي كان من أعدل القضاة رضي الله تبارك وتعالى عنه، ولما دخل على الخليفة أراد الخليفة أن يكرمه، فقال للخادم: هات عوداً للقاضي. فذهب وأتى بعود الطرب ووضعه في حجر القاضي، فقال: ما هذا؟ فاستحيا الخليفة وقال: هذا العود أخذه صاحب العسكر البارحة فأحببت أن يكون كسره على يديك! فتخلص من هذا الشيء بهذه الحيلة؛ حتى لا ينتشر خبره عند الناس. وهناك أشياء كثيرة من هذا القبيل. فالغرض: أن علم الفراسة هبة من الله سبحانه وتعالى، يهبها للإنسان كما وهبها لسليمان، ووهبها لغيره من الناس، كـ عمر بن الخطاب وعثمان رضي الله عنه وعلي، وغيرهم من الناس، والله سبحانه وتعالى يهب لعباده ما يشاء من فضله. والمفروض ألا يحسد الإنسان أخاه إذا وجد نعمةً عنده دونه؛ فإن ربنا نهانا عن الحسد، والنبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن ذلك، وربنا أمرنا أن نتعوذ من شر حاسد إذا حسد، وقد علمنا من خيار الأنبياء كيف أعطى الله الأب شيئاً، وأعطى الابن شيئاً آخر، فلم يحسد أحدهما الآخر على النعمة، ولكن شكرا الله سبحانه تبارك وتعالى على النعم، وسليمان شكر الله عز وجل على النعمة عليه وعلى والديه، قال تعالى: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف:15]. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الأنبياء [83 - 85]

تفسير سورة الأنبياء [83 - 85] قص الله عز وجل علينا في كتابه قصص أنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام، وكذلك قص علينا نبينا صلى الله عليه وسلم قصصهم لتكون زاداً لنا في عبادتنا لله عز وجل، وفي الدعوة إليه، وفي الاقتداء بهم، فقد كانوا صلوات الله وسلامه عليهم لا تبطرهم النعم، ولا تيئسهم المصائب والابتلاءات، بل كانوا صابرين لأمر الله في جميع أمورهم وأحوالهم، ومن هؤلاء الأنبياء الذين قص الله علينا قصصهم أيوب عليه السلام، فقد ابتلي في جسده وماله وولده وأهله، فصبر لأمر الله، فرفعه الله في الدنيا والآخرة.

تفسير قوله تعالى: (وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر)

تفسير قوله تعالى: (وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر)

حال أيوب عليه السلام قبل البلاء

حال أيوب عليه السلام قبل البلاء الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الأنبياء:83 - 85]. يذكر لنا ربنا سبحانه وتعالى في هذه الآيات جملة من أنبيائه عليهم الصلاة والسلام؛ حتى نتأسى بهم ونتبع هداهم، كما قال لنبينا صلى الله عليه وسلم: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]، أي: اقتد بهدي هؤلاء، واتبعهم في صبرهم وفي تبليغهم دعوة ربهم سبحانه وتعالى. ومنهم أيوب على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وهو العاشر من الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام الذين ذكروا في هذه السورة. قال الله سبحانه: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء:83 - 84]. فذكره هنا في الأنبياء، وذكره أيضاً في سورة ص فقال: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ} [ص:41 - 43]. فذكر لنا سبحانه في هاتين السورتين شيئاً من قصة أيوب على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم في أحد أحاديثه شيئاً من قصة أيوب عليه السلام، وذكر أهل الكتاب شيئاً من قصص أيوب عليه السلام، والله عز وجل لم يفصل قصته، وإنما أراد أن يرينا البلاء الذي ابتلي به هذا النبي، وواضح من الآيات أن البلاء كان شديداً. ومما ذكر عن أيوب عليه الصلاة والسلام أنه كان بين إبراهيم وموسى عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، وقد كان غنياً أعطاه الله عز وجل في أرض الشام أرضاً عظيمة جداً، وأعطاه بساتين، وأعطاه من الأنعام ومن الخيرات شيئاً كثيراً، وأعطاه الكثير من الأبناء، فقيل: كان له ثلاثة وعشرون ولداً، والله أعلم، وهذا مذكور عن ابن عباس وغيره، وكانت له زوجة صالحة طيبة، فكان في رغد عظيم جداً؛ فقد جعله الله سبحانه تبارك وتعالى نبياً وجعله ملكاً في ما هو فيه من أشياء.

بلاء أيوب عليه السلام

بلاء أيوب عليه السلام قال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83]. أي: لقد مسني أعظم الضر وأشد ما يكون من البلاء الذي لا يصبر على مثله، ولكن نبي الله عليه الصلاة والسلام صبر لأمر الله تبارك وتعالى. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما رواه أبو يعلى عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وكذا رواه أبو نعيم في الحلية وذكره الشيخ الألباني رحمة الله عليه في السلسلة الصحيحة: (إن نبي الله أيوب صلى الله عليه وسلم لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة). وأيوب كان قد بلغ من العمر سبعين سنة وهو على العبادة وعلى الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، وابتلي في هذا السن، فبعد أن صار شيخاً ابتلاه الله سبحانه وتعالى لينظر كيف يصبر؟ قال صلى الله عليه وسلم: (لبث به بلاؤه ثمانية عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد)، يعني: ابتعد عنه القريب، أي: الأهل، والبعيد: الجار والأصحاب. قال: (فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه كانا يغدوان إليه ويروحان).

سنة الله في ابتلاء المؤمنين

سنة الله في ابتلاء المؤمنين عندما ينزل البلاء تقع فتنة شديدة، والناس ينظرون لهذا المبتلى على أنه قد فعل شيئاً، وينسون أن الله عز وجل يبتلي عباده الصالحين. وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، ويبتلى الرجل على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد له من البلاء، وإن كان في دينه رقة قلل له من البلاء). فيبتلى الرجل على قدر دينه، فلا تقل عن المبتلى إنه كان يعمل شيئاً ما، فقد يكون هذا المبتلى من الصالحين، وله عند الله درجة عالية لن يبلغها عمله، فيبتليه الله عز وجل حتى يرتفع إلى هذه الدرجة. إذاً فلا تشمت بإنسان مبتلى، وإذا مررت به فقل في نفسك: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلى كثيراً من خلقه، وفضلني على كثير ممن خلق من عباده تفضيلاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت السيدة عائشة رضي الله عنها تتمثل بأبيات وتقول: إذا ما الدهر جر على أناس كلاكله أناخ بآخرينا فقل للشامتين بنا أفيقوا سيلقى الشامتون كما لقينا فلا تشمت بأحد أبداً، فقد يأتي البلاء على إنسان وتشمت به والبلاء ينتظرك بعده، فلا تشمت بإنسان نزل به البلاء، والله سبحانه وتعالى يختبر عباده بما يشاء. قال صلى الله عليه وسلم: (فقال أحدهما لصاحبه ذات يوم: تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنباً ما أذنبه أحد من العالمين) فبدأ هذا الإنسان يتشكك في الأمر، وإلا فهو يرى أيوب أمامه، وهو نبي من أنبياء الله عليه الصلاة والسلام، ومن الصابرين، وهو معصوم لا يكذب ولا يقع في خطيئة، فكونه يسيء الظن فيه هكذا هذا أمر صعب. قال: (تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنباً ما أذنبه أحد من العالمين، فقال له صاحبه: وما ذاك؟ قال: منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله فيكشف ما به، فلما راحا إلى أيوب عليه الصلاة والسلام لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له، فقال أيوب عليه الصلاة والسلام: لا أدري ما تقولان غير أن الله تعالى يعلم أني كنت أمر بالرجلين يتنازعان فيذكران الله فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكر الله إلا في حق)، يعني: كان يعمل هذا وهو عمل صالح عظيم، فلا يسيء أحد الظن أبداً في نبي من أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام. ولما قال له الرجل ذلك قال: لا أدري ما تقولان؟ ولكن أعرف من حال نفسي أني كنت أمر بالرجلين يتنازعان، أي: يتشاتمان ويتنازعان في الشيء، وكل منهما يحلف أنه حقه، ولا يمكن أن يكون ملكهما معاً، فعندما أرجع إلى بيتي أكفر عن المسيء في ذلك، ولا يلزمه أن يفعل ذلك عليه الصلاة والسلام.

صبر زوجة أيوب معه في بلائه

صبر زوجة أيوب معه في بلائه قال: (وكان يخرج إلى حاجته، فإذا قضى حاجته أمسكته امرأته بيده حتى يبلغ)، وهذا من أعظم صبر هذه المرأة، فقد صبرت مع أيوب صبراً عظيماً، وصبر هو أيضاً صبراً يضرب به المثل عليه الصلاة والسلام، وهو نبي وحق له ذلك. وأما المرأة فليست نبية، ومع ذلك صبرت مع أيوب عليه الصلاة والسلام صبراً عظيماً قل أن تصبره امرأة مع زوجها، فكانت تخرج معه إلى حاجته، وتمسكه بيده حتى يبلغ.

معافاة الله لأيوب من بلائه

معافاة الله لأيوب من بلائه قال (فلما كان ذات يوم أبطأ عليها، وأوحى الله إلى أيوب أن اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب، قال: فاستبطأته فتلقته تنظر وقد أقبل عليها قد أذهب الله ما به من البلاء وهو أحسن ما كان) أي: قد كشف الله عز وجل عنه هذا البلاء العظيم الذي كان عليه. قال: (فلما رأته قالت: أي بارك الله فيك رأيت نبي الله هذا المبتلى) أي: لم تعرفه؛ لأنه منذ ثماني عشرة سنة في البلاء والآن زال عنه هذا كله فلم تعرفه، فسألته: أتعرف أيوب هذا النبي المبتلى عليه الصلاة والسلام؟ ثم قالت: (والله على ذلك ما رأيت أشبه به منك إذا كان صحيحاً. فقال: فإني هو عليه الصلاة والسلام) فقد شفاه الله سبحانه وتعالى مما كان به، وعوضه ما أخذ منه تبارك وتعالى. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وكان له أندران) والأندر: الخزانة فيها الحبوب والتمر وغيره، قال: (كان له أندران، أندر للقمح وأندر للشعير، فبعث الله سحابتين، فلما كانت إحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض، وأفرغت الأخرى في أندر الشعير الورق حتى فاض) فأعطاه ذهباً وفضة على هذا الصبر، وهذا في الدنيا، أما في الآخرة فدرجته عظيمة ومرتبته عظيمة وأجره عظيم على صبره عليه الصلاة والسلام. وقد جاء أنهم كانوا يقولون له: سل ربك أن يشفيك فيقول: (عافاني الله سبحانه وتعالى سبعين سنة أفلا أصبر سبعين مثلها؟)، يعني: إذا كان منّ علي بصحة وبعافية وبمال وبولد سبعين سنة، أفلا أصبر سبعين سنة مثلها؟

بيان أن من الأدب عدم نسبة الشر إلى الله

بيان أن من الأدب عدم نسبة الشر إلى الله قال الله تبارك وتعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [الأنبياء:83]. وهذا فيه غاية الأدب، فهو لم يقل: مسستني بضر، أو أنزلت بي الضر، والله عز وجل هو الذي يخلق الخير والسقم والبلاء. والله سبحانه وتعالى ينزل على عبده ما يشاء سبحانه، ولكن من الأدب مع الله أن ينسب العبد النعمة والخير إليه سبحانه، وهو الفاعل لكل شيء سبحانه، فيقول كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الخير بيديك، والشر ليس إليك) فالخير من عند الله سبحانه، وهو الذي خلق الخير وغيره، ولكن الأدب مع الله سبحانه أن ينسب العبد البلاء إلى نفسه، كما قال إبراهيم: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ} [الشعراء:78 - 80] وهو الذي أمرضه، ولكنه تأدب مع الله سبحانه وتعالى، فقال: {وَإِذَا مَرِضْتُ} [الشعراء:80] فلم ينسبه إلى الله، وإن كان الله عز وجل هو الذي يشفيه، وهو الذي يمرضه سبحانه وتعالى. وهنا سيدنا أيوب عليه الصلاة والسلام قال: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [الأنبياء:83] وهذه قراءة الجمهور. وقرأها حمزة: (أني مسنيْ الضر وأنت أرحم الراحمين). فبعد ثماني عشرة سنة طلب من ربه سبحانه أن يكشف عنه البلاء. مما جاء في الآثار: أن أصحاب أيوب عليه الصلاة والسلام جاءوا إليه فقالوا له: ذلك أنك أذنبت ذنباً لا يعلمه إلا الله عز وجل، قال: فكان أشد ما كان عليه سوء الظن، فسجد لله عز وجل ونادى ربه وقال: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83] فكشف الله عز وجل عنه ذلك.

تفسير قوله تعالى: (فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر)

تفسير قوله تعالى: (فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر)

رد الله على أيوب أهله بعد كشف ضره

رد الله على أيوب أهله بعد كشف ضره قال تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ} [الأنبياء:84]، أي: فكشفنا كل ما به من ضر، ولم نترك منه شيئاً. قال تعالى: {وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} [الأنبياء:84]، أي: بعد أن أخذهم منه، وكأن الله عز وجل أخذ أولاده الثلاثة والعشرين كما ذكر ابن عباس، ثم ردهم عليه ربه سبحانه، فقيل: ردهم بعدما أماتهم، فأحياهم له، وقيل: إنه أعطاه أجرهم وأعطاه بدلاً منهم، ولعله يكون كذلك، ولم يذكر لنا سبحانه وتعالى الأمر، ولكن الله على كل شيء قدير، فهو قادر على إحيائهم له بعد موتهم، كما ذكر لنا في بني إسرائيل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة:243] أي: أنهم وجدوا الطاعون ينزل في الناس، فخافوا وهربوا لعلهم ينجون من الطاعون. فلما هربوا وخرجوا قال لهم الله عز وجل: موتوا! فماتوا جميعهم، ثم أحياهم بعد ذلك، والله على كل شيء قدير. فقد يفعل ذلك آية، فيميت الإنسان قبل أجله ثم يبعثه لأجله المعلوم عند الله عز وجل، وقد يكون إحياء الله لأولاد أيوب من هذا الباب؛ لأن الله عز وجل قال: {وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} [الأنبياء:84]. ولعل المعنى: آتيناه أجر أهله، أي: صبره على أهله، فيكون بتقدير محذوف هنا: وأعطيناه في الدنيا مثلهم، ويوم القيامة يجد الجميع في جنة الخلد معه. ومما جاء أن إبليس ذهب إليه ليوسوس إليه فما قدر عليه، فسأل الله عز وجل أن يسلطه عليه فأراد الله أن يري الملائكة والخلق كيف يصبر هذا الإنسان فابتلاه، وقد قال في سورة ص: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص:41] وكأنه يذكر أن الشر من الشيطان تسلط عليه، أو أنت سلطت علي هذا الشيطان ففعل بي ما فعل وابتلاني في أصدقائي فوسوس لهم فأساءوا الظن في، وابتلاني في امرأتي فأنا أسأت الظن فيها، فمسني الشيطان بنصب وعذاب. فقال الله عز وجل: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص:42] والركض: الضرب بالرجل، ومنه ركض فرسه، يعني: ركب عليه وضرب برجليه على جنبيه حتى يجري، فهنا قال: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} [ص:42] أي: على الأرض، فنبعت له عين ماء من الأرض فاغتسل منها وشرب فأبرأه الله تبارك وتعالى فصار أحسن مما كان. قال تعالى: {فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} [الأنبياء:84]. هنا ذكر رحمة من عندنا، وقال في ص: {رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ} [ص:43]. وهنا قال تعالى: {رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء:84] أي: تذكرة للعابدين، أي: لكل العباد الذين يعبدون الله سبحانه، ويعلمون أن الله يبتلي العبد بالخير وبالضر، كما قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35]. فالله عز وجل يبتلي عبده بما يشاء، فإذا أعطاه المال فهذا بلاء من الله عز وجل فليحمد ربه سبحانه، وليؤد الحقوق التي أمر بأدائها، وإذا ابتلاه الله عز وجل بالمرض فليعلم أن هذا من عند الله ولا يكشفه إلا الله سبحانه، وليدع بما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء: (أذهب البأس رب الناس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاءك، شفاءً لا يغادر سقماً).

حلف أيوب أن يضرب زوجته وبره في ذلك

حلف أيوب أن يضرب زوجته وبره في ذلك قال تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44]. وكأنه حصل شيء بينه وبين امرأته، فقيل: إن المرأة جاءها الشيطان فوسوس إليها بشيء، وقال لها: اطلبي من أيوب كذا فإذا فعله فإن الله تبارك وتعالى يشفيه، فطلبت منه ذلك، فقيل: إنه أمرها بشيء من الشرك تطلبه من أيوب، فلما طلبته أقسم أيوب أن يضربها مائة جلدة على ذلك، وقيل غير ذلك. فالمقصود: أنه أقسم على شيء فعلته هذه المرأة الصالحة الصابرة أن يضربها مائة جلدة، والله عز وجل أرحم الراحمين يقول له: ما ذنبها، وقد جلست معك هذه السنين الطويلة صابرة؟ وفي النهاية لو فرضنا أنها أخطأت في شيء فالله غفور رحيم كريم سبحانه. فأمر أيوب: أن أوف بيمينك، ولكن اضربها ضربة واحدة. قال تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} [ص:44] والضغث العثكول من النخل، وهو القنو المدلى الذي فيه البلح، فأمره أن يأخذ قنواً منه فيه مائة خوصة فيضرب بها المرأة ضربة واحدة، ليبر بقسمه، وجعل له الله عز وجل هذا المخرج، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]. قال تعالى: {فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} [ص:44] ثم مدحه الله سبحانه بقوله: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44] وقال سبحانه هنا: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} [الأنبياء:84] أي: نادى فاستجبنا له.

شدة تضرع أيوب ودعائه لربه

شدة تضرع أيوب ودعائه لربه قال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ} [الأنبياء:83] والنداء أشد الدعاء. فدعا ربه سبحانه وناجاه متوسلاً إلى ربه سبحانه فقال: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83] وهذا من الجمال في Q { أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [الأنبياء:83] والأصل أن يقول: ارفع عني الذي أنا فيه، ولكنه قال: رحمتك عظيمة وأنت أعلم ما الذي أريده، فتلطف في سؤاله ربه تبارك وتعالى، فقال: {أََنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83] أي: فلتسعني رحمتك. فاستجاب له الله عز وجل سريعاً، قال تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ) [الأنبياء:84] وكان قد تباطأ عن الدعاء سنوات، واستحيا من ربه الذي أكرمه بالخير كثيراً، وقال: أفلا أصبر كثيراً على هذا الذي ابتلاني به؟ فلما نادى ربه قال: ((فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} [الأنبياء:84] أي: آتيناه الأجر على أهله الذين ماتوا، أو أحيا الله سبحانه أهله، والله أعلم بذلك.

نعمة الله على أيوب بعد شفائه

نعمة الله على أيوب بعد شفائه قال تعالى: ((وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ)) أولاداً آخرين. قال تعالى: {رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} [الأنبياء:84] فرحمناه وكشفنا ما به وأعطيناه، ورحمنا زوجته فأمرناه ألا يحنث وأن يضربها ضربة واحدة. قال تعالى: {وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء:84] أي: حتى يتذكر كل إنسان عابد لله سبحانه رحمة رب العالمين الواسعة، وأنه الذي يستجيب لمن يدعوه كما قال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:62]. لا إله إلا الله، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه عن أيوب: (إن أيوب على نبينا وعليه الصلاة والسلام بينما كان يغتسل عرياناً خر عليه جراد من ذهب، فجعل أيوب يحثوه في ثوبه، فناداه ربه سبحانه: يا أيوب، ألم أكن أغنيتك عما ترى؟) يعني: ألم أعطك أندر ذهب وأندر فضة، وحاشا لأيوب أن يكون طماعاً، وهو نبي معصوم، وإنما هو أدب الأنبياء. وقد قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: (إنها صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته) ولو أن إنساناً ذهب إلى إنسان غني وكبير وأعطاه شيئاً من الصدقة فقال له: لا أريد، لكان ردها قبيحاً، وحينئذ يشعر المعطي بالضيق لرفضه، وكلما ازداد قدره ومقامه كان الرفض أوجع له. ولله عز وجل المثل الأعلى، ولا شيء يناله سبحانه وتعالى من عبده، قال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37]، فلما أنزل الله على أيوب هذا الجراد من الذهب ابتلاء له، ونظراً لما يصنع قبل صدقة ربه عليه، فسأله الله ممتحناً له ومختبراً: (ألم أكن أغنيتك عن هذا؟ قال: بلى؛ ولكن لا غنى لي عن بركتك). فهنا منه تأدب في الأخذ وتأدب في الجواب صلوات الله وسلامه عليه، فذكره الله عز وجل في هذه الآيات وفي غيرها.

تفسير قوله تعالى: (وإسماعيل وإدريس وذا الكفل)

تفسير قوله تعالى: (وإسماعيل وإدريس وذا الكفل)

بيان مدح الله لإسماعيل بصدق الوعد

بيان مدح الله لإسماعيل بصدق الوعد قال تعالى: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنبياء:85 - 86]. وقد كان أيوب صابراً، قال تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44] أي: كثير الأوبة إلى الله عز وجل، وقد كان الأنبياء مثله، ولكنه أشدهم بلاءً في جسده وفي ماله وفي ولده. قال تعالى: {وَإِسْمَاعِيلَ} [الأنبياء:85] وهو ابن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، وقد كان نبياً رسولاً عليه الصلاة والسلام. وقال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مريم:54] أي: كان يعد الوعد ويصدق في وعده، وقد وعد شخصاً أن يلقاه في المكان الفلاني بعد ثلاث، فانتظر بعد ثلاث ولم يأت الرجل إلا بعد ثلاث ليال، فقال له: لقد شققت علي! وصبر. وليس مطلوباً من الناس أن يكونوا على مثل هذا الوعد العظيم والوفاء، ولكن يذكر ربنا لنا هؤلاء لنقتدي بهم في الوفاء بالوعد، وكثير منا اليوم يعد ولا يفي بوعده، فالواجب الوفاء بالوعد. وقد جاء مثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أن رجلاً وعده قبل الإسلام أن يأتيه في المكان الفلاني، فانتظره النبي صلى الله عليه وسلم وبات في مكانه ينتظر الرجل حتى ظهر الرجل بعد ذلك وقال: لقد شققت علي، فإسماعيل فعل ذلك، واقتدى به النبي صلوات الله وسلامه عليه. وقال تعالى عن إسماعيل: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم:55] وأنت قبل أن تدعو الناس ادع أهلك، وأولى الناس أن تنقذهم من النار أهلك، وقد قال الله في القرآن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]. إذاً: إسماعيل كان صادق الوعد عليه الصلاة والسلام، وكان رسولاً نبياً، وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عمله عند ربه مرضياً، وذكر هنا أنه من الصابرين، وأي صبر أعظم من صبر إسماعيل عليه الصلاة والسلام حين أخذه أبوه ليذبحه.

قصة إتيان إبراهيم عليه السلام بأهله إلى مكة وتركهم فيها

قصة إتيان إبراهيم عليه السلام بأهله إلى مكة وتركهم فيها وقد ولد إسماعيل من هاجر، فلما ولد لها غارت سارة من هاجر، فأخذ إبراهيم بوحي من الله عز وجل هاجر وابنها إسماعيل بعيداً عن سارة وذهب بهما إلى مكة. وكانت سارة في الشام. وقد كانت مكة صحراء لا طعام فيها، ولا ماء، وعندما وصل بهما إلى مكة ترك بها جراباً من تمر وسقاء فيه ماء، وتركها هناك عند موضع البيت، ولم يكن البيت في ذلك الوقت موجوداً، وترك ابنه الوحيد الذي جاء له بعد أكثر من ثمانين سنة في هذا المكان مع أمه. فقالت هاجر: يا إبراهيم! إلى من تتركنا في هذا المكان الذي لا أنيس به ولا جليس؟ فسكت إبراهيم وكأن الأمر شديداً على نفسه، ولكنه ينفذ أمر الله عز وجل ووحيه، فانطلق وتركها، فقالت: إلى من تتركنا؟ وفي النهاية قالت: إلى الله؟ قال: نعم. قالت: إذاً فلا يضيعنا. وذهب إبراهيم حتى إذا كان وراء أكمة، أي: ثنية، وقد كان متجلداً أمامها وأمام ولده الصغير حتى لا يتسخطان أمر الله، فلما توارى خلف الأكمة ظهر حنانه عليه الصلاة والسلام ودعا ربه متوسلاً إليه: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ * رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم:37 - 38]. فدعا عليه الصلاة والسلام ربه سبحانه، وترك ابنه، فشب هذا الولد، وكان أبوه يأتيه بين الحين والحين ينظر إليه ويرجع، وصبر الولد وشب.

قصة بناء إبراهيم للبيت مع ابنه إسماعيل وقصة الذبح

قصة بناء إبراهيم للبيت مع ابنه إسماعيل وقصة الذبح فأتى إبراهيم عليه الصلاة والسلام يوماً وقال لإسماعيل: (إن الله أمرني بأمر، قال: فامض إلى ما أمرك ربك، قال: وتعينني؟ قال: وأفعل. قال: أمرني أن أرفع القواعد من البيت، فأعانه إسماعيل فرفعا القواعد من البيت، ثم رجع إبراهيم عليه الصلاة والسلام بأمر الله عز وجل. وبعد فترة أوحى الله إليه رؤيا منامية: أن اذبح ولدك، وقد كان إبراهيم في كل حين ينظر إلى ابنه بأنه لم يربه وتركه في هذا المكان، فذهب إليه وقال: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات:102] فلم يقل له: هذه أضغاث أحلام وهرب منه، فهو يعلم أن أباه نبي من عند الله سبحانه، وأن هذا وحي من الله. فقال: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102] أي: أصبر لذلك. وعندما أراد أن يذبحه طلب منه إسماعيل أن يلقيه على وجهه حتى لا ينظر إليه وهو يذبحه. فلما كاد أن يذبحه نزل أمر الله عز وجل: {أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:104 - 107]. فكان بلاءً بيناً عظيماً للإثنين، لإبراهيم عليه الصلاة والسلام وابنه إسماعيل، فكان إسماعيل صابراً، فذكره الله عز وجل من الصابرين. وكذلك إدريس على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وكذلك ذو الكفل قال تعالى: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الأنبياء:85]. فكل واحد من هؤلاء صبر لأوامر الله عز وجل، فمدحهم الله تبارك وتعالى. وقد رفع الله إدريس مكاناً علياً في السماء الرابعة، وقد قيل إنه كان قبل نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وقيل: بل كان بعده، فالله أعلم. فالغرض: أنه ابتلاه الله سبحانه تبارك وتعالى، فصبر لأمر الله سبحانه، فرفعه الله بصبره مكاناً علياً. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الأنبياء [85 - 91]

تفسير سورة الأنبياء [85 - 91] يذكر الله سبحانه جملة من الأنبياء ويذكر صفاتهم ودعوتهم لقومهم وصبرهم وحلمهم عليهم، كل ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم حتى يقتدي بهم في ذلك، حتى إذا واجه من قومه الإعراض والإيذاء يصبر عليهم ويستمر في دعوتهم حتى يؤمنوا، أو يجاهدهم ويقاتلهم.

قصص إسماعيل وإدريس وذا الكفل

قصص إسماعيل وإدريس وذا الكفل الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنبياء:85 - 86].

قصة إسماعيل عليه السلام

قصة إسماعيل عليه السلام ذكر الله عز وجل في سورة الأنبياء جملة من أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام، لنتعظ بذكرهم ونتأسى بفعلهم وصبرهم وجهادهم، فذكر بعضهم في هذه الآيات، قال تعالى: ((وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ)). أول هؤلاء الأنبياء هو إسماعيل بن إبراهيم عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، وذكرنا بالأمس شيئاً من قصته، وكيف صبر لأمر الله سبحانه بالذبح، حتى نجاه الله سبحانه وتعالى، وفداه بذبح عظيم، وكيف أنه أعان أباه في بناء الكعبة، ودعوا ربهما سبحانه وتعالى، {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127]، وكيف أنه صبر على أهله، فكان يأمرهم بالصلاة والزكاة، وكان من الخاشعين لربه العالمين.

قصة إدريس عليه السلام

قصة إدريس عليه السلام إدريس عليه السلام هو نبي من أنبياء الله، ورسول من رسل الله عليهم الصلاة والسلام، ذكر الله عز وجل هنا أنه من الصابرين ومن الصالحين، ((وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ)). فوصفهم بالصلاح ووصفهم بالصبر، وإدريس النبي عليه الصلاة والسلام قالوا: كان قبل نوح على نبينا وعليهما الصلاة والسلام، وقيل: بل كان بعد نوح عليه الصلاة والسلام والله أعلم. وقالوا: كان إدريس أول من خط بالقلم، وأول من خاط الثياب ولبسها، ونظر في علم النجوم وعلم الحساب، وسير النجوم وغير ذلك. فربنا سبحانه وتعالى ذكر أنه رفعه مكاناً علياً، رفعه بصبره ورفعه بصلاحه، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم في قصة معراجه أنه رآه في السماء الرابعة، فرفعه الله مكاناً علياً.

قصة ذي الكفل والأقوال في نبوته وعدمها

قصة ذي الكفل والأقوال في نبوته وعدمها قوله: ((وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ)) اختلفوا في ذي الكفل هل كان نبياً من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أم كان رجلاً من الصالحين، فالبعض يقول: هو نبي من الأنبياء باعتباره ذكر مع هؤلاء الأنبياء في هذه السورة. والذي يقول: ليس من الأنبياء وإنما كان رجلاً صالحاً، وإنه تكفل لنبي من الأنبياء بشيء فوفى بما طلب منه، باعتبار ما جاء في حديث الترمذي وإسناده ضعيف: (كان الكفل لا يتورع من ذنب عمله، فأتته امرأة ولما ذكرته بالله تركها)، إلى آخر الحديث، ويشبه هذه القصة ما ورد في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الثلاثة الذي آواهم المطر إلى غار في الجبل، ومنهم رجل وقف من امرأة موقف الرجل من زوجته فذكرته بالله فتركها وترك لها الدنانير التي كان قد أعطاها. فذكر في الترمذي أن اسمه الكفل، وفي الآية هنا، ذو الكفل، وقلنا: إن هذا الحديث الذي في سنن الترمذي إسناده ضعيف، فلا يصح أن يفسر به هذا الذي ذكره الله سبحانه وتعالى، وهنا كونه يذكر أنه من أهل الصلاح ومن أهل الصبر ينافي أن يكون هذا من أهل الفساد وأنه لا يتورع من ذنب، ثم فجأة يثني عليه بذلك، لعل هذا يكون بعيداً، والأقرب أنه كان نبياً من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أو أنه تكفل لنبي من الأنبياء بأمر الأمة من بعده، فقد جاء في الرواية: (أن نبياً من أنبياء الله عز وجل في بني إسرائيل، لما كبر في سنه طلب من قومه من يقوم لي في هذا الأمر، أو من يكفل لي أمر الناس، بشرط أن يصوم النهار ويقوم الليل ولا يغضب -يعني: من أجل أن يكون حاكماً وقاضياً على قومه- فقام شاب فقال: أنا، فقال: اجلس -كأنه استصغر أمره، كيف يكون حاكماً على هؤلاء القوم وهو صغير؟ - فسكت وكرر في اليوم الثاني وفي اليوم الثالث، وكل مرة يقوم هذا الرجل فاستخلفه، فقام وتكفل بذلك). وكان من العباد قبل أن يتولى الحكم على قومه، فلما تولى الحكم لم ينس العبادة، من صيام وقيام ليل، وقام بالأمر الذي تكفل به خير قيام. كذلك كان يقوم على أمر الناس ولا يغضب، وهذا أمر صعب جداً، لا يقوم به إلا نبي من الأنبياء، حتى إن الشيطان أراد أن يخرجه عن حده وعن قوله فيغضبه فلم يقدر عليه، فجاءه في صورة إنسان ليغضبه وهو صائم، في وقت القيلولة، جاء الشيطان في صورة إنسان مظلوم يطلب الحكم له، فقال: أنا رجل مظلوم، وطلب منه أن يأتي معه لينصره على خصمه، فأرسل معه رجلاً فرفض، وأصر إلا أن يأتي معه، فخرج معه فلما أخذ بيده وانطلق إذا به يفر ويهرب منه، وإنما أراد أن يجعله يغضب؛ لأنه أزعجه وقت نومه، لكنه لم يغضب، وعرف أنه الشيطان. ومدحه الله عز وجل في هذه السورة بأنه من الصابرين، والصبر لم يكن مرة واحدة يصبر فيها، ولكن واضح من الآية أنهم صبروا صبراً عظيماً وصبراً طويلاً فقال: ((كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ)) أي: كل واحد اختصه الله عز وجل بمهام قام بها وأداها على أكمل الوجوه، وصبر لأمر الله حتى توفاه الله سبحانه. قال سبحانه: ((وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا))، ورحمة الله سبحانه وتعالى جنته، فرحمهم الله عز وجل ورضي عنهم وأدخلهم جنته سبحانه، ثم قال: {إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنبياء:86]، وإن هنا سببية معناها: لأنهم من الصالحين.

تفسير قوله تعالى: (وذا النون إذ ذهب مغاضبا وكذلك ننجي المؤمنين)

تفسير قوله تعالى: (وذا النون إذ ذهب مغاضباً وكذلك ننجي المؤمنين)

حكم التفضيل بين الأنبياء

حكم التفضيل بين الأنبياء قال الله تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]. وذا النون هو سيدنا يونس على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وذو من الأسماء الستة بمعنى صاحب، يعني: صاحب النون، والنون الحوت الضخم الكبير، فذو النون هو صاحب الحوت، وصاحب الحوت هو يونس بن متى على نبينا وعليه الصلاة والسلام. ذكر الله تعالى هنا يونس عليه السلام فقال: ((وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا)) وذكره الله عز وجل في سورة الصافات فقال: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:139 - 144]. وذكره أيضاً في قوله تعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ * لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ * فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القلم:48 - 50]. هذا كله في سيدنا يونس بن متى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فذكر لنا ربنا سبحانه وتعالى قصته، ونبينا صلوات الله وسلامه عليه ذكره في الحديث، وقال: (لا يقولن أحدكم: إني خير من يونس بن متى)، عليه الصلاة والسلام. وفي الحديث الآخر: (لا ينبغي لعبد أن يقول: إني خير من يونس بن متى). وفيه رواية ثالثة: قال: (ولا أقول: إن أحداً أفضل من يونس بن متى)، وفي رواية: (لا ينبغي لنبي أن يقول: أنا أفضل من يونس بن متى). هذا من تواضع النبي صلوات الله وسلامه عليه، وإلا فهو رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق، وهو سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك قال ذلك تواضعاً؛ حتى إذا قرأ الإنسان هذه الآيات في كتاب الله عز وجل لا يستهين بسيدنا يونس عليه الصلاة والسلام، ولا يظن أنه لو كان مكانه لفعل أفضل مما فعله، أو يفاضل بين الأنبياء على وجه التحقير للبعض منهم، كأن يقول: لو كان نبينا صلى الله عليه وسلم مكانه كان كذا وكذا، فالرسول صلى الله عليه وسلم سد الباب، بل يتواضع صلوات الله وسلامه عليه ويهضم نفسه صلى الله عليه وسلم ويقول: (رحم الله أخي يوسف لو لبثت في السجن كما لبث ثم جاءني الداعي لبادرت) فهو يهضم نفسه صلى الله عليه وسلم ويقول: إن سيدنا يوسف كان على صبر عظيم جداً، فهو مع أنه كان في السجن ويأتيه الداعي ويقول: تعال كلم الملك، فيقول له: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف:50] فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: لو كنت مكانه لما قلت هذا الشيء، ولخرجت مباشرة؛ لأن السجن بلاء شديد.

قصة يونس عليه السلام مع قومه

قصة يونس عليه السلام مع قومه من قصة سيدنا يونس عليه السلام ما ذكر الله عز وجل هنا: ((وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا)) يعني: غضبان لله سبحانه وتعالى، قالوا: مغاضباً لأجل ربه؛ لأن قومه عصوا ربهم سبحانه وتعالى. والله سبحانه وتعالى بعثه إلى أهل نينوى وهي بلدة من أرض الموصل في العراق، فدعاهم إلى الله فترة طويلة فلم يستجيبوا له وكذبوه، فوعدهم بنزول العذاب في وقت معين، وخرج عنهم مغاضباً لهم، ولكن خروجه هنا كان بغير إذن من الله سبحانه، يقول سبحانه: ((فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ))، يعني: نضيق عليه. وهنا قراءة الجمهور، ((فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ))، وقراءة يعقوب: ((فَظَنَّ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ)) أي: أن لن يضيق عليه في أمر دعوته إلى الله عز وجل، فخرج بغير إذن من ربه، وهنا تعلم منه النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يخرج مهاجراً من بلده مع إيذاء الكفار له حتى يأتي الإذن من الله سبحانه وتعالى. فيونس عليه الصلاة والسلام خرج مغاضباً لقومه، فلما رأوا آثار العذاب، وأن العذاب آت من عند الله عز وجل، ويونس عليه السلام قد خرج وتركهم خضعوا وتضرعوا لربهم سبحانه وتعالى، قال ربنا سبحانه: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:98]. فقوله: ((فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا)) أي: هلا كانت قرية آمنت فانتفعت بإيمانها قبل أن يأتي العذاب، إلا قوم يونس لما رأوا العذاب نفعهم الإيمان قبل أن ينزل العذاب؛ لأنهم خشعوا لله وتضرعوا لله سبحانه وتعالى، وعرفوا أن نبيهم صادق، فالله عز وجل ذكر أنهم الوحيدون الذين كشف عنهم العذاب قبل أن ينزل عليهم، فرحمهم الله وكشف عنهم العذاب.

إلقاء يونس في اليم

إلقاء يونس في اليم ولما ذهب يونس من عند قومه ركب السفينة فلجت بهم وخافوا أن يغرقوا فتساءلوا فيما بينهم، فقال أحدهم: إن معنا عبداً آبقاً من ربه، وإنها لا تسير حتى يلقى في البحر، فاقترعوا فوقعت القرعة على يونس، فقالوا: والله لا نلقيك، فاقترعوا مرة ثانية وثالثة وفي كل مرة تقع القرعة عليه، فألقى بنفسه في البحر، قال الله عز وجل: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الصافات:139 - 140]، أي: المملوء، {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات:141] يعني: ساهم في القرعة، فهم لما وجدوه نبياً معهم ويقول لهم: ارموني في البحر، بعد أن وقعت القرعة عليه، رفضوا إلقاءه في البحر حتى كرروا القرعة ثلاثة مرات، فألقى بنفسه في البحر، فالله سبحانه وتعالى سلط حوتاً يلتقمه، {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} [الصافات:142] أي: وهو آثم؛ لأنه عمل عملاً يلام عليه، ولو كان غيره لما كان يلام على ذلك، لو أن أحد الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى ذهب إلى قوم يدعوهم فرفضوا أن يقبلوا دعوته فخرج من عندهم إلى غيرهم كان مثاباً على ذلك ومأجوراً، لكن هذا نبي من أنبياء الله، والأنبياء مراتبهم عالية، وقد يكون الشيء من غيرهم حسنة ويكون منهم سيئة، ولذلك قالوا: حسنات الأبرار سيئات المقربين؛ لأن درجات هؤلاء المقربين عالية، فقد يكون منهم الشيء يعد عند الله عز وجل إساءة ويكون من غيرهم إحساناً وليس إساءة. فهذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام لامه الله عز وجل؛ لأنه خرج بغير إذنه عز وجل. قال تعالى: {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:142 - 144] أي: لبقي في بطن الحوت إلى قيام الساعة، ولكن الله عز وجل رحمه بتسبيحه؛ لأنه كان كثير التسبيح وكثير الصلاة وكثير الذكر لله سبحانه وتعالى، فنفعه ذلك، {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ} [الصافات:145 - 146]. وهنا يذكر لنا ربنا سبحانه وتعالى أنه نادى في الظلمات؛ لأن الحوت يكون في أعماق البحر، وأعماق البحر تكون مظلمة، والجزء من البحر الذي فيه نور هو مقدار خمسين أو مائة متر من سطح البحر، وتحت ذلك ظلمات البحر.

دعاء يونس في بطن الحوت

دعاء يونس في بطن الحوت {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنبياء:87]، أي: دخل بطن الحوت وهو مظلم، وهو في جوف البحر المظلم، وجاء عليه الليل المظلم، ظلمات بعضها فوق بعض، ((فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ))، هذا نداؤه ودعوته التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث، قال صلى الله عليه وسلم: (دعاء ذي النون في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، لم يدع به رجل مسلم في شيء قط إلا استجيب له)، هذا دعاء عظيم جداً؛ لأن فيه توحيد الله سبحانه وتعالى، وفيه الاعتراف بالتقصير والذنب، وأن الإنسان ظالم لنفسه وظالم لغيره. فلما قال هذا استجاب الله عز وجل له، قال: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} [الأنبياء:88] أي: مباشرة، ألهمه الله عز وجل ما يقول فاستجاب له سبحانه، قال: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ} [الأنبياء:88] هنا ما قال: (فاستجبنا له فنجيناه من الغم) وإنما قال: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاه} [الأنبياء:88] لأنه لو قال: (فنجيناه) لكان المعنى: أننا استجبنا ولكن أبطأنا في نجاته، ولكن لما قال: (ونجيناه) أي: استجبنا له وحالاً كانت النجاة من الله عز وجل، فهذه الكلمة لها شأن عظيم عند الله عز وجل، فهو عندما قالها أنجاه الله سبحانه وتعالى. ثم قال: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:88]، وهذا تفضل الله عز وجل وكرمه على عباده، فقوله: ((وَكَذَلِكَ)) أي: وهذا الإنجاء ليس مختصاً بيونس عليه السلام، بل كل إنسان مؤمن يرجع إلى ربه ويستغيث بربه ويقول ذلك ننجيه كذلك من البلاء ومن الكرب. قوله: {وَكَذَلِكَ نُنْجِيَ} [الأنبياء:88]، بصيغة المضارعة، وهذه قراءة الجمهور. وقراءة ابن عامر وشعبة عن عاصم ((وَكَذَلِكَ ُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ))، على صيغة الماضي. والمعنى: أن الله عز وجل نجى المؤمنين من قبل ومن بعد، فكما نجى الله عز وجل يونس نجى غيره. إن قصة ذي النون على نبينا وعليه الصلاة والسلام يذكرها لنا ربنا سبحانه وتعالى، فيخشى النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان يسيء الظن، فقال: (لا تفضلوني عليه، أو لا يقل أحدكم: أنا خير من يونس) فلا ينبغي لك أن تقول على نفسك ولا على النبي إنه أفضل من يونس، والمعنى لا تقل: لو كنت مكانه كنت عملت كذا، أو تقول: لو أن النبي صلى الله عليه وسلم مكانه كان عمل كذا، هذا لا ينبغي لأحد أن يقوله، ولا أن يخير بين الأنبياء على وجه التحقير للبعض الآخر. ورد في حديث للنبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من سره أن يستجيب الله له في البلاء فليكثر من الدعاء في الرخاء)، يعني: إذا كنت تريد أن يستجيب الله لك الدعاء عندما ينزل بك كرب، فأكثر من الدعاء، وعود الملائكة سماع صوتك باستمرار، حتى تقول: يا رب يا رب، ففي وقت الكرب ينفعك ذلك، فسيدنا يونس عليه الصلاة والسلام كان كل يوم يصعد إلى السماء منه تسبيح وصلاة وأعمال صالحة، والملائكة اعتادوا على ذلك، فلما حبس في بطن الحوت إذا به يقول: (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين)، والملائكة تسمع صوتاً بعيداً فيقولون: يا ربنا صوت غريب من مكان بعيد، يقول: أما تعرفونه ذاك عبدي يونس، فيقولون: يونس الذي لم يزل يصعد إليك منه عمل متقبل، فالله عز وجل يلهمه أن يقول هذا الدعاء لينجيه بفضله سبحانه وتعالى.

نجاة يونس من بطن الحوت وإرساله إلى مائة ألف أو يزيدون

نجاة يونس من بطن الحوت وإرساله إلى مائة ألف أو يزيدون قال تعالى: {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ} [الصافات:145] (فنبذناه) أي: ألقيناه، فالله عز وجل أوحى إلى الحوت بالتقامه، فما أن ألقى بنفسه في البحر حتى التقمه وابتلعه، ويوحي الله إلى الحوت أنه ليس رزقاً لك، وإنما أنت سجن فقط، فيكون سجناً له فلا يتأذى فيه، ويسبح لربه ويصلي له وهو في جوف الحوت. قوله: (وهو سقيم) أي: مريض. ثم قال: {وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ} [الصافات:146]، ألقاه الحوت في العراء على الشاطئ، ليس هناك شيء يظله، وهو محتاج للطعام والشراب، فالله عز وجل أنبت عليه شجرة من يقطين، واليقطين هو القرع، فإذا بهذه الشجرة تظله، ويأكل من قرعها. ثم قال تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات:147]، فالله عز وجل من عليه وتركه نبياً، بل وأرسله إلى قوم آخرين، {فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [الصافات:148] وهنا ربنا سبحانه وتعالى قال: {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:88] أي: كما نجينا يونس على نبينا وعليه الصلاة والسلام.

تفسير قوله تعالى: (وزكريا إذ نادى ربه وكانوا لنا خاشعين)

تفسير قوله تعالى: (وزكريا إذ نادى ربه وكانوا لنا خاشعين) قال الله تعالى: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء:89]. وزكريا نبي من أنبياء بني إسرائيل على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وهو أبو يحيى النبي عليه الصلاة والسلام، وزكريا هو الذي كفل مريم عليها السلام، وولده يحيى هو ابن خالة المسيح على نبينا وعليهم الصلاة والسلام، فكان زكريا زوج أخت مريم ومريم أم المسيح ويحيى هو ابن أختها، فهما أبناء خالة. قوله تعالى: ((وَزَكَرِيَّا)) تقرأ بالمد وبالقصر، وقراءة القصر هي قراءة حفص عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف، كلهم يقرءونها: ((وَزَكَرِيَّا))، وباقي القراء يقرءونها: ((وَزَكَرِيَّاء))، بالمد فيها، وستكون منصوبة، (زكرياءَ) يعني: اذكر زكرياء. وهؤلاء الذين يقرءونها (زكرياء) لهم قراءتان فيها: الأولى: قراءة ابن عامر وشعبة: ((وَزَكَرِيَّاء إِذْ))، وباقي القراء في الهمزة الأولى يحققونها والهمزة الثانية يسهلونها، فيقول: ((وَزَكَرِيَّاء اِذْ نَادَى رَبَّهُ)) مثلما نقرأ: {أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت:44]، فهذه القراءات التي فيها. قال تعالى: ((وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ)) أي: نادى ربه مناجياً داعياً: لا تذرني فرداً، وذكرها الله عز وجل في سورة مريم، كما قدمنا قبل ذلك أنه قال: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم:5 - 6] فقال: ((يَرِثُنِي))، وذكرنا أن الإرث الذي يقصده هنا هو ميراث النبوة، أي: يكون نبياً مثلي، فيرث العلم الشرعي، وإلا فالأنبياء أبعد الناس عن طلب المال أو عن جمع المال من أجل أن يرثهم أولادهم هذا المال، وإنما رأى أن من حوله من الأولياء والعصبات من قومه وأهله لا يصلحون لحمل ميراث النبوة، فالله سبحانه وتعالى ذكر أنه نادى ربه هنا وقال: {رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا} [الأنبياء:89] أي: أنا أدعو إليك فإذا مت انقطعت الدعوة بموتي. {وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء:89] أي: أنت الذي ترث الأرض ومن عليها، وأنت الذي ترث أمري، وأنت الذي تبعث من بعدي من يدعو القوم، ولكن اجعل لي ولداً يرثني في أمر النبوة والدعوة إليك. قال تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء:90] أي: بعدما كبر وشاخ في سنه استجبنا له ووهبنا له هذا الغلام يحيى. {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء:90] أي: أن زوجة زكريا كانت عاقراً لا تلد فأصلح الله أمرها، وإذا بها تلد ويكون منها هذا الغلام، فالمعنى: أنا استجبنا له وأصلحنا زوجته فجعلناها تلد وجعلناها أهلاً لذلك، ووهبنا له يحيى على نبينا وعليهم الصلاة والسلام. {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء:90]، يعني: لكونهم كانوا من الصالحين، ما هي أفعالهم؟ {كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] هذه صفات عظيمة لهؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يذكرهم ويذكر صفاتهم حتى يتأسى بهم صلوات الله وسلامه عليه، ويعلم القوم أحوالهم. قوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء:90] العجلة مذمومة إلا أن تكون في الخير وفي المسابقة والمسارعة إلى الخيرات، فليسرع الإنسان لعله لا يدري هل يعيش إلى أن يعمل الخير أو يموت قبله؟! فأي عمل من أعمال الخير بادر إليه وسابق إليه وسارع إليه، فالخير كله من عند الله سبحانه وتعالى، فسارع قبل أن يفوت عليك الخير أو تتبدل نيتك. وقوله: ((وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا)) الرغب: شدة الرغبة فيما عند الله سبحانه، والطمع في كرمه وثوابه ورحمته سبحانه وتعالى، ترجو ما عنده، والرهب: الخوف منه سبحانه وتعالى. وكمال العبادة لا يكون إلا بكمال الحب لله عز وجل وكمال الذل بين يديه سبحانه وتعالى. فهؤلاء الأنبياء كانوا يدعون ربهم راغبين فيما عنده، سائليه جنته سبحانه وتعالى، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل: (ماذا تقول في صلاتك؟ قال: أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار، ولا أدري ما دندنتك ولا دندنة معاذ)، يعني: لا أستطيع أن أدعو بما تدعو به أنت ومعاذ، ولكن أطلب منه الجنة وأستعيذ به من النار، فقال صلى الله عليه وسلم له: (حولهما ندندن) أي: دعاؤنا كله حول دخول الجنة والنجاة من النار. فهنا قال: {يَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:90] فلا يجوز للإنسان أن يقول: إني أدعو ربي محبة ولا أخاف منه، وإلا فربنا سبحانه قد خوفنا في كتابه بأنه شديد العقاب سبحانه، وأنه عزيز ذو انتقام سبحانه وتعالى، ولم يذكر ذلك إلا ليرغبنا في جنته ويرهبنا من عذابه وبطشه وانتقامه، فالعبد المؤمن من كمال عبادته لله سبحانه أن يحب الله ويرغب فيما عنده، وأن يخاف الله سبحانه وتعالى، ويحذر من ناره سبحانه ونقمته وعذابه سبحانه. إذاً: أعظم العبادة ما كانت على الرغبة والرهبة؛ لأن الرغبة وحدها تدفعه في النهاية لأن يكون مرجئاً، وسيترك العمل في النهاية ولا يعمل، وكذلك الإنسان الذي يعبد الله عز وجل بالخوف وحده يصل في النهاية إلى اليأس ولا حول ولا قوة إلا بالله، لكن الله عز وجل يرغب ويرهب عباده، فهو ما ذكر الجنة إلا لكي تطلبوا من الله عز وجل هذه الجنة، وذكر النار ليخوفكم منها وتتعوذوا بالله عز وجل منها ومن شرها ومن سمومها وجحيمها. وقوله: {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] أي: كانوا خاشعين لرب العالمين سبحانه، يدعون ربهم سبحانه ويخشعون ويتواضعون ويذلون أنفسهم لربهم سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها)

تفسير قوله تعالى: (والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها) قال الله تعالى: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:91]. يعني: اذكر هذه التي أحصنت فرجها، {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} [الأنبياء:91] وذكر في سورة آل عمران وفي سورة مريم تفصيلاً طويلاً في ذلك، وهنا أشار إشارة: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [الأنبياء:91]. فهناك ذكر أنها كانت صغيرة السن ونذرتها أمها لخدمة بيت المقدس، فقامت بذلك على أتم التمام وأكمل الكمال وخدمت في بيت الله، وكانت طاهرة مطهرة عليها السلام، فطهرها الله سبحانه وجعلها سيدة نساء العالمين، وجعل لها في الجنة منزلة عظيمة جداً، وجعلها آية للخلق. قال تعالى: {الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [الأنبياء:91] أي: طُهرَتْ وطَهَرَتْ نفسها ولم تقع في دنس أبداً. {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} أي: أرسلنا جبريل روح القدس فنفخ نفخة من روح الله عز وجل، فجبريل عليه السلام نفخ في جيب درعها نفخة، فقام روح القدس بهذه النفخة. قوله: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} [الأنبياء:91]، شرف الله هذه الروح بإضافتها إليه عز وجل، فهذه روح الله سبحانه، كما يقال: هذه أرض الله، هذه سماء الله، وهذا بيت الله، والمسيح روح الله، أي: روح خلقها الله عز وجل وشرفها بإضافتها إليه. وذكر هنا: ((فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا)) [الأنبياء:91] وهناك ذكر ((فَنَفَخْنَا فِيهِ)) [التحريم:12]. قوله: {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:91]. أي: جعلناها آية وجعلنا ابنها أيضاً آية، فهو سبحانه جعلهما من أعظم الآيات، {آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:91] وذلك أنها حملت بابنها من غير أب، فجعلناها آية كما كان آدم قبل ذلك آية من غير أب ولا أم، وكما كانت حواء آية من ذكر ليست من أنثى، فجعلنا المسيح ابن مريم آية أن جاء من أنثى ليس من ذكر، والله على كل شيء قدير، يخلق ما يشاء، خلق آدم من تراب لا ذكر ولا أنثى، فأوجده سبحانه وتعالى، وأوجد حواء من ذكر فقط، وأوجد المسيح عيسى ابن مريم من أنثى فقط، ويخلق ما يشاء سبحانه وهو على كل شيء قدير. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الأنبياء [92 - 96]

تفسير سورة الأنبياء [92 - 96] إن دين الأنبياء واحد وهو الإسلام، ودعوتهم واحدة، فكلهم يدعون إلى عبادة الله سبحانه وتوحيده، ولكن الناس عبدوا مع الله غيره فصاروا فرقاً وأحزاباً، كل يعبد من دن الله ما يريد، فالذي يعبد الله وحده ويعمل الصالحات محفوظ عمله عند الله، وإذا أراد الله إهلاك قرية لا يقبل منها توبة، ولا رجوع لها إلى الدنيا مرة أخرى، وإن من علامات الساعة التي ذكرها الله تعالى خروج يأجوج ومأجوج، فإذا خرجوا فقد اقترب موعد قيام الساعة.

تفسير قوله تعالى: (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون)

تفسير قوله تعالى: (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ * وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ * وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ * حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} [الأنبياء:92 - 96]. ذكر الله سبحانه وتعالى لنا ذكراً عن بعض أنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام في الآيات السابقة، فذكر أسماء سبعة عشر من الأنبياء وأولادهم، ومنهم السيدة مريم عليها السلام، ومنهم ذو الكفل على أنه كان نبياً أو كان عبداً صالحاً. بعد أن ذكر هؤلاء الأنبياء قال: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الأنبياء:92] إشارة إلى الأنبياء ومن تبعهم من الأقوام على دين الله سبحانه وتعالى، فالجميع أمة واحدة، ومجتمعون على شيء واحد، وهو توحيد الله سبحانه وتعالى. فدين الله هو دين الإسلام الذي ارتضاه لعباده، والذي قال فيه سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]. فالله سبحانه سمانا المسلمين، قال تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78] يعني: إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام أسلم نفسه وبدنه ووجهه لله، فوصفنا الله بوصف إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وصار اسماً اختاره الله عز وجل لهذه الأمة أمة الإسلام، وإن كان دينه سبحانه هو دين الإسلام قبل ذلك، كما كان نوح إذ قال لربه: {وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90]. قال ابن عباس: الأمة بمعنى: الدين، وقال: هو دين الإسلام، فقوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الأنبياء:92] يعني: هذا دينكم الذي جاءكم هو دين هؤلاء الأنبياء من قبلكم، وهو دين الإسلام، فذكر الله عز وجل الأنبياء من لدن نوح إلى النبي صلى الله عليه وسلم في هذه السورة وقال: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الأنبياء:92]، أي: هذا دينكم، وحاله أنه دين واحد من عند رب العالمين سبحانه وتعالى. قال تعالى: {وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92]، الرب واحد والدين واحد، فكيف يتوجه العباد لغير رب العالمين سبحانه بالعبادة. وقوله تعالى: {وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92] الجميع يقفون عليها بالسكون، ما عدا يعقوب يقف عليها بالياء: (وأنا ربكم فاعبدوني) وإذا وصلها أيضاً يصلها بالياء يقول: (فاعبدوني * وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} [الأنبياء:93].

تفسير قوله تعالى: (وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون)

تفسير قوله تعالى: (وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون) فإذا كان الدين واحداً والرب واحداً، فالذي يخالف هذا الدين يستحق أن يعذبه الله سبحانه. وأخبر عن هؤلاء أنهم {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} [الأنبياء:93]، أي تقطعوا هذا الدين فمنهم من عبد الله سبحانه وتعالى وهم أهل الإسلام الذين تابعوا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ومنهم من فرق الدين، فذهب لعبادة الأصنام أو عبد الملائكة أو ادعى على الله سبحانه وتعالى أن له الصاحبة وأن له الولد، وعبد من دون الله عز وجل ما لم ينزل به سلطاناً. فقوله تعالى: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ} [المؤمنون:53] أي: قطعوا وفرقوا دينهم فصاروا شيعاً، ومنهم من فرق الدين، فذهب لعبادة الأصنام أو عبد الملائكة، أو ادعى على الله سبحانه وتعالى كذباً أن له الصاحبة وأن له الولد، وعبد من دون الله عز وجل ما لم ينزل به سلطاناً. قال تعالى: {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} [الأنبياء:93] هؤلاء الذين زعموا أنهم يعبدون غير الله سبحانه لن يرجعوا إلى هذا الغير، وإنما يرجعون إلى الله سبحانه. فكل هؤلاء أفراداً وجماعات يرجعون إلى الله ليجازيهم ويحاسبهم، فهم فريقان إما أهل الأعمال الصالحة والتوحيد، وإما أهل الشرك والكفر.

تفسير قوله تعالى: (فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه)

تفسير قوله تعالى: (فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه) قال الله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [الأنبياء:94]. هذا قيد، فقد يفعل الرجل من الكفار عملاً صالحاً، ولكن لا يقبل منه؛ لأنه ليس مؤمناً، فشرط قبول العمل أن يكون العامل مؤمناً بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره. {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ} [الأنبياء:94] للتبعيض لم يقل: من يعمل الصالحات؛ لأنه قليلٌ من يعمل كل الصالحات، بل لعله من التكليف بما لا يطاق، أن كل إنسان يعمل كل الأعمال الصالحة، ولكن الله عز وجل تكرم على العباد فجعل الإنسان يعمل من الصالحات، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها. فقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [الأنبياء:94] أي: عمل أعمالاً صالحة وكان مؤمناً فهذا لا كفران لسعيه. قال تعالى: {فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} [الأنبياء:94] الكفران بمعنى: الستر، وبمعنى: التضييع، وبمعنى: الجحد، ومنه الكافر، سمي كافراً لكونه جحد فقال: لا يوجد إله، فكأنه غطى على هذه المعلومة ولم يخرجها ولم يقل بها. والكافر أيضاً: الزارع، وهو الفلاح الذي يضع البذرة في الأرض ويغطي عليها التراب، فهذا كفرها أي: غطاها بالتراب لكي تظهر بعد ذلك. فهذا يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار، فهؤلاء زراع وهؤلاء زراع، ولكن عبر في الثاني بالكفار؛ لأن المقصود: أنه زارع، ولكنه من هؤلاء الكفرة، فيعجب الزراع المؤمنين الذين زرع الله عز وجل في قلوبهم الإيمان فنبت أعمالاً صالحة، فتغيظ منهم الكفرة الذين كفروا ربهم، فستروا أمر الله عز وجل، وكأنهم قالوا: لا إله، وعبدوا مع الله عز وجل آلهة أخرى، وجحدوا نعم الله عز وجل، فوجهوا العبادة لغير الله سبحانه، فهؤلاء الكفار مصيرهم النار، والمؤمنون لا كفران لسعيهم، يعني: لن نضيعه، ولن نستره، ولن نغطيه، ولكن نظهره يوم القيامة في كتاب، وسنجزيهم عليه أعظم الثواب. وقوله تعالى: {لِسَعْيِهِ} [الأنبياء:94] أي: ما سعاه، وما تعب فيه، واجتهد وعمل الصالحات. قال تعالى: {وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} [الأنبياء:94] يطمئن الخلق أن لا شيء يضيع عندنا، فالله عز وجل لا ينسى شيئاً ولكن يطمئنك، ستجد صحيفتك يوم القيامة، وكل أعمالك موجودة في هذه الصحيفة، فيوم القيامة لا يضيع شيء مما عملته. ويفهم من هذه الآية أن الذين يعملون السيئات سيكون عقابهم شديداً، وعذابهم أليماً، وتظهر أعمالهم التي عملوها، ولا شيء يضيعه الله سبحانه وتعالى، بل كل شيء يُكتب في كتاب.

تفسير قوله تعالى: (وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون)

تفسير قوله تعالى: (وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون) قال الله سبحانه: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:95]. أي: يحرم عليهم أن يرجعوا، فإذا أهلكناهم لن نرجعهم مرة أخرى إلى الدنيا. قرئت: (حرام) وهذه قراءة الجمهور، وقرئت: (وحرم على قرية) وهي بنفس المعنى، مثل: حلال وحل، حرام وحرم. فالجمهور يقرءونها: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ} [الأنبياء:95]، وأما شعبة عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف يقرءون: (وحرم على قرية) أي: هذا محرم عليهم، إذا جاءهم العذاب فأهلكناهم فلا رجوع إلى هذه الدنيا. إذاً: على هذا المعنى فإن قوله تعالى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:95] كأن (لا) بمعنى: (ما) الموصولة، وكأنه حرام رجوعهم، فيكون حراماً رجوع هؤلاء الناس إلى هذه الدنيا مرة ثانية. وهم يتمنون الرجوع عند الله سبحانه وتعالى ويقولون: {رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99] لكن الله يقول: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:95] فحرام بمعنى: وجب ولزم عدم رجوعهم إلى الدنيا. وهناك معنى آخر اختاره ابن عباس رضي الله عنه وهو: لا يرجعون بالتوبة، يعني: حظرنا عليهم التوبة، فالله عز وجل لا يقبل التوبة في موضعين: إذا جاء العذاب من عند الله سبحانه وعاينه الكفار فلا يقبل توبتهم. والحالة الثانية: عند الغرغرة وخروج نفس الإنسان، وكأن المعنى على هذا: أنه حرمنا ومنعنا قبول التوبة من هؤلاء في هذا الحين، حين يرون العذاب. قال الله تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا} [يونس:98] لم يحصل ذلك. {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا} [يونس:98] أحسوا بأنه سيأتي العذاب بمغادرة الرسول المكان فتابوا إلى الله عز وجل قبل أن يعاينوا العذاب. قال الله تعالى: {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ} [يونس:98] هذه القرية الوحيدة التي حذرهم نبيهم عليه الصلاة والسلام العذاب، ثم ترك القرية وركب البحر وخرج عنهم، فإذا بهم يستيقنون أن العذاب سيأتي مادام أن النبي عليه الصلاة والسلام تركهم، فتابوا إلى الله فقبل الله عز وجل منهم. فهذه هي القرية الوحيدة التي قبل منهم، فإذا جاء العذاب من عند الله على قرية منع عنهم قبول التوبة، فالتوبة لا تقبل إلا من الإنسان الذي يعرف أن هذا غيب، فهو لا يرى الجنة ولا يرى النار ولا يرى الله سبحانه وتعالى، ولكنه مستيقن بذلك في قلبه، فتاب خائفاً من الله، راجياً رحمته، مرعوباً ومرهوباً من ناره، هذا هو الذي تقبل منه التوبة. فقوله تعالى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:95] أي: أنهم لا يتوبون، فقد منعنا عنهم التوبة في ذلك، أو منعنا القبول للتوبة حين يعاينون العذاب.

تفسير قوله تعالى: (حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج)

تفسير قوله تعالى: (حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج)

من أخبار ذي القرنين

من أخبار ذي القرنين قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} [الأنبياء:96] قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} [الأنبياء:96] قبيلتان من أعظم القبائل التي خلقها الله سبحانه وتعالى، وهم قبيلتان من بني آدم، وقدمنا ذكرهم في سورة الكهف. وجاء في حديث طويل في صحيح مسلم ذكر هؤلاء الناس، وذكرت قصتهم في سورة الكهف. قال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي القرنين} [الكهف:83] وذو القرنين عبد من عباد الله الصالحين مكن له ربه في الأرض، قال تعالى: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} [الكهف:84] يعني: يصل إلى أي مكان في الأرض يريد الله أن يصل إليه فيسبب له الأسباب، فقد وصل إلى مشرق الشمس وإلى مغرب الشمس بتيسير من الله سبحانه. واتبع ذو القرنين الأسباب حتى وصل إلى قوم لم يجعل الله لهم من دون الشمس سبباً أو ستراً، والله على كل شيء قدير، يجعل لأناس عقولاً يفكرون فيكون بينهم وبين الشمس ستر، ويجعل لغيرهم من الناس قلة حيلة، فلا يعرفون أن يستتروا من الشمس بشيء، فهؤلاء لا بيوت لهم يستترون بها من الشمس. قال تعالى: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف:89] فـ ذو القرنين وصل إلى مطلع الشمس ووصل إلى مغرب الشمس، ثم أتى إلى قوم {لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} [الكهف:93] والقراءة الأخرى: (لا يكادون يُفقِهون قولا) يعني: لا يعرفون أن يتكلموا بكلام يفهم منهم، وهم أنفسهم لا يفهمون ما يقال، يعني: لسانه غير لسانهم، فلا يفهم منهم ما يقولون، فهم يتكلمون بلغة غريبة عليه فلا يكادون يُفقِهونه أو يفهمونه ما يريدون أن يقولوه، والغرض: أنهم أفهموه أن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض، قال الله تعالى: {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} [الكهف:94] أي: ندفع لك ضريبة وتضع بيننا وبينهم سداً. قال تعالى: {قَالَ مَا مَكَّنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} [الكهف:95] أي: لن أنتظر ضرائبكم، فالله قد أعطاني خيراً عظيماً، لكن أعينوني بما عندكم من آلات، قال تعالى: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} [الكهف:96] أي: رفع الحديد بين الجبلين وجعل حديداً وفوقه نحاساً، فجعل سداً عظيماً بينه وبين هؤلاء وأفرغ عليه من القطر، أي: النحاس، حتى لا يخرج هؤلاء القوم، فحبسهم الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} [الكهف:97] أي: لم يستطيعوا أن يقفزوا من فوقه، قال تعالى: {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الكهف:97] أي: لم يستطيعوا أن يخرقوا فيه خرقاً يخرجوا منه؛ لأن هذا أمر الله سبحانه وتعالى. فلما حبسهم {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} [الكهف:98] فهذا أمرٌ مؤقت إلى أن تأتي علامات الساعة، فمن علامات الساعة أن يخرجوا من هذا المكان. قال تعالى: {وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} [الكهف:98] أي: لا بد أن يقع ذلك. هنا قال تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} [الأنبياء:96] فقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ} [الأنبياء:96] قراءة الجمهور، وقراءة ابن عامر وأبي جعفر ويعقوب: (حتى إذا فُتِّحت). وقوله تعالى: {يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} [الأنبياء:96] هذه قراءة عاصم فقط، وباقي القراء يقرءون: (ياجوج وماجوج).

كثرة عدد يأجوج ومأجوج

كثرة عدد يأجوج ومأجوج قال الله تعالى: {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} [الأنبياء:96] المعنى: من كل مكان مشرف ومرتفع، فكأنهم من كل مكان يخرجون على الناس لكثرة عددهم. وسبحان الله لا أحد يعرف أين هم الآن، فقد حجبهم الله من أيام ذي القرنين، لكنهم موجودون يقيناً، فالله عز وجل هو الذي أخبر بذلك، والله لا يخبرنا بشيء لا يكون أبداً سبحانه وتعالى، فهم موجودون، ولكنّ الإنسان جاهل، ومع ذلك يدعي أنه عرف كل شيء في الكون، وهو بجهله يعلم في نفسه أنه لم يعرف كل شيء، ولكن يتعالم ويتعالى. فهم يتكلمون مثلاً عن مثلث برمودا، فأمريكا لم تعرف ما هو سر هذا المثلث، فلا طائرة تصل إليه إلا اختفت، فقد أرسلوا سرباً من الطائرات للبحث عن طائرة ضاعت هناك، فلم تعد الطائرة ولم يعد السرب، فأرسلوا سفناً إلى تلك الأماكن فلم تعد تلك السفن، ويكتمون ذلك ويقولون: مكان مجهول من الأرض لا نعرف ما فيه، فهنا يعجزهم الله عز وجل فلا يعرفون ما هناك، ولا يعرفون أين اختفت الطائرات من سنة سبع وأربعين حتى الآن. فإذا أخبرنا الله عز وجل أن هناك مكاناً في الأرض فيه سد موجود ووراءه هؤلاء القوم وأنهم كثرة كاثرة، فلا يقول الإنسان: أين هم؟ قد طفنا الأرض كلها، فأنت لم تعرف كل شيء في الأرض، فإن في الأرض أماكن لا يعرف الإنسان ما هو الشيء الموجود فيها، فالله سبحانه أخبرنا أنه سترهم خلال هذه الفترة، وأخبر عنهم أنهم سيخرجون ومن كل حدب ينسلون. والنسل يعني: الإيجاد السريع، أي: يخرج بسرعة، فكأن هؤلاء في وقت خروجهم يفتح الله السد الذي حبسهم به فيخرجون إلى الناس، وهو السد الذي بناه عليهم ذو القرنين، فهم في كل يوم يحاولون خرق هذا السد ولكنهم لا يستطيعون، ولكن في كل يوم يفتحون منه شيئاً، فيقول كبيرهم في آخر هذا اليوم: غداً نفتحه فنخرج على الناس ولا يستثني بقول: إن شاء الله، فيعود السد كما كان وتغلق تلك الفتحة فيقومون في الصباح فيجدون السد قد أغلق، وهكذا حتى يأتي وعد الله، فيقول كبيرهم: غداً إن شاء الله نفتحه، فتبقى الفتحة كما هي، فإذا جاء الصباح أكلموا فتحه وخرجوا على الخلق، فيأكلون ما في الأرض من نبات، ويشربون ما في الأرض من مياه، ويهلكون أهل الأرض.

فتح ردم يأجوج ومأجوج

فتح ردم يأجوج ومأجوج روى البخاري ومسلم من حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ يوماً من نومه وهو يقول: (لا إله إلا الله! ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه)، وضم إصبعيه السبابة والإبهام، فكأنها عدد العشرة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن يأجوج ومأجوج فتحوا اليوم من ردمهم كهذا، إذاً: سيستطيعون أن يفتحوا الباقي ويأتي أمرهم ويأتي شرهم. قال: (ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه -وعقد سفيان بيده عشراً- قالت أي السيدة زينب بنت جحش رضي الله عنها- قلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟) يعني: يخرج هؤلاء ويأتي الشر ويأتي البلاء حتى لو كان فينا الصالحون (قال: نعم إذا كثر الخبث)، فقد يكون الصالحون كثيرين وأهل المعاصي موجودين، ولكن الصالحين لا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. إذاً: فأهل الصلاح تغافلوا عن أهل المعاصي وكثر أهل المعاصي، ولم يقدر لهم أحد على شيء، فيأتي عذاب الله سبحانه وتعالى والفتنة، قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25] فالبلاء يأتي على الجميع، وهؤلاء يخرجون على الجميع.

حديث الدجال آخر الزمان

حديث الدجال آخر الزمان في حديث رواه مسلم عن النواس بن سمعان (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الدجال ذات غداة فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة النخل، فلما جئنا إليه عرف ذلك فينا، قال: ما شأنكم؟ قلنا: يا رسول الله ذكرت الدجال غداة فخفضت فيه ورفعت -يعني: ذكرت من أمره الذي أفزعنا وخوفنا منه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: غير الدجال أخوفني عليكم، إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم) يعني: كأنه يوصي ربه سبحانه وتعالى بأن يخلفه على كل مسلم، ويطلب ذلك من ربه سبحانه وتعالى. ثم ذكر لهم صفاته وكيف يعتصمون منه، قال: (إنه شاب قطط عينه طافية كأني أشبهه بـ عبد العزى بن قطن). فقوله: (شاب قطط) يعني: شعره جعد وقوله: (عينه طافئة) وفي رواية: (طافية)، كأنه أعور. قال: (فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف) ولذلك أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم بحفظ الآيات العشر الأول من سورة الكهف، وعشر آيات أخيرة من سورة الكهف. قال: (إنه خارج خلة بين الشام والعراق فعاث يميناً وعاث شمالاً، يا عباد الله! فاثبتوا. قلنا: يا رسول الله! وما لبثه في الأرض؟ قال: أربعون يوماً، يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم)، يعني: سيعيش في الأرض أربعين يوماً، ولكن من هذه الأربعين يوم كسنة حقيقية، ولذلك سألوا النبي صلى الله عليه وسلم (قالوا: يا رسول الله، فذلك اليوم الذي كسنة تكفينا فيه صلاة يوم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا، اقدروا له قدره) معناه: أن الشمس تطلع وتغرب فيكون هذا اليوم ثلاثمائة وستين يوماً تمر على العباد أو أقل من ذلك فقال: (اقدروا له)، أي: تحدد وقتك بالزمن ما بين الفجر والظهر وما بين الظهر والعصر، وما بين العصر والمغرب، يعني: تحسب أوقات الصلاة بالساعات. قال: (قلنا: يا رسول الله! وما إسراعه في الأرض؟ قال: كالغيث استدبرته الريح) يعني: كالريح تأتي شديدة، وقليل يأتي منها الغيث، فهذا كالغيث الذي استدبرته الريح. قال: (فيأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له، فيأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت، فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرى وأسبغه ضروعا وأمده خواصر). أي: يأتي على قوم من الناس يفتنهم فيقول: أنا ربكم، فيؤمنون به، فعندما يؤمنون به، يأمر السماء أن أمطري، فينزل المطر عليهم، ويأمر الأرض أن أخرجي الحب وتنبت لهم، وتصير الإبل والبقر والغنم أعظم ما تكون في السمن، ويذهب الدجال إلى أناس آخرين فيكفرون به، قال: (ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله، فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم). وهذه فتنة عظيمة لهؤلاء المؤمنين الصالحين، فإذا بأرضهم بعد أن كانت تنبت تكون يابسة، ولا مطر ينزل عليهم. قال: (ويمر بالخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك، فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل) أي: مثل ذكور النحل، فتتبعه الذهب والفضة وكنوز الأرض. قال: (ثم يدعو رجلاً ممتلئاً شباباً فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض، ثم يدعوه فيقبل ويتهلل) وهذا أفضل أهل الأرض إيماناً في ذلك الحين ومن أعظم الشهداء، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يدعوه ثم يطلب منه أن يؤمن به فيرفض أن يؤمن به، فيضربه بالسيف فيقطعه نصفين ويمشي بين شقيه لكي يخيف الناس. قال: (ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه ويضحك، فيسأله: أتؤمن بي؟ فيقول: ما ازددت فيك إلا بصيرة بأنك المسيح الكذاب الذي أخبرنا عنه النبي صلى الله عليه وسلم)، فيريد أن يقتله مرة ثانية فلا يسلط عليه، يعني: هو لن يقتل إلا رجلاً واحداً يقتله مرة ويحييه مرة، ولا يسلط عليه بعد ذلك؛ لأن الله يخزيه أمامهم. قال: (فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح بن مريم فينزل عند المنارة البيضاء في دمشق بين مهرودتين) يعني: يلبس ثوبين، قال: (واضعاً كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ) يعني: كأنه خارج من حمام، ما زال يتصبب عرقه مثل الجوهر واللؤلؤ، وهيئة الإنسان النظيف الخارج من الحمام يتساقط منه ماؤه، فهذا المسيح صلوات الله وسلامه عليه يخرج على الناس على هذه الصورة. قال: (فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه)، فالله يفعل ما يشاء، فالإنسان يشم رائحة نفس المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام ويموت، ونفسه يصل إلى منتهى طرفه، فهذا شيء عجيب من أمر الله، أنه يهلك الكفار الموجودين بأنفاس المسيح صلوات الله وسلامه عليه، ونفسه يصل إلى حيث ينتهي طرفه. قال: (حتى يدركه بباب لد) أي: في مكان اسمه لد قال: (فيقتله، ثم يأتي عيسى بن مريم قوم قد عصمهم الله منه، فيمسح عن وجوههم) يعني: الناس الذين عصمهم الله من الدجال، يأتون المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فيربت عليهم ويمسح على وجوههم ويحدثهم صلوات الله وسلامه عليه بدرجاتهم في الجنة.

خروج يأجوج ومأجوج وإفسادهم ونهايتهم

خروج يأجوج ومأجوج وإفسادهم ونهايتهم قال: (فبينما هو كذلك) وهذا هو الجزء المقصود من الآية، قال: (إذ أوحى الله إلى عيسى: إني قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم) أي: يخرج يأجوج ومأجوج. إذاً: المسيح الدجال يخرج أولاً، ثم يقتله المسيح صلوات الله وسلامه عليه، ثم بعد ذلك يخرج يأجوج ومأجوج. قال تعالى: {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} [الأنبياء:96] يعني: يخرجون سراعاً من كل جبل ومن كل مكان، فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية في فلسطين فيشربون ما فيها. قال صلى الله عليه وسلم: (ويمر آخرهم فيقول: لقد كان بهذه مرة ماء، ويحصر نبي الله عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيراً من مائة دينار). إذاً: المسيح لن يسلط على يأجوج ومأجوج، فإذا بهم يختبئون ويحصرون في مكان إلى أن يكون رأس الثور الذي يشتريه الناس بدراهم قليلة يساوي مائة دينار، أي: يساوي نصف كيلو من الذهب، من قلة الطعام ومن قلة الزاد، قال: (فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه فيدعون ربهم سبحانه وتعالى فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم) فبعدما يفسدون في الأرض ويظنون أنهم قد أهلكوا من على الأرض، ولا يوجد على الأرض إلا المؤمنون الذين اختبئوا مع المسيح عليه الصلاة والسلام، فإذا بيأجوج ومأجوج يقولون: نهلك من في السماء، فيوجهون نشابهم إلى السماء فيفتنهم الله، وينزل إليهم رماحهم مخضبة دماً. فيقولون: إذاً أهلكنا من في السماء. فبينما هم على ذلك يدعو المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام ربه، فإذا بالله عز وجل يهلك هؤلاء بأحقر ما يكون، فيرسل عليهم سبحانه وتعالى النغف، وهي دود تكون في أنوف الإبل والأغنام، يرسلها على هؤلاء في أقفائهم فتأكلهم هذه الدود. وانظروا إلى الإنسان المتكبر كيف يحقره الله سبحانه وتعالى ويسلط عليه أضعف خلقه، فهذه الديدان الصغيرة التي تكون في أنوف الإبل لا تؤذيها، فتكون في هؤلاء فتؤذيهم وتهلكهم، قال: (فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة، ثم يهبط نبي الله عيسى صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم). فإن أعداد هؤلاء القوم تملأ الدنيا، فلا يستطيع أحد أن يدفنهم، فقد ملئوا الأرض نتناً؛ بسبب أبدانهم الميتة، قال: (فيرغب نبي الله عيسى عليه الصلاة والسلام وأصحابه إلى الله، فيرسل الله طيراً كأعناق البخت) فالله عز وجل يخلق ما يشاء، يرسل طيراً مثل أعناق البخت، والبخت: نوعٌ من أنواع الإبل. قال: (فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله) تنزل الطيور من السماء تأخذهم وترميهم حيث شاء سبحانه. أما آثارهم على الأرض قال: (ثم يرسل الله مطراً لا يكن منه بيت مدر ولا وبر، فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلقة، ثم يقال للأرض: أنبتي ثمرتك، وردي بركتك، فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة). العصابة: المجموعة من الناس عشرة فما دونهم، كل عشرة يأكلون رمانة واحدة لبركتها. (ويستظلون بقحفها) أي: هذه الرمانة يستظل بها عشرة أفراد. قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96] أي: لو أنهم آمنوا لفتحت عليهم بركات السماء، يعني: المطر، وبركات الأرض، يعني: الثمار. قال: (ويبارك في الرسل -يعني: اللبن- حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس) يعني: الجماعة من الناس، واللقحة: اللبون، قال: (واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس، واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس) والفخذ من الناس: الذين هم جماعة أقل من القبيلة، يعني: غنمة واحدة تكفي مجموعة كبيرة، والبقرة تكفي قبيلة كاملة، والواحدة من الإبل تكفي عدداً ضخماً من الناس بحليبها. قال صلى الله عليه وسلم: (فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحاً طيبة). فالله كريم ورحيم سبحانه وتعالى، يريد أن يقبض هؤلاء العباد الذين صبروا بريح طيبة يشمونها، فيموتون، قال: (فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم)، ريح طيبة من عند الله سبحانه وتعالى تأخذهم تحت آباطهم، أو ريح طيبة بمعنى: نسيم عليل طيب تأتي كل إنسان تحت إبطه فيموت. أما الكفار ما زالوا أحياء، فهم الذين سيبقون عليها، قال: (ويبقى شرار الخلق، يتهارجون فيها تهارج الحمر فعليهم تقوم الساعة). وفي الحديث الآخر: (لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق) هم هؤلاء الذين لا يقال فيهم: الله الله، ولا يعرفون الله، فإذا ذكر أحد الله يقولون: قد كان يقال ذلك، فهؤلاء يتهارجون، ويهرج بمعنى: يجامع، فالرجل يأتي المرأة ويزني بها في الشارع أمام الناس، ويفعلون ذلك مثل الحمير، هؤلاء شرار الخلق الذين تقوم عليهم الساعة. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الأنبياء [97 - 103]

تفسير سورة الأنبياء [97 - 103] أنزل الله عز وجل كتابه الكريم لهداية البشر وإخراجهم من الظلمات إلى النور، وبين لهم في كتابه ما ينتظرهم من ثواب إن أطاعوه سبحانه، وما ينتظرهم من عقاب وعذاب إن أعرضوا عنه وكفروا به وقد امتلأ القرآن الكريم بالآيات التي تتحدث عن يوم القيامة وأهوالها، وعن الجنة والنار، وعن الحساب، وعن كل ما يحدث في ذلك اليوم العسير، وكذلك وردت الأحاديث الكثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم التي تتكلم عن ذلك، وهذه الآيات من سورة الأنبياء تتكلم عن أهوال يوم القيامة، وعن نعيم الجنة وعذاب النار.

لا رجوع للقرى التي كتب الله إهلاكها ولا قبول لتوبتهم عند نزول العذاب

لا رجوع للقرى التي كتب الله إهلاكها ولا قبول لتوبتهم عند نزول العذاب الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ * إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ * لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ * إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:97 - 103]. أخبر الله سبحانه وتعالى في بداية هذه الآيات أنه حرم على قرية أهلكها أن يرجعوا إليها، أي: لا يرجعون إلى الدنيا بعد إهلاكهم، وإنما يبعثون يوم القيامة فيحاسبون. أو: أنه إذا جاءهم العذاب ورأوه معاينة فقد حرم الله عز وجل في هذه الحالة قبول التوبة منهم، قال تعالى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:95]، أي: لا تقبل منهم التوبة فيرجعون بها. ثم ذكر علامة من علامات الساعة فقال: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} [الأنبياء:96]، أي: تخرج هاتان القبيلتان من كل حدب، والحدب: المكان المرتفع من الأرض، والمحدب منها، كالتلال والجبال والكثبان فيخرجون من وراء هذا كله، ومن كل مكان يسرعون في الأرض إفساداً وإتلافاً وخراباً.

تفسير قوله تعالى: (واقترب الوعد الحق)

تفسير قوله تعالى: (واقترب الوعد الحق) قال سبحانه: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} [الأنبياء:97]. يعني: خروج العلامات الكبرى للقيامة كـ المسيح الدجال، ويأجوج ومأجوج، ونزول المسيح عيسى بن مريم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وغير ذلك من العلامات العشر الكبرى للساعة، وعندها تقترب الساعة ويحين وقتها. قال تعالى: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء:97]، أي: اقتربت القيامة. (فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) وشخص البصر بمعنى: حملق إلى الشيء، أي: نظر إليه من غير أن تطرف عيناه. وهذا فيه بيان مدى الرعب الذي يكون فيه الإنسان، فإنه يفتح عينيه ولا يغلقهما ولا تطرفان ولا ترمشان، وإنما هما شاخصتان، وحالهم أنهم قائلون: {يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} [الأنبياء:97]، أي: كنا في غفلة عن يوم القيامة وعن التوبة إلى الله سبحانه وتعالى، فقد رأوا ما كانوا قبل ذلك ينكرونه ويتغافلون عنه. قال تعالى: (فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي: من يوم القيامة، ويقولون: (يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ). فيكون الجواب لهم: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98] فعندما تقوم الساعة ويخرجون من قبورهم للجمع للموقف العظيم بين يدي رب العالمين يقفون {مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [إبراهيم:43]، أي: قائمين بين يدي الله تبارك وتعالى. وهو هنا يذكر حالهم ويبين مدى الذل الذي هم فيه، فيقول: (مُهْطِعِينَ)، أي: مسرعين إلى الموقف العظيم، فالكل يتجه إلى مكان واحد ولا يتيه أحد منهم عنه، قال تعالى: (مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ) وقنع برأسه أي: وضع الرأس ورفع بصره إلى مكانه، فالرأس موضوع من الذل، والبصر ينظر إلى مكان شاخص في هذا المكان من الهول ولا يقدر على أن يطبق بصره.

تفسير قوله تعالى: (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم)

تفسير قوله تعالى: (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) قال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98]. والحصب: الحجارة، فهم من حصب جهنم التي وقودها الناس والحجارة والعياذ بالله. قال ابن عباس رضي الله عنه: لما أنزل: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98]، شق على كفار قريش؛ لأن قوله: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ) يعني: هم وأصنامهم وكل ما يعبدون من دون الله حجارة في نار جهنم، فقالوا: شتم آلهتنا وذهبوا إلى ابن الزبعرى من كبرائهم فقالوا له: كذا، وسفه آلهتنا وشتمنا فقال هذا الرجل: لو حضرته لرددت عليه. أي: ظن في نفسه أنه سيقول شيئاً ويرد على النبي صلى الله عليه وسلم بها. فقالوا: وما كنت تقول؟ قال: كنت أقول له: هذا المسيح تعبده النصارى، واليهود تبعد عزيراً، أفهما من حصب جهنم؟! يعني: أنت تقول: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:98] فعلى ذلك المسيح في النار وعزير في النار، فأعجبت مقالته قريشاً وفرحوا بها ورأوا أنهم غلبوا النبي صلى الله عليه وسلم ورفعوا أصواتهم، وقالوا: خصم محمد! فأنزل الله عز وجل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101]. يعني: المسيح عليه الصلاة والسلام وعزيراً، قد سبقت لهما من الله الحسنى، وليسا داخلين في هذه الآية. وأنزل الله عز وجل: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف:57] أي: يصرخون ويصخبون ويقولون: خصمنا محمداً وغلبناه. قال تعالى: {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:58]، أي: قوم شديد والخصومة بالباطل من غير أن يفهموا ما يقولون، وكأنهم كانوا يقولون: خصمنا محمداً وغلبناه، {أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} [الزخرف:58]، أي: آلهتنا خير أم المسيح خير؟ وأنت تقول: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّم} [الأنبياء:98]، أي: فيكون الكل في النار، فكذلك المسيح في النار، فقال الله عز وجل لهم في هذه الآية: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف:57]، أي: قال لهم: لا تفرحوا بهذا الشيء، فإن المسيح عليه الصلاة والسلام وعزيراً ممن سبقت لهم منا الحسنى، فلا يردون ولا يدخلون النار مع من يدخل. قال سبحانه: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98]، يعني: داخلون في هذه النار مع الآلهة التي عبدتموها من دون الله تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها)

تفسير قوله تعالى: (لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها) قال تعالى: {لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا} [الأنبياء:99]، أي: ليس من المعقول أن الإله يدخل النار. قال سبحانه: {لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأنبياء:99] وكل: أي: العابد والمعبود، فالذين عبدوا من دون الله سبحانه وتعالى آلهة باطلة وهم واردون النار مع من عبدهم، فالكل محبوسون فيها ولا يخرجون منها، وهم فيها خالدون. قال تعالى: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ} [الأنبياء:100] والزفير: خروج النفس. والمعنى: تشبيه هؤلاء في نار جهنم بالحمير، فالحمار عندما ينهق يخرج زفيراً وزعيقاً ويأخذ شهيقاً، فكذلك هؤلاء عند بكائهم وصراخهم في النار كهيئة الحمير، وأما الصور فهي بشعة والنار مظلمة سوداء ملتهبة مستعرة على أهلها متجهمة لهم، وهم فيها يصرخون ولا يستجيب لهم أحد أو يجيرهم، فيستغيثون ولا يغيثهم أحد. قال تعالى: {وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ} [الأنبياء:100]، أي: لا يسمعون شيئاً؛ لأنهم يحشرهم الله عز وجل عمياً وبكماً وصماً، فلا يسمعون إلا صوت العذاب الذي نزل بهم وأصوات أهل النار. فمعنى قوله: (لا يسمعون)، أي: لا يسمعون شيئاً؛ لقوله سبحانه: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} [الإسراء:97]. وقيل: (لا يسمعون)، أي: لا يسمعون ما يسرهم، وإنما يسمعون صراخ أهل النار، وأصوات الملائكة الموكلة بعذابهم والعياذ بالله. يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (إذا بقي من يخلد في النار في جهنم جعلوا في توابيت من نار)، والعياذ بالله. فأهل النار هذا حالهم؛ يصرخون في البداية ويسألون الله عز وجل، قائلين: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:107] فيجيبهم: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108] وعندما يقول لهم ذلك ييئسون من الخروج. يقول ابن مسعود: (هؤلاء الباقون في نار جهنم والعياذ بالله يجعلون في توابيت من نار، وتجعل التوابيت في توابيت أخرى فيها مسامير من نار، فلا يسمعون شيئاً ولا يرى أحد منهم أن في النار من يعذب غيره)، أي: كل واحد منهم يرى نفسه هو وحده الذي يعذب ولا يرى غيره والعياذ بالله، ولا يسمع إلا صوت نفسه في هذا العذاب.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون) قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101]، وهم أهل الإيمان الذين أحسنوا، قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]. وقد قدر لهم سبحانه بفضله وكرمه عندما خلقهم أن يكونوا في الجنة، فقد سبقت لهم من ربهم الحسنى، فأرشدهم وهداهم ووفقهم فعبدوه وماتوا على الإسلام، فكانت لهم الحسنى وزيادة، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم. قال تعالى: {أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101]، أي: عن النار. قال تعالى: {لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ} [الأنبياء:102]. فالنار لها حس، والحس والحسيس بمعنى: الحركة التي تسمع، فكأن نار جهنم وهي مشتعلة ومستعرة لها صوت اللهب في حركته واستعاره، وهذا هو حسيس النار، فالمؤمنون لا يسمعون حسيسها، فقد أنجاهم الله عز وجل منها، وأبعدهم عنها، بعد أن مروا فوق الصراط. قال تعالى: {وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ} [الأنبياء:102] فيقال لأهل الجنة: (إن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً). فأهل الجنة يعيشون في خلود بلا موت، كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالموت على هيئة كبش أملح، ويوضع على قنطرة بين الجنة والنار وينادى: يا أهل الجنة! فيشرئبون، - أي: يطلعون - وينادى: يا أهل النار! فيشرئبون، فيقال: أتعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، نعرفه هو الموت، فيأمر بذبحه بين الجنة والنار). فييئس أهل النار من الرحمة فلا موت ولا خروج من النار، وأما أهل الجنة فيفرحون، فهم لن يخرجوا من الجنة، وليس هناك موت مرة أخرى، فقد ماتوا الموتتين، أما الأولى فعندما كانوا عدماً، ثم خلقهم سبحانه وتعالى فأحياهم الحياة الأولى، ثم أماتهم الموتة الثانية، وهي الموتة التي أدخلتهم في قبورهم، ثم أحياهم للبعث والنشور، وهذه الحياة الثانية فلا يوجد موت بعد ذلك، وإنما هي حياة دائمة أبداً. قال تعالى: {وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ} [الأنبياء:102]، أي: فيما اشتهوا من طعام الجنة ومن ثمارها ومن خمرها ومن لبنها ومن مائها ومن عسلها ومن نعيمها، ومن الحور العين، ومما شاءوا من قصور وبساتين، فلهم فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وهم فيها خالدون.

تفسير قوله تعالى: (لا يحزنهم الفزع الأكبر)

تفسير قوله تعالى: (لا يحزنهم الفزع الأكبر)

معنى نفي حزن المؤمنين من الفزع الأكبر

معنى نفي حزن المؤمنين من الفزع الأكبر قال تعالى: {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:103]. أي: لا يخافون من الفزع الأكبر، وهو أهوال يوم القيامة وقيل: هو الوقت الذي يأمر فيه الله بالعباد إلى النار. وقد جاء في الحديث أن الله يقول يوم القيامة: (يا آدم أخرج بعث النار فيقول: كم يا رب؟! فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار، وواحد إلى الجنة، فذاك يوم يجعل الولدان شيباً)، أي: تشيب الرءوس من هوله، فمن الواحد الذي سينجو من كل ألف؟ فهذا هو الفزع الأكبر في يوم القيامة. وقيل: الفزع الأكبر: إذا أطبقت النار على أهلها، وذبح الموت بين الجنة والنار. وقيل: هو: القطيعة والفراق، أي: عندما يفترقون، فمنهم إلى الجنة ومنهم إلى النار، فأهل الإيمان الذين سبقت لهم الحسنى لا يفزعون ولا يخافون، فقد طمأنهم الله عز وجل بما صنع بهم من رحمة. وقوله تعالى: {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ} [الأنبياء:103] هذه قراءة الجمهور. وقراءة أبي جعفر: (لا يُحْزِنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ) من الفعل الرباعي أحزن، وباقي القراء يقرءونها من الفعل الثلاثي حزن. قال تعالى: {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} [الأنبياء:103] أي: وهم داخلون الجنة، يقولون: (هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) فيطمئنهم الله عز وجل ويبشرهم، كما قال تعالى: {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف:13]. وتتلقاهم الملائكة بالتحية وبالسلام وبالإكرام ويقولون: أبشروا، {هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:103] وهي من الوعد لا من الوعيد، فقد وعدكم الله عز وجل بحسن الجزاء وبحسن اللقاء وبحسن المثوبة.

يوم القيامة يتبع كل أناس معبودهم

يوم القيامة يتبع كل أناس معبودهم وقد وصف لنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة وما يكون فيها من أهوال، وما يكون في الجنة من نعيم في حديث طويل رواه إسحاق بن رهويه في مسنده وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا والطبراني والآجري في الشريعة والدارقطني والحاكم وصححه. وكذلك رواه ابن مردويه والبيهقي وصححه الشيخ الألباني رحمه الله عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يجمع الله الناس يوم القيامة وينزل الله في ظلل من الغمام، فينادي مناد: يا أيها الناس! ألا ترضون من ربكم الذي خلقكم وصوركم ورزقكم أن يولي كل إنسان منكم ما كان يعبد في الدنيا ويتولى؟ أليس ذلك من ربكم عدلاً؟! قالوا: بلى). والمعنى: أن ربنا يوم القيامة يأتي بفصل القضاء بين العباد ثم يقول لخلقه: ألا يرضى كل من كان يعبد شيئاً في الدنيا ويتولاه أن يتبع هذا الذي كان يعبده ويتولاه؟ أليس هذا عدلاً من ربكم؟ فيقولون: بلى. قال: (فلينطلق كل إنسان منكم إلى ما كان يتولى في الدنيا، ويتمثل لهم ما كانوا يعبدون في الدنيا). فكل من كان يعبد إلهاً في الدنيا يتبعه يوم القيامة. قال: (فيمثل لمن كان يعبد عيسى شيطان عيسى)، أي: شيطان على هيئة عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ويتبعونه إلى النار. قال: (ويمثل لمن كان يعبد عزيراً شيطان عزير، حتى يمثل لهم الشجرة والعود والحجر). فكل معبود كانوا يعبدونه من دون الله يمثل لهم يوم القيامة، فالذي كان يعبد الحجر يتبع هذا الحجر ويمشي وراءه حتى يدخل معه النار، ومن كان يعبد الشجر يمثل له هذا الشجر فيتبعه إلى النار، ومن كان يعبد العجول والبهائم وغيرها تمثل له يوم القيامة فيتبعها إلى النار، ومن كان يعبد المسيح والعزير عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام يمثل له شياطين في هيئة هؤلاء فيتبعونه إلى النار.

موقف المؤمنين يوم القيامة وسجودهم لربهم

موقف المؤمنين يوم القيامة وسجودهم لربهم قال صلى الله عليه وسلم: (ويبقى أهل الإسلام جثوماً فيتمثل لهم الرب عز وجل فيقول لهم: ما لكم لم تنطلقوا كما انطلق الناس؟!)، أي: يأتيهم الله عز وجل في صورة غير الصورة التي يعرفون، والله يفعل ما يشاء تبارك وتعالى، وهذا من الغيب الذي نؤمن به كما قال النبي صلوات الله وسلامه عليه. قال: (فيقولون: إن لنا رباً ما رأيناه بعد، فيقول: فبم تعرفون ربكم إن رأيتموه؟ قالوا: بيننا وبينه علامة إن رأيناه عرفناه) والعلامة هي التي جاءت في الآية: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم:42]، فالعلامة أن يكشف عن ساق. (قال: وما هي؟ قالوا: يكشف عن ساق. فيكشف عند ذلك فيخر كل من كان يسجد طائعاً ساجداً)، أي: المؤمنون الذين كانوا يصلون لله عز وجل يسجدون مختارين راغبين راهبين لرب العالمين، فيخرون سجداً لله ويوفقهم الله عز وجل ويعينهم على ذلك، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم. قال: (ويبقى قوم ظهورهم كصياصي البقر يريدون السجود فلا يستطيعون)، أي: تصير ظهورهم كأذناب البقر يريدون أن يسجدوا فلا يستطيعون السجود،؛ لأن ظهورهم تصبح طبقة واحدة، وهؤلاء هم المنافقون. قال: (ثم يؤمرون فيرفعون رءوسهم -أي: المؤمنون- فيعطون نورهم على قدر أعمالهم)، أي: بعد أن سجدوا لله عز وجل يعطون النور، ويعطى كل أحد من المسلمين نوراً بقدر عمله. قال صلى الله عليه وسلم: (فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل بين يديه، ومنهم من يعطى نوره فوق ذلك، ومنهم من يعطى نوره مثل النخلة بيمينه، ومنهم من يعطى نوره دون ذلك بيمينه، حتى يكون آخر ذلك من يعطى نوره على إبهام قدميه يضيء مرة ويطفأ مرة، فإذا أضاء قدم قدمه، وإذا طفئ قام). فيعطون النور يوم القيامة حتى يمروا في ظلماتها، وحتى يمروا فوق الصراط على ظهر جهنم إلى الجنة.

المرور على الصراط

المرور على الصراط قال: (فيمرون على الصراط، والصراط كحدّ السيف دحض مزلة). والصراط: جسر مضروب على ظهر جنهم مثل الشعرة، وحده كحد السيف، وهو (دحض مزلة)، أي: يزل الذي يمشي فوقه. قال صلى الله عليه وسلم: (فيقال لهم: انجوا على قدر نوركم)، أي: مروا على قدر نوركم. قال: (فمنهم من يمر كانقضاض الكوكب)، أي: مثل الكوكب الدري اللامع في السماء عندما ينقض سريعاً. قال: (ومنهم من يمر كالطرف)، أي: مثل أن تغمض عينيك وتفتحهما. قال: (ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كشد الرجل ويرمل رملاً، ويمرون على قدر أعمالهم حتى يمر الذي نوره على إبهام قدمه يجر يداً ويعلق يداً)، أي: كأنه يحبو على يديه؛ لأنه خائف أن ينزلق ويسقط من فوق الصراط. قال: (ويجر رجلاً ويعلق رجلاً)، أي: تكون إحدى رجليه على الصراط والأخرى معلقة خارج الصراط، ويد يمسك بها والثانية معلقة. قال: (وتصيب جوانبه النار، فيخلصون، فإذا خلصوا قالوا: الحمد لله الذي نجانا منك بعد الذي أرانا، لقد أعطانا الله ما لم يعط أحداً من العالمين)، أي: هؤلاء المتأخرون عندما يمرون والله أعلم كم سيأخذون من السنين ومن العمر حتى يمروا فوق الصراط الذي على ظهر جهنم بهذه الصورة، فهم يمشون مرة ويكبون مرة، وتلفحهم النار أخرى، وتخطفهم الكلاليب من حول النار، فمن الناس من هو ناج مسلم، ومنهم من هو مخدوش ومن هو مكردس في النار، أي: يقع في نار جهنم والعياذ بالله. قال: (فينطلقون إلى ضحضاح عند باب الجنة فيغتسلون فيعود إليهم ريح أهل الجنة وألوانهم) وذكر لنا هؤلاء الذين هم آخر من يدخل الجنة لكي نتخيل ما ينالون، وعليه كم سينال السابقون؟ قال: (ويرون من خلل باب الجنة -وهو يصفق- منزلاً في أدنى الجنة فيقولون: ربنا! أعطنا ذلك المنزل)، فبعد أن نجوا من النار بدءوا يطلبون أن يقتربوا من الجنة. قال: (فيقول لهم: أتسألون الجنة وقد نجيتكم من النار؟ فيقولون: ربنا! أعطنا هذا الباب لا نسمع حسيسها)، يعني: اجعل هذا الباب الذي هو باب الجنة حائلاً بيننا وبين النار؛ لكي لا نسمع حسيس النار ولا نسمع صوتها، فكأنهم إلى هذا الحين وهم يسمعون صوت النار التي أنجاهم الله عز وجل منها. قال: (فيقول لهم: لعلكم إن أُعْطِيتُمُوهُ أن تسألوا غيره؟ فيقولون: لا وعزتك لا نسأل غيره، وأي منزل يكون أحسن منه؟ قال: فيدخلون الجنة، ويرفع لهم منزل أمام ذلك). في حديث آخر قال: (إنهم قبل مجيئهم عند الجنة يمثل لهم شجرة فينظرون إليها، فيقول أحدهم: رب أدنني من هذه الشجرة أكل من ثمرتها وأشرب من مائها وأستظل بظلها، فيقول له ربه سبحانه: لعلي إن أعطيتك أن تسألني غيرها، فيقول: لا يا رب! وعزتك لا أسألك غيرها؟ وربنا سبحانه يعلم أنه لا يطيق ما يراه - فيغفر له سبحانه وتعالى ويسامحه ويعفو عنه - فيقربه منها، فإذا مكث تحتها مثل له أخرى أفضل منها وأبعد منها، فينظر فترة ثم يقول: يا رب! أدنني من هذه، فيقول له سبحانه: يا ابن آدم! ما أغدرك؟ ألم تعطني العهود والمواثيق ألا تسألني غيرها؟! فيقول: يا رب! لا أسألك غيرها، وعزتك لا أسألك غيرها، فيدنيه منها سبحانه تبارك وتعالى ويأخذ عليه العهود والمواثيق ألا يسأل غيرها، فإذا بالعبد يطلب غيرها، والله سبحانه يريد أن يعطيه وإنما مثل له ذلك؛ ليريه فضله تبارك وتعالى وكرمه عليه). وقال في هذا الحديث: (ويرفع لهم منزل أمام ذلك كأن الذي رأوا قبل ذلك حلم عنده، فيقولون: ربنا أعطنا ذلك المنزل، فيقول: لعلكم إن أعطيتموه أن تسألوا غيره؟! فيقولون: لا وعزتك! لا نسأل غيره، وأي منزل أحسن منه؟ فيعطونه، ثم يرفع لهم أمام ذلك منزل آخر كأن الذي رأوا قبل ذلك حلم عند هذا الذي رأوا، فيقولون: ربنا! أعطنا ذلك المنزل فيقول: لعلكم إن أعطيتموه أن تسألوا غيره؟! فيقولون: لا وعزتك! لا نسأل غيره، وأي منزل أحسن منه؟ ثم يسكتون)، أي: يستحون من ربهم سبحانه. قال: (فيقول لهم: ما لكم لا تسألون؟! فيقولون: ربنا قد سألناك حتى استحيينا).

أدنى أهل الجنة منزلة

أدنى أهل الجنة منزلة قال: (فيقال لهم: ألا ترضون أن أعطيكم مثل الدنيا منذ خلقتها إلى يوم أفنيتها وعشرة أضعافها؟! فيقولون: أتستهزئ بنا وأنت رب العالمين؟). قال مسروق: فلما بلغ عبد الله بن مسعود راوي الحديث هذا المكان من الحديث ما بلغه إلا ضاحكاً، وكلما يذكر هذا الحديث يضحك عندما يصل إلى هذا المكان، فقال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث مراراً، فما يبلغ هذا المكان من الحديث إلا ضاحكاً، حتى تبدو لهواته)، يعني: يبدو آخر ضرس من أضراسه. قال: (فيقول: لا، ولكني على ذلك قادر فاسألوني، فيقولون: ربنا ألحقنا بالناس، فيقال لهم: الحقوا الناس؛ قال: فينطلقون يرملون في الجنة حتى يبدو لرجل منهم في الجنة قصراً من درة مجوفة، فيخر ساجداً، فيقال له: ارفع رأسك، فيرفع رأسه ويقول: رأيت ربي. فيقال: إنما هذا منزل من منازلك. فينطلق ويستقبله رجل، فيتهيأ للسجود فيقال له: مالك؟! فيقول: رأيت ملكاً. فيقال له: إنما ذلك قهرمان من قهارمتك). وهو قد ظنه ملكاً من ملوك الجنة، فيقال له: هذا خادم من خدمك الذين يخدمونك في الجنة. قال: (عبد من عبيدك، فيأتيه فيقول له: إنما أنا قهرمان من قهارمتك على هذا القصر، تحت يدي ألف قهرمان كلهم على ما أنا عليه، فينطلق به عند ذلك حتى يفتح له القصر، وهي درة مجوفة سقائفها وأغلالها وأبوابها ومفاتيحها منها، فيفتح له القصر فيستقبله جوهرة خضراء مبطنة بحمراء سبعون ذراعاً، فيها ستون باباً كل باب يفضي إلى جوهرة على غير لون صاحبتها، في كل جوهرة سرر وأدراج ونصائف، أو قال: ووصائف، فيدخل فإذا هو بحوراء عيناء عليها سبعون حلة، يرى مخ ساقها من وراء حللها، كبدها مرآته وكبده مرآتها، إذا أعرض عنها إعراضة ازدادت في عينه سبعين ضعفاً عما كانا قبل ذلك، فتقول: لقد ازددت في عيني سبعين ضعفاً، ويقول لها مثل ذلك. قال: فيشرف ببصره على ملكه مسيرة مائة عام) وهذا الرجل من أواخر من يدخل الجنة. ولما سمع عمر بن الخطاب هذا الحديث الذي يحدث به عبد الله بن مسعود قال لـ كعب الأحبار وقد كان أولاً يهودياً من كبرائهم وعلمائهم ثم أسلم: يا كعب! ألا تسمع إلى ما يحدثنا ابن أم عبد عن أدنى أهل الجنة ما له، فكيف بأعلاهم؟! فقال كعب: يا أمير المؤمنين! ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، إن الله كان فوق العرش والماء، فخلق لنفسه داراً بيده، فزينها بما شاء وجعل فيها من الثمرات والشراب، ثم أطبقها فلم يرها أحد من خلقه منذ خلقها، جبريل ولا غيره من الملائكة، ثم قرأ الآية: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:17]. قال: وخلق دون ذلك جنتين فزينهما بما شاء، وجعل فيهما ما ذكر من الحرير والسندس والإستبرق، وأراهما من شاء من خلقه من الملائكة، فمن كان كتابه في عليين نزل تلك الدار، فإذا ركب الرجل من أهل عليين في ملكه لم يبق خيمة من خيام الجنة إلا دخلها من ضوء وجهه، حتى إنهم ليستنشقون ريحه ويقولون: واها لهذه الريح الطيبة، ويقولون: لقد أشرف علينا اليوم رجل من أهل عليين، قال عمر: ويحك يا كعب إن هذه القلوب قد استرسلت فاقبضها)، يعني: إن قلوبنا اشتاقت للجنة، وسنجلس نحلم بها ولا نعمل شيئاً لها، فاقبضها وذكرنا بغيرها.

أهوال النار

أهوال النار فقال كعب: (يا أمير المؤمنين! إن لجهنم زفرة ما من ملك ولا نبي إلا يخر لركبته، حتى يقول إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه وعلى نبينا: رب! نفسي نفسي، وحتى لو كان عمل سبعين نبياً إلى عملك لظننت أن لن تنجو منها). أي: لا تغتر بما سمعت عن الجنة، فاسمع ما في النار فهو أشد، فعلى الإنسان المؤمن أن يدعو ربه رغباً ورهباً كما كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فيرغب في الجنة فيسمع أحاديثها فتتوق نفسه فيعمل، ويتذكر النار فيهرب ويخاف منها، ويسمع ما جاء فيها من وعيد فيحذر على نفسه، فهو بين الخوف والرجاء يعبد ربه سبحانه خائفاً من بطشه ومن عذابه راجياً رحمة الله.

تفسير سورة الأنبياء [104 - 112]

تفسير سورة الأنبياء [104 - 112] لقد كتب الله أن العاقبة للمتقين، وأنه يورث الأرض عباده الصالحين، وقد امتن على البشرية بأن أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، وأوحى إليه لينذر الناس ويدعوهم إلى دين الله، فإن أجابوا أفلحوا، وإن أعرضوا فالحكم لله وهو المستعان على ما يصفون.

عقوبة أهل النار

عقوبة أهل النار الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وسلم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ * وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ * قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ * إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ * وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [الأنبياء:104 - 112]. هذه هي الآيات الأخيرة من هذه السورة الكريمة، سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، يخبرنا فيها ربنا تبارك وتعالى عما يكون يوم القيامة من عقوبة لأهل النار، ومن ثواب لأهل الجنة. فأما المشركون الذين عبدوا غير الله فقد أخبر الله تبارك وتعالى أنه: جعلهم حطباً لجهنم، فقال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:98] أي: وقود لها، كما قال تعالى: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة:24]، والمقصود بالناس هنا الكفرة المشركون، والحجارة أي: التي كانوا يعبدونها من دون الله سبحانه وتعالى، {أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ * لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ} [الأنبياء:98 - 100]. فهؤلاء هم أهل النار الذين يخلدون في نار جهنم، والعياذ بالله. {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ} [هود:106] أي: أصوات كنهيق الحمير، {وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ} [الأنبياء:100]، أي: لا يسمعون كلاماً يطمئنهم أو يريحهم، أو كلاماً فيه رحمة، فلا يسمعون إلا صوت العذاب، ولا يسمعون إلا لهيب النار، وصوت حركتها وحسيسها.

ثواب أهل الجنة

ثواب أهل الجنة وأما المؤمنون الذين من الله عز وجل عليهم، وسبقت لهم من ربهم سبحانه وتعالى الحسنى، فقد قال تعالى عنهم: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء:101]، أي: وعدهم الله عز وجل بالجنة، وخلقهم حين خلقهم وهو يعلم أنهم لهذه الجنة صائرون، فقد قال تعالى مخبراً عن جزائهم: {أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101]، أي: عن النار مبعدون. {لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} [الأنبياء:102] أي: صوتها، وحس الحركة: لهيبها. {وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ} [الأنبياء:102 - 103]، أي: لا يحزنهم يوم القيامة، ولا يحزنهم تفرق الناس، فريق في الجنة وفريق في السعير، فريق شقي وفريق سعيد، فلا يحزنون يوم القيامة فقد طمأنهم الله سبحانه. {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:103]، فيستبشرون بكلام الملائكة لهم، ويستبشرون بهذا اليوم، حيث إنهم صائرون إلى الجنة.

تفسير قوله تعالى: (يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب)

تفسير قوله تعالى: (يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب) يوم القيامة قال سبحانه وتعالى مخبراً عنه: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:104]. فقوله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ} [الأنبياء:104]، مثل قوله تعالى: {وَالسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67]، سبحانه وتعالى. فتخيل هذه السماوات التي خلقها الله تبارك وتعالى ولم نر منها إلا الشيء اليسير من هذه النجوم والكواكب، والأجرام المواجهة للأرض، فكم يكون حجمها؟! إن حجمها عظيم لا يتخيل، وجميعها يطويها الله تبارك وتعالى، فيطوي السماوات كلها بيمينه. وقوله تعالى: {كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء:104]، فالسجل هو جلدة الكتاب وما بداخلها، فهو الكتاب نفسه، فكأنه يقول: الصفحات نطويها، ويغلق الكتاب على ما فيه. فيطويها كلها ويقفلها على بعضها، ويضم بعضها إلى بعض سبحانه وتعالى، قال تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء:104]، وهذه قراءة الجمهور. وقرأ أبو جعفر: ((يوم تطوى السماء كطي السجل للكتاب)). وأما قراءة: {لِلْكُتُبِ} [الأنبياء:104]، فهي قراءة حفص عن عاصم، وحمزة والكسائي وخلف، وأما باقي القراء فقرءوا: ((للكتاب)). والمعنى: أنك كما تطوي الكتاب وتغلقه، فيضم بعضها إلى بعض، وهذا الكلام الذي يقوله علماء الفلك اليوم، فهم يقولون: إن الكون كله كان شيئاً واحداً، ثم انفجر انفجاراً عظيماً، فلا يزال يتباعد، ويوسع الله عز وجل السماوات والأجرام، ويبعد بعضها عن بعض إلى درجة معينة، هذا هو كلام علماء الفلك، ولا يهمنا كلامهم بشيء، إلا أنه قد قاله الله عز وجل من قبل. فقد أخبر سبحانه أنه خلق السماوات والأرضين، وأنه سيجمعهم مرة ثانية، هؤلاء علماء الفلك الكفار يقولون: إن السماوات والأرض سيرجعن وينضم بعضهن إلى بعض، وقد أخبر سبحانه وتعالى بهذه الحقيقة وأنه سيوسع هذا الكون كما قال سبحانه: {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات:47]، فهو يوسع الكون لدرجة معينة حسب كلام علماء الفلك، وسيصل إلى أن سرعة الاتساع تقل وتقل، حتى يصبح الكون هو القوة الطاردة المركزية التي تبتعد لبعيد، وتصبح قوة الشد بين الكواكب مع بعضها متساوية، ثم لابد في النهاية من أن تزيد واحدة على الأخرى، وهنا يبتدئ الاقتراب حتى تنكمش كلها في الأرض، وهنا تطوى السماوات والأرضون، وكل شيء يطوى مرة أخرى. لا يهمنا نحن المسلمين ما وصلوا إليه، ولكن الذي يهمنا أن هذا الكلام قد قاله الله عز وجل قبل أن يعرفوا شيئاً من ذلك، فقد أخبر الله عز وجل أنه يعيد الخلق مرة ثانية، كما قال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ} [إبراهيم:48]، لقد طوى الجميع، وبدل السموات والأرضين بما يشاء سبحانه وتعالى، وهذه كقوله تعالى في هذه الآية: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ} [الأنبياء:104]، أي: بدأنا الخلق الأول، وسنعيده مرة ثانية، فنعيد السموات، ونعيد الأرض غير هذه الأرض، فتكون الجنات، ويكون ما لا نراه الآن، فيظهره الله عز وجل بعد ذلك، كما قال: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:104]. {وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:104]، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً، وأول الخلق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ثم تلا هذه الآية: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:104]) والحديث رواه مسلم، ولفظه عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً بموعظة، فقال: يا أيها الناس! إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلاً) يعني: مثلما خلق الإنسان، وخرج إلى الدنيا حافياً عارياً غير مختون، كذلك يحشر يوم القيامة على هذه الصورة. قال: (وتلا صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:104]، ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام).

تفسير قوله تعالى: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر)

تفسير قوله تعالى: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر) قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105]. يخبر تعالى هنا أنه وعد وكتب عنده في الكتب السماوية: {أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105]، ولابد من أن يكون هذا الشيء. وقد اختلف المفسرون هنا في المراد بهذه الأرض، فبعضهم ذكر أنها هذه الأرض التي في الدنيا، يعني: أن الله عز وجل يفتح لدينه، فإذا بالناس يدخلون في دين الله أفواجاً، وتفتح الأرض لدين الإسلام، ولا يبقى بيت مدر ولا حجر إلا دخله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام وأهله، وذلاً يذل به الكفر وأهله. ولذلك قال هنا: {وَعْدًا عَلَيْنَا} [الأنبياء:104]، إذاً: هنا الأرض مثلما كانت مكة للمؤمنين مع نبينا عليه الصلاة والسلام، وكان وعداً من الله عز وجل أن يجعل المستضعفين هم الذين يمكنون في الأرض، فكذلك جعل لهذه الأمة التمكين يوماً من الأيام. فإذا اقتربت الساعة، ونزل المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، لم يبق على الأرض دين إلا الإسلام، فالمسيح عليه السلام لا يقبل الجزية من نصراني أو يهودي، ولا يقبل إلا الإسلام فقط، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ولا يكون إلا دين الله عز وجل الذي هو دين الإسلام فقط، وهو الذي يحكم به المسيح صلوات الله وسلامه عليه. ثم بعد ذلك يرسل الله عز وجل ريحاً، فتقبض أرواح المؤمنين جميعاً، ولا يبقى إلا شرار الخلق، فيرجعون إلى الكفر مرة ثانية، ولا يعرفون لهم إلهاً حتى يفنيهم الله، وعليهم تقوم الساعة. فالمقصود أن الله عز وجل وعد المؤمنين بأنه سيورثهم هذه الأرض بالفتوحات والنصر منه تبارك وتعالى كما يشاء. والمعنى الآخر: أن المقصود بالأرض في الآية الجنة، يعني: أن الله عز وجل كتب أنه يورث هذه الجنة لعباده الصالحين، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} [الأنبياء:105] والزبور هنا معناه: المزبور، وهو المكتوب، فالزبور هنا بمعنى: الكتاب، وهو الصحيفة أو الصحف التي نزلت على داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام. وقيل: إن الزبور كل الكتب السماوية، والزبر: الكتب. وفي هذه الآية قراءتان: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ} [الأنبياء:105]، هذه قراءة الجمهور. وقرأ حمزة وخلف: ((ولقد كتبنا في الزبور)). الزبور إما جمع زبر بمعنى: صحيفة أو مكتوب، أو جمع زبر بمعنى: كتاب، أو جمع زبور بمعنى: كتاب. فعلى ذلك قالوا في قوله تعالى: {فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} [الأنبياء:105]، الذكر: أم الكتاب الذي هو عند الله عز وجل، وهو: أصل الكتاب في اللوح المحفوظ الذي عند الله، فنسخ من هذا اللوح المحفوظ إلى الكتب السماوية التي نزلت على الأنبياء والمرسلين، وهي التوراة، والإنجيل، وصحف إبراهيم، والقرآن العظيم، وزبور داود، فكتب الله عز وجل في اللوح المحفوظ، ونسخ من اللوح المحفوظ في هذه الكتب السماوية: {أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105]. وقيل: بل معنى الزبور: زبور داود، وإن القرآن كتب من قبلها، قالوا: فالذكر المقصود به هنا القرآن، ولذلك قالوا: إن المقصود بقوله تعالى هنا: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} [الأنبياء:105]، أي: من بعدما كتبنا ذلك في القرآن والزبور وأنزلنا هذه الكتب: أن الأرض بوعد من الله عز وجل يورثها عباده الصالحين، فقال: {أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105] {وعِبَادِيَ} [الأنبياء:105] فيها قراءتان: قراءة الجمهور: (عباديَ الصالحون)، بالفتح. وقراءة حمزة: (عباديْ الصالحون)، بالسكون. فإذا وقف عليها فـ يعقوب يقف: ((عِبَادِيَ الصَّالِحُونَه)) بهاء السكت.

تفسير قوله تعالى: (إن في هذا لبلاغا)

تفسير قوله تعالى: (إن في هذا لبلاغاً) قال تعالى: {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء:106]، هنا يخبر سبحانه وتعالى بأنه قد أبلغ، فقال: {بَلاغٌ} [إبراهيم:52]، يعني: هذا بلاغ من رب العالمين سبحانه تبارك وتعالى، وهذا كقوله تعالى: {بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} [الأحقاف:35]، فقد أبلغنا أعظم البلاغ. فقوله تعالى: {إِنَّ فِي هَذَا} [الأنبياء:106]، أي: الذي آتيناكم به فيه البلاغ العظيم من رب العالمين، وهو ليس لأي أحد، وإنما: {لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء:106]، أي: لمن يعبد الله ويعرف حق الله سبحانه، ويتقرب إلى ربه، فهذا فيه البلاغ له، وفيه التذكرة والموعظة.

بيان إرسال الرسول رحمة للعالمين

بيان إرسال الرسول رحمة للعالمين قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]. فهو رحمة لرب العالمين، والعالمين: جميع العالم من الإنس والجن، فهم جميع الخلق، والله عز وجل أرسل محمداً صلوات الله وسلامه عليه رحمة للخلق جميعهم، فهو رحمة للإنس والجن وللمؤمنين والكافرين والدواب، ورحمة للدواب، ورحمة لخلق الله عز وجل جميعاً. ويكفي النظر في تشريعه الذي جاء به صلوات الله وسلامه عليه للتعرف على هذه الرحمة صلوات الله وسلامه عليه، فقد أرسل رحمة، كما قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33]، فما كان الله ليعذبهم، ولا يستحق العذاب غير الكفار، وإنما قال له: أنت أمان لهؤلاء الكفار، فلن نعذبهم مادمت فيهم، فكان رحمة لهم، صلوات الله وسلامه عليه، فلم يخسف بهم الأرض، ولم يرسل عليهم حاصباً من السماء، ولم يغرقهم ولم يرسل عليهم الطوفان، أو الجراد، أو القمل، أو الضفادع، أو الدم، والله على كل شيء قدير، فكان رحمة بذلك. ولما آذوه أشد الأذى صلى الله عليه وسلم دعا ربه قائلاً: (اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف) وسلامه عليه، فإذا بالله يمنع عنهم المطر، وتجدب الأرض، ويشتد عليهم الحر، فإذا بهم يتعبون، ويجوعون، ولا يجدون ما يأكلون حتى أكلوا كل شيء، فقد أكلوا من أوراق الأشجار، وجلود الحيوانات والبهائم الميتة، فلما اشتد عليهم ذلك ذهبوا للنبي صلى الله عليه وسلم وناشدوه بالله وبالرحم الذي بينهم وبينه، إلا سأل ربه أن يكشف عنهم ما هم فيه، فهو رحمة للعالمين صلوات الله وسلامه عليه. فنسي ما كانوا يفعلونه به وبأصحابه، ودعا ربه أن يرفع عنهم ذلك، قال سبحانه: {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان:15]، أي: عائدون للكفر والتكذيب مرة ثانية، وسترجعون إلينا يوم القيامة فنجازيكم، فكان رحمة للعالمين صلوات الله وسلامه عليه. ولما فتحت مكة، وقال سعد بن عبادة رضي الله عنه: اليوم يوم الملحمة. أي: هذا يوم الالتحام، ويوم الحرب والقتل، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم، ما قال سعد بن عبادة فقال: (بل اليوم يوم المرحمة) صلوات الله وسلامه عليه، فقد كان رحمة للعالمين. وفي شرعه العظيم منعنا من الأذى، وأمرنا أن نقتل أنواعاً من الدواب، وقال صلى الله عليه وسلم: (خمس يقتلن في الحل والحرم)، فما أمرنا أن نقتل إلا شيئاً مؤذياً، (الفأرة، والكلب العقور، والحدأة، والغراب، والحية)، هذه التي تؤذي الناس أمرنا بقتلها، وأما غير ذلك فلم يأمرنا بقتلها، بل إنه نهى عن قتل النمل إن كان لا يؤذي، ونهى عن قتل النحل، ونهى عن قتل الشيء الذي لا يؤذي، فلا تقتل ما لا يؤذيك، فإذا صار مؤذياً فحينها يقتل للأذى والضرر الذي فيه، فكان رحمة صلوات الله وسلامه عليه. وقد أخبرنا أن من أسباب إنزال الله عز وجل للمطر من السماء على أهل الأرض ما ذكره سبحانه وتعالى بقوله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96]. وقد جاء لهم بهذا الدين العظيم الذي فيه الإيمان، فيؤمنون به فتنزل عليهم البركات من السماء والأرض، كما حدث أن فتح الله عز وجل الفتوح العظيمة، فكان الإسلام يفتح كل بيت فيأتي الله عز وجل بالرزق العظيم لعباده الصالحين. وكان رحمة للخلق صلوات الله وسلامه عليه في أخلاقه الحسنة، فكان الأسوة العظيمة، والقدوة الطيبة الطاهرة صلوات الله وسلامه عليه. فقد عرفه المؤمنون وعرفه الكفار، فكانوا يقولون عنه صلى الله عليه وسلم: الصادق الأمين، وكانوا يأتمنونه ولم يعرفوا منه غدراً قط ولا خيانة صلوات الله وسلامه عليه. فقد كان يقول: (لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة أعين). وقد عرفه أهل الكتاب بصفة الرحمة، فقد جاء في الحديث الذي رواه الترمذي. وهو حديث صحيح عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: (خرج أبو طالب إلى الشام، وخرج معه النبي صلى الله عليه وسلم في أشياخ من قريش، فلما أشرفوا على الراهب هبطوا فحلوا رحالهم، فخرج إليهم الراهب). وقد من الله على قريش برحلة إلى الشام ورحلة إلى اليمن، في الشتاء والصيف، فقال تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:3 - 4]، فأخذه عمه أبو طالب في قافلة قريش المتوجهة إلى الشام، فلما وصلوا إلى أطراف الشام في تجارة والنبي صلى الله عليه وسلم صغير معهم، فإذا بالراهب الذي في ذلك المكان ينزل إليهم، وذلك كما في الحديث. (خرج إليهم الراهب، وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج إليهم، ولا يلتفت، فجعل يتخللهم الراهب حتى جاء فأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: هذا سيد العالمين، هذا رسول يبعثه الله رحمة للعالمين. فقال له أشياخ من قريش: ما علمك؟ - أي: كيف عرفت هذا الشيء؟ - قال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجداً) فرأى ذلك هذا الراهب، وهي آية من آيات الله عز وجل له. قال الراهب: (ولا يسجد الشجر والحجر إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل غضروف كتفه مثل التفاحة) أي: أنه أخذه وفحصه ورأى كتفه، فوجد فيه خاتم النبوة مثل التفاحة وهي: غدة من اللحم على ظهره صلى الله عليه وسلم في أسفل غضروف الكتف، مثل التفاحة. (ثم رجع فصنع لهم طعاماً، إكراماً للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما أتاهم به كان النبي صلى الله عليه وسلم يرعى الإبل، فقال: أرسلوا إليه، قال: فأقبل وعليه غمامة تظله من حر الشمس)، فكان يمشي صلى الله عليه وسلم وفوقه سحابة تظل رأسه صلوات الله وسلامه عليه، وذلك قبل أن يوحى إليه عليه الصلاة والسلام، يعني: قبل أن يبلغ سن النبوة الذي هو سن الأربعين سنة. قال: (فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم وجلس، مال فيء الشجرة عليه، فقال الراهب: انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه)، فهم لم يروا الشجر يسجد، ولكن الراهب رآه، وأخبرهم بذلك، وخوفاً من أنهم لا يصدقونه أخبرهم بعلامة في كتفه، فكان المفروض أن يصدقوه، ثم أخبرهم أن ظل الشجرة عندما جلس مال إلى الجهة الأخرى، فالمفروض أن هؤلاء أول من يصدق النبي صلوات الله وسلامه عليه. قال: (فبينما هو قائم عليهم وهو يناشدهم ألا يذهبوا به إلى الروم، فإن الروم إذا رأوه عرفوه بالصفة، فيقتلونه، فالتفت فإذا بسبعة قد أقبلوا من الروم، فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: جئنا لأننا علمنا أن هذا النبي خارج في هذا الشهر فلم يبق طريق إلا بعث إليه أناس)، يعني: أنهم كانوا مستعدين لوجود نبي الله سبحانه، فأناس من الرهبان يعرفون أن هناك نبياً، وهم ينتظرون حتى يؤمنوا به، وأناس آخرون ينتظرونه صلوات الله وسلامه عليه، فهؤلاء الروم بعثوا في كل طريق من طرق الشام مجموعة من الجنود لقتل النبي صلوات الله وسلامه عليه، قالوا: (وإنا قد أخبرنا خبره وبعثنا إلى طريقك هذا. فقال لهم الراهب: هل خلفكم أحد هو خير منكم؟ قالوا: إنما أخبرنا خبره بطريقك هذا. فقال لهم الراهب: أفرأيتم أمراً أراد الله أن يقدره أتقدرون على رده؟ قالوا: لا، قال: فبايعوه وأقاموا معه)، أي: بايعوا على أن لا تؤذوه، وأترككم تتعبدون معي هنا، فبايعوه ومكثوا معه في الطريق، فكان أماناً للنبي صلوات الله وسلامه عليه من رب العالمين. (قال الراهب: أنشدكم بالله، أيكم وليه؟ قالوا: أبا طالب، فلم يزل يناشد أبا طالب حتى رده أبو طالب). فهل يحتاج إلى مناشدة وقد رأى مثل هذه الآيات؟ نلاحظ أن أبا طالب مات كافراً، ولم يمت مسلماً، وهو قد دافع عن النبي صلى الله عليه وسلم ورأى من الآيات ما رأى، ومع ذلك قضى الله عز وجل أن يموت كافراً، فالغرض أنهم ردوا النبي صلى الله عليه وسلم. والشاهد من الحديث هو قول الراهب: هذا رسول رب العالمين، يبعثه الله رحمة للعالمين صلوات الله وسلامه عليه. وهو رحمة حتى إذا شتم إنساناً، أو لعن إنساناً، وكان هذا الإنسان لا يستحق هذا الشتم وهذه اللعنة فكأنما يطهره بذلك، وكأنما يدعو له بالرحمة، فعندما يقول لإنسان: اذهب لعنك الله، فكأنه يقول: اذهب رحمك الله، كأنه يدعو له بذلك. ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان، فكلماه بشيء لا أدري ما هو)، وفي رواية لـ مسلم: (فخلوا به صلى الله عليه وسلم)، فكأنهما ضايقا النبي صلى الله عليه وسلم عندما قعد معه، قالت: (فسبهما ولعنهما وأخرجهما). والمفترض أن الضيف عندما يأتي في بيت المضيف أن يحسن في الكلام، ويراعي أدب المكان، ويراعي مع من يتكلم، فكونه يطردهم من البيت ليس من عادته صلى الله عليه وسلم، ولكن لابد أن يكونا قد قالا قولاً شديداً للنبي صلى الله عليه وسلم حتى سبهما ولعنهما وأخرجهما. قالت عائشة فقلت: (يا رسول الله! من أصاب من الخير شيئاً ما أصابه هؤلاء)، أي: كل إنسان قد يصاب بشيء من الخير إلا هؤلاء فإنهم لم يخرجوا بخير أبداً، فقال صلى الله عليه وسلم: (وما ذاك؟ قالت: قلت: لعنتهما وسببتهما، فقال صلى الله عليه وسلم: أوما علمت ما شارطت عليه ربي؟ قلت: اللهم إنما أنا بشر فأي المسلمين لعنته أو سببته فاجعلها له زكاةً وأجراً). يقول العلماء رحمهم الله تعالى: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان بالإمكان أن يسكت بدل

تفسير قوله تعالى: (إن في هذا لبلاغا)

تفسير قوله تعالى: (إن في هذا لبلاغاً) قال تعالى: {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء:106]، هنا يخبر سبحانه وتعالى بأنه قد أبلغ، فقال: {بَلاغٌ} [إبراهيم:52]، يعني: هذا بلاغ من رب العالمين سبحانه تبارك وتعالى، وهذا كقوله تعالى: {بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} [الأحقاف:35]، فقد أبلغنا أعظم البلاغ. فقوله تعالى: {إِنَّ فِي هَذَا} [الأنبياء:106]، أي: الذي آتيناكم به فيه البلاغ العظيم من رب العالمين، وهو ليس لأي أحد، وإنما: {لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء:106]، أي: لمن يعبد الله ويعرف حق الله سبحانه، ويتقرب إلى ربه، فهذا فيه البلاغ له، وفيه التذكرة والموعظة.

تفسير قوله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)

تفسير قوله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) قال تعالى: {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء:106]، هنا يخبر سبحانه وتعالى بأنه قد أبلغ، فقال: {بَلاغٌ} [إبراهيم:52]، يعني: هذا بلاغ من رب العالمين سبحانه تبارك وتعالى، وهذا كقوله تعالى: {بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} [الأحقاف:35]، فقد أبلغنا أعظم البلاغ. فقوله تعالى: {إِنَّ فِي هَذَا} [الأنبياء:106]، أي: الذي آتيناكم به فيه البلاغ العظيم من رب العالمين، وهو ليس لأي أحد، وإنما: {لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء:106]، أي: لمن يعبد الله ويعرف حق الله سبحانه، ويتقرب إلى ربه، فهذا فيه البلاغ له، وفيه التذكرة والموعظة.

وجه كون النبي صلى الله عليه وسلم رحمة للكفار

وجه كون النبي صلى الله عليه وسلم رحمة للكفار قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]. فهو رحمة لرب العالمين، والعالمين: جميع العالم من الإنس والجن، فهم جميع الخلق، والله عز وجل أرسل محمداً صلوات الله وسلامه عليه رحمة للخلق جميعهم، فهو رحمة للإنس والجن وللمؤمنين والكافرين والدواب، ورحمة للدواب، ورحمة لخلق الله عز وجل جميعاً. ويكفي النظر في تشريعه الذي جاء به صلوات الله وسلامه عليه للتعرف على هذه الرحمة صلوات الله وسلامه عليه، فقد أرسل رحمة، كما قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33]، فما كان الله ليعذبهم، ولا يستحق العذاب غير الكفار، وإنما قال له: أنت أمان لهؤلاء الكفار، فلن نعذبهم مادمت فيهم، فكان رحمة لهم، صلوات الله وسلامه عليه، فلم يخسف بهم الأرض، ولم يرسل عليهم حاصباً من السماء، ولم يغرقهم ولم يرسل عليهم الطوفان، أو الجراد، أو القمل، أو الضفادع، أو الدم، والله على كل شيء قدير، فكان رحمة بذلك. ولما آذوه أشد الأذى صلى الله عليه وسلم دعا ربه قائلاً: (اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف) وسلامه عليه، فإذا بالله يمنع عنهم المطر، وتجدب الأرض، ويشتد عليهم الحر، فإذا بهم يتعبون، ويجوعون، ولا يجدون ما يأكلون حتى أكلوا كل شيء، فقد أكلوا من أوراق الأشجار، وجلود الحيوانات والبهائم الميتة، فلما اشتد عليهم ذلك ذهبوا للنبي صلى الله عليه وسلم وناشدوه بالله وبالرحم الذي بينهم وبينه، إلا سأل ربه أن يكشف عنهم ما هم فيه، فهو رحمة للعالمين صلوات الله وسلامه عليه. فنسي ما كانوا يفعلونه به وبأصحابه، ودعا ربه أن يرفع عنهم ذلك، قال سبحانه: {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان:15]، أي: عائدون للكفر والتكذيب مرة ثانية، وسترجعون إلينا يوم القيامة فنجازيكم، فكان رحمة للعالمين صلوات الله وسلامه عليه. ولما فتحت مكة، وقال سعد بن عبادة رضي الله عنه: اليوم يوم الملحمة. أي: هذا يوم الالتحام، ويوم الحرب والقتل، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم، ما قال سعد بن عبادة فقال: (بل اليوم يوم المرحمة) صلوات الله وسلامه عليه، فقد كان رحمة للعالمين. وفي شرعه العظيم منعنا من الأذى، وأمرنا أن نقتل أنواعاً من الدواب، وقال صلى الله عليه وسلم: (خمس يقتلن في الحل والحرم)، فما أمرنا أن نقتل إلا شيئاً مؤذياً، (الفأرة، والكلب العقور، والحدأة، والغراب، والحية)، هذه التي تؤذي الناس أمرنا بقتلها، وأما غير ذلك فلم يأمرنا بقتلها، بل إنه نهى عن قتل النمل إن كان لا يؤذي، ونهى عن قتل النحل، ونهى عن قتل الشيء الذي لا يؤذي، فلا تقتل ما لا يؤذيك، فإذا صار مؤذياً فحينها يقتل للأذى والضرر الذي فيه، فكان رحمة صلوات الله وسلامه عليه. وقد أخبرنا أن من أسباب إنزال الله عز وجل للمطر من السماء على أهل الأرض ما ذكره سبحانه وتعالى بقوله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96]. وقد جاء لهم بهذا الدين العظيم الذي فيه الإيمان، فيؤمنون به فتنزل عليهم البركات من السماء والأرض، كما حدث أن فتح الله عز وجل الفتوح العظيمة، فكان الإسلام يفتح كل بيت فيأتي الله عز وجل بالرزق العظيم لعباده الصالحين. وكان رحمة للخلق صلوات الله وسلامه عليه في أخلاقه الحسنة، فكان الأسوة العظيمة، والقدوة الطيبة الطاهرة صلوات الله وسلامه عليه. فقد عرفه المؤمنون وعرفه الكفار، فكانوا يقولون عنه صلى الله عليه وسلم: الصادق الأمين، وكانوا يأتمنونه ولم يعرفوا منه غدراً قط ولا خيانة صلوات الله وسلامه عليه.

معرفة أهل الكتاب للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه رحمة للعالمين

معرفة أهل الكتاب للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه رحمة للعالمين فقد كان يقول: (لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة أعين). وقد عرفه أهل الكتاب بصفة الرحمة، فقد جاء في الحديث الذي رواه الترمذي. وهو حديث صحيح عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: (خرج أبو طالب إلى الشام، وخرج معه النبي صلى الله عليه وسلم في أشياخ من قريش، فلما أشرفوا على الراهب هبطوا فحلوا رحالهم، فخرج إليهم الراهب). وقد من الله على قريش برحلة إلى الشام ورحلة إلى اليمن، في الشتاء والصيف، فقال تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:3 - 4]، فأخذه عمه أبو طالب في قافلة قريش المتوجهة إلى الشام، فلما وصلوا إلى أطراف الشام في تجارة والنبي صلى الله عليه وسلم صغير معهم، فإذا بالراهب الذي في ذلك المكان ينزل إليهم، وذلك كما في الحديث. (خرج إليهم الراهب، وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج إليهم، ولا يلتفت، فجعل يتخللهم الراهب حتى جاء فأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: هذا سيد العالمين، هذا رسول يبعثه الله رحمة للعالمين. فقال له أشياخ من قريش: ما علمك؟ - أي: كيف عرفت هذا الشيء؟ - قال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجداً) فرأى ذلك هذا الراهب، وهي آية من آيات الله عز وجل له. قال الراهب: (ولا يسجد الشجر والحجر إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل غضروف كتفه مثل التفاحة) أي: أنه أخذه وفحصه ورأى كتفه، فوجد فيه خاتم النبوة مثل التفاحة وهي: غدة من اللحم على ظهره صلى الله عليه وسلم في أسفل غضروف الكتف، مثل التفاحة. (ثم رجع فصنع لهم طعاماً، إكراماً للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما أتاهم به كان النبي صلى الله عليه وسلم يرعى الإبل، فقال: أرسلوا إليه، قال: فأقبل وعليه غمامة تظله من حر الشمس)، فكان يمشي صلى الله عليه وسلم وفوقه سحابة تظل رأسه صلوات الله وسلامه عليه، وذلك قبل أن يوحى إليه عليه الصلاة والسلام، يعني: قبل أن يبلغ سن النبوة الذي هو سن الأربعين سنة. قال: (فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم وجلس، مال فيء الشجرة عليه، فقال الراهب: انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه)، فهم لم يروا الشجر يسجد، ولكن الراهب رآه، وأخبرهم بذلك، وخوفاً من أنهم لا يصدقونه أخبرهم بعلامة في كتفه، فكان المفروض أن يصدقوه، ثم أخبرهم أن ظل الشجرة عندما جلس مال إلى الجهة الأخرى، فالمفروض أن هؤلاء أول من يصدق النبي صلوات الله وسلامه عليه. قال: (فبينما هو قائم عليهم وهو يناشدهم ألا يذهبوا به إلى الروم، فإن الروم إذا رأوه عرفوه بالصفة، فيقتلونه، فالتفت فإذا بسبعة قد أقبلوا من الروم، فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: جئنا لأننا علمنا أن هذا النبي خارج في هذا الشهر فلم يبق طريق إلا بعث إليه أناس)، يعني: أنهم كانوا مستعدين لوجود نبي الله سبحانه، فأناس من الرهبان يعرفون أن هناك نبياً، وهم ينتظرون حتى يؤمنوا به، وأناس آخرون ينتظرونه صلوات الله وسلامه عليه، فهؤلاء الروم بعثوا في كل طريق من طرق الشام مجموعة من الجنود لقتل النبي صلوات الله وسلامه عليه، قالوا: (وإنا قد أخبرنا خبره وبعثنا إلى طريقك هذا. فقال لهم الراهب: هل خلفكم أحد هو خير منكم؟ قالوا: إنما أخبرنا خبره بطريقك هذا. فقال لهم الراهب: أفرأيتم أمراً أراد الله أن يقدره أتقدرون على رده؟ قالوا: لا، قال: فبايعوه وأقاموا معه)، أي: بايعوا على أن لا تؤذوه، وأترككم تتعبدون معي هنا، فبايعوه ومكثوا معه في الطريق، فكان أماناً للنبي صلوات الله وسلامه عليه من رب العالمين. (قال الراهب: أنشدكم بالله، أيكم وليه؟ قالوا: أبا طالب، فلم يزل يناشد أبا طالب حتى رده أبو طالب). فهل يحتاج إلى مناشدة وقد رأى مثل هذه الآيات؟ نلاحظ أن أبا طالب مات كافراً، ولم يمت مسلماً، وهو قد دافع عن النبي صلى الله عليه وسلم ورأى من الآيات ما رأى، ومع ذلك قضى الله عز وجل أن يموت كافراً، فالغرض أنهم ردوا النبي صلى الله عليه وسلم. والشاهد من الحديث هو قول الراهب: هذا رسول رب العالمين، يبعثه الله رحمة للعالمين صلوات الله وسلامه عليه.

شتم النبي ودعاؤه على إنسان ينقلب رحمة وتطهيرا

شتم النبي ودعاؤه على إنسان ينقلب رحمة وتطهيراً وهو رحمة حتى إذا شتم إنساناً، أو لعن إنساناً، وكان هذا الإنسان لا يستحق هذا الشتم وهذه اللعنة فكأنما يطهره بذلك، وكأنما يدعو له بالرحمة، فعندما يقول لإنسان: اذهب لعنك الله، فكأنه يقول: اذهب رحمك الله، كأنه يدعو له بذلك. ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان، فكلماه بشيء لا أدري ما هو)، وفي رواية لـ مسلم: (فخلوا به صلى الله عليه وسلم)، فكأنهما ضايقا النبي صلى الله عليه وسلم عندما قعد معه، قالت: (فسبهما ولعنهما وأخرجهما). والمفترض أن الضيف عندما يأتي في بيت المضيف أن يحسن في الكلام، ويراعي أدب المكان، ويراعي مع من يتكلم، فكونه يطردهم من البيت ليس من عادته صلى الله عليه وسلم، ولكن لابد أن يكونا قد قالا قولاً شديداً للنبي صلى الله عليه وسلم حتى سبهما ولعنهما وأخرجهما. قالت عائشة فقلت: (يا رسول الله! من أصاب من الخير شيئاً ما أصابه هؤلاء)، أي: كل إنسان قد يصاب بشيء من الخير إلا هؤلاء فإنهم لم يخرجوا بخير أبداً، فقال صلى الله عليه وسلم: (وما ذاك؟ قالت: قلت: لعنتهما وسببتهما، فقال صلى الله عليه وسلم: أوما علمت ما شارطت عليه ربي؟ قلت: اللهم إنما أنا بشر فأي المسلمين لعنته أو سببته فاجعلها له زكاةً وأجراً). يقول العلماء رحمهم الله تعالى: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان بالإمكان أن يسكت بدلاً من أن يلعن، ولكنه هنا كأنه خير بين أمرين لا ثالث لهما، إما أن تؤذي هؤلاء وتعاقبهم، أو نحن نعاقبهم، فكأنه إن تركهم فإن الله سيعاقبهم عقاباً شديداً بنار جهنم، أو يعاقبهم بهذا الكلام الذي قاله صلى الله عليه وسلم. فمن رحمته صلى الله عليه وسلم أن اختار الأهون، وهو أنه يشتمهما ويسبهما على ما شارط ربه عليه إن كانا لا يستحقان السب أو اللعن، فيكون كأنه يدعو لهما صلى الله عليه وسلم، ولا يؤخرهما لعقوبة رب العالمين، فهذه رحمته.

سب النبي ولعنه وقت الغضب يكون صلاة يوم القيامة

سب النبي ولعنه وقت الغضب يكون صلاة يوم القيامة ومن الأحاديث الكثيرة التي جاءت مخبرة أنه رحمة من رب العالمين: ما رواه أبو داود عن عمرو بن أبي قرة وذكر: أن حذيفة رضي الله عنه كان بالمدائن، فكان يذكر أشياء قالها صلى الله عليه وسلم لأناس من أصحابه في الغضب، فينطلق أناس ممن سمع ذلك من حذيفة فيأتون سلمان رضي الله عنه فيذكرون له قول حذيفة، فيقول سلمان: حذيفة أعلم بما يقول. فيرجعون إلى حذيفة فيقولون له: قد ذكرنا قولك إلى سلمان فما صدقك ولا كذبك، فأتى حذيفة سلمان. ومعنى الرواية: أن حذيفة وهو في المدائن يكلم الناس ويقول لهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم مرة لعن أبا فلان، ومرة قال لفلان كذا، ويذكر أشياء وقعت، فكانوا يذهبون إلى سلمان ويخبرونه بقول حذيفة، فـ سلمان يقول: حذيفة أعلم، لا يقول: صدق، ولا يقول: كذب، فكأن حذيفة غضب لهذا الشيء. فذهب يعاتب سلمان، وسلمان رضي الله تبارك وتعالى عنه فقيه، وعالم عظيم، وقد مدحه النبي صلوات الله وسلامه عليه، بقوله: (سلمان منا أهل البيت)، فقد أوتي علماً من عند رب العالمين. فلما ذهب حذيفة إلى سلمان يعاتبه: لماذا لا تقول لهم إني صادق فيما أقول؟ فقال سلمان: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغضب، فيقول في الغضب لأناس من أصحابه، والمعنى: أنه إذا غضب لعله يلعن أناساً، ولكن هذه اللعنة مشروطة بشرط بينه وبين رب العالمين، فأنت لا تدري هل هذا مستحق للعن أو ليس مستحقاً له. يقول سلمان رضي الله عنه: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغضب، فيقول في الغضب لأناس من أصحابه، ويرضى فيقول في الرضا لأناس من أصحابه، أما تنتهي حتى تورث رجالاً حب رجال، ورجالاً بغض رجال! أي: أنت عندما تحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم شكر أبا فلان أو لعنه فأنت ستجعل الناس يكرهون هذا الإنسان ويكرهون ابنه، فاترك هذا الأمر، ولا تحدث بهذا الشيء. ثم قال رضي الله تبارك وتعالى عنه: ولقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال: (أيما رجل من أمتي سببته سبة، أو لعنته لعنة في غضبي، فإنما أنا من ولد آدم أغضب كما يغضبون، فاجعلها عليهم صلاة يوم القيامة). ثم قال سلمان رضي الله عنه: والله لتنتهين أو لأكتبن إلى عمر. أي: ليس كل شيء تسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم أنه سب فلاناً أو لعن فلاناً تبلغه للناس، فيكرهون الناس على حسب هذا، فلا تبلغ هذه الأشياء، وإذا بلغتها فلا تذكر اسم هذا الإنسان، حتى لا يكره الناس بعضهم بعضاً. وصدق رضي الله تبارك وتعالى عنه، وما كذب حذيفة رضي الله عنه، فقد كان صاحب سر النبي صلى الله عليه وسلم في المنافقين، ولكن أراد سلمان أن لا تتفكك الأمة بهذا الكلام، ولذلك نهاه رضي الله تبارك وتعالى عنه، وقال له: سنبعث لـ عمر ونكتب له رضي الله عنه، فالغرض بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين.

تفسير قوله تعالى: (قل إنما يوحى إلي إلهكم إله واحد)

تفسير قوله تعالى: (قل إنما يوحى إلي إلهكم إله واحد) قال الله سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الأنبياء:108]. أي: فهذا الوحي الذي جئتكم هو: أن تعبدوا الإله الواحد سبحانه الذي كنتم تتعجبون منه، وتقولون: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:5] فقال: أنا جئتكم بذلك لأن تعبدوا إلهاً واحداً لا شريك له. {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [الأنبياء:108]، أي: هل تسلمون لرب العالمين أنفسكم ووجوهكم وقلوبكم وأعمالكم، فتكون خالصة له سبحانه، فإذا أسلموا فهو خير لهم، وأما: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنبياء:109] يعني: أعلمتكم على سواء. وكلمة: (على سواء) هنا معناها: أن ما أجهر به مثل ما أخفيه، فهما سواء، بمعنى: لا أقول لكم شيئاً وأخفي عنكم غيره، فلا أغدر ولا أخلف ولا أكذب، وإنما الذي أقوله بلساني هو في قلبي، فقد آذنتكم وأعلمتكم علماً نستوي نحن وأنتم فيه، ونستوي في العلم أن مرجعنا إلى الله سبحانه وتعالى، وأنه لا مودة بيننا وبينكم. قال تعالى: {وَإِنْ أَدْرِي} [الأنبياء:109]، (إن) بمعنى ما، أي: ما أدري. {أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} [الأنبياء:109]، أي: يوم القيامة الذي أنتم تستعجلون به، لا أدري هل هو قريب أم بعيد؟ وقوله تعالى: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} [الأنبياء:110]. أي: إن الله تبارك وتعالى يعلم الجهر وما تنطقون به، ويعلم ما تكتمون. ثم قال تعالى: {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [الأنبياء:111]. {وَإِنْ أَدْرِي} [الأنبياء:109]: لعله عائد على الإمهال، أي: إن الله أمهلكم ولا أدري أقريب أم بعيد هذا الإمهال! فلعل ذلك يكون اختباراً لكم وفتنة وامتحاناً ومتاعاً تمتعون به في هذه الدنيا، حتى يأتيكم الأجل. قال تعالى: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} [الأنبياء:112]. أي: قال النبي صلى الله عليه وسلم داعياً ربه، كما قال المرسلون قبل ذلك، فإنهم سألوا ربهم سبحانه وتعالى فقالوا: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف:89]. كذلك قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: قل ذلك، ولذلك قرأ الجمهور: ((قل رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ)). وقرأ حفص وحده عن عاصم من القراء: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} [الأنبياء:112]. والقراءتان في الآية لهما معنيان، فكأنه قال له ربه: قل ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: {رَبِّ احْكُمْ ?بِالْحَقِّ} [الأنبياء:112]. وقرأ الجمهور: ((ربِّ)). وقرأ أبو جعفر: ((ربُّ احكم بالحق))، يعني: يا رب! احكم بالحق. {وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [الأنبياء:112] يعني: يا رب! افتح بيننا وبينهم، وأظهر حكمك في هؤلاء، وربنا تبارك وتعالى هو الرحمن، ومن رحمة رب العالمين أن أرسل محمداً صلوات الله وسلامه عليه، وأمهل هؤلاء لعلهم يؤمنون، ولم يعاجلهم بالعقوبة، وقد آمن كثير من هؤلاء الذين كانوا من أشد الناس على النبي صلى الله عليه وسلم. {وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [الأنبياء:112]، أي: نستعين برب العالمين على ما تقولون من أقوال شركية، وعلى ما تفترون على الله من الكذب، وعلى ما تتهمون به النبي صلى الله عليه وسلم، من قولكم: كاهن وساحر ومجنون وكذاب وغير ذلك، فهو المستعان سبحانه وتعالى على ما تقولون، وما تصفون. نسأل الله عز وجل أن ينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً نافعاً، وأن يفقهنا في ديننا، وأن يتقبل منا صلاتنا وصيامنا وقيامنا. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحج

تفسير سورة الحج [1 - 4] ذكّر الله عباده بأهوال يوم القيامة، وذكر ما سيصيبهم من الفزع والخوف الشديد في ذلك اليوم، حتى إنهم يكونون كالسكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد.

بين يدي سورة الحج

بين يدي سورة الحج الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الحج: بسم الله الرحمن الرحيم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ * وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج:1 - 4]. هذه هي السورة الثانية والعشرون من كتاب الله سبحانه تبارك وتعالى، وهي سورة الحج، والتسمية لما ذكر فيها من أمر المناسك. هذه السورة: آياتها أربع وسبعون آية على العد الشامي، وخمس وسبعون آية على العد البصري، وست وسبعون آية على العد المدني، واختلاف العد هو للاختلاف في أماكن الوقوف على رءوس الآية. قيل: إنها مكية إلا ثلاث آيات، وقيل: بل هي مدنية إلا أربع آيات، والراجح أنها مكية مدنية، بعض آياتها نزلت في مكة، وبعض آياتها نزلت في المدينة. هذه السورة ميزت على غيرها من السور بأن فيها سجدتي تلاوة، سجدة في أولها، وسجدة في آخرها، فمن قرأها فليسجد السجدة الأولى وليسجد السجدة الثانية، وجاء حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في إسناده ضعف أنه قال: (فضلت سورة الحج بسجدتين، من لم يسجدهما فلا يقرأهما) وينبغي لمن قرأ السجدة في القرآن كله أن يسجد استحباباً وليس على سبيل الوجوب. ذكر الغزنوي أن هذه السورة من أعاجيب السور في أمر نزولها، وما اشتملت عليه من أحكام ومن حكم، فقال: نزلت ليلاً ونهاراً، يعني: فيها آيات نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم بالليل وآيات أخرى نزلت عليه بالنهار، سفراً وحضراً، يعني: نزل بعضها وهو مسافر صلى الله عليه وسلم، ونزل بعضها وهو مقيم صلى الله عليه وسلم بالمدينة، مكياً ومدنياً يعني: فيها آيات مكية وآيات مدنية، فمن المكي فيها قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [الحج:1]، ومن المدني فيها قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج:77]، فإن من سمات السور المدنية النداء بقوله: (يا أيها الذين آمنوا). قال: سلمياً وحربياً، يعني فيها آيات السلم وفيها آيات الحرب، قال: ناسخاً ومنسوخاً، محكماً ومتشابهاً. هذه السورة بدأها الله سبحانه تبارك وتعالى بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [الحج:1] وهذه الجملة من سمات السور المكية التي نزلت في العهد المكي، خلال الثلاث عشرة سنة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم في مكة.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم) قال الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} [الحج:1] النداء للخلق جميعهم بأن يتقوا الله سبحانه تبارك وتعالى، بأن يجعلوا وقاية دون غضب الله، ووقاية دون عذاب الله، فالوقاية بالعمل الصالح، اتق الله أي: اعمل عملاً صالحاً، تقي به نفسك من غضب الله ومن عذابه سبحانه تبارك وتعالى. روى الترمذي عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر فنزلت عليه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1] فقال: (أتدرون أي يوم ذلك؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم، قال صلى الله عليه وسلم: ذاك يوم يقول الله لآدم: ابعث بعث النار. قال: يا رب وما بعث النار؟ قال: تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة، فأنشأ المسلمون يبكون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قاربوا وسددوا). وفي رواية أخرى: (فيئس القوم حتى ما أبدوا بضاحكة) يعني: أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما سمعوا أن من كل ألف يدخل النار تسعمائة وتسعة وتسعون وواحد يدخل الجنة، يئسوا من هذا الواحد الذي سيدخل الجنة؟ فما أبدوا بضاحكة، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قال: (اعملوا وأبشروا، فوالذي نفسي بيده! إنكم لمع خليقتين ما كانتا مع شيء إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج) يعني: يوم القيامة هاتان القبيلتان عددهما سيكون عظيماً جداً جداً؛ فإذا كانوا مع قوم كثروه يعني: من كثرة عددهم، قال: (ومن مات كافراً من بني آدم وبني إبليس، فسري عن القوم بعض الذي يجدون، فقال: اعملوا وأبشروا، فوالذي نفس محمد بيده! ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير أو كالرقمة في ذراع الدابة) الحديث رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، وله روايتان، وهذه الرواية الثانية الذي ذكرناها صححها الشيخ الألباني رحمة الله عليه. وقوله هنا: (ما أنتم في الناس إلا كالشامة) أي: العلامة (في جنب البعير) المعنى: مثل الشامة التي تكون في جنب البعير أو الرقمة التي تكون في ساعد الحمار إذا قيست لباقي الجسم، فأنتم بالنسبة للخلق جميعهم بهذه النسبة، فهذا مما يسر المؤمنين، ويجعلهم يطمئنون. وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: يا آدم! فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك) وهذا يوم القيامة، ثم يقول: (أخرج بعث النار؟ قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين)، يعني: أخرج من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين قال: (فذاك حين يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد) ففي يوم القيامة عندما يسمع الناس أن من كل ألف واحد يدخل الجنة: يشيب الولدان، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد. قال: (فاشتد ذلك عليهم، وقالوا: يا رسول الله! أينا ذلك الرجل؟ فقال: أبشروا فإن من يأجوج ومأجوج ألفاً ومنكم رجل).

وقت الزلزلة ومعناها

وقت الزلزلة ومعناها قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ} [الحج:1] زلزلة الساعة واضح من الأحاديث أنها تكون يوم القيامة، وقد اختلف المفسرون هل هذه الزلزلة تكون بعد البعث من القبور أو تكون قبل ذلك؟ وهناك زلازل تكون من علامات قيام الساعة، يكون خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وزلزلة تفزع الناس، فبعض العلماء ذكر أنها الزلزلة التي هي إحدى أشراط الساعة، لكن الحديث وضح أنها تكون في يوم القيامة من الخوف من إخراج بعث النار، ولعل هذا هو المناسب للآيات؛ لأن الله سبحانه تبارك وتعالى يقول: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2]، فهي الخوف من عذاب الله عز وجل، وهذا الذي سيكون يوم القيامة، فكل مرضعة تذهب عن رضيعها الذي ترضعه، وتضع كل ذات حمل حملها، فهذا يكون يوم القيامة والله أعلم. قال: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1] الزلزلة بمعنى: الرجفة والاهتزاز، ففي يوم القيامة يكون الخوف الشديد الذي يجعل الإنسان يضطرب ويتزلزل من مكانه ويتحرك، فأصل الزلزلة الحركة العنيفة، ففي يوم القيامة يكون اضطراب النفوس واضطراب أقدامهم من الخوف من بعث النار.

تفسير قوله تعالى: (يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت)

تفسير قوله تعالى: (يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت) قال تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2]. قوله: (يوم ترونها تذهل) يعني: هذه الزلزلة تشاهدونها، والذهول هو الغفلة عما أمام الإنسان، وكأنه لا يرى هذا الشيء، فهو ذاهل عنه، مثل من يأخذ شيئاً ثم يبحث عنه وهو في يده، فيوم القيامة تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وما قال: كل إنسان عما حمل، فالإنسان يوم القيامة لا يحمل شيئاً معه، فهو يخرج من قبره عرياناً حافي القدمين كما ولدته أمه. وفي الدنيا لا يمكن أن امرأة ترضع طفلها وتذهل عنه، ولكن يوم القيامة من شدة الكرب ومن الهول، ومن الفزع؛ تذهل كل مرضعة عما أرضعت، والمرضع لا يوجد فيها المذكر والمؤنث، فهي امرأة ترضع، لكن الشيء الذي يحتمل أن يفعله الرجل وتفعله الأنثى يوجد فيه المذكر والمؤنث، مثل: هذا قائم، وهذه قائمة، هذا جالس، وهذه جالسة، فالذهن يذهب أن المرضع هي المرأة الذي ترضع، فلا يوجد رجل يرضع، فلا يحتاج هذا الاسم إلى تاء التأنيث، فلما جاء هنا بتاء التأنيث فقالوا: هو لزيادة معنى، وهذا المعنى: أن المرأة الذي ترضع اسمها مرضع، وحال إرضاعها تسمى مرضعة، فذكر أن هذه المرأة التي تحن على صبيها تذهل عنه في ذلك اليوم.

معنى قوله تعالى (وتضع كل ذات حمل حملها)

معنى قوله تعالى (وتضع كل ذات حمل حملها) قوله تعالى: {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} [الحج:2] يعني المرأة لو ماتت وهي حاملة، تحشر يوم القيامة على حال وفاتها وفي بطنها جنينها، فهذا الجنين يصعق من شدة الموقف العظيم! وقوله: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2] أي: مما يدرك الناس من الخوف والفزع يصيرون كالسكارى، كأنهم قد شربوا خمراً، فذهبت عقولهم، وهم لم تذهب عقولهم بالخمر، وإنما من شدة الموقف ومن الرعب الشديد من أنه سيدخل النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون. وقوله: (وترى الناس سكارى) هذه قراءة الجمهور، وقراءة حمزة والكسائي وخلف: (وترى الناس سَكْرى) بالإمالة. وسكرى وسكارى جمع: سكران، فالمعنى: تراهم في غاية من الخوف والفزع حتى كأن عقولهم قد طاشت منهم، وكأنك تظن أنهم شربوا خمراً، وهم لم يشربوا خمراً، فترى الناس سكارى وليسوا بسكارى من الخمر، وإنما من شدة الخوف والوجل، ولكن عذاب الله شديد.

تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد)

تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد) قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} [الحج:3]. قالوا: نزلت هذه الآية المكية في النضر بن الحارث، وكان من كبراء مكة، وكان شديد الخصومة للنبي صلى الله عليه وسلم، يجادل بالباطل، ويناظر على الباطل الذي يقوله، كان يجادل بجهل، لا معه أثر من علم، ولا معه عقل حتى يأتي بحجة بينة، فيقوم يقول كلامه ويصدقه الكفار على ذلك. وإن كانت الآية نزلت في هذا الرجل بخصوصه، ولكن تشمل غيره بعموم اللفظ. قال الله: (ومن الناس) أي: يوجد من الناس من يجادل وهو لا يعرف شيئاً، يجادل بالباطل، وهذا ذم شديد لمن يجادل في الدين أو في غيره بغير علم، فليجادل الإنسان بعلم في حق، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بترك الجدل وقال: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء ولو كان محقاً) إلا أن يكون لنصرة دين الله سبحانه تبارك وتعالى، وللرد على كافر أو مبتدع. هذا الرجل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل غير قادر على إحياء من قد بلي وعاد تراباً، وقال: أتزعم أن ربك يعيد هذه العظام وقد رمت وبليت؟! فالله عز وجل يثبت حماقة هذا الإنسان وجهله وجداله بالباطل وبغير علم فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} [الحج:3] فهنا الإنسان الذي يجادل بغير علم يتبع الشيطان المريد المتمرد العاتي العاصي لربه، الخارج عن طاعة رب العالمين سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله)

تفسير قوله تعالى: (كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله) قال الله: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج:4] (كتب عليه) أي: على هذا الشيطان (أنه من تولاه) أي: من يتولى الشيطان من دون الله عز وجل، (فأنه يضله) أي: الشيطان يضل صاحبه، {وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج:4] والسعير من أسماء النار والعياذ بالله، يقال: سعر النار، وسعر الحرب يسعَرهما ويسَعِرهما بمعنى: يوقد ويهيج، فكأن عذاب السعير النار الهائجة، النار المشتعلة التي هي في غاية الاشتعال، ومنه قوله: {إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} [القمر:24] السعر: الجنون، فالمجنون يطيش ويفعل أي شيء، فهذه النار نار مستعرة ملتهبة، فيها اشتعال واستعار شديد، ومنه السعار أي العطش، ومنه الحر الشديد، ومنه: الساعور أي الفرن، ويقال لمن يرمي بالرمح: رمي السعر بمعنى: رمي شديد إذا دخل في شيء خزقه، وأمات من دخل فيه، ويقال: فرس مسعر ومساعر بمعنى: ما يهدأ عندما يهيج. هذه صورة النار وهي مشتعلة متوقدة متهيجة، والإنسان حين يرى هذه النار ويؤتى بها يوم القيامة {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2]. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الحج [3 - 5]

تفسير سورة الحج [3 - 5] لقد ذم الله في كتابه من كذب بالبعث وأنكر قدرة الله على إحياء الموتى، معرضاً عما أنزل الله على أنبيائه، متبعاً في قوله وإنكاره وكفره كل شيطان مريد من الإنس والجن، وهذا حل أهل البدع والضلال، المعرضين عن الحق المتبعين للباطل، الذين يجادلون في الله بغير علم صحيح، ويتبعون كل شيطان مريد.

تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يجادل في الله)

تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يجادل في الله) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} [الحج:3]. أخبرنا الله سبحانه وتعالى في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} [الحج:3] أي: من الناس من يجادل في أمر الله سبحانه، وفي أمر دين رب العالمين، وفي أمر خلق الله سبحانه وتعالى؛ كـ النضر بن الحارث الذي أنكر أن يحيي الله عز وجل الموتى بعد أن يصيروا تراباً وعظاماً، فربنا يخبر عن هذا وأمثاله، أنهم يجادلون بغير علم، ولو أنهم تعلموا لعرفوا الحق في ذلك، ولو أنهم نظروا في هذا الكون واطلعوا على كتب الله سبحانه لوجدوا الموافقة بين الكون وهو كتاب الله الذي ينظر الإنسان إليه في كل يوم في آياته، وبين ما نزل من عند الله من السماء وهو كتاب الله القرآن العظيم الذي إذا قرأه وتأمل الواقع عرف الحق وتعلم ما يكون من أمر ربه سبحانه، ولكن العجيب ممن يجادل بجهل ويتكلم بغير علم ويرد كلام النبي صلوات الله وسلامه عليه، فيعجبنا الله عز وجل من أمثال هؤلاء الذين يجادلون بغير علم. فالذي ينبغي على الإنسان المؤمن ألا يعرض نفسه أبداً لأمر الجدل، إلا في الدفاع عن دين الله سبحانه إن احتاج إلى ذلك، وإذا جادل لا يجادل إلا بعلم، يقول الله عز وجل: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت:46] أي: إذا جادلت إنساناً لتدعوه إلى الحق فينبغي أن تتعلم ما هو الحق قبل أن تجادل، ولذلك قالوا: إن الإنسان الذي لا يتعلم ويتكلم بغير علم، يرى هذا الإنسان في لغط مضل أو غلط مذل، فهذا الإنسان الجاهل حين يجادل إما أنه كثير اللغط الذي يؤدي به إلى الضلال، أو أنه يظن نفسه عالماً فيتكلم في أشياء لا يفهمها ولا يعرفها أمام من يعلم، فيذلونه بجهله ويقولون له: إنك جاهل ولست بفاهم، ما هذا الذي تقوله؟! إذاً: على الإنسان المؤمن أن يتعلم العلم الشرعي قبل أن يتكلم في دين الله سبحانه وتعالى، ولا يكون كأمثال هؤلاء الجهلة بأمر ربهم سبحانه وتعالى، فكفروا وأشركوا وجادلوا بالباطل. وهذا الذي يجادل بالباطل يأخذ الشيطان بناصيته يوم القيامة إلى نار جهنم والعياذ بالله، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج:4] أي: الله عز وجل كتب وقدر أنه من يتولى الشيطان من دون الله سبحانه فإن الشيطان يضله، وهنا الذي يهدي والذي يضل هو الله سبحانه وتعالى، ولكن أسباب الهداية وأسباب الضلالة يجعلها الله عز وجل على يد من يشاء سبحانه، فالشيطان خلقه الله عز وجل بصفاته، وقد علم أنه يضل عباده ويبعدهم عن أمر دينه، ويدفعهم إلى المعصية، ويسول لهم الشبهات ويزين لهم الشهوات، ويصرفهم إلى المنكرات، فهذه أسباب. فالله عز وجل يقدر فهو يهدي ويضل بتقديره سبحانه وتعالى، والشيطان يضل العباد ويبعدهم عن طاعة الله كسبب من الأسباب، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام:112] قوله: ((ولو شاء)) أي: هذا قضاء الله سبحانه وتعالى، فهو إذا قضى بالهداية لا يمكن أن يكون العكس، وإذا قضى بالضلالة لن يكون العكس، وورد في الحديث: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) فهذا ينقلب ويعمل بعمل أهل النار، وذاك ينقلب فيعمل بعمل أهل الجنة كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فالشيطان يضل الإنسان الذي يطيعه والذي يعصي الله سبحانه، ويأخذ به إلى طريق عذاب السعير والعياذ بالله.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث) قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج:5]. أمرنا سبحانه أن نتدبر فيما حولنا في هذا الكون، نتدبر في خلقتنا كيف خلقنا الله سبحانه وتعالى، وقال في كتابه: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78] هذا جهل الإنسان حين يجادل ويقول: من الذي سيحيي هذه العظام بعدما صارت رميماً؟ نقول: أنت نسيت من الذي خلقها أول مرة، الذي خلقها أول مرة هو الذي يعيدها مرة ثانية، فلم لم تتعجب من الخلق الأول وتتعجب من الإعادة؟! وهل الإعادة أصعب من بدء الخلق؟ فالله سبحانه بدأ الخلق وكان عدماً، فجعله تراباً وماء ثم جعله إنساناً، ثم فني هذا الإنسان ورجع للتراب، فهل الذي خلقه من العدم غير قادر على أن يركبه مرة ثانية من هذا التراب الذي صار إليه؟! {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:78 - 79]. والخطاب هنا في قوله: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ)) خطاب قرآن مكي؛ لأن في مكة كان الكفار أكثر من المسلمين، وكان الخطاب لهؤلاء أمة الدعوة، فهو يدعوهم ويقول: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ))، أما في المدينة فقد كان الخطاب للمؤمنين؛ لأن المدينة امتلأت بالمؤمنين، فكان الخطاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:104]. هنا قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} [الحج:5]، الريب: هو الشك، أي: أن الله عز وجل يحييكم ويبعثكم بعدما أماتكم. قوله: ((فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ))، قال: (فإنا) جاء بنون العظمة هنا، فالخلق عظيم، وهذا يدل على عظمة الخالق سبحانه وتعالى، فهو أتى بنون العظمة تعظيماً لنفسه وشأنه وقدرته سبحانه وتعالى، ((فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ)) أي: هو الذي تفرد بالخلق والأمر سبحانه لا شريك له، فجمع بين الاثنين فقال: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54] أي: هو الذي تفرد بأن يخلق سبحانه، وهو الذي تفرد بأن يشرع لهذا المخلوق، وبأن يدله على الطريق الصحيح الذي يسلكه إلى جنة رب العالمين وإلى رضاه.

مراحل خلق الإنسان

مراحل خلق الإنسان قال الله تعالى: ((فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ))، هذا بدء الخلق، فقد خلق آدم من هذا التراب، وتركيب جسم الإنسان كتركيب التراب الموجود في الأرض، وعناصره موجودة في جسم الإنسان، فهذا أصل خلقته، لذلك يموت الإنسان ويتحلل ويرجع إلى هذا التراب مرة ثانية. قال: ((ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ)) أي: بعد ذلك كان الخلق من النطفة، ((ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ)) هذه مراحل خلق الإنسان جاءت في كتاب الله عز وجل بترتيب عظيم بديع، يقول العلماء: إنه أعظم ما يدل على الخلق ما جاء في كتاب الله سبحانه وتعالى، فهذا الترتيب كيف عرفه النبي صلى الله عليه وسلم، لم يكن قد تعلم الطب ولا تعلم التشريح من أجل أن يعرف هذه المراحل الموجودة في رحم المرأة، تأتي النطفة من الرجل إلى رحم المرأة، وهذه النطفة يمضي عليها فترة فتتحول إلى علقة، ويمضي عليها فترة فتتحول إلى مضغة، والمضغة مخلقة وغير مخلقة ليبين الله سبحانه وتعالى لنا. فذكر لنا هنا سبحانه وتعالى أن هذه مراحل خلق الإنسان، خلق الله عز وجل الإنسان وجعله نطفة في قرار مكين، قال عز وجل: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14] عندما يقرأ الإنسان هذه الآية وغيرها ويقرأ كلام علماء أوروبا وأمريكا في أمر مراحل الجنين وخلق الجنين واعتراف هؤلاء بأن القرآن هو الكتاب الوحيد الذي ذكر الترتيب الصحيح بهذا النحو، فيقول المؤمن: صدق الله العظيم الذي يقول: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53]. قوله ((ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ)) النطفة معناها: الماء القليل، ينطف الشيء يعني: يسيل منه الماء القليل، فسميت بذلك لقلتها، أيضاً قد تطلق على الماء الكثير، ولكن هذا الإطلاق ليس إطلاقاً دائماً، فيقولون: إن النطف معناه القطر، وليلة نطوفة، أي: دائمة القطر، فهي ليلة ممطرة، لكن الأصل أن النطفة الشيء اليسير من الماء وهو المني. قال لنا هنا: {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} [الحج:5] هذه المراحل توجد بين كل مرحلة فترة زمنية، ولذلك عبر عنها بـ (ثم) التي تفيد التراخي. إذاً: النطفة تمكث فترة، كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات)، فهنا خلق الإنسان في رحم الأم يبدأ من النطفة التي يمضي عليها أربعون في أربعين في أربعين، حتى ينفخ فيها الروح بعد ذلك. قال سبحانه وتعالى: ((ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ)) العلقة: هي القطعة من الدم التي تكون مثل الدودة، فهي معلقة في رحم المرأة، وبعد ذلك تكون مرحلة المضغة، والمضغة كما هو واضح من تسميتها كأنها الشيء الممضوغ، كأنها قطعة لحم ممضوغة، ولذلك بعض علماء الأمريكان لما سأله بعض المسلمين وهو الشيخ الزنداني عن هذه المرحلة: ماذا تسميها؟ وما الوصف الدقيق لها؟ فمكث يفكر ثم قال: لبانة، فاللبانة ممضوغة، فقال الشيخ الزنداني: القرآن ذكر ذلك! فتعجب الرجل جداً كيف أن القرآن ذكر المضغة؛ لأن هذا أدق وصف توصف به هذه المرحلة مرحلة المضغة التي سماها الرجل لبانة ممضوغة، بحيث يكون هيئة الجنين في بطن أمه كقطعة لحم ممضوغة، قال: ((ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ))، فهذه المضغة إما أن يقضي الله عز وجل بتخليقها فتصير إنساناً، وإما أن يقضي بنزولها فتنزل ولا تكون شيئاً، فمن قدر الله عز وجل له أن ينمو عبر عنه بأن المضغة التي يكون منها تكون مخلقة، أما من قدر الله عز وجل أنه لا يموت فعبر عنه بأن المضغة تكون غير مخلقة، وعلماء الطب الحديث يقولون: فعلاً المضغة مخلقة وغير مخلقة؛ لأن فيها من الخلايا ما هو قابل لأن ينمو الآن فينمو، ومنها ما هو غير قابل للنمو الآن، وسيأتي على الإنسان وقت يحتاج إلى خلايا، هذه خلية في المضغة هي أصل من أصول خلايا الجلد، وهذه أصل من أصول خلايا العظم، وهذه أصل من أصول خلايا الدم، فلما يحتاج إليها في يوم من الأيام تخلق، وإذا لم يحتج إليها تبقى على ما هي، فكأن بداخل المضغة ما هو مخلق وما هو غير مخلق كما ذكر الله سبحانه وتعالى، وهذا يذكره علماء التحليل وعلماء الطب الآن في زماننا، فهنا انظر قال تعالى عنهم: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} [النحل:83] أي: هؤلاء عرفوا هذه الآيات وعرفوا كلام الله عز وجل وكلام النبي صلى الله عليه وسلم فيها، ومع ذلك هم أبعد ما يكونون عن ربهم سبحانه! قال: ((لِنُبَيِّنَ لَكُمْ)) أي: نبين القدرة العظيمة من الله سبحانه وتعالى في هذا الخلق. قال تعالى: ((وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى)) أي: ما شاء الله عز وجل أن ينمو في الرحم كان، فهو يعلم {مَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد:8]. (يعلم ما تغيض الأرحام وما تزداد)، غاض الرحم انكمش ثم نزل ما فيه على هيئة الحيض أو على هيئة السقط، أو ازداد الرحم في النمو حتى أصبح بداخله جنيناً فمكث تسعة أشهر أو أقل من ذلك، ثم نزل طفلاً بعد ذلك. ((وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى)) أما ما لم يشأه الله أسقطه.

مراحل حياة الإنسان بعد خروجه من بطن أمه

مراحل حياة الإنسان بعد خروجه من بطن أمه قال تعالى: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [الحج:5]، بعد ذلك مرحلة الطفولية، وهي من ساعة نزول الإنسان إلى هذه الدنيا إلى قبل بلوغه، فهو في مرحلة طفوليته. قوله: {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} [الحج:5] أي: تصل إلى الرشاد والشدة والقوة في حال البلوغ. قوله: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} [الحج:5] أي: حين ينزل الإنسان طفلاً قد يتوفى في هذه المرحلة، ومنهم من يبقى إلى أن يصل إلى أرذل العمر، كما ذكر لنا في سورة غافر، ((وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ)). إذاً: الإنسان قد يموت وهو في بطن أمه، وقد يموت حين يولد، وقد يموت بعد ذلك، وقد يعيش أمداً طويلاً ويصل إلى أرذل العمر، فهو ينمو حتى يصل إلى أقصى شيء وأكمله، ثم يبدأ ينزل حتى يصل كما كان طفلاً، فهو في هذه المرحلة يصير شيخاً كبيراً، ويرد إلى أرذل العمر، العمر الطويل الرذيل، الذي معه يذهب عقل الإنسان، يصل إلى مرحلة التخريف، إلا أن يحفظه الله سبحانه وتعالى بحفظه لدينه، وبحفظه لكتاب الله سبحانه وتعالى ولسنة النبي صلوات الله وسلامه عليه. فمرحلة الشيخوخة الإنسان ينسى فيها كثيراً، بعدما كان يحفظ كثيراً ينسى كثيراً، وبعدما كان يجيد النطق والتكلم تسقط أسنانه ويثقل لسانه ولا يقدر على التكلم بعد ذلك، وفرق بين الطفل الصغير الذي يكون بهذه الصفة، صفة الضعف وصفة اللثغة وصفة عدم القدرة، وبين الشيخ الكبير، فهذا الطفل الصغير محبوب لدى أهله ويحمل ويقبل، ويكون الإنسان فرحاً به، أما هذا الشيخ الكبير فيقولون: متى سيموت هذا الإنسان؟! قال: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا} [النحل:70] يعني: الإنسان الذي سيعيش ألف سنة، ماذا ستعلم عندما تعيش ألف سنة؟! إن لم تعلم من هو خالقك، وإن لم تتعلم كيف تعبد هذا الخالق، فكأنك لم تتعلم شيئاً في هذه الدنيا، فيظل الإنسان مهما وصل إلى العلم فإنه سيصل إلى هذه الشيخوخة التي سينسى فيها ما تعلم قبل ذلك، انظروا هنا هل يستطيع الإنسان أن يأتي بالشيخ الذي بدأ ينسى وبدأ يخرف ويرجعه مرة ثانية كما كان في حالة الكمال العقلي؟! هاهم يحاولون في هذا الشيخ، لكن لم يصلوا إلى شيء، انظروا إلى رئيس أمريكا ريغان الذي كان رئيس أمريكا وماذا عمل في العالم كله، أصابه مرض (زهيمر) فلا يعرف زوجته ولا أولاده، ولا يعرف شيئاً مما حوله، ذهب عقل هذا الإنسان بمرض أصابه من عند الله سبحانه وتعالى، فينبغي أن يتأمل الإنسان أنه مهما وصل إلى شيء من كمال قدرة وكمال قوة وكمال فهم وعلم، فإنه في النهاية يصل إلى هذا المنحنى الصعب الذي لا يعلم بعد علم شيئاً. هذا مثال ذكره لنا ربنا سبحانه لنعرف قدرة الله سبحانه. قال سبحانه: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً} [الحج:5] هذا مثال قريب من المثال السابق، وهو إحياء الإنسان ونمو الإنسان كإحياء الزرع ونموه، فنحن كل يوم نرى إنساناً يولد وإنساناً يموت، ونرى الأرض كيف أنها تكون هامدة جامدة يابسة فعندما ينزل عليها الماء من السماء تحيا بفضل الله سبحانه. قال: ((فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ)) أي: هذه الأرض اهتزت بنمو النبات فوقها، ((وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ))؛ لنرى قدرة الله الذي خلق هذا وجعله ينمو، ثم أماته وهو في دورة قصيرة سنة أو دونها، فنرى الحياة والموت في الأرض لنتعظ من ذلك، ونرى حياة الإنسان وموته؛ لنعلم أنه ليس أحد يبقى على الدنيا، قال عز وجل: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الحج [5 - 10]

تفسير سورة الحج [5 - 10] ذكر الله تعالى لنا آية من آياته، وهي إحياء الأرض بعد موتها، وفي ذلك دليل على أن الله هو الحق، وأنه قادر على إحياء الموتى، وأن الساعة آتية لا محالة، ويذكر الله سبحانه جدال الكافرين في ذلك وإنكارهم للبعث، وإيذاءهم للنبي صلى الله عليه وسلم الذي يثبت لهم حقيقة البعث بالأدلة العقلية والنقلية، ومع ذلك لا يؤمنون ولا يصدقون.

تفسير قوله تعالى: (وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء)

تفسير قوله تعالى: (وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الحج: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ * وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [الحج:5 - 10]. لما ذكر الله سبحانه وتعالى من آياته خلقه سبحانه وتعالى الإنسان، وكيف أن الله خلق الإنسان من نطفة ثم من علقة وكان قبل ذلك تراباً، ثم جعله مضغة، ثم جعله بعد ذلك جنيناً في بطن أمه، وأقره ما يشاء سبحانه وتعالى، ثم أخرجه طفلاً ثم بلغ الأشد، فمراحل تكوين الإنسان التي يراها كل إنسان، يرى كيف يكون حملاً في بطن أمه، ثم يزداد هذا الحمل شيئاً فشيئاًَ، ثم ينزل هذا الجنين من بطن أمه طفلاً، ومنهم من ينزل حياً، ومنهم من ينزل ميتاً، ومنهم من يبلغ أشده ويتوفى، ومنهم من يبلغ إلى أرذل العمر. يقول سبحانه وتعالى: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [الحج:5]، ترى أرضاً جامدة، وأرضاً هامدة، وأرضاً يابسة جافة ينزل عليها الماء من السماء، فإذا بالله عز وجل يحييها بما أودع فيها سبحانه وتعالى من أسرار خلقه في بذور النبات، وفي جذوره وسيقانه، وإذا بهذه الأرض تنبت وتربو وتعلو، وينتفخ باطن الأرض بما فيها من بذور ومن نبات ومن جذور، وبدأت تعلو هذه الأرض. وقوله تعالى: {وَرَبَتْ} [الحج:5] هذه قراءة الجمهور، وقراءة أبي جعفر (وربأت) بمعنى ارتفعت الأرض، وهنا حصل فيها اهتزاز بما كبر بداخلها من بذور، وبما نمى بداخلها من جذور، وعلت الأرض فانتفخت وربت. وقال تعالى: {وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج:5] فترى أمامك الأرض الواحدة والماء الواحد الذي نزل من السماء، وإذا بالله يخرج من هذه الأرض فواكه شتى مشتبهاً وغير متشابه، والخلاق سبحانه تبارك وتعالى ينوع للخلق ما يشاء سبحانه، والإنسان يتفكر في ذلك، كيف أن الله خلق له ذلك ليتفكه به، وجعل له قوتاً من هذه الأرض، أفلا يشكر الله سبحانه وتعالى، ويعرف هذه الآيات، ويعرف أن خالقها هو الله وحده، المعبود وحده لا شريك له؟! فقوله تعالى: {وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج:5]، زوج هنا بمعنى: لون أو صنف، أي: أصناف بهيجة تعجب الناظرين، فيطعمها الإنسان فيجد الطعم اللذيذ من كل الطعوم، جعلها الله سبحانه وتعالى لهذا الإنسان، فلو كان شيئاً واحداً لمل الإنسان من هذا الشيء، ولكن جعل الله له من كل لون ومن كل صنف، فيأكل ويستمتع بما أخرج الله سبحانه وتعالى ويشكر ربه سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (ذلك بأن الله هو الحق)

تفسير قوله تعالى: (ذلك بأن الله هو الحق) قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحج:6] أي: الله الحق وما سواه باطل، الله الحق وحده لا شريك له، الموجود سبحانه وتعالى، وغيره يوجد فترة ويفقد بعد ذلك ويصير عدماً، الله الأول بلا ابتداء، الآخر بلا انتهاء سبحانه وتعالى، لا أول له ولا آخر له، فالله سبحانه وتعالى واجد الوجود وهو الحق سبحانه وتعالى، وما سواه باطل، وما يزول فهو باطل، وما يقوم بغيره فهو باطل، فالإنسان لم يقم بنفسه، ولم يخلق نفسه، ولكن الله هو الذي خلقه وأوجده، وأعطاه السمع والبصر والفؤاد، وأعطاه القوة والحياة، فعاش الإنسان بما أعطاه الله سبحانه وتعالى، فهو ليعيش يحتاج إلى ربه سبحانه، والله هو الحي لا يحتاج إلى أحد. قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} [الحج:6] وحده لا شريك له، وكل شيء يحتاج إلى الله الحق سبحانه، فما سواه باطل. وقوله تعالى: {وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى} [الحج:6] وزعم الكفار أننا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر، ولن نعيش مرة ثانية، فقال تعالى: {وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحج:6] فالله يقول: هو الحق؛ ولأنه الحق فهو وحده القادر على إحياء الموتى، وهو على كل شيء قدير.

تفسير قوله تعالى: (وأن الساعة آتية لا ريب فيها)

تفسير قوله تعالى: (وأن الساعة آتية لا ريب فيها) قال الله تعالى: {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا} [الحج:7] هذا عطف على اللفظ الذي قبله، ذلك بأن الله هو الحق، وذلك لتعلموا أن الساعة قادمة وآتية ولا شك في مجيئها. وقوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج:7] بقدرته الباهرة وبعظمته القاهرة، يبعث من في القبور مرة ثانية للحساب والثواب والعقاب.

تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم)

تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم) قال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [الحج:8]، والآية نزلت في سبب، والعبرة بعموم اللفظ نفسه، والسبب هو النضر بن الحارث، هذا الرجل الذي كان يجادل في الله سبحانه وتعالى بلا علم ولا هداية إلى الحق، ولا كتاب من عند رب العالمين سبحانه، لا علم عنده فهو جاهل، وليس معه هدى فهو ضال، وليس معه كتاب من عند الله فهو مخترع مبتدع كذاب، فلا يسمع لمثل هذا الإنسان إلا من هو أجهل منه، ولا يسمع لمثل هذا الإنسان إلا من هو بعيد عن الحق، ومن هو أضل منه، والكفار يسمعون له.

ذكر ما جاء من جدال الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم وما نزل فيهم من آيات

ذكر ما جاء من جدال الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم وما نزل فيهم من آيات جلس النبي صلى الله عليه وسلم مرة يدعوهم إلى الله سبحانه، وإذا بهم يتشاورون للرد عليه صلى الله عليه وسلم وتعجيزه، قال الله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ} [الإسراء:90 - 93] ومع كل هذا يقولون: {وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه} [الإسراء:93]، والجواب {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء:93]، فأنا بشر أوحى الله سبحانه وتعالى إلي بهذه الرسالة، فأنا مبلغ عن رب العالمين صلوات الله وسلامه عليه. قال لهم ذلك وردوا عليه بأنهم لن يؤمنوا له صلى الله عليه وسلم، وإذا بـ أبي جهل لعنة الله عليه يقوم ويقول للكفار: يا معشر قريش! إن محمداً قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا، وشتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وشتم آلهتنا، وإني أعاهد الله لأجلسن له غداً بحجر ما أطيق حمله، فإذا سجد في صلاته رضخت به رأسه -يعني: شدخت وكسرت به رأسه- فأسلموني بعد ذلك أو امنعوني؛ فقالوا له: نحن معك، ولما أصبح أخذ الحجر، وسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا به يتوجه إليه بحجر ما يطيق حمله، فكاد يهوي به، فإذا به يفزع، وتتيبس يداه، ولم يستطع إلقاء الحجر فجرى فزعاً من النبي صلوات الله وسلامه عليه! فإذا بالكفار يتعجبون فسألوه عما حدث فقال: لما دنوت منه -صلوات الله وسلامه عليه- عرض لي دونه فحل من الإبل، لا والله ما رأيت مثل هامته ولا مثل خصرته ولا أنيابه، وما رأيتُ مثله فحلاً قط، فهم بي أن يأكلني! فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك الفحل هو جبريل نزل على هذه الصورة، ففزع أبو جهل وابتعد عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلما علم النضر بن الحارث بذلك قال: يا معشر قريش! إنه والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة، قد كان غلاماً حدثاً، وأصدقكم حديثاً، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاءكم بما جاءكم به، قلتم: ساحر، لا والله ما هو بساحر، لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم، وقلتم: كاهن ولا والله ما هو بكاهن، قد رأينا الكهنة وتخالجهم وسمعنا سجعهم، وقلتم: شاعر، لا والله ما هو بشاعر قد رأينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها هجزه ورجزه، وقلتم: مجنون، لا والله ما هو بمجنون لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخليطه، يا معشر قريش فانظروا في شأنكم فإنه والله قد نزل بكم أمر عظيم، وكان هذا الرجل من شياطين قريش لعنة الله عليه، وكان ممن يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، وكان كما ذكرنا قدم الحيرة ببلاد الفرس، وسمع منهم الأساطير من قصص رستم واسكنديار، فكان كلما جلس النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس يدعوهم إلى الله عز وجل، جلس هذا الخبيث يحدثهم بقصص رستم واسكنديار، وبعد ذلك يقول لقريش: يا معشر قريش! أنا والله أحسن حديثاً منه، فهلموا إلي فأنا أحدثكم أحسن من حديثه، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم واسكنديار، يحكي لهم قصص وخرافات، وهو الذي تبجح وقال: سأنزل مثلما أنزل الله، وقيل: إنه نزل فيه ثمان آيات، وقيل: أكثر من ذلك. وقد قال الله سبحانه وتعالى في شأنه: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [القلم:15]. ولما تحيرت قريش في أمر النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: نبعث لليهود، وكانوا يسكنون قريبين منهم في مكان اسمه زفر، فقالوا: نبعث لهم ونسألهم عن النبي صلى الله عليه وسلم هل هو حق أم باطل؟ فأرسلوا إليهم النضر بن الحارث ومعه عقبة بن أبي معيط، إلى أحبار يهود زفر، فسألاهم عن النبي صلى الله عليه وسلم هل هو حق أم باطل؟ فإذا بحبر منهم يقول: سلوه عن ثلاثة أشياء، إذا أخبركم بها فهو نبي، وإن لم يخبركم بها فليس بنبي: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم؟ فإنه قد كان لهم حديث عجب، وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها وما كان نبؤه، وسلوه عن الروح. وقدموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا له: لو كنت نبياً حقاً فأخبرنا عن هذه الأشياء الثلاثة، فقال صلى الله عليه وسلم: غداً سأخبركم، فلبث خمسة عشر يوماً لم ينزل عليه الوحي تأديباً له صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يقل: إن شاء الله، ثم نزلت الآيات من سورة الكهف في ذلك، وأخبرهم ربنا سبحانه وتعالى عن أمر الروح، قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85]. وكان النضر بن الحارث ممن يجادل النبي صلى الله عليه وسلم بالباطل، وجلس مع النبي مرة فأفحمه النبي صلى الله عليه وسلم بكلام وتلا قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98] فلما قال ذلك بهتوا كلهم وقاموا، وذهب النضر إلى عبد الله بن الزبعرى وقال له: إنا سمعنا النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك، وكان الوليد بن المغيرة بين القوم فقال: لم يستطع أحد أن يرد عليه؟! فالتفت إلى ابن الزبعرى فقال: لو كنت موجوداً لرددت عليه، وقلت له: إذا كنا وما نعبد حصب جهنم، فإننا نعبد الملائكة، فهل الملائكة تدخل النار؟ والنصارى يعبدون عيسى، فهل عيسى سيدخل النار؟ فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا ذلك له صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101]. إذاً: يفهم من هذه الآيات أن الذي يدخل النار من رضي بهذه العبادة دون من لم يرض بها، وعيسى والملائكة لم يرضوا بهذه العبادة من دون الله عز وجل، وقد قتل النضر بن الحارث صبراً في يوم بدر، فقد كان من أسرى يوم بدر، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم به فقتل، والذي قتله هو علي بن أبي طالب رضي الله تبارك وتعالى عنه.

ذم الجدال بغير علم

ذم الجدال بغير علم فقول الله سبحانه وتعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الحج:8] هذا الرجل منهم، وكل من جادل في الله بغير علم يدخل تحت هذه الآية. وقوله تعالى: {وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [الحج:8] أي: ليس معه بينة من عند رب العالمين من آية أو وحي، وقوله تعالى: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} [الحج:9] العطف: جانب رقبة الإنسان، يعني: يعوج رقبته لا يريد أن يسمع الحق، فهو مستكبر عنه. إذاً: من صفات الإنسان المستكبر أنه حين يتكلم يعوج رأسه ويكلم الناس من علو كأنه أفضل منهم، وهي صفة موجودة في الكفرة وفي بعض المسلمين أيضاً، وكل هذا من جهل الإنسان بنفسه، وجهله بحقارة نفسه وأن أصله من تراب، وجهله بربه العظيم الذي أمره أن يتواضع، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من تواضع لله رفعه) وأبى الله سبحانه للمتكبر إلا أن يضعه، فالمتكبر يستشعر أن الذي معه ليس مع غيره، فهو يتعالى على غيره، ويتكبر حتى ينكس الله رأسه، فاحذر من الكبر واحذر من الغرور واحذر من ثني الرقبة.

تفسير قوله تعالى: (ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله)

تفسير قوله تعالى: (ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله) قال تعالى: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} [الحج:9] أي: لاوٍ جانبه، معرض عن سماع الحق، وقوله تعالى: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج:9] فيه قراءتان، فقراءة الجمهور: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الحج:9]، من الفعل الرباعي أَضَلَّ، أضل غيره يعني: دعا غيره للضلالة، وقراءة ابن كثير وأبو عمرو ورويس عن يعقوب: (ليَضِل عن سبيل الله) من الفعل الثلاثي ضلَّ بمعنى هو ضال في نفسه، متجه إلى غير الحق، متبع الهوى بعيد عن الله سبحانه. إذاً: هو ضال مضل، ضال في نفسه مضل لغيره، ومعنى ليَضِل: ليزداد ضلالة وبعداً عن الله عز وجل، وليُضِلَّ: ليجعل غيره يبتعدون عن دين ربهم سبحانه. وقوله تعالى: {لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} [الحج:9] أي: كل إنسان متكبر لا بد أن يخزيه الله في الدنيا، وليس شرطاً أن يكون حالاً وسريعاً، فإن الله يقول: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183]، يملي ربنا سبحانه وتعالى للمتكبر حتى يقصمه، فقوله: {لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} [الحج:9] أي: يخزيه الله ويحقره ويضله. وقوله تعالى: {وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج:9] أي: عذاب الدنيا، ويوم القيامة نار جهنم والعياذ بالله.

تفسير قوله تعالى: (ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد)

تفسير قوله تعالى: (ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد) ويقال له: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} [الحج:10]، قال تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف:76]، واليد أداة الكسب للإنسان، وإن كان قد يكتسب السيئات بلسانه وبغيره، ولكن أكثر ما يكتسب به الإثم بيديه، فقال: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [الحج:10]، ولا يظلم ربك أحداً، فاحذر من غضب الله سبحانه، واحذر أن تظلم نفسك فلا تلومن يوم القيامة إلا نفسك. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الحج [11 - 15]

تفسير سورة الحج [11 - 15] يخبر الله عز وجل عن صنف من الناس قلوبهم مريضة، وحياتهم تعيسة، لا ينظرون إلا إلى المادة فيعبدونها ويركعون لها من دون الله سبحانه وتعالى، فهؤلاء ما دخلوا في دين الله إلا للتجربة، فإن صلحت أحوالهم من أموال وزوجات وأولاد قالوا: هذا دين حسن، وإن ابتلاهم الله عز وجل انقلبوا على أعقابهم وارتدوا عن دين الله سبحانه وتعالى، فعبدوا من دون الله ما يضرهم ولا ينفعهم، وعبدوا من دون الله من كان بعيداً منهم لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنهم شيئاً.

تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يعبد الله على حرف)

تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يعبد الله على حرف) الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الحج: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ * يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ * إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [الحج:11 - 14]. يذكر لنا الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات وما قبلها أصنافاً من الكفار الذين يعبدون غير الله سبحانه تبارك وتعالى، فمنهم من يجادل في الله بغير علم ولا هدىً ولا كتاب منير، فهو مستكبر ثاني عطفه؛ ليضل عن سبيل الله، فأخبر الله سبحانه أن هذا الإنسان المستكبر جزاؤه أن يخزيه الله عز وجل في الدنيا، وأنه يوم القيامة يذيقه عذاب الحريق. وكان من هؤلاء وهو سبب نزول هذه الآية: النضر بن الحارث، فأذله الله عز وجل في الدنيا وأخزاه، وقتل صبراً في يوم بدر، ويوم القيامة له عذاب الحريق، وكذلك من كان مثله من يصد عن دين الله سبحانه تبارك وتعالى، ويريد أن يظهر أنه ليس من عند الله سبحانه، وأنه ليس الحق، فهذا الرجل كان يجادل بالباطل، ويجلس إلى الناس يحدثهم بالقصص والخرافات، ويقول: هذا أحسن حديثاً مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يزل على ذلك حتى قصمه الله سبحانه تبارك وتعالى. وهذه صورة أخرى من صور هؤلاء الذين يدخلون في دين الله وهم على حرف: {عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} [التوبة:109] فهو لما دخل في هذا الدين، وجاءه رزق وفير، والله أنعم عليه في هذه الدنيا، فهو يقول: هذا الدين دين جيد، ويستمر عليه، فإذا أصيب بشيء من البلاء قال: هذا الدين ليس جيداً، وينصرف عن هذا الدين راجعاً إلى الشرك والعياذ بالله! ومن الناس -من هذا الصنف- من يعبد الله على حرف، يعني: دخل في الدين وهو متوجس يأخذ في التفكير: أدخل أو لا أدخل؟! أدخل وأنظر! فهو على حرف، ليس ثابتاً على هذا الدين، ولكنه متزعزع، متزلزل، متشكك، يجرب تجربة! الدين ليس محلاً للتجربة، لكنه يجرب فإذا أعجبه استمر، وإذا لم يعجبه رجع عنه، لم ينزل دين الله عز وجل بذلك، ولكن المؤمن يدخل في دين الله واثقاً في الله سبحانه تبارك وتعالى، مقتنعاً بهذا الدين، قد امتلأ قلبه بالإيمان، فهو على يقين من أن الله واحد لا شريك له، وعلى يقين من أن النبي صلى الله عليه وسلم هو مبلغ عن رب العالمين سبحانه، وعلى يقين من أن هذه الشريعة هي منهج الحياة، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وهو على يقين بأنه سيحاسب يوم القيامة على عمله. أما هذا المتزلزل المتزعزع -الذي هو على حرف- فإن وجد خيراً استمر، وإن وجد ضيراً انقلب على عقبيه، هذه صورته. يقول الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ} [الحج:11]، ومعنى (حرف) أي: على وجه واحد، أو على آخر الشيء مثل حرف المكان أي: آخره، والواقف على الحرف: إما أنه يبعد ويقع، وإما أنه يستمر على ما هو فيه، فهذا على تشكك في عقيدته، ومتزلزل في إيمانه. {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج:11] قال ابن عباس: يريد شيبة بن ربيعة وكان قد أسلم قبل أن يظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والظهور هنا بمعنى: الغلبة، فكان في مكة والنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين قلة، ولم يكن لهم دور، دخل الإسلام مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بما جاء من شريعة، فإذا بهذا الرجل يرجع ولا يريد ذلك. وقيل: إنه رجل من اليهود دخل في الدين وبايع النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام، فلما أسلم ابتلاه الله عز وجل، فذهب بصره وماله، يعني: عمي الرجل وذهب ماله، فتشاءم بالإسلام، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أقلني، فقال له: (إن الإسلام لا يقال)، والإقالة أن يبيع الإنسان بيعة ثم يرجع في كلامه، فظن أنه هكذا في الإسلام، فقال: إني رجعت في كلامي لا أريد، فقال له: (إن الإسلام لا يقال، فقال: إني لم أصب في ديني هذا خيراً، ذهب بصري ومالي وولدي، فقال له: يا يهودي! إن الإسلام يسبك الرجال، كما تسبك النار خبث الحديد) فنزلت هذه الآية، والحديث في إسناده ضعف، ولكنه من ضمن الصور التي فيها أن البعض كان يسلم، ويبتليه الله سبحانه تبارك وتعالى سواء كان هذا اليهودي أو غيره فيرتد عن الإسلام. كذلك جاء عن ابن عباس في تفسير هذه الآية أنه قال: (كان الرجل يقدم المدينة، فإذا ولدت امرأته غلاماً ونتجت خيله، قال: هذا دين صالح)، فهو يدخل في الدين تجربة. فالدين لا يصلح فيه هذا الشيء، فإما أن يثبت هذا الشخص، وإما أن يكون مزعزعاً فلا يصلح في هذا الدين، ولا يتسمى بمسمى الإسلام إلا أن يكون على شهادة أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه. فكان الرجل من هؤلاء الأعراب يدخل في هذا الدين ليجرب وينظر، فإذا حملت زوجته وأتت بولد كان هذا الدين جيداً، وإذا نتجت الخيل وكثرت كان ديناً جيداً، وإلا فإنه يرجع عن هذا الدين ويقول: إن هذا دين سوء، ولذلك الله أخبر عن هؤلاء الأعراب فقال: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة:97] فإذا كانوا يدخلون الدين من أجل أن يجربوه فهؤلاء أشد كفراً ونفاقاً، فليس في قلوبهم من الإيمان شيء إلا التسمية بأنه مسلم فقط، لكن الحقيقة أنه ليس في قلوبهم إسلام، ولذلك أخبر الله عز وجل عنهم: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14]، إسلام باللسان فقط، لا يوجد إيمان: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14]، الإيمان إذا دخل القلب وانفتح انشرح صدر الإنسان بهذا الإسلام، ويكون في سبيل دين الله عز وجل مستعداً أن يترك ماله وولده، ويترك كل شيء ابتغاء مرضاة الله عز وجل، أما الذي يريد الدنيا والآخرة، فيبتغي في الدنيا المال والولد، ويريد زهرة الدنيا مع الآخرة، فهذا لا يكون، أين التضحية؟! وعلى أي شيء سيدخل الجنة؟ لا بد أن الإنسان يبذل في الدنيا ويصبر فيها، يقول الله سبحانه: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35]. فالإنسان يظفر بالجنة ويدخلها بالصبر على المكاره، وبقوله: إنا لله وإنا إليه راجعون، فهؤلاء هم الذين يعلمون أن مصيرهم إلى الله عز وجل، وأن الله سيحاسبهم يوم القيامة، فيبتغون رضا الله سبحانه. أما الإنسان الذي يريد الخير في الدنيا والآخرة، فلا يمكن، قال الله سبحانه: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2] تريد أن تقول: أنا مؤمن من غير أن تصاب بشيء في الدنيا لا في المال ولا في الولد ولا في النفس؟! لا يصلح الإسلام إلا بشيء من البلاء. قال الله تبارك وتعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج:11] (حرف الشيء) طرفه وشفيره وحده، والمعنى: يعبدون الله على وجه واحد وهو السراء، ولا يريدون ضراء. ولو عبدوا الله على الشكر في السراء، والصبر في الضراء، لما عبدوا الله على حرف، فالإنسان في وقت السراء يشكر الله ويحمده سبحانه، ووقت الضراء يصبر وينتظر الفرج من الله سبحانه، فهذا هو الذي يعبد الله على حق.

معنى قوله تعالى: (فإن أصابه خير اطمأن به)

معنى قوله تعالى: (فإن أصابه خير اطمأن به) قال تعالى: {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ} [الحج:11] يعني: ثبت على الدين، {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} [الحج:11] يعني: أصابته في ماله وبدنه وولده، انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة، فالإنسان الذي يرتد ويرجع إلى الكفر لن يضر الله شيئاً، إنما هو الخاسر الخسران المبين، ففي الدنيا الله عز وجل يعطي الإنسان الهدى من فضله ورحمته، وهذا أعظم مكسب، ولذلك أهل الجنة يقولون عند دخولهم الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف:43]، فهنا أهل الجنة عرفوا نعمة الله عز وجل، ونعمة الإسلام، ووفق العبد للعبادة في الدنيا وابتلاه في الدنيا فصبر، فكان بتوفيق من الله سبحانه تبارك وتعالى أن أعطاه في الدنيا فحمد ربه، وعندما يأتي يوم القيامة يقول: الحمد لله الذي هدانا لهذا. أما هؤلاء الكفار الذين ارتدوا على أعقابهم فقد خسروا الهدى في الدنيا، وخسروا طريق الله فلم يعرفوه، أو ارتدوا عن طريق الله سبحانه تبارك وتعالى، فالكافر قلبه مظلم، يعيش في شك وحيرة، ويعيش في ضلال وتيه، فلا تفرح بمظهر الإنسان الكافر صاحب الغنى والمال والثروة، فقلبه فيه خواء، ضيع عمره في الرقص واللعب والموسيقى والأغاني، وهو يستشعر أن قلبه لا يوجد فيه شيء، هو مستشعر أنه ضائع تائه، ولذلك أعلى معدلات الانتحار تكون عند هؤلاء الكفار، يأخذ أحدهم من الدنيا ولا يشبع، فهو يحس أنه محتاج إلى شيء لكنه لا يعرفه، ما هو هذا الشيء الذي يحتاج إليه؟! وفي النهاية يضيع ويهلك نفسه منتحراً يائساً من الدنيا، وتجد كثيرين من هؤلاء معهم من الأموال الشيء الكثير، ولكن لا يستشعرون بالسعادة التي يستشعرها المؤمن الفقير. فالمؤمن الفقير راض عن الله سبحانه تبارك وتعالى، إن أعطاه حمده، وإن منعه صبر وانتظر أن يدخل الجنة قبل الأغنياء يوم القيامة، في قلبه ما يدفعه إلى حب الله سبحانه، وينتظر الجزاء من الله سبحانه تبارك وتعالى، قلبه معلق بالله، وممتلئ إيماناً، أما الكافر فقلبه فارغ. فذلك الكافر يخسر الدنيا مهما أعطي فيها من مال وبنين وغير ذلك، وانظروا إلى التفكك الأسري عند الكفار، يعيش الكافر ويكبر ابنه فيحس أنه ليس بابنه، فابنه بعدما يبلغ لا يستطيع أن يبقيه في البيت، يخرج ابنه خارج البيت، فلا يوجد بينهم ترابط أسري، والدين هو الذي يوجب ذلك، فعندما يكبر الأب يذهب إلى دار المسنين، لا يقبل الابن أن يكون أبوه معه في البيت، ولا أمه تكون معه في البيت، كل واحد يعيش لوحده! لا يوجد ترابط بينهم! فالذي يجمع ويؤلف هو دين الله سبحانه تبارك وتعالى، يجعل في القلب حب الأب للابن، وحب الابن لأبيه، والطاعة بين الابن لأبيه، والمحبة من الأب لابنه، فيجمع الناس، قال تعالى: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13]، أما هؤلاء فأهم شيء عندهم الدنيا، فيحصل على الدنيا ولا يتدخل في أنه ينفع ابنه أو يضره! هنا الله سبحانه تبارك وتعالى يخبر عن هؤلاء الكفار أنهم خسروا الدنيا والآخرة، {ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11] أي: الواضح البين، فهؤلاء ما استفادوا بأن دعوا الأصنام شيئاً، يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه، فهذا الصنم الذي يعبده من دون الله، وهذه الآلهة الباطلة التي يعبدها من دون الله، لا تضر ولا تنفع، بل ضررها أقرب من نفعها، فالكافر يدعو الوثن والصنم ويتقرب إليه، ويطلب منه أن ينصره، وترك ربه سبحانه فتخلى عنه ربه وتركه، فخسر الدنيا قبل الآخرة، فنصر الله سبحانه وولايته ليست مع هذا الإنسان، فهو يدعو الصنم، والله يقول: (أنا أغنى الأغنياء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) فهذا الذي يدعو غير الله أين النفع الذي سينفعه الصنم؟! لا يملك لنفسه شيئاً فضلاً عن غيره، وخسر في الدنيا ولاية الله سبحانه، وخسر الآخرة فكان في النار عياذاً بالله.

تفسير قوله تعالى: (يدعو من دون الله ما لا يضره ولا ينفعه)

تفسير قوله تعالى: (يدعو من دون الله ما لا يضره ولا ينفعه) قال سبحانه: {يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} [الحج:12] الكافر ضال تائه حائر، لا يعرف أين الحق، فهو في ضلال بعيد عن الحق، بعد وتاه في ضلاله، يقال: فلان دخل في الصحراء وتاه في أولها، أي: بعد فيها، فتيئس من هذا الإنسان فلا يوجد فيه أمل، فهو قد ضاع فيها. فهذا الذي يدعو الصنم والوثن في ضلال بعيد، لا يرجى لمثل هذا الإنسان وهو على هذه الحال خير لا في الدنيا ولا في الآخرة، فضلاله بعيد.

تفسير قوله تعالى: (يدعو لمن ضره أقرب من نفعه)

تفسير قوله تعالى: (يدعو لمن ضره أقرب من نفعه) قال تعالى: {يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} [الحج:13] ضرر هذا الوثن الذي يعبد أقرب من نفعه إن كان له نفع، ولكن الضرر في الدنيا أن يتخلى الله عنه سبحانه تبارك وتعالى، وسيزيده ضلالاً على ضلاله، فلا يهديه سبحانه تبارك وتعالى، وفي الآخرة له نار جنهم. {لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [الحج:13] المولى: النصير والقريب كابن العم وغيره، فإذا كان يستنصر بهذا المولى وبهذا الوثن من دون الله فبئس ما يستنصر به! كذلك يوم القيامة يتبرأ بعضهم من بعض، فقال: (ولبئس العشير) المعاشر والصاحب والقريب، فالإنسان الذي يتقرب إلى غير الله سبحانه، ويترك ربه، فبئس ما تقرب به، وبئس ما تقرب إليه!

تفسير قوله تعالى: (إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار)

تفسير قوله تعالى: (إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار) ثم يذكر الله سبحانه تبارك وتعالى المؤمنين، وكيف يعاملهم الله بفضله وبرحمته سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [الحج:14]. الكفار كانوا ينظرون إلى هذه الدنيا على أنها: طالما الله يعطينا في الدنيا فسيعطينا في الآخرة، فيقيسون الآخرة على الدنيا، وأنتم يا فقراء المسلمين! الله لن يعطيكم، فكيف سيعطيكم الآخرة إذا كان لن يعطيكم في الدنيا، فنحن أعطانا المال والبنين، فالله يحبنا، إذاً نحن أفضل، فسيعطينا يوم القيامة أكثر، فيخبر الله عز وجل أن هذا الشيء وهم، فإن الله أعطاكم ليس لأنه يحبكم، وليس لأن يرفعكم على الخلق، بل ليملي لكم، فإن كيده متين سبحانه. قال: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ} [الحج:14] فالمؤمنون الصابرون يستحقون الجنات التي تجري من تحتها الأنهار، جنات وبساتين عظيمة (تجري من تحتها الأنهار) أي: تجري في أرضها الأنهار، أنهار من لبن، وأنهار من عسل، وأنهار من خمر، وأنهار من ماء، لا يكدرها شيء. {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [الحج:14] أي: يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، ويرفع من يشاء، ويضع من يشاء، ويدخل الجنة من يشاء، ويدخل النار من يشاء {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [الحج:14]، والكفار لا يعجبهم أن المؤمنين يدخلون الجنة وينصرهم الله عز وجل، بل يغضبون، فنقول لهم: اضربوا برءوسكم على الحائط، واشنقوا أنفسكم، وافعلوا ما تشاءون، فهل هذا يغني عنكم أم لا يغني؟!

تفسير قوله تعالى: (من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة)

تفسير قوله تعالى: (من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة) قال تعالى: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج:15] أي: يعتقد أن الله لا ينصر دينه، ولا ينصر نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن الله لا ينصر المؤمنين، ويظن: أن الله طالما أعطاني المال إذاً أنا الذي أستحق النصر وأنتم لا تستحقون، فالذي يظن هذا الشيء ماذا يعمل؟ قال الله: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [الحج:15] إذا كان يستطيع أن يصعد إلى السماء ويمنع نصر الله فليفعل، ويذهب لينظر هل هذا الشيء ينفع؟! {فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج:15] هل يذهب هذا الكيد أنه يصعد إلى السماء بطائرة أو بصاروخ، ويمنع نصر الله عن المؤمنين. وقالوا أيضاً: فليمدد بسبب إلى السماء طالما أنه مغتاظ من أن الله ينصر المؤمنين وينشر دينه سبحانه، اربط حبلاً في سقفك، واخنق به نفسك، وانزل ميتاً على الأرض، وانظر هل هذا الذي تعمله سيذهب غيظك أم لا يذهب غيظك؟! والمعنى: موتوا بغيظكم، واقتلوا أنفسكم، فلن ينصر الله سبحانه إلا دينه وأهل الحق مهما فعل الكافرون. قال تعالى: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ} [الحج:15] الهاء هنا عائدة على النبي صلى الله عليه وسلم، أو عائدة على دين الله سبحانه، أو على المؤمنين، وهذا وعد من الله عز وجل أن ينصر هذا الدين، ولكن النصر له أسباب، فربنا سبحانه تبارك وتعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38]، وقال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]، إن الله ينصر هذا الدين بأسباب قال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60]، أعدوا للكفار ما استطعتم من قوة، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، ويقول: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه). إذاً: المؤمن يتوكل على الله، والله يقول: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23]، ويأمرهم أن يأخذوا بالأسباب، قال تعالى: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7]، وقال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60]. إذاً: عليك أن تأخذ بأسباب النصر بأن تتقوى، وتكون جيشاً للدفاع عن هذا الدين، حتى تستطيع أن ترد على هؤلاء الكفار، فيكون القلب فيه الإيمان والتوكل على الله سبحانه، والعقيدة الصحيحة أن ينصر دين الله، وليس أن ينصر الأرض والوطن والعروبة، ولا أن ينصر إفريقيا أو غيرها، وإنما ينصر دين الله بالأخذ بالأسباب، فكيف ينصر دين الله من هو جاهل بدين الله سبحانه وتعالى؟! كيف ينصر دين الله من هو مشرك بالله يستغيث بالأولياء والصالحين ويترك ربه سبحانه تبارك وتعالى؟! وإذا كان المؤمن على عقيدة صحيحة أخذ بأسباب النصر الدينية والدنيوية، وهنا وعد الله الذي لا يخلف الميعاد، قال تعالى: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7] فمن ترك نصرة دين الله سبحانه، ولم يأخذ بهذه الأسباب التي ذكرها الله؛ فلا يستحق أن ينصره الله. نسأل الله عز وجل أن ينصر دينه، وأن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يخذل الكفر والمشركين. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الحج [15 - 22]

تفسير سورة الحج [15 - 22] إن الله ناصر رسوله، ومتم نوره، وسينتقم الله يوم القيامة من كل من أعرض عنه ولم يتبع النور الذي جاء به، ويهينه الله ويحق عليه عذابه؛ لأنه أعرض عن عبادته وتوحيده، ولم يسجد لله كما يسجد له من في سماواته وأرضه، وقد أخبرنا الله في كتابه بصور فضيعة من أنواع العذاب الذي سيلقاه من كفر به وكذب بآياته.

تفسير قوله تعالى: (من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة)

تفسير قوله تعالى: (من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. قال الله عز وجل: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ * وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:15 - 18]. أخبرنا الله سبحانه تبارك وتعالى أنه ينصر عبده صلوات الله وسلامه عليه فقال: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج:15]. كأنه ييئس الكفار من أن يطمسوا نور الله سبحانه ويطفئوه، فالله عز وجل متم نوره سبحانه تبارك وتعالى، ولو كره الكافرون، فإن كرهوا واغتاظوا من أن الله ينصر رسوله صلى الله عليه وسلم وينصر دينه قال: (فليمدد) أي: المغتاظ منهم بحبل إلى السماء: {ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج:15]. يعني فليذهب فيقتل نفسه فيمت غيظاً وحنقاً، فهل يذهب هذا الذي صنعه بنفسه ما يغيظ؟ لن يذهبه ولكنه في الدنيا يخنق نفسه، ويتحول إلى غضب الله سبحانه تبارك وتعالى وعذاب رب العالمين. والمعنى الآخر: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [الحج:15] يعني يحاول الصعود إلى السماء وينظر هل يقدر أن يمنع نصر الله الذي ينزل من السماء على رسوله صلى الله عليه وسلم؟ ولينظر هل يقدر أن يمنع هذا القرآن من النزول من السماء؟ قال: {فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج:15] يعني كل ما يكيده وكل ما يصنعه للحيلولة دون نصر النبي صلى الله عليه وسلم ودون إبلاغه صلى الله عليه وسلم، فليحاول الصعود إلى السماء، وينظر هل يقدر أن يمنع نصر الله الذي ينزل من السماء على رسوله صلى الله عليه وسلم؟ ولينظر هل يقدر أن يمنع هذا القرآن من النزول من السماء؟ قال: {فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج:15] لا يقدر أن يمنع نصر الله سبحانه، ولا أن يمنع نزول القرآن من السماء، حتى ولو خنق نفسه!

تفسير قوله تعالى: (وكذلك أنزلناه آيات بينات)

تفسير قوله تعالى: (وكذلك أنزلناه آيات بينات) قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الحج:16] أي: كهذا الإنزال، وهذا الذي تسمعونه يتلى عليكم أنزلنا من السماء آيات هذا القرآن العظيم آيات بينة واضحة فيها الهدى وفيها الرحمة وفيها الشفاء. {وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ} [الحج:16]، فالهدى هدى الله سبحانه تبارك وتعالى، يهدي من يشاء ويعصم ويعافي بفضله، ويضل من يشاء ويبتلي عدلاً، فيضل من يشاء بعدله، ويهدي من يشاء بفضله، ولا يملك أحداً من الله شيئاً سبحانه تبارك وتعالى، فأنزل الله عز وجل هذا القرآن آيات بينات واضحة ومع ذلك تعمى على من يعمي الله سبحانه تبارك وتعالى قلبه، فالإنسان الأعمى لا يرى هذا الشيء البين الواضح الذي يراه الإنسان المبصر، فربنا سبحانه يخبر أن الهدى هداه، وأنه يهدي من يريد، ويهدي من يشاء سبحانه تبارك وتعالى، فمن لم يهده الله سبحانه مهما جمعت له الآيات ومهما وضحت له الحجج، فلا سبيل للهدى لهذا الإنسان، فإن الله يهدي من يريد.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا) قال الله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [الحج:17] هؤلاء هم المسلمون والكفار، فذكر المؤمنين وذكر المناوئين لهم الذين هادوا يعني اليهود، والصابئين الذين عبدوا النجوم من دون الله سبحانه تبارك وتعالى فصبئوا وخرجوا عن دين رب العالمين سبحانه، وهذه قراءة الجمهور، وقراءة نافع وأبي جعفر المدنيين (والصابين). والنصارى هم الذين عبدوا المسيح من دون الله سبحانه تبارك وتعالى، والمجوس هم الذين عبدوا النيران من دون الله سبحانه، والذين أشركوا هم الذين عبدوا الأوثان، وكل من زعم لنفسه إلهاً ادعاه وعبده من دون الله عز وجل؛ كل منهم يزعم أنه على صواب ويخطئ غيره، فالله عز وجل يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ} [الحج:17] أي يقضي ويفتح بينهم يوم القيامة، ويقضي سبحانه بين هؤلاء يوم القيامة، وإن ظنوا في الدنيا أنهم على شيء، ولكن يوم القيامة تظهر الحقائق وأنهم ليسوا على شيء بل كانوا على ديانات باطلة إلا الذين آمنوا. قال الله: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج:17] يشهد عليهم يوم القيامة، فقد أحصى عليهم كل شيء فعله، وكل شيء قالوه، وكل شيء زعموه واعتقدوه، فالله عز وجل يوم القيامة كفى به شهيداً على هؤلاء، أحصى أعمالهم وسيجازيهم ويحاسبهم عليها يوم القيامة.

تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض)

تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض) قال سبحانه تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [الحج:18]. لما ذكر الله الذين اختلفوا في عبادة رب العالمين، ناسب أن يذكر أن هنالك من لم يختلف في عبادة ربه سبحانه تبارك وتعالى، وعبدوه، وما يكون هؤلاء الكفرة بجوار هذه الأشياء العظيمة؟ {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} [النازعات:27 - 28]. فالله سبحانه تبارك وتعالى خلق السماوات وخلق كل ما فيها، وهم أكثر من البشر بكثير، وأقوى منهم بكثير، وكلهم يسجد لله طائعاً ويعبد ربه سبحانه ويسبح بحمد ربه، قال الله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء:44]، فالذين كفروا بالله سبحانه لا قيمة لهم، إنهم قوم في الأرض، والأرض كلها ما تساوي ذرة في ملكوت الله سبحانه تبارك وتعالى! الرؤيا هنا رؤية قلبية، يعني: ألا يعتقد قلبك وعقلك ذلك، فأنت ترى تسخير الله سبحانه تبارك وتعالى لهذه الأشياء، فهي مسخرة بقدرة الله سبحانه، فهي متحركة بأمر الله سبحانه تبارك وتعالى، النجوم والكواكب والشموس والأقمار كلها خلقها الله، وخلق لها مساراتها التي تسير فيها طائعة أو كارهة، تسير في هذا المسار، فالله عز وجل خلق السماوات والأرض وقال لهما: {اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11]، قالتا: أتينا طائعين، ولسنا كارهين لعبادته، ولسنا مكرهين على ذلك، ولكننا أتينا طائعين. فربنا يقول للخلق: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ} [الحج:18] سجوداً حقيقياً، وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن الشمس تسجد تحت عرش الرحمن حتى يأذن لها سبحانه فتطلع من مشرقها، ثم يوم القيامة لا يؤذن لها فتطلع من مغربها، فكل شيء يسجد لله مطيعاً وكارهاً، فالسجود بمعنى الطاعة، والسجود بمعنى العبادة لله، فيسجد له كل شيء من الخلق. قال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ} [الحج:18] من في السماوات من ملائكة ومن خلق يعلمه الله سبحانه: {وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [الحج:18] كل من في الأرض من الإنسان والجان والحيوان والدواب والحشرات والجماد والنبات، فلما سجدوا لرب العالمين عاملهم معاملة العقلاء؛ لأنهم يسجدون ويسبحون؛ فلذلك قال: (من) وما قال: (ما) قال هنا: (من في السماوات ومن في الأرض)، وإن كان فيها الجمادات. قال: {وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ} [الحج:18] نصص على هذه لأن من الخلق من عبد الشمس من دون الله سبحانه، ومنهم من عبد القمر من دون الله، ومنهم من عبد الكواكب من دون الله، فقال: {وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ} [الحج:18] كل هذه تسجد لرب العالمين مطيعة له سبحانه تبارك وتعالى. قال: {وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ} [الحج:18] الجبل يسجد لرب العالمين، والكافر يأخذ حجراً من الجبل يعبده من دون الله سبحانه! والشجر يسجد لرب العالمين، وذاك يأتي بشجرة يغطيها ويعبدها ويقول: هذه الإله من دون الله سبحانه تبارك وتعالى! فهذه الكائنات كلها أعقل من الكافر الذي لا يعبد ربه سبحانه. قال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [الحج:18] كل ما يدب على الأرض وكثير من الناس، كثيرون منهم، وأما الأكثر فكما قال الله: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116]، فالأقل المؤمنون، والأكثر الكفرة، فالمؤمنون كثيرون وهم يعبدون الله ويسجدون له سبحانه، وغيرهم حق عليهم العذاب، وهم الأكثر الذين عبدوا غير الله سبحانه.

معنى قوله تعالى (ومن يهن الله فما له من مكرم)

معنى قوله تعالى (ومن يهن الله فما له من مكرم) قال الله تعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18] إذا أهان الله خلقاً من خلقه فمن يكرم هذا الخلق؟ من أمر الله عز وجل به إلى النار لا أحد ينجيه من غضب الله الجبار، من أمر الله عز وجل به أن يعذب وأن يهان فمن يقدر يرفع عنه ذلك؟ من يهنه الله سبحانه فلن تجد من يكرمه. وأي أهانة أعظم من أن يدخله الله جهنم، فإذا سألوا ربهم العفو وإذا سألوا ربهم الخروج، عاملهم معاملة الكلاب فقال: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]، وهذه كلمة تقال زجراً للكلب، وتقال لأهل النار والعياذ بالله. {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18]، لما ذكر الله أن من يهن الله فما له من مكرم، فالإنسان ليس له أن يقول أي كلمة يوم القيامة، ليس لك شيء عند رب العالمين سبحانه، ليس لك إلا عملك، فإذا صلح العمل أصلح الله حالك، وأصلح طريقك إلى الجنة، وإذا فسد العمل كان الإنسان في النار والعياذ بالله، والله يفعل ما يشاء سبحانه تبارك وتعالى ولا اعتراض على فعله، ومن يعترض فماذا ينفعه هذا الاعتراض على رب العالمين، فقد قال: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، فإذا اعترض فله نار جهنم وله الهوان يوم القيامة.

تفسير قوله تعالى: (هذان خصمان اختصموا في ربهم)

تفسير قوله تعالى: (هذان خصمان اختصموا في ربهم) قال سبحانه: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج:19] المؤمنون والكفار، والعبرة بعموم اللفظ وإن كان سبب النزول سبب خاص. يذكر الإمام البخاري أنها نزلت في علي بن أبي طالب وحمزة وعبيدة بن الحارث رضي الله عنهم، هؤلاء فريق مع فريق آخر من الكفار وهم عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة، وذلك في يوم بدر حين خرج هؤلاء الكفار وطلبوا من المؤمنين من يخرج إليهم للمبارزة، فخرج إليهم من المؤمنين علي بن أبي طالب وحمزة وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، وكلهم من آل بيت النبي صلوات الله وسلامه عليه، فاقتتلوا فجرح عبيدة بن الحارث وقتل الثلاثة الكفار لعنة الله عليهم، قال علي بن أبي طالب: أنا أول من يجثو للخصومة يوم القيامة، ويذكر أن هذه الآية نزلت في هذا الفريق من المؤمنين، وهذا الفريق من الكفار، والعبرة بعموم اللفظ، فهي نزلت فيهم وفي غيرهم من كل من خاصم من الكفار، فيوم القيامة يفصل الله عز وجل بينهم. قال الله: {هَذَانِ خَصْمَانِ} [الحج:19] هذا فريق من المؤمنين اختصم مع فريق من الكفار، والخصومة في من هو المعبود الحق؟ وما هو الدين الحق؟ والكفار تعصبوا لرأيهم، ولم ينظروا بعقولهم إلى هذا الدين الحق الذي جاء من عند رب العالمين، فيوم القيامة يفصل الله ويقضي بينهم.

صور من عذاب النار

صور من عذاب النار قال الله: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} [الحج:19 - 20]. الكفار في الدنيا علوا واستكبروا ورفضوا دين الله سبحانه، وجادلوا بالباطل، {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ} [القصص:39]، فإذا جمعهم الله يوم القيامة يكون مصيرهم كما قال الله: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} [الحج:19]. قطعت لهم كما يفصل للإنسان ثوب من القماش على مقاسه، فهم فصلت لهم ثياب من نار جهنم على قدر أحجامهم يوم القيامة. قال الله: {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} [الحج:19] الحميم السائل الذي بلغ أقصى درجات الحرارة، ولا يقاس به سائل في الدنيا أبداً، وأصل الحميم الماء الساخن، ولكن لن يجدوا مثل هذا الماء في نار جهنم، وإنما سوائل ساخنة ملتهبة بقدر عظمة النار وشدة لهيبها، وهذا الحميم يحصل به أنه يصهر به ما في بطونهم والجلود، ولو أن إنساناً انصب عليه ماء مغلي في الدنيا فإنه يحرق الجلد الخارجي منه، أما هذا يصب من فوق الرأس فيصهر ما بداخل الإنسان {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} [الحج:20]، يصهر به ما في بطونهم من أمعاء ومن معدة وغيرها والعياذ بالله! يصهر يعني يذاب ما في بطونهم والجلود من الداخل والخارج، وبدأ بالداخل لأنه غير متوقع، فالعادة أن الشيء الحار يحرق الإنسان من الخارج، أما من الداخل فلا يحرقه، لكن هذا يكون يوم القيامة والعياذ بالله. ومع هذا لا يموتون، {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56]، عذاب لا يرفع عن هؤلاء والعياذ بالله.

تفسير قوله تعالى: (ولهم مقامع من حديد)

تفسير قوله تعالى: (ولهم مقامع من حديد) قال الله تعالى: {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} [الحج:21] المقامع جمع مقمعة، وهي آلة من حديد يساق بها الفيل، وهي معكوفة الرأس، يضرب بها على الفيل من أجل أن يمشي، فهؤلاء في نار جهنم يعاملون معاملة الحيوان، فيضربون بهذه المقامع، وكأنها مرزبة من حديد يضرب بها هذا الإنسان على رأسه، كلما أرادوا أن يخرجوا من نار جنهم يعادون فيها مرة أخرى، ولهم مقامع من حديد، قالوا: والمقامع أيضاً السياط، وأصلها من أقمعت الرجل بمعنى ضربته حتى أذل وأهين بهذا الضرب.

تفسير قوله تعالى: (كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها)

تفسير قوله تعالى: (كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها) قال سبحانه: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} [الحج:22] يريدون أن يفروا من النار، وتأتي عليهم النار مثل أمواج البحر، ترفعهم إلى أعلاها فيظنون أنه يمكن أن يهربوا من أعلى النار، فإذا ارتفعوا إذا بالملائكة تضربهم على رءوسهم بهذه المقامع من حديد، كلما أرادوا أن يخرجوا منها من النار من شدة غمهم أعيدوا فيها بهذا الضرب المخزي ويقال لهم: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج:22] ذوقوا هذا العذاب خالدين فيه أبداً، ويقال: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [آل عمران:182]. والإنسان المؤمن عندما يستشعر ذلك، ويدخل قلبه الإيمان؛ يخاف من رب العالمين، ويخاف من هذا اليوم، وما يؤمنه أنه يدخل النار وقد قال الله سبحانه: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71]؟! فهذه آيات مهولة مخيفة تزعج الإنسان وتجعله يخاف من رب العالمين، والمطلوب هو الخوف من الله، الخوف الذي يدفع الإنسان لطاعة الله سبحانه، ويمنعه من المعصية. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على طاعته، وأن يجنبنا معصيته. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الحج [23 - 24]

تفسير سورة الحج [23 - 24] وعد الله المؤمنين بجنات تجري من تحتها الأنهار، وأنه سوف يحليهم فيها بأنواع الحلي من ذهب ولؤلؤ، ويلبسهم من الحرير، والفضل والمنة لله إذ هداهم في الدنيا إلى الطيب من القول، وهداهم إلى صراطه المستقيم، فله الحمد كله، فهو الحميد في أسمائه وصفاته وأفعاله.

تفسير قوله تعالى: (إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات)

تفسير قوله تعالى: (إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الحج: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج:23 - 24]. لما أخبر الله سبحانه تبارك وتعالى عن حال أهل النار وكيف أن الله سبحانه تبارك وتعالى يعذبهم العذاب الأليم فقال: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} [الحج:19 - 20]، فذكر ما يكونون فيه من عذاب مقيم؛ فقد استكبر الكفار في الدنيا ورفضوا قبول الحق الذي جاء من عند رب العالمين، وتجبروا على الخلق فاستحقوا نار جهنم؛ ولذلك جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (احتجت الجنة والنار فقالت النار: يدخلني الجبارون والمتكبرون، وقالت الجنة: يدخلني الضعفاء والمساكين، فقضى الله عز وجل بينهما فقال للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء، وقال للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء، ولكل واحدة منكما ملؤها) يعني الله سبحانه تبارك وتعالى وعد أن يملأ هذه ويملأ هذه، فالنار مكان المتكبرين فهذا عذابهم، يصب من فوق رءوسهم الحميم، وتقطع لهم ثياب من نار، ويصهر بهذا الحميم ما في بطونهم والجلود، ويذكر في الآية الأخرى أنه يأمر بالكافر أن يسلك في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً كما قال: {فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:32]، فالإنسان الكافر في نار جهنم يكون كاللحم المشوي في السيخ، وكما يقال: سلكت الخرز في الخيط بمعنى أدخل الخيط في جوف الخرز، وكذلك الكافر يؤتى بسلسلة طولها سبعون ذراعاً على قدر طول هذا الإنسان وأكثر فيسلك فيها فتدخل من فيه وتخرج من دبره، ويعلق في نار جهنم كالشيء المشوي! وجاء في سنن الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الحميم ليصب على رءوسهم فينفذ الحميم حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما في جوفه حتى يمرق من قدميه وهو الصهر ثم يعاد كما كان) قال الترمذي: حسن صحيح، هذا حال الكافر، أما المؤمن فيقول سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ} [الحج:23]، فربنا سبحانه وتعالى عندما يخوف الإنسان بالنار يرجي الناس بجنته حتى يتوب على من يشاء، ومن تاب تاب الله عليه وأدخله جنته. {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج:23]، حق على الله سبحانه تبارك وتعالى أن يدخل المؤمنين بفضله وبرحمته جنات تجري من تحتها الأنهار بشرط أن يكونوا آمنوا وأن يكونوا عملوا الصالحات، والإيمان ليس هو مجرد قول باللسان، ولا يقين في القلب، ولكن لابد من العمل الصالح. قال: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ} [الحج:23] أي: بساتين عظيمة {تَجْرِي} [الحج:23] أي: تجري في أرضها الأنهار، وهي أنهار من ماء وأنهار من عسل وأنهار من خمر وأنهار من لبن. قال: {يُحَلَّوْنَ} [الحج:23] أي هؤلاء أهل الجنة يحليهم ويزينهم ربهم سبحانه بما تركوه في الدنيا تواضعاً لرب العالمين سبحانه. {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} [الحج:23] فهم ملوك في الجنة. والأساور جمع أسورة، وهو ما يزين به المعصم، تتزين به النساء، وقد يتزين به ملوك الكفار في الدنيا، فربنا سبحانه وتعالى يحلي أهل الجنة، بهذه الأساور، وهي أساور من ذهب وأساور من لؤلؤ وأساور من فضة، فذكر هذا هنا في سورة الحج، وقال في سورة فاطر: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} [فاطر:33]، وقال في سورة الإنسان: {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} [الإنسان:21]، فهذه من أنواع الحلي التي يلبسها أهل الجنة. وهنا في هذه الآية قال سبحانه: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} [الحج:23] ولؤلؤاً بالنصب قراءة نافع وأبي جعفر وعاصم ويعقوب، وباقي القراء يقرءونها بالجر (ولؤلؤٍ)، والمعنى يحلون فيها من أساور من ذهب، ويحلون لؤلؤاً على النصب، وعلى الجر المعنى: يحلون فيها من أساور هذه الأساور من ذهب ومن اللؤلؤ. وهؤلاء الذين يقرءونها بالجر وبالنصب لهم وجهان في الهمز، فيقرأ أبو جعفر وشعبة عن عاصم (ولولؤاً)، ولـ أبي عمرو في الهمزة الأولى وحمزة (ولولؤ) على خلاف بين حمزة وهشام في الهمزة الثانية، فيقرآنها في الوقف: (ولولو)، وإن كان هشام ليس له في الأولى إلا الهمز.

معنى قوله تعالى: (ولباسهم فيها حرير)

معنى قوله تعالى: (ولباسهم فيها حرير) قال سبحانه تبارك وتعالى: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج:23] لباس أهل الجنة فيها الحرير، وهو أرفع ما يتحلى به الإنسان في الدنيا، وهو نتاج دودة القز، هذا هو الحرير الطبيعي في الدنيا، أما الحرير الصناعي فلا يحرم، وإنما التحريم للرجال في الحرير الطبيعي، وقد جعله الله عز وجل لأهل الجنة، وجاء في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من يلبس الحرير في الدنيا أو الذهب في الدنيا أو يشرب الخمر في الدنيا يحرم من ذلك يوم القيامة)، والعلماء اختلفوا في معنى يحرم عليه يوم القيامة، هل هو بمعنى أنه يدخل النار؟ لاشك أنه يدخل النار إذا مات على ذلك ولم يتب منه، فيدخله الله عز وجل النار، فإذا دخل الجنة هل يصير محروماً من ذلك؟ هذا محتمل، وقد رجح الإمام القرطبي في التفسير أنه يحرم منه فيدخل النار ويعذب، فإذا خرج من النار ودخل الجنة يحرم من ذلك أيضاً! وهذا يجعل المؤمن يخاف من هذه المحرمات، مثل أن يلبس خاتم ذهب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في إصبعه!)، وفي الحديث الذي رواه الحاكم وابن عساكر من حديث أبي هريرة وصححه الشيخ الألباني في الصحيحة: (من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، ومن شرب الخمر في الدنيا لم يشربه في الآخرة، ومن شرب في آنية الذهب والفضة لم يشرب فيها في الآخرة)، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لباس أهل الجنة وشراب أهل الجنة وآنية أهل الجنة) يعني الذي يريد أن يقلد في الدنيا أهل الجنة يحرم من ذلك يوم القيامة سواء بمعنى أنه يدخل النار فيحرم منها أو إذا دخل الجنة حرمه الله عز وجل من ذلك على خلاف بين العلماء في حرمانه منها إذا دخل الجنة، فالبعض يقول: من دخل الجنة لا يحرم من شيء، والبعض يقول: الجنة درجات، فرجل في درجة عالية، والثاني في درجة دونه، ولا يتمنى ما عند غيره، ويرى أنه في مكان عظيم، ولكنه محروم مما هو أعلى منه، والله عز وجل يجعله يرضى بذلك، وكذلك الذي كان يلبس الحرير لا يشتهيه في الجنة، فهو محروم منه، ولكن غيره يراه أنه قد حرم مما يتمتعون به في الجنة، والله أعلم.

تفسير قوله تعالى: (وهدوا إلى الطيب من القول)

تفسير قوله تعالى: (وهدوا إلى الطيب من القول) قال الله عن أهل الجنة: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج:24] الله العظيم هو الذي هداهم إلى أن نطقوا بالطيب من القول، والطيب من القول هو قول لا إله إلا الله، وأطيب القول وأعظم القول كتاب الله سبحانه تبارك وتعالى، فهدى الله عز وجل المؤمنين لقراءة كتاب الله وحفظ كلام رب العالمين سبحانه، وأن يقولوا ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم وأمرهم به من تسبيح وتحميد وتهليل وتكبير وغير ذلك من الأذكار، فهداهم الله للكلام الطيب من أمر بمعروف ونهي عن منكر، والصلاة وغير ذلك من ذكر الله سبحانه تبارك وتعالى. ففي الدنيا هداهم إلى الطيب من القول، وأيضاً هداهم إلى البشارات الحسنة، فبشرهم الله عز وجل بما جاء في كتابه سبحانه وما جاء في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وبشرهم برؤى منامية يرونها فيستبشرون بذلك من طيب القول. وهدوا أيضاً إلى صراط الحميد في الآخرة، فيهديهم الله عز وجل إلى الصراط المستقيم فيمرون على الصراط سريعاً، ويدخلون جنة رب العالمين نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم ومعهم. قال: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج:24] قالوا: يعني إلى طريق الجنة، فهداهم الله في الدنيا بالعمل وبالقول الصالح، وكذلك في الآخرة هداهم إلى طريق الجنة ولم يضلهم عنه.

نعيم أهل الجنة

نعيم أهل الجنة أهل الجنة يمتعون كما في قوله سبحانه: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج:23]، ومن أين تجيء هذه الثياب؟ في الجنة أشجار تنبت لهم الثياب، ففي الحديث الذي رواه الإمام أحمد والطبري في تفسيره وابن حبان وصححه الشيخ الألباني في الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (طوبى شجرة في الجنة مسيرة مائة عام، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها)، فربنا بكرمه وبفضله لا يحوجهم إلى أن كل واحد يفصل له الثياب، بل تخرج لهم الثياب من شجرة في الجنة مسيرة فروعها وظلها مائة عام، فينتقي ما يشاء ويلبس ما يريد، وفضل الله عظيم سبحانه تبارك وتعالى. وجاء في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك؟!)، وكل واحد يظن أنه قد أعطي ما لم يعط أحد من أهل الجنة، وهذا من فضل الله سبحانه تبارك وتعالى، ففي الدنيا كل إنسان يعطيه الله عز وجل شيئاً يكون في قلبه النظر والتشوف إلى غيره سواء حسده أو لم يحسده، فيرى غيره أفضل منه مكانة، ويتمنى مكانة ذلك، ولكن أهل الجنة كل رضي بمنزلته، فيرون من هو أعظم منهم فيغبطونه على ما هو فيه من نعيم عظيم ولكن يرضون بما هم فيه من النعيم. (فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك، قالوا: يا رب وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال سبحانه: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً) فهذا أعظم ما يعطاه أهل الجنة، فقد يعطى الإنسان نعيماً ولكن يخاف أن الله يغضب عليه، ويخاف أن يحرم من ذلك، ولكن إذا أمنه الله وأعطاه الأمان وأنه لن يغضب عليه أبداً تمت النعمة. وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ينادي مناد: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً) فذلك قول الله عز وجل: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43]، وقال: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ} [الزخرف:72 - 73].

أهل الجنة وأهل النار

أهل الجنة وأهل النار في صحيح مسلم ومسند أحمد من حديث عياض بن حمار وهو حديث طويل وفي آخره قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأهل الجنة ثلاثة) يعني ثلاثة أصناف، قال: (ذو سلطان مقصد) أي: كان له سلطان وملك وسلطة على من تحته ويعدل في ذلك، فيتصدق على عباد الله، ويوفقه الله عز وجل لطاعة الله عز وجل وطاعة الرسول صلوات الله وسلامه عليه، فهذا من أهل الجنة. قال: (ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم) فهذا من أهل الجنة، ملأ الله عز وجل قلبه رحمه لقرابته، فهو رحيم بالمؤمنين عكس الإنسان القاسي الغليظ القلب، فأهل الجنة الرحماء، وجاء في الحديث: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء). قال: (وعفيف متعفف ذو عيال) من أهل الجنة رجل عفيف لا يسأل الناس شيئاً، وهو متعفف عما في أيدي الناس، لا ينظر إليهم ولا يحسدهم فيما أعطاهم الله عز وجل، وإن كان ذا عيال كثير، فهو عفيف قنوع راض بما أعطاه سبحانه تبارك وتعالى، وهذا المفلح الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (قد أفلح من رزق كفافاً وقنعه الله بما آتاه) كفافاً أي على قدره، وقنعه الله بما آتاه، هؤلاء الثلاثة من أهل الجنة. ثم ذكر أهل النار في الحديث نفسه فقال: (وأهل النار خمسة) يعني أهل النار خمسة أصناف، منهم (الضعيف الذي لا زبر له، الذين هم فيكم تبع لا يبتغون أهلاً ولا مالاً) يعني إمعات الناس، ليس عندهم عقول، فهم تافهون يمشي أحدهم بين الناس همه أن يضحك مع الناس، ولا يهمه أمر دين، يعيش للدنيا غير ملتفت للدين، لا إلى صلاة ولا إلى صوم ولا إلى عبادة ربه سبحانه، فهذا إنسان لا عقل له ويلحق بالبهائم. قال صلى الله عليه وسلم: (لا يبتغون أهلاً ولا مالاً) غير مسئول عن أحد، فهو إنسان غبي أحمق لا يفكر، ولو كان له الولد يموت فإنه يدعو له ابنه، أو يعيش فيعمل ابنه العمل الصالح فيؤجر على هذا العمل الصالح، ولا يزال يؤجر من أعمال ذريته لأنه كان سبباً في وجودهم، لكن هذا لا زبر له، أي ليس له عقل، فهو فرح لأنه يعيش لوحده، ينافق ويداهن ويأكل من باب الحلال وبالحرام، ليس على باله جنة ولا نار، فهؤلاء لا زبر لهم أي لا عقول لهم تردعهم عن منكراتهم. قال: (الذين هم فيكم تبع) فقنعوا بذلك (لا يبتغون أهلاً ولا مالاً) يعني لا يبتغون مالاً حلالاً، وطعامه في الدنيا من الحرام. قال: (والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه) خفى بمعنى ظهر يعني مجرد ما يظهر له شيء من مطامع الدنيا يسرقه ويأخذه، فالخائن من أهل النار. قال: (ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك) يريك أنه صديقك وحبيبك، وهو يخادعك في أهلك وفي مالك فاحذر هؤلاء. ثم ذكر البخل أو الكذب كأن الراوي شك هل الرابع البخيل أو الكذاب، فهم من أهل النار. ثم ذكر الشنظير، وهو الفاحش البذيء الذي يتكلم بالفحش، فهو من أهل النار والعياذ بالله. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل جنته. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الحج الآية [25]

تفسير سورة الحج الآية [25] لقد رفع الله قدر وشأن بيته الحرام، فأضافه إلى نفسه، وذكره في كتابه، وجعل له حرمة إلى يوم القيامة، وتوعد من أراد الإلحاد في بيته الحرام بالقتال والمعاصي بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، وقد أمر الله إبراهيم ببناء بيته الحرام، ودعوة الناس إليه ليطوفوا حوله، ويقوموا بمناسك الحج والعمرة، طاعة لله وامتثالاً لأمره سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الحج: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25]. ذكر الله تعالى في كتابه الكريم المسجد الحرام، وأنه جعله للناس سواء العاكف فيه والباد، فالناس يستوون في أمر المسجد الحرام، وليس أحد أحق من أحد بشيء فيه، فمن سبق إلى مكان فهو أحق به، سواء في المسجد الحرام أو في المناسك في الحج أو في العمرة، حتى ينتقل من هذا المكان، والكل سواء في تعظيم الحرمة وقضاء النسك، ويستوي في ذلك الحاضر الذي هو موجود، أو الباد وهو الذي يأتي من البادية أو القرى، أو يأتي من مكان بعيد إلى هذا البيت الحرام. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج:25]، خبر (إن) في هذه الآية مقدم وتقديره: لهم عذاب أليم، أو: إن الذين كفروا قد خسروا خسراناً مبيناً، ويلاحظ أن الله لم يذكر الخبر في هذه الآية هنا فقد قال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الحج:25]، أي: جزاء الذي يفعل ذلك العذاب من الله عز وجل وهو معلوم، فاكتفى بذكر ذلك ولم يذكر الخبر؛ لأنه معلوم.

فضل البيت الحرام

فضل البيت الحرام ذكر الله عن المسجد الحرام أنه مسجد وأنه حرام، فهو أعظم بيوت الله سبحانه وتعالى وهو مكان السجود، فيسجد فيه المؤمن لله عز وجل مطيعاً له، عابداً له، يذل نفسه في عبادة ربه سبحانه. وهذا المسجد يحرم على الناس أن يلحدوا فيه، ويحرم عليهم أن يعصوا ربهم سبحانه وتعالى فيه، وهو أعظم المساجد، والصلاة فيه بمائة ألف صلاة في غيره من المساجد، فأجره عظيم، ولذلك فالذي يلحد فيه ذنبه عظيم.

خطر الاستهانة بالبيت الحرام

خطر الاستهانة بالبيت الحرام قال سبحانه وتعالى: {الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ} [الحج:25]، قوله: (ومن يرد) أي: أصبح يريد، وجزمت كلمة يرد هنا بحذف حرف العلة، {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25]، أي: من يريد في المسجد الحرام أن يلحد فيه ظالماً، والإلحاد: هو الميل والزيغ والبعد عن الحق. ومن صور الذي يلحد في المسجد الحرام أن يظلم نفسه ويظلم غيره، أو يقع في الشرك بالله سبحانه، أو في الكبائر والفواحش والذنوب، فالله عز وجل يتوعد هذا الملحد بالعذاب الأليم، حيث قال: {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25]. وجاء في صحيح البخاري عن ابن عباس قال: قال صلى الله عليه وسلم: (أبغض الناس إلى الله ثلاثة)، يعني: أبغض العصاة إلى الله رب العالمين ثلاثة، (ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطلب دم امرئ بغير حق ليهريقه)، فهؤلاء أبغض الناس إلى الله سبحانه وتعالى، وأبغض العصاة: هو من يلحد في الحرم، يعني: يقع في الفواحش، أو يقع في كبائر الذنوب، أو يريد الظلم فيه، وكذلك الإنسان الذي يشرك بالله سبحانه وتعالى، فهؤلاء هم أبغض الناس إلى الله عز وجل. وقوله: (ومبتغ في الإسلام سنة جاهلية) أي: بعد أن دخل في الإسلام عاد يعمل ما كان يعمله أهل الجاهلية ويعتقدونه من شرك، وكهانة، وعرافة، وسحر، وأشياء كانوا يفعلونها في الجاهلية، فكذلك الذي يريد أن يرجع إلى دعوى الجاهلية، ويتعصب بعصبية الجاهلية، ويدعي دعوى الجاهلية، فهو من أبغض الناس إلى الله عز وجل. وذلك أن من سنن الجاهلية أن الإنسان إذا قتل إنساناً أتى أهل القتيل فقتلوا القاتل، وقتلوا معه من هو أعظم منه من قبيلته، فيأخذون بدم الواحد دماء أناس مظلومين لم يفعلوا شيئاً، ولعلهم يتركون القاتل احتقاراً له ويقتلون أكبر رجل في قبيلته، إذ لعلهم يحتقرون القاتل ويقتلون زعيم القبيلة مثلاً، فهذا هو الذي يبتغي في الإسلام سنة الجاهلية، وما كان يصنعه أهل الجاهلية من محاسبة غير الظالم، فيأخذون مظلوماً بذنب إنسان ظالم. قال: (ومطلب دم امرئ بغير حق ليهريقه)، وهو الذي يقتل إنساناً من غير حق أو سبب، أو هو من يقتل غير القاتل، أو يقتل الإنسان المظلوم. فهؤلاء أبغض الناس إلى الله عز وجل، ولهم العذاب الأليم عند الله رب العالمين سبحانه.

ذكر أقوال الصحابة في معنى الإلحاد

ذكر أقوال الصحابة في معنى الإلحاد قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} [الحج:25] قلنا: الإلحاد: هو الزيغ والميل عن طاعة الله سبحانه، والدخول في المعاصي وأعظمها الشرك بالله سبحانه، وجاء عن الصحابة في تفسير (من يرد فيه بإلحاد) تفسيرات كلها تعود لهذا المعنى، فيقول ابن عباس رضي الله عنه: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} [الحج:25] قال: الشرك، وهذا نوع من أنواع الإلحاد في البيت الحرام، والشرك سواء في المسجد الحرام أم في غيره فهو لا يغفره الله عز وجل إلا أن يتوب العبد ويراجع التوحيد، فالذي يذهب للمسجد الحرام ويدعو غير الله عز وجل يستحق هذه العقوبة الشديدة. قال عطاء: الشرك والقتل، يعني: الذي يلحد في الحرم هو الذي يقتل مظلوماً أو يشرك بالله عز وجل، وقيل: بل معناه صيد الحمام، وقطع شجر الحرم، ودخول الإنسان غير محرم، وهذه كلها من المعاصي التي قد يفعلها الإنسان، فيذهب مسافراً إلى مكة ثم يدخل الحرم بغير حج ولا عمرة، وكأنه يستهين بهذا المكان الذي شرفه الله سبحانه وعظمه، ولا يرى عليه لله عز وجل حقاً أن يدخل هذا المكان محرماً. ومثله الذي يستهين فيصيد حمام الحرم أو يقطع شجرة مستهيناً بالعقوبة في ذلك المكان، فصيد الحمام وقطع الشجر في ذلك المكان من الإلحاد بظلم، فكيف بالإنسان الذي يظلم أخاه المؤمن؟! قال ابن عمر رضي الله عنهما: كنا نتحدث أن الإلحاد فيه أن يقول الإنسان: لا والله، وبلى والله. فكلام ابن عمر يدل على أنه بمعنى اللغو في الكلام، فالمقام العظيم في المسجد الحرام يمنع الإنسان أن يتكلم باللغو أو بغير ما ينبغي عليه. ولذلك كان ابن عمر رضي الله عنه يجعل لنفسه فسطاطين، أي: خيمتين، خيمة في الحل وخيمة في الحرم، فإذا أراد أن يأتي أهله ويتكلم معهم في أمور الدنيا ذهب إلى الخيمة التي في الحل، وإذا أراد العبادة ذهب إلى الحرم، ولا يخلط بين هذه وتلك، وهذا من ورع ابن عمر رضي الله عنه. ومثله أيضاً عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه حيث كان له فسطاطان: أحدهما في الحل، والآخر في الحرم، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل، وإذا أحب أن يؤدب عياله أدبهم في الخيمة التي في الحل، وإذا أراد أن يصلي صلى في خيمة الحرم، فقيل له: لماذا تفعل هذا الشيء؟ فقال عبد الله بن عمرو: إنا كنا لنتحدث أن من الإلحاد في الحرم أن نقول: كلا والله، وبلى والله، يعني: المنازعة في الكلام، فخاف عبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم من الوقوع في ذلك في الحرم.

الأدلة على أن الهم بالسيئة والعزم عليها سيئة وإن لم يعلمها

الأدلة على أن الهم بالسيئة والعزم عليها سيئة وإن لم يعلمها قال العلماء: المعاصي تضاعف بمكة كما تضاعف الحسنات، فالحسنات تكون عظيمة ومضاعفة، وكذلك السيئات، ومن ذلك ما ذكره الله عز وجل بقوله: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} [الحج:25]، وليس الوعيد على الذي يفعل فقط، بل الذي يريد أن يفعل الإلحاد في الحرم، فالله عز وجل يذيقه من عذاب أليم. وهنا يقول العلماء: هناك فرق بين الخاطر في رأس الإنسان ثم يكف عن ذلك ولا يفعل، وبين أنه يريد أن يفعل الخطأ ويعزم عليه ثم يقدم فيمنعه قضاء الله وقدره سبحانه وتعالى، فالذي يهم ثم يمتنع لأنه يخاف من الله فهذا تكتب له السيئة حسنة، وقد جاء حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى. ففي الصحيحين من حديث ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: (إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك) أي: بين الله عز وجل ذلك، يقول: (فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإذا هو هم بها فعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة)، وانظر إلى قوله: (هم بسيئة ولم يعملها) أي: لم يعملها خوفاً من الله عز وجل، وهنا فرق بين أنه امتنع من السيئة لأنه خاف من الله سبحانه فتكتب له حسنة كاملة، وبين أنه امتنع منها لعجزه فتحسر على كونه لم يفعلها، فهذا يؤاخذ على هذا الهم وعلى الإرادة بالفعل، فقال هنا صلى الله عليه وسلم: (فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة). والحديث هذا ذكر ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربه، وكان اللفظ المسوق هنا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن جاء في رواية أخرى في صحيح البخاري أن الله عز وجل قال: (إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه -يعني يقول للملائكة- حتى يعملها). وجاء من حديث أبي هريرة: (إذا أراد أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها له بمثلها، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة)، فلاحظ هنا أنه قال: (إذا ترك السيئة من أجلي) فهذا تكتب له هذه السيئة التي كاد أن يفعلها حسنة. وجاء حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم في سنن الترمذي ورواه الإمام أحمد أيضاً من حديث أبي كبشة الأنماري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ثلاثة أقسم عليهن، وأحدثكم حديثاً تحفظوه) أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم يخبر عن ثلاثة أشياء ويقسم عليهن، ويحدثنا حديثاً ويأمرنا أن نحفظ هذا الحديث صلوات الله وسلامه عليه. قال: (ما نقص مال عبد من صدقة) أي: إذا تصدقت فإن المال لا ينقص أبداً من الصدقة، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نحتاج أن يقسم لنا فهو الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه. قال صلى الله عليه وسلم: (ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر)، بمعنى: أن أي إنسان بدأ يفتح على نفسه باب السؤال ويمد يده للناس، فإن الله عز وجل يفتح عليه باب الفقر، حتى وإن جمع أموالاً كثيرة وكنزها من سؤال الناس، إذ يملأ الله قلبه فقراً، فلا يزال يشعر بالفقر عمره أبداً، حتى يأخذه الله سبحانه وتعالى. قال صلى الله عليه وسلم: (ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله عزاً)، أي: ما من عبد يظلم مظلمة ويعفو عنها ويصبر إلا فتح الله له باب عز، وزاده عزاً إلى عزه سبحانه وتعالى. قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (وأحدثكم حديثاً تحفظوه، إنما الدنيا لأربعة نفر) أي: يعيش فيها أربع أصناف من الناس، قال: (عبد رزقه الله مالاً وعلماً فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقه، فهذا بأفضل المنازل) أي: عبد رزقه الله مالاً وعلماً، فبعلمه يعمل في ماله فيتقي ربه في هذا المال، ويصل به رحمه بهذا المال، ويعلم لله فيه حقه من زكاة ونحوها، فهذا بأفضل المنازل؛ إذ جمع الله له علماً ومالاً وطاعة لله. قال: (وعبد رزقه الله علماً ولم يرزقه مالاً فهو صادق النية، يقول: لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان، فهو بنيته فأجرهما سواء) أي: أن هذا الفقير لم يؤت مالاً، ولكن تمنى أن يؤتيه الله عز وجل مالاً فيعمل كهذا. الرجل الأول صاحب العلم والمال والتقوى، فأجرهما سواء. قال: (وعبد رزقه الله مالاً ولم يرزقه علماً فهو يخبط في ماله بغير علم، ولا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله تعالى فيه حقه، فهذا بأخبث المنازل)، وهذا رجل جاهل ليس على علم، ومعه مال كثير يسرف به، فلا يترك شيئاً من حرام إلا وبذل فيه هذا المال، فهو يصرف ماله في كل شيء، ويريد بذلك أن يحصل على الدنيا، ويستمتع فيها، فبجهله يظن أن الأولى والأخرى هي هذه الدنيا، فلذلك ينفق ماله في الملاذ والحرام ولا يهمه شيء، فليس عنده علم، وليس عنده ورع يمنعه من معصية الله عز وجل، فهذا بأخبث المنازل وشرها وهي نار جهنم والعياذ بالله. قال: (وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علماً)، وهذا جاهل آخر لكنه فقير (فهو يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته ووزرهما سواء)، فالعلم يشرف بأهله، والجهل قبيح بأهله، وانظر إلى الإنسان العالم الذي عرف لله حقه، فلما أعطاه المال عمل بطاعة الله في هذا المال، فلما منعه صبر على هذا الأمر وتمنى الخير، فالتمني تجارة مع الله سبحانه وتعالى، فالله عز وجل هو الذي منعه من المال، وعلم الله أنه لو أعطاه المال لعمل كهذا الذي عمله، فمنعه المال وأعطاه الأجر، وهذا فضل الله سبحانه وتعالى، بل ويجعل الإنسان الفقير يوم القيامة يدخل الجنة قبل الغني بخمسمائة عام، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء سبحانه تبارك وتعالى. وهذا الرجل الرابع رجل مسكين، حرمه الله عز وجل المال في الدنيا وهو جاهل، فبجهله لم ينظر إلى أمر الله عز وجل وطاعته، وإنما نظر إلى الدنيا، ونظر إلى مال ذاك الإنسان الجاهل، فلقد أتعب نفسه بنفسه، وأشقى نفسه بعقله وبجهله، فهو ينظر إلى الدنيا أنها كل شيء، ويتمنى أن معه مالاً فيعمل به كذا وكذا من المعاصي، فهو يتمنى المعاصي، والله يكتب عليه السيئات بتمنيه لهذه المعاصي، فهو بأخبث المنازل عند الله عز وجل كهذا الإنسان الجاهل صاحب المال. فهذا هو الفرق بين من خطر بباله أنه يفعل معصية ثم تراجع عن ذلك خوفاً من الله؛ فتكتب له حسنة، وبين من أراد فعل معصية ثم لم يفعلها ونسي أمرها، فهذا لا حسنة له ولا سيئة، وآخر أراد فعل معصية ومنع من هذه المعصية، فإذا به يتحسر على فوات هذه المعصية، كمن أراد أن يسرق شيئاً فوجد الباب مقفلاً، فرجع حزيناً، وصار يتمنى معرفته لفتح الأقفال، فالتمني موجود في قلبه، ولو تمكن لفعل، فهذا كالذي يفعله. ومن ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، فقالوا هذا القاتل، فما بال المقتول؟! فقال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه). فحرصه على قتل صاحبه وإن كان لم يقتله جعله في النار مع صاحبه القاتل. فهذا مما يؤيد أن الإصرار على المعصية معصية، ومن ذلك قول الله سبحانه: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135]، فالمؤمنون إذا حدثتهم أنفسهم بالفاحشة أو المعصية تراجعوا خوفاً من الله عز وجل، ولم يصروا على هذا الأمر، وسواء فعلوا أو لم يفعلوا فالله عز وجل يعفوا ويغفر لهم. ومن ذلك قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور:19]، فهؤلاء أحبوا ولم يعملوا، فهم يحبون بقلوبهم أن تنتشر الفواحش بين الناس، ومع ذلك لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة، فكيف إذا فعلوا وأباحوا الفواحش للناس؟! ومن ذلك قول الله عز وجل: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12]، والظن هو فعل العقل، فالإنسان يفكر في الشيء بعقله، ولم يحقق شيئاً من ذلك، فقال الله عز وجل: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} [الحجرات:12]، فإن الظن منه الكثير ومنه القليل، والقليل من الظن غالباً يكون في الخير، والكثير منه يكون ظن سوء، وعلينا أن نجتنب هذا الظن السيء، فإذا رأيت من أخيك شيئاً فاحمله على المحمل الحسن، فإذا لم تفعل وظننت ظن السوء فإن الله يقول: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12] أي: إن بعضاً من هذا الظن الذي ظننته في أخيك تأثم عليه وتعاقب عليه عند الله عز وجل. والغرض من هذا كله بيان ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من أن الإنسان إذا هم بسيئة كتبت عليه هذه السيئة إن كان همه بعزم، ويعلم الله عز وجل أنه لو تركه في ذلك لأتى الفاحشة وفعلها. ولذلك نقول: قول الله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} [الحج:25] يدل على عظمة الحرم وقدره، فالإنسان الذي يفعل المعصية فيه يأثم إثماً عظيماً، والذي يريد أن يفعل المعصية ويعلم الله عز وجل من قلبه أنه يريد فعلها ويصر عليها فهذا داخل في قوله تعالى: {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25]. وجاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات، فقيل: يا رسول الله! وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات). والحديث نفسه رواه أبو داود وذكره عن عبيد بن عمير

تفسير سورة الحج (تابع) الآية [25]

تفسير سورة الحج (تابع) الآية [25] ذكر الله تعالى أن المسجد الحرام يستوي فيه الحاضر والبادي، فلا فضل لأحد منا على الآخر إلا بالتقوى، وقد اختلف العلماء في المراد بالمسجد الحرام هنا، واختلفوا في جواز بيع دور مكة وإيجارها، ومعرفة هذا الخلاف من المهمات.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الحج: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25]. يخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن الكفار الذين يصدون عن سبيل الله وعن المسجد الحرام، ثم نتطرق بعد ذلك للمسجد الحرام ومناسك الحج، وكيف أنه أمر إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام أن يؤذن في الناس بالحج ليأتوا بيت الله الحرام يحجون مطيعين لله رب العالمين خاشعين مخبتين. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الحج:25]، هنا ذكر الذين كفروا ووصفهم أنهم يصدون عن المسجد الحرام، وجوابه خبر محذوف مقدر، كأنه يقول: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الحج:25]، هؤلاء الذين يصدون عن سبيل الله وعن المسجد الحرام قد خسروا الخسران المبين، قد أهلكهم الله وجعلهم في خسار، فكأن الخبر محذوف ومقدر، ومعلوم أنهم قد خسروا الدنيا والآخرة بهذا الذي فعلوا. فهم كفروا بالله سبحانه وتعالى وصدوا عن المسجد الحرام، ولم يزالوا على ذلك بهذا الصد عن بيت الله الحرام، وقلنا: إن هذه السورة فيها المكي وفيها المدني، وهنا صدوا عن المسجد الحرام، أي: صدوا النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في عام الحديبية، وهذه الآية مدنية، وهي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الحج:25]، وكانت الحديبية في سنة ست للهجرة في ذي القعدة، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم معتمراً ومعه أصحابه، فلما وصلوا إلى هذا المكان عند ماء الحديبية إذا بالكفار يتحزبون عليهم ويمنعونهم من دخول الحرم. فأخبر الله عز وجل عن هؤلاء الكفار الذين صدوا عن سبيل الله، وهنا أخبر بالفعل المضارع {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ} [الحج:25]، فكأنها ليست المرة الوحيدة التي صدوا فيها عن سبيل الله، وإن كانت أشهر المرات التي صدوا فيها ما حدث في يوم الحديبية، حيث صدوا المؤمنين، وكانوا ألفاً وأربعمائة مع النبي صلى الله عليه وسلم أو ألفاً وخمسمائة. فمنعوهم من دخول الحرم ومنعوهم من العمرة، وهذا فعل قبيح من هؤلاء الذين كانوا في الجاهلية لا يمنعون أحداً يأتي البيت، فإذا بهم يمنعون النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من الاعتمار، ويرجع النبي صلى الله عليه وسلم بغير عمرة في هذا العام، ويقاضي الكفار فيحدث بينهم الاتفاق على أنه يرجع ويأتي في العام القادم، ففعل الكفار كان فيه الوبال عليهم، وكان فيه التعجيل بالعقوبة وبهزيمتهم، حيث صدوا عن المسجد الحرام، وعادة الله سبحانه وتعالى في كل إنسان يصد عن الحرم، ويمنع المؤمنين من عبادة ربهم سبحانه وإتيان بيت الله الحرام أن يقهرهم ويذلهم، ونظرنا ماذا عمل في أبرهة وجنوده لما حاولوا هدم الكعبة فأرسل الله عليهم طيراً أبابيل ترميهم، قال تعالى: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:3 - 5]. وانظر إلى جهد النبي صلى الله عليه وسلم كيف جاهد هؤلاء ودعاهم إلى الله سبحانه وتعالى، وكانت بينه وبينهم المواقف حتى صدوا النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه عن الاعتمار، فكانت الهزيمة عليهم بعدها بعامين في فتح مكة، وكان الفتح في رمضان في العام التاسع، والحديبية في ذي القعدة من العام السادس، وعمرة القضاء في العام السابع، فكان صلح الحديبية وما حدث فيها فتحاً من الله سبحانه وتعالى على المؤمنين، وإن كان ظاهرها الهزيمة، ومن العجب أن النبي صلى الله عليه وسلم في مرجعه من الحديبية أنزل الله عز وجل عليه سورة الفتح وفيها: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1]. فالمسلمون راجعوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فهم في غاية الكآبة والحزن والشعور بالهزيمة والمرارة، فقد وصلوا إلى قرب الكعبة ولم يدخلوا، ورجعوا بشروط مجحفة فرضها عليهم الكفار؛ وأنزل الله عز وجل: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1]، فإذا بـ عمر يتعجب ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: أو فتح هذا؟! وفعلاً كان فتحاً عظيماً من الله عز وجل، إذ كان من شروط صلح الحديبية أن الكفار قالوا: من أتاك منا مسلماً ترجعه إلينا، والذي يأتي إلينا من عندك مرتداً كافراً لا يرجع إليك، وأن ترجع هذا العام ولا تدخل مكة إلا في العام المقبل، والنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه جاءوا من المدينة إلى مكة منهم الماشي على رجليه، ومنهم من يركب على جمل، وأخذوا أياماً وليالي حتى وصلوا إلى هنالك، فلما كان بينهم وبين الكعبة ساعات إذا بهم يردونهم ويرجع النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه! فالكفار لما استكبروا وعلوا في مكان ينبغي على كل إنسان أن يتواضع فيه لله سبحانه وتعالى، إذا بالله يذلهم بعده بعامين، وتفتح هذه البلدة، وكل منهم يهرب إلى بيته، ولا يقدرون على مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من أصحابه، ولم يخرج إلا النساء يضربن الخيول بالخمر، ولذلك قال حسان بن ثابت رضي الله عنه: يبارين الأعنة مسرجات تثير النقع مطلعها كداء عدمنا خيلنا إن لم تروها تلطمن بالخمر النساءُ هذا حسان بن ثابت رضي الله عنه يقول: عدمت بنيتي إذا لم ترونا ونحن ندخل عليكم من أعلى مكان في أصعب مكان في مكة، وسأل النبي صلى الله عليه وسلم: (ماذا قال حسان؟ قالوا: قال: عدمتُ بنيتي إن لم تروها تثير النقع مطلعها كداء. فدخل النبي صلى الله عليه وسلم من أصعب مكان في مكة) فكون الجيش يدخل من أصعب مكان معناه: الذل بل وغاية الذل لأهل البلد، إذ إن الجبال لم تمنعهم من الدخول ولا هم منعوهم، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم من المكان الذي قاله حسان رضي الله تبارك وتعالى عنه. الغرض: أنه كان الفتح من الله عز وجل بالحديبية، وقد كان فيها شروط وهدنة لمدة عشر سنوات، فلم ينتظروا سنتين حتى نقضوا العهد، فإذا بالله عز وجل يفتح للنبي صلى الله عليه وسلم هذا البلد الحرام، ويصير داراً للإيمان ويأنس إليه أهل الإيمان إلى ما شاء الله سبحانه وتعالى. ومن الحديبية إلى فتح مكة بدأ يحصل نوع من الذهاب والمجيء من الكفار، إذ كانوا يأتون إلى المدينة فيطلعون على هذا الدين فيدخلون في الدين شيئاً فشيئاً، ويسبب الله عز وجل الأسباب، فقد خرج أبو جندل وأبو بصير من عند الكفار وذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأراد النبي صلى الله عليه وسلم رد أبي جندل إلى أبيه سهيل بن عمرو، وفعلاً رجع أبو جندل إلى أبيه ثم هرب من عندهم ولم يذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم خوفاً من أن يرده مرة ثانية، وأصبح قاطع طريق في مكان بين مكة والمدينة، يقطع الطريق على الكفار حتى استجار الكفار بالنبي صلى الله عليه وسلم وراضوه بأن يأخذ كل من يأتي إليه من مكة، لفعل هذا الرجل رضي الله تبارك وتعالى عنه. ويدخل في هذين العامين في الإسلام أكثر ممن دخلوا فيه في السنوات الماضية، إذ دخل في خلال العامين من الحديبية حتى فتح مكة أضعاف من دخل خلال السنوات التسعة عشر الماضية، فقال الله عز وجل: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1]، فكان الفتح من الله سبحانه وتعالى، وبعد هذا في رمضان من العام الثامن فتحت مكة لما نقض الكفار عهدهم مع النبي صلى الله عليه وسلم وقتلوا أناساً من خزاعة. قال الله عز وجل هنا: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الحج:25]، يعني: صدوا ولم يزالوا يصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام، يصدون الناس عن {الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج:25]، المسجد الحرام جعله الله عز وجل للناس سواء، العاكف فيه أي: الملازم والمقيم في المسجد الحرام، أي: أهل البلد. قوله تعالى: {وَالْبَادِ} [الحج:25] أي: الذي أتى من البدو من خارج مكة، والكل سواء، لا يوجد لأحد على أحد فضل في ذلك، فالجميع يستوون في تعظيم حرمات هذا المكان وفي قضاء النسك، فليس أهل مكة أحق من غيرهم في أداء النسك، فالآتي إليهم أيضاً من حقه ذلك، ولا يمنع من أداء المناسك. قال الله سبحانه: {الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً} [الحج:25]، هذه قراءة حفص عن عاصم فقط، (سواءً) بالنصب، والمعنى: أنه بجعلنا إياه ذلك يستوي فيه الجميع. وباقي القراء ومنهم أيضاً شعبة عن عاصم: (سواء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ) فعلى النصب تصير مفعولاً لجعلناه، وعلى الرفع يعني: العاكف والباد سواء في ذلك فهي خبر مقدم، فرفعت على ذلك، أي: يستوي المقيم فيه مع الذي يأتي إليه، فالجميع يعظمون هذا المكان، والجميع من حقهم أداء المناسك التي أمر الله سبحانه وتعالى بها، وليس أحد أحق من الآخر.

اختلاف العلماء في بيع دور مكة

اختلاف العلماء في بيع دور مكة كان الصحابة يعظمون هذا المكان فكان أهل مكة في أيام المناسك يفتحون دورهم للناس، ويدخل الضيف ويمكث عندهم ما شاء الله، فقد كانوا في أيام الحج وأيام العمرات يخلعون أبواب الدور، وكان عمر بن الخطاب يرى ذلك وقد يأمرهم بذلك حتى جاء رجل من المؤمنين وجعل الباب على داره، فأنكر عليه عمر رضي الله عنه فاعتذر عن ذلك بأن هؤلاء الضيوف يأتون ومعهم أمتعتهم، وقد كثرت السرقة لأمتعة الضيوف، فجعل الباب على داره ليحمي هؤلاء الضيوف الذين يأتون إلى الحرم. والراجح أن هذا ليس واجباً عليهم، فلا يجب على المقيم أن يخلع باب بيته، أو أن يدخل الضيوف عنده في البيت عنوة وقهراً عليه، ولكنهم عرفوا حق هذا المكان وحرمته وأن الناس سواء فيه، فاحترموا من يأتي إلى بيت الله الحرام، ففتحوا بيوتهم لاستقبال الحجيج والضيوف لهذا المكان العظيم. وبعض العلماء يرون أن دور مكة يستوي فيها الجميع، وهذا مذهب مالك، فقوله تعالى: {الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج:25]، فيه قولان لأهل العلم: القول الأول: مذهب مالك أنه يستوي فيه الحرم والمسجد، والدور كلها من الحرم، وهو قول ابن عباس رضي الله تبارك وتعالى عنه. القول الثاني: قول الجمهور أن المسجد الحرام هو مكان المسجد فقط، واحتج له ابن خزيمة بأنه لو كان الحرم المقصود به مكة كلها لجاز لمالك البيت أن يؤجر بيته، أو أنه يملّك هذا البيت لغيره. ويقول ابن خزيمة أيضاً: لو كان المراد من قوله تعالى: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج:25] جميع الحرم، وأن اسم المسجد الحرام واقع على جميع الحرم لما جاز حفر بئر ولا قبر، ولا التغوط ولا البول ولا إلقاء الجيف والنتن، والمعنى: أنه لو كانت مكة كلها هي المسجد الحرام إذاً: حكمها حكم المساجد لا يجوز أن يُجعل فيها مرحاض أو مكان للنجاسة، ولكن المسجد شيء وباقي الحرم شيء آخر. يقول الحافظ ابن حجر: القول بأن المراد بالمسجد الحرام الحرم كله ورد عن ابن عباس وعطاء ومجاهد، وأخرجه ابن أبي حاتم وغيره عنهم، والأسانيد بذلك كلها إليهم ضعيفة، فضعف ما أسند إليهم من أن المسجد الحرام هو الحرم كله، قال: المسجد الحرام هو مكان المسجد، ومكان المسجد كلما اتسع فهو المسجد، فإذا وسع في المسجد ما دخل فيه من الحرم صار مسجداً وله حكم المسجد الحرام. وهل بيوت مكة مثل غيرها من البيوت يجوز بيعها وشراؤها وتأجيرها أم أنه يستخدم البيت إذا كان محتاجاً له ولا يجوز له أن يبيعه؟ يقول الإمام القرطبي: هذا الخلاف ينبني على أصلين، أحدهما: أن دور مكة هل هي ملك لأربابها أم هي للناس؟ والثاني: هل فتح مكة كان عنوة أم كان فتح مكة صلحاً؟ الراجح: أن مكة فتحت بالوجهين عنوة في أول الدخول، ثم صلحاً مع أهلها بعد ذلك، وبنى العلماء على ذلك أنها إذا فتحت عنوة فهي ملك للغانمين، وإذاً: أهلها تركهم النبي صلى الله عليه وسلم فيها، لكن كنوع من المنة عليهم أن يمكثوا فيها، ولكن الأرض ليست ملكهم، إذاً: ليس من حق أحد في مكة أن يبيع داره، ولكن يسكنها طالما هو محتاج إليها، فإن لم يحتج إليها بعد ذلك يتركها لغيره من غير بيع. وهذا قول مالك، والإمام القرطبي يرجح هذا القول هنا ويقول: الصحيح ما قاله مالك، وعليه تدل ظواهر الأخبار الثابتة بأنها فتحت عنوة، قال أبو عبيد: ولا نعلم أن مكة يشبهها شيء من البلاد، وذكر عن علقمة بن نضلة قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما وما تدعى رباع مكة إلا السوائب، من احتاج سكن ومن استغنى أسكن، والمعنى: إذا كان محتاجاً للبيت جلس فيه، وإن لم يكن محتاجاً إليه تركه لغيره. وجاء في حديث عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى حرم مكة فحرام بيع رباعها وأكل ثمنها، وقال: من أكل من أجر بيوت مكة شيئاً فإنما يأكل ناراً). والراجح أن هذه الأحاديث ضعيفة لا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، والراجح: أن بعضها من أقوال الصحابة، وليس من قول النبي صلوات الله وسلامه عليه. وجاء في حديث عن عائشة قالت: (قلت: يا رسول الله! ألا أبني لك في منى بناء يظلك من الشمس؟ فقال: لا، إنما هو مناخ من سبق إليه)، وهذا صحيح عنه صلى الله عليه وسلم أن منى مناخ من سبق إليه، يعني: منى لا تُملك، لأنها من أماكن المشاعر وأماكن العبادة، فهي مكان المناسك والذاهب إليها إذا ثبت في مكان فالمكان من حقه حتى يخرج منه، لكن الكلام هنا ليس في منى، الكلام في بيوت مكة هل يملكها أصحابها أم لا يملكها أصحابها؟ فالإمام القرطبي يأخذ بقول مالك في أن مكة ومنى حكمها واحد. وذهب الإمام الشافعي إلى أن بيوت مكة ملك لأصحابها، فالذي يجلس في بيته يملك بيته، وإذا أحب ترك البيت وباع، واحتج بقول الله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج:40]، فالله نسب الديار إليهم، فلو لم يكونوا مالكيها ما نسب الديار إليهم. وجاء في فتح مكة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من دخل بيته فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن)، فنسب الدار إلى صاحبها. وجاء أيضاً في صحيح البخاري أن أسامة بن زيد قال للنبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: (أين تنزل في دارك غداً في مكة؟) يعني: عندما نصل إلى مكة غداً ستنزل في أي دار من ديارك؟ فقد كان له دار صلى الله عليه وسلم، وهاجر وتركها صلى الله عليه وسلم فكان جوابه صلى الله عليه وسلم: (وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور؟)، عقيل هو عقيل بن أبي طالب، ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم كان عقيل وطالب كافرين، وأخوهم علي بن أبي طالب، وكذلك أخوهم جعفر كانا مسلمين، فـ أبو طالب لما توفي ورثه الكافران عقيل وطالب، فأخذوا الديار وبيت النبي صلى الله عليه وسلم الذي عاش فيه وباعا الجميع، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنهما لم يتركا شيئاً له، فهنا لولا أن البيوت ملك لأصحابها لما قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لما سئل: (أين تنزل غداً من دارك؟)، ولذلك الصواب في هذه المسألة مذهب الشافعي، أن أهل مكة يملكون بيوتهم، ويجوز لكل منهم أن يبيع داره وأن يسكنها وأن يؤجرها، وأما ما جاء من الأحاديث في النهي عن ذلك فلم يصح فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الحج [26 - 28]

تفسير سورة الحج [26 - 28] القرآن الكريم مليء بالقصص والعبر، وبذكر أخبار الأنبياء والسابقين، ومن ذلك قصة بناء إبراهيم البيت الحرام، ودعوته الناس لحج بيت الله الحرام، وقد وعده الله بإجابة كثير من الناس دعوته، ليشهدوا منافع لهم، ويذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، ويتموا مناسك الحج كما أمرهم الله.

تفسير قوله تعالى: (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت)

تفسير قوله تعالى: (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الحج: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:26 - 29]. يخبرنا الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات كيف أنه أوحى لإبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام بمكان البيت، وعلمه مكان البيت، حتى يبني بيتاً لله سبحانه، فلا يشرك بالله سبحانه تبارك وتعالى شيئاً. {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ} [الحج:26]، والتبوء بالمكان بمعنى: النزول بالمكان، أي: أنزلناه في مكان أو هيأنا له مكاناً لنزوله، فكأن المعنى هنا: أرشدنا إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام لمكان البيت، والبيت كان أصله موجوداً، ولكن الرياح كانت قد طمسته بالتراب فلم يكن يعرف مكان البيت، فدل الله سبحانه تبارك وتعالى إبراهيم على مكان البيت، وأمره أن يبني بيت الله سبحانه تبارك وتعالى، فرفع إبراهيم القواعد من البيت بأمر ربه سبحانه تبارك وتعالى. {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ} [الحج:26] أي: أريناه أصل البيت ليبينه، وكان أصل البيت قد درس بالطوفان وغيره، فلما جاءت مدة إبراهيم عليه الصلاة والسلام أمره الله سبحانه تبارك وتعالى ببنيان البيت، فجاء إلى موضع البيت، وجعل يبحث عن موضع هذا البيت حتى يبنيه لله عز وجل، فبعث الله سبحانه تبارك وتعالى ريحاً أطارت التراب، وكشفت له عن أصل البيت وأساس البيت، الذي كان من عهد آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام كما قيل. فرتب إبراهيم قواعد البيت ورفع البيت كما أمره سبحانه تبارك وتعالى، واستعان بابنه إسماعيل، وقال له: إن الله أمرني أن أبني بيته، قال: فأطع ربك. قال: وتعينني؟ قال: وأعينك. فرفع الاثنان القواعد من البيت قائلين لربهما سبحانه: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127]. وقد بني البيت في مكان ليس فيه ناس، ولم يحج أحد إلى هذا البيت في هذا الزمان الذي فيه إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، إلى أن رفع القواعد من البيت ثم نادى في الناس بأمر الله سبحانه تبارك وتعالى: إن الله بنى بيتاً فحجوا. قال الله: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ} [الحج:26] هذه قراءة الجمهور، وقراءة أبي جعفر وقراءة أبي عمرو: ((وَإِذْ بَوَّانَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا)) أي: قائلين له: لا تشرك بي شيئاً. أي: ارفع القواعد من البيت في هذا المكان لعبادة الله، وحتى يوحد الله سبحانه تبارك وتعالى وحده لا شريك له، {أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا} [الحج:26]، قيل: هي مخاطبة لإبراهيم، وهو الراجح، وهذا قول جمهور المفسرين. وقيل: {أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا} [الحج:26]، مخاطبة للنبي صلوات الله وسلامه عليه. والراجح أن الخطاب هنا لإبراهيم، وليس فيه ذكر للنبي صلوات الله وسلامه عليه. {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج:26]. ولم يكن هناك طائفين ولا قائمين ولا ركع ولا سجود في ذلك الزمان والمكان، إلى أن رفع إبراهيم القواعد من البيت، فهيئ المكان لمن يأتي للعبادة في هذا المكان بأمر الله سبحانه وتعالى. {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} [الحج:26]، هذه قراءة نافع وأبي جعفر وهشام وحفص عن عاصم: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [الحج:26]، وباقي القراء: ((وَطَهِّرْ بَيْتِيْ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)) يعني: بالسكون دون الفتح. والطائفون هم الذين يطوفون بهذا البيت بعدما بناه إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فيطهر البيت من النجاسات، يطهره من الشرك والإلحاد بالله سبحانه تبارك وتعالى، من أجل أن يكون للعبادة. ومن عهد إبراهيم إلى أن تقوم الساعة فهناك من يطوف بالبيت، ويعبد الله سبحانه، ولا يشرك به شيئاً، إلى ما يشاء الله سبحانه تبارك وتعالى. {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ} [الحج:26]، الطائف: هو الذي يطوف حول البيت، والقائم: هو الواقف في مكانه، سواء في صلاة أو في دعاء أو في غير ذلك. {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج:26]، القيام والركوع والسجود من هيئات الصلاة، فطهر بيتي لمن يطوف بالبيت، والطواف بالبيت صلاة، {وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج:26]، وهذه هي هيئات الصلاة المعروفة. فالله سبحانه تبارك وتعالى أمر إبراهيم برفع القواعد من البيت وبناء هذا البيت العتيق، فكم لإبراهيم عليه السلام من الفضل والثواب، فإن الناس من عهده وهم يطوفون بالبيت، ويعبدون الله سبحانه تبارك وتعالى. ثم جاءت فترة من الفترات جاء فيها مشركو العرب فتركوا التوحيد، وأشركوا بالله سبحانه تبارك وتعالى، فجاء النبي صلوات الله وسلامه عليه ليطمس هذا الشرك بالله، ويظهر نور الله سبحانه تبارك وتعالى، ويرجع الناس إلى التوحيد مرة ثانية. وقد ذكر هنا: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ} [الحج:26]، وذكر في سورة البقرة: {لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة:125]، فالطائف الذي يطوف بالبيت، والعاكف يعني: الملازم للبيت، لعبادة الله سبحانه تبارك وتعالى، {وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج:26] أي: المصلين.

تفسير قوله تعالى: (وأذن في الناس بالحج)

تفسير قوله تعالى: (وأذن في الناس بالحج) قال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27]. أمر الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام أن يؤذن، والأذان بمعنى: الإعلام، ومنه الأذان الشرعي المعروف، وهو: الإعلام بألفاظ معروفة، ولكن هنا {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ} [الحج:27] يعني: قم فناد، فبعد أن انتهى إبراهيم من رفع القواعد من البيت وهو يدعو ربه سبحانه: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127]، أمر أن يؤذن وينادي، وليس في هذه الأماكن أحد، إلا قليل من الناس، وأما باقي الناس فهم في البلاد وفي البحار وفي كل مكان بعيد، ومع ذلك فقد أستمع إبراهيم عليه الصلاة والسلام أمر ربه، فأذن في الناس. جاء عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لما فرغ إبراهيم عليه الصلاة والسلام من بناء البيت قيل له: أذن في الناس بالحج، فقال: يا رب وما يبلغ صوتي؟ يعني: أنا في هذا المكان فلمن أؤذن، ومن سيسمع صوتي، ويأتي إلي؟ فقال: أذن وعلي البلاغ. إذاً: فقد كان إبراهيم سبباً من الأسباب فقط، فالله يقول له: عليك الأذان فقط، وليس عليك النتيجة. قال ابن عباس: فصعد إبراهيم خليل الله عليه الصلاة والسلام جبل أبي قبيس في مكة ونادى: يا أيها الناس! إن الله قد أمركم بحج هذا البيت ليثيبكم به الجنة ويجيركم من عذاب النار فحجوا، فأسمع الله عز وجل الناس، والعادة أن الإنسان عندما يتكلم لا يسمعه إلا الحاضر، ولكن إبراهيم أسمع الحاضر والغائب أيضاً، وأسمع من لم يوجد؛ لأن الذي أوصل صوته إليهم هو: الله سبحانه تبارك وتعالى، وإنما كان إبراهيم سبباً فقط، وهذا كما قال لنبينا صلى الله عليه وسلم: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] عندما أخذ كفاً من حصى ورماه في وجوه الكفار، وقال: (شاهت الوجوه)، فإذا بالله يعمي أبصار هؤلاء فلا يرون، وكف الحصى لا يكفي لإصابتهم أجمعين، ولكنه رمى وكانت النتيجة من الله سبحانه تبارك وتعالى. وفي يوم بدر والمؤمنون يقاتلون الكفار عندما رفع أحد المؤمنين سيفه ليقتل الكافر سقطت رقبة الكافر قبل أن يضربه المسلم، والذي فعل ذلك هو الله سبحانه تبارك وتعالى، فلم يكلفنا الله إلا الأخذ بالأسباب، وأما النتيجة فهي منه سبحانه تبارك وتعالى. ولذلك فعندما أذن إبراهيم، أجابه من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء، ممن كتب الله عز وجل له الحج تفضلاً منه سبحانه وتعالى، فردوا على إبراهيم قائلين: لبيك اللهم لبيك، فمن أجاب يومئذ حج على قدر الإجابة، يعني: من أجاب مرة حج مرة، ومن أجاب مرتين حج مرتين، وهكذا.

فضائل إبراهيم عليه السلام

فضائل إبراهيم عليه السلام وقد أخذت سنة التلبية من فعل إبراهيم عليه السلام، فهو خليل رب العالمين، ومعنى الخليل: أقرب حبيب، وأحب حبيب. وقد وصل إلى هذه الدرجة بطاعته لربه سبحانه، وبتوحيده له، وبأمره للناس بالمعروف ونهيه عن المنكر، وبمحاجته لأهل الأصنام، وبإفراده لله سبحانه تبارك وتعالى بالمحبة العظيمة، والتي تنطمس بجوارها أي محبة. وقد اختبره الله سبحانه تبارك وتعالى في أبوه، هل سيحب أباه وإلا ربه سبحانه تبارك وتعالى، وقد كان أبوه يعصي الله، ويصنع الأصنام، فأمره إبراهيم بالمعروف ونهاه عن المنكر، وأمره بالتوحيد، قائلاً له: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} [مريم:43]، {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم:45]. فأبي أبوه أن يدخل في دينه، وأن يطيعه وقال: {لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم:46 - 47] أي: سأدعو لك ربي، {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:47] واعتزل إبراهيم أباه، واعتزل عباد الأصنام، وفر بدينه إلى ربه سبحانه تبارك وتعالى، وأقبل على قوم يعبدون الكواكب من دون الله سبحانه، فدعاهم إلى رب العالمين، فلم يهتم ألا يستجيبوا له، وأن يطردوه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ولكنه أصر على الدعوة إلى ربه سبحانه. واختبره ربه في ابنه إسماعيل، وكان بكره وابنه الوحيد، فأمره بذبح ابنه عليه الصلاة والسلام، فإذا به يستجيب ولا يتردد، ويذهب إلى ابنه ويقول له: إن الله أمرني أن أذبحك، فقال: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102]. فهذه سنن عظيمة وعجيبة في طاعة الله وتفويض الأمر إليه، والاستسلام والتسليم بين يديه سبحانه وتعالى. وإبراهيم عليه الصلاة والسلام عندما كان يرفع القواعد من البيت كان يساعده ابنه إسماعيل فقط، وقد كان إسماعيل يذهب فيأتيه بالحجارة، وإبراهيم يرفع القواعد من البيت، وهما يدعوان ربهما: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127]. ومن المستحيل أن يكون هذا العمل لغير الله سبحانه وتعالى؛ لأن الذي يعمل عملاً لغير الله فإنه يعمله في مكان يراه الناس فيه، وإبراهيم معصوم من ذلك عليه الصلاة والسلام، فهو يرفع القواعد من البيت ولا أحد معه إلا ابنه، وربه سبحانه شاهد عليه وهو يرفع ويتوسل إلى الله: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127]. فيتعلم المؤمن من هذا ألا يغتر بعمله أبداً، فإذا كان إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهو المعصوم من الذنوب، والذي يستحيل في حقه أن يرائي أحداً، ولا أحد موجود حتى يطلع على ما يقوله إبراهيم ويفعله، ومع ذلك يدعو ربه سبحانه: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} [البقرة:127]، فإذاً: لا تمن بعملك على الله سبحانه وتعالى، وإذا عملت عملاً فارجو من ربك أن يقبل منك هذا العمل، وإذا تقبله منك فهو الذي قال لنا في كتابه: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]، فإذا تقبل عمل إنسان فهذا دليل على أن هذا الإنسان تقي، وإذا كان تقياً وقاه الله عز وجل النار.

معنى قوله تعالى: (يأتوك رجالا وعلى كل ضامر)

معنى قوله تعالى: (يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر) عندما رفع إبراهيم القواعد من البيت أمره ربه سبحانه بقوله: {أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:27]، سأل ربه سبحانه وتعالى: وما يبلغ صوتي؟ يعني: أنا سأفعل وأستجيب ولكن من سيسمعني؟ ومن سيصله صوتي؟ فأخبره الله عز وجل: أذن أنت وأنا أبلغ هذا الشيء، فوصل إلى أسماع من شاء الله عز وجل أن يحجوا هذا البيت، فلبوا ربهم سبحانه وحجوا بيته. ومعنى (أذن) أي: أعلن وناد على الناس في الحج، فيستجيبون لك، وهذا وعد من الله سبحانه وتعالى، وقد تحقق وعد الله سبحانه تبارك وتعالى، فإن الناس في قلوبهم شوق إلى حج بيت الله سبحانه، فكلما تذكروا البيت فإن من استطاع منهم ذهب وحج لله عز وجل، فإذا ذهب كان {مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة:125]، والمثابة: الشوق والرجوع والتكرار، فكلما ذهب إلى البيت اشتاق إليه أكثر، وكلما رجع من حج أو من عمرة اشتاق أن يرجع إليه مرة ثانية وثالثة، استجابة لأمر الله سبحانه وتعالى. وقوله تعالى: {يَأْتُوكَ رِجَالًا} [الحج:27] أي: على أرجلهم مترجلين مشاة. {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج:27] الضامر: البعير المهزول، يقال: ضمر الشيء بمعنى: أهزله، ومنه تضمير الخيل، فقد كانوا يعدون الخيل للجهاد وللكر والفر، ولذلك كانوا يضمرونها، فيعزل الخليل تماماً ويلبسه الصوف ثم يجعله يجري حتى يعرق فيخفف شحمه فيضمر، فهذا تضمير الخيل، والضمور بمعنى: الهزال، فقوله تعالى: (وعلى كل ضامر) معناه: أن الناس يأتوك من أماكن بعيدة حتى يكون الجمل الذي يركبه صاحبه هزيلاً ضعيفاً، فيكون المعنى: وعلى كل بعير ضامر هزيل مهزول من طول السفر. إذاً: فقوله تعالى: {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ} [الحج:27]، كأنه تشريف لهذا البعير المركوب، فهو شرف للبعير الذي رُكب وأتى بصاحبه إلى بيت الله الحرام. قال: {يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27] يعني: هذه الإبل أتت من كل فج عميق بأصحابها ليحجوا بيت الله سبحانه. والفج: الطريق الواسع، والعميق: البعيد، والمعنى: يأتون من طرق بعيدة وبلاد بعيدة شاسعة؛ ليحجوا بيت الله الحرام.

تفسير قوله تعالى: (ليشهدوا منافع لهم)

تفسير قوله تعالى: (ليشهدوا منافع لهم) هؤلاء الذين يأتون بيت الله الحرام قال عنهم سبحانه: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج:28]، إذاً: فهم أتوا إلى بيت الله الحرام ليحضروا منافع لهم، وهي منافع دنيوية ومنافع أخروية، فهم عندما أتوا لعبادة الله أكرمهم الله في الدنيا والآخرة، وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (الحج والعمرة ينفيان الفقر والذنوب)، وهذه المعاملة من الله إكراماً منه لعباده، فأنت عندما أنفقت مالك وأتعبت نفسك فإن الله يتقبل منك ذلك الإنفاق، وزيادة على ذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ما نقص مال من صدقة). فيغفر الذنوب، ويزيد في المال، ويرجع الحاج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، أي: يرجع وليس عليه ذنوب كما ولد لا ذنوب عليه. فقوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج:28] قالوا: إنها منافع دنيوية وأخروية، أما الأخروية فهي: أنهم يشهدون المناسك: عرفات، والمشعر الحرام، ومنى وغير ذلك، ويعبدون الله سبحانه، وتكون لهم المغفرة من الله، فيحضرون لينتفعوا بعبادتهم. وأما المنافع الدنيوية فإنه يشتري أشياء، ويبيع أشياء ويتاجر، فليس عليهم جناح أن يبتغوا فضلاً من ربهم في أيام الحج، وليس عليهم جناح أن يبيعوا وأن يشتروا.

الأمر برفع الصوت في التلبية

الأمر برفع الصوت في التلبية قوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج:28]، أي إنهم يذكرون الله سبحانه تبارك وتعالى في كل موطن من المواطن، ويكبرون ويلبون، ويستحب للحاج أن يرفع صوته بالتلبية، كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن جبريل أتاه وأمره أن يأمر أصحابه أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية) أي: لبيك اللهم لبيك، ومعنى لبيك أي: أنا مستجيب لك، ومقيم على طاعتك، ومقبل إليك.

الأيام المعلومات

الأيام المعلومات قوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:28]. ذكر الله الأيام المعلومة والأيام المعدودة، فذكر هنا المعلومة، وفي البقرة ذكر المعدودة، فقال تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة:203]، فالأيام المعدودات: هي أيام التشريق ويوم النحر، والأيام المعلومات: هي العشر من ذي الحجة، وقد يدخل معها أيضاً الأيام المعدودات، فيكون المعنى: أن العادة أن الناس يذهبون إلى المناسك من أول ذي الحجة أو قبلها في أشهر الحج، فيذكرون الله مسبحين وملبين ومكبرين ومتقربين إليه سبحانه وتعالى. وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: الأيام المعدودات أيام التشريق، والأيام المعلومات أيام العشر من شهر ذي الحجة، وهي أعظم أيام السنة؛ فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من عشر ذي الحجة. قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد، إلا أن يخرج رجل بماله ونفسه ولا يرجع من ذلك شيء) يعني: يستشهد في سبيل الله، ويؤخذ ماله. فلنحرص على حسن العبادة في الأيام المعلومات، وهي من أول شهر ذي الحجة إلى اليوم العاشر منه. وجاء عن ابن عباس أيضاً أنه قال: الأيام المعلومات يوم النحر وثلاثة أيام بعده. فكأن الوارد عن ابن عباس: أن الأيام المعلومة تبدأ من أول شهر ذي الحجة إلى آخر أيام العيد، فهي أيام معلومة ومعدودة. إذاً: الأيام المعدودة التي ذكرها الله عز وجل في سورة البقرة هي أيام العيد: يوم العيد وثلاثة أيام التشريق، ويوم العيد هو: يوم الحج الأكبر، وفيه أعظم المناسك في الحج، فسماه الله عز وجل يوم الحج الأكبر.

معنى قوله تعالى: (على ما رزقهم من بهيمة الأنعام)

معنى قوله تعالى: (على ما رزقهم من بهيمة الأنعام) قوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:28] أي: كأنهم يجهزون بهيمة الأنعام في هذا الوقت من أجل أن يذبحوها في يوم العيد، ويكبرون الله سبحانه وتعالى، ويقولون: اللهم هذا منك ولك، ويقولون عند الذبح: {قل إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162]، فإذا رأوا هذه الذبائح حمدوا ربهم سبحانه، وكبروا عليها، قال سبحانه: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:28]. إذاً: ففي أول الأيام من ذي الحجة يرى الحاج بهيمة الأنعام فيكبر ربه في هذه الأيام المعدودة، ثم يذبح هذه الأنعام مكبراً لله، ومسمياً لله عز وجل عليها. والبهيمة هي: كل ذات قوائم أربع، فكل دابة لها أربع قوائم تسمى بهيمة، حتى لو كانت من دواب الماء إذا كانت تمشي على أربع فتسمى بهيمة. وكذلك كل حي لا يميز يقال عنه: بهيم وبهيمة، والحي الذي ليس في عقله تفكير ولا يجيد النطق يسمى بهيمة. والمقصود من البهيمة هنا: الأنعام التي هذه صفتها، والأنعام تطلق على الإبل، والبقر ويدخل فيها الجواميس، والأغنام ويدخل فيها الماعز، فكل هذه تسمى بهيمة الأنعام، سواءً كانت ذكوراً أو إناثاً، فيذكرون اسم الله عز وجل عليها وهم ينحرونها، سواء نحروها هدياً أو نذراً أو أضحية. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الحج [27 - 28]

تفسير سورة الحج [27 - 28] لقد أمر الله تعالى نبيه إبراهيم عليه السلام أن يؤذن في الناس بالحج، وتكفل بتبليغ ندائه هذا إلى أرجاء الأرض، فكان فرضاً على الناس أن يحجوا بيت الله الحرام، ليشهدوا منافع لهم دنيوية: من تحصيل الرزق والمعاش، وأخروية: وهي ما أعده الله عز وجل للحجاج من واسع فضله، وجميل عفوه وكرمه.

تفسير قوله تعالى: (وأذن في الناس بالحج)

تفسير قوله تعالى: (وأذن في الناس بالحج) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الحج: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:27 - 29]. فقد أمر الله عز وجل إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أن يبني البيت ويرفع قواعده فرفعها، وأمره الله عز وجل أن يؤذن في الناس ويعلمهم: بأن تعالوا إلى بيت الله عز وجل لتحجوا، فقال: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا} [الحج:27] وهذا وعد من الله عز وجل فافعل ذلك؛ واعلم أنهم سوف يستجيبون ويأتون، قال: {يَأْتُوكَ رِجَالًا} [الحج:27] أي: مشياً على أقدامهم، {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج:27]، أي: راكب على جمل أو ناقة قد هزلت من طول السفر ومشقته. قال: {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ} [الحج:27] أي: الإبل، فالتأنيث يعود عليها، {يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27]، فهو شرف لها؛ لأنها حملت صاحبها وذهبت به إلى بيت الله الحرام ليحج. {يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ} [الحج:27]، الفج: هو الطريق الواسع، والعميق: البعيد بعداً شاسعاً، {يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج:27 - 28]، فيذهب الحجيج أو المعتمرون إلى بيت الله الحرام ليحجوا وليعتمروا، و {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج:28] أي: في الدنيا وفي الآخرة. ومن منافع الآخرة: المغفرة من الله سبحانه، وتكفير السيئات، ورفع الدرجات، أما منافع الدنيا فهي ما يكون من تجارة وبيع وشراء ومكاسب ونحو ذلك، فيشهدون منافع في الدنيا ومنافع في الآخرة بسبب الحج والعمرة. قال: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج:28]، وهذا من أول دخول شهر ذي الحجة إلى الانتهاء من المناسك جميعها، فيذكرون الله سبحانه وتعالى ملبين ومكبرين، ويذكرون الله عز وجل على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، فيذكرون اسم الله رافعين أصواتهم بالتلبية والتكبير، {فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج:28]، والأيام المعلومات: هي العشر من ذي الحجة، والأيام المعدودات الأربعة داخلة فيها أيضاً، فهم يذكرون اسم الله عز وجل في هذه الأيام جميعاً، سواء الأيام المعلومة أو الأيام المعدودة. فالمعلومة: العشر من ذي الحجة، والمعدودة الأربعة بما فيها العيد وأيام التشريق، وقد يصدق بيان الأيام المعلومة: أنها جميع الأيام من أول شهر ذي الحجة إلى آخر أيام المناسك. قال: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:28]، وبهيمة الأنعام: هي التي خلقها الله عز وجل لعباده، فقال: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنْ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنْ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} [الأنعام:143]، ثم ذكر أن من الإبل اثنين، ومن البقر اثنين، ويقصد بالاثنين: الذكر والأنثى، ففي الإبل: الجمل والناقة، وفي البقر: البقرة والعجل، وكذلك الجواميس فإنها داخلة فيها ذكوراً وإناثاً، وفي الغنم: التيس والماعز، فهذه ثمانية أزواج أنزلها الله عز وجل للعباد وجعلها من بهيمة الأنعام التي يأكلونها، والتي منها يحصل الهدي إلى البيت والأضحية. قال: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:28]، والبهيم: هو الأعجم الذين لا ينطق ولا يميز، فقالوا: البهيمة هي ذوات الأربعة الأرجل، فخرج منها ما كان ذا أربع أرجل ولكنه لا يثبت في الهدي: كالحمار الوحشي والغزلان. إذاً: فبهيمة الأنعام: هي التي ذكرها ربنا سبحانه وتعالى في كتابه، ذكر من الغنم اثنين، ومن الماعز اثنين، ومن الإبل اثنين، ومن البقر اثنين.

أنواع الهدي وجواز الأكل من هدي التطوع

أنواع الهدي وجواز الأكل من هدي التطوع ثم قال سبحانه: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:28]، فقوله: {فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج:28] هذا الأمر من الله عز وجل لعباده يفيد النفع لهم، قال: {فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج:28]، فهو تفضل من الله تعالى، ولو شاء سبحانه لأمر بإخراجه كله في سبيله سبحانه وتعالى، ولأخرج للفقراء والمساكين، لكن الله سبحانه تكرم على هؤلاء الذين حجوا وقطعوا المسافات الطويلة حتى وصلوا إلى هنالك، بأن يأكلوا من هديهم دونما حرج، والأمر هنا: أمر إرشاد، وليس أمر وجوب، فيجوز له أن يأكل من هدي التمتع، أو هدي القران، أو هدي التطوع، لكن الهدي الواجب عليه غير ما ذكرناه: كجزاء الصيد مثلاً، كأن يقتل إنسان صيداً في الحرم، أو يكون قد أحصر، أو كانت عليه فدية: كإزالة الأذى بالترفه ونحوه، أو كان عليه هدي بالنذر، فهذه من الواجبات التي لا يجوز له أن يأكل من هديه فيها، فإذا نذر هدياً لبيت الله الحرام ذبحه ولا يجوز له أن يأكل منه. فإذا كان قد قتل صيداً في الحرم وذبح هدياً فلا يجوز له أن يأكل منه، وإذا ترفه بإزالة أذى كحلق رأسه في أثناء الإحرام أو وضع طيب ونحو ذلك وكان عليه الهدي فيه فلا يجوز له أن يأكل منه، وإنما يجوز له أن يأكل من هدي التمتع، أو هدي القران، أو هدي التطوع. قال الله سبحانه وتعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:28]، وهذا في القران، فقد قرن في الأمرين بين الأكل والإطعام، وقد فرق العلماء بين الأمرين: فإطعام الفقراء فرض؛ لأن المقصد من الذبح: هو سد جوع هؤلاء وحاجتهم، لكن يجوز لك أن تأكل منه أيضاً؛ فقد أكل النبي صلى الله عليه وسلم من هديه بعد أن نحر مائة ناقة صلوات الله وسلامه عليه في حجة الوداع، فنحر بيده الكريمة نحو ثلاثة وستين وأكمل الباقي علي رضي الله تعالى عنه، فأخذ من كل واحدة منها قطعة من اللحم ووضعها جميعاً في القدر وأكل منها صلوات الله وسلامه عليه، فكونه أكل منها يبين لنا أنه يجوز لك أن تأكل من ذلك. قال: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:28]، وهنا يقول الأصوليون: إن دلالة الاقتران دلالة ضعيفة، يعني: أنه إذا اقترن أمران أحدهما للوجوب والآخر للاستحباب فإنه لا يقال حينئذ: إن الاثنين للاستحباب أو للقران، ولكن: {فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج:28]، فأهل العلم يقولون: إن لك أن تأكل أو تترك؛ لأن الأكل ليس فرضاً أو أمراً تعبدياً، ولكن العبادة إطعام: {وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:28]، أي: الذي من أجله شرع الهدي، {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:28]. والبائس الفقير: هو الإنسان الذي ناله البؤس والفقر الشديد، يقال: بئس يبؤس بأساً إذا افتقر، فإذا افتقر الإنسان صار بائساً، وقد يستعمل فيمن نزلت به نازلة من الدهر أو مصيبة من المصائب، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم في سعد بن خولة الذي كان قد هاجر من مكة إلى المدينة ثم ذهب مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة ومات بها، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب لأصحابه المهاجرين الموت في غير المكان الذي هاجروا منه، فما كان للمهاجرين الموت في مكة؛ لكي تكتب لهم الحسنات من مكان هجرتهم إلى مكان موتهم في غيرها من البلدان، فالنبي صلى الله عليه وسلم حزن لفوات هذا الأجر عليه رضي الله عنه فقال: (ولكن البائس سعد بن خولة) يعني: أنه ضاع منه بعض الأجر، فالشاهد: أن الله سبحانه وتعالى قد أمر بذبح الهدي.

الوقت المختار في ذبح الأضحية

الوقت المختار في ذبح الأضحية العلماء يذكرون لنا وقت الذبح في الأضحية فيقولون: إذا كان الهدي مختصاً بالكعبة فلا يذبحه إلا في الحرم، وأما إذا كان هدياً تطوعاً فله ذبحه في أي وقت شاء، يعني: أن الإنسان إذا ذهب إلى العمرة ومعه الهدي فله أن يذبحه في الوقت الذي يعتمر فيه، لكن هدي القران أو هدي التمتع لا يذبح إلا في يوم النحر، وهذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم وأمر الله سبحانه وتعالى، أما وقت النحر: فيكون يوم النحر، على خلاف بين العلماء في جوازه قبل هذا الوقت أو لا في هدي المتمتع بالعمرة إلى الحج؟ والراجح: أنه لا ينحر إلا في يوم النحر، فلذلك سمي بيوم النحر؛ ولأن الصحابة الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كان أكثرهم متمتعاً بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت أن أحداً منهم نحر قبل يوم النحر، فلو كان يجوز أن ينحر قبل يوم النحر لفعله الصحابة ولو البعض ولأقره النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم ما ذبح هديه قبل يوم النحر، فعلى ذلك: يكون وقت الذبح لهدي التمتع أو القران في يوم النحر والأيام بعده، أما الأضحية: فإنها تكون في يوم النحر وما بعده من أيام التشريق، ففي أي يوم سيكون النحر للأضحية؟ يقول العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم نحر يوم النحر بالمدينة، واستدلوا بحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في صحيح مسلم قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر بالمدينة فتقدم رجال فنحروا وظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نحر، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان نحر أن يعيد بنحر آخر ولا ينحروا حتى ينحر النبي صلى الله عليه وسلم). وقد وضحت هذه الرواية روايات أخرى: وهو أنهم نحروا قبل أن يصلي النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شك أنه نحر بعد الصلاة، فإذا جاءت رواية أنهم نحروا قبل النبي صلى الله عليه وسلم، وجاءت الرواية الأخرى بأنهم نحروا قبل الصلاة فالمعنى واحد، وهو أنهم نحروا قبل الصلاة، أي: قبل نحر النبي صلوات الله وسلامه عليه، فأمرهم أن يعيدوا صلوات الله وسلامه عليه، وبين لهم أن من نحر قبل الصلاة فهي شاة لحم، أي: ليس فيها أجر الأضحية، ومن نحر بعد الصلاة فهي أضحية مقبولة. إذاً: فالنحر هنا يكون من بعد صلاة العيد، أما إذا لم يستطع الإنسان أن يصلي العيد لعذر ما: كاختلاف أوقات الصلاة في البلد الواحد أو نحوه، وأراد أن ينحر فعليه أن ينحر بعد أول صلاة عيد أو بعد مضي وقت صلاة العيد، فيذبح الإنسان الذي لم يستطع أن يشهد الصلاة، فقد جاء عن البراء بن عازب في صحيح مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أول ما نبدأ به في يومنا هذا يوم العيد أن نصلي ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا)، وفي حديث آخر: (من ذبح قبل الصلاة فتلك شاة لحم).

عدد أيام النحر واختلاف العلماء فيها

عدد أيام النحر واختلاف العلماء فيها العلماء اختلفوا في عدد أيام النحر، فالأكثر على أنها: ثلاثة أيام، العيد ويومان بعده، والراجح من حيث الدليل: أنه يجوز النحر في أربعة أيام، في يوم العيد وفي أيام التشريق الثلاثة. وممن قال بأن أيام النحر ثلاثة أيام فقط: الإمام مالك، والإمام أبو حنيفة، والإمام أحمد، وعند الشافعي: أربعة أيام، وإن كان الأفضل عنده ثلاثة أيام ابتداءً من العيد، وقد استدل القائلون بذلك ببعض الآثار عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بأن النحر في يوم العيد ويومين بعده، لكنه ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الحديث أنه قال: (كل أيام التشريق ذبح)، وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن جبير بن مطعم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عرفات كلها موقف)، ففي الحديث يبين النبي صلى الله عليه وسلم لهم المناسك، فيقول: (عرفات كلها موقف)، وقد وقف في مكان معين، فلا يشترط على الناس كلهم الوقوف في نفس المكان الذي وقف فيه صلى الله عليه وسلم، ولكن في كل عرفة، قال: (وارفعوا عن عرنة)، وهو مكان هنالك اسمه: عرنة قبل عرفة، وليس من عرفات، قال: (وكل مزدلفة موقف، وارفعوا عن بطن محسر، وكل فجاج منى منحر) يعني: أن النحر في أي مكان من منى، وليس له مكان معين. قال: (وكل أيام التشريق ذبح)، وهذا الشاهد من الحديث: وهو أن أيام التشريق الثلاثة بعد العيد كلها ذبح بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم. يقول ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن يوم النحر يوم أضحى، وأجمعوا ألا أضحى بعد انسلاخ ذي الحجة، والمقصود: أن بعض العلماء قالوا بجواز النحر بعد العيد، والصواب: أن النحر يكون في الأربعة الأيام من العيد، فيوم النحر منها، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالذبح فيها وقال: (كل أيام التشريق ذبح)، فدل على أن غيرها لا يدخل فيها.

حكم ذبح الأضحية في الليل

حكم ذبح الأضحية في الليل الذبح يكون في أيام العيد سواء الأضحية أو الهدي، أما أن يذبح في الليل فأكثر العلماء على كراهة ذلك، وإن كان الراجح فيها: أنه يجوز الذبح والنحر في الليل والنهار، والذين كرهوا ذلك قالوا: إن الذبح بالليل مظنة إخفاء اللحم عن الفقراء، فيصير كالذي يجز أرضه في الليل لكي يمنع الزكاة عن الفقراء، ويمنعهم أن يطلبوا منه شيئاً، كما قال الله سبحانه وتعالى عن أصحاب الجنة: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ} [القلم:17 - 18]، فأقسموا على جز أرضهم في الليل؛ لكي لا يسألهم الفقراء شيئاً في الصباح، فالذين كرهوا الذبح في الليل عللوا ذلك: بأن الليل مظنة الإخفاء عن الفقراء بخلاف النهار فإن الفقير يرى اللحم فيطالب بحظه منه. والراجح في هذه المسألة: أنه يجوز الذبح في الليل إذا كانت نيته أن يوزع على الفقراء، أما إذا كانت نيته الاستخفاء من الفقراء فتبقى المسألة هنا على الكراهة.

حكم أكل صاحب الكفارات من دماء كفاراته

حكم أكل صاحب الكفارات من دماء كفاراته قال تعالى: {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:34]، {فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج:28]، قلنا: إن الأمر فيه على الندب، {وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:28]. وهنا يذكر الإمام القرطبي: أن دماء الكفارات لا يأكل منها أصحابها، فإذا فرضنا أن إنساناً عليه كفارة نذر مثلاً فذبح هذا الشيء الذي نذره ثم وزعه على الفقراء، وبعد ذلك أكل منها هو، فهنا لا يجوز له أن يأكل منها، فإن أكل منها لزمه أن يشتري لحمة بالقدر الذي أكله ليخرجه للفقراء والمساكين، وهذه مسألة يكثر السؤال عنها، فنقول: إذا نذر بشيء فذبح فلا يجوز أن يأكل منه. لكن قد ينذر الإنسان بأضحية لله، كأن يقول: عليّ نذر أن أذبح أضحية لله تعالى، والأضحية ليست واجبة على الصحيح من كلام أهل العلم، لكن إذا نذرها الإنسان صارت واجبة الذبح، ولكنها لا تزال أضحية في الحكم فيجوز له أن يأكل منها، وأن يهدي منها، وأن يخرج للفقراء، ويكون توزيعها بهذه الصورة، فكونه ألزم نفسه بالنذر لا يخرجها عن كونها أضحية، ومثلها مثل هدي التمتع، فهدي التمتع واجب على الإنسان الذي يتمتع من العمرة إلى الحج، ومع ذلك يجوز له أن يأكل منه، فكونه واجباً لا يمنعه أن يأكل منه سواء من هدي القران أو من هدي التمتع. وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من هدي القران، وأن الصحابة أكلوا من هدي التمتع.

عدم جواز الأكل من الهدي إذا عطب في الطريق إلى البيت الحرام

عدم جواز الأكل من الهدي إذا عطب في الطريق إلى البيت الحرام ذكر العلماء مسألة عطب الهدي، فلو أن الإنسان أخذ هدياً إلى بيت الله الحرام وعطب هذا الهدي، فهذا الهدي إما أن يكون واجباً عليه مثل: هدي القران وهدي التمتع وغيره، وإما أن يكون مستحباً تطوعاً، فهدي الواجب مضمون عليه، يعني: أخذ هدياً بسبب أنه متمتع بالعمرة إلى الحج، وحصل أن هذا الهدي هزل في الطريق فاحتاج لذبحه وأكله فلا شيء عليه؛ لأنه مضمون عليه، مع أن المطلوب منه غيره، فسيأتي بغيره مكانه. أما هدي التطوع فله حكم آخر: ففي سنن أبي داود عن ناجية الأسلمي: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معه بهدي تطوع)، والنبي صلى الله عليه وسلم كان في المدينة وناجية مسافر لعمرة، والنبي صلى الله عليه وسلم أرسل معه هدياً تطوعاً، سواء كان ناجية متوجهاً بعمرة أو بحج، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن عطب منها شيء فانحره، ثم اصبغ نعله في دمه، ثم خل بينه وبين الناس)، وفي رواية: (ولا تأكل منه ولا أحد من أهل رفقتك)، وهذا في صحيح مسلم بمعناه من حديث ابن عباس. وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غاية الكرم، فكان يعطي الهدي لمن يريد الحج أو العمرة ليذبحه عند البيت ويوزعه على الفقراء، فكان يأمر هذا الذاهب مثل ناجية مثلاً رضي الله عنه: أنه إذا عطب من الهدي شيء في الطريق أن يذبح، وأن يلطخ بدمه ظهره ليعرف من يراه أن هذا هدي للبيت، فيقوم الفقراء بالأكل منه، أما منعه ورفقته من الأكل منه فلسد الذريعة، حتى لا يفرط صاحب الهدي فيه حتى ينحره فيأكل منه ورفقته بسبب الجوع، فإذا علم أنه إذا ذبح الهدي فلن يأكل منه شيئاً حافظ عليه تمام المحافظة حتى يصل به إلى هنالك، ولذلك قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا عطب منها شيء فانحره، ثم اصبغ نعله في دمه) يعني: خذ النعل وضعه على دمه ولطخ به جلده بحيث يعرف الناظر أن هذا اللحم هدي لبيت الله الحرام، قال: (ثم خل بينه وبين الناس، ولا تأكل منه أنت ولا أحد من أهل رفقتك)؛ سداً للذريعة؛ لكي لا يذبحوا الهدي في الطريق ثم يزعمون بعد ذلك أنه قد عطب والله أعلم. نكتفي بهذا القدر، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين.

تفسير سورة الحج [27 - 30]

تفسير سورة الحج [27 - 30] أمر الله تعالى خليله إبراهيم أن يؤذن في الناس بالحج، ووعده بمجيء الناس لحج بيت الله، وجعل الله لهم فيه منافع كثيرة في دينهم ودنياهم، وأمرهم أن يذكروا اسمه في أيام العشر على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، فيأكلون ويطعمون منها، ويتمون في هذه الأيام مناسك حجهم.

تفسير قوله تعالى: (وأذن في الناس بالحج)

تفسير قوله تعالى: (وأذن في الناس بالحج) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الحج: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:27 - 29]. أمر الله سبحانه تبارك وتعالى نبيه وخليله إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام أن يرفع القواعد من البيت، وأن يؤذن في الناس بالحج، ووعده سبحانه تبارك وتعالى أن يسمعه الناس ويأتوه رجالاً ومشاة وعلى كل ضامر أي بعير يأتين من كل فج عميق، أي من كل طريق فسيح بعيد؛ يأتون ليشهدوا منافع لهم، منافع دينية ومنافع دنيوية، ويذكروا اسم الله في أيام معلومات، وهي العشر من ذي الحجة، والأيام المعدودة هي أيام العيد الأربعة، وقد تدخل تحت مسمى الأيام المعلومة أيضاً، فتكون أربعة عشر يوماً، فيذكرون اسم الله عز وجل في هذه الأيام، مكبرين ملبين داعين ربهم سبحانه في أيام العشر وفي أيام الحج، يدعون ربهم سبحانه تبارك وتعالى، ويشكرونه على ما رزقهم من بهيمة الأنعام. ثم قال: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:28]، فهنا ذكر الأكل وذكر إطعام البائس الفقير.

من أحكام الأضاحي

من أحكام الأضاحي استحب العلماء في الضحايا أو في الهدايا أن يأكل منها صاحبها ويهدي منها ويطعم الفقراء، ويكون النصيب الأكبر لإطعام الفقراء، وقال بعضهم: ثلث لطعامه، وثلث يهدي منه، وثلث للفقراء يتصدق بها عليهم. وجاء في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ ثوبان: (أصلح لحم هذه الشاة، فأكل منها صلى الله عليه وسلم حتى قدم المدينة)، وفي سنن أبي داود: (أنه أكل صلى الله عليه وسلم من الأضحية التي ذبحها، وتصدق منها صلى الله عليه وسلم، وأكل منها متزوداً من خروجه من مكة إلى المدينة صلوات الله وسلامه عليه). وجاء عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه يقسم الأضحية أثلاثاً، قال الإمام مالك: ليس عندنا في الضحايا قسم معلوم موثوق، بمعنى أنه ليس شرطاً أنها تقسم ثلاثة أثلاث، لكن يجوز أن يتصدق بها جميعاً، وإن كان الأفضل أن يأكل منها، وأن يهدي منها، فيأكل منها شيئاً، ويهدي منها شيئاً، ولكن الصدقة تكون بالأكثر. والإمام الشافعي كان يرى أن النصف للأكل والهدايا، ويتصدق بالنصف لقوله سبحانه: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:28]، وكأن الآية قسمتها قسمين، للأكل وإطعام البائس الفقير، وقال مرة: يأكل ثلثاً، ويهدي ثلثاً، ويطعم ثلثاً، لقول الله عز وجل: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج:36]، فالقانع السائل الذي قنع بالسؤال، والمعتر الذي يمر بك ولا يسأل، ولكن ينظر إلى الطعام، وقد يكون محتاجاً وقد لا يكون، فيهدي له، فأخذ الشافعي من هذه الآية: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج:36] أنها تجزأ أثلاثاً، ثلث تأكل منه، وثلث للقانع يعني السائل الفقير الذي يطلب ويسأل، وثلث للمعتر الذي لا يسأل، يعني يعطيه على وجه الهدية أو الهبة. وهل المسافر مخاطب بالأضحية كما يخاطب بها الحاضر؟ الأصل أن الجميع مخاطبون بالأضحية، سواء من كان مسافراً أو حاضراً. والحاج مخاطب بالأضحية مثل غيره، فالراجح أنه يجوز للحاج أن يضحي، وإن كان الهدي في حقه أفضل؛ لأن المكان مكان هدي، لكن المسافر غير الحاج فالأضحية في حقه مشروعة، وإن كان قد يهدي غير الحاج مع من يذهب إلى الحرم كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فيرسل مع رجل من أصحابه هدياً للبيت. والحاج إذا كان متمتعاً أو قارناً عليه هدي القران أو هدي التمتع وهو فرض عليه، لكن إذا كان مفرداً للحج، فليس عليه هدي، ويستحب له أن يهدي على وجه التطوع.

حكم الادخار من لحم الأضاحي

حكم الادخار من لحم الأضاحي قال الإمام القرطبي رحمه الله: اختلف العلماء في الادخار على أربعة أقوال، فروي عن علي وابن عمر من وجه صحيح أنه لا يدخر من الضحايا بعد ثلاث، وهذا جاء عنه صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح، وثبت عنه النسخ لهذا الحديث، فنهى عن ادخار لحوم الأضحية فوق ثلاث، وفي العام التالي سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: (إنما نهيتكم من أجل الدافة)، وذلك أن جماعة من الأعراب نزلوا على النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة وكانوا في مجاعة، وكان أهل المدينة في العيد يذبحون، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس لو ذبحوا وأهدوا الثلث مثلاً وادخروا الباقي أو أهدوا النصف وادخروا الباقي فلن يكفي اللحم جميع من في المدينة من الأعراب ومن أهل المدينة الفقراء؛ فلذلك نهاهم ذلك العام عن الادخار فوق ثلاث، فكل من سيدخر من اللحم سيدخر لثلاثة أيام فقط، وتكون كمية قليلة، والباقي سيوزع على الناس، فيكفي الجميع، فلما سألوه في العام الذي يليه عن الادخار قال: (إنما نهيتكم من أجل الدافة)، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الادخار من أجل المواساة. واختلف العلماء هل هذا الحكم يكون منسوخاً أو أن هذا الحكم موقوف على مثل هذه الحالة، ثم يرفع إذا انتهت هذه الحالة؟ يقول الإمام القرطبي: وهنا مسألة أصولية وهي الفرق بين رفع الحكم بالنسخ، ورفعه لارتفاع علته، فرفع الحكم بالنسخ معناه إلغاؤه، ولا يعود هذا الحكم مرة أخرى، ورفع الحكم لارتفاعه العلة معناه أنه يرجع برجوع العلة، فرفع الحكم بالنسخ مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كنت نهيتكم عن زيارة المقابر، ألا فزوروها فإنها تذكر بالآخرة)، فالنهي عن زيارة القبور حكم منسوخ، يعني ارتفع تماماً ولا يعود مرة أخرى. لكن قوله: (إنما نهيتكم لأجل الدافة)، هذا الحكم انتهى بانتهاء علته، فو رجعت العلة مرة أخرى يرجع الحكم مرة أخرى، فلو وجدت مجاعة في بلد، والناس عندهم أضاحي، فيأكلون منها ويدخرون ثلاثة أيام فقط، وليس لهم الادخار بعد ذلك، حتى يكفي المحتاجين.

حرمة بيع الأضاحي

حرمة بيع الأضاحي قوله سبحانه وتعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:28] من صفات الفقير أنه بائس، وهو من نزل به بؤس ونزلت به شدة، فأمر الله عز وجل أن تطعم البائس الفقير، والفقير قد يكون في شدة، وقد لا يكون في شدة، فهنا قال: {وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:28] يعني الذي بؤسه شديد، فتأكل وتطعم الفقير الذي في شدة شديدة، والفقير المحتاج، والبائس الذي ناله البؤس وشدة الفقر، يقال: بئس يبأس بؤساً إذا افتقر فهو بائس. وتطلق الكلمة نفسها على من نزلت به نازلة من الدهر، يعني مصيبة من المصائب من موت وغيره وإن لم يكن فقيراً، يقال: هذا البائس فلان. وجاء في حديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا فكلوا وادخروا واتجروا) يعني اطلبوا الأجر من الله، وليست من التجارة، ولكن المعنى أطلبوا أجراً من الله سبحانه تبارك وتعالى في ذلك، فأنه لا يجوز للإنسان أن يبيع لحم الأضاحي ولا يبيع لحم الهدايا.

تفسير قوله تعالى: (ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم)

تفسير قوله تعالى: (ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم) قال الله سبحانه تبارك وتعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]، {ثُمَّ لْيَقْضُوا} [الحج:29]، هذه قراءة أكثر القراء، ومنهم قالون عن نافع، والبزي عن ابن كثير وأبو جعفر والكوفيون كلهم، فيقرءونها بالتسكين، وقرأ باقي القراء ورش عن نافع وقنبل عن ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو: (ثم لِيقضوا تفثهم)، والأصل أن لام الأمر مكسورة، ولكن خففت في القراءة الأولى. قال الله عز وجل: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج:29] يعني بعد نحر الضحايا ونحر الهدايا يكمل ما بقي عليه من مناسك الحج، كالحلق ورمي الجمار وإزالة الشعر، والأصل في التفث ما علا على الجسد من أوساخ، قال الأزهري: التفث الأخذ من الشارب وقص الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة، فيزيل عن نفسه ما كان عليه بسبب إحرامه وطول مدته. وإذا نحر الحاج أو المعتمر هديه وحلق رأسه وأزال وسخه وتطهر وتنقى ولبس فقد أزال تفثه. وقوله: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج:29] أي: إذا وجب عليه من النذر شيء، وقراءة الجمهور: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج:29] باللام الساكنة، وابن ذكوان وحده يقرؤها: (ولُيوفوا نذورهم)، وشعبة عن عاصم يقرؤها: (ولْيُفوا نذورهم) وقد مدح الله سبحانه تبارك وتعالى المؤمنين الذين يوفون بالنذر، فهنا أمر بالوفاء بالنذر، ومدح هنالك الموفين بالنذر. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا وفاء لنذر في معصية الله)، يعني يجب عليك الوفاء بالنذر إلا أن يكون النذر في معصية، فمن نذر أن يطيع الله فليطعه كما جاء في الحديث، وقال: (ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه، وكفارته كفارة يمين)، ومثال نذر المعصية أن ينذر أن يضرب فلاناً أو يفعل شيئاً من المحرمات، فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الوفاء بهذا النذر، وأمر أن يكفر عن هذا النذر كفارة يمين. قال: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]، الطواف بالبيت العتيق أنواع، هناك الطواف المستحب مثل طواف القدوم، وهو سنة من سنن القادم إلى بيت الله الحرام، فيطوف عندما يأتي إلى المسجد تحية المسجد، فتحية البيت الحرام أن تطوف طواف القدوم أول ما تقدم عليه. وقد اختلف العلماء هل طواف القدوم واجب أم سنة من السنن؟ فذهب بعض العلماء أنه واجب، وهذا مروي عن الإمام مالك، فلو رجع الحاج إلى بلده بغير طواف الإفاضة سيغني عنه طواف القدوم، والراجح أن طواف القدوم سنة وليس فرضاً، ولا يغني عن طواف الإفاضة، لكن يحل محله طواف الوداع؛ لأن طواف الوداع فرض كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (رخص للحائض أن تنفر دون أن تطوف طواف الوداع) فدل على أن طواف الوداع فرض. فمن نسي طواف الإفاضة الذي هو في يوم العيد فليطف طواف الإفاضة عند الوداع، ويكون لطواف الوداع ولطواف الإفاضة. إذاً: طواف القدوم سنة، وطواف الإفاضة ركن من أركان الحج، وركن من أركان العمرة، وطواف الوداع واجب، وليس ركناً من الأركان، والفرق بين أن نقول: ركن وواجب، أن الركن لا بد أن تأتي به، والواجب إذا لم تأت به وسافرت فعليك أن تجبره بدم، أما الركن فلا يجبر بدم، فلو أن إنساناً في الحج ترك طواف الإفاضة وسافر، فيظل على إحرامه، فيحرم عليه أن يأتي النساء إلى أن يرجع ويطوف طواف الإفاضة، فلو ترك طواف الوداع فيجبره بدم. وطواف الوداع يسمى طواف الصدر، وهو واجب من واجبات الحج، واختلف العلماء هل طواف الوداع واجب في العمرة أم ليس واجباً؟ والراجح أنه سنة في العمرة، لكن في الحج واجب.

معنى البيت العتيق

معنى البيت العتيق قوله سبحانه: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29] وصف الله البيت بأنه عتيق، وكلمة عتيق تحتمل عدة معان أكثرها موجودة في البيت الحرام، قال الله عز وجل: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} [آل عمران:96]، فهو عتيق لكونه أقدم بيوت الله سبحانه وتعالى. ويسمى عتيقاً؛ لأن الله عز وجل أعتق هذا البيت من أن يتسلط عليه الجبابرة، فلا أحد تسلط عليه وتركه الله سبحانه وتعالى، فلما جاء أبرهة لهدم البيت أرسل الله عليه: {طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:3 - 5]، فأعتقه الله عز وجل من تسلط الكفار والجبابرة. وسمي عتيقاً؛ لأنه لم يملك موضعه قط، فلم يملك أحد هذا المكان أبداً لا قبل الإسلام ولا بعد الإسلام، فهو بيت عتيق لأنه لم يملك. وأيضاً هو بيت يعتق الله من يدخلونه من النار، فالحجاج أكثر من يعتقهم الله سبحانه تبارك وتعالى من النار. وقيل: ويسمى البيت العتيق لأنه أعتق من الغرق في الطوفان، فعندما غرقت الأرض كلها في الطوفان، أعتق الله عز وجل البيت، فلم يناله من ذلك شيء. وقيل: العتيق بمعنى الكريم، والعتق في اللغة تطلق بمعنى الكرم، فهو بيت كريم. وقالوا: العتيق صفة مدح تقتضي جودة الشيء، كقول عمر رضي الله عنه: حملت على فرس عتيق، أي على فرس جيد. وكل هذه المعاني موجودة في بيت الله الحرام، فهو أقدم بيت وضع للناس، وهو أشرف وأكرم موضع على الأرض، والله سبحانه تبارك وتعالى عتقه من تسلط الجبابرة عليه، والله عز وجل أعتق العبيد الذين يحجون إلى هذا البيت، فيعتق الله سبحانه رقابهم من النار.

تفسير قوله تعالى: (ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير لهم)

تفسير قوله تعالى: (ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير لهم) قال الله عز وجل: {ذَلِكَ} [الحج:30] يعني فرضكم ذلك، فهو خبر للمبتدأ، أو مفعول لفعل محذوف تقديره: امتثلوا ذلك الذي أمرناكم به من الحج والطواف بالبيت العتيق والوفاء بالنذور وغير ذلك، قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج:30]، فمدح الله سبحانه الذين يعظمون حرمات الله سبحانه تبارك وتعالى، والحرمات المقصود بها هنا أفعال الحج المشار إليها بقوله سبحانه: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]، لأن هذه من الحرمات، ومنها أيضاً تعظيم هذا المكان، واحترام هذا المكان، فعلى الإنسان أن يعظمه فلا يحدث فيه ولا يبتدع فيه ولا يأتي فيه بمعصية ولا فاحشة، والحرمات أيضاً امتثال أوامر الله سبحانه تبارك وتعالى من الفرائض والسنن. {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج:30] فهو خير قدمه وجعله عند الله سبحانه، أو خير أفعل تفضيل بمعنى أن هذا الأعظم والأفضل له والأخير له عند الله سبحانه وتعالى.

معنى قوله تعالى: (وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم)

معنى قوله تعالى: (وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم) قال الله تعالى: {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [الحج:30]، الأنعام هي الإبل والبقر والغنم، فأحلها الله سبحانه إلا ما يتلى عليكم مما ذكره سبحانه في سورة المائدة بقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} [المائدة:3]، فأحل لنا الأنعام إلا ما يكون منها منخنقة أو موقوذة أو نطيحة أو بقية مما أكل السبع، فهذه الأشياء ميتة فلا يحل لنا أن نأكل ما مات من بهائم الأنعام أو ما ذبح لغير الله عز وجل، ويحل لنا ما ذكي شرعاً.

معنى قوله تعالى: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان)

معنى قوله تعالى: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان) قال تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج:30] الرجس يطلق على الشيء القذر، وفي القرآن تأتي كلمة الرجس والرجز، والرجز أصل معناها العذاب، والرجس معناها العذرة والنتن، والرجس تحتمل المعنيين كأنه يقول: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} [الحج:30] يعني القاذورات والنجاسات من هذه الأوثان التي من عبدها أدخلته في رجز من عذاب الله سبحانه وتعالى. قال الله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} [الحج:30] يقال: وثن الشيء إذا أقام في مقامه، فالشيء القائم الذي يعبد من دون الله يسمى وثناً سواء كان من خشب أو من حديد أو من ذهب أو فضة أو صليب، هذا كله من الأوثان، ولذلك قال عدي بن حاتم: (قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب)، كان نصرانياً وقدم على النبي صلى الله عليه وسلم لابساً صليباً من ذهب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ألق هذا الوثن عنك) فسماه وثناً، فالشيء الذي يعبد من دون الله سبحانه تبارك وتعالى على هيئة خشبة أو حديدة أو تمثال هو من الأوثان. ويسمى الصنم وثناً؛ لأنه ينصب ويركز في مكان فلا يبرح عنه، فهو شيء قائم في مكان لا يرفع من هذا المكان الموجود فيه. وسماه رجساً؛ لأنه سبب للرجز وسبب لعذاب الله سبحانه؛ ولأنه أيضاً من القاذورات التي كانوا عليها في الجاهلية، والرجس النجس، فالأوثان نجسة حكماً، وقلوب الذين يعبدونها من دون الله سبحانه وتعالى نجسة، وإن كان التمثال لو مسه الإنسان لا نقول له: انتقض وضوءك أو توضأ، لكن من عبده فقد دخل في قلبه الرجس والنجس وقاذورة الكفر. قال الله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج:30] حرم الله سبحانه وتعالى قول الزور في هذه الآية، وفي الصحيحين من حديث أبي بكرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس فقال: ألا وقول الزور، وشهادة الزور)، كان متكئاً فجلس يعني اشتد غضبه صلى الله عليه وسلم لما ذكر شهادة الزور، فقال ذلك حتى قال الصحابي: (حتى قلنا: ليته سكت!) يعني أشفقوا على النبي صلى الله عليه وسلم من شدة غضبه حين ذكر قول الزور. فالله سبحانه تبارك وتعالى ينهانا عن الشرك بالله سبحانه، وينهانا عن قول الزور وشهادة الزور. ثم قال: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ} [الحج:31]، يعني كونوا مستقيمين لله سبحانه تبارك وتعالى على الحق مبتعدين عن الباطل، وكلمة حنفاء من ألفاظ الأضداد معناها الاستقامة ومعناها الاعوجاج، فأصل معناها حنف عن الشيء بمعنى مال، ولكن صار المعنى الشرعي لها دالاً على الاستقامة، يعني البعد عن الكفر والاستقامة على طريق الله سبحانه تبارك وتعالى. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الحج [30 - 34]

تفسير سورة الحج [30 - 34] لقد أمر الله تعالى بتعظيم حرماته وشعائره وعدم انتهاكها؛ تعظيماً للآمر بها وهو الله تعالى، وجعل تعالى تعظيم حرماته وشعائره دليلاً على تقوى القلب، وشعائر الله هي معالم الدين عموماً، ومنها مناسك الحج، وجميع هذه الأوامر مما يجب تعظيمها طاعة لله، واتباعاً لشرعه.

تفسير قوله تعالى: (ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير لهم)

تفسير قوله تعالى: (ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير لهم) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الحج: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:30 - 31]. ذكر لنا ربنا سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات أن من يعظم حرمات الله سبحانه فذلك خير له عند ربه، وحرمات الله سبحانه وتعالى المقصود بها هنا: أعمال وأفعال الحج المشار إليها في الآية السابقة بقوله سبحانه: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]. وقد تأتي كلمة الحرمات بمعنى العموم، أي: أمر الله سبحانه تبارك وتعالى به في دينه، من أوامر، وفرائض، وسنن، فالذي يعظم أوامر الله عز وجل ويعمل بها، مطيعاً لرب العالمين سبحانه، فهذا له خير عند الله سبحانه، وأفضل له أن يطيع الله سبحانه وتعالى فذلك هو الخير، بل أعظم الخير عند الله سبحانه. قال تعالى: {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ} [الحج:30]، ذكرنا في الحديث السابق: أن الله عز وجل من على عباده بأن أنزل لهم ثمانية أزواج من الأنعام، من الضأن اثنين، ومن المعز اثنين، ومن الإبل اثنين، ومن البقر اثنين، فهذه هي بهيمة الأنعام التي أنزلها الله عز وجل لعباده، خلقها لهم، وجعلها مسخرة تحت أيديهم، يأكلون منها، وينتفعون بألبانها، وأشعارها وأوبارها وأصوافها، وهذا من فضله سبحانه تبارك وتعالى. ثم استثنى فقال: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [الحج:30] يعني: من تحريم الميتة، ومنها الموقوذة، والنطيحة، وما أكل السبع، فهو حرام. قال: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج:30]، فنهانا سبحانه تبارك وتعالى عن عبادة غير الله سبحانه، وسمى الأوثان والأصنام التي يعبدونها من دون الله رجساً، وأصل الوثن: هو التمثال أو الشيء الذي يكون ثابتاً في مكانه، ويكون من خشب أو من حديد، أو من ذهب، أو نحو ذلك، فقالوا: وثن الشيء أي: قام في مقامه، فسمي الصنم صنماً؛ لأنهم يثبتونه في مكانه، ويعبدونه من دون الله سبحانه تبارك وتعالى. فهنا ذم الله الأوثان وقال: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} [الحج:30]، فوصف الأوثان بأنها رجس، وأنها قذر نتن، وأنها شيء يشوش على الناس عقائدهم، ويجعل في قلوبهم الرجس والنجاسة القلبية المعنوية من الشرك بالله سبحانه تبارك وتعالى وغيره. فقال: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} [الحج:30]، فكأنه نهاهم سبحانه تبارك وتعالى عن الرجس عامة، وخاصة الأوثان وما كان مثلها، وبين أن الرجس من الأوثان عبادة لغير الله سبحانه.

خطر شهادة الزور

خطر شهادة الزور ذكر الله شهادة الزور بعد الرجس من الأوثان وبين أن شهادة الزور شيء فاحش، فذكره هنا وكأن شهادة الزور، عدلت الشرك بالله سبحانه فذكرت معه، وشاهد الزور لا يقال: إنه مشرك وخارج من الدين، ولكن إثمه عظيم جداً، والإنسان الذي يشهد الزور يكون الضرر منه، ليس على نفسه فقط، ولكن يكون ضرره على الإنسان المظلوم الذي شهد عليه زوراً وظلماً، وهذا الإنسان المظلوم قد يقام عليه الحد ظلماً وزوراً، أو يؤخذ ماله، أو يسفك دمه ظلماً وزوراً، فضرر شاهد الزور متعدٍ، ويراه الناس وكأنه يشهد بحق أمام القاضي، وأنه عدل، فيحكم القاضي بما يقول هذا الشاهد، فيضر الآخرين. ولذلك لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شهادة الزور، وهو يتكلم عن أكبر الكبائر، قال: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى. يا رسول الله! قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس) صلى الله عليه وسلم، لما وصل عند ذكر شاهد الزور، وكان متكئاً فجلس، وكأنه لما استحضر حال شاهد الزور غضب (وقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور)، كررها ثلاث مرات صلوات الله وسلامه عليه، فغضب حين استحضر كيف يفعل هذا الإنسان، فيري الناس أنه صادق وحقيقته أنه كذاب، يضر إنساناً مظلوماً، ويضيع عليه حقه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا وقول الزور وشهادة الزور، ألا وقول الزور وشهادة الزور، ألا وقول الزور وشهادة الزور)، قال الصحابي راوي الحديث: (فما زال يقولها -يعني: يكرر هذه الكلمة- حتى قلنا: ليته سكت) يعني: أشفقوا على النبي صلى الله عليه وسلم من شدة غضبه حين تذكر شاهد الزور، فتمنوا لو أنه اكتفى بذلك وسكت؛ وذلك منهم شفقة على النبي صلوات الله وسلامه عليه.

تفسير قوله تعالى: (حنفاء لله غير مشركين به)

تفسير قوله تعالى: (حنفاء لله غير مشركين به) قال تعالى: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31] أي: كونوا حنفاء مستقيمين على دين الله، مسلمين لله، مائلين عن الباطل إلى الحق، كما ذكرنا في الحديث السابق أنها من ألفاظ الأضداد، يعني: أنها تطلق على المعنى وعلى ضده فأصلها من الحنف، والحنف: الميل، وهنا المقصود منها: الاستقامة، يعني: البعد والميل عن الباطل، والاستقامة على الحق. قال تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31] أي: أن الإنسان المشرك بالله سبحانه وتعالى يوم القيامة هو بمنزلة من لا يملك لنفسه شيئاً، وهو في الدنيا قد يظن أنه يملك شيئاً، ولكنه يوم القيامة لا يملك أي شيء، وحاله كطير خر من السماء، أو كشيء وقع من السماء، فإذا بالطيور الجوارح تأتي عليه وتتخطفه من كل مكان، ولا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا يدفع عن نفسه ضرراً ولا عذاباً. وقوله تعالى: {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} [الحج:31] بالتخفيف قراءة الجمهور، وقراءة المدنيين نافع وأبي جعفر: (فتخطَّفه الطير) بتشديد الطاء، يعني: أنها تأخذ منه وتقطعه بمخالبها، وقيل: إن هذا يكون عند خروج روحه، فالإنسان الكافر وكذلك الفاجر تخرج روحه بصعوبة وبشدة، وتتمزق والملائكة يخرجونها من داخله، وبعد ذلك يصعدون بها إلى السماء، فإذا استفتحوا بروحه السماء لم يفتح له، فتلقى من السماء، وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أنها تلقى من السماء، وتلا هذه الآية: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31])، (تهوي) يعني: تسقط به الريح، (في مكان سحيق) أي: مكان بعيد كأن الريح طارت به وأوقعته في جب عميق بعيد قعره. قال سبحانه تبارك وتعالى: {فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31] المعنى: أن الإنسان المشرك بالله له عذاب عظيم جداً، لا يقدر أن يدفع عن نفسه هذا العذاب، كما لا يقدر الذي خر من السماء وتناوشته الطير وتخطفته أن يدافع عن نفسه.

تفسير قوله تعالى: (ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب)

تفسير قوله تعالى: (ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]، إن تعظيم شعائر الله من تقوى القلوب، والشعائر جمع شعيرة، والشعيرة أصلها: العلامة، وشعائر الدين: أعلام الدين ومعالمه العظيمة، فعلى الإنسان أن يعرف أن هذا الدين هو دين التوحيد، ويعظم توحيد الله سبحانه تبارك وتعالى، وأن يعلم أن هذا الدين من أركانه: الصلاة، والصوم، والزكاة، والحج، ويجب عليه أن يعظم هذه الأركان التي فرضها الله سبحانه، فمثلاً الإنسان الذي يحج بيت الله الحرام، هو بذلك يقيم أعظم المناسك، وأعظم الشعائر وهو أنه يعظم توحيد الله، ويعظم مناسك الحج، ويعظم ما يهدى إلى البيت من بدن هي من معالم الحج، فتعظيم دين الله سبحانه دليل على تقوى قلب الإنسان، قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32] فإن الفعل نفسه وهو التعظيم من تقوى القلوب، أو أن الشعائر التي يستقر في القلوب تعظيمها هي من تقوى القلوب. إذاً: الضمير في الآية: {فَإِنَّهَا} [الحج:32] يعود على الشعائر، أو على فعل تعظيم هذه الشعائر، وأن ذلك من تقوى قلوب من يفعلها.

وقت ذبح الهدي ومكانه

وقت ذبح الهدي ومكانه {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:33] ومعنى محلها كأنه مأخوذ من إحلال المحرم، فكأن المعنى محل الشعائر، إما على المعنى الواسع وهو: طاعة الله سبحانه تبارك وتعالى، أو على المعنى الضيق وهو: مناسك الحج. وقوله تعالى: {مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:33] المراد بذلك: طواف الإفاضة، يعني: بعد أن تحرم، وتطوف، وتسعى، وتقف يوم عرفة، وبعد أن تذهب إلى المزدلفة، وترجع إلى منى، وترمي الجمار، ترجع لتطوف بالبيت، فالآن تحل الحل الكبير، فبطواف الإفاضة يحل الإنسان الحل كله، فقالوا: المعنى: أن شعائر الله في الحج، من الوقوف بعرفة ورمي الجمار، والسعي، تنتهي بطواف الإفاضة، فعلى ذلك يكون هنا محلها، أي: نهاية الإحلال من شعائر الحج ومناسكه. وقال الإمام الشافعي: المقصود هنا بقوله تعالى: (محلها) البدن نفسها، يعني: مكان ذبحها، وأنها تذبح في الحرم، فمعنى قوله: {مَحِلُّهَا} [الحج:33] أي: إلى الحرم، وهذا بناء على أن الشعائر هي: البدن.

تفسير قوله تعالى: (لكم فيها منافع إلى أجل مسمى)

تفسير قوله تعالى: (لكم فيها منافع إلى أجل مسمى) قال تعالى: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} [الحج:33] أي: في هذه المناسك منافع، منها: سوقكم الهدي إلى البيت، فلكم فيها منافع إلى أجل مسمى، فالإنسان الذي يسوق الهدي من إبل، أو من بقر، أو من أغنام، فهذا دليل تقوى قلبه، فإنه إنما يسوقها معظماً لشعائر الله سبحانه، وله أن ينتفع بها، فيأخذ من لبنها ما يحتاج إلى شربه، ويركب عليها إذا احتاج إلى ذلك حتى يصل بها إلى مكان نحرها وذبحها. فقال سبحانه: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} [الحج:33] أي: في البدن التي تساق إلى بيت الله الحرام، من الركوب، ومن الدر، ومن النسل، ومن الصوف وغير ذلك مما يحتاج إليه حتى يصل بها إلى بيت الله الحرام. وجاء في الصحيح من حديث أبي هريرة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسوق بدنة) يعني: أنه رآه يسوق جملاً أو ناقة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اركبها)؛ لأن الرجل ناله جهد، ونالته مشقة شديدة، ومع ذلك فهو من تعظيمه لهذه الشعيرة يمشي خلف ناقته ولا يريد أن يركبها، وقد أنهكه التعب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم مشفقاً عليه: (اركبها)، فهذه من ضمن المنافع، فقال الرجل: (إنها بدنة) يعني: هذا هدي لبيت الله الحرام، فكيف أركبه؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اركبها)، فأذن له بذلك، فقال الرجل: إنها بدنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ويلك أو ويحك اركبها)، فأمره بركوبها، وهذا دليل على أن الإنسان إذا احتاج لركوب البدنة ركبها، وإن احتاج لصوفها، أو إلى شرب لبنها، فله أن ينتفع بها إلى أن يصل إلى بيت الله الحرام. وقد جاء في الحديث الآخر في صحيح مسلم قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهراً) يعني: إن احتجت إلى ذلك، وتعبت ومعك الجمل الذي أنت ذاهب به إلى بيت الله الحرام لتنحره هنالك، فلك أن تركبه بالمعروف إذا كنت محتاجاً، وأما إذا لم تكن محتاجاً فلا داعي للركوب. قال سبحانه: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:33]، والأجل المسمى: يوم الذبح، وأما قبل ذلك فلكم فيها منافع.

وقت ذبح الهدي ومكانه

وقت ذبح الهدي ومكانه {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:33] ومعنى محلها كأنه مأخوذ من إحلال المحرم، فكأن المعنى محل الشعائر، إما على المعنى الواسع وهو: طاعة الله سبحانه تبارك وتعالى، أو على المعنى الضيق وهو: مناسك الحج. وقوله تعالى: {مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:33] المراد بذلك: طواف الإفاضة، يعني: بعد أن تحرم، وتطوف، وتسعى، وتقف يوم عرفة، وبعد أن تذهب إلى المزدلفة، وترجع إلى منى، وترمي الجمار، ترجع لتطوف بالبيت، فالآن تحل الحل الكبير، فبطواف الإفاضة يحل الإنسان الحل كله، فقالوا: المعنى: أن شعائر الله في الحج، من الوقوف بعرفة ورمي الجمار، والسعي، تنتهي بطواف الإفاضة، فعلى ذلك يكون هنا محلها، أي: نهاية الإحلال من شعائر الحج ومناسكه. وقال الإمام الشافعي: المقصود هنا بقوله تعالى: (محلها) البدن نفسها، يعني: مكان ذبحها، وأنها تذبح في الحرم، فمعنى قوله: {مَحِلُّهَا} [الحج:33] أي: إلى الحرم، وهذا بناء على أن الشعائر هي: البدن.

تفسير قوله تعالى: (ولكل أمة جعلنا منسكا)

تفسير قوله تعالى: (ولكل أمة جعلنا منسكاً) قال سبحانه: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:34]، ((وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا)) قرئت (منسَكا) وهي قراءة الجمهور، و (منسِكاً) بكسر السين وهي قراءة حمزة والكسائي وخلف، والمعنى على القراءتين واحد، والمنسك له عدة معانٍ، وكلها داخلة تحتها، فمن معانيها: الشرائع يعني: جعلنا شريعة لكل أمة، وإن كانت كل الأمم مجتمعة على التوحيد، فإن كل الرسل أمرهم الله أن يدعوا إلى عبادة ربهم سبحانه، كما قال تعالى: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] فالكل يدعوا إلى دين واحد وهو: دين الإسلام والاستسلام لرب العالمين، والطاعة، والإذعان، والخضوع لله سبحانه وتعالى، ولكن جعل لكل منهم شرائع، وكيفيات مختلفة في حجهم وغير ذلك، وجعل لكل أمة منهم منسكاً. ومن معاني المنسك: الذبح. ومن معانيه أيضاً: الطاعة، أو طرق الطاعة، وكيفيتها. وذكروا من معاني المنسك: أنه موضع الذبح. وقالوا: المنسك: هو أصل المكان المعتاد للشيء، فالمناسك: هي الأماكن التي يعتاد الذهاب إليها في أوقات الحج. وكذلك قالوا في معنى: (منسكاً): مذهباً، يعني: من طاعة الله سبحانه تبارك وتعالى، فكل أمة شرع الله عز وجل لهم كيفية في العبادة. قال سبحانه: {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:34] أي يذكرون اسم الله عز وجل على بهيمة الأنعام، يعني: أنهم حين يرونها يكبرونه، وحين يذبحونها يسمونه، ويكبرونه سبحانه.

الاستسلام في كل أمر لله

الاستسلام في كل أمر لله قال سبحانه: {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا} [الحج:34] أي: وإن اختلفت شرائع الأمم، فهؤلاء يزيدهم أوامر، وهؤلاء يضع عنهم آصاراً وأغلالاً، وغير ذلك، ولكن في النهاية فإن الجميع مأمورون بطاعة الله، وبعبادته على الدين الذي شرعه سبحانه. {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الحج:34] أي: فلا إله إلا الله، ولا معبود بحق إلا الله سبحانه تبارك وتعالى. {فَلَهُ} [الحج:34] أي: وحده لا شريك له. {أَسْلِمُوا} [الحج:34]، وهذا دين الإسلام الذي أمر الله به عباده، وأمر به الرسل أن يسلموا أنفسهم لله رب العالمين. وعلى العبد أن يكون كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام:162 - 163]، فهنا أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر الأنبياء من قبله، أن تكون حياتهم كلها طاعة لرب العالمين، فخصص في قوله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} [الأنعام:162]، ثم عمم بقوله: {وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي} [الأنعام:162] أي: كل شيء في حياتي يكون لله رب العالمين، فالإنسان تكون حياته كلها عبادة لله سبحانه، بصلاة أو صوم، أو أي عبادة تعمل، سواء في قيامه أو في نومه فهو يعبد الله في ذلك، فهو ينام ليستريح فيقوم ليكمل عبادة رب العالمين سبحانه. وكذلك إذا أشغل لعمله فهو يريد أن يتحرى الحلال، فيعبد الله عز وجل بطاعته، وذلك باجتنابه المحرمات، مستحضراً الخوف من الله سبحانه، فهذه أيضاً عبادة لرب العالمين سبحانه. وكذلك يتعبد لله بصلاته، بصومه، بزكاته، بحجه، باعتكافه، بنذره، بجهاده، بأمره بالمعروف بنهيه عن المنكر، إذاً: يكون عمله كله عبادة لله رب العالمين، فقال تعالى هنا: {فَلَهُ} [الحج:34] أي: الإله الواحد لا شريك له. {أَسْلِمُوا} [الحج:34] أي: استسلموا له، وسلموا إليه قلوبكم وأبدانكم، ووجهوا وجوهكم له وحده. {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} [الحج:34]، والإنسان المخبت هو: المطيع المتواضع، الخاشع لله سبحانه، وأصل الخبت هو: ما انخفض من الأرض، ومنه: الأرض المخبتة، وهذه أرض خبت أي: فيها انخفاض، فعلى الإنسان أن يتواضع ويذلل نفسه لله رب العالمين. فقوله: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} [الحج:34] أي: يبشر المتواضعين لله سبحانه. وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من تواضع لله رفعه الله). إن الله عز وجل يبشر هؤلاء هنا، وهم المتواضعون الخاشعون من المؤمنين، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الحج [34 - 36]

تفسير سورة الحج [34 - 36] أمر الله تعالى جميع الأمم أن يوحدوه، وجعل لكل أمة منسكاً وعيداً ليذكروا اسم الله فيه على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، وأمر الله رسوله أن يبشر المخبتين بكل خير في الدنيا والآخرة، وهم الخائفون من الله الصابرون على أقدار الله، المقيمون الصلاة والمنفقون مما رزقهم الله.

تفسير قوله تعالى: (ولكل أمة جعلنا منسكا)

تفسير قوله تعالى: (ولكل أمة جعلنا منسكاً) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الحج: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الحج:34 - 36]. ذكر الله سبحانه تبارك وتعالى أنه جعل لكل أمة منسكاً أي: ذبائح يذبحونها وطاعات يفعلونها متقربين بها إلى ربهم سبحانه تبارك وتعالى، وكل أمة شرع الله عز وجل لهم عبادات يعبدون الله سبحانه تبارك وتعالى بها، فالذبائح كانت لكل أمة من الأمم يتقربون لله عز وجل بذبحها. والنسك يأتي بمعنى العبادة والطاعة لله سبحانه تبارك وتعالى، فالأمم كلها وإن اختلفت شرائعهم يتفقون في أمر توحيد الله سبحانه وعبادة الله وحده لا شريك له. قال الله: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:34]، فالغرض من الذبح هو ذكر اسم الله سبحانه تبارك وتعالى. ثم قال: {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} [الحج:34] الإله واحد فاعبدوه وحده لا شريك له، متقربين إليه بالصلاة، وبالذبح، وسائر الطاعات؛ فإذا أسلمتم لله عز وجل وأخبتم أي: أطعتم الله وتواضعتم وخشعتم لله سبحانه فلكم البشارة، قال: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} [الحج:34].

تفسير قوله تعالى: (الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم)

تفسير قوله تعالى: (الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) هؤلاء المخبتون المتواضعون الخشع من المؤمنين من صفاتهم: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الحج:35]، فذكر الله أربعة أوصاف لهؤلاء المخبتين المؤمنين المطيعين لله سبحانه تبارك وتعالى، فمن أوصافهم: أنهم إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، والوجل: شدة الخوف والرهبة من الله سبحانه تبارك وتعالى، فالمؤمن إذا ذكر الله يهتز قلبه ويقشعر جلده ويخاف من الله سبحانه تبارك وتعالى، وعلم أنه ملاق ربه فاستعد ليوم الحساب والجزاء. وقد حصر الله عز وجل هذا الوصف في المؤمنين فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الأنفال:2 - 3]، وهنا ذكر هذه الأوصاف فقال: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحج:35]، وقال الله سبحانه تبارك وتعالى في سورة الزمر: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23] فالمؤمنون صادقون مع الله سبحانه يخافون ربهم، يقرءون القرآن فتقشعر جلودهم وأبدانهم، وتلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله، فهم يعودون ويرجعون إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، وكلما سمعوا ذكر الله اهتزت قلوبهم، فلما ذكروا الله ذكروا عذابه فخافوا، وذكروا رحمته فلانوا لله سبحانه تبارك وتعالى، {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23].

الصبر

الصبر ثم قال في هذه الآية: {وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ} [الحج:35] هذا وصف آخر لهم، الصبر على ما أصابهم من أقدار الله سبحانه تبارك وتعالى، صبروا على الطاعة، وصبروا عن محارم الله سبحانه، وصبروا على القضاء والقدر، فما قدره الله عز وجل عليهم رضوا به، فهم راضون عن الله سبحانه، فلما كان عند وفاتهم رضي الله عنهم ورضوا عنه، ولما لقوا ربهم يوم القيامة رضي عنهم ورضوا عنه، فقال هنا سبحانه: {وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ} [الحج:35] والإنسان المؤمن مبتلى، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، ويبتلى الرجل على قدر دينه؛ فإن كان في دينه شدة زيد له من البلاء، وإن كان في دينه رقة قلل له من البلاء) بحسب دين المؤمن يبتلى، فيزيد الله عز وجل بلاء الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام؛ لأن درجاتهم عظيمة عند الله سبحانه، فيرفع درجاتهم بالصبر على هذا البلاء؛ لذلك الإنسان إذا رأى صاحب مصيبة ما يقول: هذا يستحق، انظروا ماذا عمل، فلعل هذا المبتلى يكون له أجر عظيم عند الله، ويكون له درجة لم يبلغها بعمله، فالله ابتلاه بالصبر، فالمؤمنون يصبرون على أوامر الله سبحانه، وعلى أقدار الله سبحانه، وعما نهى الله عز وجل عنه.

إقامة الصلاة

إقامة الصلاة قال الله: {وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ} [الحج:35] لم يذكر أنهم يصلون فقط، ولكن ذكر أنهم أقاموا الصلاة، يعني: يعدل صلاته ويستقيم عليها، فأقامها من إقامة القدح وهو الذي يكون في السهم، فيقيمه بأن يعدل الحديدة التي سيجعلها سهماً يرمي به، ولو كانت معوجة لا تصل إلى هدفها، فالصلاة إذا كانت معوجة، وإذا كانت فيها اختلاس يختلسه الشيطان من العبد، وإذا كانت الصلاة ينقرها الإنسان كنقر الغراب؛ فلم يقمها كما أمر الله عز وجل، بل نقص من صلاته حتى تضيع منه هذه الصلاة، فالمؤمن يقيم صلاته كما أمره الله سبحانه، ويستقيم عليها ويداوم عليها، ويحسن صلاته.

الإنفاق

الإنفاق قال الله سبحانه: {وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الحج:35]، فرزقهم الله عز وجل فعرفوا فضل الله عز وجل عليهم، وعرفوا أن هنالك من حرم فيعطون هذا المحروم، ولو شاء الله لحرمهم، فالإنسان المؤمن كيس فطن يتفكر ويتدبر ويتأمل، فالله أعطاني، وحرم فلاناً ولو شاء الله لعكس الأمر فأعطاه وحرمني، فبما أنه أعطاني فسأجود بما أعطاني الله سبحانه تبارك وتعالى، وأعطي هذا الإنسان المحتاج، والمؤمن موقن أن المال مال الله، والله جعل العباد خلفاء في الأرض كما قال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30] إنسان يخلف غيره، ويخلفه غيره، فالناس خلفاء في الأرض، إنسان يعيش فترة يستمتع بهذه الدنيا ويعبد ربه سبحانه تبارك وتعالى، ثم يموت ويخلفه غيره حتى يرث الله الأرض ومن عليها سبحانه تبارك وتعالى؛ فإذا كان الإنسان مستخلفاً في الأرض وما هو مالك لهذه الأرض، بل يعيش فيها فترة من الزمن، ثم يمضي ويتركها، ويأتي غيره، والناس يخلف بعضهم بعضاً على هذه الأرض، والمال الذي مع الإنسان سيتركه يوماً من الأيام لغيره؛ فلينفق من هذا المال حيث يريد الله سبحانه تبارك وتعالى، فلينفق على نفسه وعلى عياله، وعلى زوجته، وعلى الأقربين، لينفق في طاعات الله سبحانه تبارك وتعالى، وليؤد زكاة ماله، وليؤد الحقوق التي فرضها الله عز وجل عليه من واجبات ومستحبات.

الخشية من الله

الخشية من الله المؤمنون يعرفون الحقوق وينفقون فيما يرضي الله سبحانه تبارك وتعالى، فمدحهم الله بهذه الصفات، وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الصفات يخشعون لذكر الله سبحانه تبارك وتعالى، وعندما تتلى عليهم الآيات يبكون، وكان قدوتهم النبي صلوات الله وسلامه عليه، عندما كان يقرأ القرآن يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل من خوفه من الله عز وجل، ومن بكائه وكتمه لهذا البكاء، فيسمع الصوت من صدره، وليس من فمه صلوات الله وسلامه عليه، فكانوا يسمعون لصدره أزيزاً كأزيز المرجل. وجاء في الصحيح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (إن الناس سألوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه في المسألة) يعني: يوم من الأيام رجل سأل النبي صلى الله عليه وسلم، ثم الثاني سأل، ثم الثالث سأل، وكان يكره السؤال صلى الله عليه وسلم، وكان يقول: (إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)، فلعل الإنسان يسأل عن شيء فيحرم على الناس من أجل مسألته، ومن كثرة التدقيق والأسئلة لعلهم يسألون عن أشياء لا يحل لهم أن يسألوا عنها، مثل الرجل الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (أين أبي؟) أبوك قد مات فلماذا تسأل هذا السؤال؟ فلما سأل عن هذا قال له: (في النار)، فلو قال الثاني: أين أنا ويجيء وحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأن هذا في النار فتكون الفضيحة في الدنيا، فلما أكثروا من السؤال غضب النبي صلى الله عليه وسلم وقام ووقف على المنبر صلوات الله وسلامه عليه فقال للناس: (لا تسألوني عن شيء إلا بينته لكم ما دمت في مقامي هذا) وكان هذا القول منه قول غضب، والله عز وجل أوحى إليه بذلك، يعني اتركهم يسألوا وأجبهم عن الأسئلة التي يسألون عنها بما فيها، فلما رأوا غضب النبي صلى الله عليه وسلم وأن هذه مصيبة من المصائب جلسوا يبكون، يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: (فلما سمع ذلك القوم أرموا ورهبوا أن يكون أمر قد حضر) يعني خشوا أن تكون مصيبة تحضرهم في هذا المقام، فرجعوا إلى أنفسهم وسكتوا، يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: (فجعلت ألتفت يميناً وشمالاً فإذا كل إنسان لاف رأسه في ثوبه يبكي)، انظروا عقل الصحابة رضوان الله عليهم وإيمانهم، لما قال لهم: اسألوا، علموا أنهم أخطئوا في حق النبي صلى الله عليه وسلم، فجلسوا يبكون فيما بينهم وبين الله عز وجل، وليس رياءً، بل كل واحد مغطي رأسه بثوبه يبكي بينه وبين الله عز وجل، نادم على ما قال للنبي صلى الله عليه وسلم، فهذه أحوال الصحابة رضوان الله عليهم، ولعل بعضهم يخطئ في الشيء فيقوم الباقي يذكرونه فيرجعون إلى الله عز وجل تائبين منيبين إليه خاشعين، فمدحهم الله عز وجل على خشوعهم، وهنا ذكر المؤمنين فقال: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ} [الحج:35]، ومدح الله عز وجل الذين يدخلون في هذا الدين من قسيسين ورهبان بأنهم يعرفون أن هذا الدين هو الحق، ويعرفون ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم ولا يستكبرون؛ فإذا عرفوا الحق بكوا من ذلك، يقول الله عز وجل: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة:83]، وهؤلاء هم الذين عرفوا بشارات النبي صلى الله عليه وسلم وانتظروا بعثته، فلما سمعوا ما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم عرفوا صدق ذلك من كتبهم، فدخلوا في هذا الدين ولم يستكبروا، أما غيرهم ممن رفضه فقد استكبروا عن دين الله سبحانه تبارك وتعالى، فقال الله عن هؤلاء: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} [المائدة:83 - 84] لماذا لا نؤمن وندخل مع القوم الصالحين؟ فمدحهم الله عز وجل على خشوعهم، وعلى إخباتهم، وعلى دخولهم في دين النبي صلى الله عليه وسلم، وهم يعرفون أنه الحق، وكان لهم أجران وليس أجراً واحداً، أجر على أنهم آمنوا بنبيهم عليه الصلاة والسلام، وأجر على أنهم آمنوا بنبينا صلوات الله وسلامه عليه.

تفسير قوله تعالى: (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله)

تفسير قوله تعالى: (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله) قال الله سبحانه: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} [الحج:36] البدن: جعلها الله عز وجل من الشعائر، والبدن من التبدين، وكأن البدن مأخوذ من البدانة، وهي تطلق على الإبل، وكذلك تطلق تجوزاً على البقر، يقال: بدن الرجل إذا سمن، ويقال: بدَّن الرجل إذا كبر في السن، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إني قد بدنت) يعني: كبرت في السن، وقد قال ذلك وهو في سن الستين عليه الصلاة والسلام، فكان في الصلاة ينزل ببطء ويقوم ببطء، فقال للناس: (إني قد بدنت فلا تسبقوني بالركوع والسجود) أي: راعوا عند نزولي فلا تنزلوا قبلي؛ ولذا يجب على المصلي ألا يسبق الإمام بركوع ولا بسجود، ولا يزعم أنه بذلك خاشع لله سبحانه تبارك وتعالى، وكان الصحابة ينتظرون النبي صلى الله عليه وسلم حتى يضع جبهته على الأرض في السجود فيهوون في السجود، فلا ينزل أحدهم قبل النبي صلوات الله وسلامه عليه، فمن الخطأ الذي يقع فيه كثير من إخواننا أنه لا يراعي الإمام الذي يكون ضعيفاً في نزوله أو في قيامه، فترى المأموم يسجد على الأرض والإمام ما قد سجد، فلا تكن مسابقاً للإمام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار)، وكذلك لا ترفع بصرك إلى السماء، ولا تسبق الإمام في الرفع ولا في السجود، ولكن كن بعد الإمام، وأيضاً لا تتخلف عن الإمام كثيراً، فهذا كله من الخطأ، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كبر فكبروا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا) فالفاء هنا للترتيب والتعقيب، فإذا سجد الإمام فاسجد بعده مباشرة، وإذا رفع ترفع بعده مباشرة، وإذا سلم سلم بعده بلا تأخير، فأنت في صلاة الجماعة مع إمام ولست وحدك، وإذا صليت وحدك فأطل ما شئت، لكن وأنت مع الإمام فلا تخالف الإمام في ركوع، ولا في سجود. قلنا: البدن تطلق على الإبل، وقد تطلق على البقر، فهذه البدن جعلها الله عز وجل من شعائر الله. قال: {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} [الحج:36] يعني: بهيمة الأنعام لكم فيها خير، فالإبل تركبونها، وتأخذون من ألبانها، وتأخذون من أوبارها، وتنحرونها لله سبحانه. قال: {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} [الحج:36] يعني: منافع دينية ودنيوية، {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج:36] الأصل في البدن أنها الإبل، فذكر كيفية نحرها، فقال: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج:36] فينحر الجمل وهو قائم، والبقر والغنم تذبح مضجعة على الجانب الأيسر، وأنت تمسك السكين بيمينك وتذبحها، لكن الإبل تنحر قائمة، هذه هي السنة فيها، والنحر هو الطعن بنصل في اللبة يعني: في أسفل رقبة الجمل، وهذه الطعنة تقطع عروق القلب وقد تصل إلى القلب نفسه، فيسرع إزهاق الروح بذلك، وأما الذبح فيقطع العروق التي في الرقبة، وهي عروق القلب، ويقطع الحلقوم والمريء والودجين اللذين في جانبي الرقبة. إذاً: السنة في الإبل النحر وهي قائمة واقفة صواف كما ذكر الله عز وجل، {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج:36] بمعنى: وهي قائمة على ثلاثة قوائم معقولة اليد اليسرى، فإذا أراد نحر الجمل يثني يده اليسرى ويربطها، فيقف على رجلين واليد اليمنى، فإذا طعنه لا يتحرك الجمل، ويسقط على جنبه. قال الله: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج:36] اذكروا اسم الله يعني: تسمون الله سبحانه تبارك وتعالى، أو تذكر اسمه فتقول: باسم الله أو تقول: الله أكبر، فتذكر الله عز وجل وأنت تنحر الجمل، وكذلك وأنت تذبح البقر. وفي صحيح مسلم أن ابن عمر أتى على رجل وهو ينحر بدنته باركة يعني: معه ناقة ينحرها وهي باركة فقال: (ابعثها قياماً مقيدة سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم) وكان ابن عمر يفعل ذلك رضي الله عنه، فعندما كان في شبابه وقوته كان يأخذ الحربة بيده فينحرها في لبتها، فلما أسن عبد الله بن عمر كان يصعب عليه ذلك، بسبب أنه ضعف لكبر سنه، فكان ينيخ الجمل وينحره وهو قاعد. والنحر أو الذبح للأضحية أو الهدي لا يكون إلا بعد طلوع الشمس من يوم العيد، ولا يجوز قبل طلوع الشمس بإجماع العلماء في الأضحية. والأضحية لا تكون إلا بعد صلاة العيد. قال الله سبحانه: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج:36] أي: إذا سقطت على الأرض تأكل منها، قال: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج:36] (فكلوا منها) هذا أمر من الله عز وجل، وحمله جماهير العلماء على الاستحباب، فيستحب أن تأكل منها، وأن تطعم منها. والقانع: هو الذي قنع بالسؤال، يعني: يمد يده ويسأل، والمعتر: هو الذي يعتريك ويمر بك لتراه فتعطيه على وجه الهدية، ومن هنا أخذ العلماء أنك تطعم البائس الفقير ثلثاً، وتهدي للذي لا يسأل ثلثاً، وثلث تأكل أنت منه، فتقسمها أثلاثاً، وما هو شرط أن تكون أثلاثاً متساوية. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الحج [36 - 38]

تفسير سورة الحج [36 - 38] من نعم الله أن شرع للمسلمين شعيرة ذبح الهدي والأضاحي، ليذكروا اسم الله عليها، ويأكلوا منها ويطعموا الفقراء ويشكروا الله، والله لا يقبل منها إلا ما كان خالصاً له، فإنه لا يتقبل إلا من المؤمنين المتقين، فهؤلاء لهم البشرى في الدنيا والآخرة، والله يتولاهم ويحفظهم ويدافع عنهم في الدنيا والآخرة.

تفسير قوله تعالى: (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله)

تفسير قوله تعالى: (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله) الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الحج: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج:36 - 38]. في هذه الآيات من سورة الحج يخبرنا الله سبحانه تبارك وتعالى عن نعمة من نعمه سبحانه تبارك وتعالى على عباده، وهي البدن، فقال: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} [الحج:36]، والبدن هي الإبل، وتطلق أيضاً على البقر، فجعل الله عز وجل بهيمة الأنعام نعماً لعباده يأكلون منها، ويركبون منها، ويستخدمون أشعارها وأوبارها وأصوافها أثاثاً ومتاعاً إلى حين, وجعلها لهم من شعائر الحج فقال: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج:36]، شعار جمع شعيرة، والشعيرة المعلم والمنسك، فهي من بعض شعائر الله، ومن المناسك العظيمة في أيام الحج. قال: {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} [الحج:36] أي: لكم فيها منافع دنيوية، في بيعها وشرائها، والاستفادة من ألبانها ومن وبرها ومن نسلها، وكذلك ركوبها حتى تنحر في محلها. {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج:36]، هذا فيه بيان كيفية نحر الإبل، فإنها تنحر بأن تطعن في لبتها بسكين ونحوه وهي قائمة معقولة اليد اليسرى، يعني: يدها اليسرى مربوطة مثنية إلى ركبتها التي في يدها، بحيث تكون واقفة على ثلاث قوائم فقط، على اليد اليمنى والرجلين، أما اليد اليسرى فتكون مربوطة مرفوعة، فإذا طعنها في لبتها تسقط على الأرض، فهذه من شعائر الله سبحانه تبارك وتعالى، ونحرها يكون على هذه الصفة. والسنة في الإبل أن تنحر، والسنة في البقر والغنم أنها تذبح، ويجوز في البقر النحر. ((فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا)) يعني: سقطت على الأرض بعدما طعنت. قال الله عز وجل: {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج:36] وفي الآية الأخرى قال: {وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:28] فالبائس: الإنسان الذي في ضيق وفي شدة ونزلت به مصيبة من مصيبات الدهر، فأطعموا هذا الإنسان المحتاج، وأطمعوا الفقير، والقانع هو الذي قنع بالسؤال، والمعتر الذي لم يسأل، فكأنك تهدي لهذا المعتر، وتعطي الفقير السائل، وتأكل منها، فتقسم الأضحية أثلاثاً، ولا يشترط أن تكون الأثلاث متساوية، وإذا كان أكثرها في الصدقة هذا الأفضل.

تفسير قوله تعالى: (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها)

تفسير قوله تعالى: (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها) قال الله عز وجل: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37] كان أهل الجاهلية يطلون الكعبة بدماء البدن، ويظنون أنهم يتقربون إلى الله عز وجل بذلك، والدم نجس، ولا يجوز للإنسان أن يلطخ الكعبة بمثل هذه النجاسات، فقال سبحانه تبارك وتعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا} [الحج:37]، قال ابن عباس: كان أهل الجاهلية يطلون البيت بدماء البدن، فأراد المسلمين أن يفعلوا ذلك فنزلت هذه الآية. وقوله: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ} أي: لن يصل إلى الله سبحانه، ولن يستفيد الله سبحانه تبارك وتعالى من ذلك شيئاً، والله الغني عن خلقه وعن عبادتهم، وهو مستغن عن العباد وعبادتهم، قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58]. قال الله: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا} [الحج:37]، قال ابن عباس: أي: لن يصعد إليه، فلا اللحوم ستصعد إلى السماء، ولا الدماء ستصعد إليه، والذي يصل ويصعد إليه التقوى والعمل الصالح، فالله يتقبل عملك الصالح، ويكتب الله عز وجل في كتاب ما عملت من ثواب، أما اللحم أو الدم فلا يرتفع إلى الله، وإنما يرفع ثوابك إلى الله، ويثيبك عليه الله عز وجل بجنته وفضله. والذي يصل ويرتفع إلى الله عز وجل التقوى من العباد أي: ما أريد به وجه الله سبحانه تبارك وتعالى، فذلك الذي يقبله، وذلك الذي يثيب عليه سبحانه تبارك وتعالى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) يعني: إذا عملت العمل بغير نية فلن يقبله الله سبحانه، وإذا عملت العمل بنية صالحة خالصاً لرب العالمين قبله ورفعه إليه سبحانه، ونماه وزاده لك. قوله: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا} [الحج:37] هذه قراءة الجمهور: ((لَنْ يَنَالَ اللَّهَ)) [الحج:37]، وقراءة يعقوب: (لن تنال الله لحومها ولا دماؤها ولكن تناله التقوى منكم) فأنث الفعل باعتبار اللحوم. وقوله: {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ} [الحج:37] أي: من الله عز وجل عليكم بأن سخر لكم بهيمة الأنعام، والله عظيم سبحانه تبارك وتعالى، والإنسان أضعف بكثير من البقرة التي يذبحها، ومن الجمل الذي ينحره، ومع ذلك سخر الله عز وجل هذا الجمل ينقاد لناحره، يأخذ بلجامه، ويسوقه ثم يطعنه، فالله الذي سخر ذلك، ولو شاء ما استطعت أن تغلبه، وقد يهجم الذئب على الإنسان وهو أضعف من الجمل ولا يقدر عليه الإنسان، ويخاف منه، ويفر منه، وكذلك يخاف من النمر والفهد والأسد، ولا يقدر على مواجهتها، فلو شاء الله لسلط الجمل عليه كما سلط عليه هؤلاء، ولكن الله سخر وذلل الجمل، فاعلم أن الله من فضله ومن رحمته سخر لك بهيمة الأنعام، ولو شاء لصعبها عليك ولما جعلها منقادة ميسرة مذللة لك. قال الله: {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ} [الحج:37] أي: هذا التسخير العظيم لتتأملوا في تدبير الله عز وجل للكون، وأن التدبير إلى الله وليس إليكم، وتدبيره بحسب ما يريده الله العزيز القدير سبحانه. وقوله: {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [الحج:37]، فمن السنة عند أن تذبح أو تنحر أن تكبر الله سبحانه تبارك وتعالى، فسخر لكم هذه الأنعام لتذبحوها وتنحروها مكبرين الله، مسمين اسم الله عز وجل عليها، قال: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج:36] يعني التسمية، وقال هنا: {لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [الحج:37]، فتجمع بين التسمية والتكبير، تقول: باسم الله، والله أكبر.

معنى قوله تعالى: (لتكبروا الله على ما هداكم)

معنى قوله تعالى: (لتكبروا الله على ما هداكم) قال الله سبحانه تبارك وتعالى: {لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [الحج:37]، تكبر الله سبحانه تبارك وتعالى شاكراً إياه سبحانه على نعمه العظيمة، وأعظم النعم أن هداكم للإسلام، وأن هداكم ووفقكم لهذه الشعائر، وأن هداكم لذبح بهيمة الأنعام على اسم الله عز وجل ولم تشركوا به غيره. قال: {لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [الحج:37] الهدى فضل منه. ثم قال: {وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج:37] فأنتم أحسنتم في ذلك، فالبشارة من الله سبحانه تبارك وتعالى لعباده الذين أحسنوا، فلهم الحسنى وزيادة، لهم جنة رب العالمين، ولهم زيادة النظر إلى وجهه سبحانه تبارك وتعالى، فبشر المحسنين بالفضل العظيم منه سبحانه تبارك وتعالى.

من أحكام التسمية عند الذبح

من أحكام التسمية عند الذبح في الصحيح عن أنس قال: (ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين) والكبش الأملح الذي لونه أبيض وفيه سواد. وقوله: أقرنين، أي: فيهما قرون، قال: (ورأيته يذبحهما بيده صلوات الله وسلامه عليه، ورأيته وضعه قدمه على صفاحهما) يعني: وضع قدمه على صفحة العنق حتى يثبته على الأرض بحيث يتمكن من ذبحه، قال: (وسمى وكبر)، ففيه أن السنة في الذبح أن تسمي الله عز وجل وتكبر. قال بعض العلماء: التسمية واجبة، وأكثر العلماء أنها مستحبة، وقال بعضهم: لابد أن يسمي الله بهذا الاسم: باسم الله، وجمهور العلماء أنه لا تتعين التسمية بذلك، ويكفي أي اسم من أسماء الله عز وجل الحسنى، مثل باسم الرحمن، أو يقول: الله أكبر فقط، لكن السنة أن يجمع بين اللفظين فيقول: باسم الله، والله أكبر. ومن ترك التسمية عند الذبح متعمداً اختلف العلماء هل تؤكل ذبيحته أو لا تؤكل؟ فإن كان مسلماً ونسي التسمية فالراجح أن ذبحه صحيح، وتؤكل ذبيحته، لكن إذا تعمد ذلك فذهب البعض من العلماء إلى أنها لا تؤكل، وذهب البعض الآخر إلى أنه إذا تعمد ذلك متأولاً فتؤكل ذبيحته، وهذا قول الشافعي، وقال الإمام أحمد: لابد أن يسمي الله عز وجل؛ لقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:121]، فنهى من الأكل مما لم يذكر اسم الله عز وجل عليه. فالأحوط أنه لابد أن يسمي أو يذكر الله سبحانه تبارك وتعالى، ولو بالتكبير فقط. وهل يسمي ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم؟ كره العلماء الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند الذبح، ولكن يذكر الله عز وجل وحده فقط، فهذا محل طاعة لله عز وجل، فيسمي الله عز وجل الذي أمره بذلك: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} [الحج:36]، وما قال: اذكروا اسم أحد مع الله سبحانه تبارك وتعالى، فالمستحب ذكر اسم الله وحده لا شريك له، فيقول: باسم الله والله أكبر، إظهاراً لشعيرة التكبير، وأيضاً لعلك ترى في نفسك قدرة وقوة عندما تذبح هذه الذبيحة، والإنسان قد يتعاظم في نفسه عندما قدر على هذه الذبيحة، فيذكر نفسه بأن الله أكبر سبحانه تبارك وتعالى، فمهما استطعت على ذلك فالله أكبر منك، والله هو الذي مكنك من ذلك، ففي التسمية توحيد الله عز وجل، وفي التكبير تواضع من العبد لربه الذي سخر له ذلك. وهل يقول الذابح: اللهم تقبل مني؟ بعض العلماء أجاز ذلك، والبعض كرهه، فكره ذلك الإمام أبو حنيفة، والجمهور على الجواز وهو الراجح؛ لأنه جاء في الصحيح من حديث السيدة عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذبح الكبشين قال: (باسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد، ومن أمة محمد)، ثم ضحى به صلوات الله وسلامه عليه، ففيه أنه دعا ربه أن يتقبل منه، وأيضاً إبراهيم وإسماعيل عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام لما رفعا قواعد البيت كانا يقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127].

تفسير قوله تعالى: (إن الله يدافع عن الذين آمنوا)

تفسير قوله تعالى: (إن الله يدافع عن الذين آمنوا) قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38] بعد أن بشر المحسنين بالجنة، بشرهم في الدنيا بأنه معهم فقال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]، وقال هنا: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38]، فالله معهم في الدنيا وفي الآخرة، والله يدفع عنهم، والله يدافع عنهم، وهنا قراءتان: ((إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ)) هذه قراءة الجمهور، وقراءة ابن كثير وأبي عمر ويعقوب: (إن الله يدفع عن الذين آمنوا)، فإذا جاء الكفار دافع الله عز وجل عن المؤمنين، وإذا نزلت البلية وجاءت المصيبة دفع الله عن المؤمنين. {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج:38] إذا علمنا سبب النزول عرفنا ما هي العلاقة بين أول الآية وآخرها، قالوا: نزلت بسبب المؤمنين لما كثروا بمكة وآذاهم الكفار، وهاجر من هاجر إلى أرض الحبشة، فأراد بعض المؤمنين في مكة أن يقتل من أمكنه من الكفار ويهرب بعد ذلك، وأراد بعضهم أن يغتال بعضهم أو يغدر بهم في أموالهم، ويحتال عليهم، فنزلت هذه الآية تحذر المؤمنين، وقد ذكرنا أن هذه السورة العظيمة سورة الحج مكية ومدنية، فيها آيات مكية، وفيها آيات مدنية، وهي من السور التي جمعت بين القرآن المكي والقرآن المدني، وهذه الآية يطمئن الله عز وجل المؤمنين بأنه يدافع عنهم، فلا تفعلوا ذلك: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ} [الحج:38] كثير الخيانة، {كَفُورٍ} [الحج:38] يكفر بالله سبحانه تبارك وتعالى، ويجحد نعم الله سبحانه تبارك وتعالى، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ينصب للغادر لواء عند استه بقدر غدرته يقال: هذه غدرة فلان) يعني: يوم القيامة يفضح الإنسان الغدار، فإذا كان المؤمنون في أمان مع الكفار فلا يجوز أن يغدروا بهم فيأخذوا أموالهم، أو يقتلوهم غيلة وغدراً وخيانة، وإنما القتال يكون في الجهاد في سبيل الله سبحانه تبارك وتعالى، {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال:58] حتى يعلموا أنه سيقاتلهم ثم يحدث القتال بين المؤمنين وبين الكفار، أما الغدر والخيانة فالله عز وجل نهى عنها، والنبي صلى الله عليه وسلم الصادق الأمين صلوات الله وسلامه عليه كان في مكة يؤذى عليه الصلاة والسلام، ويفعل المشركون أفضع أنواع الأذى فيه وفي أصحابه صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك كانوا يأتمنونه على أموالهم، فكان عنده ودائع لهؤلاء الكفار في بيته صلوات الله وسلامه عليه، فلما أراد أن يهاجر صلوات الله وسلامه عليه لم يأخذ هذه الودائع والأمانات ويذهب بها ويقول: أخذنا منهم بما فعلوه، مع أنهم جهزوا لقتله صلى الله عليه وسلم أربعين رجلاً، وجلعوا من كل قبيلة رجلاً معه سيف ليقتلوا النبي صلى الله عليه وسلم بضربة رجل واحد، فالنبي صلى الله عليه وسلم أوصى بالأمانات لـ أم أيمن ولـ علي بن أبي طالب؛ حتى تعاد الأمانات إلى أهلها، وخرج مهاجراً إلى المدينة صلوات الله وسلامه عليه ولم يأخذ شيئاً من أموالهم وهم عازمون على قتله صلى الله عليه وسلم! قال الله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج:38]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك). نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(تفسير سورة الحج [39 - 40]) للشيخ: (أحمد حطيبة) (عدد القراء 19) عناصر الموضوع 1 تفسير قوله تعالى: (أذن للذين ي

تفسير سورة الحج [40 - 45]

تفسير سورة الحج [40 - 45] بدأ تاريخ الدعوة الإسلامية بالصبر والكف عن القتال، حماية للدعوة، وصوناً عن الأذى، ولما تمادى الباطل في غيه، وصلب عود الحق، أذن الله لعباده وشرع لهم جهاد أعدائه؛ لردعهم، وكفهم عن تماديهم وغرورهم، ووعد الله عباده المؤمنين بالنصر والتمكين إن نصروا دين الله وتمسكوا بكتابه.

تفسير قوله تعالى: (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا)

تفسير قوله تعالى: (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا) الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: فقد قال الله عز وجل في سورة الحج: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:39 - 41]. لما أخبرنا الله سبحانه تبارك وتعالى عن المؤمنين أنهم أخرجوا من ديارهم وأموالهم وهاجروا في سبيل الله سبحانه بعدما أوذوا وفتنوا وظلموا، فأذن لهم الله سبحانه وتعالى بأنهم مظلومون، وأن الله عز وجل ناصرهم. فقال تعالى: ((أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)) أي: هؤلاء المؤمنون المهاجرون الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق، ولكنهم كانوا يقولون: لا إله إلا الله، ويقولون: ربنا الله. ثم قال سبحانه: ((الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ)) وكأن هذا كالإعلام بفرض الجهاد على المؤمنين، ولأمرهم بدفع الكفار، فإنهم لو تركوا هؤلاء الكفار وما يصنعون بالمؤمنين من أذى ولا يردعهم شيء لزاد طغيانهم في الأرض، فلا يقدر عليهم أحد، ولكن الله سبحانه يدفع أمثال هؤلاء الكفار بالمؤمنين المجاهدين في سبيله، فالجهاد والدفع شريعة ربنا سبحانه وتعالى في الأديان السابقة، وفي دين الإسلام. فالأنبياء يدعون أقوامهم إلى طاعة الله رب العالمين، فيكذب الأقوام، فيشرع الله عز وجل للمؤمنين على ألسنة أنبيائه أن جاهدوا في سبيل الله، فيجاهدون، فينصرهم الله سبحانه وتعالى، فلولا ذلك الجهاد لتمكن الكفار من المؤمنين، ولكان الكفار هم الذين يسودون الأرض، ويفعلون ما يحلو لهم، ولكن الله عز وجل فرض الجهاد؛ تأديباً لهؤلاء الكفار، وإعزازاً لدينه، وإظهاراً للمؤمنين ولشعائر دينه سبحانه وتعالى، ولولا ذلك لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً، فكأن الله عز وجل شرع الجهاد في الأديان السابقة، فجاهد المؤمنون مع أنبيائهم الكفارَ، فجاهدوا مع موسى عليه الصلاة والسلام، وجاهدوا مع إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ومع غيره من الأنبياء. يدفع الله بالجهاد الناس بعضهم ببعض، فيكف به شر الأشرار وكيد الكائدين لدين رب العالمين، وينصر الله عز وجل دينه، فيتمكن العباد المؤمنون مع أنبيائهم من عبادة الله سبحانه تبارك وتعالى. قوله: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} [الحج:40]، الصوامع: أماكن العبادة التي كان يتعبد فيها الرهبان، وهي جمع صومعة، وكانت مختصة برهبان النصارى. والمعنى: أنه لولا جهاد الكفار لما تمكن المؤمنون من النصارى في عهد المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام من أن يعبدوا ربهم سبحانه وتعالى، ولما تمكن المؤمنون الذي كانوا مع موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام من عبادة ربهم سبحانه وتعالى وهكذا. فلولا فرض الجهاد ودفع الله عز وجل الكفار بالمؤمنين {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج:40]. ثم يأتي وعد الله سبحانه بقوله تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ} [الحج:40]، وهذا النصر مقيد بأسبابه التي منها: قوله تعالى: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7]، وقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60]، وغير ذلك من أسباب كالتوكل على الله سبحانه. {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40] أي: أن الله قوي لا يغلبه شيء، وهو العزيز الغالب الذي لا يقهر، فلا يقدر أحد على أن يعترض على أمره؛ لأنه مهما اعترض الإنسان ومهما جحد فإنه يأتي عليه قضاء الله وقدره، فيذله الله سبحانه تبارك وتعالى ويؤدبه، ويرجعه إلى التراب حقيراً ويعذبه ربه سبحانه، وهو لا يملك أن يدفع عن نفسه شيئاً؛ لأن الله قادر على كل شيء، فهو القوي العزيز سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة)

تفسير قوله تعالى: (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة) قال الله سبحانه: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41]، أي: من صفات المؤمن أنه إن مكنه الله عز وجل أظهر دين الله سبحانه وتعالى، وعامل الخلق كلهم بالعدل الذي شرعه الله سبحانه، فلا يظلم أحداً؛ لأنه يخاف من الظلم، بعد أن عرف أن الله قد حرم الظلم على نفسه وجعله بين الناس محرماً، قال صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)، فلا يحل للمؤمن أن يظلم أحداً، وإنما يحكم بشرع الله سبحانه تبارك وتعالى، فيدعو إلى دين الله سبحانه، ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. وهذه هي صفات مجتمع الإسلام العظيم.

شروط التمكين في الأرض

شروط التمكين في الأرض المؤمنون يمكنهم الله عز وجل في الأرض، قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ} [الحج:41]، فهم لا يستعلون على غيرهم ولا يتجبرون ولا يطغون ولا يبطرون، ولكنهم يقيمون الصلاة. ثم قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41]، فهذه علاقة مع الله سبحانه تبارك وتعالى، وعلاقة مع الخلق ذكرها لنا ربنا سبحانه تبارك وتعالى هنا، فعلاقتك مع الله أن على بدنك واجباً، وعلى مالك واجباً، ومن علاقتك مع الله عز وجل إقامة الصلاة، وتأدية الحج وجميع العبادات التي فرضها الله سبحانه من صيام، وجهاد في سبيله، وغير ذلك. فمن صفات المؤمنين أنهم يقيمون الصلاة التي هي أعظم أركان الدين، فيقيمونها، ليس بأنهم يصلون فقط، وإنما هم يصلون ويأمرون غيرهم بهذه الصلاة كما أمر الله سبحانه تبارك وتعالى. ولا يوجد في المجتمع المسلم أحد لا يصلي، إلا أن يكون غير مكلف، كأن يكون مجنوناً أو صغيراً، أو تكون امرأة حائضاً أو نفساء، أما كون المجتمع المسلم يوجد فيه من لا يصلي فلا؛ لأن الذين تمكنوا في الأرض لهم السلطان ولهم الحكم في الأرض، بشرط أن يقيموا الصلاة، وأن يكون شغلهم الشاغل أن يكون الناس مطيعين لرب العالمين سبحانه تبارك وتعالى؛ وذلك بأن يقيموا الصلاة ويأمروا الناس بالصلاة والمحافظة عليها، ويراعوا حدود الله عز وجل في ذلك. فقوله تعالى: {وَآتَوُا الزَّكَاةَ} [الحج:41] أي: بذلوا أموالهم، وأمروا الناس بذلك، فهم في أنفسهم يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، ومع الخلق يأمرونهم بالمعروف أي: جنس المعروف، وينهونهم عن المنكر، أي: جنس المنكر، فيأمرونهم بالصلاة، وبالزكاة، وينهونهم عن معصية الله سبحانه تبارك وتعالى. فإن المؤمن إذا مكنه الله سبحانه من أن يكون حاكماً أو يكون سلطاناً فإنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويقول بالحق أينما كان، وينتظر الأجر من الله سبحانه، ولا ينتظر النتيجة من الناس، مهما بلغ الناس، استجابوا أو لم يستجيبوا؛ لأنه فعل ما يجب عليه من أمر الله سبحانه. قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41] أي: مرجع الأمور إلى الله، والرجوع إلى الله؛ ليحاسب العباد على ما صنعوا وما فعلوا.

حرية الإنسان مقيدة بضوابط الشرع

حرية الإنسان مقيدة بضوابط الشرع إن مجتمع الإسلام فيه الحرية المقيدة بطاعة الله سبحانه، ولا يوجد في الإسلام حرية مطلقة بحيث إن الإنسان يفعل ما يشاء بدون ضوابط، وإنما حريتك محدودة فيما أباحه لك ربك سبحانه، والإنسان العاقل يتأمل في ذلك، فيعرف قدر هذا الإسلام العظيم، وقدر هذا الدين العظيم. إذاً: ليس للإنسان أن يفعل ما يريد، فليس من حقه أن يطلع على ما يريد، أو يتجسس على الجيران وينظر إلى العورات، وإذا اعترض عليه أحد قال: أنا حر، أعمل ما أشاء، وإنما يقول لك الدين: لا، أنت لست حراً، وليست لك حرية إلا أن تنظر إلى ما أحل الله عز وجل لك، فإذا نظرت إلى ما حرم الله عز وجل عليك، عاقبك الله في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا فبالتعزير، فيعزر الإنسان الذي يصنع ذلك. وأما في الآخرة فبالنار والعياذ بالله، ولذلك يجعل الله في قلب الإنسان ما يخيفه ويمنعه من الوقوع في الحرام، فلا يتأذى غيره به. فلو قال شخص: أنا حر، ومشى في الشارع رافعاً صوته ويسب ويعمل ما يريد لقال له الإسلام: لا، لست حراً في ذلك، لا ترفع صوتك فتؤذي غيرك، فإذا فعلت ذلك عزرك الحاكم، وعزرك القاضي؛ لأنك تؤذي غيرك، وحريتك لا تعني أن تؤذي غيرك، ولكن كونك تأكل أنت حر، ومع ذلك بدون إسراف قال عز وجل: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف:31]، فأنت مقيد بعدم الإسراف في الأكل والشرب أيضاً، كذلك تأكل وتشرب مما أحل الله عز وجل لك، وليس مما حرمه الله سبحانه، فتجد أن الإسلام يعطيك حرية، ولكنها مقيدة بشرع الله سبحانه تبارك وتعالى، فأما الحرية المطلقة بحيث تعمل الذي تريده، فلا. وانظر إلى الإنسان عندما يصل إلى الحرية المطلقة التي يريدها فإنه في النهاية يلغي شريعة ربنا سبحانه، ويشرع لنفسه ما يريد، ولا يحكمه في ذلك إلا شهواته وشبهاته، وما يريده من أسباب القوة، حتى لو ضيع غيره. فالإنسان عدو لنفسه ولزوجه ولولده. فإذا نظر إلى شهواته فإنه ينظر إلى مصلحته، ولا يهتم بغيره، ولكن الإسلام جاء ليقيدك بحدود الله سبحانه، فتلك حدود الله فلا تعتدوها. فلا تتعدى الحلال فتقع في الحرام، ولا تقرب من الحرام وإلا أوشكت أن تواقعه وتقع فيه. فحدود الله عز وجل عظيمة، تجعل الإنسان المسلم يستشعر أنه عبد لله سبحانه وتعالى، ويستشعر أنه يحب غيره ويحترم غيره، وأن له حقوقاً وعليه واجبات، كما أن لغيره حقوقاً وعليه واجبات. ولذلك المجتمع المسلم يعيش في تكافل وفي احترام ومحبة، وفي حرية مقيدة بشرع الله سبحانه تبارك وتعالى. وأما الإنسان الكافر فلا شيء يحده، فإذا به يخرج عن دين الله سبحانه، ويريد أن يأخذ ملاذ الدنيا جميعها، فتستعبده شهواته شيئاً فشيئاً، فيحصل على المال ولا يشبع، ويحصل على شهوات الجنس ولا يشبع، ويحصل على شهوات الدنيا إلى غاية النهاية ولكنه يجد نفسه مهموماً ولا يجد في الدنيا راحة، فيريد الموت، فيبدأ الأطباء يخترعون له الموت المريح، ويقولون: إن من حق الإنسان أن يموت موتاً مريحاً، ويصنعون له أدوات للموت؛ ليختار لنفسه كيف يموت، ومتى يموت. فلو ترك الإنسان ونفسه فإنه في النهاية ينتحر ويضيع نفسه ويفني نفسه بنفسه، هذا لو ترك الإنسان وحده، ولكن تأتي شريعة رب العالمين سبحانه لتحافظ له على حياته وعلى بقائه، وعلى دوام الإنسانية، حتى يأتي أمر الله سبحانه تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح)

تفسير قوله تعالى: (وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح) يقول تعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ} [الحج:42] يعني: أنت لست أول رسول يكذبه قومه عليه الصلاة والسلام، فإن يكذبك هؤلاء القوم فقد كذبت قبلهم أقوام: قوم نوح، وقوم عاد، وقوم ثمود، وكل قوم أرسل الله عز وجل إليهم نبيهم ورسولهم عليه الصلاة والسلام يدعوهم إلى الله. فقد رأينا كيف دعا نوح قومه إلى الله ألف سنة إلا خمسين عاماً، ولم يستجب له إلا عدد قليل جداً من هؤلاء الأجداد والآباء والأبناء والأحفاد، قال تعالى: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40]، فالذين ركبوا معه السفينة عدد قليل. وقد نصره الله عز وجل، ونصر من معه من المؤمنين، وأغرق الأرض بمن عليها، فالله سبحانه كأنه يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: نحن نصرنا نوحاً ولم يكن معه إلا عدد قليل، ولكنه صبر وثابر فنصرناه في النهاية. وكذلك عاد، قال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [الأعراف:65] أي: أرسلنا هوداً إلى قومه يدعوهم إلى الله سبحانه، فكذبوه، وقد أنعم الله عز وجل عليهم بالنعم العظيمة، فقال لهم نبيهم عليه الصلاة والسلام: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:128 - 130] يعني: أنهم في غاية القوة والجبروت، وبدلاً من أن يعبدوا ربهم الذي مكنهم استكبروا على خلق الله سبحانه، عصوا وأبوا إلا العناد والاستكبار، فجاءهم عذاب الواحد القهار سبحانه تبارك وتعالى، فإذا به يرسل عليهم حاصباً، أي: ريحاً تقتلع هؤلاء القوم، فجعلهم كأعجاز نخل خاوية. وكذلك ثمود، فقد أرسل إليهم صالحاً يدعوهم إلى الله سبحانه، فطلبوا منه آية يرونها بأعينهم، وانتقوا هذه الآية، بأن تكون ناقة تخرج ومعها فصيلها، والقصة معروفة، فالله عز وجل أعطاهم هذه الآية، فلم يصبروا لأمر الله، ولم يصدقوا رسولهم عليه الصلاة والسلام التصديق الذي يفترض عليهم؛ لأنهم رأوا هذه الآية، وعرفوا أنها آية من عند الله، ولكن مع ذلك لم يدخلوا في دين هذا الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام. قال تعالى حاكياً ذلك: {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ * فَعَقَرُوهَا} [الشعراء:155 - 157]، فلما عقروا هذه الناقة أخبر الله عز وجل أنهم أصبحوا نادمين، ولم ينفعهم ندمهم، وقال لهم رسولهم عليه الصلاة والسلام: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود:65] فهددوا رسولهم إذا لم يأت العذاب بعد ثلاثة أيام، وانتظروا ثلاثة أيام وإذا بالعذاب يأتيهم، فما نفعتهم توبة، وما نفعهم ندم، وأخذهم الله سبحانه وتعالى. إذاً: قوم نوح عليه السلام أغرق الله عز وجل الأرض جميعها بسببهم، وقوم عاد كانوا في جنوب الحجاز، وقوم ثمود في شمال الحجاز. وكان الله عز وجل يقول لأهل مكة: تدبروا شمالكم وجنوبكم وجميع الأرض قد أهلك الله عز وجل الكفار، أفلا تعتبرون؟!

تفسير قوله تعالى: (وقوم إبراهيم وقوم لوط)

تفسير قوله تعالى: (وقوم إبراهيم وقوم لوط) قال الله تعالى: {وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ} [الحج:43]، فقد ناظر إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام النمرود ودعاه إلى الله، بعد أن قال عن نفسه: إنه الرب، وقال: أنا أحيي وأميت. فقال إبراهيم: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة:258]، أي: إن كنت صادقاً فافعل هذا الشيء، فلم يقدر على ذلك، وحرم إبراهيم من الطعام ولم يعطه، وقد جاء ليشتري منه طعاماً فرفض أن يعطيه؛ لأن إبراهيم أفحمه أمام الناس، ورجع إبراهيم، وأهلك الله عز وجل هذا الجبار بجنوده سبحانه وتعالى، فقد أرسل عليه سبحانه وتعالى الدبابير، أو البعوض، فأخذته وأهلكته، فجعله آية للخلق. وكذلك قوم لوط، فقد كان لوط يدعو قومه إلى دين الله سبحانه، وهم في أرض الشام، فدعاهم إلى الله، وكانوا يأتون الفاحشة، قال: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء:165 - 166]، فاستكبروا عليه، {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ} [الشعراء:167] أي: قالوا كما قال قوم نوح لنوح قبل ذلك: {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} [الشعراء:116] فقوم نوح قالوا: نرجمك، وقوم لوط قالوا: نخرجك، فإذا بالله عز وجل يهلك قوم لوط الذين كانوا يأتون الذكران من العالمين، فقال: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} [النجم:53 - 55]. فكانت العقوبة أن أرسل عليهم سبحانه حجارة من سجيل من نار جهنم، فأهلك الجميع وأبادهم، بعدما رفعهم واقتلع أرضهم وقلبها على رءوسهم.

تفسير قوله تعالى: (وأصحاب مدين وكذب موسى)

تفسير قوله تعالى: (وأصحاب مدين وكذب موسى) قال الله تعالى: {وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ} [الحج:44]، أي: قوم شعيب، وكانوا في نعم عظيمة، ومع ذلك كانوا ينقصون الكيل والميزان وهم كفار، فدعاهم شعيب عليه السلام إلى التوحيد فرفضوا، ودعاهم إلى أن يوفوا الكيل والميزان، فقال: {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ * وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [الشعراء:181 - 183]، فأبو ذلك، ثم قال لهم نبيهم: {وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ * قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} [الشعراء:184 - 185] أي: أنت جئت تدعونا، وأنت رجل مثلنا، لك صدر ولك جسد ولك بدن أو (أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) أي: ممن سُحر فلم يعرف الحق من الباطل. يقولون ذلك لشعيب، وكان من أفصح الناس في الدعوة إلى الله سبحانه، وكانوا يقولون له عليه الصلاة والسلام: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود:87] يعني: أنت تزعم أنك حليم وأنك رشيد وأنت سفيه! كانوا يقولون عنه ذلك، فهم يعرضون بالكلام، فإذا بالله عز وجل يهلك هؤلاء الأقوام، بما أرسل عليهم من الرجفة، وبما أرسل عليهم من عذاب. قال الله تعالى: {وَكُذِّبَ مُوسَى} [الحج:44] أي: كذبه فرعون، وقد رأى تسع آيات بينات. قال سبحانه: {فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ} [الحج:44] أي: أمهلتهم وأنظرتهم. فلما أصروا على طغيانهم {أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [الحج:44] ((فكيف كان نكيري)) هذه قراءة يعقوب فقد كان يقرؤها هكذا ويقف عليها بالياء، يعني: كيف كان إنكاري عليهم، أي: كان إنكاراً عظيماً، وكان إنكاراً فظيعاً شديداً، والله عز وجل أنكر عليهم وقال لهم: لا تفعلوا، فنهاهم في البداية ثم أخذهم أخذ عزيز مقتدر، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40]، وقال: {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [الحج:44].

تفسير قوله تعالى: (فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة)

تفسير قوله تعالى: (فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة) قال الله تعالى: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ} [الحج:45] أي: كم من قرية، وهذه فيها قراءتان: قراءة ابن كثير: (فكائن من قرية)، ومثله أبو جعفر ولكن سهل مع المد والقصر، يقول: (فكائن من قرية)، أي: كم قرى كثيرة! {أَهْلَكْنَاهَا} [الحج:45]، بنون العظمة وهي قراءة الجمهور، وقراءة البصريين: أبي عمرو ويعقوب: ((أهلكتُها)) أي: أن الذي تولى إهلاكها الله سبحانه، فإذا به يرسل عليهم ملائكته، ويرسل عليهم العذاب. قال سبحانه: {وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [الحج:45] أي: فبسبب أنهم ظلموا أنفسهم وظلموا غيرهم أهلكهم الله سبحانه. قال: {فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [الحج:45]، الخواء بمعنى الخلاء، أي: أنها خالية، والخواء يأتي بمعنى السقوط أيضاً، فهي خاوية ليس فيها أحد، وهي ساقطة جدرانها على سقفها، أي: أن عروشها ساقطة على سقوفها. وكلمة العروش والعُرش والعَريش بمعنى البناء الذي يكون من خشب أو من غيره، وقد يطلق على الخيمة، أو على الأعمدة التي فوقها سقف، وأحياناً يطلق على العروش البيوت، فقوله هنا: {فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [الحج:45] أي: تكون بمعنى السقوف وبمعنى البيوت، يعني قد تهدمت أو صارت كما هي، وأهلكنا أهلها، فصارت خالية. قوله تعالى: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ} [الحج:45]، فكأنه يقول: إن الهلاك يأتي على المستكبرين أينما كانوا، سواء كانوا في الحضر أصحاب بيوت فسيأتي إليهم العذاب، أو كانوا في البراري أصحاب آبار فسيأتيهم العذاب. فالله عز وجل انتقم منهم؛ بسبب كفرهم وظلمهم، فماتوا وبقيت الآبار على ما هي معطلة لا أحد ينتفع بها، والآبار في الصحراء كنز عظيم جداً، فإن الذي يكون له بئر في الصحراء فإنه ملك في الصحراء، فعندما يوجد البئر يوجد حوله أهله، ويجتمع الناس إليهم. وإذا بهم يكفرون بنعم الله سبحانه، ويكذبون رسل الله عليهم الصلاة والسلام، فيأتيهم العذاب، فيهلكهم الله، وتظل البئر وحدها، عليها بكرتها وحبالها، ولا يوجد أحد يسقي منها، أهلكهم الله، فقال سبحانه: {فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ} [الحج:45] أي: لا تستخدم. قال تعالى: {وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [الحج:45] القصر المشيد: هو مبنى عظيم، أو: مشيد من الشيد، بمعنى الدهان، يعني: مدهون، فجملة أصحاب القصر أهلكهم الله، وبقي القصر على ما هو عبرة للخلق! {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:2]. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من المعتبرين.

تفسير سورة الحج [45 - 48]

تفسير سورة الحج [45 - 48] كم من قرية أهلك الله أهلها لما طغوا وكفروا، ولا تزال آثار كثير من تلك القرى باقية؛ ولذا رغب الله عباده في السير في الأرض والنظر والاعتبار فيما حل بأولئك الكافرين، وليعلم الناس أن الله لا يخلف وعده، وأنه يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.

تفسير قوله تعالى: (فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة)

تفسير قوله تعالى: (فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الحج: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ * وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:45 - 47]. يقول الله سبحانه وتعالى: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [الحج:45]، يخبرنا الله عن أخذه وإتلافه للقرى الظالمة السابقة تخويفاً لهؤلاء الكفار الذين كذبوا النبي صلوات الله وسلامه عليه واستعجلوا عذاب الآخرة: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا} [ص:16]، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: عجل لنا بالعذاب {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} [الحج:47]. ((فَكَأَيِّنْ)) أي: فكم من قرية {أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [الحج:45] قرى كثيرة كذبت المرسلين منها من ذكر الله عز وجل قصتهم في القرآن، ومنهم من لم يخبرنا عنهم {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر:78]. قال سبحانه: {وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [الحج:45] يعني: الإهلاك كان بسبب ظلم أهلها. {فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [الحج:45] خاوية لا أحد فيها أو ساقطة على عروشها، والعروش: السقوف، فسقطت السقوف وهوت فوقها جدرانها. والقرى وصفت بالظلم لظلم أهلها، والمعنى: أن أهلها ظالمون. {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [الحج:45] ذكر الله قرية وبئراً وقصراً، فالقرية: بلد من البلدان، والقصر المشيد هو الذي يكون لملك من الملوك أو كبير من الكبراء، والبئر هي التي تكون لصاحبها أو لمجموعة من الناس لهم اجتماع في مكان، ولهم عدد، وهذا غناهم، وكم يقتتل أناس على بئر في صحراء! هذا يزعم أنه صاحبها، وذلك يزعم أنها من حقه، فالبئر كنز لصاحبها في الصحراء، فهؤلاء الذين استولوا على هذه الآبار، والذين شيدوا هذه الحصون وهذه الديار، والذين كثروا في القرى والأمصار؛ لما عصوا رسل الله سبحانه جاءهم بأس ربهم سبحانه تبارك وتعالى، فجعل القرى خالية خاوية مهدمة على عروشها، والآبار معطلة، وأخذ أهلها وتركوا الآبار لا ينتفع بها أحد. والقصر الذي شيده أهله فبنوه ورفعوه في السماء وجصصوه، ودهنوه وزينوه، إذا بهم يؤخذون منه، ويورثه الله عز وجل لغيرهم أو يتركه خالياً لا أحد فيه، والذي يسير في الأرض ينظر كثيراً من آيات الله عز وجل في ذلك، وما أكثر ما يقال: اكتشفنا آثاراً، اكتشفنا قرية للقدماء المصريين موجودة تحت الرمال، اكتشفنا قرى، وهذه القرى بناها أهلها ليخلدوا، وزعموا أنهم يخلدون، وزعموا أنهم يرجعون إليها، وبعضهم كان يعمل له القبر ويحبس بجانبه جمله، بحيث إن الجمل يموت بجوار القبر، فعندما يرجع مرة أخرى يلقى الجمل ليركب عليه، فلا رجعوا ولا رجعت جمالهم، وإنما يرجعون إلى الله سبحانه تبارك وتعالى ليحاسبهم بأعمالهم. وكم من الناس ينظرون هذه الآيات ولا يعتبرون، بل ينبهرون بهذه الآثار، وينسون أن الله أخذهم أخذ عزيز مقتدر؛ لأنهم كانوا كفاراً ولم يكونوا مؤمنين، وبعض الناس يفتخر بأجداده الفراعنة، ويزعم أنهم أهل حضارة، من الحضر، فالحضر: المدن، وعكسها البوادي، ولا يعتبر أن حضارتهم ذهبت، وذهبت حصونهم، وتهدمت الديار {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [الحج:45].

تفسير قوله تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها)

تفسير قوله تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها) قال الله تعالى مخاطباً الكفار الذين يجحدون نعم الله سبحانه، والذين يكذبون رسل الله عليهم الصلاة والسلام: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] العمى نوعان: عمى البصر وعمى القلب، فإن ذهبت العينان فهذا العمى، وإن ذهبت عين واحدة فهذا أعور وليس أعمى، فهنا ربنا سبحانه وتعالى يقول لنا: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]، وفي سورة الإسراء يقول لنا: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} [الإسراء:72]، يعني من كان أعمى في هذه الدنيا، والمراد عمى القلب، قيل: ذهب عبد الله بن أم مكتوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أنا أعمى، فهل يوم القيامة أكون أعمى؟ فنزلت هذه الآية: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]، فالمقصود عمى الصدور، {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى} [الإسراء:72] أي: أشد عمى، فأعمى أفعل تفضيل، ولا يأتي ذلك في العين، لا يقال: فلان أعمى من فلان؛ لأن هذا أعمى وهذا أعمى، هذا ذاهب البصر وهذا ذاهب البصر، وإنما عمى القلوب يأتي فيه أعمى الذي هو أفعل تفضيل، فهذا أشد عمى من ذلك، هذا في ضلال وذاك في ضلال أشد من ضلال الأول، وذاك أشد ضلالاً من هذا وذاك، فلذلك من كان أعمى في الدنيا فهو في الآخرة أعمى أي: أشد عمى، فالعمى الذي فيه التفاضل ليس هو عمى الأبصار، فعمى الأبصار يستوي، وإنما هو عمى القلوب. وقوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج:46] هل الإنسان يعقل بالقلب أو يعقل بالمخ الذي في رأسه؟ أكثر الناس يقولون: إن المخ هو الذي يعقل، والمخ هو الذي يفكر، والمخ هو الذي يشعر، والمخ هو الذي فيه الأحاسيس وفيه الحب وفيه العاطفة، لكن الله يقول: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] ولا يمكن أن تكون مجازاً أبداً، لأنه قال: (القلوب التي في الصدور)، وهذه حقيقة عجيبة جداً، قال علماء التفسير وعلماء الحديث: القلب هو الذي يعقل؛ لأن الله عز وجل قال ذلك، وعلماء الطب يقولون: لا، القلب لا يعقل، والعقل في المخ. والشيخ الزنداني يذكر في هذه المسألة كلاماً عجيباً فيقول: إنه بقي مدة يتتبع مسألة العمى الذي في القلب، ويحاول ينظر في مراكز زراعة القلوب الموجودة في العالم، ويريد أن يسأل الناس الذين زرعت لهم قلوب: ما هو شعورهم؟ وما هي أحاسيسهم؟ وكيف عيشهم؟ وكان الأمر أنه كلما يذهب إلى مستشفى من هذه المستشفيات يرفض الأطباء أن يجعلوه يتصل بالمرضى، ويمنعون أي إنسان يدخل على المرضى، وذكر أنه قابل أستاذاً في الطب في جامعة الملك عبد العزيز، وذكر له أنه نشر خبراً في جريدة منذ ثلاث سنوات ونصف أنهم اكتشفوا بأن القلب ليس مضخة للدماء فقط بل هو مركز عقل وتعقل. ومرت الأيام وإذا بمركز لتبديل القلوب يفتح بالأردن، فذهب إلى هنالك وعقد مؤتمر صحفي مع أهالي المريض الذي زرعوا له القلب، فقالوا: لو أنكم معنا في البيوت تشاهدون سلوك هذا الذي زرع له القلب ما غبطتمونا على هذا، وذكر بعض الأطباء المتخصصين في هذا الأمر أن صاحب القلب الجديد لا تكون فيه أي عواطف ولا انفعالات، ولا ينفعل بالظروف التي حوله، لا يخاف ولا يحب! وإذا قرب إليه خطراً بدا وكأنه لا شيء يتهدده، ولا يحس بهذا الخطر، ولا يخاف منه ولا يفزعه، بينما القلب الحقيقي يتأثر، وفيه وجدان، وفيه شعور, وفيه خوف، وفيه حب، قال: وإذا قربت منه شيئاً يحبه بدا وكأنك لم تقدم إليه شيئاً، فلا يوجد عنده أي شعور بالمحبة التي كانت موجودة فيه، فيكون كأنه صنم، قلبه بارد غير متفاعل مع سائر الجسد! واكتشفوا أن قلب الإنسان فيه هرمونات عاقلة، ترسل رسائل عاقلة إلى الجسم كله، وأن القلب مركز عقل وتعقل وليس مجرد مضخة، وهذا اكتشفوه قبل ثلاث سنين فقط، وهو في القرآن منذ ألف وأربعمائة سنة! فهذا من الإعجاز العلمي في هذا القرآن العظيم، فهذه حقيقة علمية مذكورة منذ ألف وأربعمائة سنة، ولا يعرفها الناس إلا قبل ثلاث سنين ونصف! يقول سبحانه تبارك وتعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الحج:46]، قلب يعقل ما حوله، ويعرف أن هذا الكون لابد أن له خالقاً سبحانه تبارك وتعالى، وأنه قادر مدبر حكيم، يفعل ما يشاء ويحكم بما يريد سبحانه. {أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الحج:46] يسمعون بها كلام رب العالمين، ويطبقونه في هذا الواقع الذي يعيشون فيه، فيعرفون الحق. {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ} [الحج:46] لا تعمى الأبصار، فإذا ذهب بصر الإنسان فقلبه يكفيه في الاستدلال على الخير والهدى والرشاد، ولكن الذي يعمى هي القلوب، ((ولكن تعمى القلوب التي في الصدور))، يعميها الله سبحانه تبارك وتعالى، فإذا بالإنسان لا يتدبر ولا يعي ولا يفهم شيئاً مما حوله ولا يعتبر.

تفسير قوله تعالى: (ويستعجلونك بالعذاب)

تفسير قوله تعالى: (ويستعجلونك بالعذاب) قال سبحانه: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} [الحج:47]، يرينا الله صورة من صور عمى القلب، فقال: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} [الحج:47] قيل: نزلت في النضر بن الحارث لما قال: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأعراف:70]، وقيل: نزلت في أبي جهل لعنة الله عليهما لما قال: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32]، فمن صور العمى أن الإنسان يستعجل العذاب، فهل يعقل أن إنساناً عاقلاً يقول: يا ربّ إذا كان هذا حقاً فخذني، يا رب إذا كان هذا حقاً فأدخلني النار؟ الإنسان العاقل يقول: إذا كان هذا حقاً فأرشدني إليه، فدلني عليه، فادفعني إليه، ولكن هؤلاء لا عقل عندهم، وصدق الله: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]. والله عز وجل يستدرج هؤلاء، فهم يكذبون النبي صلى الله عليه وسلم ويدعون على أنفسهم، وأحياناً يقولون عن القرآن: إن القرآن عظيم، ليس بكلام البشر، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وهذا القائل هو الوليد بن المغيرة ومع هذا لم يؤمن بالقرآن! وأبو لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم كان يدفع الناس عن القرآن، وكلما ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أناس يدعوهم إلى الله سبحانه، يتبعه ويقول: أنا عمه، وأنا أدرى به، هذا مجنون فلا تصدقوه، هذا كذاب، وقد أنزل الله عز وجل فيه: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد:1 - 5] أي سيهلكه الله، وسيموت على الكفر ويدخل النار، فهذا الرجل لو كان عنده عقل كان سيقول: تتوعدني أنني أدخل النار لأني كافر، فهأنذا أقول: لا إله إلا الله، يقولها ولو نفاقاً حتى يدعي كذب القرآن، ولكنه ما قال هذه الكلمة، وأعماه الله سبحانه وتعالى عن التفكير في ذلك، ومات على كفره الذي هو فيه، وصدق الله العظيم فيما أخبر عنه. قال الله تعالى: {وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} [الحج:47] الله لا يخلف الميعاد، فسيأتيهم العذاب، فتحقق ما توعدهم به في يوم بدر، وأهلك رؤساءهم وأساطين كفرهم، وتوعدهم بما يكون في قبورهم، وكل ما ذكره الله سبحانه تبارك وتعالى من أمر الدنيا والآخرة فهو حق ووعده آت. قال سبحانه: {وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47]، هذه الأعمار الطويلة التي يعيشها الإنسان في هذه الدنيا هي في نظره عمر طويل، حتى إن أحدهم عاش ثمانين سنة فقال: سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم أما يوم القيامة فاليوم بألف سنة مما تعدون، فمن سئم من ثمانين سنة فستكون ثمانين ألف سنة في النار والعياذ بالله، يقول سبحانه: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47] يعني: يوماً من أيام الآخرة بألف سنة مما تعدون. وقراءة الجمهور: ((مما تعدون)) وقراءة ابن كثير وحمزة والكسائي وخلف: ((مما يعدون)) يعني: مما يعد هؤلاء المشركون من أيام وليال.

تفسير قوله تعالى: (وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة)

تفسير قوله تعالى: (وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة) قال الله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} [الحج:48] قرى كثيرة أملى لها الله ثم أهلكها، إن بطش ربك لشديد، يملي لها ويتركها حيناً، فالإملاء هو الترك، حتى يظن الإنسان أن الله تركه ولن يعذبه، ولن يفعل به شيئاً {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا} [يونس:24]، وانظر إلى التنكير هنا: (ليلاً أو نهاراً) نكرها للتقليل، يعني لحظة من الليل أو من النهار فهدمنا هذه القرى، وضيعنا هذه الحصون. {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا} [الحج:48] أي: أنظرتها وأمهلتها مع عتوها استدراجاً لها وإملاء وهي ظالمة، ((ثم أخذتها)) يعني: بسبب ظلمها {وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} [الحج:48] فأين سيذهبون من الله عز وجل؟ فمهما ذهبوا وصعدوا ونزلوا ففي النهاية المرجع إلى الله سبحانه تبارك وتعالى؛ لذلك على الإنسان أن يعد نفسه لهذا اليوم، فلا ينفعه إلا القلب السليم. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصلّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الحج [49 - 56]

تفسير سورة الحج [49 - 56] وعد الله المؤمنين بمغفرة منه ورزق كريم، وتوعد الذين يسعون في إبطال آيات الله بالعذاب الأليم، وما من نبي يقرأ كتاب الله إلا ويلقي الشيطان شبهاً تتعلق بما قرأ، فيضل بها الكافرون ويمتحن بها المؤمنون، فيثبتهم الله، ويحكم آياته، ويبطل ما ألقاه الشيطان من وساوسه.

تفسير قوله تعالى: (وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة)

تفسير قوله تعالى: (وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ * قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحج:48 - 52]. لما أخبرنا الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات وما قبلها كيف أنه يهلك القرى، وكم من قرية أهلكها الله سبحانه تبارك وتعالى بسبب ظلم أهلها، أهلكها فلا يرى لهذه القرية أثراً من حياة إلا آثار موت وآثار خراب وآثار تعطيل فقال: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [الحج:45]، وهنا قال: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا} [الحج:48] يعني كم من القرى أملينا لها وتركناها، وأمهلناها، واستدرجناها حتى أخذناها أخذاً عظيماً شديداً، {ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} [الحج:48] إلى الله عز وجل ترجع الأمور، فيصير كل الخلق إليه ليجازيهم على أعمالهم.

تفسير قوله تعالى: (قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين)

تفسير قوله تعالى: (قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين) أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخبر الناس: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الحج:49] صفته النذارة والبشارة صلوات الله وسلامه عليه، فهو نذير يخوف الخلق من عذاب رب العالمين سبحانه، وهو بشير يبشرهم بما أعد الله عز وجل للمؤمنين من جنات ومن نعيم مقيم. {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الحج:49] مبين: يعني: واضح بين الحجة والبرهان. {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الحج:50] هذا وعد من الله سبحانه وبشارة للمؤمنين الذين يعملون الصالحات، وقيده هنا بالإيمان والعمل الصالح، فالمؤمن فرض عليه أن يطيع الله سبحانه، وأن يطيع النبي صلوات الله وسلامه عليه فيعمل صالحاً، فإذا آمن وصدق وعمل الصالحات فله المغفرة، فيستر الله عز وجل عليه ذنوبه، ويمحوها سبحانه، وقد يبدلها حسنات بفضله وكرمه سبحانه، وله رزق كريم، فمدح رزق الآخرة بأنه رزق كريم، رزق لا شائبة فيه، ولا كدر فيه، ولا تعب فيه ولا نصب، ولا شيء فيه يزعج الإنسان، بل هو رزق كريم من رب العالمين سبحانه تبارك وتعالى في الجنة.

تفسير قوله تعالى: (والذين سعوا في آياتنا معاجزين)

تفسير قوله تعالى: (والذين سعوا في آياتنا معاجزين) قال تعالى: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [الحج:51] أي: الكفار الذين أعرضوا وسعوا جاهدين في أن يطفئوا نور الله سبحانه تبارك وتعالى، وأن يبطلوا ما جاء به النبي صلوات الله وسلامه عليه، سعوا في آيات الله معاجزين مغالبين مشاقين للنبي صلى الله عليه وسلم، ومعاندين لهذا الدين العظيم، ويظنون أنهم يعجزون رب العالمين سبحانه، ويظنون أنه لا يقدر عليهم، قال: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا} [الحج:51] أي: أسرعوا في ذلك معاجزين، وهذه قراءة الجمهور، و (معجِّزين) قراءة ابن كثير وأبي عمرو. {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [الحج:51] ظنوا أنهم يفوتوننا مسرعون ليطفئوا نور الله، فالله عز وجل متم نوره ولو كره الكافرون، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون، فمهما ظنوا أنهم أقوياء، فالله أقوى منهم، والله يعجزهم سبحانه تبارك وتعالى، ولا يقدرون على شيء، وهو يقدر عليهم سبحانه، فهم أصحاب النار.

تفسير قوله تعالى: (وما أرسلنا من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته)

تفسير قوله تعالى: (وما أرسلنا من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) قال الله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحج:52] أرسل الله عز وجل الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فهذا مرسل وهذا مرسل، لكن الرسول معه شريعة من عند رب العالمين، والنبي مأمور أن يدعو القوم إلى توحيد رب العالمين سبحانه، فالرسول معه رسالة من الله سبحانه، وكلاهما مرسل. قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى} [الحج:52] أي: رسول وأي نبي عليهم الصلاة والسلام يتمنون، والتمني يأتي بعدة معان: فمن معانيه: التلاوة، فيتلو ما أنزل الله عز وجل عليه، ومن معانيه: التحدث والإخبار بما أوحى الله عز وجل إليه من وحي، والتمني حديث النفس ورجاء الخير، فالنبي يرجو الخير فيحدث نفسه فيقول: لو أن قومي أسلموا لدخلوا الجنة، لو أن قومي أسلموا لكانوا قوة وجاهدنا الكفار، فيحدث نفسه ويتمنى الخير من عند رب العالمين سبحانه تبارك وتعالى. فإذا الأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام تمنوا بمعنى: تلوا أو بمعنى حدثوا، ألقى الشيطان في تلاوتهم وألقى في أحاديثهم، والمعنى: أن القوم يستمعون لآيات الله سبحانه تبارك وتعالى، وإذا بالشيطان يلقي في قلوبهم ما يمنعهم من الإيمان بهذا الكلام العظيم من عند رب العالمين سبحانه. فالله يقول لنبينا صلى الله عليه وسلم: لست أنت أول من يعرض عنه الناس مع ظهور الحجة والبينة، {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]، فهؤلاء الكفار يسمعون كما يسمع المؤمنون، ويفهمون ما يفهمه المؤمنون، لكن قلوبهم تصدهم عن سبيل الله سبحانه تبارك وتعالى، يعرف الكافر الحق ويحيد عنه، يعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل من عند رب العالمين فإذا به يعاند ويجحد ما جاء به، وهو مستيقن في نفسه أن هذا الحق من عند رب العالمين! فيلقي الشيطان في أمنية الأنبياء وأمنية المرسلين عليهم الصلاة والسلام بمعنى: في تلاوتهم وفي حديثهم فيما تمنوه من إيمان قومهم، فالشيطان يصد عن سبيل الله سبحانه تبارك وتعالى، ويلقي في قلوب الكفار أن هذا سحر، وأن هذا كاهن، وأن هذا شاعر، وأن هذا أساطير الأولين، فالنبي يحدث ويعتقد أن هؤلاء سيفهمونه ويستوعبونه، ويعون ما يقوله؛ وإذا بهم يصدون عنه، ويقولون: كذاب، النبي صلى الله عليه وسلم جاء لقومه وهو يقول: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23]، اسمعوا وأعينوني أبلغ كلام رب العالمين، فظن أنهم يعينونه صلى الله عليه وسلم؛ فإذا بالشيطان يحول بينه وبين قومه عليه الصلاة والسلام؛ فإذا بالشيطان يلقي في قلوبهم حتى قالوا عنه: كذاب، وكانوا قبل ذلك يقولون عنه: الصادق الأمين صلوات الله وسلامه عليه، وقالوا عنه: ساحر، وهم يعلمون أنه ليس ساحراً صلوات الله وسلامه عليه. فهذا ما يلقيه الشيطان في قلوب هؤلاء، يتلو النبي فإذا بهذا الشيطان لعنة الله عليه يحول بين هؤلاء وبين فهمهم لما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام، وكذلك غيره من الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام. (إلا إذا تمنى) أي: إذا قرأ أو حدث بالوحي، إذا بالشيطان يلقي في هذه التلاوة ما يحول بين القوم وبين فهم ما يقوله النبي عليه الصلاة والسلام، بل يكذبونه ويعاندونه. معنى آخر وهو أنه إذا تمنى النبي والأنبياء من قبله إيمان أقوامهم إذا بهم يوم القيامة يأتي النبي ومعه الأمة، والنبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الاثنان، والنبي ومعه الواحد، والنبي وليس معه أحد عليهم الصلاة والسلام، فالنبي الذي يأتي وليس معه أحد عندما أرسله الله إلى قومه كان يتمنى إيمان جميع قومه، فلم يؤمن به ولا رجل. فالشيطان ألقى في أمنيته فأبعد الناس عن دين رب العالمين، ويزين لهم الدنيا والابتعاد عن كتاب الله وعن سنة النبي عليه الصلاة والسلام، ويحول بينهم وبين الإيمان، قال سبحانه تبارك وتعالى: {إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج:52]. وإذا كان كل الأنبياء والمرسلين سيلقي الشيطان في أمانيهم، فهل سيظل ما يلقي الشيطان ولا يؤمن أحد أبداً؟ لا، فربنا يخبر أنه يبطل ما يلقي الشيطان، قال سبحانه: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} [الحج:52] النسخ: الإزالة والمحو والإبطال، فيبطل الله عز وجل ما ألقاه الشيطان في قلوب هؤلاء؛ فإذا بالمشركين يجتمعون على النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: نقول عنه: ساحر؛ فإذا بعضهم يرد على بعض ويقول: لا ما هو ساحر، ولا أحد سيصدقنا فيما نقول. فقالوا: نقول عنه: كاهن، الشيطان يلقي عليهم هذا الشيء وإذا بعضهم يرد على بعض فيقول: نحن عرفنا الكهانة، وهذا ليس بكاهن من الكهان. فقالوا: نقول عنه: شاعر، فيقولون: ليس شاعراً. فينسخ الله ما يلقي الشيطان في قلوب هؤلاء، ويظهر الحق سبحانه تبارك وتعالى سواء صدقوا أو لم يصدقوا، قال الله: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحج:52]. كذلك قد يلقي الشيطان في قلوب هؤلاء القوم أن النبي عليه الصلاة والسلام لعله يداهن كما قال الله: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9]، فتمنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم يداهنهم ويذكر آلهتهم بخير، والله سبحانه تبارك وتعالى يحذر النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء:73 - 75] صلوات الله وسلامه عليه. فانظر كيف يحكم الله عز وجل آياته ويهدد نبيه صلوات الله وسلامه عليه -وحاشا له أن يبتعد عن أمر ربه سبحانه- تخويفاً له، والأمة تبع له فيقول سبحانه: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ} [الإسراء:74] وهذا يدل على صموده، وأنه مستحيل أن يداهنهم صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه معصوم، {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء:74]، ولم يحدث أن ركن إليهم صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله ثبته على الحق بالعصمة منه سبحانه تبارك وتعالى، ولو أنه ركن إليهم شيئاً قليلاً -وحاشا له صلى الله عليه وسلم أن يقع في ذلك- يقول الله عز وجل: {إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ} [الإسراء:75] أي: ضعف عذاب الحياة، وضعف عذاب الممات. فهنا ينسخ الله ما يلقي الشيطان من الكلام الكذب الذي يقوله الكفار، ويحكم الله عز وجل آياته، ويثبت دينه، ويثبت ما يقوله الرسول عليه الصلاة والسلام وغيره من الأنبياء والرسل، فيسمع الناس الحق، ويعرفون أنه الحق والله عليم حكيم، يعلم كل شيء، ويعلم ما يدبره هؤلاء الأقوام، وما يقولونه، والله حكيم في أن يؤخر الحكم في ذلك، وأن يملي لهم وأن يمهلهم سبحانه تبارك وتعالى، ولا ينسى ربك شيئاً، ولكنه حكيم في أحكامه، حكيم في تأديبه وتأخيره سبحانه تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض)

تفسير قوله تعالى: (ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض) قال الله: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [الحج:53] الله سبحانه تبارك وتعالى خلق الشيطان، وعلم ما يفعله هذا الشيطان بالخلق، فيجعل ما يلقي الشيطان فتنة، وربنا أراد أن يبتلي العباد، قال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن:2] منكم المطيع، ومنكم العاصي، منكم من هو على الحق، ومنكم من هو على الباطل، فالله عز وجل جعل الشيطان فتنة لهؤلاء القوم، وما يلقيه الشيطان في قلوبهم فتنة لمن؟ {لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} [الحج:53] الذين في قلوبهم مرض، هم المنافقون، في قلوبهم غل، في قلوبهم شك، والقاسية قلوبهم هم الكفار، والمنافقون أيضاً الذين إذا ذكر الله يجحدون بآياته سبحانه، وفرق بين المؤمنين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وبين هؤلاء القاسية قلوبهم. قال سبحانه: {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [الحج:53] إن الظالمين لفي خلاف وفي عصيان ومشاقة، وأصلها من الشق، أنت في شق وهم بعيدون عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن طاعة الله سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك)

تفسير قوله تعالى: (وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك) قال الله: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} [الحج:54] الناس أصناف: المنافقون، والكفار، والمؤمنون أهل العلم، فالذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم هؤلاء في شقاق بعيد عن دين رب العالمين سبحانه، أما المؤمنون وخاصة أهل العلم فهم كما قال الله: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ} [الحج:54]، يؤمنون ويزدادون إيماناً {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} [الحج:54] لأنهم علموا أن هذا الحق من رب العالمين، والإخبات السكون، والخشوع، والتواضع، والإنابة إلى الله سبحانه تبارك وتعالى والطاعة، فأهل الإيمان أهل العلم عرفوا الحق من الله عز وجل. {فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج:54] هذا وعد من الله سبحانه تبارك وتعالى أن يهدي المؤمنين إلى صراط الجنة وإلى طريق الجنة، وهو الطريق المستقيم الذي لا عوج فيه ولا تعريج على النار، ولكن يهديهم إلى جنته سبحانه تبارك وتعالى، {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج:54] فيثبتهم في الدنيا على الخير وعلى الحق، ويثبتهم عند السؤال، ويثبتهم عند المرور على الصراط حتى يدخلهم الجنة سبحانه تبارك وتعالى على صراط مستقيم.

تفسير قوله تعالى: (ولا يزال الذين كفروا في مرية منه)

تفسير قوله تعالى: (ولا يزال الذين كفروا في مرية منه) قال الله تعالى: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} [الحج:55] المرية: الشك، فالكفار في مرية من هذا القرآن العظيم، {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} [الحج:55] يعني: وإن شك الكفار لم يضر هذا الدين شيئاً، ولكن يضرون أنفسهم فمهما تشككوا فلا يزالون على شكهم حتى يأخذهم الله سبحانه بأن تأتيهم الساعة، أو يأتيهم الموت {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} [الحج:55]، واليوم العقيم هو يوم ليس بعده ليلة وليس بعده يوم، يوم عقيم، والمرأة العقيمة التي لا تلد، والأيام العقيمة لها معان: فمن معانيها: يوم عقيم يعني يوم شؤم على أصحابه، يوم كله شرور، فهؤلاء يأتيهم اليوم العقيم سواء في الدنيا بانتصار المؤمنين عليهم، وقتلهم كما حدث في يوم بدر، أو بأن يأتيهم يوم القيامة وهو لا يوم بعده من الدنيا، فهو يوم عقيم.

تفسير قوله تعالى: (الملك يومئذ لله يحكم بينهم)

تفسير قوله تعالى: (الملك يومئذ لله يحكم بينهم) قال الله تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} [الحج:56] الملك يوم القيامة لله رب العالمين، والملك في الدنيا لله رب العالمين، ولكن في الدنيا ترك الله عز وجل العباد منهم من يؤمن ومنهم من يكفر ويجحد، فكأن البعض يأخذون الملك لله في الدنيا، والبعض يقول: أنا الملك، ومنهم من ينصب نفسه رباً على الخلق كذباً وبهتاناً، ومنهم: من يدعوهم إلى أن يعبدوه من دون الله سبحانه، لكن يوم القيامة لا يجترئ أحد أن يقول ما قاله ففي الدنيا، في الدنيا كان الله عز وجل غنياً لا يرونه، فاجترءوا على ذلك لعدم الإيمان في القلوب، لكن يوم القيامة فالملك لله سبحانه، هو الملك الذي يحكم بما يريد سبحانه، وهو الذي يجازي عباده، فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم جنات النعيم، وأما الذين كفروا وكذبوا بآيات رب العالمين فأولئك لهم عذاب مهين. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الحج [55 - 59]

تفسير سورة الحج [55 - 59] يختلف الناس في أمر القيامة، فمنهم من هو مؤمن بها، ومنهم من هو في شك منها، حتى إذا جاء ذلك اليوم ظهر ملك الله عز وجل على سائر عباده، فالمؤمنون لهم جنات النعيم، والكافرون لهم عذاب أليم، وقد يبلغ الإنسان درجة المهاجرين والمجاهدين والشهداء بنيته الصادقة وإن مات على فراشه.

تفسير قوله تعالى: (ولا يزال الذين كفروا في مرية منه)

تفسير قوله تعالى: (ولا يزال الذين كفروا في مرية منه) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الحج: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} [الحج:55 - 59]. يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات كيف أن الكفار في قلوبهم شك من هذا الدين، ولا يزال الذين كفروا في مرية وفي شك من هذا القرآن، أو من هذا الدين، بسبب ما يلقيه الشيطان في آذانهم وفي أسماعهم، وبسبب ما يوسوس به في صدورهم فيتشككون في أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وفي أمر الدين حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم وهو عذاب يوم القيامة، لا يوم للدنيا بعده، فهو آخر أيام الدنيا فلن يكون بعده ليل ولا نهار، وإنما اليوم عند ربك كألف سنة مما تعدون، فلا حياة فيها تكليف بعد ذلك، وإنما بعد ذلك الحياة الأخروية التي فيها الجزاء والحساب.

تفسير قوله تعالى: (الملك يومئذ لله يحكم بينهم)

تفسير قوله تعالى: (الملك يومئذ لله يحكم بينهم) قال الله تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الحج:56] يوم القيامة يعلم الجميع أن الملك لله سبحانه، ويقفون بين يديه، ولا يقدر أحد أن يشفع لأحد إلا بإذن الله رب العالمين، ولا يقدر أحد أن يتكلم بين يدي رب العالمين إلا إذا أمره سبحانه أن يتكلم. قال تعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه:111] عنت: ذلت وقهرها الله سبحانه وتعالى فاستكانت وخشعت بين يدي الله رب العالمين، هذا في يوم القيامة، عرفوا وعلموا واستيقنوا أن الملك هو الله سبحانه وتعالى وأن الملك له، وأنه مالك يوم الدين كما هو مالك الدنيا، وفي الآخرة يبدو هذا بأن يذلهم جميعهم، وأن يقهرهم جميعاً ويريهم ناره، ويريهم عذابه، ويريهم جنته، ويسألهم واحداً واحداً، فكل إنسان مسئول عن نفسه وعن تقصيره وعما عمل في هذه الدنيا، فظهر الملك لله سبحانه وتعالى يجازي عباده يوم القيامة، وبان واتضح أن الملك لله وحده لا شريك له، فلا أحد يجرؤ أن يسأل الله عز وجل: لم فعلت كذا؟ ولا أحد يجرؤ أن يسأل الله عز وجل: لم أدخلت هذا الجنة؟ ولم أدخلت هذا النار؟ الملك يومئذ لله فيحكم سبحانه وتعالى بينهم، فيفرق بين المؤمنين وبين الكفار، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم المقيم، وفيها الحياة الأبدية التي ينعمون فيها بما شاء الله عز وجل لهم من أنواع النعيم، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات فيها البساتين وفيها ما يشاءون من طعام وشراب وما تشتهيه الأنفس وتلذ به الأعين وهم فيها خالدون.

تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين)

تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين) قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [الحج:57] أي: الكفار يذهب بهم إلى نار الجحيم، فلهم عذاب مذل، إذ يذلهم الله عز وجل يوم القيامة، تعززوا في الدنيا ورفضوا أن يعبدوا إلهاً واحداً سبحانه وتعالى؛ فإذا به يذلهم يوم القيامة، ولا تنفعهم شفاعة الشافعين، ولا ينفعهم ما يقولون يوم الدين، ولا ينفعهم إذا دخلوا النار أن يبكوا على أنفسهم، فسالت أعينهم دماءً بدلاً من الماء، فالله سبحانه وتعالى يدخلهم النار ويهينهم ويقول: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108].

تفسير قوله تعالى: (والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ما توا ليرزقهم الله رزقا حسنا)

تفسير قوله تعالى: (والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ما توا ليرزقهم الله رزقاً حسناً) قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الحج:58] أخبر الله عن المؤمنين عامة: {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الحج:56]، ولكن لا شك أن هؤلاء المؤمنين بعضهم فوق بعض في درجات الجنات، فمنهم من هو في أعلاها، ومنهم من هو أدنى من ذلك، فمن أعلى الناس أجراً يوم القيامة المهاجرون الأولون الذين هاجروا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ووصف الله عز وجل سيرتهم وحياتهم وهجرتهم بالصدق، قال تعالى: {أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:15]، فأخبر عنهم هنا مميزاً ومشرفاً لهم بقوله: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الحج:58] المهاجرون الأولون تركوا ديارهم وأموالهم، وتركوا أهاليهم وهاجروا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ومنهم من هاجر قبل ذلك إلى الحبشة، ثم هاجر بعد ذلك إلى المدينة، وأوذوا أذىً شديداً فكانوا في ديار الغربة ودار البعد عن النبي صلى الله عليه وسلم وهم في غاية الضعف والهوان في أعين الناس، فإذا بالله عز وجل يرفعهم يوم القيامة، ويجعل لهم الوضع العظيم الجميل في جنات النعيم، فقال لهؤلاء: ((وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ)) ليس في سبيل دنيا، ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) فهؤلاء هاجروا لا لدنيا وإنما لدين الله رب العالمين وابتغاء مرضات الله. قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا} [الحج:58] هذه قراءة الجمهور، وقراءة ابن عامر: (ثم قتِّلوا أو ماتوا) أي: قاتلوا في سبيل الله فمنهم من قتل فكان شهيداً، ومنهم من مات، والاثنان لهما الأجر العظيم عند الله سبحانه وتعالى، فقوله تعالى: {ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا} [الحج:58] هما سواء. والهجرة عظيمة وفضلها عظيم، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة ميز بين المهاجرين الأولين، وبين من دخل في الإسلام بعد الفتح فقال: (لا هجرة بعد الفتح) مضت الهجرة لأهلها، يعني: الثواب العظيم في هذه الهجرة مضى لأهلها، سواء قتلوا شهداء، أو ماتوا على فرشهم، فالله عز وجل ذكر الاثنين، قال: ((وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا)) والفعل المضارع إذا سبقته لام التوكيد وجاء في آخرها نون التوكيد المثقلة فهذا دليل على جواب القسم فيه، فكأنه يقول: والله ليرزقنهم الله رزقاً حسناً وإن الله لهو خير الرازقين. فجعل للاثنين من مات حتف أنفه، أو من قتل في سبيل الله الأجر العظيم عند الله سبحانه، فهم هاجروا من ديارهم وأموالهم وفي نيتهم أن يكونوا مع النبي صلى الله عليه وسلم حيث ما كان، وأن ينصروا دين الله سبحانه وتعالى، فنووا أن يكونوا معه، وأن يجاهدوا معه صلى الله عليه وسلم، واستحضروا نية الجهاد، وتمنوا أن يكونوا شهداء، وكيف لا وقد سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لوددت أني أقاتل في سبيل الله فأقتل ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا) فلفضل الجهاد تمنى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وتمنوا هم ذلك، قال تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23] فشهد لهم الله عز وجل أنهم الصادقون، وأنهم لم يبدلوا ولم يتبدلوا، ولم يبدلوا دين الله، ولم يغيروا نواياهم، فلذلك كان لهم الأجر العظيم عند الله سبحانه. ومن قتل في سبيل الله له الحسنى عند ربه سبحانه، ومن مات أيضاً له الحسنى عند الله؛ لأنه هاجر ونوى الجهاد، ونصر دين الله سبحانه وتعالى، وتقدير الموت بيد الله ليس بيد الإنسان، فالإنسان لا يملك لنفسه أن يموت شهيداً أو يموت على فراشه، وهذا خالد بن الوليد رضي الله عنه يقاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم ويجاهد بعده صلوات الله وسلامه عليه مع الخلفاء الراشدين، ويتمنى أن يستشهد في سبيل الله سبحانه وتعالى، ويذهب في مواضع الموت مقاتلاً مجاهداً ومع ذلك كتب الله عز وجل له أن يموت على فراشه، وهو يقول للناس: إنه ما في بدنه موضع إلا وفيه ضربة بسيف أو طعنة برمح، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء، رضي الله تبارك وتعالى عن خالد بن الوليد وعن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جميعهم. الغرض هنا: أن الله وعد هؤلاء الذين هاجروا في سبيل الله سبحانه بصدق نيتهم، وصدق جهادهم مع النبي صلى الله عليه وسلم أن لهم الحسنى عند الله عز وجل سواء قتلوا أو ماتوا، ففي الحالتين لهم الأجر العظيم، فقال سبحانه: {ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الحج:58] تأكيد من الله سبحانه وتعالى، ووعد مؤكد، قال: {لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا} [الحج:58] وذكر لفظ الجلالة دليل على تشريف هؤلاء، فلم يقل: (والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم رزقاً حسناً) ولكن قال: {لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ} [الحج:58] تشريفاً لهؤلاء بأن الرزق من عند الله، فليست الملائكة هي صاحبة الرزق، ولا مخلوق آخر، إنما صاحب الرزق هو الله، إذاً: الرزق يليق به سبحانه وتعالى، يعطي المجاهدين في سبيله رزقاً حسناً، وكل رزق الله حسن سبحانه وتعالى، فإذا كانوا رزقوا الجنة فلا شك أنه أحسن الأرزاق وأفضلها، ولكن الله سبحانه يشرفهم ويفضلهم ويطمئنهم بقوله: لكم أحسن الرزق عند الله رب العالمين.

سبب نزول قوله تعالى: (والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا)

سبب نزول قوله تعالى: (والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا) قوله تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الحج:58] قالوا: إن هذه الآية نزلت لما مات بالمدينة عثمان بن مظعون رضي الله تبارك وتعالى عنه والنبي صلى الله عليه وسلم كان يحبه، وحضر النبي صلى الله عليه وسلم جنازته، وبكى عليه صلوات الله وسلامه عليه ودفنه، وعلم قبره صلى الله عليه وسلم بحجر وقال: (ادفنوا إليه من مات من أهلي)، فلما مات عثمان قال بعض الناس: من قتل في سبيل الله أفضل ممن مات حتف أنفه، وقالوا: إن عثمان بن مظعون مات على فراشه، والذين قتلوا في غزوة بدر وفي غزوة أحد أفضل ممن مات على فراشه، فأنزل الله سبحانه وتعالى أن الجميع لهم الرزق الحسن عند الله سبحانه وتعالى، فسوى بينهم وقال: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا} [الحج:58] فسوى بينهم في الرزق الحسن، وفي الآية الأخرى قال سبحانه: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:100] هذا من خرج سواءً وصل أولم يصل، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات)، قال الله سبحانه: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا} [النساء:100] نوى أن يخرج مهاجراً إلى الله ورسوله، {ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ} [النساء:100] أي: وصل للمدينة أو لم يصل إلى المدينة فأدركه الموت على هذه النية، {فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:100] إذاً: لم يضع أجر هذا الإنسان، بل وقع على الله، إذاً: هنا لم يضع ما وقع على الله، وما ذهب إلى الله سبحانه وتعالى فقد وقع أجره، أي: ثبت أجره على الله، وجاء بلفظ: {عَلَى اللَّهِ} كأنه أوجب على نفسه سبحانه وتعالى الأجر لهذا الإنسان ولمن كان مثله، فقد وقع أجره على الله.

أحاديث دالة على فضل المجاهد وإن مات على فراشه

أحاديث دالة على فضل المجاهد وإن مات على فراشه أم حرام بنت ملحان هي خالة أنس بن مالك رضي الله عنه، وهي زوجة عبادة بن الصامت، وكان يدخل في بيتها صلى الله عليه وسلم وينام أحياناً عندهم نوم القيلولة صلوات الله وسلامه عليه. روى البخاري ومسلم عن أنس (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عندها فنام صلى الله عليه وسلم ثم استيقظ وهو يضحك) دخل بيت أم حرام بنت ملحان التي هي أخت أم سليم أم أنس بن مالك رضي الله عنه، وهذه أختها زوجة عبادة بن الصامت، فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم وهو يضحك فقالت: ما يضحكك يا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون يبج هذا البحر مثل الملوك على الأسرة) يخبر أنه رأى في الرؤيا ورؤيا الأنبياء كلها وحي من الله وكلها حق، فرأى أن من أمته من يخرج مجاهداً في سبيل الله في البحر، وفي عهد النبي صلى الله عليه وسلم ما كان الصحابة متعودين على ركوب البحر في الجهاد في سبيل الله سبحانه؛ لأن ركوب البحر شيء شاق جداً فهو رأى هذه الرؤيا وفسرها أنه يخرج في يوم من الأيام ناس من الصحابة مجاهدين في البحر، فضحك فقال: (مثل الملوك على الأسرة، فقالت: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم وضع رأسه ثم استيقظ وهو يضحك صلوات الله وسلامه عليه فقالت: وما يضحكك يا رسول الله؟ قال: ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله) كما ذكر في الحديث الأول، يعني: مرتين كأنه يخرج ناس مجاهدون في سبيل الله وبعدهم يخرج آخرون مجاهدون في سبيل الله عز وجل، (فقالت: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم قال: أنت من الأولين) فذكر الراوي أنها ركبت البحر في زمن معاوية بن أبي سفيان وحين خرجت من البحر، ركبت دابتها فوقعت من الدابة وماتت رضي الله تبارك تعالى عنها، فهذه المجاهدة طلبت من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله أن يجعلها منهم، فكانت هي منهم خرجت مجاهدة في سبيل الله مع زوجها عبادة بن الصامت رضي الله عنه مجاهدين للروم. لاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنت من الأولين) يعني: من هؤلاء المجاهدين فكان لها أجر هؤلاء المجاهدين الذي كالملوك على الأسرة مع أنها لم تقاتل وإنما وقعت عن دابتها، فالمهاجر إذا هاجر في سبيل الله سبحانه وتعالى وجاهد في سبيله عز وجل ثم قتل أو مات فله أجره وله الرزق الحسن عند الله سبحانه وتعالى. أيضاً: جاء في حديث آخر: عن عبد الله بن عتيك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من خرج من بيته مهاجراً في سبيل الله فخر عن دابته فمات، أو لدغته حية فمات، أو مات حتف أنفه؛ فقد قع أجره على الله، ومن مات قعصاً فقد استوجب المآب) المعنى: أن الخارج مجاهداً ليس شرطاً أن يقتل من قبل العدو، فمن الممكن أن يموت أو تلدغه حية فيكون له أجره عند الله؛ لأنه نوى الخروج، بل من سأل الله عز وجل الشهادة بصدق فله أجرها وإن مات على فراشه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه).

تفسير قوله تعالى: (ليدخلنهم مدخلا يرضونه وإن الله لعليم حليم)

تفسير قوله تعالى: (ليدخلنهم مدخلاً يرضونه وإن الله لعليم حليم) قال الله تعالى: {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} [الحج:59] وعد من الله أن يدخلهم مدخلاً يرضونه، وفيها قراءتان: قراءة الجمهور: {مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ}، وقراءة نافع وأبي جعفر المدنيين: (مَدْخلاً يرضونه) هذا مصدر ميمي، والأول مشتق من الرباعي، والثاني مشتق من الثلاثي، أي: أدخلهم مُدْخلاً ودخلوا مَدْخلاً، فأدخل الله عز وجل هؤلاء مُدْخلاً يرضونه، أو دخلوا هم يوم القيامة مَدْخلاً حسناً عند ربهم سبحانه وتعالى في الجنة، فقوله تعالى: {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ} [الحج:59] أي: يرضون ما دخلوا فيه، حين يرون الأجر العظيم من الله. قال تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} [الحج:59] لما ذكر الله أجر هؤلاء ذكر اسمين من أسمائه سبحانه، الاسم الأول: العليم، الاسم الآخر: الحليم سبحانه وتعالى. فقوله تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} [الحج:59] أي: عليم بمن يستحق هذا الأجر العظيم، وعليم سبحانه وتعالى بنيات هؤلاء، وحليم عن عقابهم، قد يسيء الإنسان ثم يهاجر في سبيل الله، فالهجرة تجب ما قبلها، وقد يكون بعض من هؤلاء وقع في نوع من الذنوب، أو شيء من الآثام، وبعد ذلك يستر عليه الله ويغفر له، فالله حليم، وكم من إنسان يجاهد في سبيل الله سبحانه وتعالى مستيقناً بما أوجب الله عز وجل من هجرة ومن جهاد وله الأجر العظيم عند الله سبحانه، ولعله كان قبل ممن يدفع هذا الدين ويمنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو في مكة، وأن يدعو إلى دين ربه سبحانه، فالله سبحانه حلم عليهم، ثم أرشدهم وهداهم إلى الإسلام ثم جعلهم شهداء، بل قد يكون قد قتل مسلماً مثل: خالد بن الوليد، في يوم أحد كان كافراً، والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في يوم أحد يقاتلون هؤلاء الكفار، وإذا بـ خالد يسلم بعد ذلك قبل فتح مكة، ويدخله الله عز وجل في هذا الدين مدخلاً حسناً، ويكون من المجاهدين لإعلاء دين رب العالمين سبحانه، فالله حليم سبحانه وتعالى، عليم بقضائه وقدره، علم سبحانه وتعالى أن هذا ممن يستحق الحسنى من الله عز وجل، فلم يؤاخذه بذنوبه، ولم يعجل له العقوبة، وتاب عليه سبحانه وتعالى، وجعله من المجاهدين، فالله عليم بمن يستحق الرحمة، والله يحلم عن العاصي لعله يتوب، فإذا تاب رفعه وغفر له سبحانه وتعالى، وفرق بين أن يحلم على إنسان ليتوب، وبين أن يملي إنساناً ليعذبه، فالله عز وجل يحلم عن إنسان علم في قلبه الخير، فإذا به يتركه فيراجع نفسه ويتوب، فيتوب الله عز وجل عليه، ويملي إنساناً آخر في معصية؛ فإذا به يزداد عتواً وفجوراً، ويزداد بعداً عن دين الله ونفوراً، فإذا بالله يأخذه أخذ عزيز مقتدر. نسأل الله عز وجل بفضله حلمه وكرمه ورزقه الحسن، ونعوذ بالله من عذابه، ونسأله جنته ونعوذ به من عقابه. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الحج [58 - 64]

تفسير سورة الحج [58 - 64] ذكر الله سبحانه أن من هاجر في سبيله وابتغاء مرضاته سواء قتله المشركون أو مات حتف أنفه فقد تكفل له ربه بالرزق الحسن في جنة النعيم بما يرضيه، وذكر أن من ظلم فانتصر وعاقب بالمثل ثم بغى عليه خصمه فإن الله ناصره ومؤيده، والله سبحانه يدخل الليل في النهار ويدخل النهار في الليل، وهو الإله الحق وما دونه الباطل، أفلا يقدر على أن ينصر المظلوم؟! بلى.

تفسير قوله تعالى: (والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقهم الله رزقا حسنا)

تفسير قوله تعالى: (والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقهم الله رزقاً حسناً) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الحج: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الحج:58]. أخبر الله سبحانه وتعالى عن فضله على عباده الذين هاجروا في سبيله، وأوذوا فقاتلوا وقتلوا في سبيل الله، أو أنهم أوذوا فهاجروا ثم ماتوا فوعدهم الله عز وجل بالرزق الحسن منه، وهو خير الرازقين، ورزقه الحسن جنات تجري من تحتها الأنهار.

تفسير قوله تعالى: (ليدخلنهم مدخلا يرضونه وإن الله لعليم حليم)

تفسير قوله تعالى: (ليدخلنهم مدخلاً يرضونه وإن الله لعليم حليم) ذكر الله لنا وعده فقال: {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} [الحج:59] فمدخل إما أن يكون مصدراً، أو اسم مكان، فإن كان اسم مكان فالمعنى: يدخلهم موضعاً يرضونه في جنات الخلود. وإن كان مصدراً فالمعنى: دخولاً يرضونه في جناته سبحانه. قال تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} [الحج:59] فذكر صفة له سبحانه وهي العلم، وصفة أخرى وهي الحلم. وفي هذه الآية ذكر الله سبحانه ما يفعله بالمؤمنين، وذكر اسمين ثم في الآية التي تليها ذكر اسمين له سبحانه، وفي الآية الثالثة ذكر اسمين آخرين من أسمائه الحسنى، وهذا الموضع الوحيد في القرآن الكريم الذي ذكر فيه من أسمائه الحسنى ثمانية أسماء في آيات متتالية. فذكر: {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} [الحج:59]. وبعدها: {إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [الحج:60]. وبعدها: {وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج:61]. وبعدها: {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62] فبدأ بالعلم والحلم، والمعنى: إن الله لعليم يعلم ما يفعله العباد، ويعلم من الذي يستحق منهم الثواب والعقبى الحسنة، ومن الذي يستحق العقاب والعاقبة السيئة، والله حليم يحلم عن عباده، فهو بعلمه سبحانه، يعلم أن هذا يستحق الرحمة، وإن كان الآن في وقت يعصي فيه ربه سبحانه، ولكن سيأتي عليه وقت يتوب، فيحلم عليه سبحانه، ثم يتوب العبد، ويكون من أهل رحمة الله سبحانه وتعالى، فالله عليم بنياتهم وأعمالهم، حليم عن عقابهم.

تفسير قوله تعالى: (ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به)

تفسير قوله تعالى: (ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به) قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [الحج:60] أي: ذلك الأمر الذي قصصنا عليك أن من عاقب فرد العقوبة بعقوبة مثلها، أو جازى على العقوبة بمثلها فلا حرج عليه. ذكر المفسرون أن هذه الآية نزلت في قوم من المسلمين لقوا بعض مشركي مكة لليلتين بقيتا من شهر الله المحرم أحد الأشهر الحرم، فأراد الكفار قتال المسلمين قبل أن ينتهي شهر المحرم، وقالوا: إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يكرهون القتال في الشهر الحرام، فاحملوا عليهم، والكفار كذلك كانوا لا يقاتلون في الأشهر الحرم إلا أنهم كانوا ينسئون فيها. والأشهر الحرم ذكرها الله تعالى في قوله: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة:36] وهي: ثلاثة سرد وواحد فرد، فالفرد شهر رجب، والسرد ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، هذه اختصت بالحج فيذهب الحاج لأداء نسكه فلا يؤذى، ولا يتعرض له أحد من العرب. أما في شهر المحرم وشهر رجب فكانوا يمتنعون من القتال تعظيماً لمن يذهب إلى العمرة فيهما. إلا أن الكفار كانوا يتلاعبون بهذه الأشهر، فيجيء شهر المحرم فيقولون: سنؤخر الحرمة إلى صفر ونجعل له حرمة الشهر الحرام، فلما لقوا المسلمين قال بعضهم لبعض: إن المسلمين لا يقاتلون في هذا الشهر فاحملوا عليهم واقتلوهم. فحملوا عليهم، فناشدهم المسلمون ألا يقاتلوهم في الشهر الحرام، فأبى الكفار إلا القتال فحملوا عليهم، فثبت الله عز وجل المسلمين ونصرهم على المشركين، فالباغي أبى الله إلا أن يقهره يوماً من الأيام. قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ} [الحج:60] فهذا وعد من الله سبحانه بالنصر للإنسان المظلوم الذي بغي عليه لينصرنه الله، وهذا جواب قسم، وأصله: والله لينصرنه الله سبحانه. فلما انتصر المسلمون على المشركين قالوا: قتلتم في الأشهر الحرم، فأنزل الله عز وجل: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ} [الحج:60] أي: جازى على العقوبة، {بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} [الحج:60] بدأ المشركون فانتصر المسلمون بفضل الله عز وجل، قال: {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ} [الحج:60] فبغى المشركون في الفعل، وبغوا في القول، وقالوا: هؤلاء تعدوا في الأشهر الحرم، والله عز وجل وعد المؤمنين بالنصر. ثم قال: {إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [الحج:60] يعني: عفا عن قتالكم في الشهر الحرام؛ لأنكم مطلوبون، ولأنكم تدافعون عن أنفسكم. وقيل: بل نزلت في قوم من المشركين مثلوا بقوم من المسلمين يوم أحد، فعاقبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. هنا يعرض ربنا سبحانه وتعالى بالعفو، يعني: الله يعفو عنكم فكونوا أنتم أيضاً من العافين عمن ظلمكم. ذكر الله تعالى في الآية الأخرى: {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الشورى:41 - 42] ثم ذكر سبحانه: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى:43] والمعنى: أن المظلوم يجوز له أن ينتصر وينتصف من ظالمه، ولكن إن قدر فعفا، فهذا أفضل عند الله سبحانه وتعالى. وقد بدأ الله بذكر الانتقام والمعاقبة، ولكن في النهاية ذكر العفو من الله سبحانه تعريضاً للمؤمنين أنه إذا قدرتم فاعفوا، قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [الحج:60] أي: عظيم العفو والتجاوز عن إساءات الخلق ومعاصيهم، وغفور يمحو ويستر سبحانه وتعالى الذنوب، فعفا عن المؤمنين في ذنوبهم وقتالهم في الشهر الحرام.

تفسير قوله تعالى: (ذلك بأن الله يولج الليل في النهار)

تفسير قوله تعالى: (ذلك بأن الله يولج الليل في النهار) قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج:61] ذلك الذي قصصناه عليك بأن الله يولج: والإيلاج: الإدخال، فكأن الليل يدخل في النهار، والنهار يخرج من الليل، وهكذا يتعاقب الليل والنهار على الأرض، وهي المكان الوحيد الذي فيه هذا النهار، فهناك غلاف حول الأرض يظهر فيه ضوء الشمس عليها، أما الكون كله خارج غلاف الكرة الأرضية فإنه مظلم. ويميز سبحانه وتعالى بين الليل والنهار، كما أنه يميز بين الحق والباطل، فالله الذي قدر على ذلك جعل الليل سكناً وستراً، وجعل النهار وضوحاً وجلاء، فأظهر الحق، وأبطن الباطل سبحانه وتعالى. فهذا الذي قدر أن يأتي بالليل والنهار أليس بقادر على أن يظهر ظلم هؤلاء الظلمة؛ فيأخذهم سبحانه وتعالى ويعاقبهم، ويظهر الإيمان وضوءه ونوره العظيم ويظهر أهله وينصرهم؟! فلا أحد يقدر على ما يقدر عليه الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج:61] سميع يسمع ما يفعله العباد، وبصير يرى ما يصنعونه، فلا شيء يحجب عن سمعه وعن بصره، فهو قادر على أن يغير الليل والنهار، ويغير القلوب، ويبدل الناس بغيرهم، وهو على كل شيء قدير.

تفسير قوله تعالى: (ذلك بأن الله هو الحق)

تفسير قوله تعالى: (ذلك بأن الله هو الحق) قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:6]، كرر الله: (ذلك) ثلاث مرات؛ لبيان قدرة الله سبحانه، أي: ذلك الذي فعلناه، وذلك الذي قصصناه عليك؛ لتعلم قدرتنا العظيمة على الجميع، نعاقب من نشاء، ونعفو عما نشاء، ونبدل الليل والنهار، وكذلك نبدل القلوب ونغير ما نشاء من أمر الناس، فمنهم كافر، ومنهم مؤمن، ونسمع ونرى كل شيء، وذلك من الله عز وجل بقدرته العظيمة الباهرة؛ لأنه هو الحق سبحانه، وأن ما يدعون من دونه هو الباطل، فيذهب الله عز وجل الباطل كما يذهب الليل ويأتي بالحق كما يأتينا بالضوء وبالنهار. قال تعالى: {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} [الحج:62] فيها قراءتان: (وأن ما يدعون) قراءة الجمهور، وقراءة نافع، وأبي جعفر، وابن عامر، وشعبة عن عاصم: ((وَأَنَّ مَا تَدْعُون))؛ فالخطاب للمشركين: وأن ما تدعون من دون الله سبحانه هو الباطل، فهم يدعون ما لا ينفعهم، ولا يضرهم، وذلك هو الضلال البعيد. قال تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62] فذكر هنا اسمين له سبحانه، العلي أي: المتعالي الذي لا شيء مثله سبحانه، فهو عالٍ على كل شيء بقدرته سبحانه، عالٍ عن الأشباه والأنداد، مقدس عما يقوله الظالمون من صفات لا تليق بجلاله سبحانه وتعالى. العالي فوق خلقه فله العلو: علو الكمال، وعلو الذات، وعلو القهر، وعلو الصفات. وهو يملك كل شيء، ويدبر أمر كل شيء، عالٍ عن أن يصل إليه دنس العباد وأذاهم. وهو الكبير سبحانه، وهي صفة أخرى من صفاته العظيمة. ولما ذكر الليل والنهار بأشياء عظيمة، وذكر لنا أن الله سبحانه هو الحق، وأن ما يدعون من دونه باطل هزيل سيضمحل، أخبر أنه هو وحده الكبير سبحانه، فمهما رأى الإنسان من شيء كبير من الأرض أو من السماء أو من الأجرام أو من الجبال، بل أي شيء يراه في نفسه عظيماً كبيراً؛ فالله أعظم وأكبر وأجل منه. فلذلك حين يعلو الإنسان فوق جبل يقول: الله أكبر، وهذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا نزلت من الجبل إلى الأرض قلت: سبحان الله. وهذا مناسب للحال فإذا ارتفع الإنسان قد يظن أنه علا وبغى فيقول: الله أكبر من كل شيء. وإذا نزل الإنسان يستشعر التواضع في النزول والانخفاض فيقول: سبحان الله، أي: لا ينحط أبداً سبحانه وتعالى، ولا ينزل نزولاً يدل على نقص، بل نزوله إلى السماء بكماله، وجلاله وقدرته وهو العلي الكبير، لا يعتريه نقص، ولا شيء مما يعتري الخلق. قوله: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23] أي: الموصوف بالعظمة والجلال وكبر الشأن. وقيل: الكبير من الكبرياء فله الكبرياء، والكبرياء: الكامل في ذاته سبحانه، وله الوجود العظيم الذي لا يشبهه شيء من خلقه.

تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء)

تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء) قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [الحج:63] ذكر الله لفظ الجلالة، ووصفها بأسمائه الحسنى الأخرى، فاللطيف: الدقيق في علمه سبحانه وتعالى، والخبير: العليم ببواطن الأمور، يعلم ما قل وما صغر، وما ظهر وما خفي. قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [الحج:63] وكل إنسان يرى ذلك، فينزل من السماء الماء، قال تعالى: {فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً} [الحج:63] تجد أرضاً ينزل عليها من السماء المطر بالليل، فإذا بها بالنهار قد بدأت خضرتها أو أنها تكون أرضاً بوراً ثم بعد فترة ينبتها الله سبحانه. فإما أن يكون الإصباح حقيقاً على هذا النحو، أو بعد ذلك يصير مآلها إلى الإخضرار بسبب ما أنزل الله عز وجل من الماء. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [الحج:63] فالله لطيف خبير يعلم كل شيء، وهو لطيف بعباده عليم بخفاياهم. فاللطف معناه: العلم الدقيق، ومن معناه: الرحمة الخفية منه سبحانه وتعالى، فقد يلاقي الإنسان في الدنيا الظلم والصعوبة والشدة ثم يلطف الله عز وجل به ويغفر لمذنبه. وتأمل المناسبة الجميلة بين أسماء الله الحسنى، وبين ما يذكره الله سبحانه وتعالى من بديع خلقه، فالإنسان في قاحل من الأرض، وهو محتاج للماء ليشرب، وفجأة أنزل الله عز وجل من السماء ماء فارتوى الإنسان وأنبتت الأرض، فنقله بلطفه سبحانه وتعالى من حال عسر صعب شديد إلى حال فيه يسر، وفيه فضل من الله وفيه غنى؛ فيحمد العبد ربه سبحانه وتعالى عليه. فهو اللطيف بعباده، وهو خبير، وعلمه دقيق يعلم ما خفي من أمر العباد، فقد يكون في قلب العبد اليأس والقنوط حين تأخر نزول المطر، فيعلم الله عز وجل ذلك، ويعجب من قنوط العبد، وقرب تفريجه سبحانه وتعالى لهذا الحال. فإذا كاد العبد أن ييئس فجأة ينزل المطر بلطف الله سبحانه تبارك وتعالى، فينبت الزرع ويشرب الإنسان! والله لطيف بأرزاق عباده، فيخرج لهم النبات من الأرض، ويعطيهم ما يحتاجونه من أشياء على قدر ما يحتاجون.

تفسير قوله تعالى: (له ما في السماوات وما في الأرض)

تفسير قوله تعالى: (له ما في السماوات وما في الأرض) قال تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الحج:64] فذكر هنا اسمين آخرين من أسمائه الحسنى سبحانه، فالله يملك ما في السموات وما في الأرض، وإن الله لهو الغني عما في السموات وعما في الأرض وعن عباده سبحانه، فهو غني بذاته، والعبد فقير بذاته. والله الحميد المستحق للحمد، والمحمود على إحسانه وإنعامه، والمحمود على جلاله وإكرامه، والمحمود على جماله وأفعاله. فلا يحتاج إلى شيء لغناه، وهو المحمود سبحانه في كل حال، يحمده العبد في السراء فيقول: الحمد لله رب العالمين، ويحمده في الضراء فيقول: الحمد لله على كل حال، فهو المستحق للحمد؛ لأنه أهل لذلك. نسأل الله بأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الحج [60 - 65]

تفسير سورة الحج [60 - 65] يذكر الله سبحانه وتعالى من أسمائه الحسنى ما يناسب آياته في كتابه الكريم، فهو سبحانه له تسعة وتسعون اسماً من حفظها دخل الجنة، فينبغي الحرص على معرفة أسماء الله وصفاته، وقد ذكر الله في سورة الحج أسماء حسنى كثيرة لم يذكرها في غيرها من سور القرآن.

تفسير قوله تعالى: (ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه)

تفسير قوله تعالى: (ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الحج: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحج:60 - 65]. في هذه الآيات من سورة الحج يذكر الله سبحانه وتعالى عظيم قدرته وبديع صنعته في خلقه للسماوات وللأرض، وذكر أنه سبحانه وتعالى له الأسماء الحسنى، ومقتضى أسمائه أن له أفعالاً عظيمة في خلقه ويرينا بعضاً منها في سبع آيات متعاقبة، وكل آية يختمها ربنا سبحانه باسمين من أسمائه الحسنى. وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة). فقوله: (أحصاها) أي: حفظ هذه الأسماء وعرف معانيها وقام بحقها ودعا الله عز وجل بها في مواطنها. وهنا ربنا ينبهنا في كل آية باسمين من أسمائه الحسنى مناسبين للآية، فقال سبحانه: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [الحج:60]، فذكر اسمين من أسمائه: العفو والغفور سبحانه وتعالى. ومن أسمائه الحسنى ما فيها صفات لا تليق إلا به وحده سبحانه، ومنها ما فيها صفات تليق به سبحانه وتعالى وحده لجلالها وكمالها، وأمر العباد أن يتخلقوا بالأوصاف التي فيها كالمغفرة والرحمة، فأمر عباده أن يعفو بعضهم عن بعض، وأن يتراحم بعضهم مع بعض، فمن الصفات التي له سبحانه وأمر العباد أن يتصفوا بها، الرحمة والعفو، فيكون فيهم الرحمة والمغفرة للناس على ما يسيئون إليهم. فذكر هنا: (وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ) وعاقب هنا بمعنى: جازى عقاباً للذي عاقبه، كأنه من ظلم فجوزي على ظلمه. قال تعالى: (ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ) وعد الله المظلوم بأنه ينصره، وهنا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا قبل ذلك لما لاقوا الكفار في شهر حرام استغل الكفار الفرصة لأن المسلمين لا يقاتلون في الشهر الحرام، وأرادوا قتالهم، فنصحهم المسلمون بأن هذا لا ينبغي؛ لأنه شهر حرام، فأبى الكفار، فقاتلهم المسلمون فنصرهم الله سبحانه وتعالى، فأخبرنا هنا أن من عاقب بمثل ما عوقب به، أي: هؤلاء الذين جازوا الكفار بمثل ما فعل الكفار، فإذا بغى الكفار واستغلوا الشهر الحرام، فالله عز وجل ينصر المظلوم، فنصر الله عز وجل المؤمنين ووعدهم بنصره. قال تعالى: (لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) هنا ينصر المظلوم، وأيضاً يشير لهذا الإنسان الذي يظلم بأن من صفات الله عز وجل العفو والمغفرة، فكن أنت أيضاً على مثل هذه الصفة، قال تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22]، ففي هذه الآية إشارة إلى اسمين من أسمائه سبحانه أنه يعفو عن الذنوب ويتجاوز عن السيئات ويغفر ويستر سبحانه وتعالى، وفيه تعريض للمؤمنين أيضاً أن يكونوا على مثل هذه الصفات، اعفوا واصفحوا حتى يغفر الله عز وجل لكم. فمناسبة ما ذكر من عقوبة ومن نصر لله سبحانه وتعالى، وأن الله ينصر عباده المؤمنين المظلومين، ختم بالعفو والمغفرة، فإن هذا الكافر الذي قاتل المسلمين لعله يسلم يوماً من الأيام، فالله عز وجل يغفر لمن دخل في الإسلام بعد كفره، والإسلام يجب ما قبله، والتوبة تجب ما قبلها، فعلى ذلك هنا ربنا سبحانه وعد المؤمنين بالنصر، وأيضاً المغفرة لمن تاب إليه سبحانه والعفو عما سلف. فهذان اسمان من أسماء الله الحسنى: العفو والغفور. (لَعَفُوٌّ) العفو: يتجاوز سبحانه وتعالى عن الذنوب لمن تاب إليه سبحانه. (غَفُورٌ) الغفور: الذي يستر الذنوب ويمحوها ويزيلها، والذي لا يؤاخذ بها سبحانه إذا تاب العبد إليه.

تفسير قوله تعالى: (ذلك بأن الله يولج الليل في النهار)

تفسير قوله تعالى: (ذلك بأن الله يولج الليل في النهار) قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج:61]. قوله تعالى: (ذَلِكَ) أي: ذلك الأمر الذي قصصنا عليك من نصر المظلوم بأن الله على كل شيء قدير سبحانه. وقوله تعالى: (بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) أي: يدخل هذا في ذاك، ويخرج هذا من ذاك. وقوله تعالى: (وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) الليل فيه الظلمة، فالإنسان لا يرى في الظلمة ولكن يسمع في الظلام، وفي النهار يرى الإنسان ويسمع، فهنا النهار مناسب للإبصار، والليل مناسب للسمع؛ فختم الله عز وجل الآية بأنه سبحانه السميع البصير سبحانه، فهو سميع ليل نهار، وإن كان الإنسان قد يعتريه في سمعه النقصان في وقت دون وقت على القرب، وعلى البعد، فهو يسمع القريب ولا يسمع البعيد، وقد يكون الإنسان قريباً من إنسان ويصاب بصمم فلا يسمع، لكن الله سبحانه وتعالى يسمع كل شيء، ولا يخفى عليه شيء، فالله سميع والله بصير لا يحجبه عن الإبصار الليل ولا النهار، فيرى بالليل كما يرى بالنهار سبحانه وتعالى، يرى الجلي ويرى الخفي، ويرى الدقيق ويرى العظيم الجليل، ويرى كل شيء ما بعد وما قرب.

تفسير قوله تعالى: (ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل)

تفسير قوله تعالى: (ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل) قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62] قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ) فالله الحق، ويأبى إلا أن يحق الحق بكلماته سبحانه. قال تعالى: (وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ) فمهما استنصروا بهذا الباطل ومهما رأوا الباطل قد كثر وقد كبر في نظر هؤلاء، فالله العلي الكبير سبحانه، فالإنسان الذي يتبع الباطل يجد له أعواناً كثيرين على الباطل، ولذلك يقول الله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116]، ولا يهدوك إلى سبيل الله، بل يضلوك عن سبيل الله سبحانه. وقال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103]، فالكثرة من الناس ليسوا من أهل الإيمان، فالإنسان يستكثر بمن هو مثله، والكفار يستكثرون ويتقوون بأمثالهم فيرون أنفسهم في عدد كبير جداً، فيستكثرون أنفسهم ويستكبرون بما هم فيه. قال تعالى: (وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ) مهما علا الباطل لا بد أن يدحضه الله سبحانه، والله وحده العلي سبحانه وتعالى. وقوله تعالى: (الْكَبِيرُ) مهما كبر أهل الباطل وكثروا فالله هو الكبير وحده لا شريك له، الله أكبر من كل شيء، وأن الله هو العلي الكبير سبحانه الموصوف بالعظمة والكبرياء.

تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء)

تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء) قال الله تعالى: ((أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ)) [الحج:63]. يذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يفعل كذا، والله يفعل كذا، ويذكر لنا من صفاته ما يناسب المقام. فالله أنزل الماء من السماء أي: من السحاب ومن حيث شاء الله سبحانه وتعالى، نزل المطر بالليل، وأصبحت الأرض مخضرة، هذه آية، وذكرها قبل ذلك في الآية الخامسة من هذه السورة بقوله تعالى: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحج:5 - 6]، فالمناسبة العظيمة بين إنزال الماء من السماء: أن الماء ينزل من السماء على أرض جدباء فيحييها الله سبحانه، وينزل القرآن من السماء على قلوب عباد -والله أعلم من يستحق الهدى- فيهديها ويحييها بعد موتها وبعد ضلالها، فالقرآن شفاء ونور وحياة، نزل من السماء ويحيي به الله عز وجل قلوب من يشاء من خلقه. في الآية الأولى ذكر لنا ربنا سبحانه: (وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) وهذه لها معان في اهتزازها وربوها، فالأرض تهتز بالنبات الذي فيها، سيقان النبات وجذور النبات تدخل في الأرض، فإذا بالأرض تهتز وتعلو بما نما فيها من جذور للنبات، هذا معنى من المعاني. وتربو الأرض ويرتفع فيها النبات، فكأنها علت بالنبات الذي فوقها. والآية هنا يقول سبحانه: (فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً) وفي تلك الآية يقول سبحانه: (اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ)، والبعض يقول: إن الأرض اهتزت وربت داخل الأرض نفسها، فالأرض من داخلها تهتز، والربو بداخل الأرض نفسها، ثم بعد ذلك ينبت النبات، فعلى التفسير الأول: أن الأرض علت بما فوقها من النبات، نبات نما وعلا فوق الأرض، فهذا هو ربو الأرض وعلوها. والبعض الآخر يقول: إن الربو بداخل الأرض نفسها، التربة نفسها تربو وتنتفخ وتعلو، وهذا موافق لما جاء في هذه الآية، والعلم الحديث يقول لنا هذا الشيء أيضاً، ففي عام 1827م اكتشف عالم بريطاني اسمه براون أن المطر ينزل على الأرض فيحدث في الأرض اهتزازات بداخل التربة، أي: حبيبات التراب التي في الأرض تهتز، فيحصل نوع من التأين فيها، شحنات سالبة وشحنات موجبة بسبب المطر، فالتي تأخذ شحنة عالية تتحول إلى شحنة موجبة، والثانية تتحول إلى شحنة سالبة أو العكس في ذلك، فيحصل تنافر بين هذه الشحنات فتعلو الأرض؛ لأن الماء يدخل بداخلها، أي: أن جزءاً من ألف جزء من الملي يدخل فيها شيء من الماء، والأخرى يدخل فيها شيء من الماء، فيحجز الماء في هذه الصفيحات من حبيبات الأرض لكي تنمو النباتات بعد ذلك، يقول براون: إن هذه الحبيبات من التراب عبارة عن صفائح بعضها فوق بعض من المعادن المختلفة، وهي صفائح متراصة، فإذا نزل المطر تكونت شحنات كهربائية مختلفة بين الحبيبات بسبب اختلاف المعادن، وحدث تأين وتحول إلى شحنات سالبة وشحنات موجبة، فإذا نقص عدد الكهيربات في الذرة أصبحت موجبة، وإذا زادت صارت سالبة بفعل الماء الذي ينزل عليها، وبدخول الماء من عدة جهات إلى تلك الحبيبات يحدث اهتزاز في هذه الحبيبات. والاهتزاز له فائدة عظيمة، فقد قال سبحانه: (اهتزت وربت) أي: تهتز صفيحات التراب، وبعد ذلك تتباعد بعضها عن بعض وتحتوي الماء في داخلها، فالاهتزاز يوجد مجالاً لدخول الماء بين الصفائح، فإذا دخل الماء بين صفائح التراب نمت ودبت هذه الحياة، وربت وزادت بسبب دخول الماء بين الصفائح، فإذا تشبعت بالماء أصبحت عبارة عن خزان للماء، فالتراب الذي نراه يصير خزاناً للماء بداخل الأرض يحفظ الماء بين هذه الصفائح، والنبات يستمد الماء من التراب الذي في صفائحه ذرات الماء طوال شهرين أو ثلاثة أشهر، فأصبحت خزانات للماء بداخل الأرض، وربت بفعل الماء الذي بداخلها ثم بعد ذلك أنبتت النبات. وهنا يقول الله في الآية: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً) أي: ربت الأرض وبعد ذلك أخرجت النبات، والاهتزازات الذي ذكرها هذا العالم موجودة في القرآن في قوله تعالى: (فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ)، ولكنهم اعتبروها كشفاً علمياً حديثاً جداً، ونسبوها لصاحبها الذي اكتشفها، ولكن صاحبها الحقيقي هو الله عز وجل الذي أخبر بها، فسماها علماء النبات اهتزازات براون نسبة لمن اكتشفها، وكان ذلك في عام 1827م، والقرآن من قبل 1400 سنة ذكر لنا هذا الشيء العظيم: أن الأرض تهتز وتربو وتنمي هذا النبات، ثم اكتشفوا ذلك، ونسبوه للمكتشف ونسوا ما ذكر الله سبحانه وتعالى! فقوله تعالى: (فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً) بالنبات الذي فوقها. قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) إذ تصبح الأرض مخضرة وفيها النبات الأخضر، فيها الورق الأخضر الذي يأتي عليه الضوء، فيخرج منه أوكسجين؛ لأنه يتنفس ويأخذ ثاني أكسيد الكربون ويخرج لنا الأوكسجين الذي نعيش به، ولكي نعرف لطف الله عز وجل بعباده أخرج من النبات الغذاء للإنسان والأوكسجين الذي يتنفس به الإنسان من فضل الله عز وجل، فقال لنا: الله لطيف بعباده سبحانه وتعالى، فالمطر حياة للإنسان، لما ينزل من ماء يشربه الإنسان ويسقي الأرض وينمي النبات، ويخرج لنا الأوكسجين الذي نتنفسه. قال: (خَبِيرٌ) أي: دقيق في علمه يعلم ما دق وما جل، ويعلم ما يحتاجه الإنسان، فيعطيه ما يحتاجه. وهنا نرى المناسبة الجميلة بين إنزال الماء ولطف الله سبحانه وتعالى بالعباد، فالإنسان يعطش ويحتاج للتنفس وللطعام، فالله بلطفه أنزل الماء فأعطاه هذا كله، والله خبير يعلم حاجة الإنسان ويعلم ما في قلبه عندما يدعوه، فالله الخبير سبحانه العليم بخفايا النفوس، والعليم بما يحتاجه الإنسان، أخرج له النبات وأعطاه الرزق.

تفسير قوله تعالى: (له ما في السماوات وما في الأرض)

تفسير قوله تعالى: (له ما في السماوات وما في الأرض) قال الله تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الحج:64] الله هو الغني الذي يملك كل شيء، وهو الحميد المستحق لأن يحمد سبحانه تعالى على كماله وعلى جلاله، فالله يملك، والذي يملك هو الغني، والذي يملك هو الذي يحمد؛ لأنه قادر ولأنه مالك ولأنه غني مستغن عن غيره، والكل يحتاجون إليه، واحتياجهم إليه يدفعهم أن يحمدوا هذا الغني الذي يعطيهم سبحانه وتعالى بسؤالهم وبغير سؤالهم، فالله له أن يملك فهو الغني سبحانه. فقوله سبحانه: (لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) أي: يملك ما في الأرض، فكل ما تملك من بيت وأرض وزرع هو ملك لله، ومع ذلك أعطاك ذلك، أفلا تحمده سبحانه أن أعطاك وسماك مالكاً وأنت في الحقيقة لا تملك شيئاً، هو ملك الله سبحانه، فالله الحميد المستحق لأن يحمد سبحانه على كرمه وعلى فضله سبحانه وعلى إعطائه عبيده مالا يملكون، فهو ملك له.

تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض)

تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض) قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحج:65]. هذه من نعم الله عز وجل على العباد، سخر لكم ما في الأرض وما في البحر وما في الجو، سخر لكم الدواب، وسخر لكم الجماد، وسخر لكم الحيوان، وسخر لكم ما في البحار، وما في الأنهار، وسخر لكم ما في السموات من شيء من فضله، وجعل لكم طعاماً من طيور وغيرها، وهنا سخر لكم ما في الأرض سبحانه وتعالى. قال تعالى: (وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) أي: سخر لكم السفن تجري في البحر، ليس بأمرك أنت ولكن بأمر الله سبحانه وتعالى، هو الذي يسيرها بالرياح، وهو الذي يسيرها بما يشاء سبحانه، ولو شاء أوقفها ولو شاء لقلبها وقد فعل هذا كله. قال تعالى: (وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) أي: يمسك السماء أن تقع، وما سماك هو: ما علا فوقك، ومنه السماء، ويمسك النجوم أن تصطدم بعضها ببعض، وعلماء الفلك يراقبون السماء ويقولون: هناك نجم أتى من تلك المنطقة ومذنب أتى من مكان آخر، ولو وصل إلى الأرض وضربها بذيله لضاعت الأرض، والذي يمسك هذا ويمنعه هو الله سبحانه وتعالى حتى يأتي قضاؤه وقدره، والإنسان يراقب فقط، لكن لا يقدر أن يتصرف بشيء، فلو نزل نجم يهوي إلى الأرض لكي يدمر الأرض لا يقدر الإنسان أن يصنع به شيئاً، فالله سبحانه وتعالى يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه. قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) هذا من رأفة الله عز وجل بعباده ومن رحمته بعباده سبحانه وتعالى، فالله رءوف ولطيف بعباده سبحانه، فالرأفة رحمة الله عز وجل بعباده، فذكر اسمين من أسمائه: الرءوف، أي: رحيم بعباده سبحانه، ولطيف في رحمته بعباده، وهو الرحيم ذو الرحمة المتواصلة الدائمة في كل شيء من أمور الإنسان ومن أمور خلقه فهو رحيم. (رَءُوفٌ) قرئت في القرآن كله بقراءتين: قراءة الجمهور: ((إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ))، وقراءة البصريين وحمزة والكسائي وخلف وشعبة عن عاصم: (لَرَؤف) بالقصر من غير مد للهمزة، ففي كل القرآن هذا الاسم العظيم يقرأ: (رؤف) ويقرأ: (رءوف). فهنا الأسماء الحسنى جاءت في السبع الآيات المتوالية: (إن الله لعليم حليم)، (وإن الله لعفو غفور)، (إن الله سميع بصير)، (وأن الله هو العلي الكبير)، (إن الله لطيف خبير)، (إن الله لهو الغني الحميد)، (إن الله بالناس لرءوف رحيم) فذكر الله عز وجل فضله وكرمه وأسماءه الحسنى المناسبة لما ذكره، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة) فالمناسبة: أنك تفهم اسم الله سبحانه، وتستدعي فضل الله عز وجل بهذا الاسم في الموطن الذي يناسبه، فتسأله رحمته حين تنزل بك المصائب وتنزل عليك الشدائد، وتسأله من فضله، وتسأله من رحمته ومن لطفه، وتسأله من رأفته سبحانه، وفي كل موطن تذكر اسماً من أسماء الله عز وجل يناسب كشف الضر في هذا الموطن عنك، وإجابة سؤالك. نسأل الله عز وجل أن يعلمنا ويحفظ لنا دينه، ويجعلنا من عباده المخلصين. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد.

تفسير سورة الحج [66 - 72]

تفسير سورة الحج [66 - 72] لقد خلق الله تعالى الإنسان من عدم ثم يميته ثم يحييه يوم القيامة، والكافر لم يشكر الله تعالى على نعمه، بل صار جاحداً كفوراً لها، مجادلاً بالباطل، فالله سيحكم في هؤلاء يوم القيامة، فهو يعلم ما في السماوات والأرض، ومن ذلك جدل المجادلين وعدم استجابة المكذبين.

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الإنسان لكفور)

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الإنسان لكفور) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الحج: {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ} [الحج:66]. لما ذكرنا الله عز وجل بنعمه العظيمة في الآيات السابقة، وعقب في كل آية من الآيات باسمين من أسمائه الحسنى دالين على ما ذكر فيها، ذكر بعد ذلك طبيعة الإنسان وما فيه من كفر، وما فيه من جهل، فقال سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ} [الحج:66]. فالله عز وجل خلق الإنسان وقد كان لا شيء قبل أن يخلقه سبحانه، فأحياه حياتين، وأماته موتتين. فالموتة الأولى يوم أن كان عدماً، ثم أحياه الله وجعله إنساناً في هذه الدنيا، ثم أماته الموتة الثانية ليبعثه ويجازيه يوم القيامة، ثم يحييه بعد ذلك. فالإنسان يمر في حياته بمراحل: مرحلة الطفولة، ومرحلة الشباب، ومرحلة الكهولة، ومرحلة الشيخوخة ثم الموت. يتقلب الإنسان بين حالي الضعف والقوة، قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الروم:54]. فمن المفترض أن الإنسان الذي يرى آيات الله عز وجل في الخلق، وفي نفسه أن يعرف قدرة الله، فيقدر الله حق قدره، قال سبحانه: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91]. وهنا يذكر سبحانه أنه هو الذي أحياكم، ثم يميتكم، ثم يحييكم. أحياكم يوم أن كنتم عدماً ثم كنتم نطفة فجعل فيكم حياةً مستقرة عشتم بها على الأرض، ثم أماتكم وتوفاكم سبحانه، ثم يبعثكم ليجازيكم، فهل عملتم ليوم الجزاء أم كفرتم وجحدتم نعم الله عز وجل عليكم؟ قال: {إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ} [الحج:66] يعني: من طبيعة الإنسان الكفر، والكفر الجحد، والمقصود هنا الجحد لنعم الله سبحانه وتعالى، فمهما أنعم على الإنسان استقل ما أعطاه الله سبحانه، سواء صرح بذلك أم لم يصرح، قال الله سبحانه: {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات:6] أي: كنود جحود كفور، يجحد نعم الله عز وجل، إنها طبيعة الإنسان! قال تعالى: {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} [العاديات:7] يعني: لو أن الإنسان حاسب نفسه لعرف أنه فعلاً يجحد نعم الله عز وجل، فتجد بعضهم يقول: إنني مريض، ولا أملك شيئاً، يشكو ربه تبارك وتعالى! فإذا راجع نفسه وتأمل وقال: الله أطعمني، وسقاني، وكفاني، وأواني، ومنع عني الخلق شرورهم، ورزقني، عرف أنه كاذب فيما ادعى من عدم الملك، وأن الله قد أنعم عليه بالنعم العظيمة. فقال هنا سبحانه: {إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ} [الحج:66] اختلف المفسرون فيمن نزلت هذه الآية فقيل: في الأسود بن عبد الأسد. وقيل: في أبي جهل بن هشام. وقيل: في العاص بن هشام. وقيل: في جماعة من المشركين. ولكن الله عز وجل لم يقصد هؤلاء فقط، وإنما قال: {إِنَّ الإِنسَانَ} [الحج:66] يعني: أن جنس الإنسان فيه هذا العيب أنه يعرف نعم الله، ثم ينكرها كما قال: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} [النحل:83]. فينكر نعم الله عز وجل التي أنعم عليه بأي دعوة من الدعاوى كأن يكون خائفاً من الحسد أو غيره. فيقول الله له: لا تنكر نعم الله عز وجل عليك، ولكن قل: الحمد لله الذي أنعم علي وأعطاني. وقل: ما شاء الله؛ إن خفت على نفسك من الحسد من غيرك، أو من نفسك.

تفسير قوله تعالى: (لكل أمة جعلنا منسكا)

تفسير قوله تعالى: (لكل أمة جعلنا منسكاً) يقول سبحانه تبارك وتعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ} [الحج:67] أي: جعلنا لهم شريعة يعبدون الله عز وجل بها. ومن معاني النسك: شرع الله سبحانه، والنسك العبادة، والذبح لله سبحانه وتعالى. فكل أمة من الأمم جعل الله عز وجل لهم شرعاً ومنهاجاً يسيرون عليه، ثم يأتي نبي بعد نبي فينسخ الله عز وجل على لسانه ما يشاء، ويأتي بشرع آخر. ولكن يتفق الجميع على عبادة الله الواحد سبحانه وتعالى، ويتفقون على أن يسلموا أنفسهم لرب العالمين يحكم فيهم بما يشاء سبحانه وتعالى، ويتفقون على قول لا إله إلا الله. وقد ذكر المفسرون أن هذه الآية نزلت بسبب جدال الكفار للمؤمنين في أمر الذبائح، فقالوا: تأكلون ما ذبحتم، ولا تأكلون ما ذبح الله! يعنون بذلك الميتة فكأنهم جعلوا ذلك من باب قياس الأولى. وهذا الجاهل الذي يتعامى عن الحقيقة، نسي أن الذي أزهق الروح وقبضها في الحالتين هو الله سبحانه وتعالى والإنسان إنما باشر الذبح، ثم أخبرك الله أن هذه المذكاة حلال، وأن التي ليست مذكاة حرام. فهؤلاء جادلوا بالباطل مع معرفتهم ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم، وما يقوله المؤمنون.

تفسير قوله تعالى: (فلا ينازعنك في الأمر)

تفسير قوله تعالى: (فلا ينازعنك في الأمر) قال الله سبحانه تبارك وتعالى عن هؤلاء للنبي صلى الله عليه وسلم: {فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ} [الحج:67] يعني: دع هؤلاء في إفكهم وافترائهم واختلاقهم على الله عز وجل الكذب، فأنت قد عرفت الحق الذي أنت عليه. ثم قال سبحانه: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} [الحج:67] ادع هؤلاء وغيرهم إلى الله عز وجل، ولا يصدنك هؤلاء عن دعوتك إليه. ثم قال له مؤكداً: {إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ} [الحج:67] فأنت على هدى ومن معك عليه كذلك، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]. فإذا عرف المؤمن الحق فلا ينظر لما يقول الكفرة إلا على وجه الرد عليهم بحيث لا يشغل نفسه بهم، فإن اشتغل بهم ضيعوا عليه أمر دينه. ثم قال سبحانه: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} [الحج:67] أي: انتبه لدعوتك إلى الله عز وجل، ولا تشغل نفسك بجدال هؤلاء؛ فإنهم يأخذون وقتك كله، وأنت قد هداك الله عز وجل إلى دين لا عوج فيه صراط مستقيم إلى جنة رب العالمين.

تفسير قوله تعالى: (وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون)

تفسير قوله تعالى: (وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون) قال تعالى: {وَإِنْ جَادَلُوكَ} [الحج:68] أي: إذا جادلوك بهذا الذي يقولونه، {فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحج:68] أي: الله أعلم بأعمالكم، وبأقوالكم، ونواياكم. فقد يقول الكافر كلاماً يتوهم منه المسلم أنه يجادل من أجل الوصول إلى الحق، والله يعلم أنهم كذابون، وأنهم لا يريدون حقيقة ولا غيرها. ولكن يريدون أن يشنعوا على الإسلام وعلى المسلمين، ومهما أظهروا عسلاً أمام الناس فقد أبطنوا فيه سماً. ولذلك من يطلع على أقوال المستشرقين الذين يمدحون الإسلام تجد أن في باطن كلامهم الكذب على هذا الدين وأنهم يقولون كلاماً يجذبون به الناس، ثم بعد ذلك يضعون لهم السموم. ومثال ذلك: الكافر الذي ألف كتاب العظماء المائة في التاريخ، يذكر أن أعظم الناس الذي دعوا الخلق وظهروا واشتهروا هو النبي صلى الله عليه وسلم. ثم يقول: إنه يفرق بين كونه رجلاً دعا الناس والتفوا حوله، وبين كتابه الممتلئ بالخرافات، وبالكلام الذي لا يقبله العقل! فالله أعلم بما يعمل هؤلاء، وإن أظهروا أن هذا الدين حسن، فإن لهم هدفاً في قلوبهم وهو تشويه صورة الإسلام، ويجعلونه دين خرافات، فلا يعترفون به. ومن ذلك: ما فعلوا من لجان للتقريب بين الأديان، وأنه لا بد أن يجتمع الناس على التسامح. ثم يجتمعون من أجل أن يتكلموا عن أمر الأديان الثلاثة: اليهودية، والنصرانية، والإسلام. ثم يخرجون بوثيقة يرفض اليهود والنصارى التوقيع عليها وقالوا: نحن لا نعترف بالإسلام أصلاً، أنه دين، أما المسلمون فقد كادوا أن يوقعوا على ذلك! فنقول لهؤلاء المستدرجين من المسلمين: إنهم في الحقيقة لا يعترفون بدينكم، وقد قال الله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] فأخبرنا ربنا أن هؤلاء أبداً لن يحبوا المسلمين، ولن يرضوا عنهم حتى يبدلوا دينهم بما هم عليه. فإذا تغافل المسلم عن ذلك سلط الله عز وجل عليه عدوه حتى يذيقه الأمرين، ليعلموا أن ما قاله الله عز وجل حق!

تفسير قوله تعالى: (الله يحكم بينكم يوم القيامة)

تفسير قوله تعالى: (الله يحكم بينكم يوم القيامة) قال تعالى: {اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [الحج:69] أي: أن الله يحكم بيننا وبينكم يوم القيامة فيما عرفتم من الحق ثم اختلفتم حوله. يقول العلماء: في هذه الآية أدب حسن علمه الله عز وجل لنبيه صلوات الله وسلامه عليه، ولعباده جميعهم في الرد على المجادل المتعنت، فقال: مثل هؤلاء لا يستحق الجدال والمناظرة؛ لأنه يتكلم بالباطل ولا يريد الوصول إلى الحق. وعلى ذلك فالذي يستحق أن يجادل هو الذي يطلب الحق ليصل إليه، أما الذي يجادل للجدل، فهذا لا يستحق الجواب.

تفسير قوله تعالى: (ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض)

تفسير قوله تعالى: (ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض) قال الله عز وجل: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَاب إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70] كأنه سبحانه يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك قد علمت ذلك، على وجه الاستفهام التقريري (ألم تعلم؟) فيقول له وللمؤمنين بالتبع: اعلموا أن الله يعلم ما في السماء والأرض، واستيقنوا ذلك فقد علمه سبحانه وكتبه عنده في كتاب. فكل ما هو كائن إلى يوم القيامة مكتوب عند الله عز وجل لا يبدل ولا يمحى. قال تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70] أي: أن الله عز وجل كتب ذلك في الكتاب، ويسير عليه أن يعلم كل شيء، إنما هو صعب على الإنسان أن يعلم أشياء من أجل أنه يحفظ هذا، ويحفظ هذا، ويكتب ويقيد من أجل أن يحفظ، لكن الله عز وجل لا يحتاج إلى كتاب، ولا إلى اللوح، ولا إلى القلم. إنما يبين سبحانه وتعالى أنه على كل شيء قدير، فخلق قلماً، وأمره أن يكتب كل ما يريده الله عز وجل فكتبه، وجعل لوحاً حفظ فيه كل ما شاء الله سبحانه تبارك وتعالى. وهذا إعجاز من الله عز وجل أن يخلق قلماً فيكتب، وأي لوح هذا الذي يستوعب كل شيء من وقت ما خلق الخلق إلى أن تقوم القيامة؟! فمهما تعجب الإنسان من ذلك فهو على الله يسير. فإن كان ذلك على الله يسيراً فلم لا تعبدون الله؟ ولم تتركونه إلى غيره ممن لا يستطيعون أن يخلقوا؟ قال سبحانه: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل:17].

تفسير قوله تعالى: (ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا)

تفسير قوله تعالى: (ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطاناً) قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [الحج:71] أي: يعبدون من دون الله أوثاناً، وأحجاراً، ويعبدون أناساً وشياطين وجناً. وفي قوله تعالى: {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [الحج:71] قراءتان: قراءة الجمهور: (مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا) بالتشديد. وقراءة ابن كثير، وأبي عمرو، ويعقوب: (مَا لَمْ يُنزِلْ بِهِ سُلْطَانًا) بالتخفيف، وهكذا في القرآن كله. ومعنى قوله: ((سلطاناً)) أي: دليل وبينة وكتاب من عنده سبحانه. ثم قال تعالى: {وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ} [الحج:71] أي: لا علم لهم نزل من عند الله، ولا عقل يدل على ما يقوله هؤلاء، فلا نقل ولا عقل. قال سبحانه: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [الحج:71] فإذا جاءوا يوم القيامة وسئلوا: لماذا عبدتم هؤلاء؟ لا يجدون حجة نقلية، ولا حجة عقلية، ولا نصير ينصرهم يوم القيامة حين يردون إلى ربهم سبحانه وتعالى. فكانوا في الدنيا في بعد عن رب العالمين، وقست قلوبهم.

تفسير قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر)

تفسير قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر) قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [الحج:71] أي: يعبدون من دون الله أوثاناً، وأحجاراً، ويعبدون أناساً وشياطين وجناً. وفي قوله تعالى: {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [الحج:71] قراءتان: قراءة الجمهور: (مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا) بالتشديد. وقراءة ابن كثير، وأبي عمرو، ويعقوب: (مَا لَمْ يُنزِلْ بِهِ سُلْطَانًا) بالتخفيف، وهكذا في القرآن كله. ومعنى قوله: ((سلطاناً)) أي: دليل وبينة وكتاب من عنده سبحانه. ثم قال تعالى: {وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ} [الحج:71] أي: لا علم لهم نزل من عند الله، ولا عقل يدل على ما يقوله هؤلاء، فلا نقل ولا عقل. قال سبحانه: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [الحج:71] فإذا جاءوا يوم القيامة وسئلوا: لماذا عبدتم هؤلاء؟ لا يجدون حجة نقلية، ولا حجة عقلية، ولا نصير ينصرهم يوم القيامة حين يردون إلى ربهم سبحانه وتعالى. فكانوا في الدنيا في بعد عن رب العالمين، وقست قلوبهم.

تفسير سورة الحج الآية [73]

تفسير سورة الحج الآية [73] ضرب الله تعالى لنا مثلاً بأحقر المخلوقات وأضعفها وهو الذباب، منبهاً على حقارة الأصنام وسخافة عقول عابديها، فتحدى الله عز وجل الكفار وآلهتهم التي يعبدونها بأن يخلقوا ذباباً، بل تحداهم بما هو أقل من ذلك، وهو أن يستنقذوا من الذباب ما أخذ منهم، فهم عاجزون عن رد ما سلبه منهم، ضعف الطالب والمطلوب.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73]. يذكر لنا ربنا سبحانه وتعالى في هذه الآية مثلاً يضربه لعباده، فاستمعوا لما يقول الله سبحانه، قال عز وجل: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:74]، فضرب الله عز وجل مثل ما يعبد من دون الله سبحانه وتعالى، وكيف أن هذه الآلهة التي تعبد من دون الله لا تملك لنفسها ولا لغيرها شيئاً. وهنا يذكر لنا شيئاً من أحقر الأشياء التي يراها الإنسان، فيقول: ((إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ)) أي: هذه الآلهة التي عبدوها من دون الله، سواء كانت هذه الآلهة من حجر أو كانت من بشر أو كانت من جان أو شياطين أو ملائكة، فهؤلاء عبدوا من دون الله عز وجل ما لا ينفع، ولا يضر نفسه ولا غيره ولا يملك نفعاً ولا ضراً لا لنفسه ولا لغيره، فهؤلاء لو اجتمعوا لن يخلقوا شيئاً من مخلوقات الله سبحانه، ولو كان هذا الشيء من أحقر ما يكون. قوله: ((وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ)) فهنا شيئان: الأول: الذباب لا يقدر أحد أن يخلقه، أي: لا يقدرون ولو اجتمعوا جميعهم أن يخلقوا ذباباً. الثاني: أن هذا الذباب المخلوق الحقير الذي يقتله الإنسان لو أنه سلب من الإنسان شيئاً لا يقدر الإنسان أن يستنقذ هذا الشيء من هذا الذباب، حتى ولو قتل هذا الذباب فإنه لا يقدر أن يستنقذ هذا الشيء منه. وحاول العلماء ذلك، فوضعوا قطعة سكر للذباب، ومجرد أن وقع عليها الذباب رشوا عليه مبيداً وقتلوه، وحاولوا أن يأخذوا منه السكر فوجدوا أنه مستحيل؛ لأن الذباب لما وقف على السكر قام بإنزال إنزيم حلل السكر إلى مادة أخرى تماماً، وضاعت قطعة السكر على الإنسان ولم يقدر أن يأخذها، وقد يأتي إنسان فيفكر ويعاند في هذا الشيء، ويقول: لماذا لا نقدر أن نستنقذ الشيء من الذباب؟ وقد جرب العلماء وأثبتوا أن ما قاله الله عز وجل هو الحق، فهذا المخلوق الحقير الذي يضايق الإنسان اسمه ذباب، من الذبذبة والحركة، يعني: كثرة حركة فيه فهو يتحرك شمالاً ويميناً وفوق وتحت، ويؤذي الإنسان ويضايق الإنسان، في الدنيا وكذلك يوم القيامة يكون هذا الذباب في النار ليؤذي أهل النار والعياذ بالله.

حديث الذباب وموقف علماء الطب وغيرهم منه

حديث الذباب وموقف علماء الطب وغيرهم منه يذكر النبي صلى الله عليه وسلم لنا في الذباب شيئاً عجيباً في حديثه، يقول: (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه) جاء في هذا الحديث الذي ظل المسلمون مئات السنين لا يعرفون ما وراء هذا الحديث، ولكن يقولون: نطبق ما قال النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أتى ممن لا يفهمون سنة النبي صلى الله عليه وسلم وبدءوا ينكرون ذلك، ويقولون: كيف يروي الأئمة، مثل هذه الأحاديث حتى الإمام البخاري في صحيحه، وهو: (إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه؛ فإن في إحدى جناحيه داءً وفي الأخرى شفاءً)؟ في الماضي كان المسلمون يعلمون ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في الذباب وأن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء، لكن لم يكونوا يعرفون ما هو الداء وما هو الشفاء. وبعد ذلك جاء في القرن العشرين بعض المسلمين ممن استغربوا وخرجوا عن أرضهم وذهبوا للغرب وتعاملوا معهم ورجعوا ينكرون هذا، حتى من المشايخ، ويقولون: لم يكن من المفترض أن يذكر البخاري مثل هذا الحديث في الصحيح، هذا حديث خطأ؛ لأن الذباب مؤذ، وكيف نضع الذبابة كلها بداخل الإناء وكيف نخرجها؟! هذا شيء مقزز، وهذا شيء مؤذ، وهذا فيه مرض، فقالوا ما قالوا فيه، وبعد ذلك يقوم علماء الطب الأجانب ليفحصوا في الذباب، ويبحثوا ما فيها، وماذا في الحديث الذي يذكره النبي صلى الله عليه وسلم، فذكروا أنهم وصلوا بتجاربهم إلى أن الذباب فعلاً في أحد جناحيه جراثيم، وفي الجناح الآخر فيه ما يقتل الجراثيم، هناك أبحاث كثيرة قام بها علماء أمريكيون وبريطانيون وسويسريون وغيرهم فيقولون: ثبت علمياً أن الذباب يفرز جسيمات صغيرة من نوع الإنزيم تسمى (بكتريوفاج) أي: مفترسة الجراثيم، في داخل الذباب نفسه، قالوا: هذه المفترسة للجراثيم تسمى بعامل الشفاء، وهي صغيرة الحجم ويقدر طولها من عشرين إلى خمسة وعشرين (مل مايكرون)، فإذا وقعت الذبابة في الطعام أو الشراب فلو غمست جميعها نزل هذا الإنزيم الذي يقتل الميكروبات الموجودة في هذه الذبابة. يقول الدكتور أمين رضا أستاذ جراحة العظام في بحث عن الذبابة: نؤكد أن المراجع القديمة فيها وصفات طبية لأمراض مختلفة باستعمال الذباب، وهذا شيء عجيب جداً! ثم يقول: وفي العصر الحديث صرح الجراحون الذين عاشوا في السنوات العشر التي سبقت اكتشاف مركبات السلفا بأنهم قد رأوا بأعينهم علاج الكسور المضاعفة والقرحات المزمنة عولجت بالذباب، قال جراحون هذا الشيء! والبعض الآخر قالوا: لاحظ الأقدمون أن موضع لدغة الزنبور أو العقرب إذا دلك بالذباب فإنه ينفع منه نفعاً بيناً. وعندما ذهب الأطباء في الحرب العالمية لمعالجة الجنود لاحظوا أن الجنود الذين يعالجون في ميدان المعركة يشفون بسرعة، أما الضباط الذي ينتقلون للمستشفى ويعالجون بعلاج أرقى ومعقم يتأخر شفاؤهم؛ وذلك لأن الجنود الذين يعالجون في الميدان يتعرضون لوقوع الذباب على جراحاتهم، وليس معنى ذلك أن الذباب شيء جيد، لا، بل هو مؤذ في الدنيا وفي الآخرة والعياذ بالله، ولكن حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: (إذا وقع الذباب)، فالمسلمون لم يعرفوا معنى هذا الحديث، ولكن قالوا: هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم، فعندما بدأ ناس آخرون منهم يقلدون الغرب في كلامهم، وقالوا: كل شيء نفهمه بالعقل ولا نقبل هذا الحديث، لجهلهم وغبائهم، وكثير من المسلمين فيهم غباء وفيهم جهل وفيهم بعد عن دين الله سبحانه وتعالى، وبعد ذلك يتكلم الواحد منهم بجهله ويقول: العلم ينفي هذا الشيء وهو جاهل أصلاً، لم يدرس علماً ولا رآه، لكن هؤلاء الغربيون بيحثون ويرون ماذا وراء هذا الشيء. الدكتور (فيرينك) نشر بحثاً عن جائحات (الهايبا) (يعني: الكوليرا) في الهند، فاكتشفوا كائنات دقيقة تأخذ الجراثيم وتلتهمها، وعندما حصل وباء الكوليرا في الهند، وقتل أناساً كثيرين، وبعد ذلك فجأة قل هذا الوباء وبدأ ينتهي، اكتشفوا أن نوعاً من البكتيريا وهي (البكتريوفاج) (آكلة الجراثيم) كانت السبب في شفاء هؤلاء، وأثبت هذا الرجل أن العامل الأساسي في إطفاء جوائح (الكوليرا) كانت هذه (البكتريوفاج)، وقال: ويوجد في براز الناقهين من المرضى الذين كانوا مصابين (بالكوليرا) هذا (البكتريوفاج)، ويأتي الذباب ويقف على هذا البراز ويذهب على أحواض الماء التي يشرب منها الناس فيضع فيها (البكتريوفاج) ويشفيهم الله سبحانه وتعالى! هذا شيء عجيب جداً، الإنسان لا يتخيل هذا الشيء، وليس المسلمون الذين يقولون هذا الشيء، إنهم الكفار الذين يقولون هذا الأمر، ففي سنة (1928م) كان هناك أنواع من الجراثيم تؤذي الناس، فأتى الذباب وأكل هذه الجراثيم، وبعد ذلك تركها، قال هنا: فاختفى أثرها بعد حين، اختفى أثر هذه الجراثيم بعد حين، وماتت كلها من جراء وجود ملتهم الجراثيم، هذا شأن الذباب في مكافحة الأمراض الجرثومية التي قد ينقلها هو بنفسه، الذباب ينقل الأمراض الجرثومية، وفي نفس الوقت فيه علاج لهذه الأمراض. وفي خلاصة بحثه يقول لنا: إذا هيئ خلاصة من الذباب في مصل فسيولوجي فإن هذه الخلاصة تحتوي على أربعة أنواع من الجراثيم الممرضة. وهذا رجل ألماني اسمه (بريشل) قال: وجد أن الذبابة المنزلية مصابة بطفيلي من جنس الفطريات، وهذا الطفيلي يقضي حياته في الطبقة الدهنية الموجودة داخل بطن الذبابة. وقال العلماء الجدد: إن هذا الفطر الموجود فيه خميرة قوية تزيل أجزاء الحشرة الحاملة للمرض. وذكروا عن علماء إنجليز وعلماء سويسريين وغيرهم في اكتشافات لأشياء: أن الذبابة عالجت أمراضاً معينة، بسبب هذا الشيء الموجود فيها، من ضمنها (التيفود) و (الكوليرا) و (الزحار) وغيرها، وهنا الأبحاث التي ذكرها علماء الغرب في ذلك، فيها الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم وصدقه المسلمون؛ لأنه غيب، ولم يبحثوا في الذبابة، فأخذوا وصدقوا وسلموا بما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، وفعلوا ما قاله صلى الله عليه وسلم، وجاء العلماء الغربيون وصدقوا ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم يؤمنوا بما قاله عليه الصلاة والسلام، ولكن بحثهم العلمي أدى إلى هذا الشيء الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه؛ فإن في أحد جناحيه داءً وفي الآخر شفاء)، فهنا الذي ذكره الله سبحانه وتعالى في القرآن أن هذا الذباب من أحقر المخلوقات التي خلقها الله سبحانه وتعالى، فذكرها الله سبحانه وتعالى وفيها أنه لا يقدر الإنسان أن يخلق مثلها، ولا يقدر الإنسان إن سلبه هذا الذباب شيئاً أن يستنقذه منه. ((ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ)) الطالب الذي يطلب أن يخلق مثل هذا الذباب، فضعف ولا يقدر، وضعف أن يطلب وأن يستنقذ من الذباب شيئاً أخذه منه، والمطلوب: هو الذباب وهو ضعيف حقير يحتقره الإنسان. نسأل الله عز وجل أن يعلمنا ديننا، وأن يجعلنا ممن يؤمنون بالغيب ويصدقون كلام الله رب العالمين وكلام النبي صلى الله عليه وسلم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الحج [73 - 78]

تفسير سورة الحج [73 - 78] ما قدر الكافرون ربهم حق قدره حيث أنكروا قدرته على البعث وعبدوا غيره وكذبوا رسله، والله يصطفي رسلاً من الملائكة ومن الناس، ويعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، فيجب على العباد الاستجابة لرسل الله الذين يدعونهم إلى عبادة الله، فيعبدونه كما أمرهم، ويجاهدون في سبيله لنصرة دينه الذي ارتضاه وشرعه لجميع الناس.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [الحج:73 - 76]. يضرب الله عز وجل لنا في هذه الآيات مثلاً، وأمرنا أن نستمع لهذا المثل فقال: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الحج:73] ولم يقل: فاسمعوا له من السماع؛ لأنه قد يمر الشيء على أذنك فقد تفهمه، وقد لا تفهمه. ولكن الاستماع بمعنى: الإصغاء والتدبر والتأمل فيما يقوله الله سبحانه وتعالى. فيضرب الله لنا الأمثال ويقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26]، والبعوضة من خلق الله عز وجل فلا يستحيي أن يضرب المثل بها، وبما فوقها من كائنات يخلقها الله عز وجل. فهي وإن كانت حقيرة في نظركم لكنها عظيمة جليلة في خلقتها؛ ولذلك لو اجتمع الخلق كلهم أن يخلقوا شيئاً من أحقر الأشياء التي ينظرون إليها ويستقلونها في أعينهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. فلذلك يضرب الله عز وجل المثل بهذا الشيء وإن كان يبدو لك حقيراً، ولكن خلقته خلقة عظيمة جداً، فالله الذي خلقه والذي قدره على أن يطير، والذي قدره على أن يؤذيك ويضايقك. فانظر إلى الذبابة وسميت ذبابة؛ لتذبذبها وكثرة طيرانها، وذهابها ومجيئها، فهي مخلوق خلقه الله عز وجل يؤذي بطبعه فجعله الله عز وجل في الدنيا عبرة، وجعله يوم القيامة في نار جهنم عذاباً على أهل النار، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الذباب كله في النار ليكون عذاباً لأهلها. وفي الدنيا لا يقدر الإنسان على أن يمحو الذباب أو يفنيه، وقد يقلل منه، وهو يتكاثر سريعاً بأمر الله تعالى فيبقى ليؤذي الإنسان، وقد ينفع الإنسان به في أشياء كما ذكرنا في الحديث السابق. فالله عز وجل يضرب لنا المثل بالذباب الذي نحتقره ونستصغره، فقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج:73]، إنه لو اجتمع هؤلاء جميعهم العباد والمعبودون من دون الله سبحانه فلا يستطيعون أن يخلقوا ذباباً. قال تعالى: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ} [الحج:73] فلو أن الذبابة وقعت على طعام أحدكم فأخذت منه شيئاً، وطارت به؛ ما قدرت أن تستنقذه منها. وقد ذكرنا سابقاً كيف أنهم راقبوا هذا في الذباب ووجدوا أنه بمجرد أن تضع لعابها على الطعام وقبل أن يدخل في جوفها تحوله إلى شيء آخر يسهل امتصاصه والطيران به. ولا يقدر أحد أن يستنقذه منها أبداً، قال سبحانه: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ} [الحج:73]. والإنسان قد يكون قوياً، فيصارع إنساناً قوياً، ويغلبه ويأخذ منه ما سلبه إياه. ولكن الذبابة الحقيرة تأخذ الشيء، ولا تقدر أن تسترجعه منها. إذاً: اعرف قدر نفسك فالله عز وجل خلق الأشياء وسخرها لكم، وخلق أشياء ولم تقدروا على تسخيرها إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى. قال: {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73] الطالب هو الذي يريد استنقاذ الشيء، والمطلوب هو الذبابة الضعيفة. فكما ضعف الطالب عن الذبابة كذلك ضعفت الآلهة التي يطلبونها ويرجونها من دون الله عز وجل، وضعف عبادها، وهي لا تنفعهم إلا أن يتوبوا إلى ربهم سبحانه وتعالى، ويعبدونه وحده لا شريك له. ومن هذه الآية يتبين عدم احتقار أي مخلوق من مخلوقات الله تبارك وتعالى، فلعل الله عز وجل يجعل فيه من القوة ما إنه يسلب منك شيئاً، فلا تقدر أن تسترد هذا الشيء منه.

تفسير قوله تعالى: (ما قدروا الله حق قدره)

تفسير قوله تعالى: (ما قدروا الله حق قدره) قال تعالى: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:74] فالله هو القوي العزيز القاهر فوق عباده، ومع ذلك لم يعطوه حقه من العبادة الحقيقية، فقد يذكر الله سبحانه أحدهم ولا يستحضر عظمته، ويقسم بالله وهو كاذب في قسمه، ولو استحضر عظمته لم يقسم به، فإن أقسم كان باراً صادقاً فيما يقول. ومعنى قوله تعالى: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الحج:74] أي: ما عظموا الله حق تعظيمه حيث جعلوا هذه الأصنام شركاء له. والعجب من هؤلاء حين يعبد أحدهم هذه الأصنام ويسأل: كم آلهة تعبد؟ يقول: سبعة: ستة في الأرض، وواحد في السماء! فقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم حصيناً والد عمران بن حصين فقال: (من الذي لرغبتك ورهبتك قال: الذي في السماء). إذاً: عرفوا أن الذي في السماء هو الذي ينفعهم، وهو الذي يضرهم، وهو الذي يملك لهم كل شيء، ومع ذلك عبدوا غيره، وأوحت لهم الشياطين أنكم إنما تعبدونها لتقربكم إلى الله زلفى، وقد أمر الله عز وجل عباده بعبادته وحده، ونهاهم أن يشركوا به شيئاً، ومع ذلك أصروا على الشرك بالله سبحانه وتعالى. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:74] أي: إن الله قوي عزيز لا يمانع، يمنع ما يشاء، ويعطي ما يشاء.

تفسير قوله تعالى: (الله يصطفي من الملائكة رسلا)

تفسير قوله تعالى: (الله يصطفي من الملائكة رسلاً) قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج:75] في هذه الآية كأن الله عز وجل يرد على هؤلاء المشركين الذين قالوا: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31]، والقريتان: مكة والطائف، فهم نظروا إلى هذين السيدين فيهما، واعترضوا كيف لا ينزل على أحدهما القرآن ونزل على محمد صلى الله عليه وسلم؟! فأجاب الله سبحانه: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:32] أي: هل أنتم تقسمون لأنفسكم شيئاً أم الذي يقسم الأرزاق، ويقسم الرحمات هو الله سبحانه وتعالى؟ فهم قد عارضوا ربهم سبحانه وتعالى، وادعوا أشياء لا يحل لهم أن يدعوها، واعترضوا على نبوة النبي صلوات الله وسلامه عليه، فأنزل الله سبحانه وتعالى أنه يصطفي من يشاء. وهذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة الذي قال عن النبي صلى الله عليه وسلم: {أَؤُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} [ص:8]، فقال الله عز وجل: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا} [الحج:75] أي: يصطفي من الملائكة رسلاً يرسلهم إلى أنبيائه في الأرض، فالملك الذي ينزل من السماء إلى الأرض اصطفاه الله عز وجل واختاره واجتباه من بين الملائكة، فهو مقرب إلى الله عز وجل، وكان من أعظم ملائكة الله عز وجل جبرائيل عليه الصلاة والسلام الذي نزل بالوحي على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الأنبياء من قبله. قال الله سبحانه: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75] أي: ومن الناس كذلك يصطفي رسلاً، فاصطفى منهم آدم، ونوحاً، واصطفى إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، واصطفى نبينا صلوات الله وسلامه عليه وفضله على سائر الأنبياء والمرسلين بل على سائر خلقه. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج:75]، فالله سميع لأقوال عباده، بصير بمن يستحق أن يختاره من خلقه لرسالته، علام الغيوب يعلم كل شيء ولا يخفى عليه شيء.

تفسير قوله تعالى: (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم)

تفسير قوله تعالى: (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) قال سبحانه: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [الحج:76] ما بين يديك هو: ما أمامك من المكان ومن الزمان، وما خلفك أي: ما وراءك من المكان ومن الزمان. فالله عز وجل يعلم ما يكون أمامكم من أشياء وضعها الله عز وجل في أماكنها، وما أمامكم من زمان، وكم ستعيشون في الأرض؟ وإذا متم من يخلفكم؟ كذلك يعلم ما بين أيديكم من أعمال ستعملونها، وما خلفكم مما قد عملتموه، وكل ذلك عند الله عز وجل في كتاب. قال تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [الحج:76]. فكل أمر من الأمور مآله إلى الله عز وجل، ليحاسب من فعله يوم القيامة، فيسأل الإنسان عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وماذا عمل فيما علم. يعلم الله عز وجل ذلك ويحاسب ويجازي العباد عليه، وإليه ترجع جميع أمور خلقه.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم) قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج:77]، أمر الله سبحانه عباده بالركوع وبالسجود، وهذه سجدة يسجد عند قراءتها، لكن عند الإمام مالك وعند الإمام أبي حنيفة أنها ليست من عزائم السجود، وعند الشافعي وأحمد أنها من سجدات القرآن. فالذين قالوا: ليست من عزائم السجود كـ مالك وأبي حنيفة قالوا: هذه الآية أمرت بالركوع والسجود وكأنها أمرت بالصلاة، فعبرت عنها بالركوع والسجود. لكن غيرهم قال: الأمر هنا بالركوع وبالسجود، فيسجد الإنسان لهذه السجدة، وذكروا حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن هذه السورة فضلت بسجدتين فمن لم يسجد فيهما فلا يقرأهما) وإسناده فيه ضعف. وفي هذه الآية عطف العبادة على الركوع والسجود وهما عبادة فكأنه خصص ثم عمم. إذاً: ذكر الركوع والسجود للمزية؛ ولأنهما علامة خضوع العبد لله سبحانه، ويظهر ذلك عندما يحني جبهته ويحني جسده لله تعالى، ويسجد على أشرف أعضائه، وهو وجهه فيجعله على الأرض مطيعاً لله رب العالمين. قال الله سبحانه: {وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [الحج:77] أي: ذللوا أنفسكم لربكم وأطيعوه فيما أمر، وانتهوا عما نهى عنه، وافعلوا الخير بجميع وجوهه لعلكم تفلحون. قال تعالى: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج:77] وقد علم الله عز وجل أن المفلحين الذين يفعلون ذلك. و (لعل) من الله عز وجل لا بد من تنفيذ ما ذكره سبحانه مرتبطاً بها، فهو أوجب على نفسه سبحانه أن يجعل دار الكرامة لمن أطاعه، ودار المهانة لمن عصاه، فقال هنا: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج:77]. ولعل معناها الرجاء عندنا فنحن نعمل الخير رجاء رضا الله وجنته، لكن الله تعالى قد علم الطائعين فأعد لهم جنته، والعاصين فأعد لهم ناره.

تفسير قوله تعالى: (وجاهدوا في الله حق جهاده)

تفسير قوله تعالى: (وجاهدوا في الله حق جهاده) قال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج:78]، أمر الله العباد أن يجاهدوا في الله حق الجهاد، وحق الجهاد أن يكون الجهاد كله لله سبحانه وتعالى؛ وليس للنفس فيه حظ. فقد سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم: (أرأيت أحدنا يقاتل حمية، ويقاتل شجاعة، أي ذلك في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله). فالذي يجاهد ليعلي شرع الله سبحانه وليرفع كلمة الله هو الذي يجاهد في سبيل الله سبحانه. ومن أعظم الجهاد أن يجاهد الإنسان نفسه في الله، وأن يجاهد أعداء دينه من الكفار ومن المنافقين. وكذلك أن يجاهد في الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ولذلك جاء في حديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه مرفوعاً: (ألا أخبركم بالمؤمن؟ من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم) وإن كان الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر والقدر خيره وشره، ولكن لا يتم الإيمان إلاَّ أن يعمل أعمالاً أخرى من أعظم هذه الأعمال: أن تكون أميناً مأموناً عند الناس في أموالهم وأنفسهم، فإذا كانوا معك فهم آمنون من شرك فلا تؤذيهم في أبدانهم ولا تخونهم ولا تخادعهم. فيعطيك المال وهو آمن أنك سترد إليه ذلك، وأنك لن تخونه ولن تخدعه ولن تضيع عليه ماله، وكذلك في النفوس. ومعلوم أن المسلم: من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وصام رمضان، وحج البيت إن استطاع إليه سبيلاً. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم عملاً آخر من أعمال الإسلام التي يجب على المسلم فعلها فقال: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده). وعليه فالمسلم هو الذي حصل أركان الإسلام، وكان من صفاته: أن الناس يسلمون من لسانه ويده، فلا يقع فيهم بغيبة، ولا بنميمة، ولا يشهد عليهم زوراً، ولا يفعل بهم فجوراً وغير ذلك من آفات اللسان. ومن صفاته: أن يسلم الناس من يده فلا يؤذي بها أحداً إلا بحق الله سبحانه وتعالى، فيغضب لله، وينتصر لله عز وجل، ليس المؤمن الذي يؤذي ويلعن أو يطعن في الناس. وقال في المجاهد: (من جاهد نفسه في طاعة الله) فقد يكون الإنسان يجاهد في سبيل الله عز وجل في الظاهر، وفي الباطن أنه ما قاتل إلا لدنيا يصيبها، أو قاتل ليقال عنه: جريء وشجاع. ولذلك هنا ينبه النبي صلى الله عليه وسلم أنك لكي تجاهد عدوك حق الجهاد لا بد أن تجاهد نفسك في البداية على طاعة الله سبحانه، وعلى القيام بأمره وعلى الإخلاص وعدم المعصية. ولا يتخيل أن إنساناً لا يجاهد نفسه سيجاهد أعداء الله سبحانه، بل ذلك دليل على أنه سيفر منهم. فإذا كان في نفسه لا يصبر على طاعة الله ولا يصلي ولا يصوم ولا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن منكر، ومن ثم يريد جهاد الكفار وهو لم يجاهد نفسه، فإن ذلك لمن العجب! قال: (والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب) فالمهاجر من هاجر من مكة إلى المدينة، أو المهاجر الإنسان الذي يهجر دار الكفر ودار المعاصي إلى دار الإيمان ودار الطاعات، ولكن مع هجر الخطايا والذنوب، فالإنسان المؤمن يبتعد عن الخطايا وعن الذنوب، ويكون هاجراً لها ومخاصماً لها وبينه وبينها حواجز عظيمة؛ لأنه يطيع الله سبحانه. قال: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج:78]، فحق الجهاد أن تجاهد في سبيل الله سبحانه وتجاهد نفسك فتلزمها بالطاعة وتنهها عن المعصية، وتجاهد الناس في الله فتأمرهم بالمعروف، وتنهاهم عن المنكر، وتجاهد المنافقين وتجاهد الكفار كما أمر الله سبحانه وتعالى في كتابه، فمن فعل ذلك كان المجاهد حق الجهاد. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل هذه الدرجة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الحج [76 - 78]

تفسير سورة الحج [76 - 78] يأمر الله تعالى عباده المتصفين بالإيمان أن يركعوا ويسجدوا ويقيموا صلاتهم ويعبدوا ربهم؛ لأن ذلك هو الطريق الموصل إلى الفلاح، كما يأمرهم بالجهاد في الله حق جهاده باجتناب المعاصي وفعل الطاعات، ومقارعة المشركين الصادين عن الدين، والمولى جل في علاه حين يأمر بهذا لا يريد أن يدخل المكلفين في الحرج والمشقة، إنما هو ابتلاء بأمور يستطيعونها، ومن قام بذلك من هذه الأمة فهو المسلم المستحق أن يشهد على الأمم السابقة بتبليغ رسلهم إياهم الدين، فعليهم بالاعتصام بالله فهو نعم المولى ونعم النصير.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج:77]. في قوله تعالى في آخر الآية السابقة: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجُعُ الأُمُورُ} [الحج:76]، قراءتان: قراءة ابن عامر، ويعقوب، وحمزة، والكسائي وخلف: {وَإِلَى اللَّهِ تَرْجِعُ الأُمُورُ} [الحج:76] بالمبنى للمعلوم، وقراءة غيرهم: ((تُرجَع)) بالمبني للمجهول، والمعنى: أن الأمور مرجعها إلى الله سبحانه وتعالى، فكل أمر يفعله الإنسان مرجع ذلك إلى الله عز وجل، يجازي العبد على خيره بالخير والإحسان، وعلى شره بالعقوبة في النار أو يعفو عمن يشاء. ثم أمر عباده بالركوع والسجود قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج:77]. (اركعوا واسجدوا)، إشارة إلى الصلاة، إذ إن ذلك من أفعالها، وأيضاً هذه آية من آيات السجدة في كتاب الله العزيز. وهنا خصص الله وعمم، خصص الصلاة وهي من أهم العبادات، فبها تتعبد لربك سبحانه، وتصلح ما بينك وبينه، وتدعوه كل يوم، {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، سبع عشرة مرة في صلاة الفريضة وغير ما تدعوه في صلاة النافلة في قراءتك لفاتحة الكتاب. وقد قسم الله الصلاة بينه وبين عبده فقال الله في الحديث القدسي: (إذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، قال الله سبحانه: حمدني عبدي. وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3]، قال: أثنى علي عبدي. وإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]، قال: مجدني عبدي. وإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل). قال الله تعالى: {وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [الحج:77] أي: بكافة أنواع العبادة، ثم قال: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج:77] أي: لتتقربوا به إلى الله عز وجل سواءً كان الخير فرائض أو نوافل.

تفسير قوله تعالى: (وجاهدوا في الله حق جهاده)

تفسير قوله تعالى: (وجاهدوا في الله حق جهاده) قال الله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج:78]، تجاهد نفسك في الله سبحانه وتعالى بأن تطيعه في كل ما أمرك به، وتنتهي عما نهاك الله عنه. وتجاهد أعداء دين الله سبحانه: من الكفار، والمنافقين. فالجهاد أنواع: جهاد الكلمة، وجهاد القلب، وجهاد السيف والإيمان. فتجاهد نفسك، وتجاهد غيرك، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ما استطعت إلى ذلك سبيلاً. وتجاهد بالدفاع عن دين الله، وإظهار حجته على خلقه. قال: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ} [الحج:78]، فمثلما أن الله سبحانه وتعالى يختار من خلقه ما يشاء، ويجعل من الملائكة رسلاً ومن الناس، فقد اختار هذه الأمة. قال سبحانه: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ} [الحج:78] أي: اصطفاكم واختاركم، وفضل هذه الأمة على غيرها من الأمم.

معنى قوله تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج)

معنى قوله تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) ثم قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، فالله رءوف رحيم، ما جعل علينا في الدين من حرج. والحرج: الضيق، ويأتي من المكان الذي لا يجد الإنسان لنفسه مخرجاً، ولذلك جاء عن ابن عباس رضي الله عنه في هذه الآية أنه سأله عبيد بن عمير وجاء في ناس من قومه وقالوا: ما الحرج؟ فقال ابن عباس: أو لستم العرب؟ فسألوه ثلاث مرات وفي كل ذلك يقول: أو لستم العرب؟ ثم قال: ادعوا لي رجلاً من هذيل فقال: ما الحرج فيكم؟ فقال: الحرج من الشجر ما ليس له مخرج، يعني: الشجر الملتف إذا دخلت فيه لم تستطع الخروج منه. ومعنى الحرج هنا: أي لم يجعل الضيق في الدين. فلرأفة الله بالمؤمنين ورحمته جعل لهم في هذا الدين اليسر العظيم، وجعل لهم من قواعده أن الأمر إذا ضاق اتسع، فإذا وجدت الشدة رخص الله لعباده. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (بعثت بالحنيفية السمحة)، والحنيفية ملة إبراهيم، ودين الإسلام الدين الحنيف، والمسلم حنيف مائل عن الأديان الباطلة إلى الصراط المستقيم، إلى الدين الحق الذي فيه السماحة وفيه اليسر. فالله عز وجل كان يشدد على الأمم السابقة بعتوهم وطغيانهم، ومعصيتهم له، وبعدهم عن طاعة رسل الله عليهم الصلاة والسلام. ولكن هذه الأمة جعل فيها الحنيفية السمحة، فأعطاها من المسامحة، وأعطاها من اللين ما لم يعط أمة قبلها، فرفع عنها المؤاخذة فيما تبدي في أنفسها أو تخفيه، قال تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:284]، فضاق ذلك على المؤمنين جداً أن يحاسبوا على ما في أنفسهم وإن أخفوه! فقال الله سبحانه: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286]. فدعا المؤمنون ربهم بذلك، فقال: (قد فعلت) أي: لا أؤاخذكم إذا نسيتم، أو أخطأتم إلى آخر الآية. كذلك من فضله على هذه الأمة أنهم يتوبون وتوبتهم تجب ما قبلها، أما الأمم السابقة فقد شدد عليهم، فبنو إسرائيل لما عبدوا العجل من دون الله أمرهم نبيهم موسى عليه الصلاة والسلام لكي يتوبوا إلى الله وتقبل توبتهم أن يقتلوا أنفسهم، فقام بعضهم إلى بعض بالسيوف فقتل بعضهم بعضاً حتى قتل منهم في وقت واحد سبعون ألفاً! ثم تقبل منهم، ولم يجعل توبتهم باللسان. ومن ذلك أيضاً: ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع (لما سأله رجل: إني حلقت قبل أن أنحر، قال: افعل ولا حرج)، وقال آخر: رميت قبل أن فعل كذا، افعل ولا حرج. فما سؤل يومئذ عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج. وكان من فضل الله سبحانه أن أنعم على هذه الأمة برفع الحرج، قال لنا: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، فدين الإسلام أن تستسلم لرب العالمين، وتسلم نفسك إليه لتنتفع بذلك، أما الله عز وجل فلا تنفعه عبادتك، ولكن خلقك إظهاراً لقوته وقدرته سبحانه؛ وليظهر أسماءه الحسنى وصفاته العلى بخلق مخلوقاته فيرحمهم ويتوب عليهم إذا تابوا، فقصد نفعهم تفضلاً منه سبحانه وتعالى. ومن رأفته بخلقه وفضله أن قدر العباد على ما كلفهم، ولم يكلفهم بما لا يقدرون عليه، فمثلاً أمر العباد بخمس صلوات في اليوم والليلة، والعبد يقدر أن يصلي أكثر من الصلوات الخمس، ولكن الله جعلها خمس صلوات فقط في الفريضة، وما شئت من نوافل. وفي الصيام أمرك بصوم رمضان وأنت تقدر أن تصوم رمضان وزيادة، ولكن لم يزد على ذلك إلا أن يكون كفارة أو نذر من العبد. فالله عز وجل لو شاء لجعل السنة كلها صيام، ولجعل الفطر منها أياماً معدودة، ولكن من فضله ومن كرمه لم يكلف العباد إلا ما يطيقونه بل أقل مما يطيقون. وقد جعل ما كلفهم به سبحانه وتعالى أقساماً ثلاثة: قسم يتعلق بالعقائد، وثانٍ يتعلق بالأفعال، وثالث يتعلق بالمنهيات. ففي العقائد كلفوا أن يؤمنوا بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقضاء والقدر، وينبني على هذا الإيمان أن يعمل رجاء جنة الله سبحانه وتعالى، وخوفاً من ناره. وجعل سبحانه وتعالى ما يفعله العباد أقساماً: قسم يتعلق بأبدانهم: كالصلاة والصوم. وقسم يتعلق بأموالهم: كالزكاة. وآخر يتعلق بالأموال والأبدان، مثل: الحج. وجعل التكاليف سهلة ميسرة على العباد، وجعل في هذه الأقسام رخصاً للعباد، فإذا سافر العبد جاز له الفطر وقصر الصلاة وجمع الصلاتين في وقت إحداهما. وجعل ما نهاهم عنه رحمة بهم، فلا ينهانا إلا عن الشيء الخبيث المؤذي الذي يضر الإنسان في حياته وبعد وفاته، ومن ذلك في الكف: قسم جعله الله سبحانه إحياءً لنفوس العباد، وإصلاحاً لأبدانهم: كنهيه عن القتل، وعن أكل الخبائث والسموم. وجعل قسماً آخر من المنهيات لئلا تؤذي غيرك بأن تتلف عليهم أموالهم، أو تتلف عليهم أعضاءهم، وجعل في ذلك العقوبة حتى يحيا الناس من غير أن يؤذي بعضهم بعضاً. وقسم لحفظ نسب الناس، ونسلهم وتعظيم المحارم: كالنهي عن الزنا وغير ذلك. فالمتأمل في الشريعة يجدها كلها رحمة في الأمر والنهي وليس فيها من حرج. كذلك لم يكلف الصغير قبل البلوغ وإن كان يعقل، ومن رحمته في ذلك أن يكتب له الحسنات ولا يكتب عليه الأوزار، فلا يبلغ إلا وله رصيد من الحسنات. ومن رحمة الله عز وجل بعباده أن خفف عليهم، ونهى عن التشديد في الدين، وهذا الصحابي عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما لما أحب أن يصوم الدهر كله، ويقوم الليل كله نهاه النبي صلوات الله وسلامه عليه وقال: (إن لزوجك عليك حقاً، ولزورك عليك حقاً، ولجسدك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه). والله عز وجل رفع عنا الحرج في الخطأ وفي النسيان، وما استكرهنا عليه. فعلى المسلم أن ينظر في نصوص الشريعة ليعلم ما جاء فيها من ترخيص فيأخذ به، ولا يعمل بالتشهي والهوى.

معنى قوله تعالى: (ملة أبيكم إبراهيم)

معنى قوله تعالى: (ملة أبيكم إبراهيم) قال سبحانه: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78] يعني: دين الإسلام هو ما كان عليه إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وكأنه يقول على وجه الإغراء: الزموا ملة أبيكم إبراهيم وكونوا على ما كان عليه من الدين الحنيف. ثم قال: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78]، هنا كأن قوله سبحانه: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78]، جملة معترضة وكأن الأصل قوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78]، فالله سبحانه بفضله وبكرمه شرف هذه الأمة بأن سماهم أمة الإسلام. فكان إبراهيم عليه الصلاة والسلام على الإسلام وكذلك هذه الأمة. أما غيرها من الأمم فقد سميت بعضها باليهودية، والأخرى بالنصرانية وهكذا، أما هذه الأمة فقد اختار الله لها هذا الاسم الذي دعا إليه الأنبياء عليهم الصلاة والسلامة أقوامهم فقال أحدهم: {وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90]، وقال: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:72]. قال تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78] يعني: أن الله عز وجل سماكم المسلمين، وشرفكم بذلك، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره قال: (فادعوا بدعوى الله الذي سماكم: المسلمين المؤمنين عباد الله). وأعظم وأجمل تسمية للإنسان أن يسمى مسلماً ولا يتسمى بأي شيء آخر، لأن الله هو الذي اختار هذا الاسم لهذه الأمة. قال: (وفي هذا)، يعني: وفي حكمه أن من اتبع ملة محمد صلى الله عليه وسلم فهو من المسلمين.

معنى قوله تعالى: (ليكون الرسول شهيدا عليكم)

معنى قوله تعالى: (ليكون الرسول شهيداً عليكم) قال الله تعالى: {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ} [الحج:78] فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم شاهداً على هذه الأمة، وجعل هذه الأمة شهيدة على الأمم السابقة، فقال: {وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج:78] أي: بتبليغ شرع الله عز وجل، فيؤتى يوم القيامة بالأنبياء من قبلنا فيسألون: هل بلغتم؟ فيقولون: نعم. فيؤتى بأممهم فيقال: هل بلغكم هؤلاء الرسل؟ فيقولون: لا، لم يبلغوا! فنشهد على هذه الأمم، ويشهد علينا النبي صلوات الله وسلامه عليه. فأقام الله هذه الأمة مقام نبيها صلى الله عليه وسلم في الشهادة، فجعلهم شهوداً على الأمم السابقة، وعلى تبليغ رسلهم، ونحن لم نحضرهم، ولكن نشهد بما جاء في القرآن، {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} [الأعراف:73]، {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} [هود:25]، {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [هود:50]، فالذي ذكر الله عز وجل في القرآن نشهد به يوم القيامة. فجعل لهذه الأمة فضلاً عظيماً، وتشريفاً لهم أن يشهدوا على الأمم السابقة.

معنى قوله تعالى: (فأقيموا الصلاة)

معنى قوله تعالى: (فأقيموا الصلاة) قال الله سبحانه: {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ} [الحج:78] أي: أقيموا الصلاة كما أمركم الله عز وجل، وكما بين لكم النبي صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [الحج:78] أي: أخرجوا زكاة أموالكم على ما فصل لكم ربكم في الكتاب، وبين النبي صلى الله عليه وسلم في السنة. قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ} [الحج:78] أي: الجئوا إلى ربكم، واستمسكوا بدين الله سبحانه، ففيه العصمة، وفيه النجاة. ثم قال: {هُوَ مَوْلاكُمْ} [الحج:78] أي: هو ربكم وخالقكم، وناصركم سبحانه وتعالى. قال: {فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج:78]، فمهما تولى الإنسان أحداً غير الله لا يقدر أن ينصره، ولا يقدر أن ينفعه أو يضره إلا أن يشاء الله، ولكن الله وحده هو النافع الضار، وهو المنعم المتفضل على عباده، فهو نعم المولى ونعيم النصير. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على شكره وذكره، وحسن عبادته. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

المؤمنون

تفسير سورة المؤمنون [1 - 6] إن الإيمان بالله هو مناط النصر والفوز والفلاح دنيا وأخرى، وقد جعل الله عز وجل علامات وأمارات لأهل الإيمان، من اتصف بها كان في سلك المؤمنين الناجين، ومن حاد عنها يخشى عليه أن يحشر في زمرة الفاسقين الظالمين، وصدر سورة المؤمنون من أوضح مواطن الكتاب العزيز في إظهار صفات أهل الإيمان، وتحديدها، فعلى المؤمن أن يتحلى بها حتى يكون منهم بإذن الله تعالى.

المناسبة بين آخر سورة الحج وأول سورة المؤمنون

المناسبة بين آخر سورة الحج وأول سورة المؤمنون أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة المؤمنون: بسم الله الرحمن الرحيم، {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:1 - 11]. والمناسبة بين آخر سورة الحج وبين بداية هذه السورة العظيمة: أنه في آخر سورة الحج يقول الله عز وجل: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج:78]، فكأنه قال بعد ذلك: فإذا فعلتم ذلك فأنتم المفلحون، {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1]، فهنا نجد جمال القرآن في الترتيب والنزول، فما نزلت سورة الحج ووراءها سورة المؤمنون إلا لحكمة ولترتيب بلاغي جميل، وهذا الذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم عندما كان يعرض القرآن على جبريل، فقد كان يعرض عليه القرآن في كل سنة مرتباً بحسب ما نزل عليه، إلا في آخر سنة من حياته صلى الله عليه وسلم فقد عرض على جبريل القرآن مرتين. وبهذا الترتيب الإلهي فإنك ستجد مناسبات بين خواتيم السورة وبين أول السورة التي تليها، وهنا مناسبة عظيمة وجميلة، فلما ذكر الله عز وجل في آخر سورة الحج أنه سمى المسلمين بهذا الاسم، والمسلم من أسلم نفسه لله، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لنا كما في صحيح مسلم: (قد أفلح من أسلم، ورزقه الله كفافاً، وقنعه الله بما آتاه)، أي: قد أفلح الإنسان الذي دخل في هذا الدين، فأسلم نفسه، وأسلم وجهه، وأسلم قلبه لله رب العالمين، يحكم فيه بما يشاء، ويفعل فيه ما يريد، ولا يعترض على الله، فإذا رزقه الكفاف -أي: على قدر الحاجة، لا زيادة ولا نقصان- ورزقه الله سبحانه وتعالى القناعة مع الرزق الذي ساقه إليه، فإنه يقنع. ولاحظ أن الفضل كله من الله عز وجل، فضل من الله سبحانه أن خلق الإنسان، وأن هداه للإسلام، وأن رزقه رزقاً حسناً سبحانه، وأن رزقه القناعة، فإذا قنع فقد جعله من المفلحين، فالفضل كله منه سبحانه، ولذلك صلى النبي صلى الله عليه وسلم على جنازة فحفظوا من دعائه صلى الله عليه وسلم للميت قوله: (اللهم أنت خلقتها، وأنت رزقتها، وأنت هديتها للإسلام، وأنت توفيتها، جئنا شفعاء فاغفر له)، فهذا الدعاء ذو الكلمات اليسيرة القليلة فيه إثبات هذه النعم لله سبحانه، فأعظم النعم على العباد الخلق، فهو خلقهم، والرزق، فهو رزقهم، ثم هداهم للإسلام، ثم توفاهم سبحانه وتعالى. والوفاة بعدها البعث والحساب، فهو سبحانه قد هداهم قبل ذلك، وسيهديهم بعد ذلك لطريق الجنة بفضله وكرمه سبحانه.

عدد آيات سورة المؤمنون وبيان أنها مكية

عدد آيات سورة المؤمنون وبيان أنها مكية هذه السورة الثالثة والعشرون من كتاب الله رب العالمين سبحانه تبارك وتعالى، وهي سورة المؤمنون، وهي من السور المكية، حيث نزلت هذه السورة كلها في مكة، فقد أجمع علماء التفسير على أنها سورة مكية كلها، وعدد آيات هذه السورة مائة وثمان عشرة آية، حسب العد الكوفي والحمصي، ومائة وتسع عشرة آية عند الباقين، والخلاف في قوله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [المؤمنون:45]، فالذي يقول: أنها مائة وتسع عشرة آية يقف على قوله: (وَأَخَاهُ هَارُونَ)، على أنها رأس آية، والذي يقول: إنها مائة وثمان عشرة آية لا يعتبر هذه رأس آية، أي: أن الذي يقول: إنها مائة وتسع عشرة آية يعتبر الآية السابقة آيتين، فيصبح عدد الآيات مائة وتسع عشرة آية، والاختلاف هذا في عد آيات القرآن جائز، ومعناه: أن الآية الواحدة في بعض السور بعضهم يعتبرها آية واحدة، والبعض الآخر يعتبرها آيتين، وذلك باعتبار كيف وقف عليها النبي صلى الله عليه وسلم، فقوله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [المؤمنون:45]، بعضهم جعلها آيتين، والبعض الآخر جعلها آية واحدة، لكن الآية هي هي، والكلام هو هو، إنما الخلاف في العد فقط. فسورة المؤمنون من السور المكية -كما ذكرنا- وهي تتميز بخصائص السور المكية، حيث إن السور المكية تدعو الخلق إلى الله سبحانه وتعالى، فتهتم بأمر العقيدة، واليوم الآخر، وتذكر الأنبياء السابقين عليهم الصلاة والسلام، وتسرد بعضاً من سيرهم وقصصهم، وتذكر الجنة والنار، والآداب، والأخلاق الحسنة، والتربية، وكل هذا سنجده في هذه السورة العظيمة من أولها إلى آخرها.

تفسير قوله تعالى: (قد أفلح المؤمنون)

تفسير قوله تعالى: (قد أفلح المؤمنون) بدأها الله سبحانه وتعالى هذه السورة بقوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1]، والفلاح بمعنى: النجاح الدائم، والفلاح يكون يوم القيامة بأن يدخل الإنسان جنة رب العالمين، فإذا حصل له هذا فقد فاز الفوز العظيم الذي لا خسران بعده، وهنا {أَفْلَحَ}، بمعنى: نجح النجاح العظيم الذي لا يخسر بعده أبداً. {قَدْ أَفْلَحَ}، و (قد) هنا للتحقيق والتأكيد، فهؤلاء مفلحون لا شك في ذلك، {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}، هؤلاء المؤمنون هم الذين جمعوا هذه الصفات العظيمة التي ذكرها سبحانه في العشر الآيات الأول من هذه السورة. وستجد هذه الصفات متوافقة مع ما ذكر الله عز وجل من الصفات في سورة مكية أخرى، وهي سورة المعارج، فالصفات التي هنا أكدها هناك وزاد عليها شيئاً، فهنا قال عن جزاء من عمل بهذه الأوصاف: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:10 - 11]، وهنالك قال سبحانه وتعالى عنهم: {أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} [المعارج:35]، فهؤلاء هم الذين فازوا فدخلوا الجنة وأكرمهم الله عز وجل بها، فينبغي على كل مؤمن أن يحاول أن يكون مع هؤلاء الذين أفلحوا والذين يكرمهم الله عز وجل يوم القيامة ويقربهم إليه، والصفات هذه صفات عظيمة، لكنها سهلة التحصيل على من يسر الله عز وجل لهم ذلك. {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} ورد هنا الفلاح في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قد أفلح من هدي)، يعني: إلى هذا الدين، إلى هذا الإسلام، (قد أفلح من أسلم، ورزق كفافاً، وقنعه الله بما آتاه)، (أسلم) أي: أتى بخصال الإسلام، ودخل في هذا الدين، وسلم نفسه لله رب العالمين. {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1]، أي: الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين، وآمنوا بملائكة الله وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر، آمنوا بالله سبحانه فكانوا جنوداً لهذا الدين العظيم، يدعون إلى ربهم، فهم جاهدوا في الله حق جهاده كما ذكر الله في آخر سورة الحج، وهنا ذكر أن من جهادهم هذا أنهم خشعوا في صلاتهم، وقد قلنا: إن من أعظم الجهاد جهاد النفس، ولا تستطيع أن تجاهد أعداء الدين وأنت لم تجاهد نفسك، فالإنسان إذا جاهد نفسه وقهرها على الحق الذي يريده الله كان معاناً من الله سبحانه، وكان موفقاً من الله، فهو بعد ذلك يستطيع أن يجاهد أعداء الله بالسيف والسنان، بالحجة واللسان، أي: بالحجة والبيان، يجاهدهم جهاد القلب، وجهاد اللسان، وجهاد الجوارح والأركان، فهذا هو الذي تربى على هذا الدين، وجاهد نفسه وهواه.

تفسير قوله تعالى: (الذين هم في صلاتهم خاشعون)

تفسير قوله تعالى: (الذين هم في صلاتهم خاشعون) قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:2]؛ لأن الصلاة هي من أعظم الأركان في هذا الدين بعد التوحيد، فإن فيها عبادة الله سبحانه وتعالى، وفيها توحيد الله، وفيها الدعاء، وفيها إظهار الخشوع والذل والمسكنة والإخبات بين يدي الله رب العالمين.

معنى الخشوع والحث عليه

معنى الخشوع والحث عليه فهذا الفلاح الذي ذكره الله في الآية الأولى يحصل بأن يكون الإنسان خاشعاً في صلاته: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2]، وكلمة (خشع) معناها: رمى ببصره نحو الأرض، وغض بصره، أي: وقف وقفة الإنسان الذليل بين يدي الله عز وجل، فلم يرفع بصره إلى السماء لينظر إليها، وقد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، كما جاء في الحديث: (لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم إلى السماء، أو لتخطفن أبصارهم)، يعني: احذر أن ترفع بصرك إلى السماء وأنت في صلاتك، وإلا فإن الله سبحانه وتعالى سوف يخطف بصرك ويعميك. فاحذر من رفع البصر إلى السماء وأنت تصلي أو تقرأ القرآن، أو وأنت تقنت وتدعو ربك، بل لابد أن يكون بصرك إلى الأرض. وقد قيل: إن الصحابة رضي الله عنه الله عنهم كانوا يصلون ويرفعون أبصارهم إلى السماء، فنزلت هذه الآية: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2]، فرموا بأبصارهم إلى الأرض، فهذا أصل الخشوع، يقولون: خشع بصره، أي: انكسر بصره، أي: تواضع ولم يرفع بصره، ولكنه وضعه في الأرض. وقالوا: اختشع الإنسان، بمعنى: طأطأ رأسه وتواضع، فالمؤمن متواضع لله سبحانه، يطأطأ رأسه ويخفض بصره بين يدي الله سبحانه، وقيل: الخشوع قريب من الخضوع، إلا أن الخشوع يكون في البدن، وهو إقرار باستخذاء، والخشوع يكون في البدن والصوت والبصر، فالخشوع يكون في البدن، بأن يكون الشخص واقفاً فارداً نفسه في الصلاة، متواضعاً لربه سبحانه وتعالى، ففرق بين أنه يصلب قامته ويقف مستقيماً في صلاته، وبين أنه فارد صدره في الصلاة، فالمؤمن يكون واقفاً في الصلاة وقفة المتواضع لرب العالمين سبحانه، ويكون الخشوع في الصوت بألا يرفع صوته ولا يصيح في الصلاة، ولكن إذا كانت الصلاة جهرية فصوته تظهر عليه السكينة، ويظهر فيه الخشوع، ومن سمعه يحسب أنه يخشى الله، وهذا من أفضل الناس صلاة، أي: الذي إذا سمعت تلاوته تحسب أنه يخشى الله سبحانه وتعالى، وليس لكونه يحزن في الصلاة، أو يتغنى ويترنم ترنيمة حزينة، وإنما الصوت فيه دليل الخشوع، صوت فيه تواضع وفيه خشوع لله رب العالمين، فليس المقصود النغمة فقط. فالخشوع قريب من معنى الخضوع، فيه يطأطئ رأسه ويتواضع، ويخفض صوته وبصره، فالخشوع يكون في البدن والصوت والبصر، قال الله عز وجل: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} [القلم:43]، وقال سبحانه: {وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} [طه:108]. والخشوع أيضاً يأتي بمعنى الخضوع، والتخشع: تكلف الخشوع لله سبحانه وتعالى والإخبات والتذلل، وأيضاً يأتي بمعنى: السهولة، وبمعنى: اليبس، قالوا: أرض خاشعة، أي: أنها تثيرها الرياح لسهولتها فتمحو آثارها، ومنه قوله سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً} [فصلت:39]، أي: متغبرة، متهشمة، يابسة، لا حياة فيها، ثم ينزل عليها الماء فيحييها الله سبحانه وتعالى. فعلى المؤمن أن يكون خاشعاً في صلاته، روى الترمذي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشخص ببصره إلى السماء، ثم قال: هذا أوان يختلس العلم من الناس)، فهنا النبي صلى الله عليه وسلم يذكر أصحابه فرفع بصره إلى السماء، ثم قال لهم: (هذا أوان)، أي: حال سيأتي، مع أنهم ما زالوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وما زال العلم يأتيه من السماء، ولكن كأنه قرب رحيله صلوات الله وسلامه عليه، فيبتدئ الأمر يقل بعد ذلك قرن وراء قرن إلى أن يضيع من الناس أمر دينهم، وجاء في الحديث الآخر: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء، وإنما يقبضه بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا). وفي هذا الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: (هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء)، فقال رجل من الأنصار كان على فقه وعلم، واسمه زياد بن لبيد الأنصاري: (كيف يختلس منا وقد قرأنا القرآن، فوالله لنقرأنه ولنقرأنه نساءنا وأبناءنا!)، يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: كيف يضيع منا هذا العلم ونحن قد حفظنا القرآن، وسنحفظه أولادنا ونساءنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (ثكلتك أمك يا زياد! إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة)، المعنى: أنه طالما أن الأمر أمر كوني قدري، وأن الله عز وجل قدر ذلك، فليس من الممكن إلغاء ما قاله الله سبحانه، مهما حفظ الإنسان ومهما عمل. فهنا الرجل حباً في القرآن وحباً في الدين، وإظهاراً للمسارعة في طاعة النبي صلى الله عليه وسلم قال: سنحفظ القرآن، وسنحفظه أولادنا ونساءنا، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم رد عليه بالشيء الآخر: أن الله عز وجل إذا قدر شيئاً فليس من الممكن أن يرفع ما قدره سبحانه، قال له صلى الله عليه وسلم: (إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة، هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا تغني عنهم؟!)، يعني: حتى لو أنكم حفظتم القرآن، ولكن إذا ضيعتم الخشوع فماذا يغني عنكم؟! قال جبير -راوي الحديث-: (فلقيت عبادة بن الصامت، فقلت: ألا تسمع إلى ما يقول أخوك أبو الدرداء؟ فأخبرته بالذي قال أبو الدرداء، قال: صدق أبو الدرداء، إن شئت لأحدثنك بأول علم يرفع من الناس، الخشوع)، وكأن الخشوع ليس مجرد كلمة يقولها الإنسان، ولكنها علم يتعلم فيه كيف يخشع بدنه وصوته وبصره لله سبحانه وتعالى، يقول رضي الله عنه: (أول ما يرفع من الناس علم الخشوع، يوشك أن تدخل مسجد جماعة فلا ترى فيه رجلاً خاشعاً)، أي: يرفع الخشوع فيقف الإنسان في الصلاة وهو يفكر بأمور الدنيا، والثاني يلعب بذقنه، والثالث ينظر شمالاً ويميناً، والرابع يترك الصلاة ويمشي وهكذا، فكل واحد منشغل في حاله بعيداً عن أمر الصلاة، وهذا الحديث رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله. قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2]، إذاً: هم في صلاتهم خاشعون، أي: في أثناء الصلاة، وفي سورة المعارج قال تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج:23]، فهم يواظبون على صلاتهم وخاصة صلاة الجماعة، لا يؤخرون الصلاة عن وقتها، وهم كذلك خاشعون في صلاتهم، فهنالك قال: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج:23]، وهنا قال: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:2].

تفسير قوله تعالى: (والذين هم عن اللغو معرضون)

تفسير قوله تعالى: (والذين هم عن اللغو معرضون) ذكر الله صفة ثانية لهؤلاء المؤمنين، ففي المعارج قال: {والذين هم عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المعارج:34]، وهنا قال سبحانه: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:3]، هذه صفة ثانية من صفات المؤمن المفلح، وهي أنه معرض عن اللغو، سواء لغو الكلام أو لغو الأفعال، فكل ما ينبغي أن يلغى ويطرح فإن الإنسان المؤمن لا يشغل باله به، ولا يضيع وقته فيه، حتى ولو كان من الأشياء المباحة، فهم كما قال الله تعالى: {عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}، وفي سورة الفرقان ذكر الله عز وجل من صفات عباد الرحمن قوله تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان:72]، أي: أكرموا أنفسهم ونزهوها عن أن يقعوا فيما لا ينبغي أن يقع فيه المؤمن، وفيما ينبغي أن يلغى ويطرح.

تفسير قوله تعالى: (والذين هم للزكاة فاعلون)

تفسير قوله تعالى: (والذين هم للزكاة فاعلون) قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون:4]، أي: من صفاتهم أنهم للزكاة فاعلون، ولاحظ قوله: (الذين هم)، فإنه أكد الوصف؛ لأنها ليست مرة واحدة، بل هذا الوصف غلب عليهم فأصبحوا مستمرين ومواظبين عليه، فـ (هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ)، فهو يعطي الزكاة، فإذا جاء العام الآخر أعطى الزكاة، وهكذا دائماً يعطي الزكاة، فيؤدون زكاة أموالهم، زكاة فطرهم، زكاة بهيمة أنعامهم، زكاة زروعهم وثمارهم، زكاة ما يخرجه الله عز وجل لهم وما يؤتيهم من رزق في التجارة ونحوها، فهم يؤدون الزكاة بجميع أنواعها.

تفسير قوله تعالى: (والذين هم لفروجهم حافظون فإنهم غير ملومين)

تفسير قوله تعالى: (والذين هم لفروجهم حافظون فإنهم غير ملومين) قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون:5 - 6]، وهذا وصف آخر من أوصافهم: أنهم (لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ)، فلا يقعون في شيء حرمه الله من زنا، أو لواط، أو مسافحة، أو معاشرة محرمة حرمها الله عز وجل، من نكاح إماء أو كتابيات مما حرم الله عز وجل ومنعه، ولا يقعون فيما حرمه الله عز وجل من عادة سرية ونحوها، فهم {لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون:5]، أي: يحفظ فرجه إلا على ما أحله الله عز وجل له، وقد أحل الله الزوجة وملك اليمين: الزوجة بعقد النكاح، وملك اليمين بعقد الشراء أو بالهبة، فهذا الذي أحله الله سبحانه وتعالى، فهم يحرصون على أن يأخذوا الحلال ويجتنبوا ما حرم الله سبحانه وتعالى. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة المؤمنون [1 - 11]

تفسير سورة المؤمنون [1 - 11] يخبر الله سبحانه وتعالى في هذه السورة أن أهل الفلاح الحقيقي هم المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وكتبه وملائكته واليوم الآخر، وأن من صفاتهم التي اتصفوا بها الخشوع في الصلاة، فهم يؤدونها بشروطها وأركانها ومستحباتها، ثم هم عن الكلام الذي لا قيمة له معرضون، وهم لأداء الزكاة التي افترضها الله عليهم فاعلون، وقد عبر بصيغ المبالغة كناية عن مبادرتهم إليها وفرحهم بإخراجها وإعطائها الفقراء، ثم ذكر عنهم أنهم متصفون بصفة العفة فهم محافظون على فروجهم إلا فيما أحل الله لهم، وهم مع ذلك يراعون عهودهم وأماناتهم فيوفون بها ويؤدونها إلى أصحابها.

صفات المؤمنين المذكورة في أول سورة المؤمنون

صفات المؤمنين المذكورة في أول سورة المؤمنون الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة المؤمنون: بسم الله الرحمن الرحيم. {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:1 - 11]. يخبرنا ربنا سبحانه وتعالى في هذه الآيات الإحدى عشرة من أول هذه السورة الكريمة سورة المؤمنون عن فلاح المؤمنين الذين من صفاتهم ما ذكر هنا: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) فقد حكم لهم بالفلاح سبحانه وتعالى، وهو أعظم النجاح، وهو النجاح الذي لا خسران بعده، والفوز العظيم، والفوز المبين، وقد سماه الله سبحانه وتعالى بأسماء في كتابه تدل على دوام نجاح المؤمنين يوم القيامة، وعلى خلودهم في هذا الفوز العظيم، وأنهم سابقون إلى هذا الخير بفضل الله لا يحرمهم منه أبداً.

إقامة الصلاة

إقامة الصلاة فهم مؤمنون مصدقون بما جاء من عند رب العالمين سبحانه، فقد آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره. وأسلموا وشهدوا شهادة التوحيد، وأقاموا الصلاة كما أمر الله سبحانه، وآتوا الزكاة، وصاموا رمضان، وحجوا البيت، وفعلوا ما أمر الله سبحانه وتعالى من طاعات، فهم المؤمنون الصالحون، وقد زادوا على أركان الإسلام وأركان الإيمان صفات عظيمة موجودة فيهم، فهم في صلاتهم خاشعون، أقاموا الصلاة كما أمروا: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43]، ولكن زادوا صفة الخشوع فخشعت قلوبهم، وخشعت أبدانهم، وخشعت نواظرهم، فإذا بهم وهم في صلاتهم لا ينشغلون بغير الصلاة، فأذهانهم حاضرة، وقلوبهم حاضرة، لا يكثرون الحركة، ولا يختلس الشيطان منهم صلاتهم، فهم ينظرون إلى محل سجودهم كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، ويصلون وهم يستشعرون أنهم قريبون من ربهم سبحانه، فيدعونه ويتوسلون إليه سبحانه، يرجون فضله ويخافون عذابه فهم {فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:2].

الإعرض عن اللغو

الإعرض عن اللغو قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:3]. واللغو: هو ما ينبغي أن يلغى ويطرح من أقوال وأفعال لا قيمة لها، فهم لا يأبهون لها ولا ينظرون إليها، فالإنسان المؤمن يحافظ على نفسه، ويحافظ على وقته، ويحافظ على أفعاله، ويحافظ على كلماته، فلا يضيع وقته فيما لا ينفعه، أو فيما يأتي من ورائه الضرر، فالمؤمن حريص على وقته، يعلم أن عمره أيام محسوبة، وليال مكتوبة، فهو يخاف أن يضيع عمره في لهو ولعب؛ بل يريد أن ينتهز كل ساعة من ساعات عمره وكل لحظة من لحظات عمره فيما هو طاعة لله، حتى إذا جاء يوم القيامة وجد صحيفته ممتلئة بالأعمال الطيبة العظيمة. فالمؤمن دائماً يفكر كيف ينجو يوم القيامة؟ وكيف يطيع الله سبحانه وتعالى؟ وكيف يحافظ على وقته في طاعة وفي خشوع وفي عبادة؟ فإذا دخل في الصلاة استشعر أنه يكسب من ورائها شيئاً عظيماً في الدنيا وفي الآخرة، فهو يكسب في الآخرة الأجر من الله، وصلة الله عز وجل له، وجنة رب العالمين سبحانه، وأن يكون مع السابقين، وفي الدنيا يكسب أنها تزيده خلقاً حسناً، وأنها تجعله بالمؤمنين رءوفاً رحيماً، صلاته وأنها عن الفحشاء والمنكر، {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45]، فيدخل إلى الصلاة ذاكراً لله سبحانه، ويخرج من الصلاة فلا يزال ذاكراً لله محباً لها حتى تأتي الصلاة التي تليها وهكذا، فهم في صلاتهم خاشعون، وهم عن اللغو معرضون، وهم للزكاة فاعلون.

إتيان الزكاة

إتيان الزكاة قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون:4] أي: يؤدون الزكاة التي أمر الله عز وجل بأدائها، فلا يبخلون بها ولا يشحون على الفقير، ولا يمنون بأنهم أعطوه صدقة أموالهم، وإذا تصدقوا تصدقوا بأفضل ما عندهم، أو بأوسط ما عندهم، ولكن أبداً لا ينظرون إلى شيء رديء فيخرجونه لله سبحانه وتعالى، وهم يعلمون أن ما يعطونه ويخرجونه فالله عز وجل يخلف خيراً منه، ويعطي أضعافاً مضاعفة عليه، فهم للزكاة فاعلون، علموا أن الزكاة تزكي أموالهم، وتزكي ما في قلوبهم من إيمان، وتنمي ما عندهم من أموال، وأن الزكاة تطيب قلوب الفقراء وصدورهم، وتطيب أعمالهم، فهم يفرحون بأن يؤدوا الزكاة كما يفرح الإنسان الذي يأخذها، فهم يعطون وفي الحقيقة يأخذون، فهو أخرج زكاة ماله والله عز وجل زاده أضعافاً مضاعفة في ماله، وأعطاه الثواب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم حين قالت له عائشة رضي الله عنها وقد ذبحوا شاة وتصدقوا بها على الفقراء قالت: (لم يبق منها إلا الذراع، قال: بل بقيت كلها إلا الذراع). أي: إن الذي أخرجته هو الذي ادخرته عند الله سبحانه وتعالى فبقيت جميعها إلا الذراع الذي سنأكله فسينتهي. فالمؤمنون يؤتون الزكاة، و (فاعلون) هنا اسم فاعل، ومثله (خاشعون)، ومعرضون، من أعرض فهو معرض، واسم الفاعل هو الذي يليق بجميع الزمان في الماضي والحاضر والمستقبل، تقول: خشع في الماضي فهو خاشع، ويخشع الآن فهو خاشع، وسيخشع في المستقبل فهو خاشع، فصفة اسم الفاعل تدل على الدوام، فهم خاشعون دائماً في صلاتهم، فليس خشوعهم في صلاة أو صلاتين ثم ينتهي، بل هو مستمر في جميع صلواتهم. وهم دائماً يعرضون إذا دعاهم إنسان للهو ولغو الحديث، ولذلك ينزهون أنفسهم مثل عباد الرحمن الذين مدحهم الله بأنهم {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان:72] أي: أكرموا أنفسهم عن أن يقعوا في هذا الباطل أو في هذا اللغو، حتى كأنهم إذا وقعوا فيه فقد أهانوا أنفسهم، فهم ينصرفون عن الكلام الباطل وعن الأفعال التي لا تليق بالمؤمنين. وهم يعطون زكاة أموالهم، ويفرحون بإعطاء الزكاة كفرح من يأخذ المال.

حفظ الفروج عن الحرام

حفظ الفروج عن الحرام قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون:5]، عبر باسم الفاعل هنا كناية عن أنهم يحفظون فروجهم دائماً في الماضي وفي الحاضر وفي المستقبل، إلا في أمرين: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون:6]، الزوجة التي تزوجها بنكاح شرعي صحيح، {أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون:6] وملك اليمين الآن غير موجود، وهم الرقيق، فيشتري الرجل الأمة فيتسرى بها ويطؤها ويجوز له أن يبيعها، فإن أنجب ولداً من هذه الأمة فإنه يكون حراً، طالما أن الأمة ملك له، إلا إذا تزوجها، والأصل المنع من زواج الحر من الأمة؛ لأن ولده سوف يكون رقيقاً برق أمه، فمنع الله عز وجل من الزواج من إماء أهل الكتاب ومن المشركات، فلا يجوز للمسلم أنه يتزوجها أصلاً لا في خوف عنت ولا في غير خوف عنت، وأما الأمة المؤمنة فيجوز له في حال العسر وخوف العنت أن يتزوج منها، لكن الأصل في النكاح أن يتزوج المؤمن من المرأة الحرة، ويجوز للمرأة أن تملك عبداً، ولا يجوز لها أن تتسرى به، إنما يجوز فقط للرجل أن يتسرى بأمته، أما العكس فلا يكون أبداً، فلا تباح فروج المؤمنين والمؤمنات بهذا الأمر، وهذا بإجماع العلماء، وملك اليمين هي التي تباع كما يباع الحيوان، فالمؤمن حافظ لفرجه إلا على زوجه، والمرأة كذلك إلا على زوجها، وهو غير ملوم في ذلك؛ لأنها شهوة تحافظ على زينة الإنسان، وعلى نسله، وعلى بقائه على الأرض الذي أراده الله سبحانه وتعالى. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم)، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالنكاح فقال: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء). فالنكاح مأمور به، فقد أمر الله عز وجل عباده فقال: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32]، وذلك حتى يستمر بقاء الإنسان على وجه الأرض فيعمرها ويعبد ربه سبحانه وتعالى فيها. فالمؤمنون حافظون لفروجهم إلا فيما أباحه الله عز وجل، وأما غير ذلك فيحرم على الإنسان أن يقع في الزنا أو اللواط والعياذ بالله، أو في الاستمناء -العادة السرية- فالذي يباح له الزوجة فقط في زماننا، أما غير ذلك فلا يباح له. قال تعالى: {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون:6] أي: إذا أتوا أزواجهم أو ملك يمينهم. قال تعالى: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ} [المؤمنون:7] مما لم يبحه الله سبحانه وتعالى {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:7] أي: الذين تعدوا الحلال إلى الحرام، فهم المجاوزون للحد، فالله سبحانه وتعالى جعل حدوداً للحلال وللحرام، فقال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة:229]، أي: أن للحلال حدوداً معلومة لا تتعدى، وهناك حدود للوطء عند النكاح، فلا تتعدى هذا النكاح إلى سفاح أو غيره مما حرم الله سبحانه، وذكر لنا حدوداً أخرى وهي من المحرمات فقال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} [البقرة:187]. إذاً: فلا تتجاوز الحلال فتقع في الحرام، ولا تقترب من الحرام فإنه يخشى عليك أن تقع فيه. فالمؤمنون لا يبتغون وراء ما أمر الله عز وجل به وأباحه، وإلا كانوا عادين واقعين فيما لا يحل لهم. قال العلماء: يسمى من نكح ما لا يحل له عادياً، وأوجب عليه الحد لعدوانه كالحد في الزنا برجم المحصن الثيب والمرأة المحصنة الثيبة، أما غير المحصن فيجلد مائة جلدة والمرأة التي لم تحصن مثله، واللائط إنسان عاد، حده الشرعي أن يرجم كما ذكر الفقهاء، ولهم تفاصيل في ذلك. فالمؤمن يقف عند ما أحل الله سبحانه ولا يتجاوزه إلى ما حرمه سبحانه. والمجاوزة تأتي تدريجياً، فلو أن الإنسان ترك نفسه وهواها وقع في النهاية فيما يشتهيه من حلال ومن حرام، ولكن الشريعة تقيد الإنسان، فتأمر المؤمن أن يغض بصره، وأن يحفظ فرجه، وتأمر المؤمنة كذلك: أن تغض بصرها، وأن تحفظ فرجها، قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:31]، وقد قالوا: البصر بريد الزنا، فإذا ترك الإنسان بصره فإنه ينظر شيئاً فشيئاً حتى يقع في الحرام وقلبه يشتهي ويتمنى، وفرجه يصدق ذلك أو يكذبه، فلذلك لا تترك نظرك كما تشتهي فتنظر إلى ما تريد، ولتكن مقيداً بشرع رب العالمين سبحانه وتعالى، فالعين نعمة من الله عز وجل، وقد تكون بسبب نظره إلى ما لا يحل لك نقمة عليك، فليحذر الإنسان المؤمن أن يضيع شرع الله عز وجل بأن ينظر إلى ما لا يحل له. والذي ينظر للشيء الذي حرمه الله يقوم غالباً بترك واجبات أوجبها الله عز وجل عليه، فتراه يمشي في الطريق وينظر إلى النساء، فإذا جاء وقت الصلاة -ولعله كان يصلي- فيقول لنفسه: لعله نزل مني لعله كذا، فيؤجل الصلاة، فإذا بالنظرة قد أورثت في هذا الإنسان نفاقاً بتركه للصلاة، ولعله يكون في رمضان فيمشي في الطريق وينظر إلى ما حرم الله عز وجل ثم يذهب ويفطر، وقد صلى أحد الناس معنا المغرب فقال لي: أنا إنسان طيب إلا الصوم فلا أصوم أبداً، فقلت له: لماذا لا تصوم؟ فقال: أنا أشرب السجائر كثيراً وأحب أن أنظر إلى النساء! فعين هذا الإنسان جعلته يترك الصيام، مع أنه قد بلغ ثلاثين أو أربعين سنة، فالإنسان إذا وقع في الحرام أتاه الشيطان فقال له: لا تصم، فيفطر، ثم يقول له: لا تصل لأنك تعمل كذا، فيترك الصلاة والصيام، ولعله يترك ما فرض الله عز وجل عليه كله، فيموت ولا ينفعه شيء. وقد سألني أحدهم: أن رجلاً مات والده ولم يصل قط، فهل نحج عنه أو لا؟ A الله أعلم بحاله. بعض الناس من كبار السن كنا نقول لهم: لماذا لا تصلون؟ فيقولون: ماذا نستفيد من الصلاة إذا صلينا؟ سبحان الله! ومن يدري لعله كان يترك الصلاة وهو صغير ويقول: سأصلي إذا كبرت، فلما كبر قال: ماذا سأستفيد؟ ويظل على ذلك حتى يموت ولا حول ولا قوة إلا بالله، فالتارك للصلاة كأنه يائس من رحمة الله، ولذلك على المؤمن أن يعتبر بمثل هذه الأشياء، وكيف أن الله منَّ عليه بأن غض بصره وأرشده للصلاة، ومن عليه بأن جعله يصوم في رمضان وفي أوقات التطوع كما جاء في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فيحمد الله سبحانه ويفرح بنعمة الإسلام وكفى بها نعمة {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا} [الأعراف:43]. فالمؤمن لا يلام على وطء امرأته إلا فيما حرم الله عز وجل عليه، كأن يأتيها في وقت حيضها أو في وقت نفاسها، أو أن ينكحها في دبرها، فهذا كله حرام، قال الله تعالى: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:7].

حفظ الأمانات ومراعاة العهود

حفظ الأمانات ومراعاة العهود ومن صفات المؤمنين: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون:8]. فهم مؤدون للأمانة وراعون لها، أي: أنهم محافظون على الأمانة أقصى درجات المحافظة، وقد علمنا ديننا ذلك وكرر علينا هذا الأمر، قال سبحانه وتعالى في كتابه: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المعارج:32] أي: يرعى أمانته فيحافظ عليها أشد من محافظته على ماله؛ لأنها أمانة، وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم وقد سأله رجل: (متى الساعة؟ قال: إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قال: وما تضييع الأمانة؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله)، فمتى أصبح الناس ينظرون إلى من سيكون والياً عليهم، لا من جهة دينه، ولكن ينظرون إلى صفات ليست من الدين كقولهم عن بعض الناس: ما ألطفه! ما أقواه! ما أظرفه! فيجعلونه قدوة لهم لأجل ذلك، فلينتظروا الساعة. أما المؤمنون فيعرفون أمانة الله عز وجل، فإذا أرادوا من إنسان أن يكون كبيرهم نظروا إلى دينه وإلى تقواه وإلى حنكته وخبرته في هذا الأمر الذي سيجعلونه فيه، لكن إذا وسد الأمر إلى غير أهله بالمجاملات وبالأحساب ففي هذه الحالة انتظر الساعة. وقوله تعالى: {لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون:8] بالجمع وهذه قراءة الجمهور، وقراءة ابن كثير: (والذين هم لأمانتهم وعهده راعون). والأمانة من جنس الأمان، قال الله عز وجل في كتابه: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ} [الأحزاب:72]. والأمانة أمانة في التكليف، والتكاليف الشرعية عرضها الله سبحانه وتعالى على السموات وعلى الأرض وعلى الجبال فأبين أن يحملنها، لماذا؟ لأنهن عرفن أنهن سيكلفن بشيء بعده إما جنة وإما نار وما يدريهم أنهم سيدخلون الجنة وسينجون من النار؟! فعرضت على الإنسان فحملها الإنسان، ومن أوصاف الإنسان أنه متهور وأنه سريع القدوم إلى الشيء الذي قد يهلكه، {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72]، فحمل الإنسان هذه الأمانة، وأخذ على عاتقه أن يطيع الله عز وجل، فمنهم من أطاع الله ومنهم من عصاه سبحانه وتعالى. فالمؤمنون لأماناتهم وعهدهم راعون، أي: أنه إذا أعطى إنساناً يميناً أو عقداً أو عهداً على شيء فإنه يراعي عهده ولا يخون أبداً ولا يغدر ولا يضيع مواثيقه، بل هو مؤتمن على هذا كله، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون:8]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك). (أد الأمانة) أي: إذا ائتمنك إنسان على أمانة فأدها إليه كما أعطاها لك. ولو أنه خانك مرة من المرات في شيء فلا تخنه، ولا تقل: مثلما خانني أخونه، وكم من الناس يفعلون ذلك! فتجد كثيراً من الناس من متدينين وغيرهم سرعان ما يخون الأمانة ثم يقول: هو فعل بي كذا في يوم كذا، وينسى ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، وينسى أن النبي الأمين صلوات الله وسلامه عليه كان الكفار يؤذونه ويؤذون أصحابه، وكانت أمانات الكفار عنده في مكة صلى الله عليه وسلم، فلما أراد الهجرة أخذ يجهز أماناتهم لردها إليهم وهم يعدون لقتله، وأمر أم أيمن بأداء وإرجاع الأمانات إلى أهلها، فهو منشغل بأماناتهم وهم منشغلون بسفك دمه صلوات الله وسلامه عليه، وينجيه الله عز وجل ويخرج من بين أظهرهم ويتوجه إلى المدينة مهاجراً صلوات الله وسلامه عليه، وقد أمن أن الأمانة سترد إلى أهلها عن طريق أم أيمن وعن طريق علي بن أبي طالب رضي الله تبارك وتعالى عنهما.

المحافظة على الصلوات

المحافظة على الصلوات قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون:9] أي: يحافظون على الصلاة فلا يضيعون أوقاتها، ولا هيئاتها، ولا شروطها، وقراءة الجمع للجمهور، وقراءة الإفراد لـ حمزة والكسائي وخلف. : {أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} [المؤمنون:10]، أي: هؤلاء المؤمنون هم الذين سيرثون جنة رب العالمين سبحانه {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:11]. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة المؤمنون [10 - 13]

تفسير سورة المؤمنون [10 - 13] بعد أن ذكر الله سبحانه صفات المؤمنين في أول السورة ثنى بذكر ابتداء خلق الإنسان من سلالة من طين، وهو آدم عليه السلام، فقد خلقه الله من صلصال من حمأ مسنون، وذكر أنه خلق الإنسان بعد آدم من نطفة، وأن هذه النطفة تمر بمراحل، ثم تتحول إلى علقة، وتتحول العلقة إلى مضغة، وتتحول المضغة إلى عظام مكسو باللحم، ثم تنفخ فيه الروح عندما يمر عليه مائة وعشرون يوماً، فتبارك الله رب العالمين.

صفات المؤمنين

صفات المؤمنين الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. ما زلنا في سورة المؤمنون التي قدمنا شيئاً من تفسير أول آياتها قبل ذلك، وقد بدأها ربنا سبحانه وتعالى بقوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1] ذكر النهاية والنتيجة التي يسعى إليه كل إنسان مؤمن وهي أن يكون من المفلحين، فبدأ بالأهم الذي يرجوه كل إنسان، والذي خلق الله عز وجل الخلق من أجله وهو أن يفلحوا بطاعتهم وبعبادتهم لله سبحانه. قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} ومن صفات هؤلاء المؤمنين ما ذكر الله عز وجل هنا: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون:2 - 9]، هؤلاء هم المؤمنون الذين حكم الله عز وجل لهم بالفلاح، ثم ذكر أن فلاحهم أنهم ينجحون عند الله عز وجل ويفوزون الفوز العظيم الذي لا خسران بعده أبداً فقال: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:10 - 11] والفردوس: هي أعلى الجنة وأوسط الجنة وفوقها عرش الرحمن سبحانه وتعالى، فهؤلاء الذين اجتمعت فيهم هذه الصفات هم أهل الفردوس الأعلى، وهم في عليين، وهم المقربون من رب العالمين، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم. تفضل الله عز وجل على المؤمنين بأن جعلهم يرثون الفردوس، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين إذا دعوا ربهم وسألوه أن يسألوه الفردوس الأعلى من الجنة فقال: (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى من الجنة؛ فإنه أعلى الجنة وأوسطها، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة)، فالإنسان المؤمن إذا سأل الله فليسأله أهم الأشياء وأعظم الأشياء، ويكون هذا هو شاغل الإنسان المؤمن عن الدنيا وعن فتنها وعن مصائبها، أنه يرجو في النهاية الفلاح والفوز العظيم، ويخاف من الخسران ويخاف من النار، فيسأل ربه سبحانه وتعالى ليل نهار أن يكون مع (النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا) في الفردوس الأعلى. وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى جعل لكل إنسان مسكناً في الجنة ومسكناً في النار) فأما المؤمنون فيأخذون منازلهم ويرثون منازل الكفار، ويرجع الكفار في منازلهم في النار، والإنسان المؤمن يريه الله عز وجل منزلاً في النار، ويقول له: هذا منزلك لو عصيت الله، والإنسان المؤمن يفرح بأنه أطاع الله وأنه لم يدخل هذا المنزل، والإنسان الكافر يدخل في هذا المنزل والعياذ بالله، والإنسان المؤمن يريه الله عز وجل منزله في الجنة ويقول له: هذا منزلك في الجنة وقد ورثناك منازل هؤلاء، لو أطاعوني لدخلوا هنا، ولكنهم لم يطيعوني وعصوني فدخلوا النار، وأنتم ورثتم هذه الجنة وأخذتموها بفضل الله وبرحمته سبحانه. وما منكم من أحد إلا وله منزل في الجنة وله منزل في النار، والله عز وجل يتفضل على المؤمنين بأن يدخلهم الجنة ويورثهم جنات النعيم.

تفسير قوله تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين)

تفسير قوله تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين) لما بدأ الله عز وجل بالشيء الهام الذي ينتظره الإنسان المؤمن، وهو أن يكون مفلحاً وبين صفات الفلاح، بدأ بعد ذلك يذكر لنا بدء خلق هذا الإنسان، فقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون:12] أي: أن الله هو الخالق للإنسان وغيره من المخلوقات، فهو سبحانه وتعالى خلقهم ليطيعوه وخلقهم ليعبدوه سبحانه وتعالى، فالله عز وجل خلق السماوات وخلق الأرضين، وخلق كل شيء، وما من شيء إلا يسبح بحمده، فليس محتاجاً لعبادة هذا الإنسان ولا لهؤلاء الجان، ولكن الله عز وجل يبتلي الخلق بعضهم ببعض، لحكمة منه سبحانه وتعالى، فملائكته أقوى من سائر خلقه سبحانه وتعالى، وهم يعبدونه ليل نهار، وما من موضع في السماوات إلا وفيه ملك لله عز وجل إما قائم أو راكع أو ساجد يعبد الله ويسبح الله، وهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. فهذا الإنسان المخلوق الضعيف الذي هذا أصله لا يحتاج الله عز وجل لعبادته؛ بل خلقهم سبحانه وتعالى ليبتليهم، وهذا الإنسان خلقه ليكرمه إن أطاع ربه، وليحقق مقتضى صفاته أنه الرحيم والقدير والعليم والحكيم والخبير سبحانه وتعالى، فيخلق المخلوقات ليحقق مقتضى هذه الصفات العلية له سبحانه وتعالى، فلا يحتاج إلى خلقه سبحانه ليعبدوه، فلن يزداد بعبادتهم شيئاً ولن ينقص بكفرهم شيئاً، ولكن خلقهم لنفعهم ولما فيه صلاحهم إن هم أطاعوه سبحانه. قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِين) هذا أصل الإنسان، والإنسان هنا هو آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فهذا أصله أنه كان عدماً كان ماء وطيناً، فأوجد الله عز وجل منه هذا الخلق، وتركه من صلصال من طين ومن حمأ مسنون فترة، ثم نفخ فيه الروح سبحانه وتعالى، فكان أصل هذا الإنسان من سلالة من طين، قالوا: السلالة بمعنى: الصفوة، فكأن المقصود منه مني الإنسان، وقيل: السلالة من السلة واستخراج الشيء من الشيء، ولذلك الطين إذا أمسك بين الأصابع تسرب من بين أصابع الإنسان، فهو سلالة وخلاصة من شيء، أو شيء من طين، أي: ماء وتراب، بُلّ التراب فصار طيناً، فهذا الإنسان مخلوق من هذا الطين الذي لو أمسكته بين أصابعك وهو تراب وماء ما قدرت على جمعه، بل يتسلل من بين الأصابع، وقيل: النطفة سلالة، والولد سليل، أي: مأخوذ من هذه السلالة وما تفرع عنها، والطين أيضاً إذا عصرته بين أصابعك انسل وخرج منها، فالأصل أن الإنسان من سلالة من طين ثم صار إنساناً. والإنسان عندما يمر بهذا الطين الذي يسيل في الشارع تراه يجتنب أن يصل إلى ثيابه منه، نقول له: هذا هو أصلك أنت، وأنت مخلوق من هذا الطين (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِين).

تفسير قوله تعالى: (ثم جعلناه نطفة في قرار مكين)

تفسير قوله تعالى: (ثم جعلناه نطفة في قرار مكين) قال الله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون:13] أي: جعل الله عز وجل هذه الإنسان نطفة وأقرها في مكان وفي قرار مكين، وجعل لها عوامل تجعلها تعيش بالقدر الذي حدده الله سبحانه وتعالى، ثم يخرج منها ما شاء في الوقت الذي يشاؤه الله سبحانه وتعالى، ويخرج من هذا الماء الشيء الذي هو حي، وكوّن أعداداً كثيرة جداً، والذي يكون منه الإنسان شيء واحد وهو هذه النطفة، وهي ماء الرجل. يقول العلماء: إنه ماء الرجل ومتوسط ما ينتجه الرجل في اليوم الواحد حوالي ثلاثمائة مليون حيوان منوي، وهي متجددة دائماً، ومتوسط ما يقذفه الإنسان في القذفة الواحدة من المني في الدفعة حوالي من (3 - 4 سم3) هذه الكمية القليلة ترى كم فيها من حيوانات منوية؟ فيها من أربعمائة إلى خمسمائة مليون حيوان منوي في الدفعة الواحدة، يدفعها الإنسان في جماع أو احتلام، والله عز وجل يختار واحداً فقط من هذه الحيوانات المنوية ليكون منه هذا الإنسان، وهذا الحيوان المنوي فيه صفات معينه في الرجل، وقد خلق الله عز وجل في المرأة منذ خلقها عدداً من البويضات، يقول العلماء: إن البويضات مخلوقة في المرأة تقدر بحوالي اثنين مليون من البويضات، فهي أول ما تنزل من بطن أمها فيها هذا العدد من البويضات، فتبدأ هذه البويضات تتناقص حتى تصل في سن الإنجاب من أربعمائة إلى خمسمائة بويضة فقط، وهذه الكمية كافية للإنجاب في مرحلة ما بين سن (12) إلى (50) سنة الذي هو سن اليأس للمرأة، وهذا العدد الذي قدره الله عز وجل في المرأة لا يزيد ولا يتخلق يومياً كما يحدث في حيوان الرجل، ولكنه ينقص حتى تصل المرأة إلى سن اليأس وتنفد هذه البويضات، ولا تقدر المرأة على الإنجاب بعد ذلك، فإذا حدث غير ذلك فهو من معجزات الله عز وجل في خلقه أن يوجد ذلك لمن يشاء سبحانه وتعالى، كما حدث لزوجة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فقد أنجبت بعد سن اليأس. فالله عز وجل خلق هذا الإنسان من هذه النطفة ومن هذه البويضة، وقد ذكر سبحانه أنه خلقه من أمشاج، والأمشاج هو اختلاط مني الرجل ببويضة المرأة، فيكون منها الصفات، صفات الذكور وصفات الإناث، وقد جاءت أحاديث عجيبة جداً عن النبي صلى الله عليه وسلم تبين لنا هذه المراحل، مع هذا الذي جاء في كتاب الله سبحانه وتعالى، وهذا الكلام العظيم الذي في كتاب الله وفي سنة النبي صلوات الله وسلامه عليه من الأحاديث جعل علماء الغرب يذهلون، وقد جاء في هذا المعنى أن رجلاً سمع ابن مسعود يقول: (الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره)، فتعجب الرجل تعجب كيف يكون شقياً وهو في بطن أمه ولم يعمل شيئاً يصير به شقياً؟! فذهب الرجل إلى حذيفة بن أسيد الصحابي الفاضل رضي الله عنه يقول ذلك كالمنكر على ابن مسعود قوله: (الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من وعظ بغيره)، فقال له حذيفة بن أسيد رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً فصورها، وخلق سمعها وبصرها وجلدها وعظامها، ثم قال: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب رزقه؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص)، وقوله: (ثنتان وأربعون ليلة) هذا العدد يذكره علماء الطب ويقولون: إن الجنين في الأسبوع السادس تخلق فيه هذه الأشياء، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم من علماء التشريح، ولم تكن عنده كاميرات تصوير يصور بها رحم المرأة ولا شيء من ذلك، ولكن الله سبحانه وتعالى هو الذي أوحى لنبيه صلى الله عليه وسلم حتى أخبره بهذا الأمر بهذه الدقة التي لم يعرفها العلماء إلا بالمتابعة والتشريح والمناظرة وهم بعد النظر في الأدلة العقلية قالوا: تخلق هذه الأشياء في الأسبوع السادس تقريباً، أما حديث النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الليلة وقال: (إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً فصورها) ويقول علماء متخصصون في ذلك: في نهاية الأسبوع السادس -أي: بعد الاثنتين والأربعين ليلة - تكون النطفة قد بلغت أوج نشاطها في تكوين الأعضاء، وهي قمة المرحلة الحرجة الممتدة من الأسبوع الرابع حتى الثامن، ثم يقوم الملك إلى هذه النطفة ويصور فيها هذه الأشياء في خلال هذه الفترة. وهناك أحاديث أخرى جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى، كحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الذي قال فيه: حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سيعد، فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)، والحديث في الصحيحين. وهذه الرواية رواية مسلم وفيها تفصيل دقيق جداً، أكثر مما جاء في صحيح البخاري، والتفصيل الذي فيها قوله: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد)، وهذا معنى كلام ابن مسعود رضي الله عنه: (الشقي من شقي في بطن أمه) أي: أنه معلوم عند الله من قبل خلق هذا الإنسان أنه شقي أو سعيد، وهذه من الأشياء الغيبية التي يجب أن نؤمن بها، فالله عز وجل خلق الخلق وعلم أن هؤلاء للجنة يصيرون وهؤلاء للنار يصيرون، وقدر أقداراً سبحانه وتعالى، ولكن لم يطلعنا على ذلك ولم نعلم ذلك، فالذي أمرنا به أن نؤمن بذلك ولا نتعرض له بالجدل الباطل. إذاً: فالواجب علينا أن نؤمن بالقضاء والقدر، وليس معنى ذلك أن الإنسان يترك العمل ويقول: لو كنت مكتوباً من أهل الجنة فسأعمل للجنة، لا، فإن هذا من باب الجدل العقيم الذي يضيع الإنسان فيه عمره، وفي النهاية يموت على ذلك وقد ضاعت دنياه وأخراه، فالقضاء والقدر أمرنا بالإيمان به، أما العمل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) فأمرنا ألا نتوقف عن العمل، والقضاء والقدر هو شيء كتبه الله عز وجل عنده، لم يطلع على ذلك أحداً من خلقه. فعلى الإنسان المؤمن ألا يتعرض لأمر القضاء والقدر إلا بالإيمان به والتصديق واليقين، ثم يعمل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه لما سألوه عن ذلك: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له). فهنا في الحديث قلنا: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها) يعني: أنه في نهاية حياته لا يوفق لعمل أهل الجنة فيكون من أهل النار. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عباده السعداء، ولا يجعلنا من عباده الأشقياء. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة المؤمنون [12 - 15]

تفسير سورة المؤمنون [12 - 15] ذكر الله لنا في كتابه مراحل خلق الإنسان وأطواره، وهذه الأطوار من آيات الله العظيمة، ثم بعد أن خلقه يميته، وهذه آية أخرى كبيرة، وبعد موته يبعثه يوم القيامة ليجازيه على أعماله، فتبارك الله أحسن الخالقين، وأحكم الحاكمين.

تفسير قوله تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين)

تفسير قوله تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة المؤمنون: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون:12 - 16]. ذكر الله عز وجل في هذه الآيات مراحل خلق الإنسان، وكيف خلقه الله سبحانه وتعالى من شيء حقير: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون:12]، فهذا أصل الإنسان، وقد ذكر الله عز وجل في خلق الإنسان آيات في كتابه سبحانه وتعالى، كقوله في سورة الكهف: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً} [الكهف:37]، كما في قصة الرجلين اللذين آتى الله عز وجل أحدهما جنتين، ولم يؤت الآخر، فاستكبر صاحب الجنتين على صاحبه الذي يعبد الله سبحانه، وقال: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف:34] {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ} [الكهف:37]، فأصل خلق الإنسان من التراب، وهنا ذكر الله أنه خلقه من طين، أي: خلقه الله عز وجل من تراب وماء، والأصل في خلقه التراب، والعناصر الموجودة بجسم الإنسان هي نفس العناصر الموجودة في التراب، وأكثر جسم الإنسان من الماء، فهو مخلوق من التراب والماء. قال الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} [غافر:67]، وقال سبحانه: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} [فاطر:11]، وقال: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [النحل:4]، يذكره الله بأول خلقه وإذا به يخاصم، ويناظر، ويجادل خالقه سبحانه وتعالى! وقال سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس:77]، وقال: {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [السجدة:8]، يخرج من المحل الذي يخرج منه البول، يستقذره الإنسان، وقال: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [المرسلات:20]، فهذا بدء خلق الإنسان، فالله يذكره بأن هذا بدء خلقك، فليس لك أن تجادل ربك، وليس لك أن تستكبر على الخلق، فأنت خلقت من تراب مثلهم، وخلقت من ماء مهين.

تفسير قوله تعالى: (ثم جعلناه نطفة في قرار مكين)

تفسير قوله تعالى: (ثم جعلناه نطفة في قرار مكين) قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون:13]، أصل النطفة: النقطة من الماء، وكأنها النخبة المنتقاة من الإنسان تجتمع من نطفة الرجل ونطفة المرأة، كما قال الله: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} [الإنسان:2] أي: مختلطة فيها صفات الرجل، وصفات المرأة، فالبويضة يلقحها الحيوان المنوي، ويجعلها الله عز وجل بعد هذه النطفة علقة، وقوله: {فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون:13]، القرار المكين: هو رحم المرأة، فهو متمكن في مكانه، حفظ الله عز وجل هذا الإنسان في هذا الطور داخل هذا الرحم الذي ثبته في بطن المرأة، وجعل حوض المرأة من عظام يحميه عن اليمين وعن الشمال، ومن أمامه ومن خلفه، وجعل هيئته فيها حماية له، وملأ هذا الكيس الذي يحاط بالجنين بماء بحيث يحميه من أي اضطرابات وصدمات، فكأنه يسبح داخل كيس من ماء، وهذا من فضل الله عز وجل ورحمته سبحانه! فالذي ينظر لمراحل التخليق في بطن المرأة يعلم قدرة الله عز وجل، وكيف حفظ الله هذا الجنين في هذه الأطوار.

تفسير قوله تعالى: (ثم خلقنا النطفة علقة)

تفسير قوله تعالى: (ثم خلقنا النطفة علقة) قال الله تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14]. ((ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً)) النطفة تتحول إلى علقة، فهذه النطفة الملقحة تلتصق في جدار الرحم، مثل النبات الذي له جذر يمص بجذره الماء الذي يغذيه، وكذلك هذه النطفة تصير كالعلقة تعلق بجدار الرحم، وتأخذ منه ما يغذيها من الدماء. (فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً) العلقة تتحول إلى مضغة، وهي صغيرة جداً، وهي كهيئة قطعة اللحم الممضوغة، وتوصف في الكتب العلمية كأنها لبانة ممضوغة، فيها آثار الأسنان. قال الله: (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا) تتحول هذه المضغة إلى عظام، والله عز وجل ذكر العظام قبل اللحم، وكان المعروف عند علماء الطب إلى عهد قريب أن اللحم يتكون في البداية ثم العظم بعده، ولكن الله عز وجل ذكر العظم ثم اللحم بعده، وهذا الذي اكتشفوه حديثاً أن العظام تتكون في البداية ثم بعد ذلك اللحم. وكانوا قبل أكثر من قرن يقولون: إنه يتكون اللحم ثم العظم، ثم بعد ذلك قبل سنوات قريبة قالوا: يتكون العظم واللحم معاً، ثم اكتشفوا أن العظم يتكون الأول ثم اللحم بعد ذلك، وهذا قد ذكره الله عز وجل هنا، وهم قالوا: إن الفرق بين خلق العظم واللحم وقت يسير جداً لا يكاد يلاحظ؛ ولذلك كانوا يعتقدون أن العظم واللحم يتكونان سوياً. قال الله: {فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون:14]، في هذا الطور تكون المضغة المخلقة وغير المخلقة، وتكون الغضاريف التي فيها العمود الفقري والرأس، ثم يتحول إلى خلق آخر وهو خلق الجنين على الهيئة المعروفة في بطن المرأة، فيه اليد، وفيه الرجل، والرأس، والعين، والأنف، (ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ). وقوله سبحانه: (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا) هذه قراءة الجمهور، وقرأها ابن عامر وشعبة عن عاصم: (فخلقنا المضغة عظماً فكسونا العظم لحماً). وخلق الجنين خلق عجيب، ففي مرحلة من المراحل لا تميز بين هذه المضغة التي تكون في الإنسان أو الحيوان حتى يحوله الله عز وجل خلقاً آخر متمايزاً، فيتميز الإنسان عن غيره من الحيوانات في المراحل التي بعد ذلك، قال الله: (ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ)، عندما يسمع الإنسان ذلك لا يسعه إلا أن يقول: (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) أي: كثرت بركة رب العالمين سبحانه وتعالى، وتمجد الله سبحانه في بديع صنعه، وعظيم ما خلق سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (ثم إنكم بعد ذلك لميتون)

تفسير قوله تعالى: (ثم إنكم بعد ذلك لميتون) قال الله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} [المؤمنون:15]، بعد أن خلق الإنسان من طين، وفي النهاية يرجع إلى التراب مرة ثانية، فيدفن في قبره فإذا بالديدان تأكله، والديدان يأكل بعضها بعضاً، ويتحول الجميع إلى تراب، قال تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف:29]، فقد بدأكم من تراب وتعودون إلى التراب، ثم يعيدكم مرة أخرى يوم القيامة، يوم يبعثكم سبحانه وتعالى.

إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن تذكير الجنين وتأنيثه في بطن أمه

إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن تذكير الجنين وتأنيثه في بطن أمه روى مسلم عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كنت قائماً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء حبر من أحبار اليهود فقال: السلام عليك يا محمد! قال ثوبان: فدفعته دفعة كاد يصرع منها)، غضب ثوبان لأنه نادى النبي صلى الله عليه وسلم باسمه ولم يقل: يا رسول الله، وربنا سبحانه وتعالى نهانا أن ندعوه باسمه كغيره من الناس، (فقال اليهودي: لم تدفعني؟ فقال: ألا تقول: يا رسول الله؟! فقال اليهودي: إنما ندعوه باسمه الذي سماه به أهله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن اسمي محمد الذي سماني به أهلي)، يريد أن يحسم الخلاف ويسكت هذا وذاك، (قال اليهودي: جئت أسألك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أينفعك شيء إن حدثتك؟ فقال: أسمع بأذني)، وهذه عادة اليهود يسمعون بالأذن فقط، ولا يدخل ذلك إلى قلوبهم، (فقال: أسمع بأذني، فنكت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعود معه في الأرض) كالمتعجب من هذا الذي سيسمع بأذنه! (فقال اليهودي: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: في الظلمة دون الجسر)، والجسر هو الذي سيعبر عليه الناس فوق متن جهنم إلى أن يدخلوا الجنة أو يتساقطون في النيران والعياذ بالله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (في الظلمة دون الجسر)، وتبدل الأرض غير الأرض والسموات بما يشاء الله سبحانه، وهذا لا يعلمه إلا نبي، واليهودي يعرف ذلك مما أخبرهم به موسى عليه الصلاة والسلام. (قال الرجل: فمن أول الناس إجازة؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: فقراء المهاجرين، فقال اليهودي: فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟)، والتحفة ما تتحف به الضيف أو من يأتي إليك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (زيادة كبد النون)، والنون هو: الحوت، فالله عز وجل يطعم هؤلاء من الزيادة التي على كبد الحوت، والله أعلم بعظمه، خلقه الله وجعل تحفة أهل الجنة الأكل من زيادة كبد هذا الحوت، (قال اليهودي: فما غذاؤهم على إثرها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها، قال اليهودي: فما شرابهم عليه؟ قال صلى الله عليه وسلم: من عين فيها تسمى سلسبيلاً، قال: صدقت، قال: وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان، فقال صلى الله عليه وسلم: وهل ينفعك إذا حدثتك؟! فقال: أسمع بأذني، قال: جئتك أسألك عن الولد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ماء الرجل أبيض، وماء المرأة أصفر، فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكر بإذن الله، وإذا علا مني المرأة مني الرجل آنث بإذن الله، فقال اليهودي: لقد صدقت وإنك لنبي)، وما قال: أشهد أن لا إله إلا الله، بل قال: أنت نبي، ويقولون: هو نبي الأميين. (قال: ثم انصرف فذهب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد سألني الذي سألني عنه ومالي علم بشيء منه حتى أتاني به) يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ما كنت أعرف هذه الأجوبة، ولكن نزل الوحي حالاً على النبي صلى الله عليه وسلم يخبره بالأجوبة عن هذه الأسئلة. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ماء الرجل أبيض، وماء المرأة أصفر) يقول العلماء الذين يتكلمون عن هذا الحديث من علماء الطب: إن البشرية لم تعلم بواسطة علومها التجريبية أن الجنين يتكون من نطفة الرجل ونطفة المرأة إلا في القرن التاسع عشر، فقد كانوا يظنون أن الجنين من نطفة الرجل فقط، وتيقنوا ذلك في أول القرن العشرين. والحديث تضمن وصفاً لماء الرجل وماء المرأة، وإن كان أكثر أهل الطب إلى عهد قريب يقولون: المرأة ليس لها ماء، فلا يوجد إلا المني من الرجل فقط، ثم بعد ذلك اكتشفوا أن في المرأة حويصلة جراف اكتشفها رجل اسمه دارك، هذه الحويصلة تخرج سائلاً لونه أصفر، قالوا: ماء المهبل يميل إلى الصفرة، وكذلك الماء في حويصلة جراف، قالوا: لكنه يكون قليلاً فلا تشعر به المرأة في الغالب، وقد تشعر به بعض النساء. قالوا: عند خروج البويضة من هذه الحويصلة تدعى حينئذ الجسم الأصفر، فلونها أصفر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ماء الرجل أبيض، وماء المرأة أصفر)، ولم ير ذلك صلى الله عليه وسلم، وإنما أخبره الوحي بذلك. وهنا إعجاز آخر حيث قال: (فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكر بإذن الله)، يعني: يكون المولود ذكراً، وإن علا مني المرأة كان المولود أنثى، يقول العلماء: في هذا الحديث إشارة إلى أن إفرازات المهبل لها تأثير في الذكورة والأنوثة، قالوا: إفرازات المبيض حمضية، وتقتل الحيوانات المنوية، وإفرازات عنق الرحم في المرأة قلوية، ولكنها لزجة، وإفرازات الرجل قلوية أيضاً، فإذا غلبت قلوية الرجل على إفرازات الرحم الحمضية كان الجنين ذكراً، وإذا علا ماء المرأة كان المولود أنثى كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم. قال العلماء: لهذه الإفرازات تأثير على نشاط الحيوانات المنوية المذكرة أو المؤنثة، وقد ذكر الشيخ عبد المجيد الزنداني هذا الأمر، وذكر أنه بحث عن هذا طويلاً حتى لقي دكتوراً مصرياً في أمريكا له سنين يحضر في هذا الأمر، وأخبره أن هذه المسألة ما زالت تحتاج إلى أبحاث جديدة، وله فيها أبحاث لم ينشرها، فأخبره الزنداني بأن هذا موجود في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أن ماء الرجل وماء المرأة يكونان سبباً في ذكورة أو أنوثة المولود، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (إذا علا ماء الرجل كان ذكراً بإذن الله، وإذا علا ماء المرأة كانت أنثى بإذن الله). ومن الأحاديث التي جاءت في هذا المعنى حديث أنس بن مالك الذي رواه البخاري، وفيه أن عبد الله بن سلام بلغه مقدم النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه يسأله عن أشياء فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي، وهذا عبد الله بن سلام كان من أحبار اليهود، وقد أسلم، أما الآخر فلم يذكر أنه أسلم، فـ ابن سلام سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أول أشراط الساعة، وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ وما للولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أخبرني بها جبريل آنفاً)، وذكر له مثل ما ذكر في الحديث الأول، وقال: (أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد ذكراً) يعني: إذا غلب ماء الرجل صار الولد ذكراً، (وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل صار الولد أنثى، فقال عبد الله بن سلام: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله)، فآمن عبد الله بن سلام بالنبي صلوات الله وسلامه عليه، وطلب منه أن يكتم ذلك، حتى يعرف منزلته عند اليهود، وجاء اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أي رجل عبد الله بن سلام فيكم؟ قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وأفضلنا وابن أفضلنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام؟! قالوا: أعاذه الله من ذلك)، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرجو أن يسلموا إذا علموا أن كبيرهم وخيرهم قد أسلم، (فقالوا: أعاذه الله من ذلك فأعاد عليهم فقالوا مثل ذلك، فخرج إليهم عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقالوا: أنت شرنا وابن شرنا، فقال: هذا ما كنت أخاف يا رسول الله)، فأحب أن يعرف النبي صلى الله عليه وسلم قدره فيهم وأنه خيرهم وابن خيرهم، وأنه أفضلهم، وعالمهم، فلما علموا أنه أسلم سرعان ما انقلبوا وكذبوا عليه! والغرض بيان أن القرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فيها بيان حقائق علمية اكتشفت الآن في زماننا، وهي تبين قدرة الله سبحانه وتعالى، وإعجاز هذا القرآن العظيم، حيث يخبر بحقائق علمية لم تكشف إلا الآن، وقد ذكرها القرآن قبل ألف وأربعمائة عام. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة المؤمنون [14 - 18]

تفسير سورة المؤمنون [14 - 18] يذكر الله عز وجل في غير موضع من كتابه العزيز مراحل خلق الإنسان، وفي ذلك إعجاز باهر للعقول، ثم يمتن جل في علاه على خلقه -وهو المنان- بأصناف من النعم التي أنعم بها على عباده، وهي كثيرة لا يمكن أن تحصر بحال من الأحوال، ومنها: نعمة المطر، والتي تعد في حد ذاتها معجزة قوية في تفاصيلها.

أطوار خلق الإنسان

أطوار خلق الإنسان الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة المؤمنون: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ * وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ * فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [المؤمنون:15 - 19]. ذكر الله عز وجل عباده بنعمه العظيمة التي أنعم بها عليهم، ومنها: أنه خلقهم من تراب من سلالة من ماء مهين، ثم مرت نطفة الإنسان بالمراحل التي ذكر الله عز وجل في الآية قبل ذلك فقال: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون:14]. فكان الإنسان في بداية تكوينه نطفة، ثم خلق الله عز وجل منها العلقة، ثم المضغة، وأنشأ الله عز وجل خلقاً آخر في مراحله الأولى لا يفرق بين نطفة الإنسان ونطفة الحيوان من حيث المنظر، وكذلك عندما تصير هذه النطفة علقة، ثم مضغة، ففي هذه المراحل تكون شكلاً واحداً في رحم الأم، ثم يخلق الله عز وجل العظام ويكسوها لحماً، وينشئ الخلق الآخر فيصير الإنسان إنساناً، أي: يصبح منظره منظر إنسان، منتصب القامة، فيه اليد والرجل والعين، فتبارك الله سبحانه أحسن الخالقين والخلاق العظيم سبحانه وتعالى، فهو الذي يخلق الشيء فيكون على الوفق الذي قدره سبحانه وتعالى، فهو الخالق البارئ المصور سبحانه، خلق وقدر كل شيء وأوجده من عدم إلى وجود، وأوجد فيه ما يتميز به عن غيره، فيقدر الشيء ويخلقه سبحانه وتعالى ويجعله على النحو الذي قدره عليه، قال تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14]. فإن من معاني الخلق: تقدير الشيء، والإنسان قد يقدر الشيء وقد يكون على وفق ما قدره وقد لا يكون، فالإنسان يقدر بتفكيره فتكون الفكرة سهلة عنده فلما يبتدئ ويعمل الذي يقوله قد يقدر أن يصل إلى ما فكر فيه وقد لا يقدر، أما الله سبحانه وتعالى فما من شيء يقدره إلا ويكون على ما قدره عليه سبحانه وتعالى، والأمر عليه يسير وسهل سبحانه وتعالى، فمن معاني الخلق: التقدير، ولذلك يقول زهير بن أبي سلمى في شعره: ولأنت تفري ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفري وكأنه يمدح أحداً فيقول: أنت تقدر الشيء فيقع على النحو الذي قدرته، فيأتي الخلق بمعنى التقدير. قال الله عز وجل: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14]، والله يقدر ولا بد أن يكون الشيء الذي قدره على النحو الذي أراده سبحانه، والإنسان عندما يقدر فقد يكون هذا الشيء وقد لا يكون، فالله أحسن الخالقين، وأحسن الصانعين سبحانه وتعالى، وهو الذي يتقن الشيء ويصنعه على ما قدره سبحانه. ومن معاني الآية: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14]، أي: أتقن الصانعين سبحانه وتعالى فهو الذي يصنع الشيء على نحو من الإتقان العظيم الذي لا يشبهه فيه أحد أبداً، فلذلك الخلق يأتي بمعنى الصنع.

تفسير قوله تعالى: (ثم إنكم بعد ذلك لميتون)

تفسير قوله تعالى: (ثم إنكم بعد ذلك لميتون) قال سبحانه: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} [المؤمنون:15]، أي: مثلما خلقكم فإنه سوف يعيدكم إلى التراب مرة ثانية ثم يخرجكم منه ثالثة للجزاء والحساب، قال تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} [المؤمنون:15]، أي: بعد ما خلقكم ورزقكم، وبعد ما جعل لكم أعماراً تعملون فيها ويبتليكم ستموتون. لذلك لا بد أن يكون الموت على بال كل مؤمن، فالمؤمن الفطن هو من يعتبر بغيره، وفي ذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه: الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره. والمؤمن ينظر إلى الموت على أنه نهاية كل إنسان، فلم يحدد لنا ربنا سبحانه متى سنموت ولكن الموت يأتي فجأة وبغتة، ثم إن قبر الإنسان إما أن يكون حفرة من حفر النيران وإما روضة من رياض الجنة. قال تعالى:: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ} [المؤمنون:15]، أي: بعد هذا الخلق وبعد الحياة: {لَمَيِّتُونَ} [المؤمنون:15]، أي: راجعون إلى الله سبحانه وتعالى وفي قبوركم تموتون وتسلب منكم أرواحكم. قال تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون:16]، أي: تعودون إلى الحياة مرة ثانية يوم القيامة يوم أن يجازي الله عز وجل الخلائق.

تفسير قوله تعالى: (ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق)

تفسير قوله تعالى: (ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق) ثم يذكر الله من نعمه على الخلق: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنْ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} [المؤمنون:17]، أي: سبع سماوات طباقاً، أي: بعضها فوق بعض، وسماء فوقها سماء، ونحن تحت السماء الدنيا أي: السماء السفلى، والإنسان لم يعرف حدود هذه السماء ولكنه عرف الكواكب وعرف الأجرام، ولم ولن يصل إلى السماء التي فيها الملائكة، والتي ذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث أن كثافتها وسمكها خمسمائة سنة، وبينها وبين التي تليها خمسمائة سنة. وقوله: (سبع طرائق) أي: جعلها طرقاً للملائكة في هذه السماوات، والطرائق بمعنى: طارق الشيء أي: جعل بعضه فوق بعض، ومنه طارق النعل، أي: وضع نعله فوق نعل آخر، وهنا طارق السماوات أي: جعل بعضها فوق بعض، فسميت طرائق لأن بعضها فوق بعض، وسميت كذلك لأنها طرق الملائكة في السماء. قال تعالى: {وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} [المؤمنون:17] فهذه السماوات العظيمة التي لا يدري الإنسان عنها شيئاً، والكون في اتساع، كما قال تعالى: {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات:47]، والإنسان يلهث ويجري لكي يعرف تفاصيل هذه الأشياء، ولكي يقال: إنه عالم فلك، والعلماء يقولون: إنه بيننا وبين السماء في الجزء المنظور من الأرض من ناحيتنا أكثر من أربعمائة ألف مليون مجرة، وكانوا قبل سنة يقولون: إن عددها مائة ألف مليون مجرة، أو مائة مليار مجرة، والآن تضاعف إلى أربعمائة ألف مليون مجرة، ويمكن بعد عشر سنين أن يتضاعف العدد، وكل مجرة من المجرات فيها مثل هذا العدد من النجوم والكواكب والأقمار والشموس. وعلى الرغم من عظم هذا الكون وضخامته إلا أن الله يعلم كل ما فيه وكل تفاصيله، وهو الوحيد القادر على إدارته إدارة دقيقة سبحانه وتعالى. قال تعالى: {وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} [المؤمنون:17]، أي: لم نغفل عن الخلق ولن نغفل عنه أبداً، ولكن نجازيهم يوم القيامة على ما صنعوا، ولم نغفل أيضاً عن متابعة مصالح الإنسان، فننزل عليه رزقه، ونعطيه ماءه وشربه، ونهديه وننزل عليه من السماء ما يشفيه من أمراض بدنه، وما يشفيه من أمراض قلبه، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} [المؤمنون:17]، أي: في القيام بمصالح هذا الخلق فالله هو الحي القيوم سبحانه وتعالى. كذلك: {وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} [المؤمنون:17]، أي: عن خلق هذه السماوات، فنحن لم نغفل عنها، ولو حصل ذلك لسقطت السماء على الأرض، ولكن الله عز وجل لا يعزب عنه شيء ولا يغفل عن شيء.

تفسير قوله تعالى: (وأنزلنا من السماء ماء بقدر)

تفسير قوله تعالى: (وأنزلنا من السماء ماء بقدر) ومن نعمه العظيمة التي يذكرها لنا قال: {وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون:18]، معنى السماء في هذه الآية: كل ما سما أو علا فوقك وهو السحاب، وقد يكون المعنى: أن أصله من الجنة، مثلما ذكر لنا أن أصل نهر النيل ونهر الفرات من الجنة، وقد صح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك. وانظر إلى التعبير هنا ((وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ))، ويقول في آية أخرى: {يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ} [الشورى:27]، فالعبد يستغيث بالله: أن أنزل المطر، والله أعلم بمصالح العباد، ومن يستحق ومن لا يستحق، فينزل في هذه البقعة من الأرض كمية من الماء وفي البقعة الأخرى كمية من الماء، بحسب ما يراه الله سبحانه وتعالى، فلو زادت المياه التي تنزل من السماء عن حدها لأغرقت الأرض، ولكن الله ينزل كل شيء بقدر، والمتتبع لأحوال الماء كيف يكون في البحار والأنهار وفي المحيطات وأنه يتبخر إلى السماء بنظام عظيم قدره سبحانه، فيتبخر الماء من البحار ومن أماكن المياه إلى السماء بسبب أشعة الشمس فيعلو، والشمس تسخن ماء البحر لدرجة معينة لا يتأذى بها الإنسان، وهذا من حكمة الله عز وجل، يتبخر فيصعد الماء إلى طبقات الجو العليا، وهذا الماء كلما ارتفع تقل درجة الحرارة، إلى أن يصل إلى حد معين فوق قمم الجبال، فتكون درجة الحرارة أقل منها على الأرض، فيتكثف الماء في منطقة معينة من السماء، وبعد هذا الحد بأربعين كيلو متراً في السماء تزيد درجة الحرارة مرة أخرى، ويقف فيها الماء المتبخر في هذه المنطقة من طبقات الجو، فيرسل الله الرياح لتحرك هذه الأبخرة المتكونة من الماء والتي أصبحت على شكل سحب، وبعد ذلك يأمر الله بأن تنزل الأمطار حيث يريد من الأرض. وقد جاء في الحديث الذي في صحيح مسلم والذي فيه: أن رجلاً كان يسير فسمع صوتاً في سحابة: اسق حديقة فلان، فتتبع فنظر فإذا بالسحابة تجيء من مكان معين فتنزل المياه كلها في شرجة أرض صخرية، فتتجمع المياه وتمشي إلى مكان واحد فقط، فمشى وراء المياه إلى أن وصل إلى حديقة، فسأل صاحب الحديقة عن اسمه، فقال: فلان، فكان نفس الاسم الذي سمعه في الصوت الذي كان في السحابة، فقال: لمَ سألتني عن اسمي؟ فقال له: إني سمعت صوتاً في السحابة يقول: اسق حديقة فلان، فتتبعت الماء فوجدته جاء عندك في الأرض الذي أنت فيها. فماذا يعمل هذا الإنسان؟ قال: إنه يزرع هذه الأرض، والمحصول الذي يخرج منها يقسمه أثلاثاً: ثلثاً يأكل منه هو وأهله وعياله، والثلث الآخر يرده في الأرض زرعاً مرة ثانية، والثلث الثالث يتصدق به لله سبحانه وتعالى، رعى الله سبحانه وتعالى فرعاه الله وحفظه وحفظ له ماله، وما نقص مال من صدقة، فهذه سحابة تنزل ماءها من أجل فلان، وهذه بركة من رب العالمين سبحانه وتعالى، وبركة طاعة الإنسان، فإنه حين يطيع ربه يعطيه من فضله سبحانه وتعالى. فينزل الماء بقدر يناسب الحديقة المعينة، أو على قدر يناسب المزارع المراد إنزال المطر عليها حتى لا يهلك أهلها، وينزل سيولاً في أماكن معينة لحكمة منه سبحانه وتعالى وهي إغراقها وأصحابها، فكل شيء ينزل بقدر من عنده سبحانه وتعالى. يقول لنا العلماء: إن رحمة رب العالمين أن المسطحات المائية من بحار ومن محيطات ومن أنهار والتي تتبخر منها المياه مساحة دقيقة ومحسوبة تماماً، فلو أنها زادت عن هذا الحد لتبخرت كمية كبيرة من الماء، وعندما تنزل بشكل أمطار ستغرق الدنيا، ويقول العلماء: لو أن المسطحات المائية كانت أوسع مما هي عليه لغرقت الدنيا بالمطر الذي ينزل عليها، ولكن حكمة الله سبحانه أن جعل البحار والمحيطات بهذا الحجم أو بهذه المساحة والاتساع. أما كمية الأمطار التي تنزل فهي كمية كبيرة جداً يقال: إنها تعادل حوالي ستة عشر مليون طن من الماء، ينزل من السماء في كل ثانية واحدة، فلولا أن الله عز وجل قسم أرزاق العباد هنا لأغرق هذا الماء النازل الدنيا وأهلك أهلها. والمطر الذي هو على شكل سحاب في السماء يرسل الله عز وجل الرياح فتثيره، ويتولد من ذلك ما يشاء الله عز وجل من برق ومن رعد، فالإنسان ينظر للبرق أنه شيء خطير سينزل مطر، ويخاف منه، ولكن الله سبحانه وتعالى يجعله رحمة منه لزرع الإنسان ولحياة هذا الإنسان. قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ} [المؤمنون:18]، فالماء لا ينزل على نفس المكان الذي خرج منه ولكن إلى مكان آخر، ومن حكمة الله سبحانه وتعالى أنه لو أن الماء نزل في نفس المكان ما سقى زرعاً ولا ضرعاً، ولكن يتحرك على أرض معشبة يخرج منها ما فيها، وعلى أرض مجدبة يخرج منها ثمارها، وينزل على أرض أخرى فإما أن يتجمع في باطن الأرض في مكان بعيد عن الجراثيم فيكون طاهراً ومطهراً للإنسان وماء عذباً، أو أنه ينزل على أماكن عالية، وقد ينتن لو بقي في مكانه، فيسخر الله عز وجل له ما يسيره فإذا به يجري أنهاراً ويصب في البحار. فالذي رفعه والذي أنزله قادر على أن يذهب به كله فلا يجد الإنسان ما يشرب، فالله على كل شيء قدير، ويجب على الإنسان أن يعرف قدرة الله، وأن يقدر الله حق قدره، قال سبحانه: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91]. الحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة المؤمنون [18 - 21]

تفسير سورة المؤمنون [18 - 21] نعم الله سبحانه وتعالى على عباده كثيرة لا تحصى، ونعمه سبحانه حين يتنعمون بها تذكرهم بنعيم الآخرة، فقد أنزل الله الماء بقدر معين، وجعل فيه حياة الإنسان والحيوان والنبات، وأخرج به الأقوات والفواكه، ولا يذكر الله عز وجل صنفاً من الثمرات إلا لفوائده الجمة على الإنسان، وسخر الله الأنعام للإنسان ليأكل من لحمها، ويشرب من ألبانها، وعليها يحمل، ففيها عبرة له ومنافع.

تفسير قوله تعالى: (وأنزلنا من السماء ماء بقدر)

تفسير قوله تعالى: (وأنزلنا من السماء ماء بقدر) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة المؤمنون: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ * فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ * وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [المؤمنون:18 - 22]. في هذه الآيات من هذه السورة الكريمة سورة المؤمنون يخبرنا الله عز وجل عن نعمه العظيمة التي أنعم بها على عباده، ومن هذه النعم ما ذكرنا في الحديث السابق: إنزال الماء من السماء، قال تعالى: ((وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ))، هذا الماء الذي نزل من السماء بقدر لو زاد عن حده لأغرق الله عز وجل به الأرض، ولو أنه قل عن مقداره لهلك الناس من العطش وهلكت الزروع والثمار، ولكنه ينزل بقدر ما يشاء سبحانه، ونعمة الماء ونعمة الهواء ونعمة الحياة من نعم الله عز وجل العظيمة على عباده، فجعل لهم هذه الدنيا دار إقامة إلى حين، ثم يتحولون منها موتاً إلى قبورهم ثم يبعثون يوم القيامة لدار الإقامة الأبدية الدائمة. فنعم الله عز وجل على العباد في هذه الدار تذكرهم حين يتنعمون بها كيف سيكون نعيم الآخرة؟ فأنت في الدنيا تحتاج إلى الطعام، وتحتاج إلى الهواء، وتحتاج إلى الماء، وتسأل الله عز وجل هذه النعم، فينزل عليك ما سألته، وقد يمنع عنك شيئاً منها ليذكرك بقدرته سبحانه، وبأنك مخلوق ضعيف تحتاج إلى الله سبحانه وتعالى، فإذا أعطاك النعمة شكرت ربك وحمدته على ما أعطاك، وتذكرت ما يعطي يوم القيامة عباده في جنته، فيشتاق الإنسان المؤمن إلى جنة رب العالمين، ويعمل جاهداً لها. فهذه الدنيا نعم الله عز وجل فيها تبين للإنسان شيئاً من نعيم الآخرة، وأنه في الدنيا احتاج فأعطاه الله عز وجل وأنعم عليه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لما طعم هو وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما: ({ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:8] قال: وهذا من النعيم الذي تسألون عنه)، وذلك لما ذبح لهم الرجل الأنصاري رضي الله عنه شاة فأكلوا وشبعوا، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم مذكراً بذلك: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:8]. فمهما تنعمت بشيء في الدنيا تذكرت نعيم الدار الآخرة، وأن الله عز وجل يسألك عما أخذت في الدنيا، أما في الجنة فلا سؤال، ففي الجنة يأكل أهل الجنة بغير حساب، ولا سؤال بعد ذلك، فإذا كان الإنسان يستشعر بهذه النعم في الدنيا فكيف تكون النعمة في دار المقام في جنة رب العالمين؟ فمن نعم الله: الماء، قال تعالى: ((وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ))، فالله أنزل الماء، والإنسان لا يقدر على تجميعه إذا نزل من السماء، ولكن الله القادر سبحانه وتعالى جعل ذلك في باطن الأرض في أماكن تستوعب هذه المياه على شكل مخازن جوفية في الأرض؛ بحار ومحيطات وغيرها تستوعب هذا الماء، فيخزنه للإنسان حتى إذا احتاجه وجده. قال تعالى: ((فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ))، فالذي أتاك بالماء، وخلق الإنسان من ماء وجعل من الماء كل شيء حي هو القادر على أن يذهب بهذا الماء الذي أوجده وخلقه سبحانه بقدرته.

تفسير قوله تعالى: (فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب)

تفسير قوله تعالى: (فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب) لما ذكر الله نعمة الماء ذكر النعم التي تترتب على نزول الماء، فأنت تشرب من هذا الماء فتقوم حياتك به، ثم يسقي الله لك به الزروع، ويسقي لك ثمارك، ويسقي لك بهائمك، وينشئ الجنات العظيمة، قال تعالى: {فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [المؤمنون:19]، وليس جنات ونخيلاً وأعناباً فقط، فقد ذكر الله الفاكهة التي هي الدرجة الثانية، أما الدرجة الأولى فهي القوت، فإذا ذكر الفاكهة فالقوت من باب أولى، أنه أخرج لك أقواتك من هذه الأرض بهذا الماء، وليس القوت فقط، بل وما تتفكه به من أشياء يخرجها الله عز وجل من ثمار ونحوها. قال تعالى: ((فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ)) أي: في هذه الجنات ((لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ)) أي: تتفكهون بها وتأكلونها بعد طعامكم أو قبل طعامكم، وتفرحون بمنظرها وبطعمها وبلونها، وبرائحتها، وتتفكهون بذلك ((وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ)).

فوائد التمر والعنب

فوائد التمر والعنب فأنشأ الله عز وجل الجنات، وهذه أغلى ما عند الإنسان، كذلك أنشأ له الحقول وأنشأ له ما يشاء من خلقه، فقوله تعالى: ((فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ)) الجنات: البساتين، {مِنْ نَخِيلٍ} [المؤمنون:19] فتأخذون من ثمارها البلح والبسر والرطب والتمر، فنص على بعض ما يخرج منها وهو من أذكاها ومن أعلاها ومن أفضلها، فالتمر تأخذه من النخيل، والتمر فاكهة للإنسان يفرح بها، تسد جوع الإنسان فتعطيه طعاماً فيه غذاء له، وفيه فاكهة، وفيه شيء حلو يتحلى به، وكذلك الفيتامينات والفوائد الغذائية الأخرى. يقول العلماء: النخيل والأعناب من الفواكه التي هي سريعة الهضم عند الإنسان، وسرعان ما تعطي الإنسان ما يحتاجه من سكر ومن غيره، فقالوا: تمتاز الفواكه باحتوائها على العديد من الفيتامينات ومن السكريات السريعة الامتصاص التي تؤدي إلى اختفاء الجوع، فالإنسان حين يشعر بالجوع ويأكل الفاكهة بسرعة يذهب الشعور بالجوع؛ لأن الجهاز المسمي بـ (تحت البصري) الذي تحت البصري في المخ يستشعر بانخفاض نسبة السكر؛ فيستشعر الإنسان بالجوع وبالدوخة؛ ولذلك كان من السنة في رمضان أنك أول ما تفطر تفطر على التمر، قالوا: لأنه يحتوي على نسبة عالية من السكريات السريعة الامتصاص في بدن الإنسان، ويحتوي على نسبة عالية من الفسفور، والفسفور هو غذاء المخ، فالتمر يحتوي على سكريات تمر في الدم بسرعة، فيشعر الإنسان بشيء من الشبع وتعطيه طاقة، والفسفور يغذي المخ، وسرعان ما يعود المخ إلى نشاطه بسبب أكل التمر، فكان من السنة أنك تفطر على التمر أولاً في رمضان. وقالوا أيضاً: إن التمر من الأشياء المفيدة جداً للنساء الحوامل، فهو يعين عند الوضع، ويساعد على انقباض عضلات رحم المرأة في حال الوضع؛ ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى أمر السيدة مريم بقوله: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا} [مريم:25 - 26]، أي: كلي من هذا التمر واشربي من الماء وقري عيناً، فقالوا: إنه يعين على الولادة بانقباض الرحم، كذلك يمنع النزيف لأنه يخفض ضغط الدم في الإنسان، كذلك يعين على خروج المشيمة من الجسم أو على الانقباضات التي تخرج الدم والمشيمة من جسد المرأة، هذه فوائد التمر، وكذلك البلح فيه من ذلك، فالتمر ما هو إلا بلح قد يبس. والعنب بأنواعه يحتوي على نسبة عالية جداً من السكر، مثل سكر الجلوكوز الذي هو من أسهل أنواع السكر، ويحتوي العنب على حوالي خمسين في المائة منه، وقيل: إنه نافع جداً للإنسان، فهو يدر البول، ويمنع ترسيب الحصوات في الكلى والحالب وغيرها، ويعين على إزالة الأملاح الذائبة في جسد الإنسان، وقيل: إنه يساعد المريض باليرقان وأمراض الصفرة على إدرار الصفراء في جسم الإنسان وعلى نشاطه وعلى فتح الشهية وغير ذلك. قوله تعالى: ((لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ)) أي: تتفكهون وتستلذون بطعمها وفيها هذه الفوائد التي ذكرناها، وقوله تعالى: ((وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ))، أي: يكون طعاماً للإنسان؛ لأن أهل المدينة كان من ضمن طعامهم التمر، حيث إنهم كانوا يأكلون التمر ويشربون عليه الماء ويقومون على ذلك أشهراً كثيرة، وكذلك العنب يجعلونه زبيباً فيأكلون الزبيب ويشربون الماء.

تفسير قوله تعالى: (وشجرة تخرج من طور سيناء)

تفسير قوله تعالى: (وشجرة تخرج من طور سيناء) ومما أخرج الله عز وجل بفضله وكرمه لعباده ما قال: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ} [المؤمنون:20]. إذاً: أخرج الله عز وجل للعباد ما يأكلون، وأخرج لهم طعامهم وأقواتهم، وأخرج لهم فاكهتهم، ومن ضمن ما أخرج الله عز وجل للعباد: ((شَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ)) أي: أصلها من هذا المكان، وقوله تعالى: ((طُورِ سَيْنَاءَ)) فيها قراءتان: قراءة الجمهور: ((مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ)) بالفتح، وقراءة نافع وأبي جعفر والبصريين: أبي عامر ويعقوب: (من طور سِيناء) بالكسر، وطور بمعنى: الجبل، وسيناء بمعنى: البركة أو المباركة، فالمعنى: من الجبل المبارك، وهذا معنىً من معاني كلمة (سيناء). وقيل: بل (سيناء) معناها: الحسن، أي: الشيء الحسن، أو الجبل الحسن، أو الجبل الذي فيه الشيء الحسن، وهذا معنىً من معاني كلمة (سِيناء). وقوله تعالى: ((تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ)) المقصود بها: شجرة الزيتون، وهي شجرة لا تكلف الإنسان ولا يعاني في زرعها، ولكن الله عز وجل يزرعها للإنسان فتخرج سريعة، وهي توجد في الصحراء على شكل بذور تشبه نوى العنب، والله عز وجل يخلقها من غير معاناة للإنسان في زرعها ومراعاتها، بل يخرجها الله عز وجل بأسهل ما يكون للإنسان فيستفيد منها. وقوله تعالى: ((تَنْبُتُ)) قراءة الجمهور، وقراءة ابن كثير وأبي عامر ورويس: (تُنبِت)؛ لأنه من الفعل الأول الثلاثي نَبَتَ يَنبُتُ تَنبُتُ، ومن الرباعي أَنَبَتَ تُنبِتُ، فقوله: (تَنبُت بالدهن) أي: تخرج هذا الدهن، أو تنبت وفيها هذا الدهن، أو تُنبِتُ أي: تخرج من الأرض وتخرج منها الدهن، وهو الزيت الذي فيه، فوصفه الله سبحانه وتعالى بذلك أنه دهن، وفي سورة النور قال: {مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} [النور:35]. فقوله تعالى: ((مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ)) أي: أن شجرة الزيتون شجرة مباركة؛ لما فيها من هذا الزيتون الذي يحتوي على فوائد عظيمة ذكرها العلماء، فتنبت بالدهن أي: بالزيت الذي فيها. وقوله: ((وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ)) الصبغ: الإدام، فالإنسان يغمس الخبز بالزيتون أو زيت الزيتون ويأكله، أو يجعل الزيتون في طعامه.

فوائد الزيتون

فوائد الزيتون والزيتونة شجرة مباركة كما سماها الله سبحانه وتعالى، والعلماء بحثوا في هذا الزيتون والفوائد الكثيرة الموجودة فيه، فمن ضمن ما ذكروا في الأبحاث الحديثة: أنهم رصدوا ظاهرة صحية لسكان بعض جزر البحر المتوسط فوجدوا بعض السكان كسكان جزيرة كريت وغيرها أنهم يعيشون حياة طيبة، وأن صحتهم عالية، ودرجة الحيوية عندهم عالية، وأنهم يتمتعون بصحة ونشاط، وحاولوا أن يبحثوا عن سر صحة أهل هذه الجزر -كريت وما حولها- فوجدوا أن الغذاء عندهم يعتمد أساساً على زيت الزيتون، فهم أقل الناس تعرضاً للإصابة بارتفاع ضغط الدم وبأمراض القلب وأمراض تصلب الشرايين؛ لأنهم يتمتعون بمستوى معتدل صحي بنسبة الكلسترول الموجودة في دم الإنسان، والسبب في هذا كله اعتمادهم على زيت الزيتون وعلى الزيتون في طعامهم. والعصرة الأولى من زيت الزيتون فيها الفوائد كلها، والعصرة الثانية والثالثة يتسرب إليه أشياء رديئة، وقد يكون زيت الزيتون مغشوشاً في السوق، وقد أخذ من السوق ما كان موجوداً من زيت الزيتون لأنه يسبب السرطان، لكن زيت الزيتون نفسه لا يسبب سرطاناً، بل تصنيع هذا الزيت أو طرق التصنيع هي التي تسبب هذا الشيء، حيث إنهم كانوا يستوردونه من أسبانيا وإيطاليا، ويأتون به وقد اعتصر العصرة الأولى ويسمونه كسباً أو تفلاً، ثم يعصرونه مرة أخرى في درجة حرارة عالية جداً، فتدخل فيه مواد كيميائية تسبب سرطانات في الجسم، فهذا هو السبب في الإصابة بالسرطانات، وليس لكونه زيت زيتون، ومن أنقى زيوت الزيتون وأفضلها الذي يأتي من سيناء؛ لأن الله سبحانه وتعالى سماها الشجرة المباركة. وزيت الزيتون غني جداً بالدهون، وفيه نوعان من أنواع الدهون: دهون مشبعة، ودهون غير مشبعة: فالدهون المشبعة فيه نسبة قليلة منها ومفيدة للإنسان. والدهون غير المشبعة فيه نسبة كبيرة منها، وهي مفيدة جداً جداً، ولا توجد إلا في الزيوت النباتية فقط مثل زيت الزيتون وزيت السمسم وزيت الذرة، وفيها الزيوت غير المشبعة وهي مفيدة للإنسان. والزيوت غير المشبعة الموجودة في زيت الزيتون هي دهون ومع ذلك يقولون: إنها تساعد على تخفيف الدهون الموجودة في الجسم، فالإنسان السمين إذا شرب من زيت الزيتون فإنه يساعده على تخفيف أو إزالة الدهون الموجودة في الجسم، ومن العجب أن تأخذ دهناً لتزيل به دهناً آخر! فدهن زيت الزيتون هذا غير مشبع، ويمنع الأكسدة التي تؤدي لخمول ذهن الإنسان وعدم التفكير، وغير ذلك من الأمراض. ومن الأبحاث التي أجريت على زيت الزيتون: أن ملعقة من زيت الزيتون يومياً تقلل من سرطان الثدي عند النساء أربعين في المائة. وكذلك تناول زيت الزيتون لمريض قرحة المعدة تساعده على قتل نوع من أنواع الجرثومات تسمى: (الهلوبكتر)، وهي نوع من أنواع الجرثومات الحلزونية الموجودة في المعدة وتعمل على قرحتها، فشراب زيت الزيتون يقضي على هذه الجرثومة. ويمنع من سرطان المعدة، ومن سرطان القولون كذلك، ومن تصلب الشرايين، وزيت الزيتون ملطف وملين ومدر للصفراء ومفتت للحصى، ويحتوي على مضادات للأكسدة في جسم الإنسان، وكذلك يحتوي على فيتامينات: فيتامين (أ) و (ب) و (هـ) و (ج)، ولو دهن الإنسان شعر رأسه فإنه يمنع من سقوط شعر الرأس، ودهانه لجلد الإنسان مع شربه يمنع التشققات وغيرها من الأمراض الجلدية التي تكون عند الإنسان. هذه جملة من الفوائد التي جمعها الله سبحانه وتعالى لنا، وقال في زيت الزيتون أو في الزيتون نفسه: ((وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ)).

تفسير قوله تعالى: (وإن لكم في الأنعام لعبرة)

تفسير قوله تعالى: (وإن لكم في الأنعام لعبرة) ثم ذكر الله بعد ذلك الأنعام فقال: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [المؤمنون:21]. إذاً: ذكر لنا الماء، وذكر لنا الطعام وعلى رأسه الفواكه، وذكر لنا زيت الزيتون، وذكر لنا الأنعام والفوائد الذي فيها، ثم ذكر بهيمة الأنعام، وهي تطلق على أربعة أنواع: الإبل سواء ذكوراً وإناثاً، والبقر ذكوراً وإناثاً، والجواميس منها، وكذلك الأغنام ذكوراً وإناثاً والماعز منها، فهذه التي أنزلها الله عز وجل للعباد، قال تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنْ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنْ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ أَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمْ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} [الأنعام:143 - 144]. وقوله تعالى: ((وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً)) أي: تعتبرون من مناظرها الجميلة، ومما فيها من قوة، والله عز وجل لم يعطك مثل قوة هذه البهيمة من الأنعام، ومع ذلك جعلها مسخرة لك، أنت الذي تذبحها، وأنت الذي تركبها، وأنت الذي تتحكم فيها، فالله عز وجل يسخر ما يشاء لمن يشاء سبحانه، ثم ذكر من النعم التي فيها فقال سبحانه: ((نُسقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ)). أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة المؤمنون [21 - 22]

تفسير سورة المؤمنون [21 - 22] قص الله علينا في كتابه قصة نوح في سور كثيرة، لما فيها من الدروس والعبر، وهو أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض، وقومه أطغى من كل من جاء بعدهم، وقد لبث فيهم ما لم يلبثه رسول في أمته.

تفسير قوله تعالى: (وإن لكم في الأنعام لعبرة)

تفسير قوله تعالى: (وإن لكم في الأنعام لعبرة) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين. قال الله عز وجل في سورة المؤمنون: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ * فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} [المؤمنون:21 - 24]. يذكر الله عز وجل في هذه الآيات بعض نعمه على عباده سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} [المؤمنون:21]، وقد تكرر هذا المعنى في كتاب الله سبحانه تبارك وتعالى مبدياً الامتنان على عباده بما خلق لهم ورزقهم سبحانه وتعالى، وجعل لهم الآيات والمعجزات الدالة على عظيم فضله، فأمر بالتدبر والنظر فيما خلقه سبحانه، حتى يعتبر الإنسان ويعلم قدرة الله سبحانه وتعالى فيعبد ربه ويوحده، وعند تلاوة الآيات السابقة ندرك أنه هنا ذكر لنا هذه النعم التي أنعم بها على العباد في خلقهم بعد أن لم يكونوا شيئاً مذكوراً، فيما خلق لهم من رزق يخرج من الأرض، ومن بهيمة الأنعام، ثم عقب بعد ذلك بذكر التوحيد الذي دعا إليه أنبياء الله على نبينا وعليهم الصلاة والسلام. فبعدما ساق ذكر النعم العظيمة من الخالق العظيم ذكر لنا إرسال الأنبياء، ودعوتهم قومهم إلى توحيد الله، فكأن هذه الآيات دليل للإنسان يحتج به على قدرة الله سبحانه وتعالى، وأنه لا أحد غير الله سبحانه يقدر على ذلك، ولذا يقول سبحانه: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل:17]، فهو وحده الذي خلق هذه الأشياء، وخلقكم أنتم، أما الذين تعبدونهم من دونه سبحانه فهم {لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} [الفرقان:3]، بل أنتم الذين تصنعونهم، ومن ثم تتعبدون لهم من دون الله سبحانه! ولذا يدرك المتأمل في سياق هذه الآيات خصوصاً في السور المكية الأمر بالتدبر في هذا الكون، ثم إتباع ذلك الأمر بذكر التوحيد الذي أرسل به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وفي الآيات السابقة ذكرت من نعم الله سبحانه وتعالى نعمة الأنعام، {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} [المؤمنون:21]، ففي الأنعام عبر يعتبر بها الإنسان، والإنسان عندما يعتبر بالشيء تنشأ في قلبه قوة من الإيمان، تجعله يعبد الله سبحانه ولا يشرك به، ويوحده ويؤدي الحق الذي أمره الله عز وجل بأدائه. والعبرة في خلق بهيمة الأنعام أن ينظر الإنسان إلى هذه البهائم، وكيف أنها لا تبين عن نفسها، فلا تنطق، كما أنها لا تمتلك عقولاً كعقولكم، فلكم في هذه البهيمة عبرة، إذ لو شاء الله لجعلكم أمثالها، وكيف أن هذه الأنعام تمشي على أربع أما أنت فتمشي على رجلين، ولو شاء الله سبحانه لعكس الأمر، ولكن جعل في الإنسان جمالاً في خلقه وانتصاباً في قامته، وجعل له عقلاً يفكر به، وقلباً يعي به، فكان محط أمره أن يتفكر ويعتبر ويتبصر، {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:2].

نعمة اللبن الخارج من بهيمة الأنعام

نعمة اللبن الخارج من بهيمة الأنعام قال تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا} [المؤمنون:21]، ومن النعم التي لا بد أن يتفكر فيها الإنسان وهو يأكل ويشرب كل يوم خلق هذا الأكل والشراب وتيسيره له؛ إذ إن من أعظم النعم عليه هذه النعمة، ولذا يذكر الله عز وجل الإنسان بها فيقول سبحانه: {نُسقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [المؤمنون:21]، وفي هذه الآية ثلاث قراءات: قراءة الجمهور {نُسقِيكُمْ} [المؤمنون:21] والكلمة رباعية، أصلها أسقى، فهي (نسقي)، من الفعل الرباعي، وقراءة نافع وابن عامر وشعبة ويعقوب: (نَسقيكم) من الفعل الثلاثي سقى يسقي، وقراءة أبي جعفر {تسقِيكُمْ} [المؤمنون:21]، وهي كذلك من الفعل الثلاثي. والنون في (نسقيكم) نون العظمة فهو الذي يفعل ذلك ولو شاء ما فعل سبحانه، وليس بوسع أحد سواه القدرة على ذلك، والفعلان على القراءتين (أسقى) و (سقى) يتعديان إلى المفعول، ولهذا قال: {نسقِيكُمْ} [المؤمنون:21] أي: نجعلكم تشربون مما في ضروعها من ألبانها، والمعنى واحد: أن الله عز وجل سقاك وأسقاك مما في بطون هذه البهيمة من الأنعام، من الإبل والبقر والغنم. أما القراءة الأخيرة فهي بالتاء بدلاً عن النون {تسقِيكُمْ} [المؤمنون:21]، فأسند الفعل إليها، فهي تسقيكم، وإن كان الذي أسقاك حقيقة هو الله سبحانه وتعالى، ولكن أسند الفعل إليها كونها سبباً، فأنت تأخذ من ضروعها الألبان فتشربها. قال الله: {وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ} [المؤمنون:21]، فهي من كثرتها لا تعد ولا تحصى ولكن من تعامل مع نعمة عرفها. ولفظ بهيمة الأنعام يطلق على ثلاث: الإبل والبقر والغنم، وقد ذكر الله عز وجل أنها ثمانية أزواج: من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين، وهنا ثمانية أزواج أي: ذكوراً وإناثاً، فعد اثنين من الإبل الذكر والأنثى، واثنين من البقر الذكر والأنثى، والجواميس ملحقة بالأبقار، واثنين من الغنم الذكر والأنثى، والماعز ملحقة بها وإن كان نص عليها هنا في الآية. فهذه كلها نشرب من ألبانها، ومن تقدير الله وفضله أن هذه الألبان كما توافق الإنسان توافق غيره وهي أفضل الطعام والشراب، وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أكل طعاماً أو شرب شراباً دعا ربه فحمده على ما أعطاه وسأله أن يرزقه خيراً من ذلك، ومن دعائه: (اللهم بارك لنا فيما رزقتنا وزدنا خيراً منه)، إلا اللبن فكان يقول: (وزدنا منه، فإنه لا شيء يجزئ مثل اللبن)، إذ أن اللبن طعام وشراب للإنسان.

تفسير قوله تعالى: (وعليها وعلى الفلك تحملون)

تفسير قوله تعالى: (وعليها وعلى الفلك تحملون) قال تعالى: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [المؤمنون:22] وهذه من منافع الإبل خاصة، فالمرء يركب وتحمله من مكان إلى مكان، ولولا أن الله عز وجل الخالق العظيم سخر هذا الحيوان للإنسان لما استطاع أن ينتفع به، ويذكر أن الإبل لم تكن منذ خلق آدم مسخرة للإنسان، وإنما كانت برية وحشية إلى أن مكن الله عز وجل الإنسان منها وسخرها له قبل ألفي عام من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان بدء ذلك في قارة آسيا خصوصاً في جزيرة العرب، فهي منبع ومنشأ الإبل. وقيل: كان ذلك الاستئناس في سنة ثمانمائة قبل الميلاد، وقيل: بل كان في النصف الثاني من الألف الثانية قبل الميلاد، أي: قبل ميلاد المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام بألف وخمسمائة عام، والله أعلم. فبعد أن كانت الإبل شاردة وحشية جعلها الله عز وجل للإنسان مسخرة ذلولة، وفيها العديد من الصفات التي ينتفع بها الإنسان. ومن فضل الله عز وجل على جزيرة العرب أن جعلها موطناً لهذه الإبل، فكانت سبباً في نهضة العرب، وحيث جاء أمر الله عز وجل بالجهاد والإعداد كانت الإبل هي الوسيلة التي ينتقل عليها العرب من مكان إلى مكان، بل في بعض الغزوات قد يشارك من لا خيل له، ولكنه يمتلك إبلاً ينقل عتاده وعدته، فكانت من أسباب الفتوح التي فتح الله عز وجل بها على المسلمين. فقالوا: إنه كان من فضل الله عز وجل على هؤلاء أن استقروا في أماكنهم بأن سخر لهم هذه الإبل للاستقرار والانتقال من مكان إلى مكان. وذكر علماء الاختصاص العديد من الفوائد التي تحصل للمرء من التغذية على ألبان الإبل ولحومها، ومعلوم أن الإبل تأكل من أعشاب الصحراء، وهي من الوفرة والكثرة بمكان، ولها عظيم النفع من الناحية الطبية، فحين تأكل الإبل من كل هذه الأشجار يكون لبنها مليئاً بعناصر هذه الأعشاب الصحراوية ومن ثم ينتفع بها الإنسان، فكان في ألبان الإبل منافع عظيمة جداً بسبب ما تأكله من أعشاب الصحراء. وآيات الله في الإبل كثيرة ومتعددة، ففي خلقها قال تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية:17]، وفيما يخرج منها من منافع قال عنها وعن سائر الأنعام {وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} [المؤمنون:21] وفي تسخيرها بعد أن كانت متوحشة قال سبحانه: {سَخَّرَهَا لَكُمْ} [الحج:37] فلا يسع الإنسان إلا أن يحمد الله سبحانه على ما منحه فيها من النعم العظيمة. كما أن من يتعود على أكل لحوم الإبل وشرب ألبانها قال العلماء: فإنها تؤثر في أخلاقه، فيعتاد القدرة على حمل الأشياء الثقيلة، والصبر الطويل، كما أن أمعاء الذي يأكل من لحوم الإبل ويعتاد على شرب ألبانها تكون من أقوى الأمعاء، فلا يصيبها في الغالب نوع من الوهن، ولا الضعف، ولا الأمراض إلا في النادر.

امتنان الله على عباده في خلق الأنعام

امتنان الله على عباده في خلق الأنعام وقد ورد امتنان الله على عباده بخلق الأنعام لهم في آيات كثيرة، منها قوله عز وجل: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} [يس:71] فالخلق خلق الله عز وجل، ثم ملكك أنت هذه الأنعام لتنظر بإمعان لنعمة الله عليك وتشكر ما تفضل به عليك سبحانه، قال تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل:66]، والمتفكر في هذه النعم وعجائبها التي لا تنتهي يدرك عظيم قدرة الله تعالى، فهذا اللبن الذي يخرج من بهية الأنعام كان طعاماً تأكله، وبعد أن دخل معدتها وتحول للأمعاء، وهو شيء من الطعام الذي تفرز عليه عصارات الجسد، ومن ثم يستخلص منه القدر الكافي ويدخل الأمعاء الغليظة، ثم يقوم الدم في هذه الحالة بأخذ الشيء الخالص منه ليتحول إلى لبن، فبعد أن كان بين الفرث والدم إذا بالله عز وجل يخرج هذا اللبن ليسكب في الضرع، كما أنه لو أخذ في هذه الحالة لكان طعمه رديئاً جداً، ولكن الله عز وجل جعل غدداً معينة تفرز عليه مسوغات الطعم. قال تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل:66]، والترتيب في الآية ترتيب مقصود، فهذا اللبن الخالص قد استخلص من بين الفرث الذي في معدة البهيمة وبين الدم. وقوله تعالى: {سَائِغًا} [النحل:66] فيه أن عملية التسويغ لهذا اللبن في نهاية العمليات، فبعد أن دخل في الضرع وصار لبناً خالصاً جاءت عليه مسوغات الطعم فصار على الطعم الذي يشربه الإنسان ويستسيغه، وهذه من عجيب آيات الله عز وجل في خلقه.

من عجائب خلق الله في الإبل

من عجائب خلق الله في الإبل ذكرت مجلة من المجلات العلمية موضوعاً بعنوان سبعون معجزة في خلق الإبل، وهذا مما اكتشفوه ومكنهم الله من معرفته من صفاتها وأخلاقها وغير ذلك. يقولون: من الصفات التي ساعدت على تأقلم الإبل على العيش في الصحراء خلافاً لغيرها من الدواب: أولاً: أرجلها طويلة مستديرة تساعد على السير بخطوات واسعة، فهي في الصحراء تجري سريعاً وتمشي مشية سريعة، وفيها جمالن كما ذكر لنا الله عز وجل حيث قال: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ} [النحل:6] مع أن كل الحيوانات ذات الأربع عند السير تسير بيد ورجل معاً، فتسير على اليد اليمنى مع الرجل اليسرى، والعكس كأن تسير على اليد اليسرى مع الرجل اليمنى، إلا الإبل، فتسير على اليد اليمنى والرجل اليمنى معاً واليد اليسرى والرجل اليسرى معاً، فكانت هي الوحيدة في بهيمة الأنعام التي تتحرك بهذا الشكل، ويرى الناظر في تمايلها جمالاً أخاذاً. ولذلك كان يصيب أصحاب الإبل شيء من الغرور، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (السكينة في أصحاب الغنم، والكبر والخيلاء في الفدادين أصحاب الإبل)، وذلك مما يشاهدونه من جمال الإبل، وإذا اعتلوا ظهورها رأوا أنفسهم فوق الناس، كما أن أثمانها غالية، ولذلك كله قد يدفع صاحبها إلى الغرور إلا من عصمه الله سبحانه وتعالى. ثانياً: طول رقبة الإبل، ووضع الرأس عليها يساعد على اتزان الجسم في السير عند حمل الأثقال، وقد يصل وزن ما يحمله الجمل على ظهره أكثر من مائة وخمسين كيلو. ثالثاً: أن وزن رجليها الأمامية والجزء من الصدر الأمامي أثقل من الخلف، بعكس غيرها من البقر والغنم، فإن مؤخرتها أثقل من المقدمة، وقيل: إن خمسة وستين في المائة من وزن الجمل في الأعضاء الأمامية منه، وهو عميق وضيق ويعطي قوة ارتكاز على الأرض إذا وقفت أو نزلت من منحدر كما يعينها إذا قامت. رابعاً: خلق للإبل خف مفلطح كبير ولين؛ ليساعدها على أن تمشي في الرمال فترات طويلة، وما استحدثه الأمريكان اليوم من سيارات تمشي في الرمال المتحركة في الصحراء ما هو إلا محاكاة لخف الجمل، فأخذوا من مواصفات أخفاف الإبل، وسعها ولينها وما فيها من الوسائد الهوائية التي تساعد على حملها وتساعد على أن تمشي في الرمال من غير أن تتزحلق. كما أن الحلف اللين يساعد الجمل على عدم الإضرار بالنباتات الموجودة في الصحراء، فهي لا تتضرر من مشي الإبل مع أنها ثقيلة الوزن. خامساً: خلق الله عز وجل في الإبل وسائد من الجلد أسفل صدرها وعلى الركب وعلى الأرجل تساعد الإبل على الجلوس وعلى تحمل السير على الرمال الملتهبة، بل قد لا يقدر الإنسان أن يضع يده أو رجله عليها ومع ذلك تجد الإبل تبرك فوقها من غير أن تتأذى من شدة الحرارة التي فيها، فهي تعمل كعازل حراري لما فوقها. سادساً: طبيعة الجلود لدى الإبل ووجود الوبر عليها يساعد على عزل ما داخل الجسد عن خارجه من طبقات الجو من الحرارة الشديدة. سابعاً: خلق الله عز وجل للجمل سناماً مليئاً بالمواد الدهنية، وفائدة هذه المواد الدهنية أنها إذا عطش الجمل سرعان ما تتحول إلى ماء، فيشرب منه الجمل، ويظل فترة طويلة معتمداً على هذا المخزون من الدهون التي تتحول إلى ماء في وقت الحر الشديد، فيستعين بها على شدة الحر وعلى العطش الشديد. ثامناً: من خصائص التركيبة التي خلقها الله عز وجل فيها: أن الجفن العلوي في عينها ثابت لا يتحرك بخلاف غيرها من الحيوانات، من أجل أن يدفع الرمال عن عينيها، قالوا: بينما الجفن الأسفل هو الذي يتحرك. تاسعاً: يستطيع الجمل النظر في الصحراء مع شدة العواصف الرملية فيها. عاشراً: خلق الله عز وجل في الإبل القدرة على تحمل الحرارة وعدم فقد الماء، فالجمل لا يعرق إلا عند درجة واحد وأربعين درجة مئوية، وهي درجة قد يموت الإنسان فيها، وبذلك يظل الماء محبوساً في جسمه، كما أن بعر الجمل يكون جافاً خالياً من الماء من أجل أن يحافظ على الماء الموجود في الجسد. الحادي عشر: يقل بول الجمل عند العطش والحر من أجل أن يتمكن من الاحتفاظ بالماء الموجود في جسده، كما أنه إذا فقد كمية من الماء في فترة طويلة يستطيع أن يعوضها سريعاً، فيمكنه أن يشرب خلال مرة واحدة أو مرتين من مائة وأربعة لتراً إلى مائة وتسعين لتراً، وهذا يجعله قادراً على أن يظل شهراً في الصحراء مع شدة الحر والعطش. كما أن في خلق الإبل الكثير من الحكم ذكرها الله عز وجل لنا، والمراقبون من العلماء يكتشفون كل يوم أشياء جديدة، وإنما أصبحوا علماء باكتشافهم هذه الخصائص، ونالوا تكريماً وتبجيلاً بين الناس بسبب تلك الاكتشافات، ومع ذلك لا يعظمون الذي خلق تلك الخصائص سبحانه وتعالى.

تفسير سورة المؤمنون (تابع) [21 - 22]

تفسير سورة المؤمنون (تابع) [21 - 22] يمتن الله عز وجل على عباده في كتابه الكريم بأنه سخر لهم ما في السماوات والأرض، وبسط عليهم نعمه، وسخر الأنعام فمنها ما يأكلون ويشربون من ألبانها، ومنها ما يركبون وينتفعون بها، ولكن العباد كلما أسبغ الله عليهم النعم كفروا وأشركوا به سبحانه، وصرفوا العبادة لغير الله، وهذا من كفران النعم والعياذ بالله.

امتنان الله تعالى على عباده بأن خلق لهم بهيمة الأنعام

امتنان الله تعالى على عباده بأن خلق لهم بهيمة الأنعام الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [المؤمنون:21 - 22]. ذكرنا في الحديث السابق أن الله سبحانه وتعالى منَّ على عباده بأن خلق لهم من الأنعام بهيمة وجعل من هذه البهائم للإنسان منافع كثيرة، وذكر هنا في هذه السورة بعضاً منها، فقال: {نُسقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [المؤمنون:21 - 22] فالإنسان يشرب من ألبانها، ولكم فيها منافع كثيرة من أجلها: أنكم تأكلون منها، وأيضاً تركبون عليها وتحملون أثقالكم. فذكر بهيمة الأنعام، ثم قال بعدها سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [المؤمنون:23] فيذكر بنعم الله عز وجل على عباده، ثم يذكرهم بالتوحيد الذي هو دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام، والعبد إذا تذكر نعمة الله سبحانه، وأن الله هو الذي خلق ورزق، وهدى، وأعطى، وأن الله هو الذي ينزل من فضله على من يشاء من عباده، فيلزم العبد أن يعبد هذا الإله الواحد القادر سبحانه وتعالى.

ذكر بهيمة الأنعام في سورة النساء

ذكر بهيمة الأنعام في سورة النساء فيذكر هذا الفضل في هذه السورة وفي غيرها، فيذكر في سورة النساء: أن الشيطان يريد أن يضل الإنسان، فيقول الله سبحانه: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء:117 - 118] الشيطان هذا الملعون هو الذي قال لربه سبحانه: إن لي نصيباً من عبادك، فقال: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء:119]، فالأنعام التي خلقها الله عز وجل كاملة يأتي الشيطان للإنسان ويوسوس له بأن يقطع آذان الأنعام ويشقها، لأجل أن يسيبها ويجعلها سائبة للشيطان، ويقول: إنها صحت من المرض، فإذا به يتركها للأوثان. فالله هو الذي خلق ورزق، وإذا بالإنسان يوجه هذه النعمة لغير الله سبحانه وتعالى، فكأن ربنا سبحانه يؤكد المعنى أنه الخالق وحده سبحانه، فالخالق هو الذي يستحق أن يعبد وليس غيره، والشيطان هذا اللعين هو الذي يجعل الإنسان يوجه هذه النعم وهذه العبادات التي يفترض عليه أن يوجهها إلى الله عز وجل إلى غير الله سبحانه، فيشق آذان الأنعام، ويغير خلق الله بأمر الشيطان له فيطيعه، يقول الله سبحانه: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} [النساء:119].

ذكر بهيمة الأنعام في سورة المائدة

ذكر بهيمة الأنعام في سورة المائدة ويذكر لنا بهيمة الأنعام في سورة المائدة فيقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المائدة:1] فبهيمة الأنعام خلقها الله لكم لمنافعكم، لطعامكم وشرابكم، ولم يحرم الله عز وجل عليكم إلا ما فيه مفسدة لكم، قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة:3] فهذه أشياء حرمها الله لمفاسد فيها، منها: أنها ميتة، وأنها ذبحت لغير الله سبحانه وتعالى، فيذبحونها على غير اسم الله سبحانه، فأحل لنا بهيمة الأنعام، وجاء الشيطان يحرم على الإنسان أشياء أحلها الله عز وجل لهم.

ذكر بهيمة الأنعام في سورة الأنعام

ذكر بهيمة الأنعام في سورة الأنعام وذكر في سورة الأنعام بهيمة الأنعام، فقال سبحانه عن هؤلاء الذين عبدوا غير الله سبحانه: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} [الأنعام:136] فبهيمة الأنعام التي خلقها الله عز وجل لنفعكم، ولطعامكم وشرابكم إذا بهم يجعلون نصيباً منها لله ونصيباً لغير الله. فهذا من العجب أن الإنسان يعلم أن الذي خلق الأنعام هو الله ومع ذلك يعبد غير الله، وأن الذي رزق هو الله ومع ذلك يجعل نصيباً لله من بهيمة الأنعام، ونصيباً آخر لأوثانه وأصنامه. ومن العجب ما يذكره الله عز وجل هنا في سورة الأنعام حيث يقول: {فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام:136] يعني: انظر إلى هذا التوزيع وهذه القسمة عند هؤلاء! فتصدقوا بجزء منها لله وبجزء منها للأوثان، فما كان لله جعلوه لأوثانهم، وما كان لأوثانهم قالوا: ربنا غني عنه، لا يحتاج إلى هذا الشيء، فإذا بعبادتهم كلها توجهت إلى الأوثان وليست لله سبحانه وتعالى، فأشركوا وهم يعلمون أن الله هو الغني عنهم وعن عبادتهم. يقول الله سبحانه: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:138] بهيمة الأنعام خلقها الله عز وجل رزقاً لعباده، فإذا بالعباد يتحكمون ويقولون: هذه أنعام وحرث حجر محجورة لا يأكلها أحد من النساء، فهي للرجال وليست للنساء، وهذه ممنوعة على الجميع وتترك سائبة لنحو مرض وغيره، فقالوا: ((هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ)) فهم الذين يحللون ويحرمون من دون الله سبحانه وتعالى. {وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا} [الأنعام:138]، فيكون أحدهم مريضاً، فإذا شفي يجعل هذه الناقة أو هذه البقرة سائبة بين الناس لا ينتفع بها أحد، وما المنفعة التي جرها من وراء ذلك؟ لا شيء، من الذي دعاه إلى ذلك؟ ليس الله سبحانه وتعالى، وإنما هو الشيطان يضحك على الإنسان ويخدعه، فيجعله يخرج ماله للاشيء بل للإثم عياذاً بالله. {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} [الأنعام:139]، فهذه الأنعام الذي يخرج من بطنها خالص للذكور ومحرم على النساء لا يأكلن منها، وإذا نزلت من البطن ميتة فيأكل منها الرجال والنساء، {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام:139] سيجزيهم الله عز وجل على هذا الوصف الذي وصفوه، وعلى هذا التشريع الذي شرعوه من دون الله عز وجل، إنه حكيم عليم. وذكر الأنعام أيضاً في سورة الأنعام فقال: {وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأنعام:142]، فمنها ما تحملون عليه أمتعتكم، وتركبون فوقها كالإبل، ومنها ما تأكلون منها، قال سبحانه: {وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا} [الأنعام:142] تتخذون من جلودها وأصوافها وأوبارها وأشعارها ما تلبسونه، فهذه نعم من الله عز وجل، وأخبر سبحانه أنه أنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج، وهي ما فصلناها قبل ذلك: من الإبل اثنين، ومن البقر اثنين، ومن الغنم اثنين، ومن الماعز اثنين.

ذكر بهيمة الأنعام في سورة النحل

ذكر بهيمة الأنعام في سورة النحل كذلك ذكر الله لنا في سورة النحل بهيمة الأنعام فقال: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل:5 - 6] فيعدد النعم سبحانه وتعالى في هذه السور حتى يعرف الإنسان فضله وقدرته؛ فيقوم بعبادة ربه ولا يشرك به شيئاً، {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} [النحل:5] تستدفئون بها {وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ َ} [النحل:5 - 6] تتجملون، وهي من أنفس أموال الناس {حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل:6] جمال في وقت راحتها، وجمال في وقت مسرحها وخروجها لرعيها، {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُسِ} [النحل:7] ولو شاء الله عز وجل لما مكنكم منها، ولا أعطاكم من العقول ما تفكرون بها كيف تركبون هذه البهيمة، وجعلكم تمشون على أقدامكم كما تمشي سائر الأنعام، قال سبحانه: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النحل:7] سبحانه تبارك وتعالى. ويقول تعالى في آية أخرى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل:66] وقد ذكرنا هذه الآية سابقاً، كيف أن الله امتن على عباده بأن أخرج لهم هذا اللبن الخالص من بطون هذه الأنعام، ألبان يشربونها فيها طعام للإنسان وشفاء أيضاً.

من فوائد اللبن

من فوائد اللبن روى أبو داود والترمذي وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلبن فشرب، فقال: إذا أكل أحدكم طعاماً فليقل: اللهم بارك لنا فيه، وأطعمنا خيراً منه، وإذا سقي لبناً فليقل: اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه) وعلل ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: (فإنه ليس يجزئ من الطعام والشراب إلا اللبن)، فاللبن يقوم مقام الطعام والشراب، فهذا هو السائل الوحيد الذي يقوم مقام الاثنين طعاماً وشراباً، وقد ثبت عند علماء التغذية أن اللبن أكمل الأغذية من الناحية البيولوجية، رغم أنه قد ينقصه قليل من بعض العناصر الغذائية مثل فيتامين (س) وفيتامين (ج) ومثل الحديد، فقد ينقصه شيء قليل من هذا، ولكن باقي القيمة الغذائية عالية فيه، فهو طعام وشراب للإنسان. قال العلماء: اللبن يمد جسم الإنسان في جميع مراحل حياته بالبروتينات والكربوهيدرات والسكريات والدهون والمعادن والفيتامينات، فهو مليء من كل شيء بفضل الله عز وجل ورحمته، وقد خرج من بين فرث ودم لبناً خالصاً، فالدم نجاسة والفرث قد يكون نجاسة، وهنا خرج من بين الاثنين هذا الشيء الطاهر العظيم، وهو اللبن الخالص الذي يشربه الإنسان ويستسيغه. يقول علماء التغذية أيضاً: يعتبر الحليب أعظم غذاء متكامل وجد على سطح الأرض، حيث إنه صمم ليكون غذاءً لكل مولود من الحيوانات: البقر والماعز والغنم، وكذلك الإنسان عندما يولد له الطفل الصغير، وكذلك صغار هذه الأشياء، فطعامها الأساسي لفترة طويلة هو اللبن، فقالوا: عناصر اللبن الغذائية جاهزة للهضم ولا يضيع منها أثناء الامتصاص في الأمعاء إلا النزر اليسير، فهي عناصر كاملة وسهلة، فلا يوجد شيء منها يضيع ويخرج برازاً أو بولاً إلا شيء يسير جداً، والباقي كله يستفيد منه جسم الإنسان. وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عليكم بألبان البقر؛ فإنها ترم من كل الشجر، وهو شفاء) فهذه فائدة كبيرة جداً. وقد نشرت مجلة (لانست) في سنة ألف وتسعمائة وخمس وثمانين دراسة قام بها دكتور مكث مدة عشرين سنة يدرس في فوائد اللبن، عشرون سنة يعمل بحوثات على ألفي شخص يشربون اللبن، وهذه فترة دراسة طويلة جداً، قال: فوجد أن أولئك الذين كانوا يشربون كأسين ونصفاً من اللبن يومياً أقل عرضة لسرطان القولون، وأولئك الذين لا يتناولونه يصابون بسرطان القولون، فهذه نسبة عالية في هؤلاء الذين يواظبون على ذلك بهذا القدر أو دونه، والله سبحانه وتعالى لا يجعل فيه هذا الداء. فكانت نصيحة هذا الدكتور -واسمه يارلن - أن يشرب الناس يومياً ما بين كوبين إلى ثلاثة أكواب من اللبن، ولعل كثيراً من الظروف الاقتصادية للناس لا تسمح، ولكن على الإنسان أن يشرب اللبن ولا يتركه بقدر ما يستطيع من ذلك. وهنا دراسة ثانية أعدت في اليابان تشير إلى أن تناول اللبن يقلل من الإصابة بسرطان المعدة، وقالوا: إن كثيراً من التهابات المعدة والأمعاء في الأطفال يكون سببها عدم شرب اللبن العظيم الذي ذكره الله عز وجل في كتابه، وهناك فوائد كثيرة جداً، ولكن هذا شيء من ضمن الأبحاث التي أجراها بعض الناس على ذلك. قال الله عز وجل في هذه السورة: {نُسقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا} [المؤمنون:21] وفي قراءة (تسقيكم مما في بطونها) كما قدمنا.

تفسير قوله تعالى: (وعليها وعلى الفلك تحملون)

تفسير قوله تعالى: (وعليها وعلى الفلك تحملون) ثم قال تعالى: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [المؤمنون:22]، وقال في آية أخرى: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُسِ} [النحل:7] والإنسان يركب الإبل منها خاصة دون غيرها. والغرض: بيان أن بهيمة الأنعام التي خلقها الله عز وجل لعباده جعل لهم فيها الطعام والشراب، وأمرهم أن يشكروا هذه النعمة وأن يعبدوا الله، وحذر بعدها من الشرك بالله سبحانه وتعالى، ومن أن توجه هذه النعم لغير الله سبحانه. وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في نصيحة يحيى بن زكريا عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام لبني إسرائيل في النصيحة التي أمره الله عز وجل أن يقوم فيها: أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً، وضرب لهم مثلاً في ذلك: فمثل الذي يشرك بالله كمثل رجل بنى بيتاً وجعل حانوتاً للعمل، واشترى أجيراً أو اشترى عبداً وقال: هذا بيتي، وهذا عملي تعمل هنا وتضع المال هنا، فيكون هذا العبد ملكاً لهذا السيد الذي بنى البيت والمحل وقال له: اشتغل في المحل والذي يأتي لك من هذا المال فاجعله في هذا البيت، فإذا بالعبد يعمل في محل هذا الرجل، ويعطي المال لغير سيده، أيكم يرضى أن يكون عبده كذلك؟ لا أحد يرضى بذلك، فإذا كان الإنسان لا يرضى لنفسه فكيف يرضى به لله سبحانه وتعالى؟! فهذا مثل الذي يشرك بالله. فالله خلق لهم بهيمة الأنعام لينتفعوا بها، وأمرهم أن يشكروه الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {أَفَلا يَشْكُرُونَ * وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ} [يس:73 - 74] اتخذوا أنداداً من دون الله عز وجل لعلها تنصرهم، ونسوا أن الذي خلقهم ورزقهم هو الذي يقدر على هدايتهم ونصرهم، فالآيات فيها الدعوة إلى توحيد الله سبحانه، بأن تعرف أنه وحده هو الخالق، وهو وحده الذي يعبد لا شريك له. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة المؤمنون [23 - 30]

تفسير سورة المؤمنون [23 - 30] يخبر الله تعالى عن نوح عليه السلام حين بعثه إلى قومه لينذرهم عذاب الله وبأسه الشديد، وانتقامه ممن أشرك به وخالف أمره وكذب رسله، فلما لم يستجب منهم إلا القليل بعد طول المدة التي ظل يدعوهم فيها دعا ربه أن ينصره على قومه، فأمره سبحانه بصنع السفينة وإحكامها وإتقانها، وأن يحمل فيها المؤمنين ومن كل زوجين اثنين، أي: ذكراً وأنثى من كل صنف من الحيوانات والنباتات والثمار وغير ذلك، فأنجاه الله ومن معه عليها، وأهلك الكافرين.

تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه)

تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه) الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [المؤمنون:23]، لما ذكر الله سبحانه وتعالى نعمه وآلاءه على عباده، أو بعضاً منها، ممتناً بها على عباده حتى يعبدوه وحده، ويشكروه على نعمه وعلى ما أعطاهم سبحانه، ذكر قصة نوح باختصار في هذه الآيات. وقد ختم الآيات السابقة بقوله: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [المؤمنون:21]، وقد ذكرنا بعضاً من المنافع فيها. ثم قال: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [المؤمنون:22]، أي: على بعض بهيمة الأنعام، وهي الإبل. وهذا من منن الله سبحانه وتعالى على عباده، أن ذكر لهم بعضاً من نعمه في طعامهم وشرابهم وملبسهم وركوبهم، فيركبون على الإبل، ويركبون الفلك، ((وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ)) والفلك هي السفن الجارية في البحر. والإنسان يعرف قدر هذه النعمة حين يركب السفينة، وتسير به من مكان إلى مكان، ومن بلد إلى بلد، تحمل متاعه وتجارته، ويتعرف على أناس لم يكن يعرفهم، ويبيع ويشتري ويرزقه الله سبحانه وتعالى. وهنا مناسب جداً أن ذكر نوحاً بعد ذكر السفينة؛ لأن الفلك -أي: السفينة- كانت سبباً في إنقاذ البشرية جميعها، فالإنسان ما زال موجوداً بسبب هذه السفينة؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يقدر الأقدار، وهو الذي يسبب الأسباب، فأمر نوحاً أن يصنع سفينة، فهنا كأنك إذا ركبت سفينة تذكرت أول سفينة صنعت، فنوح لما صنع السفينة بأمر الله حمله الله عز وجل عليها ومن معه من المؤمنين، فكنتم أنتم من ذرية هؤلاء، ووجودكم مرتبط بأول سفينة وجدت، فهذه نعمة من نعم الله عز وجل على عباده يذكرهم بها. والقرآن جميل وعظيم، والآيات متناسقة ومتناسبة بعضها مع بعض، فهنا ذكر نوحاً وهو أول الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام من بعد آدم، وذكر هنا أن الفلك تحملون عليها، وذكر نوحاً حتى تذكر أن أول سفينة صنعها نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وكيف أن الله سبحانه نجى المؤمنين فيها، فكانت نعمة من نعم الله سبحانه على عباده. وهنا لاحظ قوله: ((تُحْمَلُونَ)) فالذي يحملك ويوفر لك ذلك وسير هذه السفينة هو الله سبحانه وتعالى، فأنت تحمل عليها، ولكن قد تركب وتغرق بهذه السفينة، فالله عز وجل هو الذي حملك على السفينة وعلى الماء، وجعلك تسافر من مكان إلى مكان ببركة رب العالمين وقوته وفضله. قال الله تعالى: ((وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ))، فنوح النبي الرسول عليه الصلاة والسلام هو أحد أولي العزم من الرسل، دعا قومه فترة طويلة، وقد عرفنا ما ذكره الله عز وجل في القرآن من أنه دعا قومه إلى الله ألف سنة إلا خمسين عاماً. قال تعالى: ((وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ))، داعياً قومه لعبادة الله عز وجل: ((يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ))، فدعوة الأنبياء والمرسلين كلهم: لا إله إلا الله، الدعوة إلى الإسلام، قال الله عز وجل: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ} [يونس:71]، قال هذا بعدما أتعبوه، دعاهم إلى الله سبحانه وتعالى جيلاً بعد جيل، وقوماً وراء قوم، أفراداً وجماعات، ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، فلم يستجيبوا له، وفي النهاية قال: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ * فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ} [يونس:71 - 72] أي: لم تستطيعوا أن تفعلوا ذلك: {فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:72]. فهذه دعوة النبي نوح عليه الصلاة والسلام أنه دعا إلى الإسلام، وكذلك الأنبياء من بعده، قال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس:84] والحواريون أتباع المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام قالوا لربهم: {وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة:111]، فهذه هي دعوة نوح ودعوة إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وهذا يعقوب: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:133] أي: هذه دعوة إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، فهؤلاء قالوا: نحن لله عز وجل مسلمون، فدين الإسلام هو دين الله عز وجل، فقول الأنبياء لأقوامهم: ((اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ))، هذه هي كلمة التوحيد، وكلمة التوحيد هي لا إله إلا الله، وهي نفسها: ((اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)). فكلمة التوحيد فيها النفي وفيها الإثبات: (لا إله) أي: أنفي صفة الألوهية عن أي أحد إلا الله سبحانه وتعالى، فهنا أثبت الألوهية لله سبحانه وتعالى. فنوح قال لقومه: ((اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)) قوله: ((غَيْرُهُ)) بالضم على الوصف، فيكون المعنى: ما لكم إله غيره، كأن أصلها هكذا من أله فهو إله، فرفعت هنا على المحل نفسه. والقراءة الأخرى: (ما لكم من إله غَيرِهِ)، فهنا جرت على اللفظة نفسها، وهذه قراءة أبي والكسائي وأبو جعفر. وقوله تعالى: ((أَفَلا تَتَّقُونَ)) أصلها أفلا تتقونه، أي: أفلا تتقون الله سبحانه وتعالى؟! أي: هل أطعتم الله ولم تعصوه سبحانه وتعالى؟!

تفسير قوله تعالى: (فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم فتربصوا به حتى حين)

تفسير قوله تعالى: (فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم فتربصوا به حتى حين) قال الله تعالى: {فَقَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَنزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} [المؤمنون:24] نوح عليه السلام كان في كل جيل خلال ألف سنة تقريباً يدعو قومه إلى الله عز وجل، ولكن كثيراً منهم كذبون، قال تعالى: ((فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ)) والملأ: هم كبار القوم؛ لأنهم يمتلئ بهم المكان، وهم الكبراء من الأقوام الذين يملئون العين بالنظر إليهم، ويملئون قلوب من حولهم مهابة وخوفاً منهم، ولذلك عندما يذكر الله عز وجل فرعون فإنه يذكر هؤلاء المتكبرين وهم الملأ من قومه وكبارهم. ((فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ)) أي: من قوم نوح، ((مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ)) هذه دائماً حجة الجاهل الذي لا حجة معه، يسمع الكلام ويسمع البينات والحجج ولا يستطيع أن يرد، وإنما يقول: هذا يريد أن يأخذ مني الرئاسة، هذا يريد أن يأخذ مني الكرسي، هؤلاء يريدون أن يجعلوا أنفسهم هم الكبار ويبعدون الكبار الموجودين، وهذا يريد أن يجعل نفسه أفضل منكم، ((وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلائِكَةً)) هذه هي الكلمة التي قالوها للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31]، لماذا أنت الذي نزل عليك القرآن؟ لماذا لم ينزل على أحد غيرك؟ وهنا يقولون: لولا أنزل الله ملائكة من السماء، نريد أن نرى ذلك، فهؤلاء قالوا: ((وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ))، ما سمعنا بمثل ما جاء به هذا في آبائنا الأولين. فحجج الكفار في كل العصور والأزمان أنهم يقولون: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22]، أي: ستظل كما كان آباؤنا، وهنا قالوا: ((وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ))، ولم يفكروا فيما يقولونه: ماذا ستعمل الملائكة ماذا لو نزلت؟ هل ستطيق أن تنظر للملك؟ هل تستطيع أن تسمع للملك؟ هل ستطيق أن تعصي هذا الملك إذا جاء؟ وأنت تعرف قوته وتعرف أنه يقدر عليك وعلى من في الأرض بتقدير الله عز وجل له، فهنا الملك إذا جاء لن تكون دعوة، وسيكون قهراً وإجباراً، فهنا هؤلاء لم يفكروا فيما يقولون، أنه لو نزل ملك من الملائكة، ومن أجل أن يكون هناك اختبار للناس، فسينزل في صورة البشر، ولو جعله الله على هيئة البشر فهو تحصيل حاصل، وهذا الرسول الموجود من البشر، وهذا أفضل من أن يرسل ملكاً إلى أهل الأرض. قال الله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} [المؤمنون:25] يقولون عن نبيهم كذباً وزوراً: إنه مجنون، وكذا قالوا عن نبينا صلوات الله وسلامه عليه، {وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} [القمر:9] ازدجروه وطردوه، ولم يريدوا أن يسمعوا منه صلى الله عليه وسلم، وليس هو أول من قيل عنه: إنه مجنون، فقد قيل عن أنبياء من قبله عليه الصلاة والسلام ذلك. قالوا: ((فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ)) أي: أغرى بعضهم بعضاً وقالوا: اتركوه إلى أن يموت لوحده وانتظروا حتى تأتي عليه السنون ويأتي عليه الكبر ويأتي عليه الموت.

تفسير قوله تعالى: (قال رب انصرني بما كذبون)

تفسير قوله تعالى: (قال رب انصرني بما كذبون) فدعا نوح لربه: {قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} [المؤمنون:26]، هذا في النهاية، وفصل الله عز وجل ذلك في سورة هود تفصيلاً عظيماً، وفصله في غير ما موضع من القرآن، ولكن من أطول ما جاء في قصة نوح وقومه في سورة هود، وكذلك في سورة يونس، وفي سورة نوح، ففي سورة نوح عليه الصلاة والسلام: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} [نوح:5 - 7]. لما تدعو أنساناً على الأقل يسمع ما الذي تقوله، ولكن هؤلاء كانت قلوبهم مغلفة بالكفر، وكانت مظلمة، فلم يستمعوا إلى نبيهم، بل وضعوا أصابعهم في آذانهم، وليس أناملهم، بل كانوا يضعون أصابعهم كلها، حتى لا يسمعوا كلمة يقولها نوح عليه الصلاة والسلام: ((وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ)) فلم يغمضوا أعينهم فحسب، بل إنهم كانوا يضعون ثيابهم على وجوههم حتى لا يروا نوحاً عليه الصلاة والسلام: ((وَأَصَرُّوا))، مستكبرين، (وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا)) عظيماً. ثم قال: {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا} [نوح:8] أي: أمامهم وهم مجتمعون مع بعضهم، {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} [نوح:9]، فلم ينفع السر ولم تنفع العلانية مع هؤلاء، ولم يدعهم يوماً أو ليلة أو سنة أو سنتين، بل ظل يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، وفي النهاية دعا ربه سبحانه: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح:26]، متى دعا هذه الدعوة؟ لما أخبره الله سبحانه: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود:36]، فيا ترى كم الذي آمن من قبل؟ {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40] أي: أعداد قليلة، وهم الذين استوعبتهم السفينة التي صنعها نوح عليه الصلاة والسلام، فما آمن معه خلال هذه القرون وخلال هذه الدهور إلا القليلون. فهنا يقول الله سبحانه وتعالى أن نوحاً دعا ربه: ((قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ))، دعا دعاء الإنسان المغلوب، ولذلك قال الله في الآية الأخرى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر:10] أي: غلبوني فلست قادراً على أن أدعوهم، فالله عز وجل أخبره أنه لن يؤمن أحد بعد ذلك، فلما علم أنه لا يوجد إيمان من هؤلاء دعا عليهم وقال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:26 - 27]، كيف عرف أنهم لا يلدون إلا فاجراً كفاراً؟ بإخبار الله عز وجل له أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن، حينها دعا عليهم وقال: ((رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا)) أي: لا تذر أحداً على الأرض من الكافرين: ((إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا)).

تفسير قوله تعالى: (فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا)

تفسير قوله تعالى: (فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا) قال الله تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنْ اصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [المؤمنون:27]، هذه هي الفلك التي ذكرها قبل هذه الآية: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [المؤمنون:22] أي: فحملكم الله عز وجل على هذه السفينة، وسخر الماء لحمل السفينة، وسخر الرياح لإجراء السفينة، وسخر سبحانه وتعالى البر لترسو عليه هذه السفينة، فالنعمة منه سبحانه وتعالى وحده. قال تعالى: ((أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا)) ويا ترى كم حجم هذه السفينة؟ معلوم أن سفينة سيكون فيها مجموعة من البشر ومجموعة من الدواب من كل زوجين اثنين لابد أن تكون سفينة كبيرة، وكون إنسان واحد يصنع هذه السفينة هذا من فضل الله عز وجل، وإلا ما كان لنوح ولا غيره أن يقدر على أن يصنع هذه السفينة، ولكن الله علمه كيف يصنع هذه السفينة، فإذا به يأتي بالأخشاب ويجعلها في البر، ويمر به قومه وهو يصنع هذه السفينة، فيقولون: ماذا تصنع يا نوح؟ فيقول: أصنع سفينة، فيسخرون منه ويستهزئون به كيف يصنع سفينة في البر؟ قال تعالى: {قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [هود:38 - 39]. إذاً: لم يستجيبوا لدعوته، بل وهو يصنع السفينة لم يتركوه في حاله، بل كلما مروا عليه في ذهابهم وإيابهم سخروا منه قال الله عز وجل: ((فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا)) ونحن نراك وندلك ونرشدك ونقويك، فالله هو الذي علمه وأوحى إليه أن يصنع السفينة، قال الله: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} [القمر:13]، أي: اصنع من الخشب الألواح واجعل اللوح جنب اللوح، وثبتها بالمسامير وهي الدسر. وقوله: (بأعيننا) أي: برعايتنا، فهو يراه سبحانه وتعالى ويراعيه في ذلك، قال تعالى: ((فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا)) أي: سنجعل لك علامة حتى تركب في هذه السفينة، وهذه العلامة هي هذا الفرن الموجود، فإذا خرج منه ماء بدل النار فاركب السفينة أنت ومن معك، قال تعالى: ((فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ)) أي: أخرج التنور ماء بدلاً من النار، ((فَاسْلُكْ فِيهَا)) أي: أدخل فيها، تقول: سلكت الخيط في ثقب الخرز، أي: أدخلته، فهنا قال: ((فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ)) ((مِنْ كُلٍّ)) وكأن التنوين هنا للتنكير، أي: اسلك من كل شيء زوجين، وهذه قراءة حفص عن عاصم فقط، أما بقية القراء فيقرءونها: ((مِنْ كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ)) على الإضافة، والمعنى: أركب فيها من كل دابة من الدواب ذكراًَ وأنثى، حتى تدوم الحياة بعد ذلك. فهذه منة من الله عز وجل في نجاة الخلق ووجود هذه الذريات، إذ حملهم في السفينة. ثم قال: ((وَأَهْلَكَ)) أي: واحمل أهلك معك، لكن الذين سبق عليهم القول أنهم لا يؤمنون مثل زوجة نوح ومثل ابن نوح فهؤلاء لا يركبون فيها، قال تعالى: ((إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ)) أي: إلا من سبق عليهم قضاء الله وقدره أنهم لا يؤمنون فلا يركبون معك في السفينة. ثم قال: ((وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ)) أي: لا تخاطبني بعد أن تركب في السفينة في شأن الظالمين، فالإنسان قد يرى عدوه أمامه فيدعو ربه عليه: يا رب خذه يا رب أهلكه، وعندما ينزل عليه العذاب إذا به يرحمه ويدعو له، فهنا كأن الله سبحانه وتعالى يقول لنوح: أنا معذب هؤلاء، فإذا نزل العذاب فلا ترحمهم، ولا تدع لهم بالرحمة؛ لأننا لن نستجيب لك في ذلك، فقال سبحانه: ((وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ)) أي: سنغرق هؤلاء الظلمة، فلا ترحمهم، ولا تكلمني فيهم. فسيدنا نوح عليه الصلاة والسلام فعل هذا الشيء إلا مع ابنه، فإنه سأل ربه وقال: {فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود:45]، فكان A { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46].

تفسير قوله تعالى: (فإذا استويت أنت ومن معك وإن كنا لمبتلين)

تفسير قوله تعالى: (فإذا استويت أنت ومن معك وإن كنا لمبتلين) قال الله تعالى: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [المؤمنون:28] أي: حين تستوي أنت ومن معك داخل السفينة فاذكر ربك سبحانه، واحمده على أن نجاك، ولو شاء لنزل العذاب وأهلك الجميع، {وَقُلْ رَبِّ أَنزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا} [المؤمنون:29] أي: حين تركب سترى الأهوال التي تأتي على الأرض، فادع ربك أن ترسو السفينة بعد ذلك في منزل مبارك، فقوله: ((أَنزِلْنِي)) أي: إنزالاً مباركاً، و (إنزالاً) مصدر، ((مُبَارَكًا)) أي: فيه البركة وفيه الخير لي ولمن معي، وقوله: ((وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ)) أي: أنت الذي نجيتني بإركابي السفينة، وأنت الذي تنجيني وتنزلني منزلاً مباركاً من فضلك ومن كرمك. ثم قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} [المؤمنون:30]، أي: إن في نجاة المؤمنين بأن أنجاهم الله عز وجل، وفي إهلاك الكافرين بأن أغرقهم الله سبحانه وتعالى لآيات، ((وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ)) العباد في كل زمان، فما خلقوا إلا للابتلاء والامتحان، يبتلي بعضهم ببعض، وخلقوا لعبادته وحده لا شريك له. نسأل الله عز وجل العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة المؤمنون [31 - 41]

تفسير سورة المؤمنون [31 - 41] يخبر تعالى أنه أنشأ بعد قوم نوح قرناً آخرين، وهم قوم عاد، فأرسل فيهم رسولاً منهم فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له فكذبوه وخالفوه، وأبوا أن يتبعوه؛ لكونه بشراً مثلهم، واستنكفوا عن اتباع رسول بشري، وكذبوا بلقاء الله يوم القيامة وأنكروا المعاد الجثماني، فاستحقوا بسبب كفرهم وطغيانهم أن أرسل الله عليهم صيحة مع ريح صرصر عاصف قوي، تدمر كل شيء بأمر ربها.

تفسير قوله تعالى: (ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين)

تفسير قوله تعالى: (ثم أنشأنا من بعدهم قرناً آخرين) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل: {ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} [المؤمنون:31]. هذه قصة أخرى يذكرها الله سبحانه وتعالى في سورة المؤمنون، بعدما ذكر قصة نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وكيف دعا إلى ربه سبحانه، فلما كذبه قومه أهلكهم الله وجعلهم عبرة، وأنجى نوحاً ومن معه من المؤمنين كما تقدم. فأول من نزل بهم العذاب العظيم الشديد العام هم قوم نوح، فالمفترض فيمن جاءوا من بعدهم أن يتعظوا، ويعلموا أن الله سبحانه قد أهلك قوم نوح، وقد أغرق الأرض ومن عليها، وهؤلاء القوم الذين جاءوا من بعد نوح هم من ذرية نوح ومن ذرية القوم المؤمنين الذين كانوا مع نوح، فكان المفترض في أمرهم أن يتبعوا ما كان عليه آباؤهم المؤمنون، وما كان عليه نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ولكن عادة الإنسان النسيان، كلما جد عليه زمان نسي ما كان في الماضي، وتجده ينظر إلى الآن وما الذي يفعله، فهو يريد طعامه وشرابه ومتعته ولهوه، ويتناسى ما كان عليه السابقون من معاص، وما أصابهم من شؤم معصيتهم. فقال الله سبحانه وتعالى: ((ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ))، والقرن: الأمة من الناس، والقرن عدد من السنين، قالوا: أربعون سنة، وقالوا: مائة سنة، وقالوا: مائة وعشرون سنة، وقالوا: إن القرن من الزمان هو الذي عاش فيه مجموعة من الناس ثم ماتوا ولم يبق منهم أحد، وعندما نقول: قرن الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم هم الصحابة، أي: المجموعة الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ورأوه وعاشروه، فكل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم فهو صحابي، وقد جاء في الحديث: (خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم)، أي: هؤلاء الصحابة ماتوا رضوان الله وتعالى عليهم، وجاء من بعدهم التابعون الذين لم يروا النبي صلى الله عليه وسلم، لكن رأوا البعض من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء القرن الذين رأوا الصحابة وظلوا على ذلك إلى أن مات آخر من رأى هؤلاء الصحابة، وجاء القرن الذي يليه الذين لم يروا الصحابة، وإنما رأوا من بعدهم من التابعين، فهؤلاء قرن، وهكذا قرن يمضي ويأتي من بعده قرن آخر. فقال الله عز وجل: ((ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ)) أي: من بعد قوم نوح، ((قَرْنًا آخَرِينَ)) أي: قرن قوم عاد من بعد نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وقيل: بل قوم ثمود، باعتبار أن الله قال: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} [المؤمنون:41] ولا مانع أن يكونوا هم قوم عاد، فقد أخذهم الله عز وجل بالريح التي أرسلها عليهم وبصحية صاح فيهم جبريل فأهلكهم الله عز وجل وأبادهم بذلك، فلا مانع من أن يكونوا هم؛ لأنهم الذين كانوا من بعد قوم نوح. إذاً: بعد إهلاك قوم نوح أنشأ الله عز وجل خلقاً وأوجد من بعدهم قرناً آخرين وأمة من الناس غير هؤلاء، وعادة الله سبحانه وتعالى أنه يرسل الرسل عليهم الصلاة والسلام ليدعوا قومهم ويثبتوهم على دين ربهم سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله)

تفسير قوله تعالى: (فأرسلنا فيهم رسولاً منهم أن اعبدوا الله) قال الله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [المؤمنون:32] أي: أرسل إلى عاد أخاهم هوداً، وهو منهم عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [الأعراف:65] وقال هنا: ((فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ)) أي: من البشر ومن هؤلاء القوم، دعاهم بدعوة نوح ودعوة النبيين جميعهم عليهم الصلاة والسلام: أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، فهو دعاهم إلى التوحيد إلى قول: لا إله إلا الله، وإلى عبادة الله سبحانه وتعالى وحده، والتخلي عن عبادة من سواه، فقال لهم: ((اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)) أي: ليس لكم إله يستحق أن يعبد إلا إله واحد سبحانه وتعالى، فهو الذي أنشأكم وخلقكم ورزقكم، ولذلك دلهم على النعم التي هم فيها، فقال لهم: إن الله عز وجل قد أعطاكم نعماً عظيمة ومنها قوله لهم: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء:128 - 130]، وقال الله عنهم في سورة الفجر: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} [الفجر:7 - 8]، فكانوا قبيلة في غاية الطول وضخامة الأجسام والقوة والنعم التي أترفوا فيها، حتى إنهم صيروا هذه النعم للعب والتلهي، فكانوا يبنون المساكن العظيمة الواسعة الشاسعة التي قد لا يسكنونها، ويتخذون مصانع من المياه يجمعون فيها الماء لعلهم يخلدون ويعيشون أبد الآبدين، فرسولهم عليه الصلاة والسلام دعاهم إلى الله سبحانه وحذرهم من الكفر، وحذرهم من الإشراك بالله، ومن كفر نعم الله سبحانه، وأن يصيروا هذه النعمة نقمة عليهم، فحذرهم من غضب الله سبحانه وتعالى، لكنهم كانوا قساة القلوب بعيدين عن ذكر الله سبحانه وعن عبادته، وكانوا إذا بطشوا بغيرهم من الأقوام كانوا جبارين في غاية القسوة لا رحمة عندهم، فحذرهم نبيهم عليه الصلاة والسلام من ذلك فأبوا ذلك. قال الله سبحانه وتعالى: {فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون:32]. قوله: ((أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ)) يقرؤها بالكسر أبو عمرو ويعقوب وعاصم وحمزة، أما باقي القراء فيقرءونها: (أنْ اعُبدوا الله). كذلك ((مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)) قراءة الجمهور: ((مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)) باعتبار المعنى، وأصلها: (ما لكم) أي: ليس لكم إله غيره سبحانه وتعالى، فكأن الأصل الضم فهذا وصف للمضموم أو للمرفوع، فقرأها الجمهور: ((مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)) وراعى اللفظ الكسائي وأبو جعفر وقالا: إنه وصف للمجرور، فوصف المجرور مجرور مثله، فقرآها: (ما لكم من إله غيرِهِ). قوله: ((أَفَلا تَتَّقُونَ)) أي: هلا اتقيتم الله سبحانه وتعالى؟ فهو يحثهم ويحضهم على عبادة الله سبحانه وعلى تقوى الله، وأن يحذروا من أن يغضبوا ربهم سبحانه، فقال لهم: ((أَفَلا تَتَّقُونَ)) أي: أفلا تجعلون من أعمالكم الصالحة وقاية لكم من عذاب الله ومن غضبه؟ فالتقوى: هي أن تقي نفسك غضب الله وعذاب الله، وأن تجعل وقاية وحاجزاً وستراً بينك وبين عقوبة رب العالمين سبحانه، فهؤلاء القوم لم يتقوا الله سبحانه، وإنما كذبوا كما كذب الكفرة من قبلهم.

تفسير قوله تعالى: (وقال الملأ من قومه إنكم إذا لخاسرون)

تفسير قوله تعالى: (وقال الملأ من قومه إنكم إذاً لخاسرون) قال الله تعالى: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} [المؤمنون:33]. الملأ: هم علية القوم في الناس، و (الملأ) مأخوذة من ملء الشيء، ملأ الإناء يمتلئ امتلاءً، فهؤلاء الملأ كأنهم الذين يملئون العيون، ويملئون أماكنهم، ويكون في قلوب الناس منهم هيبة لمكانهم ومكانتهم، ولكونهم كبار القوم. قوله: ((وَقَالَ الْمَلَأُ)) أي: الكبار من القوم، ((مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ)) أي: صفاتهم أنهم كفار وأنهم مكذبون بيوم الدين، وبلقاء رب العالمين سبحانه، ((وَأَتْرَفْنَاهُمْ في الحياة الدنيا)) أي: والحال أننا قد أترفناهم وأعطيناهم الرغد من العيش، والخصوبة والمال الوفير الكثير، والنعمة التي يتنعمون بها، فهؤلاء لما نظروا إلى أنهم مترفون وأنهم الكبار من القوم اغتروا بذلك، فقالوا عن نبيهم صلوات الله وسلامه عليه: ((مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ))، أي: لا يوجد إلا هذا الذي يأتيكم ليدعوكم إلى الله، وهو بشر مثلكم، ((يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ)) أي: يأكل ويشرب مثلكم، وإذا كان يأكل ويشرب فإنه سيخرج هذا الشيء ويتبول ويتغوط، فلا ميزة له علينا. فهؤلاء لم ينظروا إلى الحجة والدليل، وإنما نظروا إلى الهيئة التي أمامهم، وقالوا: هذا إنسان مثلنا فكيف يكون أحسن منا؟! فهو يأكل ونحن نأكل ويشرب ونحن نشرب، ويقضي حاجته ونحن مثله، فما الذي فضل به علينا؟ فهم لم يسمعوا لما يقول؛ لأن الكفر يدفع الإنسان للعمى وعدم النظر في حجة من يتكلم، والمكانة والرياسة والسيادة للإنسان كل ذلك يجعله يعمى عن أن ينظر إلى الحجة، أو يخاف على المكان الذي هو فيه، فيقول: لا داعي للنظر في دليل وفي حجة، فتجد الواحد منهم يرد ويقول: إنك لا تفهم شيئاً، وتقول كلاماً مثلنا. قالوا: ((مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ))، وأصلها (ويشرب مما تشربون منه) أي: يشرب نفس الشراب الذي تشربونه. قال تعالى حاكياً عن قوم هود: {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} [المؤمنون:34]، انظر هنا إلى الكلام الذي ليس له معنى! نقول: إذا كانت طاعة البشر فيها الخسران، فهؤلاء الذين يطيعونكم أنتم، أنتم بشر وهم بشر، فلماذا طاعة نبيكم فيها الخسران وطاعتكم أنتم ليست فيها الخسران؟! إذاً: إذا احتججتم عليهم بهذا الشيء -وهو أنكم إذا اتبعتم بشراً فإنكم خاسرون- فكذلك أنتم بشر إذا اتبعوكم فهم خاسرون، ولكن العمى عن دين الله رب العالمين يجعل الإنسان يهرف بما لا يعرف، ويتكلم بما لا يفهمه هو ولا يقتنع بما يقول، ولكنهم يظنونها حجة يقولونها فقالوها: ((وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ)) فهو من البشر، ولكنه لا يأمرهم بطاعة نفسه، وإنما يأمرهم بطاعة الله رب العالمين سبحانه، فالطاعة لله، فلو دروا ما يقولون لعلموا أن هذا وإن كان بشراً فإنه لا يدعو إلى طاعة نفسه، ولكن يدعو إلى طاعة رب العالمين، بما جاء به من عند ربه. إذاً: طاعة الله فيها الفلاح لو كان يعقلون.

تفسير قوله تعالى: (أيعدكم أنكم إذا متم هيهات هيهات لما توعدون)

تفسير قوله تعالى: (أيعدكم أنكم إذا متم هيهات هيهات لما توعدون) قال الله تعالى عنهم أنهم قالوا: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} [المؤمنون:35] أي: يعطيكم الوعد وتصدقونه في الكلام الذي يقوله: أننا بعدما نموت ونكون تراباً وعظاماً سنخرج مرة أخرى؟ وقوله: ((مِتُّمْ))، هذه قراءة نافع وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف بالكسر، وقراءة الجمهور غير هؤلاء يقرءون: (إذا مُتم) بالضم من مات يموت موتاً، ومات يمات كذلك، فتكون مِتُ ومُتُ. قوله: ((إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا)) أي: صرتم تراباً وعظماً، ((أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ)) هؤلاء يتعجبون ويقولون: كيف سنرجع مرة ثانية إلى هذه الدنيا؟! قال تعالى: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} [المؤمنون:36] أي: لم ننظر أحداً مات ثم رجع، وكأنهم يقيسون الآخرة على الدنيا، ولذلك قالوا: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} [المؤمنون:35 - 36] وقوله: (هيهات) أي: بعد بعداً عظيماً، ومستحيل أن يكون هذا. فقوله: ((هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ))، هذه قراءة الجمهور، وقراءة أبي جعفر (هيهاتِ هيهاتِ لما توعدون) بالكسر فيها، ووقف عليها الكسائي وأبو عمرو هكذا: (هيهاه) وإذا وصلاها قالا: (هيهات هيهات) على قراءة الجمهور، لكن الجمهور إذا وقفوا عليها قالوا: (هيهات) بالتاء.

تفسير قوله تعالى: (إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن له بمؤمنين)

تفسير قوله تعالى: (إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن له بمؤمنين) قال الله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [المؤمنون:37]، أي: ما هي وما الشأن والأمر إلا أننا نعيش في هذه الدنيا ثم نموت وما نحن بمبعوثين. وهنا قدموا ذكر الموت على الحياة، فهل هذا فيه دليل على أنهم يؤمنون بأن بعد الموت حياة؟ لا، هم لا يقصدون هذا؛ لأنهم لو قصدوا ذلك لما قالوا بعد ذلك: ((وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ)) لكن المقصود من كلامهم: ((نَمُوتُ وَنَحْيَا)) أنه يموت جيل ويحيا جيل آخر، يموت الآباء ويحيا الأبناء، ويموت الأبناء ويحيا الأحفاد وهكذا، أو (نموت ونحيا) أي: كنا أمواتاً وكنا نطفاً ثم صرنا أحياء، وبعد ذلك نموت ولا بعث بعده، أو على التقديم والتأخير، وأصلها نحيا ونموت، أي: حياة وبعد ذلك موت ولا يكون هناك بعث مرة أخرى. قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ} [المؤمنون:38]، يقولون عن نبيهم صلوات الله وسلامه عليه وعلى نبينا: ((إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ)) أي: (ما هو) فقصر الوصف عليه، أي: أن هذا صفة رجل من الرجال مثله مثلنا، ولكنه مفتر كذاب، والافتراء أشد الكذب، ((إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى)) أي: اختلق وكذب، ((عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ))، وكأنهم يقولون: نحن القدوة ونحن لن نؤمن له، فاتبعونا في هذا الشيء، وافعلوا كما نفعل نحن، فإننا لسنا لَهُ بِمُؤْمِنِينَ.

تفسير قوله تعالى: (قال رب انصرني بما كذبون فبعدا للقوم الظالمين)

تفسير قوله تعالى: (قال رب انصرني بما كذبون فبعداً للقوم الظالمين) لما يئس رسولهم عليه الصلاة والسلام من إيمانهم دعا ربه سبحانه: {قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} [المؤمنون:39] أي: هؤلاء الذين كذبوني فانصرني عليهم بسبب تكذيبهم لي، وعدم قدرتي عليهم، فقال الله عز وجل مطمئناً له: {قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} [المؤمنون:40] أي: اتركهم وانتظر عليهم فهم بعد حين ووقت يسير قليل سيصبحون نادمين على ما فعلوا، فهم يندمون حين لا ينفع الندم، ويطلبون الاستدراك في وقت العدم، انتهى الأمر وجاء العذاب من عند الله سبحانه، ولا رجوع إلى الدنيا مرة ثانية، ولا ينفعهم ندمهم يوم القيامة ولا في قبورهم. وقوله: ((لَيُصْبِحُنَّ))، اللام قبل الفعل المضارع والنون المثقلة في آخره تدل على القسم، كأن الله سبحانه يطمئنه ويقول: والله ليصبحن نادمين فلا تخف، فكأن الله يقسم لنبيه عليه الصلاة والسلام أننا سننصرك عليهم، وسينظرون ما الذي يحدث لهم. قال تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [المؤمنون:41] هذا هو الذي عاقب الله به قوم عاد، وجاء في آية أخرى قوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} [فصلت:16] أي: ريح عاصفة شديدة البرودة عظيمة الهبوب فيها الأحجار تقذف هؤلاء وترفعهم ثم تقلبهم على رءوسهم، فهم ينزلون كأعجاز نخل منقعر، قد انقعر وقد جز من أصله، فالله سبحانه وتعالى أرسل عليهم ريحاً شديدة، وصاح بهم ملك من ملائكة رب العالمين، قال تعالى: ((فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)) أي: أهلكهم الله ورفعهم بالرياح فألقاهم على رءوسهم، فصاروا كأعجاز نخل منقعر، وقوله: ((فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً)) أي: جعلهم غثاء كغثاء السيل، وهو الزبد الذي يكون على سطح الماء على وجه ماء البحر أو النهر، هذا هو الغثاء الذي ليس له قيمة ولا ينتفع بمثله، فصاروا كهذا الغثاء فلا قيمة لهم ولا قدر لهم. ((فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)) أي: سحقاً لهم وتباً لهم وعقوبة شديدة للقوم الظالمين، ليس هؤلاء فقط بل هم وأمثالهم وكل من فيه هذه الصفة صفة الظلم الأكبر، من ظلم نفسه بتركه عبادة الله سبحانه، وظلم أنبياء الله سبحانه فلم يتبعهم فيما قالوا، وكذبهم وافترى عليهم، فبعداً وسحقاً وعذاباً للقوم الظالمين. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة المؤمنون [42 - 49]

تفسير سورة المؤمنون [42 - 49] يخبر الله عز وجل عن الأقوام السابقين، وما كانوا عليه من الجهل بالله والكفر والشرك، ولكنه برحمته ولطفه يرسل إليهم الرسل ليقيم عليهم الحجة والبرهان، فمنهم من يؤمن بهؤلاء الرسل ويصدقهم، وهم قليل، ومنهم من يكذب بهؤلاء الرسل ويعاندهم ويحاربهم بكل ما أوتي من قوة، وهم للأسف كثير، فأعداء الرسل والحق دائماً كثر، ولكن الله لهم بالمرصاد.

تفسير قوله تعالى: (ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين)

تفسير قوله تعالى: (ثم أنشأنا من بعدهم قروناً آخرين) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة المؤمنون: {ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ * مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ * ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:42 - 44]. يخبر الله عز وجل في هذه الآيات أنه أنشأ بعد قوم نوح وقوم عاد قروناً آخرين، منهم من ذكر الله عز وجل لنا في كتابه، ومنهم من لم يذكر لنا. قال: (ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ)، المذكورون قبل ذلك كانوا قوم نوح، وقوم عاد أو ثمود، ثم أنشأ الله خلقاً آخر بعدما أهلك قوم نوح، ومن بعدهم أهلك عاداً، ثم أنشأ قروناً آخرين.

تفسير قوله تعالى: (ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون)

تفسير قوله تعالى: (ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون) قال تعالى: {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} [المؤمنون:43]، الأجل محدود عند الله سبحانه وتعالى، والعمر معدود عنده سبحانه، فلا أمة تسبق أجلها ولا تستأخر عنه، وتسبق الأجل: كأنه يأتيها فتفوت من الأجل، أو أنها تسبقه وتموت ويقضى عليها قبل ما كتبه الله عز وجل، ولا يستأخرون عن أجلهم، فإذا جاء الأجل فمهما طلبوا النظرة لا ينظرهم الله سبحانه وتعالى، فهم لا يستأخرون عنه. إذاً: لا يقدرون على أن يفوتوا الله سبحانه وما هم بمعجزين، لا يموتون قبل الأجل الذي كتبه الله، ولا يتأخرون عن هذا الأجل، فهم لا يسبقون أجلهم ولا يستأخرون. وقوله: (مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ)، أي أمة لها أجل عند الله عز وجل، تكون الأمة فيها العدد وفيها العُدد، وفيها الكثرة والقوة، فيأتي عليهم العذاب في حينهم، فإذا بالله عز وجل يهلكهم ويبيدهم، ويخلق من بعدهم قروناً آخرين، وتصبح هذه الأمة التي كانت في يوم من الأيام موجودة ذكرى من ذكريات الأقوام الذين يجيئون من بعدهم. فانظروا إلى قوم نوح كيف كانوا، وكيف علو، وكيف كان يقال عنهم: إنهم يعيشون ويعمرون عمراً طويلاً، ونوح عليه الصلاة والسلام مكث فيهم يدعوهم إلى الله عز وجل، حتى ظن أنهم لن يؤمنوا، يئس من إيمان هؤلاء القوم، وأخبره الله سبحانه: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود:36]، فكانوا في عزة ومنعة وقوة، وفجأة أبادهم الله عز وجل وأغرقهم فلا شيء من هؤلاء الأقوام يبقى إلا الأثر. وجاء من بعدهم قوم عاد، {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} [الفجر:7]، وقد كانوا يبنون البيوت العالية في الجبال فيتحصنون بها، ويعيثون في الأرض فساداً، فكفروا بالله سبحانه، وكذبوا نبيهم هوداً على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وافتخروا بأنفسهم وبقوتهم وعلوهم؛ فجاء وقتهم وأجلهم، فأبادهم الله سبحانه بصيحة ورياح صرصر شديدة، فأهلكهم وجعلهم {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر:20]، وانتهى قوم عاد فانتهت عاد الأولى. ثم جاءت من بعدهم عاد الأخرى أو قوم ثمود، ولم يعتبروا بما حدث لقوم نوح ولقوم عاد، والله عز وجل حذرهم على لسان نبيهم صالح على نبينا وعليه الصلاة والسلام. فكل أمة تأتي وتعيش تظن أنها لن يهلكها الله سبحانه وتعالى، فظنوا أنهم لا يزالون موجودين هم وأبناؤهم وأحفادهم وأنهم لن يهلكوا، ولكن الله عز وجل أبى أن يرفع شيئاً إلا وضعه. فهنا يذكر أنه أنشأ من بعدهم قروناً آخرين منهم من نعرفهم، ومنهم من لم نسمع عنهم، قال: (مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ)، فيأتي الأجل فلا تسبقه ولا تستأخر عنه.

تفسير قوله تعالى: (ثم أرسلنا رسلنا تترا)

تفسير قوله تعالى: (ثم أرسلنا رسلنا تترا) قال تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:44]. قوله: (تَتْرَا) بمعنى متتابعين، وقد يكون معنى التتابع على كلمة (تترا) أي: بينهم مهلة، فيأتي الرسول ويمكث في قومه فترة، ثم بعد ذلك يأتي هؤلاء القوم فيهلكهم الله ويموت الرسول عليه الصلاة والسلام، وينشئ الله عز وجل قوماً آخرين، ويرسل إليهم رسولاً آخر يدعوهم إلى الله عز وجل، فكأن قوله: (أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا)، أي: أن قوماً يأتيهم رسول فيهلكهم الله عز وجل، ثم يأتي القوم من بعدهم فيرسل إليهم رسولاً، وهكذا. فالتواتر: هو التتابع، ومنه تواتر المطر أي: نزل بعضه وراء بعض، وهنا الرسل أرسلهم الله عز وجل متتابعين يتبع بعضهم بعضاً. وهذا من رحمة رب العالمين بعباده سبحانه، أنه لا يتركهم وأنفسهم وهواهم وشياطينهم، وإلا فإنهم سوف يضلون ولا شك في ذلك، ولكن الله عز وجل ينزل كتباً من السماء، ويرسل رسلاً لكي لا يكون لهؤلاء الأقوام حجة على الله عز وجل بعدما أنزل الكتب، وبعدما أرسل الرسل. والله عز وجل جعل حججاً كثيرة على ابن آدم، فجعل في نفسه قلباً وعقلاً فينظر ويعتبر ويستمع ويتأثر، ويعرف بفطرته وقلبه وعقله وتفكيره أن هذا الكون لا بد أن يكون له خالق سبحانه وتعالى، ويعرف أن هذا الخالق هو الذي يستحق أن يعبد، ومع ذلك يغويه الشيطان، ويجعله يعبد غير خالقه سبحانه، فلم يترك الله عز وجل العباد لفطرهم فقط، ولكن أنزل كتباً من السماء، وأرسل رسلاً يدعون القوم إلى ربهم سبحانه، ولعل هؤلاء الأقوام يكذبون الرسل، فجعل مع كل رسول علامة ومعجزة وآية تدل على أنه رسول من عند رب العالمين. إذاً: هنا أرسل الرسل وجعل معهم الحجج، وجعل الآيات البينات التي يفهمها كل ذي عقل، ويراها كل ذي عينين، وحينها ليس لأحد حجة على الله عز وجل بعدما فعل بهم ذلك سبحانه. وقوله: (ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا) (تترا) فيها قراءات: فعلى الوصل تقرأ: (ثم أرسلنا رسلنا تترا كل ما جاء أمة رسولها)، وتقرأ: (ثم أرسلنا رسلنا تتراً كل ما جاء أمة رسولها). فقرأها أبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو بالتنوين: (تتراً) ويظهر هذا في الوصل، وقرأها باقي القراء: (تترا) بالألف في آخرها، فعلى قراءة هؤلاء سيقرأ البعض منهم بالتقليل مثل ورش، وسيقرأ البعض منهم بالإمالة: مثل حمزة والكسائي وخلف، وسيقرؤها الباقون بالفتح: (تترا)، وسيظهر الفرق بين قراءة هؤلاء والآخرين عند الوصل، أي: في قراءة: (تترا كلما)، و (تتراً كلما) وفي الوقف سيظهر أيضاً الخلاف بينهم فيمن يقف عليها بالفتح، ومن يقف عليها بالتقليل، ومن يقف عليها بالإمالة. قوله: (كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ)، (كل) هنا فيها عموم، فكل الأقوام الذين أرسل الله عز وجل إليهم رسلاً أول ما يواجهون رسولهم بالتكذيب، ولذلك يخبر الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس بدعاً من الرسل: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنْ الرُّسُلِ} [الأحقاف:9]، فهو ليس شيئاً جديداً، بل من قبله كانت هناك رسل، وليس هو أول من جوبه بالتكذيب عليه الصلاة والسلام، بل كل الرسل من قبله قد جوبهوا بالتكذيب. إذاً: الإنسان الذي يدعو إلى الله عز وجل لا ينتظر أن يكون الأمر سهلاً، أنه مجرد ما يدعو إنساناً إلى الله فإنه يستجيب له بسرعة، فلست أكرم على الله من رسله عليهم الصلاة والسلام الذين جوبهوا بالتكذيب من أول ما دعوا. قال تعالى: (كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ)، أي: أنهم قلدوا من قبلهم، فجاءهم ما جاء الذين من قبلهم، {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:2] أي: قيسوا أنفسكم على هؤلاء الرسل، فهؤلاء المكذبون كذبوا رسل الله عليهم الصلاة والسلام فأهلكوا. فالذين من بعدهم اتبعوهم في التكذيب فأتبعناهم بالعقوبة، وعجلناهم بها، والذين من بعدهم هكذا، (فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا) أي: إهلاكاً بعد إهلاك، فكل من كذب الله سبحانه وتعالى أهلكه. قال تعالى: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ) والأحاديث هنا: جمع أحدوثة، وهي ما يتحدث به، يعني: جعلناهم قصصاً وحكايات للناس، فيتذكروا قوم عاد، وماذا عملوا حتى أهلكهم الله، فبعدما كانوا قوماً لهم مكانة وشأن وديار انتهوا، ولكن تتحدث عنهم حكايات قوم نوح وقوم عاد فقوله: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ) جمع أحدوثة، وهي: ما يتحدث به، كالأعاجيب تتعجب من شأنهم وأمرهم. وغالباً ما يطلق ذلك على الشر، أي: جعلناهم أحاديث في الإهلاك، وقد يطلق ذلك في الخير، ولكن الغالب في الشر، فجعل هؤلاء القوم أحاديث معناه: أنه أبادهم وأفناهم وجعل فيهم عبرة لمن اعتبر، قال الله سبحانه في الآية الأخرى: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ:19]، فأصبحوا ذكرى، فتتذكر هؤلاء القوم الذين أساءوا فأهلكهم الله ومزقهم وأبادهم. ثم من بعد هؤلاء أنشأ الله قروناً كثيرة، ما بين نوح وبين موسى على نبينا وعليهم الصلاة والسلام آلاف السنين، ومئات القرون الذين أرسل الله إليهم رسله، قال تعالى: {مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر:78]. ثم بعد ذلك التراخي: (ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا) وراء بعض، ومن ثم في النهاية جاء موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام وأخوه هارون.

تفسير قوله تعالى: (ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون)

تفسير قوله تعالى: (ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون) قال تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [المؤمنون:45] أرسل الله عز وجل موسى عليه الصلاة والسلام ومعه أخوه هارون: (بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ) بالآيات التسع البينات: اليد، والعصا، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والأخذ بالسنين، فالله سبحانه وتعالى أرسل آيات لقوم فرعون، فأخذهم بالسنين ونقص من الثمرات، وأرسل عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم واليد والعصا ليروا آيات الله عز وجل البينات، فكذبوا. فكان قوم فرعون كلما رأوا شيئاً من الآيات يكادون أن يستجيبوا، ثم يرجعون مرة ثانية إلى التكذيب، فيقولون: {يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف:134] كلام باللسان، ومجرد ما يدعو لهم موسى ربه سبحانه وتعالى ويكشف عنهم الغم الذي هم فيه سرعان ما يرجعون إلى التكذيب، ويقولون عن موسى: إنه ساحر عليه الصلاة والسلام. قوله: (وَسُلْطَانٍ) السلطان هو الحجج البينة عندما يناظره فرعون، يقول فرعون: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23] فيرد عليه موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام: {قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء:24 - 28]. وفرعون كلامه كله تخريف، أي: كلام ينطق به، فيقول: ما رب العالمين؟ وعندما يجيبه يقول له: أنت ساحر مبين، تتكلم بكلام جنوني، وسندخلك السجن فنجعلك من المسجونين، ولكن موسى يرد عليه بالآيات البينات، وبالحجج الواضحة، يقول: ربنا رب السماوات والأرض. وفرعون كان يقول لقومه: أنا ربكم الأعلى، فهو الذي زعم أنه رب مع الله، وهذه الكلمة لا تكون إلا لله سبحانه وتعالى، والخلق كلهم يعرفون ذلك مستيقنين أنه لا رب إلا الله سبحانه وتعالى، فلا يقدر على الخلق والرزق والإعطاء والمنع إلا الرب سبحانه وتعالى، ولم يجادل في ذلك إلا اثنان فقط جعلهم الله عز وجل عبرة للخلق، وهما: النمرود وفرعون، النمرود قال لإبراهيم ذلك: {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258] تجبر وزعم ذلك، فأحرجه إبراهيم عليه الصلاة والسلام وقال: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة:258] ألست تدعي الربوبية فأت بالشمس من المغرب؟ {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة:258]، فعندما يزعم الإنسان أنه رب لا بد أن يظهر الله عز وجل كذبه ويفضحه، فبهت هذا الإنسان ولم يقدر على الجواب. وهذا فرعون ذلك الذي زعم أنه رب وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وقال: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ} [غافر:36]، وقال: {فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [القصص:38] ويصعد فوق الصرح والسور العالي، ثم ينزل فيقول: لم أجد شيئاً، لا يوجد رب هناك! ومن ثم يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، ويقول: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51] انظر هنا إلى هذا الكلام الفارغ الذي يقوله هذا الملعون! يقول لقومه: انظروا أنا الملك هنا! أليست هذه الأنهار تجري من تحتي؟! كأنه هو الذي أوجد هذه الأنهار، وكأنه هو الذي خلق هؤلاء، فقال الله سبحانه: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:54]. قوم لا عقل لهم، فاستخف بهم وضحك عليهم وخدعهم، فإذا بهم يستجيبون لما يقول ويتابعونه فيما يأمرهم به.

تفسير قوله تعالى: (إلى فرعون وملئه فاستكبروا)

تفسير قوله تعالى: (إلى فرعون وملئه فاستكبروا) فلما جاءه موسى وجادله بالحجج البينة، وأراه الآيات البينات، أبى فرعون إلا أن يكذب، قال الله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً عَالِينَ} [المؤمنون:45 - 46] موسى رسول عليه الصلاة والسلام، وأخوه هارون أرسله الله عز وجل، وكان أكبر من موسى بسنة، وكان نبيناً ببركة دعوة موسى له، فقد دعا له أن يكون نبياً، فالله عز وجل جعله مع أخيه نبياً. فأرسلهما إلى فرعون وملئه، والملأ: السادة الكبار من القوم، (فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ)، أخذتهم العزة بالإثم واستكبروا نظراً لأنهم أكبر من موسى وأفضل منه، فرأوا في أنفسهم القوة والعلو، ورأوا في غيرهم الضعف والهوان، فقال الله سبحانه: (فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ). وقال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} [القصص:4]، والعلو هنا هو قهر الغير والتجبر عليه، (وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ) أي: متكبرين قاهرين لغيرهم ظلماً، كما قال الله عز وجل: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ).

تفسير قوله تعالى: (فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا فكانوا من المهلكين)

تفسير قوله تعالى: (فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا فكانوا من المهلكين) قال تعالى: {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون:47]، هذه دعوى كل الأقوام المكذبين للرسل: لم يجد الله غيركم! وأنتم بشر مثلنا! لماذا أنتم الذين جئتم تدعوننا؟! لا ينظرون إلى ما أتوا به من كتب من عند الله ومن آيات ومعجزات، ولكن ينظرون إلى كونه من البشر، فأنت بشر مثلنا، تأكل مما نأكل وتشرب مما نشرب، فبماذا فضلت علينا حتى يبعثك الله؟ إذاً لن نؤمن لك. قال تعالى: (فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ) أي: إن بني إسرائيل مسخرون في مصر خداماً وعبيداً لفرعون وملئه، فإذا كنت أنت من هؤلاء القوم فكيف نؤمن لكما وقومكما لنا عابدون؟! لنا نؤمن لكما، قال الله سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [المؤمنون:49] فلم يهتدوا بهذا الكتاب الذي جاءهم به موسى عليه الصلاة والسلام بل كذبوا فكانت النتيجة: {فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ} [المؤمنون:48] هذه هي العاقبة في الدنيا، العاقبة السيئة لكل من كذب رسل الله، وأعرض عن الله، قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله ليمهل الظالم حتى إذا أخذه لم يفلته). نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.

تفسير سورة المؤمنون [49 - 53]

تفسير سورة المؤمنون [49 - 53] يذكر الله عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام ما كان عليه من سبقه من الأنبياء، ومنهم موسى وعيسى عليهما السلام، ويعتبر عيسى وأمه وتفاصيل حياتهما معجزة أبهرت العقول. ويأمر الله عز وجل عباده أن يأكلوا من الطيبات، فالأكل من الطيب ينبت جسداً طيباً فيكون عوناً له على طاعة الله جل في علاه.

تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون)

تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة المؤمنون: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ * وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ * يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون:49 - 52]. يخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات أنه قد آتى النبي موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام الكتاب، أي: التوراة، وقوله (لعلهم يهتدون) أي: من أرسل إليهم وهم بنو إسرائيل، لعلهم يهتدون بأحكامها والشريعة التي أنزل الله عز وجل فيها. قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [المؤمنون:49]، فالله عز وجل أنشأ القرون وأرسل إليهم رسلاً يدعونهم إلى دين رب العالمين، ويهدونهم إلى صراط الله سبحانه، فما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم قد جاء أنبياء ورسل قبل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أقوام بكتب من عند الله سبحانه وتعالى كما جاء النبي صلى الله عليه وسلم، فليس بدعاً من الرسل، بل إن موسى دعا بني إسرائيل، ولكن نبينا صلوات الله وسلامه عليه قد خصه الله عز وجل بأشياء، وفُضل على من قبله بأشياء، منها: أن رسالته عامة صلوات الله وسلامه عليه، وأما الأنبياء قبله فكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، أما نبينا صلى الله عليه وسلم فقد بعث إلى الثقلين الإنس والجن، وإلى الأبيض والأحمر والأسود، وإلى جميع الخلق يدعوهم إلى رب العالمين سبحانه وتعالى. وهذه السورة مكية يخبر الله فيها عن أحوال الرسل، وعن الأقوام الذين دعاهم الرسل عليهم الصلاة والسلام، وكيف كذبوا وكيف انتقم الله عز وجل منهم. وبنو إسرائيل الذين كانوا مستضعفين في الأرض أراد الله عز وجل أن يمن عليهم وأن يظهرهم وأن يقويهم، وأرسل إليهم موسى عليه الصلاة والسلام برسالة من عند رب العالمين وهي التوراة، رسالة فيها شريعتهم، فجاء ودعا بني إسرائيل وعلمهم وأرشدهم، ودعا فرعون ليعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً. فأخبر عز وجل أنه كذب موسى، قال: {فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ} [المؤمنون:48]، أي: فرعون وملؤه، (فَكَذَّبُوهُمَا) أي: كذبوا موسى وهارون عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام (فَكَانُوا) فرعون وملؤه (مِنَ الْمُهْلَكِينَ).

تفسير قوله تعالى: (وجعلنا ابن مريم وأمه آية)

تفسير قوله تعالى: (وجعلنا ابن مريم وأمه آية) قال تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون:50]. قوله: (وجعلنا ابن مريم) أي: عيسى المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وهو أحد رسل الله عليهم الصلاة والسلام، وأحد أولي العزم من الرسل، والذي جعله الله سبحانه وأمه آية من آيات رب العالمين، وقد نذرت أمها أن تجعل ما في بطنها لله محرراً، فكان ما في بطنها أنثى فرضي بذلك، وقالت لربها: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} [آل عمران:36]، أي: الله أعلم بالذي وضعته أنه أنثى، وقد نذرته باعتبار أن يكون ذكراً، ولكن وفت بنذرها وجعلت الذي في بطنها لله محرراً، أي: لخدمة ربها سبحانه، وخدمة دين ربها، وخدمة بيت المقدس، فكانت مريم آية من الآيات أن حملت وهي لم يطأها أحد، ولم تتزوج، فجعل الله عز وجل فيها آية من الآيات، وجاء المسيح على نبينا وعليهم الصلاة والسلام بغير أب، فهي حملت بغير زوج وإنما بنفخة من روح القدس، وجاء المسيح عليه الصلاة والسلام بغير أب، فكان هو وأمه آية من آيات رب العالمين. قال تعالى: (وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ)، أي: جعلناها تأوي هي وابنها إلى مكان في الأرض، في بلد من بلدان الله سبحانه وتعالى، (إلى ربوة)، والربوة هي المكان المرتفع، وقالوا: إنها توجد في مكان اسمه: (الرملة) من بلاد فلسطين، والله عز وجل آواهما، فهو سبحانه الذي يخلق وهو الذي يرزق، وهو الذي يؤوي، وهو الذي يدافع عن الذين آمنوا. ولما جاءت أمه بهذا الولد إذا ببني إسرائيل يتهمونها بالزنا، ويحاولون إشاعة هذا الأمر بين الناس، فحماها الله عز وجل وآواها، فجاء بنو إسرائيل ليكذبوا المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فأنطقه الله سبحانه وتعالى وهو في المهد صبياً: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ ?وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم:30 - 31]، تكلم وهو رضيع يرضع من ثدي أمه، وقد كلم القوم بهذا الكلام الفصيح البليغ، يدعوهم إلى رب العالمين، ويخبر عن نفسه أنه نبي من أنبياء رب العالمين، فكان آية، والله عز وجل حماهما ودفع عنهما البلاء، وآواهما إلى مكان مرتفع (إلى ربوة ذات قرار) أي: مكان طيب يستقرون فيه أو يستقرون عليه، والقرار: هو المكان المستوي، ولا يُستقر إلا بمكان فيه زروع وثمار، فيستطيع الإنسان أن يعيش فيه، وكأنه كناية عما في هذا المكان من أرض فلسطين أو غيرها من زروع وثمار يأكل منها المسيح عليه الصلاة والسلام وأمه. (ومعين) وكذلك فيها معين أي: عين ماء جارية، والسيدة مريم كفلها الله عز وجل زكريا، وجعلها في كفالة زكريا وهي صغيرة، إلى أن بلغت وهو الذي يكفلها، قال تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:37]، فكان أمر الرزق الذي يسوقه الله عز وجل إليها آية من الآيات، فهي في المحراب، وفي غرفتها، وفي بيت المقدس، في مكان لا يدخل إليها أحد فيه، والذي يأتيها بالطعام هو زوج خالتها، وهو زكريا على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فكان عندما يدخل إليها ينظر وإذا به يلقى طعاماً يختلف عن الذي أتاها به، فكان يسألها فتقول: {هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:37]، فكانت آية من الآيات أن آواها الله عز وجل هي وابنها (إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ) أي: عين مياه عذبة جارية. وقد رعاها الله وهي تلد، فكان يقول لها: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم:25]، فالله عز وجل آواها إلى مكان تلد فيه ولا يطلع عليها أحد في هذا المكان، ولا يزعجها أحد، فحملت في بطنها هذا الغلام الكريم والذي هو نبي من أنبياء الله على نبينا وعليه الصلاة والسلام، والله عز وجل جعلها في هذا المكان لتستقر فيه وتضع فيه ولدها، فآواها الله سبحانه، ولم تحتج إلى مولدة تولدها، ولم تحتج إلى أحد يعينها، فالله سبحانه وتعالى تكفل لها بكل أمرها كما يكفل لغيرها سبحانه، ولكن اعتنى بها مزيد عناية من فضله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا} [مريم:26]، وقد جعل تحتها جدول ماء تأكل من البلح والرطب من هذه النخلة وتشرب من الماء. قال سبحانه: {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ} [المؤمنون:50]، (ربوة) بفتح الراء، وهذه قراءة ابن عامر وعاصم، وقراءة باقي القراء: (إِلَى رِبْوَةٍ) ففيها لغتان. وقوله: {ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون:50]، (قرار) البعض يرققها مثل الأزرق عن ورش، وحمزة أيضاًً يقرؤها بالإمالة أو بالتقليل، وغيرهم يقرءونها بالإمالة، وهم أبو عمرو وابن ذكوان وبخلفه والكسائي، وورش وحمزة يقللونها، وباقي القراء يقرءونها: ((قَرَارٍ)) بالفتح، إذاً: فيها ثلاث قراءات.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً) قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:51]، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ) مع أنه لا يوجد على قيد الحياة غير النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الخطاب باستحضار جميع من أرسلهم الله عز وجل، فالله عز وجل كأنه يحضرهم ويخاطب الجميع، فحين يذكرهم الله عز وجل هنا أي: اذكروا أني خلقت الرسل كلهم عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام وأني أمرتهم بهذا الأمر، فقلت لهم: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ)، بما فيهم النبي صلوات الله وسلامه عليه: {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون:51]، وإذا قال هذا للأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام والذين يستحيل أن يأكلوا من غير الطيبات وهم الذين عصمهم الله، وهذا من باب: إياك أعني واسمعي يا جارة، فإذا كان الرسل نأمرهم بهذا فأنتم يا بني آدم أولى بهذا الأمر؛ لأن الرسل لن يعصوا ربهم ولن يأكلوا من غير الطيبات، فأنتم أولى بهذا الأمر، فإذا قال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:51] فكأنه يقول: لباقي الخلق {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:51]. وقد وضح لنا ذلك نبينا صلوات الله وسلامه عليه في الحديث الذي رواه مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيها الناس! إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:51]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:172]، ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام ومشربه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له)، وهنا الأمر للرسل عليهم الصلاة والسلام، والأمر للمؤمنين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172]، فأمر الله عز وجل خلقه أن يأكلوا من الطيبات. فقد أمر الله عز وجل الرسل بذلك، وأمر المؤمنين بذلك، ثم ذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم ما يترتب على خلاف ذلك، وإذا كان الإنسان في حياته لا يهتم لأمر مأكله ومشربه حلالاً كان أو حراماً، ولا يهمه ما ستكون النتيجة وهي أنه سيحتاج إلى ربه، ويرفع يديه لربه وهو محتاج، وهو في ضيق، وفي شدة، وفي كرب، وقد لا يستجاب له، فقال: (ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر) والإنسان المسافر مستجاب الدعوة، والمؤمن الذي يسافر يجد في طريقه صعوبات ومشقات فتأتيه رحمة رب العالمين سبحانه فيما هو فيه، فيستجيب دعاء هذا الإنسان المكروب، قال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62] سبحانه وتعالى. قال: (يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء)، (أشعث): غير مرتب الشعر، (أغبر): عليه من غبار الطريق، (يمد يديه إلى السماء)، وفيه أن السنة عند الدعاء أن ترفع يديك إلى السماء في الدعاء، قائلاً: (يا رب يا رب! ومطعمه حرام)، أي: والحال أن الأكل الذي كان يأكله قبل ذلك أو حالاً كان أكلاً حراماً، (ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له) أي: من أين يستجاب لهذا الإنسان؟! وهذا لا يعني أنه لا يستجاب له أبداً، فأمر الاستجابة لله سبحانه وتعالى، ولكن أسباب الإجابة ليست موجودة، فلا يستحق هذا الإنسان أن يستجاب له، ولكن الله رءوف بعباده، فالله لطيف، والله كريم سبحانه، وقد يعصي العبد ويدعو ربه فيستجيب له سبحانه وتعالى، ولكن يعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن مثل هذا لا يستحق الإجابة، فإذا دعا العبد ولم يستجب له فليراجع نفسه في طعامه، وفي شرابه، وفي ملبسه وفي غذائه، وهل هو مطيع لله أم هو يأكل المحرمات ويفعل المحرمات. قال الله سبحانه: (وَاعْمَلُوا صَالِحًا)، فالإنسان يأكل من الطيبات فإذا أكل شكر الله سبحانه وتعالى، وإذا أنعم الله عز وجل على العبد وأعطاه من فضله ومن رزقه فشكر الله فله نعمتان: نعمة الإعطاء من الرزق، والنعمة الأخرى: التوفيق للحمد وللشكر. وإذا أكل العبد وقال: الحمد لله، والشكر لله، وحمد ربه وشكره، كان هذا أحب إلى الله مما أعطاه للعبد، فالله يعطي للعبد دنيا، والدنيا لا قيمة لها عند الله عز وجل، والعبد يتقرب إلى الله سبحانه بالتسبيح والتحميد والشكر له سبحانه، وهذا يترتب عليه الأجر الأخروي، فهذا أحب إلى الله عز وجل، وإن كان الاثنان من الله الكريم سبحانه، فالله هو الذي يرزق، والله هو الذي يوفقك لشكره سبحانه وتعالى، فكانت الثانية أحب إلى الله عز وجل وهي توفيق عبده لأن يشكره سبحانه. قال تعالى: (كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً)، وكأن الأكل الطيب يعين على العمل الصالح، والأكل الحرام لا يعين على العمل الصالح، فينبت جسد الإنسان من الحلال، والجسد النابت من حلال أحرى أن يعبد الله وأن يتصرف في ملكوت الله عز وجل بما يرضي الله سبحانه، والذي يأكل من حرام ينبت جسده من حرام، فالنار أولى به. فلذلك قال: (كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ) فإذا أكلتم من الطيبات اعملوا صالحاً فسوف توفقون لذلك (وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)، وهذا دليل على أن الله سبحانه تبارك وتعالى يعلم كل شيء من عمل الإنسان الظاهر والخفي، وعمل القلب، وهذا كله عند الله عز وجل معلوم لا يخفى عليه شيء. وكذلك في سياق الآية التهديد والوعيد بالأسلوب اللطيف من ربنا سبحانه وتعالى، فإذا كان يعلم سبحانه وتعالى، وقدرة الله عز وجل وراء ذلك، فهو الذي يعلم وله القدرة سبحانه وتعالى العظيمة أن يجازي العبد على عمل الخير بخير وعلى عمل الشر بما يستحق، فإذا قال: (إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)، يعني: أعرف ما تعملون وأجازيكم على أفعالكم.

تفسير قوله تعالى: (وإن هذه أمتكم أمة واحدة)

تفسير قوله تعالى: (وإن هذه أمتكم أمة واحدة) قال تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون:52]. قوله: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) هذه قراءة عاصم وحمزة والكسائي وخلف، ويقرؤها أبو عمرو: (وَأنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً)، ويقرأها باقي القراء وهم نافع وأبو جعفر المدنيان وابن كثير المكي وأبو عمرو ويعقوب البصريان: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ). قال تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ} [المؤمنون:52]، الأمة تطلق على معانٍ، ولكن في هذه الآية أطلقت على أحد المعاني وهو الدين، ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف:22]، أي: على ملة، فقال الله عز وجل للمؤمنين: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ} [المؤمنون:52]، أي: هذه ملتكم، وهذا دينكم دين واحد وهو دين التوحيد، {وَأَنَا رَبُّكُمْ} [المؤمنون:52] أتيتكم بهذا الدين، وعلمتكم شرائعه فاعبدون واتقون وحدي سبحانه وتعالى. (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ)، أي: هذه ملتكم وهذا دينكم، وهو دين واحد دين التوحيد فاعبدوا ربكم سبحانه، {وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون:52].

تفسير قوله تعالى: (فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا)

تفسير قوله تعالى: (فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً) يبين لنا الله في الآية التي بعدها ماذا عمل العباد فقال تعالى: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون:53]، أي: إذا بهم يتفرقون في دين الله، فهذا يعبد الله وهذا يشرك بالله، وتأتي كتب الله عز وجل تدعو الناس، ولا ينظرون إلى المتأخر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ويتبعونه، وشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم هي التي نسخت كل الشرائع من قبله، قال تعالى: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا} [المؤمنون:53] أي: قطعاً، والزبر: جمع زبور وهو الكتاب، وكأن كل واحد فرح بالكتاب الذي عنده ولم ينظر إلى ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فلم يتبعه، ففرحوا بما عندهم. قال تعالى: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون:53]، فالله سبحانه ينهى الأمة عن التفرق ويأمر الجميع أن يستجيبوا للنبي صلى الله عليه وسلم، ولأمة النبي صلى الله عليه وسلم، وأمة الدعوة، فهؤلاء صاروا نصارى، وهؤلاء الصابئة، وهؤلاء عباد الكواكب والنجوم، وهكذا، وأمة النبي صلى الله عليه وسلم اختلفوا أيضاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اختلفت اليهود على إحدى وسبعين ملة، واختلفت النصارى على ثنتين وسبعين ملة، وستختلف أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: هي الجماعة)، أو قال: (هم من كانوا على مثل ما أنا عليه وأصحابي)، أو قال: (ما أنا عليه وأصحابي)، والذي عليه النبي صلى الله عليه وسلم هو كتاب ربه وسنته عليه الصلاة والسلام، فمن تمسك بذلك كان من الفرقة الناجية. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم الذين هم الفرقة الناجية، ونسأل الله عز وجل العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة المؤمنون [51 - 60]

تفسير سورة المؤمنون [51 - 60] يذكر الله سبحانه وتعالى أن دينه واحد لجميع الأمم والأنبياء والرسل، فهو دين يدعو إلى الخير ويحارب الشر، ومع ذلك لما جاء البشر العلم والطريق الصحيح اختلفوا فيه وتفرقوا إلى فرق وأحزاب وطوائف، كل حزب بما لديه متمسك وفرح، وكل حزب يحسب أنه على الصواب وأنه على هدى، وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كل أمة أو فرقة تبعث يوم القيامة على ما كانت عليه من دين، وفي ذلك اليوم يتبرأ النبي صلى الله عليه وسلم ممن أحدثوا من أمته من بعده وغيروا وبدلوا.

تفسير قوله تعالى: (وإن هذه أمتكم أمة واحدة كل حزب بما لديهم فرحون)

تفسير قوله تعالى: (وإن هذه أمتكم أمة واحدة كل حزب بما لديهم فرحون) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة المؤمنون: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ * فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ * أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:52 - 61]. لما أمر الله عز وجل الرسل عليهم الصلاة والسلام بأن يأكلوا من الطيبات، وأن يعملوا صالحاً، وأخبر أنه بما يعملون عليم، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله عز وجل أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172]، وقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:51])، فذكر أن الرسل مأمورون بأن يأكلوا من الطيبات، وأن المؤمنين كذلك مأمورون بما أمر به المرسلون عليهم الصلاة والسلام، والله بما يعمل الجميع عليم سبحانه، وفيها من التهديد ما فيها، أن الإنسان إذا لم يأكل من الحلال ويترك الحرام فالله به عليم، وإذا كان الله عليماً بما يعمل هذا الإنسان فسوف يحاسبه ويعاقبه، ولا مفر له من ربه سبحانه وتعالى إلا أن يتوب إلى الله. ثم قال الله سبحانه: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً)، وقد قلنا: إن كلمة (أمة) تأتي بمعانٍ عدة، والمعنى المقصود هنا: أن الأمة بمعنى: الملة، أي: وإن هذه ملتكم، فهي ملة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، والملة التي ارتضاها الله عز وجل هي الدين، قال تعالى: {ورَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، فهو دين الإسلام، والمعنى: إن هذا دينكم دين واحد، وهو دين التوحيد، وهي عقيدة واحدة أُرسل بها جميع الأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام، يدعون إلى قوله تعالى: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون:32]، أي: يدعون إلى (لا إله إلا الله) إلى دين واحد، وأخبرنا سبحانه وتعالى أنهم يتفرقون في ذلك، فقال تعالى: (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)، وأخبر الله سبحانه بقوله: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118 - 119]، فلا يزال الناس مختلفين، والله عز وجل يعلم ذلك، وخلقهم وقدر عنده ما يكون من أمر عباده، فالعباد مهما جاءهم من عند الله من كتاب أو شريعة فمنهم مؤمن ومنهم كافر، والمؤمنون منهم لا يزالون مختلفين فيما بينهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الأمة: (وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة)، فكلهم يقولون: لا إله إلا الله، ولكن يتنازعون فيما بينهم في أشياء؛ فيفرقون دينهم، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام:159]، فقد تبرأ النبي صلى الله عليه وسلم ممن اتخذ دينه لعباً، وممن اتخذ دينه فرقة يفرق فيه بما يشاء ويتبع هواه، ويتبع غير سبيل المؤمنين، والله سبحانه وتعالى يحذرنا من التفرق. وقال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ} [الأنبياء:92]، فالرب واحد، وبذلك يكون الدين واحداً، والله سبحانه وتعالى هو الرب وهو الذي شرع هذا الدين سبحانه، فالعبيد عبيد لله سبحانه، فلا بد أن يتبعوا منهج الله فيكونوا على ملة وعلى دين واحد، ولكن جاء الشيطان فنزع الناس من دين ربهم إلى الأهواء فـ (كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)، أي: كل إنسان فرحٌ بما هو فيه من أهواء، ومن بعد عن دين الله، ويظن أنه على الحق. قال سبحانه: (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا)، أي: تقطعوا أمر دين رب العالمين، وأمر شرعه سبحانه، تقطعوه فيما بينهم، فكل إنسان أخذ بشيء واتبع هواه في أشياء، فتقطعوا الدين زبراً، والزبر: القطعة، أي: كل واحد أخذ قطعة منه ولم يتوحد الجميع، والله سبحانه وتعالى يقول: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة:63]، فالإنسان المؤمن يأخذ دين الله سبحانه كتاباً وسنة، ولكن الذي ينزع بشيء فيأخذه ويترك باقي الأشياء، فهذا من الذين اتبعوا أهواءهم. قال تعالى: (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا)، أي: قطعاً، (كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)، أي: هؤلاء يفرحون بهذا الجزء وهؤلاء بهذا الجزء، وكل منهم يتمسك بشيء ويترك أشياء لا يأخذ بها، فيفرح بما أخذ ولا ينعى على نفسه أنه ترك باقي هذا الدين العظيم. وأهل البدع وأهل الضلال كل إنسان منهم يقول: لا إله إلا الله، لكنه يبتدع ويخترع في دين الله، ويفرح بما اخترعه وابتدعه، ويظن أنه على شيء، فهو ترك الكتاب وترك سنة نبيه صلى الله عليه وسلم وفرح ببدعته، ولعله يترك واجبات من واجبات الدين، ويظن أنه على خير، ويظن أنه على صلاح وعلى تقوى، والله عز وجل يخبر عن حال هؤلاء أهل البدع والأهواء أنهم فرحون بما هم فيه. ولذلك كان صاحب المعصية قد يرجى أن يتوب سريعاً إلى الله سبحانه وتعالى، وصاحب البدعة تتباطأ عنه توبته، وصاحب المعصية يعرف أنه عاصٍ، فلعله يندم على المعصية ويتوب، أما صاحب البدعة فهو فرحٌ بما هو فيه، فلذلك لا يراجع نفسه، فقلَّ أن يتوب صاحب البدعة ويراجع أمر دينه ويرجع إلى ربه سبحانه وتعالى، فالله سبحانه وتعالى وسم هؤلاء بأنهم في فرح بالذي هم فيه، ويظنون أنهم على شيء، ويحسبون أنهم مهتدون.

تفسير قوله تعالى: (فذرهم في غمرتهم حتى حين)

تفسير قوله تعالى: (فذرهم في غمرتهم حتى حين) قال تعالى: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} [المؤمنون:54]، يقول الله للنبي صلى الله عليه وسلم: لا يضيق صدرك من عمل هؤلاء الذين فرقوا الدين، والذين تأخروا عن دين الله سبحانه، وقد قلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى الخلق جميعهم، فيقال: هذا نبينا صلى الله عليه وسلم وهذه أمته، والأمة: إما أمة الدعوة وإما أمة الإجابة، وكلا الأمتين تتفرق، وأمة الدعوة هي التي بعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فيهم الذكر والأنثى، وفيهم الإنسان التقي وفيهم الشقي، وفيهم من أهل الأوثان وأهل عبادة الصليب واليهود وغير ذلك، فأمة الدعوة: كل من يدعوهم النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أرسل إليهم، وقد أرسل إلى جميع من هم على الأرض في عهده إلى يوم القيامة، وأما أمته الذين يأتي إمامهم يوم القيامة: فهم الذين استجابوا له صلوات الله وسلامه عليه، وقالوا: لا إله إلا الله. فالله سبحانه وتعالى أخبر عن هذه الأمة كلها أنهم لا يزالون مختلفين، فيأتي اليهود على ما هم فيه، والنصارى على ما هم فيه، وأهل الأوثان على ما هم فيه، ويأتي المسلمون الذين يقولون: (لا إله إلا الله) يدخلون في الدين يخترعون ويبتدعون ويتركون دين الله سبحانه، ويخبر عنهم يوم القيامة أنهم يذادون عن حوضه يوم القيامة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليذادن أقوام عن حوضي يوم القيامة فأقول: أصحابي أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: ألا سحقاً ألا سحقاً، ألا بعداً ألا بعداً)، يقول: بعداً لهؤلاء الذين أحدثوا، وهم كانوا يقولون: لا إله إلا الله، ولكنهم ابتدعوا في دين الله وفرقوا دينهم، فلما جاءوا يوم القيامة جاءوا مسلمين، وعلامات الصلاة بادية في وجوههم من آثار السجود، وفي أيديهم وفي أرجلهم، ولكنهم لما كادوا يصلون إلى حوض النبي صلى الله عليه وسلم أبعدوا عنه؛ لأنهم ابتدعوا في دين الله سبحانه، فكل إنسان يترك دين الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم يخشى عليه أن يأتي يوم القيامة فيذاد عن حوض النبي صلى الله عليه وسلم، أي: يدفع ويبعد عن حوضه، ويقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا بعداً) أي: لمن أحدث بعدي، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث: (كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في ديننا هذا ما ليس منه فهو رد)، وقال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، والذي يحدث في دين الله ويعمل عملاً ليس عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم ولا جماعة المسلمين فأمره مردود عليه، مهما زعم أنه يتقرب إلى الله عز وجل بذلك. فالله سبحانه نزل الكتاب وأرسل رسوله صلى الله عليه وسلم حتى يتبع الناس ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف:3]، أي: لا تتبعوا شركاء من دون الله سبحانه، ولكن اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم، وقال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]، فالمؤمنون على بصيرة من دينهم يتعلمون أمر دينهم، ويتبعون الكتاب وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، حتى يكون إمامهم يوم القيامة النبي صلوات الله وسلامه عليه. أما أهل الأهواء فيتبعون ما يخترعون، قال تعالى: (كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ). يقول تعالى: (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ) والغمرة: ما يغمرك، وهو الشيء الذي يغمر الإنسان ويغطيه، ومنه الغمر: الماء الكثير الذي يغمر الأرض ويغمر ما تحته، فقوله تعالى: (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ)، أي: في عمايتهم، وفي ضلالتهم، وفي حيرتهم، وفي شكهم، وفي ابتعادهم عن دين الله سبحانه وتعالى، وفيما طبع على قلوبهم من غشاوة وغلاف، فذرهم في ذلك واتركهم، ولا تحزن عليهم، فنحن سنحاسبهم ونعذبهم. وقوله تعالى: (فَذَرْهُمْ) كلمة وعيد وتوعد من الله تعالى، وما جاءت هذه الكلمة في القرآن كله إلا بمعنى الوعيد، قال تعالى: (حَتَّى حِينٍ)، لو قال: (إلى حين) فقد يكون فيها شيء من المتاع، وشيء من الراحة، ولكن (حَتَّى حِينٍ) معناها: اصبر عليهم فسنريهم حتى يأتيهم العذاب أو حتى يأتيهم الموت فيحاسبهم الله سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين بل لا يشعرون)

تفسير قوله تعالى: (أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين بل لا يشعرون) ثم يقول سبحانه: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون:55 - 56]. قوله: (أَيَحْسَبُونَ)، قرأها نافع وابن عامر وحمزة وأبو جعفر: (أيحسِبون)، وقرأها باقي القراء: (أيحسَبون). وقوله: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ) أي: هل تظنون أننا كلما أعطيناكم من مال وأمددناكم ببنين وذرية معناه: أنكم من أهل الخير وتستحقون الخير؟ هل هذا دليل على استحقاقكم عند الله يوم القيامة الجنة والنعيم؟ إن الدنيا قد يعطيها الله عز وجل من يحب ومن لا يحب، فعطاء الله للناس في الدنيا ليس دليلاً على أنه يعطيهم يوم القيامة أيضاً، بل قد يكون إملاء واستدراجاً لهم، ولهذا قال تعالى: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ)، أي: ما نعطيهم في هذه الدنيا، وقوله تعالى: (مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ)، فليس معنى هذا: أننا نسارع في إعطائهم الخيرات من أجل أن نعطيهم خيرات يوم القيامة، فهذه الخيرات معجلة لهم في الدنيا ولا خير لهم في الآخرة، فهم لم يحسوا أننا نملي لهم، قال تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183]. وقوله تعالى: (بَل لا يَشْعُرُونَ) أي: فهم في غفلة، فالإنسان في غفلة وفي نوم حتى إذا مات استيقظ من هذا النوم، وقام من رقدته ومن غفلته، فالدنيا غفلة للإنسان وحلم من الأحلام، إذا مضى هذا الحلم وجاءه الموت واستيقظ يرى الواقع الأليم الذي كان عليه.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون والذين هم بربهم لا يشركون)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون والذين هم بربهم لا يشركون) ثم ذكر المؤمنين الصالحين الذين يتقربون إلى الله سبحانه وتعالى بالعمل الصالح وقلوبهم وجلة، وما أكثر الصفات الحسنة في المؤمنين التي يذكرها الله عز وجل في كتابه، فيذكر في سورة بعضاً من الصفات وفي سورة أخرى بعضاً آخر منها، فبدأ هذه السورة بقوله سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون:1 - 4]، إلى آخر ما ذكر، ثم ذكر صفات أخرى لهؤلاء المؤمنين في نفس السورة، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} [المؤمنون:57]، فالمؤمن يخشى ربه سبحانه، وقلبه ممتلئ خوفاً ووجلاً من الله سبحانه وتعالى، فيعمل الأعمال الصالحة وهو خائف ألا تقبل هذه الأعمال فكيف يكون حاله إذا عصى الله سبحانه! وما من إنسان إلا ويقع في معصية، مؤمن وغيره، والله عز وجل تواب رحيم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون). فهؤلاء المؤمنون يعملون الطاعة خائفين من الله عز وجل ألا يقبلها منهم، فهل يتخيل في هؤلاء أنهم يعصون الله وهم غير مشفقين؟! قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ)، أي: خائفون وجلون من لقاء ربهم سبحانه ومن عذابه. قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:58]، أي: أن العقيدة الإيمانية ملأت قلوبهم، فهم يؤمنون ويصدقون، ويعملون بما يعتقدون وبما يصدقون، ويعملون لليوم الآخر، ويعملون خوفاً من الله سبحانه وتعالى إيماناً به، قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون:59]، فهم بربهم لا يشركون، فعبادتهم موجهة لربهم وحده لا شريك له، لا رياء فيها، ولا خوف من أحد إلا من الله سبحانه وتعالى، ولا يوجهونها إلى الله وإلى غيره، بل إلى الله وحده لا شريك له، فهم لا يشركون بالله في شيء من العبادات أبداً.

تفسير قوله تعالى: (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة)

تفسير قوله تعالى: (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة) قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60]، من الصفات الكريمة في الإنسان المؤمن قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ)، أي: يعطون، فيعطون عملاً، ويعطون مالاً، ويعطون إخلاصاً ونية، ويعطون ويقدمون أعمالاً تكتبها الملائكة، فهم يعطون الأعمال والملائكة يكتبونها، فكل أعمالهم على الإخلاص وعلى التقوى، وهم كما قال الله تعالى: (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ)، أي: قلوبهم خائفة وخاشعة لله رب العالمين، (أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ)، فالمؤمن يعرف أنه راجع إلى الله، فمهما عمل من عمل ينظر أمامه: يا ترى هل هذا العمل موافق للكتاب والسنة أو مخالف لهما؟ وهل هو موافق لمراد الله؟ وإذا كان موافقاً فهل هذا الذي أعمله أنا مخلص فيه أو لست مخلصاً؟ فهو يقدم العمل المتابع للكتاب والسنة وينظر في إخلاصه، وبعد ذلك يخاف ألا يقبل هذا العمل. وقد جاء في حديث عند الترمذي وابن ماجة ما يوضح لنا هذا المعنى، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون:60]: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟)، أي: يؤتون ما آتوا من المعاصي وهم خائفون؟ هل هذا هو المعنى؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (لا يا ابنة الصديق! ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون ويخافون ألا يقبل منهم، أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون). هذه هي طبيعة المؤمن، وهي فطرة الله سبحانه وتعالى، فقلبه قد عرف ربه، وصدق وآمن، فهو يخشى ربه، ففي قلبه الإيمان الذي عرفه بقدرة الله سبحانه، والناس ما قدروا الله حق قدره، والإنسان المؤمن يحاول أن يصل إلى درجات المعرفة واليقين العالية، فهو في خوف من الله سبحانه وتعالى، فيؤتي ما آتى، يصلي ولا يمن، ولا يقول: أنا صليت، وأنا سأدخل الجنة، بل يعطي زكاته ويتصدق بالصدقة ويعمل الخيرات ولا يركن إلى ذلك أنه قد نجا بهذا الشيء، فتراه يخاف ألا يقبل منه. فإذا كان إبراهيم النبي المعصوم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وإسماعيل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام يقولان لله سبحانه وتعالى: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} [البقرة:127]، وهما يبنيان البيت الذي سيحج إليه الملايين من البشر إلى يوم الدين، وهذا يعني أنه (من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها)، فالإنسان الذي يبني لله عز وجل مسجداً كلما صلى فيه إنسان كان له بهذا الذي بناه أجر، إذاً: سيكون أجر إبراهيم وإسماعيل ببنائهم هذا البيت من آلاف السنين ويحج إليه الملايين ويصلون فيه ما لا يحصيه من الأجور إلا الله، ومع ذلك يخافون من الله ألا يقبل منهما، فيقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127]، فالإنسان المؤمن يخاف من الله سبحانه ألا يقبل عمله، ويعمل العمل وهو ينظر إلى الآخرة أنه راجع إلى الله، فيخاف أن يموت على غير الإسلام، فيقول كما قال يوسف على نبينا وعليه الصلاة والسلام لما ذكر الملك الذي هو فيه: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101]. فيوسف على نبينا وعليه الصلاة والسلام آتاه الله الملك والعلم والنبوة، وعلم تأويل الرؤى والأحلام، وآتاه الله عز وجل من فضله في الدنيا، وهو وليه سبحانه، دافع عنه، وكان معه حين طرده إخوته، ووضعوه في غيابة الجب، وحين أُخِذَ عبداً وحين نجاه الله سبحانه وتعالى، فجعله ولداً عند من أخذوه وربوه، وبعد ذلك صار عزيزاً لمصر عليه الصلاة والسلام. مع كل ما أعطاه الله من النعم والأفضال يقول: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا)؛ لأن هذه الدنيا لا تساوي شيئاً، إنما المهم هي الآخرة، فثبتني على دين الإسلام حتى ألقاك عليه، وتوفني على الإسلام، قال تعالى: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ). نسأل الله عز وجل أن يتوفانا مسلمين وأن يحلقنا بالصالحين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة المؤمنون [57 - 66]

تفسير سورة المؤمنون [57 - 66] بين الله عز وجل في كتابه صفات عباده المؤمنين من أجل أن يتصف بها المسلم، ويتخلق بها في حياته، ويظهرها في سلوكه، فوصفهم الله عز وجل بأعظم الصفات وأفضلها وأرقاها، فهم في خشية منه سبحانه، مؤمنون به، بعيدون عن الشرك، خائفون وجلون منه سبحانه، مع مسابقتهم بالخيرات بين يديه تقرباً إليه. ومن رحمته سبحانه بخلقه أنه لم يكلفهم ما يشق عليهم، أو يوقعهم في الحرج، وإنما كلفهم ما يستطيعونه ويقدرون عليه، ومع هذه الرحمة منه سبحانه بعباده إلا أن الكفار بعيدون عن هديه ودينه، معرضون على شرعه وكتابه، لا يعرفونه إلا وقت الشدائد والأزمات.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون أنهم إلى ربهم راجعون)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون أنهم إلى ربهم راجعون) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة المؤمنون: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ * وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ * حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ * لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنصَرُونَ * قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ} [المؤمنون:57 - 66]. أخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن صفات للمؤمنين ترفعهم عند الله سبحانه وتعالى. ومن أهم هذه الصفات: الخشية من الله سبحانه وتعالى، والإيمان بآيات الله، وعدم الشرك بالله سبحانه، والخوف من عدم قبول الأعمال، قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} [المؤمنون:57]، أي: أنهم يخافون من الله سبحانه وتعالى، ويشفقون من لقائه. فكل إنسان منهم يتهم نفسه في معاصيه لعلها لا تغفر له، ويتهم نفسه في طاعته لعلها لا تقبل منه، كما قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) فهم قد عرفوا قدرة الله سبحانه، وعرفوا عذابه فكانوا مشفقين من عذابه. قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:58]، أي: أنهم صدقوا بكل ما جاء من عند رب العالمين سبحانه، وعملوا بمقتضى هذا التصديق، قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون:59]، أي: أنهم لما صدقوا لم يجعلوا مع الله إلهاً آخر يتوجهون إليه بالعبادة، ولم يشركوا في عبادتهم لله عز وجل شيئاً، ولم يراءوا ولم يسّمعوا بعملهم، وإنما عملوا لله مخلصين له في دينه. قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون:60]، جاء في الحديث أن السيدة عائشة رضي الله عنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء الذين: يُؤْتُونَ مَا آتَوا، قالت: (أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون وهم مشفقون خائفون من الله عز وجل؟ فقال: لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون ألا يقبل منهم أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون). فالإنسان المؤمن يصوم ويصلي ويتصدق ويفعل الطاعات، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويخشى ألا يقبل منه ذلك فهو يخلص لله سبحانه وتعالى، ويتوجه إليه بالدعاء أن يستجيب له سبحانه، وأن يتقبل منه هذا العمل، قال تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا) أي: أنهم عملوا أعمالاً سجلتها الملائكة، فآتوا الملائكة ما يكتبونه في الكتب التي بأيديهم. وقوله: (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ)، أي: أنهم يعلمون أنهم سيرجعون إلى الله وسيقفون بين يديه، وأنه سيحاسبهم ويجزيهم سبحانه، فخافوا من ذلك.

تفسير قوله تعالى: (أولئك يسارعون في الخيرات)

تفسير قوله تعالى: (أولئك يسارعون في الخيرات) قال الله عز وجل يمدحهم: {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:61]، أي: ويسابقون فيها، والخير لا بد أن يسبق إليه الإنسان المؤمن، كما قال الله عز وجل: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} [الحديد:21]، وقال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:133]. فالإنسان المؤمن يسارع ويسابق إلى الخير، وأما الشر فهو بطيء عنه ومتباعد عنه، فلا يريد أن يقع فيه؛ لأنه يخاف من الله. فأولئك المؤمنون (يسارعون في الخيرات) أي: في جميع وجوه الخير، وهذه عادة الإنسان المؤمن أنه يحاول أن يحصل الطاعة من كل وجوهها، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فإذا قدر أتى بالفريضة، والنافلة، وأتى بكل ما أمر الله عز وجل به ما استطاع سبيلاً إلى ذلك، فهو يسارع في الخيرات، ويخشى أن يسوف. وأما الإنسان طويل الأمل فإنه يبدأ ويقول: غداً سوف أصلي وغداً سوف أصوم وغداً سوف أتوب وغداً سوف أعمل كذا، ثم لا يأتي غداً هذا الذي يزعمه، وقد يأتي عليه الموت قبل أن يتوب، وأما الإنسان المؤمن فإنه يسارع؛ لأنه لا يدري ما الذي سيحدث له بعد ذلك، فهو يفعل الخير الذي نواه، ولا يؤجله، فلعله يموت قبل أن يفعله، وإن كانت نية الخير يؤجر عليها، ولكن فرق بين من نوى وعمل، وبين من نوى ولم يعمل. والإنسان الذي يعمل تضاعف له الحسنة بعشر أمثالها، إلى أضعاف مضاعفة مما يشاء الله سبحانه، وأما الذي نوى ولم يعمل فلعل الذي منعه عن العمل بخله بالطاعة، فتكون لا له ولا عليه، ولعل الذي منعه شيء من قدر الله سبحانه وتعالى ولو استطاع لفعل، فهذه يأجره الله عز وجل وقد يضاعف له، ولكن ليست المضاعفة للإنسان الذي نوى وعمل كالمضاعفة للإنسان الذي نوى ولم يعمل، والأمر إلى الله سبحانه يفعل ما يشاء. فالإنسان المؤمن يحرص على ألا تضيع منه طاعة من الطاعات، وألا يضيع عليه أجر من الأجور، فهو يسارع ويسابق بالخير كي يملأ كتابه عند ربه سبحانه من الثواب ومن الحسنات، كما قال تعالى: (أُوْلَئِكَ)، أي: المؤمنون (يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)، أي: سبقت لهم من الله عز وجل السعادة فسارعوا في الخيرات، وقالوا: معناها: هم من أجل الخيرات سابقون فهم مسابقون لغيرهم، وسابقون لهم في الطاعة، كما قال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] قال تعالى: (وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)، أي: لجنة رب العالمين هم من السابقين الذين يحرصون على ذلك، فسبقوا غيرهم، وسبقت لهم من ربهم الحسنى، فهم سابقون. وقد قال الله عز وجل عن هؤلاء: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا} [الأنبياء:101]، أي: عن النار، {مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101].

تفسير قوله تعالى: (ولا نكلف نفسا إلا وسعها)

تفسير قوله تعالى: (ولا نكلف نفساً إلا وسعها) قال الله سبحانه: {وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [المؤمنون:62]. لما ذكر الله عز وجل الخيرات والمسارعة إليها فلعل الإنسان يقول: لا أطيق أن أفعل كل شيء، فالله عز وجل يقول له: لا يكلفك الله كل شيء وأنت لا تقدر عليه، ولكن افعل ما استطعت، فما تستطيع إليه سبيلاً فافعله وسارع إليه، كما قال تعالى: (وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)، وقال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وقال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق:7]. فلا يكلفك الله عز وجل من العمل إلا ما تطيق، بل دون ما تطيق، وكل ما فرضه عليك فهو أقل مما تطيق، وانظر مثلاً إلى الصلاة، فقد كلفك الله عز وجل بخمس صلوات في اليوم والليلة، فأنت تصلي في اليوم والليلة خمس صلوات، سبع عشرة ركعة، وأنت تصلي معها نوافل اثنتي عشرة ركعة وزيادة، فأنت تطيق أكثر مما فرض الله سبحانه وتعالى عليك، وقد يقوم الإنسان من الليل قياماً طويلاً وهو يطيق هذا القيام، ويأتي رمضان على الإنسان فيصلي التراويح، ويصلي التهجد، ويصلي الفريضة، ويصلي نوافل بالليل وبالنهار، فهي صلوات كثيرة يطيقها الإنسان، والله عز وجل لم يكلفك كل هذا، وإنما كلفك بخمس صلوات في اليوم والليلة، وأما الباقي فهي نافلة إن شئت فعلت، وإن شئت لم تفعل، فالله سبحانه فضله عظيم، قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]. وفي الإنفاق يأمرك أن تنفق، فتبدأ بالنفقة الواجبة عليك، فيقول لك النبي صلى الله عليه وسلم: (أبدا بنفسك، ثم بمن تعول)، فلست مكلفاً بأن تعطي كل العائلة مالاً إذا كنت لا تملك شيئاً، بل لا تعط أحداً حتى تبدأ بنفسك أنت. فإن كان معك أكثر من ذلك فإن عليك أن تعول أولادك، وزوجتك، وخادمك، وأمك وأباك، فتبدأ بالأهم وبعد ذلك بالمهم وهكذا، فتكلف في الإنفاق أن تنفق بقدر الواجب الذي عليك، وإذا فرض الله عليك الزكاة كلفك أن تخرج ما لا يشق عليك، وقد شرعت الزكاة للرفق والمواساة، فكانت الزكاة مبناها على أمر الرفق بالمعطي الغني الذي يعطي هذه الزكاة، والمواساة للإنسان الفقير، من غير أن تضر بمالك، فجعلت الزكاة في الذهب والفضة ربع العشر، أي: اثنين ونصفاً في المائة، وهو شيء يسير لا يشق عليك، كما قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]. وأما زكاة الزروع والثمار إذا كانت تروى بالسقي وبالتعب منك فإن الواجب في ذلك نصف العشر، وأما إذا كانت تسقيها الأمطار ولا تتعب فيها فإن الواجب في ذلك العشر، والواحد من العشرة أو الواحد من العشرين شيء يسير، فالله عز وجل بفضله وبكرمه جعل الإنفاق الواجب عليك شيئاً يسيراً وليس شيئاً كثيراً. وعندما أمرك أن تحج إلى بيته الحرام لتطيع الله وتوحده سبحانه، وتقيم الشعيرة الذي نادى إليها إبراهيم، فإنه لو شاء لجعله واجباً عليك كل سنة، ولكنه جعل الحج والعمرة في العمر كله مرة واحدة، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لما سألوه عندما قال: (إن الله فرض عليكم الحج فحجوا قالوا: أكل عام يا رسول الله؟ قال: لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم) إلى آخر الحديث، فجعل الحج والعمرة مرة واحدة، وهذه المرة الواحدة أيضاً مقيدة بالاستطاعة والقدرة، كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97]. وهكذا في كل طاعة لله سبحانه لا يُكلف الإنسان ما يشق عليه فيستحيل أن يفعله، وإنما يكلف بالشيء الذي قد يكون فيه شيء من الجهد والتعب حتى يؤجر، وهو أيضاً يقدر على ذلك، ويقدر على ما هو أشبه به.

تفسير قوله تعالى: (بل قلوبهم في غمرة من هذا)

تفسير قوله تعالى: (بل قلوبهم في غمرة من هذا) ولكن كأن الكتاب الذي ينطق عليك بالحق يكون يوم القيامة، تأخذه من صحيفة الحسنات وصحيفة السيئات. قال سبحانه: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} [المؤمنون:63]، يعني: هؤلاء الذين أشركوا بالله وكذبوا الرسول صلوات الله وسلامه عليه معرضون عن الكتاب، ومعرضون عن نصح ربنا ونصح نبينا صلوات الله وسلامه عليه، وقلوبهم في غمرة، أي: مغمورة، تقول: هذا الغمر مغطٍ وجه الأرض، فالقلوب مغطاة، أي: عليها أغلفة وحجب وعماء، فهم في عماء وفي غطاء وفي غفلة وفي عماية عن القرآن، وعن هذا النصح الذي في كتب الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ). فقلوب هؤلاء المشركين وقلوب هؤلاء الفجار والعاصين في حيرة، وفي عمى عما وصف الله عز وجل من أعمال البر، فهم عنها معرضون، فيسمعون الأمر بالصلاة ولكن القلوب غافلة، وليست حاضرة، ويسمعون الأمر بالصيام ويرون الناس صياماً في رمضان وهم مفطرون يشربون السجائر ولا يريدون أن يصوموا. فقلوبهم في غفلة، وهم غافلون عن العقوبة التي تكون يوم القيامة وغافلون عن عذاب الله سبحانه وتعالى، وهنا يخبرنا سبحانه: أن لهم أيضاً أعمالاً من دون ذلك. فالقلوب في غفلة عن الثواب، وهم معرضون عن الأعمال الصالحة، وأعمالهم دون الصلاح، أي: أنها من الأعمال الفاسدة والرديئة، يعني: ولهم أعمال في المعاصي رديئة وقبيحة أيضاًَ يفعلونها. فهم في إعراض عن الطاعة وعن الصلاة وعن الصوم، وعن الأفعال التي يتسابق بها المؤمنون إلى الله عز وجل، فهؤلاء العصاة في غفلة عن ذلك، وزيادة على ذلك هم في معاص وذنوب وأعمال دون ذلك. (هُمْ لَهَا عَامِلُونَ)، أي: من معاص ونحو ذلك، فلهم خطايا قد سجلها الله عز وجل وكتبها عليهم قبل ذلك. قال تعالى: (وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ)، أي: نحن نعلم أنهم سيعملون معاصي، وقد كتبنا ذلك عندنا، وسيفعلون ما قلناه، فيقعون في المعاصي يوماً من الأيام فقوله: (هُمْ لَهَا عَامِلُونَ)، أي: سيعملونها.

تفسير قوله تعالى: (حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون)

تفسير قوله تعالى: (حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون) قال تعالى: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} [المؤمنون:64]. والإنسان المترف: هو المنعم، فتنعم الإنسان في الدنيا مدعاة إلى الترف، ومدعاة إلى البعد عن الله، فتجد المنعم المرفه ينام الليل ولا يقوم لصلاة الفجر؛ لأن السرير أحلى عنده من أن يقوم لله سبحانه وتعالى. فهم مترفون قد أترفوا بالنعم التي من المفروض على الإنسان أن يشكر الله عز وجل عليها، وأن يقدرها بالشكر، وأن يقدم العمل الصالح الذي يوفقه الله عز وجل به لأن يدخل الجنة، ولكن هؤلاء لا يشكرون الله على نعمه، بل يعرضون عنه، ومنهم المشركون الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم لما رأوا أن الله عز وجل أنعم عليهم بالنعم أشركوا في عبادته وعبدوا غيره سبحانه، وجعلوا بهيمة الأنعام قسمين: فقسم لله وقسم لآلهتهم، فما كان لله فإنه يصل إلى آلهتهم، وما كان لآلهتهم فلا يجعلونه لله ولا يصل إلى الله. فهؤلاء المشركون لما أنعم الله عز وجل عليهم عبدوا غيره، فإذا جاءتهم البأساء والضراء يدعونه وحده سبحانه وتعالى، فلما تعنتوا على النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم ربه سبحانه فقال: (اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف)، أي: مثل السنين التي أصابت أهل مصر، أي: سبع سنوات عجاف، فطلب من ربه أن يضيق عليهم، لكي يرجعوا إليه، فقد كانت عادتهم أنهم في وقت الرخاء يشركون، وفي وقت البلاء يهرعون إلى النبي صلى الله عليه وسلم: ادع لنا ربك، كما فعل بنو إسرائيل مع موسى، وكما فعل فرعون مع موسى. قال سبحانه: (حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ)، والعذاب هنا هو العذاب الدنيوي؛ لأن العذاب الأخروي لن يرجعوا منه مرة أخرى، وأما في الدنيا فقد يتوبون ويرجعون إلى الله عز وجل، فيكشف عنهم العذاب، وأما يوم القيامة فلا كشف للعذاب عن هؤلاء. قالوا: والمقصد من هذا العذاب -أي: ما كان من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم عليهم- هو ابتلاؤهم، فإذا بهم يجأرون، أي: يصرخون ويضجون ويستغيثون ويرفعون أيديهم لربنا ليكشف عنهم هذا البلاء الذي هم فيه، فقد ابتلاهم الله عز وجل بالقحط، وبالجوع، حتى أكلوا العظام والميتة والكلاب والجيف والجلود، فما وجدوا شيئاً إلا وأكلوه. فلما اشتد عليهم الأمر ذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وجلسوا يبكون ويطلبون منه صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهم، وكان رحيماً صلى الله عليه وسلم، فدعا ربه سبحانه أن يكشف عنهم هذا العذاب، وقد ذكر الله عز وجل في سورة الدخان أنه سبحانه وتعالى أرسل عليهم هذه الشدة العظيمة، وبعد ذلك قال: {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان:15]، أي: سترجعون وتكفرون مرة ثانية، وفعلاً رجعوا إلى ما كانوا عليه ولم يدخلوا مع النبي صلوات الله وسلامه عليه، فكأن هذه الآية إشارة إلى ذلك، وفصلها في سورة الدخان. قال سبحانه: (حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ)، أي: بالعذاب في الدنيا، سواء ما كان من القحط الذي نزل عليهم، أو ما كان من القتل بالسيف في يوم بدر، وقتل رؤسائهم، فإذا هُمْ يَجْأَرُونَ، أي: الذين بقوا يجأرون ويضجون إلى الله عز وجل.

تفسير قوله تعالى: (لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون فكنتم على أعقابكم تنكصون)

تفسير قوله تعالى: (لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون فكنتم على أعقابكم تنكصون) قال سبحانه: {لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنصَرُونَ} [المؤمنون:65]، أي: إذا جاء عليكم العذاب فلن تقدروا أن تمتنعوا من بطشنا ومن عذابنا. (إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنصَرُونَ)، وكأن المعنى: أن هؤلاء الذين قتلوا لا أحد يجيرهم، ولذلك وقف عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم في قليب بدر يناديهم صلى الله عليه وسلم: (يا عتبة بن ربيعة! ويا شيبة بن ربيعة! ويا وليد بن عتبة! ويا أبا جهل بن هشام هل وجدتهم ما وعد ربكم حقاً؟ فيقول له عمر: ما تسمع من أجساد قد جيفت -يعني: لا تسمع قولك- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما أنتم بأسمع منهم)، فالله عز وجل أسمعهم ما قاله النبي صلوات الله وسلامه عليه، وقد وجدوا ما وعد ربهم حقاً ولم يعد لهم الآن توبة ولا شيء، فقد صاروا أمواتاً، وصاروا إلى النار. وأما هؤلاء الأحياء فرجعوا يتعنتون، وجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في يوم أحد، ثم رجعوا بعد ذلك في الخندق، إلى أن أعز الله عز وجل جنده، وقال لهؤلاء: (لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ)، أي: لا تصرخوا، ولا تستغيثوا. (إِنَّكُمْ مِنَّا) أي: من عذابنا (لا تُنصَرُونَ) قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ * مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ} [المؤمنون:66 - 67]، أي: قبل ذلك -قبل أن ينزل عليكم هذا العذاب بالقتل وبغيره- كانت تتلى عليكم هذه الآيات، (فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ)، أي: تعرضون عن سماع النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ملأ الكبر قلوبهم، وجعلهم يعرضون عن سماع ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الاستفادة منه. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة المؤمنون [63 - 67]

تفسير سورة المؤمنون [63 - 67] ذكر الله عز وجل في هذه الآيات أن قلوب الكافرين في غفلة وضلالة عن الدين، وأن الله عز وجل عندما ينزل عليهم العذاب يوم القيامة إذا بهم يستغيثون به أن يكشف عنهم ما هم فيه، فاستغاثتهم بالله أن يرفع عنهم العذاب لا تنصرهم من عذاب الله؛ لأنهم كانوا في الدنيا مستكبرين على الحق تاركين له وراء ظهورهم.

تفسير قوله تعالى: (بل قلوبهم في غمرة من هذا)

تفسير قوله تعالى: (بل قلوبهم في غمرة من هذا) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة المؤمنون: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ * حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ * لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنصَرُونَ * قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ * مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ * أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ * أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} [المؤمنون:63 - 69]. في هذه الآيات من سورة المؤمنون يقول الله عز وجل عن الكفار المشركين الذين لم يستجيبوا للنبي صلى الله عليه وسلم مع ما بين لهم من الآيات وما دعاهم إليه من الهدى: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} [المؤمنون:63] أي: قلوبهم في غفلة وعماية وضلالة من هذا التذكير ومن هذا الدين الذي جئت به، ولهم أعمال قبيحة من دون ذلك، كطعنهم في القرآن وطعنهم في النبي صلوات الله وسلامه عليه، و (هُمْ لَهَا عَامِلُونَ) أي: قد عرفها الله عز وجل وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فلا تيأس من هؤلاء وادعهم إلى الله عز وجل، ولا تحزن عليهم إذا أخذهم عذاب رب العالمين سبحانه، فهم على ما عملوا في كفرهم وإعراضهم سيعملون أعمالاً أخرى قبيحة.

تفسير قوله تعالى: (حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون)

تفسير قوله تعالى: (حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون) قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} [المؤمنون:64] والمترفون من الناس هم المنعمون، وهؤلاء أكثر الناس عدم استجابة لأنبياء الله عليهم الصلاة والسلام، فكلما كانوا في دعة وفي رغد من العيش وفي علو في المناصب كلما كان إعراضهم أشد وبعدهم عن الدين أكثر، فهم فيما نعمهم الله عز وجل فيه مبسوطون بهذا الشيء مسرورون به، لا يريدون أن يدخلوا في دين النبي صلى الله عليه وسلم، حتى لا ينقص شيئ في هذه الدنيا من رئاستهم وعلوهم، فالله عز وجل يملي لهم حتى إذا أخذهم لم يفلتهم. ومعنى قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ) أي: كلما يأتيهم العذاب من عند الله سبحانه في أي صورة من صوره كالقتل في يوم بدر وغيرها من أيام نصر المؤمنين عليهم فأخذهم الله عز وجل بهذا العذاب. قال تعالى: ((إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ)) أي: كلما أتاهم شيء من عذاب الله عز وجل فإنهم يصرخون ويضجون ويستغيثون أن يكشف عنهم هذا العذاب مع أنهم في كفرهم وضلالهم.

تفسير قوله تعالى: (لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون)

تفسير قوله تعالى: (لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون) قال الله سبحانه وتعالى: {لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنصَرُونَ} [المؤمنون:65] وهم يصرخون ويستغيثون الله عز وجل فيقال لهم: لا تصرخوا ولا تجأروا ((إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنصَرُونَ))، وحين أراد الله عز وجل أن يعذبهم وأن يأتي نصر الله عز وجل للمؤمنين يجأر الكافرون ويستفتحون ويدعون ربهم: اللهم من كنت غضبت عليه منا فأته بهذا العذاب، اللهم أقطعنا للرحم، يقصدون النبي صلى الله عليه وسلم وهو لم يأت بقطيعة الرحم عليه الصلاة والسلام، وإنما هم بإعراضهم وتكذيبهم هم الذين صنعوا بأنفسهم ذلك، فقد جاء ليصل الأرحام عليه الصلاة والسلام، وهم كانوا يعترفون بذلك أنه جاء يأمرهم بصلة الأرحام، وبالصلاة، ويأمرهم صلوات الله وسلامه عليه بالإنفاق على ذوي القربى، ويأمرهم بالزكاة، ويأمرهم بالخير كله عليه الصلاة والسلام، عرفوا ذلك ومع ذلك يقولون: هو أقطع الناس للرحم صلوات الله وسلامه عليه، قال لهم ربنا لما جاءهم العذاب: لا تجأروا، لا تصرخوا اليوم (إنكم منا) أي: من عذابنا (لا تنصرون).

تفسير قوله تعالى: (قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون)

تفسير قوله تعالى: (قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون) قال الله تعالى: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ} [المؤمنون:66] والمعنى: أنهم كانوا يعرضون فلا يسمعون للنبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا يغطون وجوههم حتى لا يروا النبي صلى الله عليه وسلم فيعرضون عنه. ومعنى (ينكصون) أي: يرجعون ويتقهقرون إذا رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الله تعالى، فيبتعدون عنه صلى الله عليه وسلم، ويرجعون على ظهورهم.

تفسير قوله تعالى: (مستكبرين به سامرا تهجرون)

تفسير قوله تعالى: (مستكبرين به سامراً تهجرون) قال الله تعالى: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ} [المؤمنون:67] هؤلاء المشركون كانوا يستمعون إلى القرآن ولكن لا يريدون أن يدخلوا في دين النبي صلى الله عليه وسلم، والقرآن عظيم، وهم يعرفون ذلك، وله حلاوة، وهم يحبون أن يستمعوا إلى حلاوة القرآن، أما أن يؤمنوا به، فهم يسمعون القرآن لجماله لا أنهم يريدون أن يدخلوا في الدين، فإذا أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأمر لا يفعلونه؛ لأنهم هم الذين يأمرون وينهون، ولذلك كانوا يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم صادق أمين عليه الصلاة والسلام لا يكذب، ويقول أبو جهل: كنا وبنو هاشم كفرسي رهان، أطعموا فأطعمنا، وسقوا فسقينا، حتى إذا كنا وهم قاب قوسين أو أدنى قالوا: منا نبي، وأنى لنا ذلك! فالأمر أمر عناد واستكبار من أن يكونوا أتباعاً لبني هاشم. وكانوا يقولون كما ذكر الله عنهم: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] أي: أنزل هذا القرآن على محمد من بني هاشم عليه الصلاة والسلام ولم ينزل على الوليد بن المغيرة أو عروة بن مسعود الثقفي أو على غني آخر من أغنياء قريش. ومعنى ذلك: أنهم لم يتبعوه ولم ينظروا إلى الحق الذي جاء به وإنما نظروا إليه صلى الله عليه وسلم أنه أفضل منهم فلم يدخلوا في الدين، فربنا سبحانه وتعالى أخبر عن حال هؤلاء أنهم نكصوا عن دين الله وتراجعوا القهقرى، ولم يدخلوا دين الله، مستكبرين بالمكان الذي هم فيه، فهم أهل الحرم، فإذا جاء وقت الحج خرج الناس إلى عرفة، وعرفة من الحل، أما هم فلا يصعدون جبل عرفة؛ لأنهم أهل الحرم فهم مميزون على غيرهم، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يفيض هو ومن معه من هؤلاء القرشيين من حيث أفاض الناس، فيخرجون من الحرم إلى الحل -وهو جبل عرفات- ثم يرجعون إلى مزدلفة ومنى فيجمعون في الحج بين الحل والحرم، فالكفار كانوا يعتقدون أنهم أعظم الناس حرمة، وأن لهم حقوقاً على الناس، وأن الناس أتباع لهم وليسوا أتباعاً لأحد، هذا مع بعدهم عن دين الله عز وجل وعبادتهم للأصنام من دون الله سبحانه، فهم يستكبرون عن آيات الله لأنهم أهل الحرم، والمفترض أن الذي يعيش في الحرم يتواضع لأنه في هذا المكان الأمين العظيم الذي فيه بيت الله عز وجل. وقوله تعالى: (سَامِرًا تَهْجُرُونَ) (سامر) تأتي مفرداً وجمعاً، وهي بمعنى: سمار، والسمر: هو حديث الليل في ضوء القمر، ويتسامرون أي: يجلسون ويتكلمون بالليل في أمور دنياهم، ومنه الأسمر، وهو لون بين الأسود والأبيض كلون القمح والحنطة، فالكفار يتسامرون في الليل ويطعنون ويسبون النبي صلى الله عليه وسلم، فهم مستكبرون بالحرم وساهرون بالليل يهجرون.

القراءات في قوله تعالى (تهجرون)

القراءات في قوله تعالى (تهجرون) وقوله تعالى: (تَهْجُرُونَ) فيها قراءتان: قراءة نافع المدني: (تُهجرون)، وقراءة باقي القراء: (تَهجرون)، و (تُهجرون) من أهجر، ومنه الهُجر في الكلام بمعنى: الفحش والكلام القبيح، فهم يتكلمون بالفاحش من القول والقبيح من الطعن في النبي صلى الله عليه وسلم، و (تهَجرون) من الهجر، أي: قطيعة النبي صلوات الله وسلامه عليه، ومنه الهجرة أي: قطع هذا الشيء وانتقل عنه إلى غيره، فهم يقاطعون النبي صلى الله عليه وسلم، أو من الهجر بمعنى الهذيان والتخريف، يقال: المريض يهجر، بمعنى: يخرف، و (سامراً تهجرون) أي: يخرفون كهذيان المريض ويخلطون في الكلام، وكانوا يسهرون ويقولون عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مجنون، وهذا القول من خرافاتهم وأكاذيبهم على النبي صلى الله عليه وسلم، وهم يعرفون أنه ليس بمجنون صلوات الله وسلامه عليه، ويقولون عنه: ساحر، وأنه جاء بقطيعة الرحم وأنه كذاب، فيخلطون في الأقوال، والإنسان المجنون لا يميز بين الحق والباطل وبين الصواب والخطأ، وهؤلاء لا يميزون في كلامهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، فهم يهجرون أي: يهجرون ويخرفون في القول ويتكلمون بالفحش في النبي صلوات الله وسلامه عليه، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الكلام في الليل، وكأنه من عادة المشركين، فهم يسهرون الليل من أجل أن يتكلموا في حقوق الناس أو ينشئوا الأشعار مثلاً.

كراهة السمر في الليل

كراهة السمر في الليل جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إنما كره السمر حين نزلت هذه الآية {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ} [المؤمنون:67] والليل قد جعله الله عز وجل محلاً للنوم، فقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} [الفرقان:47]، فالنهار للاستيقاظ والليل وقت للنوم، أو إذا قمت بالليل فصل واعبد ربك سبحانه وتعالى، وليس الليل محل السمر، إلا الإنسان العاصي البعيد عن الله وعن طاعته، فـ ابن عباس رضي الله عنهما ذكر في هذه الآية أن الله تعالى ذم أقواماً يسمرون في غير طاعة الله عز وجل، إما في هذيان وتخريف وكلام فارغ، أو في أذى وطعن وتدبير مكائد للناس. وكان سليمان بن مهران الأعمش من علماء وفقهاء التابعين ومن المحدثين كان يقول: إذا رأيت الشيخ ولم يكتب الحديث فاصفعه فإنه من شيوخ القمر، ومعنى كلامه: أنه لا يستحق الاحترام وإنما يستحق الضرب على قفاه؛ لأنه ضيع عمره وحياته في السهر بالليل للكلام والهذيان والتخريف حتى جاء في آخر حياته ولم يعرف شيئاً من سنة النبي صلوات الله وسلامه عليه، وقد كان بعض العلماء يجتمعون في ليالي القمر فيتحدثون مع الخلفاء والأمراء ولا يحسن أحدهم أن يتوضأ، فيحسنون كل شيء إلا أمر دين الله تعالى. وجاء في صحيح مسلم عن أبي برزة الأسلمي قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤخر العشاء إلى ثلث الليل ويكره النوم قبله والحديث بعده)، ومعنى ثلث الليل: أن الليل من المغرب إلى الفجر يقسم أثلاثاً، فالثلث الأول كان يصلي النبي صلى الله عليه وسلم فيه صلاة العشاء أحياناً وليس دائماً، وكان يخشى أن يشق على أصحابه صلى الله عليه وسلم من التأخير، وكان يحب أن يؤخر العشاء، وكان يكره النوم قبل صلاة العشاء لأنه سيضيع صلاة العشاء، ويكره الحديث بعدها وهو السمر والسهر، فمن صلى العشاء وأوتر ثم نام فقد غفر الله عز وجل له في نومه. فالإنسان الذي يسهر بعد صلاة العشاء في غير عمل صالح فإنه يجلب على نفسه ذنوباً بالسمر واللهو، والطعن في أعراض الناس بالغيبة والنميمة، ولذلك لا ينبغي للإنسان أنه يسمر إلا أن يكون في مدارسة العلم وفي طاعة الله عز وجل. يقول العلماء: وأما الكراهية للنوم قبلها فلئلا يعرضها للفوات عن كل وقتها أو عن أفضل وقتها، ولهذا قال عمر رضي الله عنه: فمن نام قبل العشاء فلا نامت عيناه، وهذا دعاء على الذي ينام قبل العشاء ويضيع صلاة العشاء. والله عز وجل يمحو عن المحافظ على الصلوات الخمس في أوقاتها خطاياه، فقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تحترقون تحترقون، فإذا صليتم الفجر غسلتها،) يعني: الذنوب، ولا يزال الإنسان على ذلك حتى يصلي صلاة العشاء، والله عز وجل يذهب عنه من الخطايا ومن الذنوب، فالمفترض بعد ذلك إذا كان ربنا كفر عنك السيئات فلا تعمل سيئات جديدة باللهو وبالكلام الفارغ بعد العشاء. كذلك السهر إلى ساعة متأخرة من الليل كما يحدث عند كثير من الناس أنهم يسهرون إلى الساعة الثانية عشرة أو الواحدة أو الثانية بعد منتصف الليل، ثم بعد ذلك ينامون فيضيعون صلاة الفجر ويستيقظون بعد شروق الشمس ثم يصلون صلاة الصبح، فيضيعون على أنفسهم الفضيلة ويكتسبون من الآثام، فكره النبي صلى الله عليه وسلم الحديث بعدها لما يجر هذا الحديث إلى تضييع العبادة واكتساب المآثم. فإذا ذهب إنسان إلى آخر بعد العشاء لحاجة من الحاجات فلا يطول عليه السهر فيضيع عليه وقته، فلا يستطيع أن يقوم من الليل، ولعله يضيع على نفسه صلاة الفجر، فاحرصوا على أوقاتكم، وكل إنسان مسلم يضن بوقته أن يضيعه في لهو ولعب ولغو، فإن الأوقات محسوبة عليك، والوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، فإن لم تقطع وقتك بأخذ الثواب فاتك هذا الوقت ولن يرجع إليك مرة ثانية، فلذلك اجعل لنفسك في يومك وقتاً يكون لذكر الله عز وجل من نوافل وغيرها، واعمل لنفسك وقتاً لطلب العلم ولقيام الليل، ولا تضيع وقتك ووقت غيرك، فالوقت بعد العشاء إما أن يكون للنوم، أو لذكر الله سبحانه وتعالى، فإذا كنت في ذلك فهذا خير، وإذا كنت في غير ذلك فلا. والدليل على جواز السمر بعد العشاء لذكر الله عز وجل ونحوه: ما جاء من أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأتي إليه بعض أصحابه أحياناً ويجلسون عنده جزءاً من الليل، كـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقد جاء حديث طويل في ذهاب أبي بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ودروسه معه بالليل ثم رجوعه إلى بيته. وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة المؤمنون [64 - 71]

تفسير سورة المؤمنون [64 - 71] يخبر الله سبحانه في هذه الآيات أنه إذا أخذ المنعمين المترفين بعذاب من عنده سبحانه إذا بهم يصرخون ويستغيثون ويضجون، لكن ذلك لن ينفعهم؛ لأنهم كفروا بالله وأشركوا معه غيره، ولن يستطيع أحد على نصرتهم، فقد كانوا يسمعون آيات الله من النبي صلى الله عليه وسلم فيرجعون القهقرى ويبتعدون عنه حتى لا يسمعوا القرآن، وهم مع ذلك يستكبرون بمكانهم ومحلهم الذي هو مكة، ويتسامرون بالكلام القبيح الذي فيه طعن في النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إن الله نعى عليهم عقولهم حيث إنهم كانوا يسمعون القرآن ولا يفهمونه ولا يتبعونه.

تفسير قوله تعالى: (حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون إنكم منا لا تنصرون)

تفسير قوله تعالى: (حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون إنكم منا لا تنصرون) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ * لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنصَرُونَ * قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ * مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ * أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ * أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ * أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ * وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:64 - 71]. يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن المكذبين الذين كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم فجعلهم الله عز وجل عبرة لغيرهم، كالذين من قبلهم لما كذبوا المرسلين أتاهم العذاب من عند رب العالمين. قال سبحانه: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ} [المؤمنون:64]، أي: المنعمين منهم، {بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} [المؤمنون:64]، والعذب الذي كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن عذاباً عاماً؛ لأن الله سبحانه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33]، ولكن كان عذاباً لمجموعة من الناس بالقتل، قالوا: إنه لم يمنع عنهم المطر ولم يصابوا بالقحط، حتى دعا النبي صلى الله عليه وسلم عليهم وقال: (اللهم أعني عليهم بسبع كسني يوسف)، فلما جاءهم مثل هذا العذاب جأروا لله عز وجل، ودعوا واستغاثوا بالنبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهم ربه ليكشف عنهم الذي هم فيه، كما ذكر الله عز وجل في سورة الدخان: {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ * يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ} [الدخان:15 - 16]، فقد أخبر أنه سيرفع عنهم العذاب قليلاً من قحط وعدم نزول المطر، ومن جوع، ومن شدة، حتى يرجعوا ويؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الله عز وجل أخبر عنهم، {إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان:15]، أي: إلى غيكم وإلى ضلالكم ولن ينفعكم ذلك. وهنا قال: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} [المؤمنون:64] أي: يصرخون ويضجون، ويستغيثون. قال سبحانه: {لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنصَرُونَ} [المؤمنون:65]، وهذا فيمن كتب الله عز وجل عليهم الشقاوة، وأنهم سيعيشون على الكفر ويموتون عليه، فمنهم من قتل يوم بدر ومنهم من أخذه الله عز وجل بعد ذلك.

تفسير قوله تعالى: (قد كانت آياتي تتلى عليكم مستكبرين به سامرا تهجرون)

تفسير قوله تعالى: (قد كانت آياتي تتلى عليكم مستكبرين به سامراً تهجرون) قال سبحانه مبكتاً لهؤلاء: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ} [المؤمنون:66]، يعني: كنتم لا تستمعون لهذا القرآن ولا لهذه الآيات، ولا تعتبرون بها، بل ترجعون القهقرى فتتأخرون وتبتعدون عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا تستمعوا لما يقوله عليه الصلاة والسلام. قال سبحانه: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ} [المؤمنون:67]، يعني: بمساركم، أو بمحلكم، أو بالمكان الذي أنتم فيه وهو مكة، متعالين لأنكم أهل الحرم وأنكم أفضل من غيركم، وكان ينبغي لهؤلاء وإن كانوا أهل الحرم وقد جاءهم ذكر من الله سبحانه، أن يفتخروا بالقرآن العظيم، وكان المفروض عليهم أن يتبعوا القرآن العظيم الذي نزل من عند رب العالمين، ولكن كان حالهم أنهم (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً)، (سامراً) مفرد جمعها: سمار، أي: تتسامرون، فقد كانوا يسهرون الليل ويقولون الأقوال القبيحة يؤيدون بها ما هم عليه من باطل، ويردون ويطعنون على النبي صلوات الله وسلامه عليه، وقوله: (تهجرون)، أي: تتكلمون بالقبيح من القول، فقال: إنكم بالليل تسهرون لتكيدوا للنبي صلى الله عليه وسلم وتطعنون فيه، فأنتم تهجرون، وكذلك تتكلمون وتهرفون بما لا تعرفون، فأنتم تهجرون، وتتكلمون بكلام الهجر الذي فيه الهذيان.

حكم السمر بعد العشاء

حكم السمر بعد العشاء لقد ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن السمر بعد العشاء، فإذا صليتم العشاء فإما أن تناموا وإما أن تدعوا ربكم، وإما أن تصلوا، لكن الإنسان الذي يسهر ويلهو ويضيع وقته بعد العشاء فهذا لا ينبغي، وفي الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤخر العشاء إلى ثلث الليل ويكره النوم قبلها والحديث بعدها)، فإن الإنسان إذا نام قبل العشاء لعله يغلبه النوم فلا يقوم لصلاة العشاء، وكان يكره الحديث بعدها؛ لأن الإنسان آخر عمل يعمله هو صلاة العشاء، والملائكة قد كتبت هذه الصلاة، وهذه الصلاة كفارة لذنوبه التي بين الصلاتين، فلا ينبغي أن يلهو بكلام تكتب عليه بسببه ذنوب مرة أخرى، فالإنسان لا يزال في المباح حتى يقع في المكروه وحتى يقع في الحرام، فعلى ذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المسامرة بعد العشاء. والكراهية للحديث بعدها إلا أن يكون في ذكر الله عز وجل وفي قراءة القرآن، وفي مدارسة العلم وتعليمه، وفي مصالح المسلمين فهذا جائز، والسهر بالليل للحراسة في سبيل الله عز وجل مباح بل فيه أجر عظيم، فقد جاء عند الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: (عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله)، والليل وإن كان وقتاً للنوم لكن هذا في طاعة لله عز وجل وفي حراسة بلاد المسلمين، فله أجر عظيم على ذلك، وآخر قام يصلي ويبكي من خشية الله سبحانه وتعالى، وليس مقيداً بالليل بل إن بكى بالليل أو بالنهار فله أجر عظيم عند الله سبحانه وتعالى. وجاء في الصحيحين عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه أن أصحاب الصفة كانوا أناساً فقراء، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مرة: (من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس بسادس)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم: وإن أبا بكر جاء بثلاثة وانطلق نبي الله صلى الله عليه وسلم بعشرة، وأبو بكر الصديق ذهب بهم بعد العشاء، وأهل الصفة كانوا يجلسون في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم يتعلمون من النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أراد شيئاً أرسلهم إليه كجهاد ونحوه، وكانوا فقراء، يأتي وقت العشاء وليس عندهم ما يأكلون، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه الذي عنده طعام واحد يأخذ معه ثانياً، والذي عنده طعام اثنين يذهب معه بثالث، والذي عنده طعام ثلاثة يذهب معه برابع وهكذا. فـ أبو بكر الصديق أخذ ثلاثة وانطلق بهم إلى بيته رضي الله عنه، والنبي صلى الله عليه وسلم أخذ عشرة ليطعمهم صلوات الله وسلامه عليه، قال عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق: وإن أبا بكر تعشى عند النبي صلى الله عليه وسلم ثم لبث حتى صلى العشاء ثم رجع فمكث مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء بعد ما مضى من الليل ما شاء الله، يعني: كأن أبا بكر الصديق تعشى قبل صلاة العشاء، وبعد ذلك صلى العشاء ورجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فمكث مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الشاهد: أنه كان يسهر مع النبي صلى الله عليه وسلم في طاعة وذكر وحاجات المسلمين، ففي مثل ذلك يجوز للإنسان أن يسهر بالليل، أما السمر من باب اللهو فلا، لكن من باب ذكر الله عز وجل، ومن باب الإعانة على الطاعة، فهذا جائز. فـ أبو بكر سهر عند النبي صلى الله عليه وسلم حتى قام النبي صلى الله عليه وسلم فقام وانصرف، وكان قبل ذلك قد ذهب بثلاثة من أهل الصفة إلى بيته ليتعشوا. فجاء أبو بكر رضي الله عنه بعد ما مضى من الليل ما شاء الله، فقالت له امرأته: ما أخرك عن أضيافك؟ قال: أوما عشيتهم؟ قالت: أبوا حتى تجيء قد عرضوا عليه فغلبوهم، أي: كأنهم استحيوا ألا يأكلوا وأبو بكر الصديق غير موجود، فرفضوا أن يأكلوا في بيته حتى يأتي أبو بكر، وكان المفترض طالما أنه أخذهم للعشاء أن يأمر أهل البيت أن يعشوهم فيتعشوا وينصرفوا، ولكن رفض الضيوف حتى يأتي أبو بكر رضي الله عنه. وفي لفظ في صحيح البخاري أن أبا بكر رضي الله عنه غضب من ذلك: لماذا تحرمونا من الأجر والثواب؟ ولماذا لم تأكلوا حتى هذا الوقت؟ فغضب أبو بكر وأمرهم أن يأكلوا، فحلفت امرأته ألا تطعم الطعام حتى يطعم، كأنها غضبت لغضب أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فحلف أبو بكر ألا يأكل من الطعام، والأضياف حلفوا ألا يأكلوا حتى يأكل أبو بكر، وكأن الضيوف لهم وجهة نظر وهي أنهم لو تعشوا لربما أكلوه كاملاً فيرجع أبو بكر وهم لم يتعش فلن يجد شيئاً، فانتظروا حتى يتعشوا هم وأبو بكر، فحلف أبو بكر ألا يأكل وحلفت المرأة ألا تأكل حتى يأكل أبو بكر، وحلف الأضياف ألا يأكلوا حتى يأكل أبو بكر رضي الله عنه، لقد حلف مغضباً رضي الله تبارك وتعالى عنه بسبب الذي فعلوه، ولكن مع ذلك الرجوع للحق أحق، فلما حلف الجميع ألا يأكلوا قال: أكفر عن اليمين ونأكل، فأكل معهم رضي الله عنه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه). وربنا سبحانه وتعالى قال لنا في القرآن: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} [البقرة:224]، فتجعل يمينك بالله عرضة وصادة عن فعل الخير فتمتنع من الخير وتقول: لقد حلفت، بل كفر عن اليمين وافعل الخير ولو حلفت. والمقصود أن أبا بكر رضي الله تبارك وتعالى عنه أكل فأكلت المرأة وأكل الأضياف، وهنا كان العجب! قال: فجعلوا يأكلون وجعلوا لا يرفعون لقمة إلا ظهر من أسفلها أكثر منها، فكانت بركة من الله عز وجل لـ أبي بكر رضي الله عنه، جزاء ما أخذ الأضياف ليأكلوا معه وحلف ألا يأكل ثم كفر عن يمينه وأكل معهم، فقال لامرأته: يا أخت بني فراس! ما هذا الذي حصل؟ فقالت: وقرت عيني إنها الآن لأكثر قبل أن نأكل منها، فأكلوا وبعث بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل منها، فكانت من الله عز وجل بركة عظيمة أن يأكل أبو بكر ومن معه والطعام لا ينفد. والشاهد من الحديث: أن أبا بكر كان يسهر عند النبي صلى الله عليه وسلم فيتعلم منه، حتى يقوم النبي صلى الله عليه وسلم فيقوم أبو بكر ويرجع إلى بيته رضي الله تبارك وتعالى عنه، فهذا قيد للنهي عن المسامرة بعد العشاء فهي جائزة في مدارسة العلم والطاعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونحو ذلك، أما في اللهو واللعب فهذا لا ينبغي.

تفسير قوله تعالى: (أفلم يدبروا القول)

تفسير قوله تعالى: (أفلم يدبروا القول) قال الله سبحانه وتعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ} [المؤمنون:68]، وهنا ينكر على المشركين وينعي عليهم أين عقولكم؟ هذا القرآن الذي جاء من عند رب العالمين سبحانه، وكانوا يستمعونه ويقولون: إنه كلام جميل، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، فهل كان استماعهم لهذا القرآن العظيم من النبي صلى الله عليه وسلم مجرد استماع كالذي يستمع لأغنية فتعجبه ولا ينتبهون لما يقول؟ فهذه مصيبة على من يستمع إلى القرآن على أنه كلام جميل، ولا يتدبر ما فيه، قال تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون:68]، أي: أفلا يفهمون هذا الذي يستمعون إليه، {أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ} [المؤمنون:68]، (أم) يقولون: إنها منقطعة فيها معنى الإضراب ومعناها: (بل قد جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين)، فالمعنى: هؤلاء ما تدبروا، ولو كانوا يتدبرون لفهموا هذا الشيء، ولكن كانوا يستمعون بآذانهم فقط. (أَمْ جَاءَهُمْ) أي: بل قد جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين، وهذا سبب الإعراض أنهم قالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22]، أي: نحن نفعل ما كان آباؤنا يفعلونه ولن نفعل غير ذلك، فكأن الله عز وجل يقول: (بل قد جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين)، فلماذا لا يتدبرون هذا القرآن؟ وقال في الآية الأخرى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، أي: هل على كل قلب قفل أقفل به هذا القلب وأغلق فلا يتدبر القرآن؟

تفسير قوله تعالى: (أم لم يعرفوا رسولهم وأكثرهم للحق كارهون)

تفسير قوله تعالى: (أم لم يعرفوا رسولهم وأكثرهم للحق كارهون) قال تعالى: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} [المؤمنون:69]، أنكر على هؤلاء ونعى عليهم عدم فهمهم، هل هو بسبب عدم معرفة هذا الرسول الذي كنتم تصفونه بأنه الصادق الأمين؟ ومستحيل أن يسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم أحد منهم فلا يعرفه، فالله عز وجل يقول: إن الذي يرفض أن يسمع القرآن ولا يتدبره ولا يفهمه كالأنعام، أو كالذي لم يعرف الرسول الكريم. يقول سبحانه: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [المؤمنون:70]، (أم يقولون) أي: بل أيقولون إنه مجنون، وقد قالوا ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الحقيقة أنهم غير مقتنعين بما يقولون، يقولون عنه: كذاب، وهم في أنفسهم يشعرون أنه صادق، فهم لم يسمعوا منه كذباً قبل ذلك، ويقولون عنه مجنون وهم لم يروا منه أثراً لهذا الجنون، فهم يقولون ويكذبون، فينعي ربهم عليهم ذلك الكذب الذي يقولونه، {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ} [المؤمنون:70]. بل قد جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم من عند ربه بالحق العظيم، قال تعالى: {بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [المؤمنون:70]، والكافر كاره للحق؛ لأنه يعرف أن الحق يدعوه إليه وهو لا يريد أن يأتي إلى هذا الحق الذي يراه، فقد عرف الحق وعرف الصواب، وعرف توحيد الله، ولكن أبى ذلك، فقد جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم بالحق لكنهم يكرهون الحق حسداً، وبغياً، وتقليداً، فبعضهم يقلد بعضاً، وحسدوا النبي صلى الله عليه وسلم فكرهوا ما جاء به؛ ولذلك يقول الله عز وجل: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:54]، يقصد بالناس هنا النبي صلى الله عليه وسلم، {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا * فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ} [النساء:54 - 55]، فالنبي صلى الله عليه وسلم جاء بالحق، وسبب إعراض هؤلاء وكراهتهم لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم أنهم حسدوه صلوات الله وسلامه عليه، حتى قال أبو جهل: حتى قالوا منا نبي، فأنى لنا بنبي!

تفسير قوله تعالى: (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض)

تفسير قوله تعالى: (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض) قال سبحانه: {وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:71]، فالله عز وجل أتى بهذا القرآن العظيم ليرشد الناس، وليهديهم إلى الصراط المستقيم، ولو كان في هذا القرآن ما يتبع أهواء هؤلاء -وحاشا لكلام رب العالمين أن يتبع أهواء أحد من الناس- فمعنى ذلك: أنه ليس من عند الله سبحانه وتعالى، وما هي أهواؤهم؟ هي أن تكون الآلهة متعددة، ولو فكروا قليلاً هل هناك إله غير الله سبحانه وتعالى لتبين لهم قول الله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22]، أي: لفسدت السماوات والأرض، فسيكون هذا الإله يريد الشمس أن تشرق من المشرق، والثاني يريدها تشرق من المغرب، والأول يريد القمر هنا والثاني يريده في مكان آخر، وعندئذٍ ستتغير السماوات وتفسد، ولكن لما لم يحدث هذا في السماوات ولا في الأرض، ولم يفسد أي منهما، دل ذلك على أن الإله الذي يدبرها إله واحد، وهذا دليل التمانع. قال سبحانه: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ} [المؤمنون:71]، أي: لو جاء في القرآن ما يهواه هؤلاء وما يريدونه لكان هناك إله غير الله سبحانه، وحاشا لله سبحانه، فلو كان هناك إله مع الله لفسدت السماوات والأرض، وفسد الكون، ولكن لم يحدث ذلك، فالقرآن يأتينا بالحق من عند رب العالمين وليس بما تريده أهواء هؤلاء، قال تعالى: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ} [المؤمنون:71]، أي: أتيناهم بفخرهم وبشرفهم وبعزهم وهو القرآن لو اتبعوه، ولكنهم أعرضوا عنه (فهم عن ذكرهم معرضون)، وشرف الدنيا والآخرة هو كتاب رب العالمين، وما جاءنا به من هدى من عنده سبحانه، فمن اتبعه كان له الشرف والعزة في الدنيا وفي الآخرة، ولكنهم أعرضوا عن القرآن فاستحقوا الهوان في الدنيا وفي الآخرة. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة المؤمنون [70 - 80]

تفسير سورة المؤمنون [70 - 80] إن الدعاة إلى الله وعلى رأسهم أنبياء الله لا يأخذون على دعوتهم أجراً ولا يسألونه، فمن العجب أن يتنكر الناس لدعوتهم، كيف لا وهم يدعون إلى صراط رب العالمين، ومن ثم يعرض عنهم المعرضون الذين لم يؤمنوا بالآخرة، الذين علم الله أنهم قد استحقوا العذاب الأليم في الآخرة، بل قد أصابهم بشيء من ذلك في الدنيا فلم يرتدعوا عن غيهم، ولم يشكروا نعم الله عليهم.

تفسير قوله تعالى: (بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون)

تفسير قوله تعالى: (بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. ثم أما بعد: قال الله عز وجل في سورة المؤمنون: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ * وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ * حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ * وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [المؤمنون:72 - 80]. في هذه الآيات من سورة المؤمنون يخبر الله سبحانه وتعالى أنه أتى عباده بهذا الحق العظيم من عنده، قال سبحانه: {بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [المؤمنون:70] يريد بالحق في الآية: القرآن العظيم، إلا أن أكثرهم عن القرآن معرضون كراهية له.

تفسير قوله تعالى: (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض)

تفسير قوله تعالى: (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض) {وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:71]، ذكرنا أن الله عز وجل أنزل هذا القرآن بالحق، فيه الشريعة وفيه المنهج وفيه البيان، وفيه إرشاد القوم بإخراجهم من الظلمات إلى النور، ولكنهم كانوا يحبون الابتعاد عن النبي صلى الله عليه وسلم وعما جاء به من حق من عند رب العالمين، فقالوا كما حكى الله عنهم في سورة ص: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]، فتعجبوا من غير عجب، وكذبوا النبي صلى الله عليه وسلم من غير سبب، ولكن كان الهوى في أنفسهم هو الذي يدفعهم إلى ذلك؛ لأنهم لو اتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم فسيتركون الرئاسة التي هم فيها، ولأن كل إنسان يريد إتباع نفسه هواها يظن أنه لو اتبع النبي صلى الله عليه وسلم فإنه تنازل عما كان عليه، وذلك لأن عقولهم بعدت عن ربهم سبحانه وتعالى، فتجدهم يقولون ما لا يعرفون، ويتكلمون بأشياء مفتراة، ومن ثم عندما يسلمون بعد ذلك يتبين لهم ما كانوا فيه من باطل، فتجد من يدخل الإسلام منهم يعجب من نفسه: كيف كان يعبد غير الله سبحانه! وكيف كان يتعجب من النبي صلى الله عليه وسلم! ويعلم أنه كان خليقاً به أن يتعجب من نفسه في إنكاره على النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الله سبحانه وتعالى أعمى أبصارهم، قال سبحانه: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] فتجد أن الأبصار لا ترى الحجج، وأن القلوب لا تعقل ما يقوله النبي صلوات الله وسلامه عليه، ولذلك لما جاءهم الحق كرهوه حسداً وبغياً على النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ يقلد بعضهم بعضاً، وطلبوا أن يكون هذا الذي يأتي به القرآن مثل الذي هم عليه، وأرادوا وقوع الشرك في هذا القرآن. قال سبحانه: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون:71]، أي: لو كان الأمر بحسب أهواء هؤلاء، فإن أهواءهم متباينة ومتعارضة، وكل منهم يشتهي شيئاً قد لا يشتهيه الآخر ولا يطلبه، فلو نزل القرآن على ما يشتهيه هؤلاء فستفسد السماوات والأرض، ولأن كل شيء قام بالعدل، فلو نزل القرآن بالهوى الذي هم عليه لجاء بالباطل، وحاشا لكلام الله عز وجل أن يكون فيه باطل. قال سبحانه: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون:71]، ولكن الوقع أنها لم تفسد السماوات ولا الأرض ولا من فيهن، فعلى ذلك ما يقول هؤلاء هو الباطل، فأما القرآن فلم يأت إلا بالحق؛ لأنه لو جاء بباطل لفسدت السماوت والأرض ومن فيهن. إن التذكير مهمة القرآن، إذ إنه كتاب ذكر، قال تعالى: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ} [المؤمنون:71]، أي: أتيناهم بهذا القرآن العظيم الذي فيه الذكر، وفيه شرف لهؤلاء لو أنهم اتبعوه، ولكنهم أعرضوا فأنى لهم الشرف. قال تعالى: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:71]، أي: هم عن شرفهم المنوط باتباع هذا القرآن قد أعرضوا، كما هم عن ذكر الله سبحانه وتعالى معرضون، وإعراضهم ليس بسبب أنك أثقلت عليهم أجر دعوتك فأنت لم تسألهم مالاً على دعوتك، قال تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [المؤمنون:72]، (أم) هي المنقطعة بمعنى: بل والهمزة، والمعنى: بل أتسألهم خرجاً؟ والخرج هو الرزق. وقد أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول لهؤلاء: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23] أي: قل لهم يا محمد: لا أريد منكم أجراً ولا رزقاً، وإنما أطلب منكم أن تراعوني في قرابتي، فتدركوا أن بيني وبينكم قرابة ورحماً فارعوا هذه الرحم، ولا تؤذوني، ودعوني أبلغ رسالة الله سبحانه، أما الخراج فإن ربي قد أغناني.

تفسير قوله تعالى: (بل أتيناهم بذكرهم)

تفسير قوله تعالى: (بل أتيناهم بذكرهم) قال تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [المؤمنون:72] أي: رزق ربك خير وأبقى، فأنت لا تنتظر إلا الأجر من الله فإنه: {هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [المؤمنون:72]. و (خرج) و (خراج) فيها للقراء ثلاث قراءات: قراءة الجمهور منهم: المدنيون نافع وأبو جعفر، والبصريون: يعقوب وأبو عمرو وابن كثير المكي وكذلك عاصم الكوفي يقرءونها: (أم تسألهم خرجاً فخراج ربك خير وهو خير الرازقين). وقرأها ابن عامر: (أم تسألهم خرجاً فخرج ربك خير وهو خير الرازقين). وقراءة باقي القراء وهم: حمزة والكسائي وخلف: (أم تسألهم خراجاً فخراج ربك خير). والخرج والخراج بمعنى: الرزق، وبمعنى المال، وبمعنى الأجر من هؤلاء، وإن فرق البعض بينهما، كما فرق أبو عمرو بن العلاء في المعنى فقال: الخرج: ما لم يلزم من النفقة، أي: ما كان من الصدقة، والخراج: ما يلزمك من النفقة ومن الصدقة، وعلى المعنيين سيكون معنى الآية: هل تسألهم خرجاً، أو هل تسألهم خراجاً، أي: هل تسألهم شيئاً لزمهم؟! فأنت لم تسألهم شيئاً، لا شيئاً على وجه اللزوم، ولا شيئاً على وجه التطوع منهم؛ لأنك لم تسألهم أجراً أصلاً؛ إذ إنك تطلب من الله سبحانه وتعالى الأجر، {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [المؤمنون:72].

تفسير قوله تعالى: (وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم)

تفسير قوله تعالى: (وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم) قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المؤمنون:73]، في هذه الآية بيان دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه يدعو هؤلاء بل ويدعو العالمين جميعهم إلى الدين القويم وإلى الصراط المستقيم، الطريق القيم العظيم، والصراط: هو طريق رب العالمين سبحانه وسمي مستقيماً لأنه يؤدي إلى جنة رب العالمين، ولا ينحرف بصاحبه يميناً ولا شمالاً كالطرق المنحرفة التي تقود أصحابها إلى النار. وفي قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المؤمنون:73] قراءات، وهذه القراءات هي ذاتها التي في سورة الفاتحة وقد تقدمت، ولمزيد بيان فإنها كالتالي: (إلى صراط) و (إلى سراط) و (إلى زراط مستقيم)، فيقرؤها بالسين قنبل عن ابن كثير ويقرؤها أيضاً رويس عن يعقوب فتكون: (إلى سراط مستقيم). ويقرؤها جمهور القراء: (إلى صراط مستقيم) بالصاد. ويقرؤها خلف وخلاد بالإشمام، ومعنى الإشمام: أن يشابه الصاد الزاي في النطق به، فيصبح كأنه يشبه حرف الزاي فيها لتكون: (إلى زراط مستقيم). والمعنى واحد على اختلاف القراءات، فالصراط: الطريق، والمعنى: إلى طريق مستقيم.

تفسير قوله تعالى: (وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون)

تفسير قوله تعالى: (وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون) قال تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} [المؤمنون:74]، وهذه الآية فيها قراءات، وإن وجد خلاف فيها لـ خلاد عن حمزة في الإشمام، فسيكون فيها قراءة السين: سراط، وصراط، والإشمام بالزاي، أما معنى قوله سبحانه: {وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ لآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} [المؤمنون:74] أي: عن طريق رب العالمين متنكبين راجعين القهقرى، مولين ظهورهم لطريق رب العالمين سبحانه، ومعنى النكوب: من نكب الطريق نكوباً إذا عدل عن الطريق ومال عنها إلى غيرها، وإليه نسبت الريح إذا خرجت عن مجرى ورجعت إلى مجرى آخر، ومعنى الآية: أن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن طريق رب العالمين متنكبون، أي: مائلون زائغون أو مرتدون راجعون عن طريق رب العالمين، وهم بذلك إنما يتبعون أهواءهم.

تفسير قوله تعالى: (ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون)

تفسير قوله تعالى: (ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون) قال تعالى: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [المؤمنون:75] أي: بعد أن مات المعرضون عن طريق رب العالمين وأدخلهم الله رب العالمين نار جهنم والعياذ بالله، يتضرعون لله أن يعودوا إلى الدنيا، ولأن الله يعلم أنهم حتى ولو عادوا فلن يؤمنوا فقد قال سبحانه: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [المؤمنون:75] والمعنى: أن الله عز وجل علم من هؤلاء أنهم لا يؤمنون، وأنهم ينتفعون بدعوة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام حين يدعوهم إلى رب العالمين، فلو أنهم بعد الممات ردوا إلى الدنيا مرة أخرى فسيرجعون إلى ما كانوا عليه من قبل، فقد علم الله عز وجل ما هم عاملون، قال سبحانه: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [المؤمنون:75]، واللج: التمادي، ومعنى قوله: (للجوا في طغيانهم) أي: لتمادوا في طغيانهم، والطغيان: مجاوزة الحد، فمعنى: طغى الإنسان أي: جاوز حده، وعليه فسيكون معنى الآية: (للجوا في طغيانهم) أي: علو واستكبروا وتمادوا في ضلالهم، وقوله: {يَعْمَهُونَ} [المؤمنون:75] أي: يتذبذبون ويتخبطون، ومنه العمى -عمى البصر- فإن الأعمى حين يمشي فإنه لا يعرف طريقه إلا أن يقوده إنسان، والعمه أشد من ذلك؛ لأنه يشمل عمى قلب الإنسان، ولذا فإن المصابين بالعمه متذبذبون متحيرون، فقد أعميت قلوبهم فهم لا يفقهون شيئاً ولا يعرفون طريقاً ولا يهتدون إلى سبيل.

تفسير قوله تعالى: (ولقد أخذناهم بالعذاب)

تفسير قوله تعالى: (ولقد أخذناهم بالعذاب) تقدم قوله تعالى: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ} [المؤمنون:75] أي: من عذاب الآخرة، إلا أنهم قد استحقوا عذاب الآخرة، ولكن الله قبل ذلك قد أذاقهم شيئاً من العذاب في الدنيا، ثم كشفه عنهم، ولذا قال مذكراً: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ} [المؤمنون:76] أي: أخذناهم بالعذاب الدنيوي، {فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون:76]، أي: لم يخضعوا لرب العالمين، ولم يتضرعوا ولم يخشعوا لله، ولم يرجعوا إلى طريق رب العالمين سبحانه. جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: نزلت هذه الآية في قصة ثمامه بن أثال، فإنه لما أسرته سرية النبي صلى الله عليه وسلم أسلم وخلى النبي صلى الله عليه وسلم سبيله، وكان ثمامة من اليمامة، وهي على طريق قريش فأخذ على نفسه عهداً ألا يأخذ الكفار من أرضهم شيئاً لا غلالاً ولا شعيراً ولا غيرها إلا أن يأذن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، ثم حقق عهده ومنع كفار مكة من الحبوب. قال ابن عباس رضي الله عنه: وأخذ الله قريشاً بالقحط والجوع حتى أكلوا الميتة والكلاب والعلهز؛ إذ أصابتهم دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد دعا الله سبحانه وتعالى على قريش بأن يعينه عليهم بسنين كسني يوسف، ولم يكن دعاؤه من أجل تعذيبهم فحسب؛ بل أيضاً من أجل أن يتأدب هؤلاء ولعلهم يرجعون عن غيهم، فكان هذا العذاب الذي ذكر الله سبحانه: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ} [المؤمنون:76]، فجاعوا وعطشوا، واشتد عليهم الحر حتى أكلوا الميتة والكلاب والعلهز، وقد سئل ابن عباس: ما العلهز؟ قال: كانوا يأكلون الصوف والوبر فيبلونه بالدم ثم يشوونه ويأكلونه. وإنما أكلوا هذا الشيء على خسته من شدة الجوع. فقال أبو سفيان للنبي صلى الله عليه وسلم: (أنشدك الله والرحم أليس تزعم أن الله بعثك رحمة للعالمين؟ قال: بلى. قال: فوالله ما أراك إلا قتلت الآباء بالسيف، وقتلت الأبناء بالجوع، فنزل قول الله عز وجل: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [المؤمنون:75])، وجاءت روايات أخرى بمثل هذا المعنى، وفيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم فاستجاب الله سبحانه، وجعل عليهم أياماً فيها قحط شديد، فجاعوا حتى أكلوا الميتة والكلاب والجلود والعلهز، فذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا له: ادع ربك أن يكشف عنا. فدعا لهم الله سبحانه وتعالى، فلما كشف عنهم ذلك تمادوا في غيهم، ولم يستجيبوا للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان الأولى بهؤلاء وقد عرفوا أنه دعا عليهم صلى الله عليه وسلم فأصابهم ما أصابهم، ودعا لهم صلى الله عليه وسلم فانكشف عنهم ما هم فيه، كان الأولى أن يؤمنوا، ولكنهم مع ذلك لم يؤمنوا، ولذلك علم الله عز وجل أن هؤلاء لا يستحقون إلا الجزاء الذي استحقه من مات منهم على الكفر، وهو أن يدخلوا نار جهنم ولا يرجعون إلى الدنيا مرة أخرى.

تفسير قوله تعالى: (حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد)

تفسير قوله تعالى: (حتى إذا فتحنا عليهم باباً ذا عذاب شديد) الأصل في الإنسان الذي يبتليه الله سبحانه وتعالى بشيء من المصائب في العادة أن يستكين لله سبحانه، ويتضرع له، أما أن يبتليه بالمصائب في الدنيا ويضل على عجرفته وبعده عن الله سبحانه، فهذا يستحق أن يقصمه الله، ولذا قال سبحانه: {حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [المؤمنون:77]. أي: إذا جاءهم عذاب رب العالمين سبحانه وتعالى سواء بالقتل أو بالموت والرجوع إلى رب العالمين أو عذاب يوم القيامة، سترى أنهم إذا جاءهم هذا العذاب سيبلسون، قال تعالى: {إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [المؤمنون:77]، أبلس الإنسان، أي: يئس من الرحمة، وتحير في مكانه لا يدري ما الذي يصنعه، فالمبلس: المتحير اليائس، فهؤلاء ييئسون وهم في نار جهنم والعياذ بالله من الرحمة، وخاصة إذا نادوا ربهم سبحانه بالرجوع، فقال: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]. وقد جاء في تفسر الباب الذي يفتح عليهم بالعذاب المذكور في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ} [المؤمنون:77] أثر عن عكرمة أنه قال هو باب من أبواب جهنم، عليه من الخزنة أربعمائة ألف، سود وجوههم، كالحة أنيابهم، قد قلعت الرحمة من قلوبهم، إذا بلغوه فتحه الله عز وجل عليهم، والله أعلم.

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة)

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة) قال سبحانه مذكراً بنعمه: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [المؤمنون:78]. قوله: {أَنشَأَ لَكُمُ} [المؤمنون:78] أي: خلق لكم سبحانه، {السَّمْعَ} [المؤمنون:78] أي: جعلكم تسمعون، {وَالأَبْصَارَ} [المؤمنون:78] أي: جعلكم تبصرون وتنظرون، {وَالأَفْئِدَةَ} [المؤمنون:78] أي: جعل فيكم قلوباً تعقلون بها، ومع ذلك القليل من يشكر قال سبحانه: {قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [المؤمنون:78]. وحري بكل إنسان أن ينظر إلى هذه النعم وينظر إلى مدى شكره لربه، وهل هو من هؤلاء الذين ذكر الله عز وجل أنهم: {قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [المؤمنون:78]؟ أم أنه ممن يشكر نعم الله سبحانه وتعالى عليه؟ والحق أن نعم الله لا تحصى، ومن نعمه سبحانه على الإنسان أنه يعقل، فلم يجعله مجنوناً، وجعل الإنسان ينظر ولو شاء لجعله أعمى، وجعله سميعاً يسمع ولو شاء لجعله أصم، فهذه من نعم الله سبحانه وتعالى على العبد، فهل يشكر ربه أم ينسى هذه النعم؟ بل لعله يستغل هذه النعم في غير ما خلقها الله عز وجل له، كأن يوجه سمعه إلى الغيبة والنميمة وإلى غير ذلك مما حرم الله سبحانه، ويوجه بصره إلى النظر إلى ما لا يحل له، ويوجه قلبه إلى التشكك وإلى الشهوات وإلى الشبهات، بل يجب على الإنسان أن يشكر نعم الله عز وجل عليه، فيستخدم هذه النعم فيما أحل الله سبحانه وتعالى، ويديم شكر ربه ليل نهار على ما أعطاه من السمع والأبصار ومن الأفئدة.

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي يحيي ويميت)

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي يحيي ويميت) قال سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِ وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [المؤمنون:80]، من نعم الله سبحانه وتعالى العظيمة على العباد: أنه هو الذي خلقهم وأحياهم ليبتليهم، ثم يميتهم ليأجر المؤمنين الأجر الحسن ويدخلهم الجنة، ويحاسب الكفار والمفسدين ويدخلهم النار. ومن نعمه كذلك الليل والنهار، قال سبحانه: {وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [المؤمنون:80]، فقد خلق الله الليل والنهار، ويملك سبحانه وتعالى ما في الليل وما في النهار، وكل ما يأتي عليه الليل والنهار، ومعنى اختلاف الليل والنهار: أن هذا مختلف عن هذا، فالنهار فيه نور، والليل فيه ظلمة، والليل يكون بارداً، والنهار يكون حاراً، وقد يفسر اختلافهما كذلك بالزيادة والنقصان، وقد يفسر كذلك بالتكرار، تقول: اختلفت في شيء: تكرر مني الذهاب إليه. وقد فسر قوله تعالى: {وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [المؤمنون:80] بتواصل الليل والنهار خلف بعضهما بعض حتى يأتي يوم القيامة، وفسرت الآية أيضاً: بأن له ما مضى فيهما من سعادة الناس ومن شقاوة آخرين. ثم أنكر عليهم عدم الاعتبار بآياته فقال: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [المؤمنون:80]، فقد جعل لكم الحواس التي تعقلون بها، وجعل لكم آيات في الكون فهل تعتبرون بذلك؟ إذ إن من اعتبر فقد عرف الله سبحانه وتعالى وعبده، فيذكره ويشكره، ومن لم يعتبر فذاك الشقي الذي كتبت عليه الشقاوة.

تفسير سورة المؤمنون [78 - 90]

تفسير سورة المؤمنون [78 - 90] يبين الله سبحانه وتعالى فضله على عباده، ونعمه سبحانه لا تحصى، وقد تفرد سبحانه بربوبيته على خلقه، فهو الذي يستحق العبادة وحده لا شريك له، وقد عرف الكفار والمشركون ذلك، ولكن عنادهم وتكبرهم أعماهم عن رؤية الحق واتباعه، وسورة المؤمنون إحدى السور المكية التي نزلت في فترة كان المشركون فيها ينكرون البعث والنشور والإعادة مرة أخرى، ففيها آيات فيها مجادلة للكفار بالحجج والبراهين القاطعة.

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة)

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة) أعوذ بالله من الشيطان الرحيم، بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله تعالى في سورة المؤمنون: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ * وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ * بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُونَ * قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ * قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون:78 - 89]. يخبرنا الله تبارك وتعالى عن فضله وعن نعمه على عباده في هذه الآيات، فيذكر أنه هو الذي أنشأ السمع والبصر والأفئدة، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} [المؤمنون:78]، فهذه نعم من نعم الله سبحانه الذي يستحق أن يعبده العبد سبحانه وتعالى حق العبادة، وأن يستيقن أن الذي أعطاه ذلك قادر على أن يسلبه منه، والذي منحه قادر على أن يمنع ذلك وأن يأخذه، فيشكر العبد ربه سبحانه على هذه النعم وغيرها، وما أكثر نعم الله عز وجل على عباده وما أعظمها. قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [المؤمنون:78] والعبد قليل شكره، وهو ينظر بعينيه، ويسمع بأذنيه، ويتكلم بلسانه، ويعقل بقلبه، ومع ذلك إذا جاء عند شكر الله سبحانه نسي أو تناسى شكر المنعم العظيم الذي أنعم عليه بهذه النعم وغيرها. أما المؤمن فهو يشكر ربه ويحمده ليل نهار، ويعلم أن النعم من الله سبحانه، وأن الله قد قال: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7] فالإنسان الذي يشكر الله فإن الله من فضله يتكرم عليه ويزيده، والذي يكفر ويجحد نعم الله سبحانه فإن عذاب الله شديد.

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون)

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون) قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ * وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المؤمنون:78 - 79]، أي: هو الذي ذرأ، والذرء: البث، أي: بثكم ونشركم في الأرض، ولو شاء لجعل لكم موضعاً واحداً منها ولن تستفيدوا بباقيها، ولكن هو الذي نشركم في أرجاء الأرض، فجعل شمالاً وجنوباً، وشرقاً وغرباً، وملأها بعباده لمن شاء منهم سبحانه، فالذرء بمعنى: الإنشاء والبث والخلق، أي: فنشركم فيها، بأن خلقكم ووزعكم على هذه الأرض. وكلمة (هو) تأتي في القرآن كله بقراءتين فيها: فيقرؤها قالون عن نافع وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب، (وهْو) بتسكين الهاء. واقي القراء وهى قراءتنا قراءة حفص عن عاصم، وغيره من القراء يقرءونها: (وهُو) بضم الهاء. قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المؤمنون:79] والحشر: هو الجمع، أي: يجمعكم إليه، ويعيدكم ويخرجكم من قبوركم، ويبعثكم، وينشركم، ثم يجازيكم ويحاسبكم، قوله تعالى: ((وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ))، يعني: المرجع والمآب إلى الله رب العالمين سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي يحيي ويميت)

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي يحيي ويميت) قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [المؤمنون:80]. قوله: ((وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ)) ونرى الإحياء والإماتة، نرى خلق الله سبحانه في كل يوم، هذا جنين يولد وهذا إنسان يموت، وفي كل يوم يحدث ذلك، فيرى الإنسان قدرة رب العالمين على الخلق والإيجاد، وعلى الإفناء والإماتة، فهو الذي يحيي وهو الذي يميت. قوله تعالى: ((وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارَِ))، أي: يجعل الليل والنهار مختلفين، هذا فيه نور، وهذا فيه ظلمة، فالنهار مضيء، والليل مظلم، وكذلك يجعل اختلافاً بين الليل والنهار بالزيادة والنقصان في الصيف والشتاء ونحو ذلك. فقوله تعالى: ((وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ))، أي: تكرار الليل والنهار، يأتي يوم ويذهب يوم، يأتي ليل ويذهب ليل، وهكذا، فله اختلاف ذلك، والتكرار والإيجاد حتى يأتي وعد الله سبحانه وتعالى. وقوله تعالى: ((وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ))، أي: يملك ذلك الله سبحانه وتعالى، وإليه هذا العمل، وهو الذي يعمله، وهو الذي يأتي بالشمس من المشرق، وهو الذي يجعلها تغرب من المغرب، فهو على كل شيء قدير سبحانه وتعالى. وله أيضاً اختلاف ما مضى في الليل والنهار من أعمال العباد، فهؤلاء سعداء وهؤلاء أشقياء، وكل ذلك لله سبحانه بتقديره، فإذا كانت هذه قدرته قال تعالى: ((أَفَلا تَعْقِلُونَ))، أي: ألا تعقلون وتنتبهون ما الذي يراد منكم؟ ولماذا خلقكم الله عز وجل؟ وقد قال في كتابه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، فهلا عقلتم ذلك وعبدتم الله حق عبادته سبحانه؟!

تفسير قوله تعالى: (بل قالوا مثل ما قال الأولون إن هذا إلا أساطير الأولين)

تفسير قوله تعالى: (بل قالوا مثل ما قال الأولون إن هذا إلا أساطير الأولين) قال تعالى: {بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُونَ}، أي: لن يعقلوا، ولن ينتبهوا، ولن يفهموا، فقد قالوا كما قال الأولون من أهل الجهل والكفر والبعد عن الله، كما قال تعالى: {قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ}، فتعجبوا كما تعجب الأولون، ونسوا ما الذي صنعه الله عز وجل بهؤلاء الأولين، فقد كذبوا وأعرضوا فجاءهم عذاب رب العالمين، فقد أرسل الله إليهم الرسل بالآيات وبالبينات عليهم الصلاة والسلام، فكذب هؤلاء الكفار المرسلين فأخذهم الله، ولم يعتبر هؤلاء الذين من بعدهم. فقوله تعالى: ((قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ))، أي: هل يبعثنا مرة ثانية بعد ما نصير تراباً وعظاماً نرجع مرة ثانية؟ ويستبعدون ذلك، قال الله سبحانه: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:78 - 79] سبحانه وتعالى، والذي يتعجب كيف يحييه الله مرة ثانية هل نسي كيف كان هو؟ لقد كان في بطن أمه جنيناً، وكان قبل ذلك نطفة، ثم صار هذا الجنين، ثم صار هذا الإنسان، ثم رأى من يموت وهو سوف يموت ويستيقن من ذلك، فهل نسي أن الذي بدأ خلقه قادر على أن يعيده مرة ثانية؟! وقوله تعالى: ((قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ))، (أئذا)، (أئنا) للقراء اختلاف في قراءتها: فذهب نافع والكسائي ويعقوب إلى البدء بالاستفهام في الهمزتين الأوليين: (أئذا) والثانية بالإخبار فيها (إنا)، فيقرءون: (أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ)، وقرأ ابن عامر وأبو جعفر بالإخبار في الأولى وبالاستفهام في الثانية: (إذا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ)، على اختلاف في الأداء، بالتسهيل وبغير ذلك، وباقي القراء يقرءونها: ((أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ)). وكذلك (متنا) تقرأ: (مُتنا)، و (مِتنا)، ففيها قراءتان. قال تعالى: {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [المؤمنون:83]، يقولون ذلك ويكذبون، وهم قد رأوا كيف خلق الله عز وجل الخلق، وكيف أمات وأحيا سبحانه، ثم يقولون ((لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ)) أي: وعدوا بالموت، بأنهم يموتون ثم يبعثون، قالوا: وهذا كذب. والآباء قبل ذلك قال لهم الرسل: إنكم ستموتون وتبعثون، فقال الآباء: ليس هناك أحد سيبعث، فهم يطلبون البعث الآن، والله عز وجل لم يقل: إنه سوف يبعثهم الآن، ولكن أخبر أنهم مجموعون لميقات يوم معلوم، فقالوا: ((إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ))، وهذا كلام المكذبين وأهل الجهل: إنا وجدنا آباءنا على أمة، والتقليد للآباء، وإذا أرادوا الرد على النبي عليه الصلاة والسلام يبدءون برميه بالأكاذيب والاختلاقات، فيقولون: ((إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ))، والأساطير: الخرافات التي كان يتكلم بها الأولون، والأباطيل والترهات.

تفسير قوله تعالى: (قل لمن الأرض ومن فيها قل أفلا تذكرون)

تفسير قوله تعالى: (قل لمن الأرض ومن فيها قل أفلا تذكرون) قال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون:84] فقوله: ((قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا))، أي: أجيبوا عن ذلك، فيسأل الله هؤلاء الكفار من يملك هذه الأرض؟ وهم يقرون بالصانع، وأن الله هو الذي خلقها وصنعها وفعل فيها ما يشاء سبحانه، فيقرون بالربوبية للرب سبحانه وتعالى. فقوله: ((قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ))، أي: من يملكها؟ ((وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)) قال تعالى: ((سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ))، وهكذا كانوا يجيبون النبي صلوات الله وسلامه عليه، فهم يعرفون أن الرب هو الخالق، فإذا قال لهم: فلماذا لا تعبدون هذا الذي خلق؟ يقولون: نعبد آلهة تقربنا إلى الله زلفى، أي: يتقربون إلى الله بعبادة غيره، فإذا قيل لهم: من الذي أمركم بعبادة غيره؟ لا جواب عندهم، لا أثارة من علم، ولا دليل من عقل، لا نقلٌ صحيح ولا عقلٌ صريح في هذا، وإنما هو الكذب الصراح. يقول الله عز وجل: ((قُلْ لِمَنِ))، أي: من الذي يملك الأرض ومن فيها وكل ما فيها من خلق؟ ((إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)) * ((سَيَقُولُونَ لِلَّهِ))، أي: هذا كله يملكه الله، قال تعالى: ((قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ))، أي: فإذا كان الأمر هذا لله أفلا تعتبرون بهذا الذي نذكره لكم، وتعرفون أن الذي خلق هو الذي يستحق أن يعبد؟ وقراءة حفص عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف: {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون:85]، وباقي القراء: (أفلا تذّكرون) بتشديد الدال، والمعنى: أن تتذكر أن الذي خلق ذلك هو الذي يستحق العبادة، ليس غيره سبحانه وتعالى. وقوله تعالى: ((قُلْ لِمَنِ))، بدأ الاستفهام باللام، فكان الجواب أيضاًً باللام، قال تعالى: ((سَيَقُولُونَ لِلَّهِ))، وهذه قراءة جميع القراء.

تفسير قوله تعالى: (قل من رب السماوات السبع قل أفلا تتقون)

تفسير قوله تعالى: (قل من رب السماوات السبع قل أفلا تتقون) قال تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [المؤمنون:86]، أي: من رب هذه السماوات التي ترون والتي لا ترون؟ ومن ((َرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ))، الذي استوى عليه سبحانه، وحكم خلقه، وتصرف فيهم بما يشاء سبحانه؟ قال تعالى: ((سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ))، وقراءة الجمهور: ((سَيَقُولُونَ لِلَّهِ))، وقرأ البصريان: أبو عمرو ويعقوب: (سيقولون الله) باعتبار: ((قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ))، أنه سؤال ليس فيه لام، فالجواب يكون بغير لام، هذا على قراءة البصريين: أبي عمرو ويعقوب: (سَيَقُولُونَ اللَّه)، وباقي القراء بتقدير اللام في السؤال، كالآية التي قبلها. فقوله تعالى: ((مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ))، أي: من الذي يملك هذه السماوات؟ أو لمن هذه السماوات؟ ولمن هذا العرش العظيم؟ ف A (( سَيَقُولُونَ لِلَّه))، والرب هو المالك سبحانه، وهو الخالق، وهو الذي يربي، وهو الذي يتعاهد خلقه سبحانه ويقوم عليهم، فهو قائم على كل نفس بما كسبت سبحانه وتعالى، وهو الذي يعطي والذي يمنع، والذي يرزق، والذي ينفع، والذي يضر، هو ((ْرَبُّ السَّمَوَاتِ السبع ورب العرش العظيم))، سبحانه وتعالى. قال تعالى: ((سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ))، أي: فإذا إذا كان ربنا سبحانه هو يملك هذه السماوات العظيمة، وهذا العرش العظيم، ((أَفَلا تَتَّقُونَ))، أي: أفلا تخافونه سبحانه وتعالى، وأنتم لا تساوون شيئاً بجوار هذه السماوات والأرضين؟ فقوله تعالى: ((قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ))، أي: ألا تتقون هذا الإله العظيم الذي يملك السماوات والأرض؟

تفسير قوله تعالى: (قل من بيده ملكوت كل شيء قل فأنى تسحرون)

تفسير قوله تعالى: (قل من بيده ملكوت كل شيء قل فأنى تسحرون) قال تعالى: ((قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون:88]، قراءة الجمهور في قوله: (بيده ملكوت) بالصلة، وقراءة رويس عن يعقوب بعدم الصلة فيها: (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كل شيءٍ)، والصلة بمعنى: أن تتحول الكسرة إلى ياء. و (ملكوت) صيغة مبالغة من الملك، كأن نقول: الرحمن، فهو له رحمة سبحانه، والرحمة هي الرحموت، وهي صيغة مبالغة من الرحمة، أي: هو صاحب الرحمة، و (الملك) المبالغة فيه أن تقول: (الملكوت)، و (الجبر) يأتي منه (الجبروت)، و (الرهبة) يأتي منها (الرهبوت)، وهذه من صيغ المبالغة فيها، فالملكوت معناه: الملك العظيم. فقوله تعالى: ((قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ))، أي: ملك كل شيء خلقه ويدبره ولا يعجزه أبداً سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ}، أي: الله سبحانه وتعالى هو الذي يغيث من يشاء، وهل أحد يقدر أن يغيث أحداً من الله سبحانه وتعالى إذا أراد الله عذابه؟! وهل يقدر أحد أن يمنع الله سبحانه وتعالى عن ذلك؟ فالله يجير ويمنع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك)، فإذا اجتمع كل الخلق إنسهم وجانهم ليضروا إنساناً والله يجير هذا الإنسان لا يقدرون أن يضروه بشيء، وإذا اجتمعوا على أن ينفعوه وقد أراد الله عز وجل ألا ينفعه، بل أراد الله أن يضره لا يقدرون أن يغيثوه من بطش رب العالمين سبحانه، فمن يجير من الله عز وجل؟ أي: من يمنع من الله سبحانه؟ لا يمنع منه أحد، فالله يؤمن من يشاء من عذابه، ولا يقدر أحد أن يؤمن من عذاب الله سبحانه وتعالى، وهذا في الدنيا وفي الآخرة. فقوله تعالى: ((وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ)) أي: لا يقدر أحد أن يمنع من غضب الله سبحانه وتعالى، ولا من بطشه، ولا يقدر أحد أن يمنع عذاب الله إذا أراده بأحد، قال تعالى: ((إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ))، أي: إن كنتم تعلمون ذلك فأخبروني من الذي يجير على الله؟ A لا أحد. قال تعالى: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّا تُسْحَرُونَ} أي: ذلك كله لله سبحانه، فهو الذي يقدر عليه ويملكه، وليس لنا منه شيء، وفي هذه الآية قراءة البصريين: أبي عمرو ويعقوب، (سَيَقُولُونَ اللهَ)، في هاتين الآيتين فقط، أما الآية الأولى فلا يوجد فيها إلا قراءة واحدة فقط، والتي هي قوله سبحانه: ((قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)) * ((سَيَقُولُونَ لِلّهَ))، هذه القراءة اتفاقاً، لكن الآيتين اللتين بعدها تُقرأ: (سَيَقُولُونَ اللهَ). قال سبحانه وتعالى: ((قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ))، يسحر الإنسان أي: يصرف، بأن يخيل له الشيطان أشياء وهماًً على خلاف الحقيقة، فيا من تقولون: إن ذلك كله لله كيف سحرتم؟ وكيف غفلتم؟ وكيف توهمتم أشياء على غير حقيقتها فابتعدتم عن الله سبحانه وتعالى؟ وكيف خدعكم الشيطان وقد أقررتم أن الله هو الذي يملك هذا كله؟ فقوله تعالى: ((فَأَنَّى تُسْحَرُونَ))، أي: فكيف تخدعون وتصرفون عن طاعة رب العالمين وتوحيد الله سبحانه؟ وكيف تتخيلون أنكم تشركون بالله سبحانه ما لا ينفع ولا يضر؟ فقد خيل لهم الشيطان أن هذه الأشياء تنفع وتضر؛ فعبدوها من دون الله، فكان من أفعالهم العجب، أن يعبدوا غير الله سبحانه، فإذا سئلوا أعدوا A { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، فإذا سألتهم: هل هذه الأشياء تنفع وتضر؟ يقولون: لا تنفع ولا تضر، فإذا سألتهم: كيف تعبدون ما لا ينفع ولا يضر؟ يقولون: ((وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ))، وهؤلاء القوم أنفسهم إذا أنعم الله عليهم بالإسلام يعجبون من جهلهم وضلالهم في جاهليتهم: كيف عبدنا هذه التماثيل من دون الله سبحانه؟! وكيف عبدنا هذه الأصنام وانتظرنا منها نفعا وضراً؟! فهم يتعجبون، ولكنهم في كفرهم وفي غيهم يعمهون، ولا ينتبهون لما يقعون فيه من خطأ.

تفسير قوله تعالى: (بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون)

تفسير قوله تعالى: (بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون) وتدل هذه الآيات على جواز جدال الكفار بالحجج والبراهين، والله عز وجل ذكر هذا على وجه المناظرة لهؤلاء والإلزام لهم بالحق، قال سبحانه: ((بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ))، أي: جاءهم الله سبحانه وتعالى بهذا الكتاب الحق، قال تعالى: ((وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ))، أي: مكذبون، كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم، وأيضاً كذابون يكذبون على الله عز وجل، ويكذبون على النبي صلى الله عليه وسلم، فحين يقولون عنه: إنه ساحر، هم يعرفون أنهم كذابون، وحين يقولون عنه: إنه مجنون، يعرفون أنهم كذابون. فالله عز وجل ذكر هنا من صفات الكفار أنهم مكذبون للنبي صلى الله عليه وسلم، وأنهم أيضاً كاذبون في اختلاقهم وفي رميهم النبي صلى الله عليه وسلم بالكذب، وقبل ذلك في ادعائهم لله ولداً، قال تعالى: ((مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ))، أي: حاشا لله سبحانه وتعالى أن يكون له ولد. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة المؤمنون [84 - 98]

تفسير سورة المؤمنون [84 - 98] إن الحق ظاهرة أنواره لمن أرادها، ولا تخفى إلا على معاند مكابر، يأتيه الحق فيكذبه، وذلك ما وقع من منكري تفرد الله بالألوهية، فأنزل الله بهم وعيده، ولكن المؤمن مع إيمانه يظل في خشية لله أن يصيبه ما أصابهم، وهو مأمور بدفع سوئهم بالإحسان لعلهم يهتدون، كما أنه مأمور بالالتجاء إلى الله أن يعيذه من شر الإنس والجن.

مجادلة الله تعالى للكافرين بالحجج الباهرة

مجادلة الله تعالى للكافرين بالحجج الباهرة قال الله عز جل في سورة المؤمنون: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ * رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون:90 - 95]. بعد أن أخبر الله سبحانه وتعالى عن قدرته العظيمة، وأنه هو الذي أنشأ لعباده السمع والأبصار والأفئدة، وأنهم قليلاً ما يشكرون، وأنه الذي يحيي ويميت سبحانه وتعالى، وأنه له اختلاف الليل والنهار، ثم قال لعباده: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [المؤمنون:80] وبعد أن ذكر قول هؤلاء الكفار المكذبين في إنكارهم للبعث بعد موتهم قال: {قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [المؤمنون:82 - 83]، فزعموا أن هذا من خرافات ومن أكاذيب وأباطيل وترهات الأولين، أي: القول بأننا سنبعث مرة ثانية. قال الله سبحانه مبيناً قدرته: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون:84]، فالجواب من هؤلاء أنهم يثبتون أن الله عز وجل الخالق، وأنه الذي يفعل ما يريد سبحانه، فيقولون: إن الله يملك الأرض ويملك من فيها، فقال تعالى: {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون:85]، أفلا تتدبرون أن الذي يخلق هو الذي يستحق أن يعبد. {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [المؤمنون:86 - 87]، فهم معترفون أن الله رب السماوات وأنه رب الأرض وأنه رب كل شيء سبحانه، قال الله: {قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [المؤمنون:87] أي: إن اعترفتم بذلك أفلا تتقون هذا الخالق العظيم الذي يملككم وما تملكون، والذي خلق سماوات فلا تقدرون أن تعجزوه سبحانه لا في السماوات ولا في الأرض؟! ثم قال تعالى: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [المؤمنون:88]، أي: بيده الملك كما قال سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك:1]، فهو يملك كل شيء سبحانه، والملكوت صيغة مبالغة من الملك، فهو المالك لكل شيء سبحانه، وله ملكوت كل شيء وحده لا شريك له، قال: {وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ} [المؤمنون:88]، أي: لا أحد يمنع ما يريده الله سبحانه، ولا يغيث من يعذبه الله سبحانه وتعالى، بل هو الذي يجير، فإذا أردتم أن تفعلوا شيئاً فهو وحده الذي يقدر على منعكم من ذلك، وإذا أراد إنسان أن يوقع بآخر شيئاً من الأضرار فإن الله يقدر أن يمنع ذلك، وكذلك فلا أحد يجير من الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [المؤمنون:89]، أي: الذي يفعل ذلك هو الله سبحانه وتعالى، وهو الذي يقدر عليه، {قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون:89]، أي: كيف تصدقون تخييل الشيطان لكم أنكم لا تبعثون؟! وبعد هذا كله قال تعالى: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [المؤمنون:90]، أضرب الله عن قولهم الذي يقولونه، ثم أخبر أنه قد جاءهم بالحق وبهذا الكتاب العظيم، وبالوعد الحق من عند رب العالمين، وإنهم لكاذبون يفترون على الله الكذب، وإنهم لكاذبون في دعواهم أن هذا القرآن أساطير الأولين.

تفسير قوله تعالى: (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله)

تفسير قوله تعالى: (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله) قال سبحانه: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون:91]، أي: هؤلاء كاذبون فيما افتروه على الله، إذ قالوا: إن الملائكة بنات الله، وقال اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، فأخبر الله أنه ما اتخذ من صاحبة ولا ولد، وما كان معه من إله، بل حتى لو حصل هذا -وهو مستحيل- لكن هذا من باب المناظرة لهؤلاء وإقامة الحجة عليهم من باب التنزل في المناظرة، فلو فرضنا أنه يوجد إله مع الله، فسيذهب كل إله بما خلق؛ إذ هذا يخلق وهذا يخلق، وكل واحد يأخذ معه أتباعه وعبيده الذين خلقهم، فهذا يخلق أجراماً، وذاك يخلق أجراماً أخرى، وهذا له نظام في الكون، وهذا له نظام آخر، فتتعارض الأنظمة، وبعد ذلك إما أن يكون أحدهم أقوى فيغلب غيره فهو الإله المتفرد، وإما أن يختلف بعضهم مع بعض فيتدمر هذا الكون كله، وإن كانت الحقيقة والواقع أنه لم ولن يحدث ذلك، فلا إله غير الله سبحانه وتعالى، والدليل على ذلك هذا النظام الذي في الكون، الذي لم يعطب ولم يتزعزع منذ خلقه الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ}، ولا يستحق أحد أن يعبد مع الله عز وجل، فلو وجد إله يستحق العبادة مع الله عز وجل لكان خالقاً؛ لأن الذي يستحق العبادة هو الذي يقدر على أن يخلق، والذي يقدر على أن يفعل ما يريد، وهنا نلاحظ أن الله عز وجل قد أثبت آلهة غير الله فقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23]، فالهوى إله من دون الله سبحانه، وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ} [يس:74]، فالكفار قد ضلوا وعبدوا آلهة من دون الله، ولكن هذه الآلهة باعتراف عبادها لا تملك شيئاً ولا تقدر على شيء، وإنما هي -كما يزعمون- توصلهم إلى الله. فهنا يناقش الله عقولهم الغبية، ويقول: أي آلهة هذه التي تعبدون؟! إذا كانت لا تخلق فلم تعبدونها؟! وإذا قالوا: إنها تخلق فانظروا إلى الكون، فلو كانت آلهة تخلق أو تقدر على الخلق وعلى الرزق لتعارضت هذه الآلهة بعضها مع بعض، ولاضطرب نظام الكون، فالحال أنه لم يضطرب نظام الكون، إذاً: فلا آلهة موجودة مع الله سبحانه، وإنما هو إله واحد. قال تعالى: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا}، أي: لو كان معه إله يخلق {لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ}، فيبقى الإله الأقوى كعادة الخلق أن القوي يذهب بالضعيف، والقوي يحكم الضعيف، فلو كانت هناك آلهة هذا يخلق وهذا يخلق فالأقوى فيهم هو الذي سيغلب ويصير له الكون وحده، فيقول سبحانه: {إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}، فعندما يصل الإنسان إلى هذا التفكير في ربه سبحانه حاشا له أن يتخذ ولداً أو يتخذ صاحبة، فإن الذي يتخذ الصاحبة هو المخلوق الضعيف، وهو الذي يحتاج إلى من يكون بجواره، ويحتاج لامرأة تعينه ويكون له منها الولد، فإذا به يبقي على نفسه، وهو يفنى ويأتي بعده من يملك ومن يحكم ويأخذ ما تركه، وحاشا لله عز وجل أن يحتاج إلى ذلك! فلا يحتاج إلى صاحبة، ولا يحتاج إلى ولد سبحانه وتعالى عما يصفون وعما يقولون.

تفسير قوله تعالى: (عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون)

تفسير قوله تعالى: (عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون) (سبحان الله): أي تنزيهاً لله وتقديساً لله سبحانه وتعالى عما يصفونه به من هذه الأوصاف البشعة القبيحة قال تعالى: {عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون:92]، أي: أن الله هو عالم الغيب والشهادة، فمن أسمائه الحسنى عالم الغيب، ومن أسمائه علام الغيوب سبحانه وتعالى. وهنا جاء الوصف مجروراً باعتبار أن لفظ الجلالة مجرور، وفي هذه الآية قراءات: {عَالِمِ الْغَيْبِ}، فقرأ بالكسر ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وابن عامر وحفص عن عاصم: (عالمِ الغيب)، وأما باقي القراء فيقرءونها بالرفع: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}، على اعتبار الابتداء أي: هو عالم الغيب والشهادة سبحانه تبارك وتعالى، كأنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو عالم الغيب والشهادة. وقرأها رويس بالقراءتين، ولكن على اعتبار الوصل والوقف، فإذا وصل قرأها بالجر على أنها وصف لما قبلها أو أنها بدل مما قبلها، وإذا وقف قرأها بالرفع، فيقول: (سبحان الله عما يصفون) ويبدأ: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}. فالله يعلم الغيب ويعلم الشهادة، وقدم هنا الغيب على الشهادة لاستواء العلمين عنده سبحانه، لكن المخلوق ما يغيب عنه لا يعرفه، والشيء الذي يشاهده هو الذي يعرفه، سواء شاهده أمامه بنظره، أو شاهده من بعيد بشيء يجعله يرى هذا الشيء البعيد. أما الله عز وجل فالكل عنده سواء مهما أخفى المخلوق فالله عز وجل يعلم السر، ويعلم ما هو أخفى من السر، فهو عالم الغيب وعالم الشهادة. قال تعالى: {َتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}، أي: تمجد وتنزه وتقدس سبحانه وتعالى عما يقوله هؤلاء بأكاذيبهم من أنه اتخذ الصاحبة والولد، واتخذ الشريك سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (قل رب إما تريني ما يوعدون)

تفسير قوله تعالى: (قل رب إما تريني ما يوعدون) أمر الله نبيه صلوات الله وسلامه عليه أن يدعو بهذا الدعاء، {قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ * رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [المؤمنون:93 - 94]. أي: إذا أتيتهم بالعذاب الذي توعدتهم به فلا تجعلني معهم، وقد كان من عذابهم أن قتل بعضهم في الحروب مع النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ الله عز جل البعض الآخر بالموت، وأسلم منهم من تبقى. وهذه السورة سورة مكية كما ذكرنا، وفيها الإخبار بأشياء من الغيب، كالإخبار عن أسماء الله الحسنى وصفاته العلى سبحانه، والإخبار عن أقدار الله سبحانه، وعن أمور يوم القيامة وما يكون فيها، فهنا يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: ادع بذلك؛ لأن الرسول لا يعرف ما الذي سيكون بعد ذلك، فإذا كان سيستأصلهم الله بعذاب فقد أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول: نجني يا رب من هذا العذاب، ولا تجعلني مع هؤلاء الظالمين. وقد علم صلى الله عليه وسلم يقيناً أن الله عز وجل قد عصمه من أن يكون مع هؤلاء الظالمين، قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33]، ولكن علمه أن يقول ذلك لأنه لا أحد من المؤمنين يأمن مكر الله سبحانه فضلاً عن غيرهم، قال تعالى: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99]. وإلا فإن الله قد قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:2]، وقال: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]، ولكن كأنه يقول له: في مقام التضرع والدعاء ادع ربك ألا يعذبك، فأنت لا تأمن مكر الله سبحانه وتعالى، فإذا كان رسول الله قد أمر بذلك فغيره من باب أولى، فعلى كل إنسان مؤمن ألا يأمن مكر الله سبحانه وتعالى، خاصة وقد أخبرنا سبحانه أنه إذا نزل عذابه فإنه لا يأتي للظلمة فقط، ولكنه يعم الظلمة وغيرهم، ثم يبعثون على نياتهم يوم القيامة. فعلى الإنسان المؤمن أن يخاف من بطش الله ومن مكره سبحانه. قال تعالى: {وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون:95] أي: ما نتوعدهم به من العذاب سيكون، ولكن لكل شيء عند الله أجل مكتوب عنده سبحانه، فسنظهر لك هذا الذي توعدناهم به.

تفسير قوله تعالى: (ادفع بالتي هي أحسن السيئة)

تفسير قوله تعالى: (ادفع بالتي هي أحسن السيئة) أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بأمرين: فقال: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ * وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون:96 - 98]، فعلمه كيف يدعو صلوات الله وسلامه عليه، فبعد أن قال: {رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [المؤمنون:94]، وسأل ربه ألا يكون مع الظالمين، قال الله له: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [المؤمنون:96]، وهذا تعليم من الله سبحانه، أي: ادفع بالشيء الحسن الشيء السيئ، فمن أساء إليك فأحسن إليه. وقد علم الله نبيه في سورة الأعراف الدفع بالتي أحسن أيضاً، فالإنسان المؤمن يدفع اعتداء الناس بالإحسان لهم؛ لأنه يرغب في هداية هؤلاء، فإذا هدى الله عز وجل على يديك إنساناً من الخلق فلك أجر عظيم عند الله سبحانه، فعلم الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعامل الناس بالحسنى، وأنه إذا عامل بالحسنى ودفع بالتي هي أحسن فالله عز وجل يأجره على ذلك ويدافع عنه، وهذه الصفة تشمل التعامل مع الكفار ومع المسلمين، فالكافر في البداية يُدفع بالتي هي أحسن ترغيباً له في الإسلام، فإذا أصر على ذلك فالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأيضاً ادفع بالتي هي أحسن لعلهم يرتدعون، وقد كان بعض الأعراب يسيء للنبي صلى الله عليه وسلم، فإذا به يحلم عليه ويتحمل منه، وشيئاً فشيئاً حتى يهدي الله هذا الأعرابي للإسلام. وقد رأينا كيف فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة، ولما وصل إلى هنالك وقام مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم يؤذن، وإذا ببعض الناس يستهزئ بمؤذن النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم أبو محذورة، وأبو محذورة كان صوته جميلاً، وسمع النبي صلى الله عليه وسلم الاستهزاء بمؤذنه، وكان يستطيع أن يأمر بقتل هذا الكافر الذي يستهزئ، ولكنه نادى عليهم ففر من فر وجاء أبو محذورة، فقال صلى الله عليه وسلم: (أيكم كان أرفع صوتاً؟)، أي: من الذي سمعت صوته، ثم علمه رسول الله ألفاظ الأذان، فأسلم الرجل وصار المؤذن في مكة، فهنا يتحقق قوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ}. وهذا أدب من النبي صلى الله عليه وسلم ولطف منه، عندما يأتي أبو محذورة ويعلمه رسول الله وهو شاب ولم ينهره صلى الله عليه وسلم، فتأدب الرجل وصار بعد ذلك مؤذن مكة رضي الله تبارك وتعالى عنه. قال الله سبحانه: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، وهذا أمر بالصفح وأمر بمكارم الأخلاق، وفي الحديث: (إن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على الشدة)، فالإنسان برفقه يدعو الناس إلى ربه سبحانه، ولكن قد يصل بالرفق وبالعنف إلى نتيجة واحدة، وذلك عندما يدعو إنساناً برفق فيصل به إلى أن يصير مؤمناً، أو يدعوه بعنف وبغلظة وشدة ويصل به إلى أن يكون مؤمناً، فأي الوصفين يكون أعظم لهذا الإنسان وأكثر أجراً عند الله؟ A أن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، فالإنسان برفقة يتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم في رفقه بالخلق. قال سبحانه: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} فإذا أساءوا إليك فأحسن إليهم لعلك تتألف هؤلاء، وقد لا يتألف هؤلاء، ولكن قد يتألف من وراءه كأهاليهم وأقوامهم عندما يرون أن فلاناً أساء ومع ذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم حلم عنه، فعندما يقولون: إن الرجل على حسن خلق فلماذا لا نتبعه؟ والإنسان عندما يرى الكافر وعناده قد يقول: لن أدفع إلا بالأسوأ، فهذا الكافر لا يستحق الإحسان، ولكن أمر الله مقدم إذ قال: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، ولعله صلى الله عليه وسلم يقول: هؤلاء يكفرون، ويقولون: كذا، فقال تعالى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ}، أي: نحن قد حلمنا عنهم، فاحلم أنت لعل الله عز وجل يهديهم على يديك. فهذا الأدب لا بد أن يكون في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فإذا لم ينفع واستمر هؤلاء على كفرهم وعنادهم فالجهاد بالسيف الذي أمر به النبي صلوات الله وسلامه عليه بعد ذلك، قال تعالى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} أي: من الشرك والتكذيب.

تفسير قوله تعالى: (وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين)

تفسير قوله تعالى: (وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين) قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون:97 - 98]، وهذا التعليم لرسول الله كيف يدفع شياطين الإنس ويدفع شياطين الجن، فشياطين الإنس الذين يسيئون إليك وإلى دينك، {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، فإذا لم ينفع ذلك فجاهدهم كما أمر الله سبحانه وتعالى، ولكن شياطين الجن لا طاقة لك بمحاربتهم بالسيف، فماذا تعمل معهم؟ أخبر الله هنا أنه هو خالقهم سبحانه وتعالى، وهو الذي يقدر عليهم، فعليك أن تلجأ إليه سبحانه وتعالى، فالشياطين يرونك من حيث لا تراهم، فاستجر بخالقهم سبحانه وتعالى، فالله سبحانه وتعالى خالق هؤلاء الشياطين، فإذا جاءك الشيطان فقل: يا رب! اكفني هؤلاء، فإن الله سيكفيك شره. {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكْ}، أي: أتعوذ بك، وألجأ إليك، وأستجير بك، وأستغيث بك أن تجيرني من هؤلاء وتصرفهم عني. قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّياطِينِ} والهمزات: هي الوسوسة من الشياطين، والهمز واللمز بمعنى: الطعن، وإن كان الهمز هو الطعن في الخفاء، واللمز الطعن في العلن. فقوله: {مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ}، أي: من وساوس الشياطين، ومن دفعهم إياك إلى الباطل. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة المؤمنون [96 - 101]

تفسير سورة المؤمنون [96 - 101] إن تعامل الإسلام ذو منهجية عظيمة، فحيث ينفع الترغيب والإحسان كان ذلك هو المطلوب، وحيث يصر العدو ويعاند يأتي الجهاد كحل مناسب معه. وإن الإنسان البعيد عن الله تزيد غفلته، ولكنه عند مجيء الموت يريد الإمهال ولا يعطاه، فالخطب بعد الموت عظيم، فمن حياة برزخية مخيفة، إلى وقوف للحساب على الكبير واليسير، في يوم ينسى فيه القريب والبعيد.

تفسير قوله تعالى: (وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين)

تفسير قوله تعالى: (وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين) قال الله عز وجل في سورة المؤمنون: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون:97 - 98]. لما أمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلوات الله وسلامه عليه أن يدفع بالتي هي أحسن السيئة، وقال: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [المؤمنون:96]، وهذا في الآية يقصد فيما بينه وبين شياطين الإنس فقال: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} [المؤمنون:96]، أي: من أساء إليك بإساءة فادفع سوءه بالحسنى؛ لعل الله سبحانه وتعالى أن يهدي هذا الإنسان، ولعله يراجع نفسه ويعلم أنه ظالم فيرجع إلى الحق الذي أنت عليه، وهذا الأمر إنما يكون إلى قدر معين، فإذا ازداد الأمر فقد أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم بجهاد أعداء لله سبحانه وتعالى. فهو يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، فإذا استجابوا فكان بها، فإن لم يستجيبوا وأصروا على الإعراض والكفر وإنكار ما يقوله والاستهزاء به، فقد أمر بأن يجاهدهم صلوات الله وسلامه عليه بالسيف والسنان. وقوله سبحانه: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [المؤمنون:96]، يفيد أن هناك أحسن وهناك حسن، فما قال: ادفع بالحسن السيئة، ولكن ادفع بالتي هي أحسن، فهناك حسن وهناك أحسن منه، فادفع بأفضل الأشياء وأحسنها، وادفع سيئات هؤلاء لعلك تؤثر في قلوبهم فيستجيبون لك، قال تعالى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [المؤمنون:96]، أي: بما يكذبون عليك وبما يشركون بالله سبحانه تبارك وتعالى. قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون:97 - 98]، والإنسان في وقت غضبه قد يأتيه الشيطان فينفخ فيه ويدفعه لأن يرد الإساءة بالإساءة، فقال الله لنبيه: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ}، فإذا ابتلي الإنسان بمن يسيء إليه فليدفع سوءه بالحسنى، وليتعوذ بالله عز وجل من الشيطان الرجيم، وقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم في حالة الغضب أن نقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، وقد جاء (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً قد غضب واشتد غضبه واحمر وجهه، فقال: إني لأعلم كلمة لو قالها هذا ذهب عنه الذي فيه، قالوا: ما هي؟ قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم). فالإنسان الغضبان إذا تعوذ بالله من الشيطان الرجيم أذهب الله عنه ثورة غضبه، ولم يجعله يندفع ويتهور في هذا الغضب. لذلك ذكر الله رسوله بأمرين: الأول: أن يدفع بالتي هي أحسن؛ لأن الشيطان ينزغ في نفس الإنسان المؤمن حينما يرى عدوه يسيء إليه، فدفع الإنسان لابد أن يكون بالتي هي أحسن، فإن لم يجد ذلك فالجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى، وذلك مع الإنس، أما مع شياطين الجن فلا حيلة معهم إلا أن يلجأ العبد إلى ربه سبحانه وتعالى، وربه هو الذي سيعصمه، وقد أخبر الله أن كيد الشيطان كان ضعيفاً، فإذا لجأت إلى الله صرف عنك الشيطان. قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ}، أي: أتعوذ بك وألجأ إليك، وأستجير بك وأستغيث بك من همزات الشياطين، أي: وسوسة الشياطين.

هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الاستعاذة

هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الاستعاذة جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتعوذ بالله عز وجل من همز الشيطان، ويقول: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه)، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته قبل أن يقرأ فاتحة الكتاب يبدأ بالتعوذ، كما في الحديث عند أبي داود والترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل كبر)، يعني: في صلاة التهجد أو قيام الليل، (ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك)، وهذا هو دعاء الاستفتاح في صلاة الليل،: (ثم يقول لا إله إلا الله ثلاثاً، ثم يقول: الله أكبر كبيراً ثلاثاً، أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه)، فذكر العلماء أن كلمة (همزه) معناها وسوسة الشيطان ونفخ الشيطان وهو الكبر، فالكبر يدفع الإنسان لأن يصير في نفسه عظيماً، فيؤدي به إلى الكفر في النهاية والعياذ بالله! والنفث بمعنى: السحر، أي: أنه يكيد للإنسان بشيء من السحر، وقال بعضهم: النفث هو الشعر؛ لأن الشيطان ينفث في الإنسان بأن يقول الأشعار التي يكون فيها عدم ذكر الله سبحانه، وفيها اللهو والتعريض بالنساء وغير ذلك. وقد يأتي النفث بمعنى: الكبر، أو بمعنى: ما يأمر به الشيطان الإنسان من الزهو والغرور، وأما معنى همز الشيطان فهو الجنون، فيأتي إلى الإنسان فيوسوس إليه حتى يجعله ذاهب العقل مجنوناً، أو يجعله يتيه بنفسه ويفخر بنفسه ويستكبر على الخلق، أو يجعله لا يدري هل فعل الشيء أو لم يفعله؟ فالله عز وجل أمرنا أن نتعوذ به سبحانه، ونقول: يا رب! يا من تقدر على كل خلقك! أعذنا. وهذه الآية فيها قراءات: فقراءة يعقوب: (وأعوذ بك رب أن يحضروني) بالإشباع، وقراءة الجمهور: (أن يحضرون) بالكسرة في آخرها دون الإشباع، والمعنى: أني أتعوذ بك يا رب أن يأتيني الشيطان ويحضرني في حال ذكر الله سبحانه وتعالى، وفي غيره من الأحوال. وقد جاء في الحديث الذي رواه الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا فزع أحدكم في النوم فليقل: أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه وشر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون، فإنها لن تضره)، وذلك أن الشيطان يأتي للإنسان في يقظته، فيوسوس له أو يدفعه للتهور والغضب، أو يدفعه للغرور والجنون، فأمرنا أن نتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بل قد ينام الإنسان ولا يتركه الشيطان فيأتي له بالكوابيس وبالأحلام التي تفزعه، فأمرنا النبي أن نتعوذ بالله من الشيطان وأن نقول: (أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه وشر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون)، ثم قال: (فإنها لن تضره)، أي: نزعة الشيطان ونزغته وهو نائم لن تضره إذا قال هذه الكلمات العظيمة. أيضاً جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه، حتى يحضره عند الطعام)، فالشيطان لا يترك الإنسان في كل شأن من شئونه، بل يوسوس له ويلهيه عن ربه سبحانه، فيأتيه في عباداته، وكذلك في وقت طعامه، قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا سقطت من أحدكم اللقمة فليمط ما كان بها من أذى ثم ليأكلها ولا يدعها للشيطان). إن الشيطان يراك ولا تراه، فهو من حولك، ويأتيك وأنت تدخل بيتك، ويريد أن يدخل معك ليبيت معك بداخل البيت، وقد أمرنا صلى الله عليه وسلم إذا دخلنا البيت أن نتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أو نسم فنقول: (اللهم إني أسألك خير المولج وخير المخرج، باسم الله ولجت وباسم الله خرجت، وعلى الله توكلت)، وبهذا يقوم الشيطان ولم يدرك المبيت معك، كذلك إذا حضر العشاء وأنت تأكل فالشيطان يريد أن يأكل معك وأنت لا تراه، ولكن يخبرك النبي صلى الله عليه وسلم بالخبر الصدق الذي أخبره به ربه سبحانه، فيعلمك أن تسمي الله سبحانه عند طعامك؛ حتى لا يأكل معك، وكذلك لعل الإنسان يأكل فيسقط منه شيء من طعامه، فهل يتركه أو يأخذه أم ماذا يفعل؟ طالما أنه لم يتلوث فأمط ما به من أذى وكل طعامك ولا تتركه، ولو تركته فإن الشيطان سيأكل معك منه، فلا تدع للشيطان طعاماً لك، ولا تجعل له مبيتاً عندك في البيت، فعلى الإنسان أن يكون ذا ذكر لله سبحانه وفعل للعبادة والطاعة، وأن يحرص على تطهير بيته من الشياطين بذكر الله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (حتى إذا جاء أحدهم الموت ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون)

تفسير قوله تعالى: (حتى إذا جاء أحدهم الموت ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون)

حال الغافل مع الموت

حال الغافل مع الموت قال الله سبحانه وتعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100]، ولا زالت الآية في ذكر المشركين الذين: {قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ} [المؤمنون:82 - 83]، فهم يقولون ذلك في حياتهم، فإذا جاء الموت وعرفوا اليقين الذي كانوا يهربون منه، وعرفوا الحق الذي كانوا يكذبونه، فقد كانوا يقولون: {أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ}، فلما رأوا ذلك وعاينوه إذا بهم يقول قائلهم كما قال الله عنهم: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ}، أي: نزل الموت بأحدهم، يقول قائلهم مستجيراً بربه: {رَبِّ ارْجِعُونِ}، أي: أرجعني إلى هذه الدنيا مرة أخرى {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ}. قال تعالى: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ}، وهذه قراءة الجمهور، وقراءة يعقوب: ((قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِي))، بالياء مكان الكسرة. وقوله: {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ}، أي: من الدنيا، قال الله: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}، أي: أن جواب الله له: أنه يستحيل أن ترد إلى الدنيا مرة ثانية، فلن يكون هذا إنما هي مرة واحد تكون فيها في الدنيا، فإما أن تفوز وإما أن تخسر الخسران المبين والعياذ بالله. وقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} هذه الكلمة هي قوله تعالى: {رَبِّ ارْجِعُونِ}، فهي كلمة لا ينظر إليها ولا يأبه بها، ولا يرد عليه عند طلبها بجواب يفرح به، وإنما قال لهم: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]. وقوله تعالى: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}، البرزخ: حياة القبر، وهي ليست كحياة الدنيا ولا كحياة الآخرة، بل هو ميت الجسد، ولكن روحه إذا كان من الكافرين فهي في أسفل سافلين تعذب، وإن كان من المؤمنين فإن روحه تنعم عند الله سبحانه وتعالى. وهؤلاء عندما يقولون: {رَبِّ ارْجِعُونِ}، هم في هذا الوقت في حياة البرزخ، أي: المرحلة التي بين الدنيا وبين الآخرة، وهي مرحلة القبور. وقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا}، قيل: يرجع الضمير في (إنها) على الكلمة وهي قولهم: {رَبِّ ارْجِعُونِ}، وقيل: إنها تعود على كلمة الله سبحانه وتعالى أنه لن يؤخر نفساً إذا جاء أجلها، فهي كلمة قالها ربنا سبحانه وقوله صدق وحق. وعلى القول الأول فالرد على طلبهم هو قوله تعالى: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ}، وكلمة (من ورائهم) تأتي بمعنى: خلف الإنسان، وتأتي بمعنى: الغيب، وهذا الغيب قد يكون أمام الإنسان، فهنا قوله سبحانه: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ}، أي: أمامهم، ولكن هذا غيب لا يراه أحد، فعبر بقوله سبحانه، {وَمِنْ وَرَائِهِمْ}، أي: كأنهم مستورون عن الناس في الدنيا، والبرزخ هو الحاجز بين الشيئين.

تفسير قوله تعالى: (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون)

تفسير قوله تعالى: (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) وقال سبحانه وتعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101]، النفخ في الصور نفختان: نفخة الموت، ونفخة البعث والإحياء والنشور، فنفخة الموت يموت فيها الجميع، وبعدها يصبح الكل أمواتاً. والنفخة الثانية: يوم يبعثون للحساب والجزاء، فإذا بعثوا فكل إنسان يفر من كل أقربائه، كما قال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37]. قال تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ}، فعندها لا أحد ينظر إلى نسبه، بل الكل يقول: نفسي نفسي. قال ابن عباس رضي الله عنه: لا يفتخرون بالأنساب في الآخرة كما يفتخرون بها في الدنيا. وهناك معنى آخر: وهو أنه لا يقول الإنسان: أنا فلان بن فلان، فهذا إنما كان في الدنيا، فقد كانوا فيها يتساءلون عن أنسابهم، أما في الآخرة فلا يتساءلون عن الأنساب كما كانوا يتساءلون في الدنيا؛ لهول ما يرون، فقد قاموا مفزوعين عندما رأوا أن الملائكة تنزل من السماء وتحيط بهم وهم في فزع عظيم، فعلى ذلك لا أنساب بينهم ولا يتساءلون. وعنه أيضاً قال: إن ذلك في النفخة الأولى حين يصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون، وصحيح إنه إذا جاء الموت فلا يسأل الناس بعضهم البعض عن الأنساب، ولكن عند القيام من القبور للحساب فهذا أشد وأفزع، وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم (أنهم يحشرون يوم القيامة حفاة عراة غرلاً)، والسيدة عائشة رضي الله عنها لما سمعت ذلك سألت النبي صلى الله عليه وسلم: (عراة ينظر بعضهم إلى بعض؟! قال: الأمر أشد من ذلك)، أي: أن كل إنسان مشغول بنفسه. ولقد سأل رجل ابن عباس رضي الله عنهما عن هذه الآية: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:27]، كيف يكون ذلك وقد قال تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101]؟ وهنا يقول تعالى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:50]، فوضح له ابن عباس رضي الله تبارك وتعالى عنه، فقال: لا يتساءلون في النفخة الأولى؛ لأنه لا يبقى على الأرض حي. أما قوله: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:27]، فذلك أنهم إذا دخلوا الجنة تساءلوا، وهذا صحيح، وقد يقال: إن ذلك في النفخة الثانية حين يبعثون من قبورهم، فلا أحد يسأل أحداً عن شيء ولكن بعد أن يفوز المؤمنون بدخولهم الجنة يسأل بعضهم بعضاً عن أشياء كانت في الدنيا، كما قال تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:26]، أما حين قاموا من قبورهم يوم الفزع الأكبر فلا أحد يسأل أحداً عن شيء.

دقة الحساب يوم القيامة

دقة الحساب يوم القيامة جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (يؤخذ بيد العبد أو الأمة يوم القيامة فينصب على رءوس الأولين والآخرين، ثم ينادي مناد: هذا فلان بن فلان، من كان له حق فليأت إلى حقه، فتفرح المرأة أن يدور لها الحق على أبيها أو على أخيها أو على زوجها)، وقد كان الناس في الدنيا كل منهم يقول للآخر: أفديك بكل شيء عندي، لكن هذا الكلام يوم القيامة يذهب، فإذا بالمرأة تفرح أن يكون لها على أبيها حق، فتأخذ من حسناته، وكذلك الحال في زوجها. ثم قرأ ابن مسعود: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101]، أي: ينسى كل إنسان أن هذا أبوه أو هذا أخوه أو هذا ابنه، فهو يريد أن يأخذ حسنات من أي إنسان لكي يفلت من العذاب ويدخل الجنة. ثم قال ابن مسعود: فيقول الرب سبحانه وتعالى: آت هؤلاء حقوقهم، فيقول الإنسان: يا رب! قد فنيت الدنيا فمن أين آتيهم به؟ فيقول الرب للملائكة: خذوا من حسناته، فأعطوا كل إنسان بقدر طلبته -فوزعت هذه الحسنات على هؤلاء- فإن كان هذا الإنسان الذي يؤخذ من حسناته ولياً لله عز وجل في الدنيا ففضلت من حسناته مثقال حبة من خردل، ضاعفها الله تعالى له حتى يدخله بها الجنة، وهذا من فضل الله العظيم سبحانه وتعالى، أي: أنه إذا فضلت وبقيت من حسنات هذا الإنسان أشياء يسيرة فإن الله عز وجل يضاعفها، وتلا ابن مسعود رضي الله تبارك وتعالى عنه هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:40]، فيضاعف الله له هذه الحسنة حتى يستحق بها أن يدخل الجنة، قال: (وإن كان عبداً شقياً قالت الملائكة: رب! فنيت حسناته) أي: انتهت حين وزعت على هؤلاء الذين ظلمهم، وبقي آخرون يطالبونه بحقوقهم، (فيقول الله تعالى: خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته، يعني: خذوا من سيئات هؤلاء المظلومين وأضيفوها على سيئاته حتى يعذب بها بدلاً عن هؤلاء الذين ظلمهم، قال: (وصكوا له صكاً إلى جهنم)، والعياذ بالله. ولذلك فينبغي للإنسان المؤمن أن يكون ضنيناً بحسناته أن يضيعها، فلا يقع في غيبة أو نميمة، أو زور وبهتان، ولا يظلم أحداً من الخلق فيظلم نفسه، فإن الحساب يوم القيامة عسير. نسأل الله عز وجل أن يجعل حسابنا يسيراً. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة المؤمنون [101 - 108]

تفسير سورة المؤمنون [101 - 108] يذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات أن الكفار في يوم القيامة لا أنساب تنفعهم أو تنقذهم من عذاب الله كما كانت تنفعهم في الدنيا، وعندما توضع صحائفهم في الميزان فإن سيئاتهم ترجح على حسناتهم، فيأمر الله بهم إلى النار فتلفح وجوههم فتشوهها، فيقرون ويعترفون لله تعالى أنهم كانوا قوماً ضالين، ويطلبون من الله تعالى أن يعيدهم إلى الدنيا ليوحدوه ويعبدوه، فيرد الله عليهم رداً شديداً وشنيعاً أن اخسئوا فيها ولا تكلمون.

تفسير قوله تعالى: (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون)

تفسير قوله تعالى: (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم, بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة المؤمنون: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:101 - 108]. ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات قيام الساعة فقال سبحانه: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ}، وقد ذكر لنا ربنا سبحانه وتعالى في آيات أخرى النفخ في الصور، وذكر أنه ينفخ مرتين: نفخة الصعق، ونفخة الإحياء والبعث. فإذا نفخ النفخة الأولى فإنه يموت جميع الخلق، فلا أحد ينفع غيره، لا الوالد ينفع ولده، ولا الولد ينفع والده وهكذا. فإذا نفخ في الصور النفخة الثانية قاموا من القبور إلى العرض والنشور، وكل إنسان في فزع شديد، فلا أحد ينظر إلى أحد، ولا أحد ينفع أحداً، ولا يدعى إنسان بنسبه، فلا يقال: يا فلان تعال أنقذني أنا أبوك أو أنا ابنك، فكل إنسان يقول: نفسي نفسي، فلا يسأل الناس في هذا اليوم عن أسمائهم أو أنبائهم أو أحوالهم أو أنسابهم، فكل إنسان منشغل بنفسه.

تفسير قوله تعالى: (فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون)

تفسير قوله تعالى: (فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون) قال الله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المؤمنون:102] تحضر الخلائق للعرض أمام رب العالمين سبحانه ويؤتون الكتب، فمنهم من يأخذ كتابه بيمينه ومنهم من يأخذ كتابه بشماله من وراء ظهره، فالإنسان الذي يأخذ كتابه بيمينه ينجح النجاح العظيم ويقول: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:19]، ويحضر الميزان وربنا سبحانه وتعالى يقول: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} [الأعراف:8] أي: العدل القسط عند رب العالمين سبحانه، فهنا لا أحد يظلم شيئاً، فتوزن أعماله الصالحة وتوزن أعماله السيئة، وأيهما رجح كان من أهل النجاح أو من أهل الخسران، قال تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي: أفلحوا ونجحوا وكان النجاح الدائم والفوز المبين العظيم عند رب العالمين.

تفسير قوله تعالى: (ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم)

تفسير قوله تعالى: (ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم) قال الله تعالى: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون:103] فصحيفة أعماله وضعت في كفتي الميزان، فإذا بالسيئات رجحت على الحسنات فكان من الخاسرين، وكفة الأعمال الصالحة لم ترجح لأنها خفيفة، وكفة الأعمال السيئة ثقيلة، فإذا به والعياذ بالله يخسر أعظم الخسران. والخسران في الدنيا هو أن يخسر الإنسان ماله وأولاده وأصدقاءه، ولكن الخسران العظيم أن يخسر نفسه، والإنسان في الدنيا يفدي نفسه بأي شيء من أجل أن ينجو بها، فإذا جاء يوم القيامة يقول: نفسي نفسي، وإذا به في خسران مبين، ضاعت منه الدنيا وضاع منه العمل وإذا به من أهل النار والعياذ بالله. فالكفار خالدون في النار ولن يخرجوا منها، والموحدون لهم خلود في النار ولكن خلود دون خلود، ويكفي وصفه بأنه خلود فترة طويلة جداً لا يعتد بالسنين، فلا هو مائة سنة ولا مائتي سنة ولا ألف سنة ولا غير ذلك، ولكن {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47] فإذا كان اليوم الواحد بألف سنة فكم سيكون الخلود في نار جهنم والعياذ بالله؟!

تفسير قوله تعالى: (تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون)

تفسير قوله تعالى: (تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون) قال تعالى: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون:104] والنار والعياذ بالله تلفح الوجه، وأشرف ما في الإنسان وجهه، وهو يحميه بسائر أعضائه ويكف عنه الشرور بيده وبرجله. فالنار تبدأ في وجوه هؤلاء الكفار فتشويها، وتلفح بمعنى: تنفح في الوجه أو تنفخ بلهيبها في وجوههم فتحرقها وتلسعها بنار جهنم.

معنى قوله تعالى (وهم فيها كالحون)

معنى قوله تعالى (وهم فيها كالحون) وقوله تعالى: {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} كلح الإنسان بمعنى: عبس وجهه وكان فيه عبوس وضيق وانقباض، (وهم فيها كالحون) قال ابن عباس: وهم فيها عابسون، وأيضاً الكلوح في خلقة الإنسان التشويه والقبح فيها، فهم في غاية العبوس من شدة ما يقاسونه من نار جهنم والعياذ بالله فهم فيها عابسون. قالوا: الكلوح تكشر في عبوس، يقال: فلان كشر عن أنيابه أي: أنه تقلصت العضلات التي في الوجه بحيث انفتح الفم وظهرت الأنياب، وبمعنى: تبسم، لأنه عندما يتبسم الإنسان تنقبض عضلات الوجه، فيبدو الفم والأسنان، فهذا أصل الكشر. وهنا يقول أبو الدرداء رضي الله عنه: إننا نكشر في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم، فنكشر بمعنى نتبسم، أي: ندفع شر هؤلاء بالتبسم في وجوههم ولكننا لا نحبهم، فهذا الكشر بمعنى ظهور أسنان الإنسان، وهم في النار لا يضحكون ولكن من شدة العذاب تقلصت الشفاه فإذا بالأسنان تبدو فيها، والمنظر غاية في القبح فالوجوه عابسة والأسنان بادية. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ألم تر إلى الرأس المشيط بالنار قد بدت أسنانه وقلصت شفتاه. وفي الترمذي عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً: (وهم فيها كالحون) قال: (تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه، وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرته)، وإن كان في إسناده ضعف. والإنسان المحروق بالنار فإن جلده يشيط وينكمش، فكذلك هؤلاء، فعندما تأتي نار جهنم والعياذ بالله على وجوههم فإنها تنكمش هذه الوجوه، فإذا بهم عابسون في نار جهنم من شدة الضيق والهم والعذاب الذين هم فيه، كذلك الوجوه مشوية ومشوهة، قال تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56] والعياذ بالله. والموحدون الذين كانوا يصلون في الدنيا وكانوا يعصون ربهم وغلبت عليهم السيئات فدخلوا النار، فإن النار لا تأتي على الأماكن التي كانوا يسجدون عليها، وهي: الجبهة والكفان والركبتان وبطون أصابع القدمين.

تفسير قوله تعالى: (ألم تكن آياتي تتلى عليكم وكنا قوما ضالين)

تفسير قوله تعالى: (ألم تكن آياتي تتلى عليكم وكنا قوماً ضالين) ثم قال لهم ربهم سبحانه: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [المؤمنون:105] فيبكتهم ربهم ويقررهم على ما كانوا عليه في الدنيا: أليس كان القرآن يتلى عليكم؟ ولماذا لم تصدقوا به بل كنتم به تكذبون؟ وسيكون جوابهم على سؤال ربهم: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ} [المؤمنون:106]، وهذه قراءة الجمهور، وقراءة حمزة والكسائي وخلف: (ربنا غلبت علينا شقاوتنا)، أي: كنا في شقاوة في الدنيا، ولها معاني: المعنى الأول: غلب علينا ما كنا فيه من لذات وشهوات وشبهات، فكنا من أهلها وضيعنا أنفسنا، وهذا معنىً صحيح. ومعنىً آخر: أنهم قالوا ذلك لربهم سبحانه: غلبت علينا شقوتنا أي: حسن ظننا بأنفسنا أننا لن نعذب، وأنك كما أعطيتنا في الدنيا ستعطينا يوم القيامة فلم نعمل صالحاً. وهذه مصيبة الإنسان أن يحسن الظن بنفسه ويظن أن إعطاء الله له في الدنيا دليل على أنه يحبه، ولذلك ترى الإنسان إذا كسب مكسباً فإنه يقول: ربنا يحبني لأنني كسبت هذا النهار كذا! وما يدريه أنه يحبه أو يبغضه، وكونه يعطيه من الدنيا ليس دليلاً على المحبة، وإلا لو كان هذا محبة لكان أولى بها النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يبيت أحياناً ويطوي صلى الله عليه وسلم على بطنه من شدة الجوع، وكانت النار لا توقد في بيته الشهر والشهرين والثلاثة صلوات الله وسلامه عليه، وإنما كان يأكل الأسودين التمر والماء عليه الصلاة والسلام، فإعطاء الله عز وجل العبد في الدنيا ليس دليلاً على محبته وليس دليلاً على أنه سوف يعطيه يوم القيامة. المعنى الثالث من المعاني: أنهم احتجوا بالقدر واعتذروا به، فقالوا: مثلما أنت تقول في الدنيا: قدر الله وما شاء فعل، فهذا قدر الله عز وجل، فقالوا ذلك على وجه الحسرة: أنه غلبت علينا شقوتنا، أي: ربنا كتب عنده أننا معذبون، وهانحن عذبنا بما كتبه الله عز وجل، وربنا إذا حاسبهم لن يقول: قدرت عليكم كذا فأدخلتكم النار، وإنما يقول: عملتم كذا، فيسأل الإنسان عن عمله وليس عن قدر الله سبحانه وتعالى. وأمر القدر مبني على علم الله وحكمته وقدرته سبحانه وتعالى، فهو على كل شيء وتقديره لكل شيء، وهذا أمر أمرنا أن نؤمن به، أما أن تحتج به فلا ينفعك الاحتجاج بالقدر؛ لأنك تعمل الحسنة وتجد نفسك قادراً على فعلها، ومختاراً أن تفعل أو تترك. والله عز وجل علم أنك تفعل، وقدر أنك تفعل، ولكن أعطاك اختياراً فاكتسبته باختيارك، ولم تستشعر وأنت تعمل الحسنة أنك مجبر عليها، وفي وقت فعل السيئة أيضاً لا تستشعر أنك مجبر عليها وإنما تفعلها باختيارك. وقد أمرنا الله تعالى أن نؤمن بالقضاء والقدر، وأن الله قدر وعلم سبحانه وكتب عنده سبحانه وتعالى، وأن ما علمه مستحيل أن يغير، ولكن حين نعمل نحن نستشعر بالاختيار وبالكسب في العمل، فالإنسان عندما يأكل فهو قادر أن يمسك اللقمة وأن يضعها في الإدام أو في الملح أو في الحلو، ومختار أن يأكل هذا أو يتركه، ولم يقل في هذه الحال: القدر جعلني آكل هذا وأترك هذا. فكذلك العمل، فكما قدر الله عز وجل لك قوتك أن تأكله ومكتوب عنده ذلك، كذلك قدر عنده سبحانه أنك تعمل هذا الخير أو هذا الشر، فهذا الأمر نؤمن به، أما العمل فيلزمك أن تعمل الخير وأن تترك الشر، فأنت محاسب على اكتسابك خيراً أو شراً، ولن يقول الله للناس يوم القيامة: ادخلوا النار لأنني كتبتها عليكم، ولكن يقول: جزاءً بما كنتم تعملون. فلما احتج هؤلاء بالقدر أنه ساقهم إلى النار وأنهم ضلوا في الدنيا وتاهوا عن طريق الجنة لم يسمع منهم ذلك.

تفسير قوله تعالى: (ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون)

تفسير قوله تعالى: (ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون) ثم قالوا متذللين لرب العالمين ذلاً لا ينفعهم: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:107] فعرفوا هذا الوقت أنه ربهم سبحانه، فإذا بهم يتذللون له: ربنا غلبت علينا شقوتنا، وأين إيمانكم بالقضاء والقدر عندما كنتم في الدنيا؟ والآن آمنتم، فهنا {لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} [الأنعام:158] فيوم القيامة يوم الجزاء، أما الدنيا فهي للعمل، ويوم القيامة لا إيمان فيها ولا عمل، فقد صار الغيب شهادة. وقوله تعالى: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} أي: لن نعمل هكذا مرة أخرى إن رجعنا إلى الدنيا، وقد أخبرهم الله تعالى في الدنيا أنها مرة واحدة فقط، وأن الله سبحانه وتعالى يحيي الإنسان ثم يميته ثم يبعثه ليوم القيامة ولا رجوع إلى الدنيا مرة ثانية، فلما قالوا: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} كان A { قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108] يقال: خسئت الكلب بمعنى: طردته وأبعدته، وهذه الكلمة تقال للكلاب والخنازير، فصاروا كالكلاب في نار جهنم والعياذ بالله، ورد الله عليهم بهذا الرد الشديد الفظيع القبيح: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} أي: اذهبوا إلى نار جهنم مطرودين من الرحمة ولا تكلمون. وجاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: إن أهل جهنم يدعون مالكاً خازن النار فلا يجيبهم إلا بعد أربعين عاماً، قال تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77]، وذلك عندما يأمر الله البهائم أن تكون تراباً، فيتمنى الكافر أن يكون كالبهائم، قال تعالى: {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40]، ولما أيقن أنه لن يكون تراباً وأنه سيكون في نار جهنم خالداً فيها، فإنه ينادى مالكاً أن يميته الله في جنهم، قال تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77]، فكان الجواب أنه سكت عنهم أربعين سنة ثم قال لهم: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ}. وقال عبد الله بن عمرو: هانت والله دعوتهم على مالك ورب مالك، قال: ثم يدعون ربهم فيقولون: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:106 - 107] فيسكت عنهم ربهم سبحانه وتعالى أمداً طويلاً، قال: عبد الله بن عمرو: قدر عمر الدنيا مرتين، وتركهم في نار جهنم، ثم يرد عليهم بقوله: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108] قال: فوالله ما نبس القوم بعدها بكلمة. يعني: بعدما تضرعوا وطلبوا من مالك ليقض عليهم ربهم، ثم سألوا رب العالمين سبحانه وتعالى وكان الجواب ذلك، قال: فما نبس القوم بعدها بكلمة، وما هو إلا الزفير والشهيق في نار جهنم، فشبه أصواتهم بصوت الحمير، أوله زفير وآخره شهيق. وجاء أيضاً في الأثر أن الله سبحانه وتعالى مكث عنهم ما شاء الله وناداهم: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [المؤمنون:105] فلما سمعوا ذلك ظنوا أن الله عز وجل سيرحمهم وسيخرجهم من نار جهنم، فقالوا: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:106 - 107]، فقال عند ذلك: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]، فانقطع عند ذلك الرجاء والدعاء وأقبل بعضهم على بعض ويصرخ بعضهم في وجوه بعض، وأطبقت عليهم النار والعياذ بالله. هؤلاء هم أهل النار، وهذا حالهم في نار جهنم يستغيثون فيغاثون بماءٍ كالمهل يشوي الوجوه، ويطلبون الطعام وطعامهم من شجرة الزقوم، ونار مطبقة عليهم، وينادون ربهم أن يرجعهم إلى الدنيا ولا رجوع، ويقال لهم: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ}، ويطلبون أن يكونوا تراباً فلا يكونون كذلك أبداً، فهذا حال أهل النار، فمن من الناس يتذكر هذا الحال فيود أن يكون مع هؤلاء والعياذ بالله؟! وعمل الإنسان في الدنيا هو الذي ينجيه من عذاب رب العالمين يوم القيامة، والدنيا عمرها قصير وخطرها كبير عظيم، فالإنسان المسلم يحتاط لنفسه في هذه الدنيا قبل أن يرد هذا المورد الذي لا خروج منه. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة المؤمنون [102 - 118]

تفسير سورة المؤمنون [102 - 118] في هذه الآيات تقريع من الله وتوبيخ لأهل النار على ما ارتكبوه من الكفر والمآثم والمحارم والعظائم التي أوبقتهم، ومن ذلك استهزاؤهم بعباد الله المؤمنين وأوليائه المتقين والسخرية منهم، ووبخهم سبحانه وتعالى على تضييعهم أعمارهم القصيرة في الدنيا بما يسخط الله ويغضبه، ثم إنه سبحانه وتعالى حذر وتوعد من أشرك به غيره وعبد معه سواه، وأنه لا فلاح ولا فوز لديه يوم القيامة للكافرين.

تفسير قوله تعالى: (إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا)

تفسير قوله تعالى: (إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا) بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، أما بعد: قال الله عز وجل في سورة المؤمنون: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ * قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ * وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون:109 - 118]. هذه الآيات الأخيرة من هذه السورة الكريمة سورة المؤمنون، يذكر الله سبحانه وتعالى فيها الجزاء الذي يكون يوم القيامة، وأن الناس في هذا اليوم العظيم منهم من تثقل موازينه، ومنهم من تخف موازينه، قال تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون:102 - 103]. هؤلاء الخاسرون خسروا أعظم شيء عندهم وهي أنفسهم، فالإنسان قد يخسر أي شيء ويصبر على هذا الخسران، ولكن أن يخسر نفسه فيكون في نار جهنم فهذا هو الخسران المبين. {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون:104] فإذا دخلوا نار جهنم والعياذ بالله لفحت النار وجوههم، وتبقى آثار لفحها على وجوههم، {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون:104] قد تشوهت وجوههم وعبست. ويناديهم ربهم سبحانه: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المؤمنون:105] وهذا فيه تبكيت لهم من ربهم، أي: قد جاءكم هذا القرآن العظيم فلم تعملوا به، واتخذتموه وراءكم ظهرياً وكنتم به تكذبون. قال تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ} [المؤمنون:106]. فأرادوا أن يحتجوا بالقدر يوم القيامة، أي: أنك كتبت علينا الشقاوة في الدنيا فصرنا إلى النار، فلم يسمع الله لقولهم؛ لأن الإنسان يعلم وهو يعمل الشيء الحسن أن هذا حسن، ويفعله وهو قادر على فعله، ويرى في نفسه القدرة على عمل الصالحات وترك السيئات. فهو مختار مكتسب للحسنات أو للسيئات، والله يوفق من يشاء من عباده سبحانه ويهدي من يشاء. فذكر تعالى أنهم طلبوا الرجوع إلى الدنيا، فقالوا: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:107]، فكان الجواب عليهم: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]، أي: ابقوا في نار جهنم مطرودين من رحمة رب العالمين سبحانه، كالكلب حينما يطرده الإنسان. ثم ذكر تعالى أن من أسباب دخول هؤلاء النار أنهم كانوا يستهزئون من المؤمنين، فالمؤمنون في الدنيا كانوا يدعون ربهم سبحانه، ويدعون إليه سبحانه، والكافرون كانوا غالبين قاهرين، فنظروا إليهم بنظرة استهزاء واستخفاف، فسخروا منهم وعذبوهم، قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون:109].

تفسير قوله تعالى: (فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري)

تفسير قوله تعالى: (فاتخذتموهم سخرياً حتى أنسوكم ذكري) قال الله تعالى: {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي} [المؤمنون:110]. فالكفار في الدنيا كانوا أقوياء لا يعبئون بالمسلمين، فينقلب الأمر عليهم يوم القيامة، يوم يحق الله عز وجل فيه الحق ويبطل الباطل، فلم تنفعهم قوتهم التي كانت في الدنيا، قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:94]. أي: فيجيئون إلى ربهم سبحانه فرادى لا يملكون مالاً ولا شيئاً ينفعهم ويدفع عنهم العذاب. وفي قوله تعالى: (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ) قراءتان: القراءة الأولى بعدم الإدغام، وهي قراءة ابن كثير وحفص عن عاصم، ورويس عن يعقوب. والقراءة الثانية بإدغامها، وهي قراءة باقي القراء، فإنهم يدغمون الذال في التاء ويقرءونها تاءً. و (سخرياً) كذلك فيها قراءتان: القراءة الأولى بكسر السين وهي قراءة نافع وأبي جعفر المدنيين، والقراءة الثانية بضم السين، وهي قراءة حمزة والكسائي وخلف: (سُخرياً) وكأنها من التسخير، أي: سخرتموهم وألزمتموهم بأعمال شاقة وأتعبتموهم في الدنيا. فقوله تعالى: (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا) بمعنى: تسخرون من المؤمنين وتستهزئون بهم، وبمعنى: أتعبتموهم بالأعمال الشاقة؛ لأنهم كانوا عليهم قادرين وقاهرين. وقوله تعالى: {حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي}، فالكافر ينسى ذكر الله عز وجل، والمؤمن يدعو إلى الله عز وجل، فهو ذاكر لله سبحانه وتعالى، فكيف أنسى المؤمن الكافر ذكر الله؟ و A أنساه المؤمن بأن انشغل الكافر به، فكلما ذكر المؤمن ربه كان الكافر له بالمرصاد يستهزئ به ويتعبه ويسخر منه. فشغلة الكافر السخرية والاستهزاء والإتعاب للإنسان المؤمن، فانشغل بذلك عن أن يذكر الله وعن أن يتفكر فيما يقوله المؤمنون، قال تعالى: {حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} [المؤمنون:110]. قال الله تعالى في السورة الأخرى: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين:34 - 36]. وقال تعالى قبلها: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ} [المطففين:29 - 31]. فالكفار إذا رأوا المؤمنين ضحكوا منهم حتى وإن أظهروا لهم كلاماً طيباً أمامهم، فإنهم من ورائهم يسخرون منهم، هذا إذا كان المؤمن قوياً، أما إذا كان المؤمن ضعيفاً فإن الكافر يستهين به علانية ويسخر منه ويستهزئ به. وكذلك إذا انقلب الكفار إلى أهاليهم فإنهم يقولون: رأيت اليوم واحداً من هؤلاء المؤمنين! ويضحك منه ويستهزئ به ويجعله قصته في بيته. فهو في الطريق يضحك من المؤمن وفي بيته ويوم القيامة يريهم الله عز وجل أعمالهم حسرات عليهم، قال تعالى: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} [المطففين:34]. فالكافر في نار جهنم والمؤمن ينظر إليه وهو في الجنة ويسخر منه ويضحك عليه كما كان يفعله في الدنيا، فقد انقلب عليه في هذا اليوم، قال تعالى: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين:34 - 36]، أي: هل جوزي الكفار ما كانوا يفعلونه في الدنيا؟

تفسير قوله تعالى: (إني جزيتهم اليوم بما صبروا)

تفسير قوله تعالى: (إني جزيتهم اليوم بما صبروا) قال الله تعالى: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون:111] فقد جزاهم الله سبحانه وتعالى الخير على ما صبروا في الدنيا، فهؤلاء هم الفائزون الفوز العظيم الذي لا خسران بعده. وفي قوله تعالى: ((أنهم هم الفائزون)) قراءتان: القراءة الأولى بفتح همزة (أنهم)، وهذه قراءة الجمهور، والقراءة الثانية بكسر همزة (إنهم)، وهذه قراءة حمزة والكسائي: ((إنهم هم الفائزون)).

تفسير قوله تعالى: (قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين فاسأل العادين)

تفسير قوله تعالى: (قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين فاسأل العادين) قال تعالى: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون:112 - 113] يذكر سبحانه عن هؤلاء الكفار حين خرجوا من قبورهم فيسألهم ربهم سبحانه: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} [المؤمنون:112] أي: كم مكثتم وجلستم في هذه الدنيا؟ وعندما يقارنون بين أيام الدنيا وعمر أحدهم الذي قضاه في الحياة الدنيا وبين يوم القيامة، فإن يوماً واحداً بخمسين ألف سنة، فيجدون أن هذا العمر الذي لبثوه في الدنيا لا شيء. وقوله تعالى: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} هذه قراءة الجمهور، وقرأها ابن كثير وحمزة والكسائي: ((قل كم لبثتم في الأرض عدد سنين))، وكذلك كلمة ((لبثتم)) نصف القراء يقرءونها بالإدغام، والنصف الآخر يقرءونها بدونه، فقرأها أبو جعفر وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي بالإدغام، وقرأها الباقون بدون الإدعام. {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} [المؤمنون:112] يسألهم ربهم بعد ما بعثوا من قبورهم ووقفوا في يوم الموقف العظيم بين يدي رب العالمين: كم قعدتم في هذه الدنيا؟ فالمكث هو العمر الذي كان في الدنيا أو الذي كان في قبورهم، وسواء هذا أو ذاك فهو عمر حقير وقليل بالنسبة إلى يوم القيامة. فيجيبون مستقلين لعمرهم السابق، بعدما قارنوا هذه الأيام التي كانت في الدنيا والتي كانوا فيها في البرزخ في القبور مع يوم القيامة هذا اليوم العظيم، قال تعالى: {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون:113]. وفي آية أخرى قال سبحانه وتعالى: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} [طه:103 - 104] فهنا عندما يقارنون بين أيام الدنيا وبين أيام الآخرة يقولون: لم نلبث فيها إلا يوماً واحداً. وقوله تعالى: {فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون:113] أي: اسأل من يعد من الملائكة فإنهم يعرفون ذلك، ونحن لسنا عارفين هل لبثنا يوماً أو جزءاً من اليوم. وقوله تعالى: ((فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ)) هذه قراءة الجمهور، وقراءة ابن كثير والكسائي وخلف ((فسل العادين)) أي: اسأل من يحسبون ذلك ويعدونه.

تفسير قوله تعالى: (قال إن لبثتم إلا قليلا)

تفسير قوله تعالى: (قال إن لبثتم إلا قليلاً) قال تعالى: {قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون:114] فيجيبهم ربهم سبحانه، وقيل: إنه النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يقول لهم: لم تلبثوا في الدنيا إلا شيئاً يسيراً وقليلاً إذا قورن بالآخرة. وقوله تعالى: {لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (لو) حرف امتناع، أي: امتناع وقوع الجواب لامتناع وجود الشرط، فلو كنتم تعلمون لآمنتم، ولكنكم أخذتم كلام المرسلين استهزاءً فلم تنتفعوا بذلك؛ لأنكم لم تعلموا العلم الذي ينفعكم. وفرق بين من عرف الشيء ومن علمه واستيقنه، فالكفار عرفوا ما أخبرتهم الرسل بأنهم يكونون في الدنيا دار التكليف وأن الآخرة دار الجزاء، أما أنهم يعلمون ذلك علم اليقين الذي يدخل في قلوبهم فلا، فلو كانوا يعلمون لآمنوا بهذا اليوم ولكنهم لم يصدقوا ولم يستيقنوا.

تفسير قوله تعالى: (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا لا إله إلا هو رب العرش الكريم)

تفسير قوله تعالى: (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً لا إله إلا هو رب العرش الكريم) قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115] أي: أفحسبتم أننا خلقناكم كالبهائم وكالدواب وتركناكم عبثاً؟! فحاشا لله سبحانه أن يكون في خلقه عبث ولعب! ولكنه يخلق كل شيء بحكمة منه سبحانه وتعالى وبعلم وقدرة. فإذا كان الله قد خلقهم من أجل أن يمكثوا في الدنيا وهي عمرٌ قليل، ويموت الناس فيها ثم لا يرجعون إلى الله، فأين العدل الإلهي الذي يكون للمظلوم من الظالم؟! فعدل الله عز وجل أن يعيدهم كما بدأهم، وأن يجازيهم على أعمالهم، والجواب من رب العالمين سبحانه: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:116] فتبارك وتعالى سبحانه وتمجد وتنزه وتقدس سبحانه، وهو الملك الحق سبحانه، لا يخلق شيئاً عبثاً، وإنما يخلق كل شيء لحكمة، فهو الله الملك الذي يملك كل شيء، فحكمه والذي يحكم كل شيء هو الحق، وما سواه فهو باطل مهما أوتي من ملك الدنيا. وقوله تعالى: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:116] فهو رب الدنيا ورب الآخرة، فالسماوات السبع والأرضون السبع كلها بجوار كرسي الله سبحانه وتعالى كحلقة في فلاة، والكرسي بجوار عرش رب العالمين سبحانه كحلقة في فلاة!! فيستحق العرش أن يوصف بأنه عرش كريم، فالله مالك الدنيا والآخرة، ومالك هذا العرش سبحانه وتعالى رب كل شيء ومليكه. وهذا هو الموضع الوحيد في القرآن الكريم الذي جاء فيه وصف العرش بأنه كريم، وفي سوى ذلك وصفه سبحانه بأنه العرش العظيم.

تفسير قوله تعالى: (ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به)

تفسير قوله تعالى: (ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به) قال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون:117]، فالذي يدعو مع الله عز وجل إلهاً آخر يقيناً لا برهان له به، والحال أنه لا برهان له به، وليس في الآية منطوق ومفهوم. فالمنطوق: {لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} والمفهوم منها: أن الذي يدعو مع الله إلهاً آخر له برهان، فهذا ليس مقصوداً، إنما معنى الآية: أن من يدعو إلهاً غير الله فهو لا برهان له بهذا الذي يقوله. ومعنى (لا برهان له به) أي: لا حجة له بذلك. وقوله تعالى: {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} هذا وعيدٍ شديد من الله عز وجل، فالمشركون الذين عبدوا غير الله أو الذين عبدوا إلهاً مع الله لا يفلحون أبداً.

تفسير قوله تعالى: (وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين)

تفسير قوله تعالى: (وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين) قال الله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون:118] هذا أمر للنبي صلى الله عليه وسلم ولأتباعه أن يسألوا الله عز وجل المغفرة والرحمة، وأن يصفوه بهذه الأوصاف الجميلة بأنه خير الراحمين وأرحم الراحمين سبحانه وتعالى. وقد بدأ الله هذه السورة الكريمة بقوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1] وختمها بهذا الدعاء الجميل: {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}. فالمؤمن يدعو ربه سبحانه الذي آمن به وأقام الصلاة وآتى الزكاة وفعل الصالحات من أجله أن يثيبه الله سبحانه وأن يغفر له، فبدأ الله بالأعمال الصالحة كالصلاة والزكاة وغيرهما وختم بهذا الدعاء الجميل: {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}.

النور

تفسير سورة النور [1 - 2] سورة النور من أعظم سور القرآن، وقد ابتدأها الله بذكر بيان شرفها وأهميتها، وذكر أنه أنزلها وفرضها، وأنه أنزل فيها آيات واضحات وموضحات لما نحتاج إليه، والمقصود منها أن نتذكر بها ما ينفعنا في ديننا ودنيانا، وقد اشتملت على أحكام كثيرة لم تذكر إلا فيها؛ ولذا اهتم أهل العلم بتفسيرها قديماً وحديثاً، وأفردوها بالتصنيف.

مقدمة عن سورة النور

مقدمة عن سورة النور الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة النور: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:1 - 3]. هذه السورة هي الرابعة والعشرون من كتاب الله سبحانه وتعالى، واسمها سورة النور؛ لما ذكر الله عز وجل فيها من قوله سبحانه: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور:35]، الآية. وهذه السورة من السور المدنية اتفاقاً، فكلها نزلت بالمدينة، ونزلت في أسباب، وسيأتي البعض من هذه الأسباب، والآيات عددها اثنتان وستون آية على العد الحجازي، وعلى العد الحمصي ثلاث وستون آية، وعلى عد باقي القراء أربع وستون آية. والخلاف في هذا العد مبني على مكان وقف النبي صلى الله عليه وسلم، فيعتبر أنه رأس آية، أو تكون الآية مكملة للآية التي قبلها، وأما الآيات فهي نفسها.

مجمل الأحكام التي ذكرت في سورة النور

مجمل الأحكام التي ذكرت في سورة النور لقد بدأها الله سبحانه وتعالى بقوله: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:1]، وإن كان القرآن قد نزل من عند الله سبحانه، وكل القرآن قد فرض علينا ربنا سبحانه أن نعمل بما فيه من شرعه سبحانه، لكن اختصت هذه السورة بكونها ذكر فيها أحكام عظيمة يحتاج إليها الناس: من العفاف والستر، فذكر الله عز وجل فيها الأحكام الشرعية في أمر العورات، وأنه ينبغي على الإنسان أن يحفظ عورته ولا يحل له أن يقع في الزنا، فإذا وقع الإنسان في الزنا فهو يستحق الحد الشرعي على ذلك. وفيها التحذير من مصايد الشيطان ومكايده للإنسان، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النور:21]، فالشيطان يدعو الإنسان لأن يقع في الفواحش، ويزين له الفاحشة حتى إذا وقع فيها صار الإنسان في كبيرة من المعاصي إلا أن يتوب الله عز وجل عليه. وفيها: ذكر الزاني والزانية، وكيف أنه لا يجوز للرجل أن يتزوج بامرأة زانية مشهورة بذلك إلا أن تتوب إلى الله عز وجل، والعكس كذلك، فالمرأة العفيفة لا يجوز لها أن تتزوج برجل عاهر زان مشتهر بذلك، فمن تاب تاب الله عز وجل عليه، وجاز له أن يتزوج من المرأة بعد التوبة، وكذلك المرأة. وفيها أيضاً: أن الإنسان الذي يقذف غيره بهذه الفاحشة ولم يأتِ بالبينة فإنه يحد، إذ الأصل أن الإنسان لا يتكلم في أعراض الغير، فإذا تكلم فيها فإنه يتكلم بخير أو يسكت، فإذا وقع في أعراض الناس ورماهم بهذه الفاحشة استحق أن يعاقب عقاباً يردعه ويردع أمثاله ممن يتكلمون في ذلك، فيجلد هذا الإنسان ثمانين جلدة على كونه يقذف إنساناً بأنه زنى، أو أنه وقع في هذه الجريمة. وقد يرمي الرجل امرأته بهذه الجريمة، ويصعب على الرجل أن يأتي بشهود، ويصعب عليه أن يداوم العشرة مع امرأة قد رآها وقعت في هذه الجريمة، لذا أنزل الله عز وجل شريعة في هذا الأمر: بأن الرجل يتلاعن هو وامرأته على ما يأتي تفصيله في هذه السورة الكريمة. وذكر الله عز وجل فيها أيضاً كيف يتعامل الإنسان مع ربه سبحانه وتعالى، حيث قال: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36]، وكيف يواظب على صلته بربه سبحانه وتعالى، وعلى طاعته لله عز وجل التي تكسبه نوراً في قلبه، وزيادة في إيمانه على ما يأتي فيها. فهذه السورة ذكر الله عز وجل فيها هذه الأحكام وغيرها، وقد كتب عمر رضي الله عنه إلى أهل الكوفة يأمرهم بأن يعلموا نساءهم سورة النور، وكان الصحابة يهتمون بهذه السورة جداً، فيتعلمونها ويعلمونها أزواجهم وأولادهم، فكان عمر يكتب إلى أهل الكوفة: علموا نساءكم -يعني: أزواجكم وبناتكم- سورة النور، وكذلك جاء عن عائشة رضي الله عنها مثل ذلك.

تفسير قوله تعالى: (سورة أنزلناها وفرضناها)

تفسير قوله تعالى: (سورة أنزلناها وفرضناها) قال سبحانه: {سُورَةٌ} [النور:1] أي: هذه سورة عظيمة، {أَنزَلْنَاهَا} [النور:1] أي: نزلت من عند رب العالمين، {وَفَرَضْنَاهَا} [النور:1] أي: فرضنا عليكم الأحكام التي فيها أن تعملوا بها، وأن تتعلموها، وأن تأمروا بها أنفسكم وغيركم، وغيرها من القرآن مفروض علينا أن نعلم به، ولكن اختصت هذه السورة بهذا التصريح لما فيها من أحكام عظيمة يحتاجها كل الناس، من أحكام الستر والعفاف. قرأ الجمهور {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} [النور:1]، وقرأ ابن كثير المكي وأبي عمرو البصري (وفرّضناها) أي: نزلنا هذه السورة من عندنا مقطعة في الإنزال، فلم تنزل كلها مرة واحدة، وكأنها مأخوذة من الفريضة، ومنها علم الفرائض والمواريث، بمعنى: تقطيع الأنصباء، فهذا له النصف وهذا له الربع، وهذا له كذا، ففيه تقطيع الأنصباء، ومنها: فرضة القوس التي تكون في آخر القوس ويربط فيها الوتر، فالفريضة كأنها القطعة من الأحكام المأمور أن نعمل بها. فـ {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} [النور:1] أي: قطعناها في الإنزال فنزلت من عند الله عز وجل آيات آيات حتى اكتملت السورة. وكلمة سورة معناها في اللغة: المنزلة الشريفة، فالسورة مأخوذة من ذلك، أنها جاءت بمنزلة عظيمة، ووقع عظيم في قلوب المؤمنين، ولها القدر العظيم عند الله عز وجل وعند المؤمنين، فسميت السورة سورة لشرفها، وأنها نزلت من عند رب العالمين سبحانه. قال: {وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [النور:1] أي: واضحات في دلالتها {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:1]، وكأن المعنى: تتذكرون ما نزل من عند الله، فتعملون بهذا الذي ذكركم به، وكلمة {تَذَكَّرُونَ} [النور:1] فيها القراءتان: قراءة حفص عن عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف (تذكَّرون)، وقراءة باقي القراء: (تذَّكَّرون)، وأصلها: تتذكرون ما نزل من الأحكام فلا تنسوا ذلك؛ لعلكم تعملون بما جاء من عند الله سبحانه. والتذكر عكس النسيان، والنسيان قد يكون طبيعة في الإنسان، وقد يكون عمداً، فالأول يعذر فيه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه)، والنسيان قد يكون بمعنى: معاملة الشيء معاملة المتغافل عنه، وهذا فيه عقوبة على الإنسان، والنسيان يأتي بمعنى الترك كما قدمنا قبل ذلك. وفي الآية: {مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا} [طه:124 - 126]، فالنسيان هنا بمعنى: ترك العمل بما فيها، فالذي يتعامل مع آيات القرآن بتغافل عنها، فيرى الآيات أمامه ومع ذلك لا يعمل بما فيها، فقد تعمد الترك، وهو أحد معاني النسيان لكتاب الله عز وجل، وهو الذي يستحق يوم القيامة أن يعامل معاملة المنسي فقال الله عز وجل: {كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:126] أي: تترك في نار جهنم كالمنسي، وإن كان ربنا لا ينسى شيئاً سبحانه.

بيان بعض الحدود الموجودة في كتاب الله

بيان بعض الحدود الموجودة في كتاب الله ثم ذكر الله تعالى حكماً من الأحكام فقال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2]، وهذا حد من الحدود الشرعية التي جعلها الله عز وجل حاجزاً بينك وبين الوقوع في الفاحشة والمعصية، فإذا وقعت في هذه الفاحشة والعياذ بالله فإنه يقام عليك الحد الشرعي فيها. فحد الزاني حد من الحدود، وسيأتي في السورة نفسها حد آخر وهو حد القاذف، وهو في الذي يقذف غيره بجريمة الزنا ونحوها. وفي القرآن حدود أخرى مثل حد السارق في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة:38]، وفي القرآن أيضاً حد الحرابة، وذلك في قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة:33]، فأمر الله عز وجل بأن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، فقال: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة:33]. وكذلك جاء في سنة النبي صلى الله عليه وسلم حد آخر وهو حد شار الخمر، وهو أن يجلد ثمانين جلدة أو أربعين جلدة على الخلاف في ذلك، وكذلك جاء في السنة حد الساحر وهو القتل بالسيف، فهذه حدود من الحدود التي ذكر الله عز وجل في كتابه أو جاءت في سنة النبي صلوات الله وسلامه عليه. ومنها: حد من يقع في اللواط، وهل هو ملحق بالزنا فيكون مثله أو أن له حكم آخر: وهو أن يرجم هذا الإنسان؟ على كلام يذكره العلماء فيه، فهذه الحدود الشرعية هي التي تمنع الإنسان من الوقوع في المعاصي، فالشريعة جاءت لنفع البشر ودفع الضرر عنهم، فالأحكام والحدود الشرعية تعزير وتخويف للإنسان أن يقع في ذلك.

تفسير قوله تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة)

تفسير قوله تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، قراءة الجمهور (مائة جلدة)، ويقرأها أبو جعفر (مية جلدة)، ويقف حمزة على (مائة). قال تعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2]، قوله: {رَأْفَةٌ} [النور:2] بسكون الهمزة هي قراءة الجمهور، وقراءة ابن كثير بالفتح (ولا تأخذكم بهما رَأَفَة في دين الله) على خلاف فيها. والزنا كان معروفاً عندهم في الجاهلية، وكان مشهوراً جداً، وكان في أهل البدو بغايا لهن بيوت معروفة، وعليها رايات وأعلام معروفة، فهذا بيت فلانة، وهذا بيت فلانة، ولذلك كان العرب يقتلون البنات خوفاً من هذا العار، فإذا كان الإنسان لا يربى بناته في بيته تربية صحيحة على دين الله عز وجل فمن الممكن أن تقع البنت في هذه الجريمة.

تعريف الزنا وحد مرتكبه

تعريف الزنا وحد مرتكبه الزنا شرعاً قالوا: هو اسم لوطء الرجل امرأة في فرجها من غير نكاح ولا شبهة نكاح لمطاوعتها. فإن طاوعته اشتركت معه في الجريمة، وأما إذا كانت مكرهة على ذلك بأن اغتصبها فهو وحده الذي يقام عليه الحد، سواء حد الزنا، أو يقام عليه حد الحرابة في ذلك. ويعرف الزنا بأنه: إدخال فرج في فرج مشتهىً طبعاً، محرم شرعاً، وتعريف الزنا بهذا يدخل تحته اللواط، وإتيان البهائم والعياذ بالله. قال تعالى: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، هذا الحد في الزاني البكر الذي لم يتزوج، والزانية البكر التي لم تتزوج، وأما الذي تزوج فهذا له حد آخر وهو الرجم، سواء قال العلماء بأنه يجلد أولاً بهذه الآية ثم يرجم بعد ذلك، أو أنه يرجم مباشرة على ما في ذلك من تفصيل. فالزانية والزاني البكران أمر الله عز وجل بجلد كل واحد من الاثنين مائة جلدة، أما في أمر الثيب الزاني فجاء في حديث للنبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الثيب بالثيب جلد مائة والرجم)، وفرق الله عز وجل بين الاثنين فجعل الحد في البكر أخف وفي الثيب أشد؛ لأن الإنسان الذي تزوج ثم وقع في الزنا لا فائدة فيه؛ إذ أنه ترك ما أحل الله له، وقضى شهوته فيما حرم الله عليه، مع تمكنه من قضائها في الحلال فجعل الحد فيه حداً شديداً وهو أن يرجم حتى الموت؛ تأديباً وتكفيراً لسيئته، ولأجل كل من يسمع هذا فيمتنع من الجريمة خوفاً من العقوبة. ومهما ادعى الناس أن مثل هذه العقوبات فيها قسوة وشدة، فهؤلاء الكفار لا قيمة لقولهم، فهم يهربون من دين الله سبحانه، فما إن يجدوا مفاسد ما ذهبوا إليه إلا ويبدءون بالرجوع إلى الأحكام الشرعية، لكن من غير أن ينسبوها إلى الله عز وجل، وانظر إلى الكفار عندما يتكلمون عن الختان، وأن الختان هذا جريمة، وأما اليهود حين يفعلون الختان فليست بجريمة، وهم يريدون بذلك أن تشييع الفاحشة بين المسلمين، حيث إن الختان يهذب شهوة الرجل وشهوة المرأة، فإذا ترك هذا الأمر ثارت شهوة الاثنين فشاع الزنا بين المسلمين، ومن ثم تأتي أبحاثهم وتقول: إن الختان أمر جيد، ويتمنون تطبيقه بينهم، وأما عند المسلمين فهم يتهمونهم بهذا، ويرونه خطأ، وأما عندهم فيبدءون بطرح مسألة الختان؛ وذلك لمنع ثوران شهوة المرأة وتقليل جرائم الزنا، ومن أجل تقليل وجود السرطانات الموجودة عندهم، فهم يفكرون في بلادهم بهذا الشيء، وأما عند المسلمين فيريدون إخراب ديار المسلمين، وأكثر شيء يخرب على المسلمين ديارهم هو الوقوع في الفواحش والعياذ بالله.

الحكمة من ذكر الزاني والزانية في هذه الآية وعدم الإتيان بلفظ يشملهما

الحكمة من ذكر الزاني والزانية في هذه الآية وعدم الإتيان بلفظ يشملهما قال الله عز وجل: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور:2]، ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الزانية والزاني، وكان يكفي أن يقال الزاني أو الزناة، ومثل هذه الآية آية السرقة حيث قال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38]، ولو ذكر سبحانه وتعالى واحداً فقط فقال: الزاني لدخلت فيه أيضاً المرأة من باب التغليب، وهذا كما يقال: المؤمنين، فيدخل معهم المؤمنات أيضاً، ويقال: المسلمون، فيدخل معهم أيضاً المسلمات، ولكن في هذه الآية حتى لا يقع الإشكال فيؤخذ الرجل فقط دون المرأة ذُكرا معاً. ومثل ذلك ما جاء في أمر الذي وقع على امرأته في نهار رمضان، فقد جاء في الحديث: (أن رجلاً جامع امرأته في نهار رمضان، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمره بالكفارة بعتق رقبة، فقال: لا أملك غيرها -يعني: رقبته-، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بأن يصوم شهرين متتابعين، قال: وهل فعلت الذي فعلت إلا في رمضان -أي: في الصيام-؟ فأمره أن يطعم ستين مسكيناً). فهنا الكلام مع الرجل الذي واقع امرأته، ولم يسأل عن حكم المرأة، ولذلك اختلف العلماء هنا حيث إنه لم تذكر المرأة: هل الكفارة هذه على الرجل فقط، أو على الرجل والمرأة؟ فأكثر العلماء على أنها على الرجل فقط، والبعض يقول: لو أن المرأة هي التي دعته لذلك لكانت على الرجل والمرأة، ولكن الخلاف موجود، فلو أن الله عز وجل قال: (الزاني يجلد مائة) لجاء نفس الخلاف هنا في هذه المسألة، ولأتى البعض من الناس يقول: المقصود بالزاني هنا الرجل فقط والمرأة لا تجلد، ولو قال: (السارق اقطعوا يده) لأتى البعض من الناس يقول: إذاً القطع يكون على الرجل فقط؛ إذ المرأة ليس من عادتها أنها تسرق، فحتى يرفع الإشكال ولا يوجد مثل هذا الخلاف قال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور:2]، وقال: {السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة:38]. وأما وجه التفريق بين الآيتين فبدأ بالسارق فقال: {السَّارِقُ} [المائدة:38]، ثم ثنى بالمرأة فقال: {وَالسَّارِقَةُ} [المائدة:38]، وأما في هذه الآية فبدأ بالمرأة فقال: {الزَّانِيَةُ} [النور:2]، ثم ثنى بالرجل فقال: {وَالزَّانِي} [النور:2]، وذلك أن الطمع في المال موجود في الرجال والنساء ولكن في الرجال أكثر؛ لأن {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34]، فالرجل عليه النفقة، فلعل من عليه النفقة تدفعه نفسه أن يأخذها من حل أو من حرام، وفي الرجال أمر السرقة أكثر. وأما الزنا فالمرأة سببه، فعندما تتبرج المرأة للرجل ويراها فإنه يشتهي مواقعتها، فلما كانت هي السبب بدأ الله عز وجل بها، وقد كان الزنا في الجاهلية منتشراً، وكانت النساء فتنة للرجال، وكن سبب ذلك فبدأ بهن، وكان إماء العرب وبغاياه مجاهرات بذلك. وقالوا أيضاً: بدأ بالمرأة؛ لأن الزنا في المرأة أشد وأقبح، فإنه عار عليها وعلى أهلها. وقالوا أيضاً: لأن المرأة شهوتها أشد من الرجل، وإن كان الله عز وجل قد هذب ذلك بأن ركب في المرأة حياء، فجعلها أكثر حياء من الرجل، فإذا وقعت في هذه الجريمة نزع منها الحياء فصارت مصيبة بين الناس. وجاء في الحديث عند أبي داود من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا زنا العبد خرج منه الإيمان، وكان فوقه كالظلة) يعني: كالسحابة فوق رأسه، (فإذا انقلع منها -يعني: رجع عن هذه المعصية وتاب إلى ربه- رجع إليه الإيمان)، فالمعاصي سبب لنزع الإيمان الواجب من قلب الإنسان، ولذلك جاء في الحديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب النهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم وهو مؤمن). فالإنسان وقت وقوعه في المعصية لو أن عنده الإيمان الواجب الذي يمنعه منها لما وقع فيها، ولكنه في هذه الحالة ينزع منه القدر من الإيمان الذي يمنعه من هذه المعصية، فيقع في هذه المعصية.

صفة السوط الذي يجلد به الزناة

صفة السوط الذي يجلد به الزناة قال الله عز وجل هنا: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2]، فأمر بالجلد، والجلد: هو ضرب الإنسان على جلده، والضرب أو الجلد يكون بالجريد، والجريدة لها صورة معينة، فليست جريدة قصيرة ضعيفة بحيث لا تؤثر فيه، ولا هي طويلة شديدة بأشواك فتقتل الإنسان، ولكن المقصود التهذيب والتأديب لهذا الإنسان، فهي وسط بين الاثنين. وجاء حديث مرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: (أن رجلاً اعترف على نفسه بالزنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاء له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوط)، يعني: عصا أو جريدة، (فأتي بسوط مكسور، فقال: فوق هذا، فأتي بسوط جديد لم تقطع ثمرته) أي: سوط جديد قطع تواً من الشجرة، وفيه شوك، ومثل هذا سيؤذي الإنسان، (فقال: ولا هذا، فأتي بسوط قد ركب به ولان) يعني: ليس فيه أشواك وصار فيه شيء من اللين، (فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلد)، وهذا مرسل، ولكن عليه العمل.

حكم تجريد الزناة من ثيابهم عند الجلد

حكم تجريد الزناة من ثيابهم عند الجلد هل يجرد الإنسان الذي يجلد من ملابسه ويضرب على جلده؟ اختلف العلماء في ذلك: فذهب مالك وأبو حنيفة وغيرهما إلى أنه يجب أن يعرى ظهره ويضرب على جلده، وكأن الجَلد مأخوذ من ذلك، وأما المرأة فقالوا: نترك عليها ما يسترها ولا يقيها، يعني: لا تكون ثياباً غليظة بحيث تحميها من الضرب، ولكن تكون ثياباً ينفذ منها الضرب إلى جلد المضروبة. وذكر الإمام الأوزاعي إمام أهل الشام أن القاضي أو الإمام مخير، فإن شاء جرد وإن شاء لم يفعل. وقال الشعبي والنخعي: لا يجرد، وهذا قول ابن مسعود رضي الله عنه، ولعل هذا هو الأولى، فإذا كان الإنسان لابساً ثياباً لا تعوق ضربه، وتجعل الضرب ينفذ إليه فلا تنزع، والله أعلم. أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة النور (تابع) [1 - 2]

تفسير سورة النور (تابع) [1 - 2] لقد حد الله تعالى لهذه الأمة حدوداً وواجبات، وبين حرمة تعديها وتجاوزها، ومن هذه الحدود: حد الزنا؛ ليرتدع الزاني، وليرتدع المفكر فيه كذلك، والحقيقة أن هذه الحدود حياة للمؤمنين؛ لما فيها من حفظ الدين والنسل، ولكي لا يختلط الحابل بالنابل في أمة الإسلام، وقد بين الشارع أهمية إقامة حدود الله، وكيفية إقامتها بما يتناسب مع الحد، وبما يحصل به المقصود.

تفسير قوله تعالى: (سورة أنزلناها وفرضناها)

تفسير قوله تعالى: (سورة أنزلناها وفرضناها) قال الله تعالى: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:1 - 3]. هذه السورة بدأها الله سبحانه وتعالى بذكر السورة، فقال: ((سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)) أي: هذه السورة العظيمة سورة نزلت من عند الله عز وجل، وقد فرض عليكم أن تقيموا الأحكام والشرائع التي أنزل فيها. ثم ذكر حكماً من الأحكام التي في هذه السورة فقال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النور:2]، وقدم الزانية على الزاني لشدة فتنة المرأة، فهي تدعو الرجل إلى الوقوع في هذه الجريمة الشنيعة، فبدأ بها وقال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، وهذا الحكم عام في جميع الزناة سواء كانوا محصنين بزواج أو غير محصنين بزواج، فيكون الجلد مائة على غير المحصن، وزاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم أنه يغرب سنة، كما في الحديث، ويكون الجلد مائة في الثيب من النساء والرجل المحصن بزواج، ثم بعده الرجم، كما صنع ذلك علي رضي الله تبارك وتعالى عنه. وقد يختص الحكم هنا بغير المحصنين، فيكون قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور:2] أي: إذا لم يكونا محصنين بزواج {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النور:2].

بيان ما يجلد به الزناة، وكيفية الضرب بالنسبة للرجل والمرأة

بيان ما يجلد به الزناة، وكيفية الضرب بالنسبة للرجل والمرأة لقد ذكر العلماء أن هذا الجلد يكون بجريدة لا يكون فيها شوكها فتؤذي في قطع لحم أو إدماء جلد، ولا قديمة منهكة صغيرة بحيث لا تؤلم الذي يضرب بها. واختلف العلماء في كيفية ضرب الرجل والمرأة، فقال الإمام مالك رحمه الله: الرجل والمرأة في الحدود كلها سواء، لا يقام واحد منهما، يعني: يضرب الرجل وتضرب المرأة وهما جالسان، ولا يكون الضرب عند الإمام مالك إلا في الظهر. وذهب الأحناف والشافعي إلى أن الرجل يضرب وهو واقف، والمرأة وهي قاعدة، وتكون مستورة بثياب حتى لا تتكشف. وقال الليث وأبو حنيفة والشافعي: الضرب في الحدود كلها وفي التعذيب يكون الرجل مجرداً قائماً غير ممدود، يعني: يجرد ظهره الرجل إذا ضرب، وذكر غيرهم أنه يضرب الرجل والمرأة وعليهما الثياب، ولكن تكون ثياب الرجل رقيقة بحيث إنها لا تمنع وصول الضرب إلى الجسم.

أقوال العلماء في مواضع الجلد

أقوال العلماء في مواضع الجلد اختلف العلماء في مواضع الضرب هل هو على الظهر فقط أم على الجسد كله؟ والراجح أن الضرب يوزع على الجسد كله؛ لأنه لو كان الضرب على الظهر فقط أو في موضع واحد فكثرة الضرب قد تجرح، ولذا يوزع الضرب على الجسد، ولكن تجتنب مقاتل الإنسان، ويجتنب وجه الإنسان. وقال العلماء: يجب أن يكون الضرب مؤلماً لا يجرح -أي: لا يشق ويسيل الدم- ولا يبضع -أي: يقطع اللحم-. قالوا: ولا يخرج الضارب يده من تحت إبطه، أي: لا يرفع يده حتى يظهر إبطه، وهذا هو قول الجمهور، وممن قال بذلك علي وابن مسعود رضي الله عنهما. وأتي عمر رضي الله عنه برجل في حد، فأتى بسوط بين سوطين، أي: لا هو جديد بشوكه بحيث يجرح ويؤذي، ولا قديم ضعيف بحيث لا يؤثر، وقال للضارب: اضرب ولا يرى إبطك، وأعط كل عضو حقه، أي: وزع الضرب على الجسد، ولا تضرب في مكان واحد فتتسبب في شدة الأذى، ولكن وزع الضرب على الأعضاء. وأتي رضي الله عنه بشارب فقال: لأبعثنك إلى رجل لا تأخذه فيك هوادة، فبعث به إلى مطيع بن الأسود العدوي لكي يجلده، وقال: إذا أصبحت الغد فاضربه الحد، فجاء عمر رضي الله عنه وهو يضربه ضرباً شديداً، يعني: وعمر ما كان يظن أنه سيضربه بهذه القسوة، فهو يقصد بقوله: (لا تأخذه فيك هوادة) يعني: أنه لن يرحمك على ما ذكر الله عز وجل في الكتاب، وإنما سيقيم الحد بتمامه ولا ينقص فيه، فلما رآه يضربه ضرباً قاسياً، قال رضي الله عنه: قتلت الرجل، كم ضربته؟ قال: ستين، فقال: أقصّ عنه بعشرين، يعني: اجعل بدل الثمانين ستين، ولا تضرب أكثر مما ضربت؛ لأنك أوجعت وقسوت في الضرب.

بيان من يقوم بتنفيذ الحدود

بيان من يقوم بتنفيذ الحدود يقول الإمام القرطبي رحمه الله: الحد الذي أوجب الله عز وجل في الزنا والخمر والقذف وغير ذلك ينبغي أن يقام بين يدي الحكام. أي: أن الحد ليس لآحاد الناس، فكل إنسان يأخذ من وجده يشرب خمراً ويضربه بنفسه، أو من وجده يزنى فيجلده الحد بنفسه؛ لأن الحدود لو تركت لآحاد الناس لدخل في الأمر كل إنسان بحسب ما يشتهي أن يفعله في المحدود، وقد يصل في النهاية إلى قتله، فلذلك فالحدود لا يقيمها غير الحكام، فالقاضي ينظر في الإنسان الذي وقع في حد من الحدود، وينظر هل عنده شبهة من الشبهات؟ وهل هو مستحق لذلك أم غير مستحق؟ وهل عقله حاضر أم أنه مجنون حينما وقع في هذا الشيء؟ فإذا وجد شيئاً من ذلك فلا يقام الحد؛ لأن الحاكم لو أخطأ في العفو فعفا عن إنسان يستحق العقوبة خير له من أن يخطئ في عقوبة إنسان بريء، وأما لو تركت الحدود للناس فقد يأتي إنسان ويمسك شخصاً ويقول: أنا رأيت هذا يزني، فيجتمع عليه الناس ويضربونه ضرباً شديداً حتى يقتل، وبعد ذلك يتبين أن هذا كان بينه وبينه عداوة فاتهمه بالزنا، وكانت النتيجة أن قتل بسبب كلام كذاب من الناس. وكذا لو يدعي إنسان أنه رأى آخر يسرق وجاء الناس وقطعوا يده، وبعد ذلك يتبين أنه: لم يسرق شيئاً، أو سرق شيئاً لا يحد فيه السارق ولا ينطبق عليه فيه حد السرقة. إذاً: فلا بد من أن ينظر القاضي في هذه الجريمة هل هي الجريمة التي ذكرها الله عز وجل ونص عليها؟ وهل هذا الإنسان مستحق لهذا الحد أم أن هناك موانع وأعذار تمنع من إقامة الحد عليه؟ وإذا كان مستحقاً لذلك فهل الذي يقام عليه الحد في الزنا هو محصن بزواج أم غير محصن بزواج؟ لكن لو ترك لرعاع الناس ليقيموا الحدود فجلدوه حتى مات فهل سيعيدونه إلى الحياة مرة أخرى؟ لا. إذاً: فالحدود لا تكون لآحاد الناس، وإنما تكون للقاضي، فهو الذي يأمر بذلك ويقيم الحد. يقول الإمام القرطبي رحمه الله: وينبغي أن يقام بين يدي الحكام، ولا يقيمه إلا فضلاء الناس وخيارهم الذين يختارهم الإمام لذلك. وكذلك كان الصحابة يفعلون رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، ويقولون: تجب المحافظة على إقامة هذه الحدود، والقدر الذي فيها، والمحل والحال، بحيث لا يتعدى فيها الشروط. ففي الصحيح عن حضين بن المنذر قال: (شهدت عثمان بن عفان رضي الله عنه وقد أتي بـ الوليد وقد صلى الصبح ركعتين، فقال: أزيدكم؟) أي: أأكمل لكم أربعاً؟! فعرف أنه سكران، فأتي به إلى عثمان رضي الله عنه وكان قريباً لـ عثمان رضي الله تعالى عنه، فأمر بإقامة الحد عليه، فشهد عليه رجلان: أحدهما حمران وهو مولى عثمان أنه شرب الخمر، وشهد آخر عليه أنه كان يتقيؤه، أي: الخمر، فقال عثمان: إنه لم يتقيأ حتى شربها، فقال: يا علي قم فاجلده، فأمر علياً أن يجلده، فقال علي: قم يا حسن فاجلده، يريد الحسن بن علي رضي الله عنه، فقال الحسن: ول حارها من تولى قارها، فكأنه وجد عليه، فقال: يا عبد الله بن جعفر: قم فاجلده، فجلده ثمانين جلدة وعلي يعد. ومعلوم أن هؤلاء كلهم من فضلاء الصحابة رضوان الله عليهم ولذا فإنه لا يقيم الحدود إلا فضلاء الناس.

مقدار الجلد في حدي الزنا والقذف

مقدار الجلد في حدي الزنا والقذف لقد نص الله تعالى على عدد الجلد في الزنا والقذف، ففي القذف ثمانون جلدة، والقاذف هو الذي يرمي رجلاً أو امرأة بالفاحشة، ويجلد القاذف الحد المنصوص عليه في كتاب الله عز وجل، وهو ثمانون جلدة، وأما الزاني غير المحصن سواء كان رجلاً أو امرأة فيجلد مائة جلدة.

الأقوال في مقدار الجلد في حد شارب الخمر

الأقوال في مقدار الجلد في حد شارب الخمر لقد ثبت التوقيف في الخمر على ثمانين جلدة من فعل عمر رضي الله تعالى عنه، وقد كانوا قد اختلفوا كم جلد النبي صلى الله عليه وسلم شارب الخمر، فقيل: جلد أربعين وقيل: ثمانين، وقد ورد (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بشارب الخمر فأمرهم بضربه، فقال: قوموا له، فقاموا له، قال الراوي: فمنا الضارب بسوطه، ومنا الضارب بنعله، ومنا الضارب بثوبه). فقوله هنا: (قوموا له) خطاب لفضلاء الصحابة ليفعلوا ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم كان موجوداً، فلو فعل أحد منهم شيئاً فيه ضرر بالمجلود فالله سبحانه وتعالى سيطلع النبي صلى الله عليه وسلم أن فلاناً تعمد أن يفعل كذا. فلا يعقل أن يترك هذا الأمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم للناس، فيقال: قوموا له، فيأتي بعض الناس ممن بينه وبينه عداوة فيقوم يضربه بشيء يقتله، فلكي لا يكون مثل ذلك فإن الحد لا يترك لآحاد الناس أن يقيموه، وإنما الحاكم يوكل من يقيم هذا الحد كجلاد يكلف بذلك ويقوم به في مشهد من فضلاء الناس؛ حتى يعرف أن هذا لم يقتله بالحد الذي يقام عليه. فلذلك أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بإقامة هذا الحد، وتتابع الصحابة أنه يقام الحد في شرب الخمر بثمانين جلدة. يقول ابن العربي المالكي: وهذا ما لم يتتابع الناس في الشر، ولا احلولت لهم المعاصي حتى يتخذوها ضراوة، فيزاد الحد لأجل زيادة الذنب. والأصل في الحد ما جاء في الشرع في كتاب الله عز وجل، أو في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الزيادة خلاف الأصل، إلا أنهم قد استدلوا على هذه الزيادة بما وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من شرب الخمر فاجلدوه، فإن شربها في الثانية فاجلدوه، فإن شربها في الثالثة فاجلدوه، فإن شربها في الرابعة فاقتلوه)، فالإنسان الذي لم يزجر مع تكرار الجلد فقد يصل الأمر به في النهاية أن يعزر بالقتل؛ فلذلك قالوا: إنه إذا احلولت له المعصية فيزداد في الحد، وقد أتي عمر رضي الله تعالى عنه بسكران في رمضان، -ومعلوم أن حد شرب الخمر إما أربعون وإما ثمانون- فقال عمر رضي الله عنه والصحابة: إن الحد ثمانون جلدة. وكأنهم رأوا أن الذي يردع هذا الإنسان ثمانون، وهذا أقرب إلى فعل النبي صلى الله عليه وسلم. وأيضاً قاسه عمر رضي الله عنه على أقل الحدود وهو حد القذف؛ لأن الإنسان إذا شرب الخمر أصيب بالهذيان، ومن ثَم يقذف الناس، فلذلك جعلوا حد شرب الخمر كحد القذف، لكن الذي سكر في نهار رمضان، أمر عمر بضربه مائة، فكأن عمر نظر لحرمة اليوم فهو يوم من شهر رمضان، فأمر بعشرين جلدة زيادة تعزيراً، فحد الخمر ثمانون، وعشرون لهتك حرمة الشهر. قال ابن العربي رحمه الله: فهكذا يجب أن تركب العقوبات على تغليظ الجنايات وهتك الحرمات، وذكر أن رجلاً لعب بصبي فضربه الوالي ثلاثمائة سوط، فلم ينكر ذلك الإمام مالك حين بلغه. وقوله: لعب بصبي كأنها مقدمات اللواط والعياذ بالله، فاللوطي حده الشرعي القتل سواء بالرجم أو بالضرب بالسيف، أو بحسب ما ذكر العلماء في ذلك، لكن الوالي هنا جلده ثلاثمائة جلدة، فلم يضربه ثمانين جلدة كما في حد القاذف، ولا مائة جلدة كما في حد الزاني غير المحصن، ومع ذلك لم ينكر الإمام مالك رحمة الله عليه، وكأنه رأى في هذا الباب أنه يقام عليه الحد ويعزر بأكثر من ذلك. وقد صنع عمر في التعزير أكثر من ذلك، فإنه قام شخص بتزوير خاتم عمر رضي الله عنه، وأخذ مالاً من بيت المال بتزويره لختم عمر رضي الله عنه، فأمر عمر بجلده مائة، فجلد مائة، ثم تركه في السجن إلى أن برئ من هذه الجلدات، ثم أخرجه وجلده مائة أخرى، ثم أدخله السجن حتى برئ، ثم أخرجه وجلده مائة ثالثة، فدل ذلك على أن الإنسان يؤدب بالشيء الذي يردعه في باب التعزيرات، وقد يصل أحياناً إلى أن يقتل إذا كان يستمرئ الذنب ويخشى الضرر على الناس منه، كمن يتاجر في الحشيش أو الأفيون، فإنه يوزع على الناس ما يؤذيهم، فقد يصل التعزير في مثله إلى أن يقتل. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في حده شارب الخمر من حديث عبد الرحمن بن أزهر أنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وهو يتخلل الناس يسألهم عن منزل خالد بن الوليد، فأتي بسكران، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان عنده فضربوه بما في أيديهم، قال: وحثا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه التراب، فلما كان أبو بكر رضي الله عنه أتي بسكران فتوخى الذي كان من ضربهم يومئذ، فضرب أربعين)، يقول الإمام الزهري: ثم أخبرني حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن وبرة الكلبي قال: أرسلني خالد بن الوليد إلى عمر، فآتيه وهو في المسجد ومعه عثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وهم معه متكئون في المسجد، فقلت: إن خالد بن الوليد أرسلني إليك وهو يقول: إن الناس قد انهمكوا في الخمر وتحاقروا العقوبة فيه. فقال عمر: هم هؤلاء عندك فسلهم، فقال علي رضي الله عنه: نراه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون، فقال عمر: أبلغ صاحبك ما قال، قال: فجلد خالد ثمانين وعمر ثمانين، وتتابع الناس على ذلك أن شارب الخمر يجلد ثمانين جلدة.

تفسير قوله تعالى: (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله)

تفسير قوله تعالى: (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله) قال الله تعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النور:2]، فقوله سبحانه: {إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النور:2] الخطاب هنا للمؤمنين، وهذا فيه تهييج داعي الإيمان في القلوب، كما تقول لإنسان: إذا كنت رجلاً فتعال لي، مع أنه رجل أمامك وليس امرأة، ولكن تريد تهييجه ليفعل ذلك. فكذلك هنا الله عز وجل كأنه يقول: إن كنتم مؤمنين فافعلوا ذلك، فكل إنسان يخشى أن يسلب منه هذا الإيمان إذا ترك أمر الله سبحانه وتعالى، فإنه يفعل ما أمر الله عز وجل به من إقامة هذا الحد. قوله: ((وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ))، قراءة الجمهور: ((رَأْفَةٌ)) بتسكين الهمزة، وأما قراءة ابن كثير (رَأَفَةٌ في دين الله) بفتح الهمزة. والرأفة هي الرحمة، وهي أرق الرحمة، والمعنى: لا تأخذكم بهما رقة وأنتم تفعلون ذلك، فلا تخففوا الضرب من غير إيلام؛ لأن الله سبحانه هو أولى بالرحمة منكم إذا كان هذا يستحق الرحمة، قال أبو هريرة رضي الله عنه: (إقامة حد بأرض خير لأهلها من مطر أربعين ليلة، ثم قرأ: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النور:2]، وجاء مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (حد يقام في الأرض خير لأهلها من أن يمطروا أربعين صباحاً)، والمطر أربعين صباحاً يأتي بالبركة من السماء، فإقامة الحد سبب في نزول البركات من السماء؛ لأن الحد فيه أمر بمعروف ونهي عن منكر، وفيه ردع لأصحاب المعاصي عن معاصيهم، وفيه أن أخذ الناس لحقوقهم بإقامة الحد، فمن حُدّ في الدنيا سقط عنه العذاب يوم القيامة، وكذا الإنسان إذا ظلم بأن قذفه آخر أخذ حقه بأن يقام على الظالم حد القذف مثلاً. إذاً: إذا وجد شرع الله عز وجل بين الناس في الدنيا وحكم فيما بينهم؛ فإنهم يستحقون الرحمة، ويستحقون أن يوصفوا بالإيمان، يقول الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96]، فإقامة الحدود دليل الإيمان والتقوى وتنزل البركات من السماء والأرض. وقال سبحانه وتعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2] أي: ليشهد إقامة الحد عليهما طائفة من المؤمنين، وقالوا: لا يشهد التعذيب إلا من لا يستحق التأديب، أي: لا يشهد هذا الحد إلا من وصفهم الله عز وجل بأنهم من أهل الإيمان، فخرج بذلك الفساق. كما أنه إذا كان الحاضرون من المؤمنين فقد يدعون الله عز وجل أن يتوب عليه، فيتوب الله عز وجل عليه، فلذلك قال العلماء: المقصود بذلك الإغلاظ على الزناة والتوبيخ بحضور الناس، وأن ذلك يردع المحدود، ومن شهده وحضره يتعظ به ويزدجر لأجله.

تفسير سورة النور [2 - 5]

تفسير سورة النور [2 - 5] لقد بين الله عز وجل في كتابه الكريم أسس وقواعد بناء المجتمع المسلم على تقوى الله عز وجل، وتنظيم حياته، وذلك أن القرآن الكريم هو دستور لحياة المسلم في كل صغيرة وكبيرة من أمور حياته، وإن مما اهتم به القرآن الكريم الاعتناء بطهارة المجتمع ونظافته، ذلك أن المجتمع الطاهر النظيف تكون ثمرته طيبة؛ ومن أجل ذلك حرم إشاعة الفاحشة، وحرم الزنا، وحرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وحرم الكلام في أعراض الناس وقذفهم إلا بالبينة الشرعية الواضحة، وهذه الآيات تبين هذه الحقيقة وتوضحها، وتبين عاقبة المتعدي والمجترئ عليها.

تفسير قوله تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة)

تفسير قوله تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة النور: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:4 - 5]. في هذه الآيات من سورة النور ذكر الله سبحانه حكم القذف بعد أن ذكر سبحانه حكم الزنا، فقد ذكر الزنا في قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2] وذكر هنا الجلد، وأنه يجلد كل واحد منهما مائة جلدة، وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام)، وهذا الحديث فيه زيادة حكم على ما في هذه الآية، فقد ذكرت الآية أن البكر -وهو الإنسان الذي لم يتزوج، أو المرأة التي لم تتزوج- إذا وقع أحدهما في هذه الجريمة فإنه يجلد مائة جلدة. وقد جاء أيضاً الحكم في سنة النبي صلى الله عليه وسلم بهذا، وزاد على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (البكر بالبكر جلد مائة، وتغريب عام). إذاً: فينفى الزاني والزانية سنة من البلدة التي وقعت فيها هذه الجريم، فيجلدان مائة، ويغربان عاماً.

الأمر بعدم التساهل في إقامة الحدود

الأمر بعدم التساهل في إقامة الحدود قال الله سبحانه وتعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2]، فلا تأخذ الذي يقيم الحد رأفة في دين الله عز وجل. ومعنى ذلك: أنه يجلد الزاني جلداً يؤذي، ولا تأخذه رأفة في ذلك، وليس معنى ذلك أن يقتله بضربه. وأيضاً من معاني {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ} [النور:2] ألا تقلل من الحد، كأن تضربه خمسين بدلاً من المائة، ولكن اضربه كما أمر الله عز وجل، والله أعلم بحكمه سبحانه وتعالى. قال تعالى: {َلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2] أي: أنه لابد لإقامة الحد من أن يشهده طائفة من المؤمنين، فيعلمون أن هذا الذي يقام عليه الحد آثم، وأنه يستحق ذلك، ولعلهم يدعون له أن يغفر الله عز وجل له فيغفر له، وكذلك يشهدون ذلك حتى لا يكون الذي يقيم الحد يجلد جلداً يقتل معه مثلاً، فيكون هناك شهود على هذا الذي يقيم الحد. وكذلك حتى لا يتهاون في ذلك فيقلل من الضرب مثلاً، فيكونوا شهوداً على ذلك أيضاً، وأيضاً حتى يشعر هذا الإنسان بالفضيحة عندما يرى الناس يشاهدونه وهو يضرب، فلعله يرتدع أن يقع في ذلك مرة أخرى.

تفسير قوله تعالى: (والذين يرمون المحصنات فإن الله غفور رحيم)

تفسير قوله تعالى: (والذين يرمون المحصنات فإن الله غفور رحيم) ثم ذكر ربنا سبحانه حكم القذف فقال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور:4] والمحصنات هن: النساء العفيفات المؤمنات، وأيضاً الرجال الأعفاء المؤمنون لهم نفس هذا الحكم بإجماع أهل العلم على ذلك، قال تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور:4]، فأمر الأعراض ليس سهلاً، فليس من حق أحد أن يتكلم على آخر بأنه رآه يزني، ولو كان قد رآه وحده فشهادته غير مقبولة، فلا معنى لأن يقول: رأيته يزني إلا أن يجلد هو الحد، فإذا قال ذلك قلنا له كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ هلال بن أمية: (البينة على ما تقول وإلا حد في ظهرك).

تشدد الشرع في أمر الأعراض

تشدد الشرع في أمر الأعراض وقد جعل الله عز وجل أعراض الناس محترمة، ولا يجوز لإنسان أن يقع فيها ويؤذيها، فإذا فعل ذلك أقيم عليه الحد إذا كان قاذفاً، أو يعزر في ذلك إذا كان ساباً بغير القذف. فالذين يرمون المحصنات لا بد وأن يأتوا بأربعة شهداء كما قال سبحانه: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4]، فحد القذف أقل من حد زنا البكر سواء كان رجلاً أو امرأة، وإذا كان الذي وقع في الزنا ثيباً من الرجال أو من النساء فيكون حده الرجم، وهو من أشد الحدود، فيرجم هذا الإنسان؛ لأنه قد تزوج وعنده ما يكف به نفسه، فكيف يذهب إلى حرمات المسلمين ويصنع ذلك؟ فلا عذر له، ولا يمهل، ولكن يقام عليه هذا الحد، وهو الرجم تطهيراً له، وتطهيراً للمجتمع أيضاً من مثل ذلك. إذ أنه لو ترك الإنسان المتزوج يزني فإن كل إنسان سيجلس مع امرأته ومع الغريبة، فتنتشر المحرمات بين الناس، وتحل المصائب، ويستحق بها الناس حرمان البركات من السماء، فلأن يبتر هذا الإنسان من المجتمع أولى من حرمان المجتمع من بركات السماء؛ بسبب وجود مثل هذا الإنسان فيه.

الأحكام المترتبة على القذف

الأحكام المترتبة على القذف قال تعالى مبيناً حكم القاذف: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4]. فذكر الله عز وجل أحكاماً على هؤلاء الذين وقعوا في جريمة القذف، وجريمة الوقوع في عرض إنسان، فقال: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4]. والحكم الثاني: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور:4]، وهذه الأبدية مقيدة بالتوبة، فإذا تابوا بعد ذلك قبلت شهادتهم، ثم قال ذاكراً ما تبقى من أحكام: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:4 - 5]. فالإنسان الذي وقع في القذف يستحق أن يوصف بأنه فاسق، والفاسق لا تقبل شهادته، فإذا شهد في المحكمة عند القاضي فإنه ترد شهادته؛ لأنه فاسق، وهذا القاذف قد يكون عند نفسه صادقاً، فقد يكون رأى شيئاً، ولكن الشريعة قيدت وكتفت هذا الإنسان من أن يتكلم بكل ما رأى، فلعله رأى شيئاً على غير حقيقته، أو لعله أخطأ في هذا الشيء، ولأن يخطئ في السكوت أفضل له من أن يخطئ في الكلام، فإذا تكلم أقيم عليه الحد بذلك.

قصة قذف المغيرة بن شعبة رضي الله عنه

قصة قذف المغيرة بن شعبة رضي الله عنه وقد روي أنه في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه قذف مجموعة من الناس رجلاً من أفاضل الصحابة وهو المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، فقد قذفه أربعة، فشهد عليه ثلاثة، والرابع كاد ولم يفعل. وهؤلاء الأربعة هم أبو بكرة وهو صحابي فاضل رضي الله تبارك وتعالى عنه، واسمه نفيع بن الحارث بن كلدة، وأخوه نافع بن الحارث بن كلدة، وشبل بن معبد، وزياد بن أبيه، فلما ذهبوا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع منهم، فلما جاء الرابع وهو زياد قال عمر رضي الله عنه: أرى رجلاً لا يفضح الله أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على لسانه، فقال الرجل: أما الزنا فلم أر، قال: رأيت أمراً قبيحاً. والظاهر أن هذا كان من باب النكاح الذي كان لا يجيزه عمر، وكأن المغيرة رضي الله تبارك وتعالى عنه -كما جاء في بعض الروايات الضعيفة التي توضح هذا الشيء- أنه لما كان والياً في أمر من أمور المسلمين تزوج هذه المرأة بهذه الولاية؛ لأنه كان أميراً، فكان هو بدلاً عن الولي فزوجها من نفسه؛ لأنه الأمير. فلما تزوجها رآه هؤلاء وهو يأتيها وقد أصبحت امرأته، فرفعوا الأمر إلى عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، ولم يروا أنه تزوجها، وعمر كان لا يجيز مثل هذا الزواج، وكان يسميه نكاح السر، ويقول: لو رفع إلي ذلك لرجمت فيه. فكان المغيرة بين أمرين: إما أن يقول: تزوجتها واجتهدت في ذلك، وهنا يقول له عمر: لأرجمنك؛ لأن هذا ليس زواجاً على ما يختار عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، وإما أن يسكت ولا يتكلم كما فعل هنا رضي الله تبارك وتعالى عنه، وهؤلاء قالوا: إنهم رأوه يأتيها. وقال الرابع: رأيت أمراً قبيحاً أما الزنا فلا. وحاشا له أن يزني رضي الله تبارك وتعالى عنه، ولكنه كان متأولاً في ذلك، ورأى أنه يجوز له أن يتزوجها من غير وليها لكونه أميراً. والصواب: أنه ليس له ذلك، ولكنه اجتهد رضي الله تبارك وتعالى عنه. فلما شهد الثلاثة بذلك ولم يشهد الرابع وإنما قال: رأيت أمراً قبيحاً أما الزنا فلا، أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالثلاثة فأقيم عليهم الحد، ومنهم هذا الصحابي الفاضل أبو بكرة واسمه نفيع بن الحارث بن كلدة رضي الله تبارك وتعالى عنه. وأما الرابع الذي قال: رأيت أمراً قبيحاً فلم يقم عليه الحد، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لهؤلاء: توبوا وارجعوا عن ذلك، فأنا أقبل شهادتكم إذا تبتم ورجعتم عن هذا -وهذا بعدما أقام عليهم الحد، وجلد كل واحد منهم ثمانين جلدة-، فتاب اثنان ورجعا عما قالا، وأما أبو بكرة فقال: لا والله لا أرجع، ولقد رأيته، وقام يعيدها مرة ثانية، فأراد عمر أن يقيم عليه الحد مرة ثانية رضي الله تبارك وتعالى عنه، فقال علي بن أبي طالب -وهو فقيه رضي الله تبارك وتعالى عنه- لـ عمر: إن أقمت عليه الحد فارجم صاحبك. يعني: إذا أردت أن تقيم عليه الحد فمعنى ذلك أنه قد كملت عندك أربع شهادات؛ لأنك جلدت هؤلاء الثلاثة، وستجلد هذا مرتين، فكأنه شاهد رابع، وقد قبلت أنه شاهد رابع، فقد أصبح الآن عندك أربعة شهود، إذاً: فارجم هذا الآخر، وأقم عليه الحد. فلم يفعل عمر بن الخطاب لم يجلد ولم يرجم، وكان عمر بن الخطاب بعد ذلك لا يقبل شهادة أبي بكرة رضي الله عنه، ويقول له: تب فإذا تبت -يعني: رجعت وكذبت نفسك في هذا الذي قلته- قبلت شهادتك، فرفض هذا الشيء، وكان رجل عدلاً رضي الله تبارك وتعالى عنه، فكان إذا طلب للشهادة بعد ذلك يقول: لا تقبل شهادتي، ولا يؤخذ بشهادتي. يعني: أن عمر قد رد شهادته، وأما هو عند نفسه فيرى نفسه صادقاً، وما كان يقول عن نفسه أنه: كذاب حاشا له أن يكون كاذباً رضي الله عنه، ولكنه أخطأ في التأويل. فالمقصود: أن هؤلاء الثلاثة قد شهدوا، وأما الرابع فقال: رأيت أمراً قبيحاً، ومع ذلك لم تقبل هذه الشهادة، فإذا كان الشاهد واحداً فمن باب أولى له أن يسكت.

قصة ماعز رضي الله عنه

قصة ماعز رضي الله عنه جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان يربي ماعزاً يتيماً في حجره، فلما كبر ماعز رضي الله عنه وتزوج وقع على امرأة أو على جارية من الحي، فذهب هذا الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: إن ماعزاً قد زنى، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يا هزال هلا سترته بثوبك). يعني: كان الأولى بك أن تسكت من أن تفضح إنساناً لعله يتوب إلى الله عز وجل. فهنا أمر بالستر على المسلمين، فلعل الإنسان الذي سترت عليه يستحيي من نفسه، ويرى أن الله قد ستره فيتوب، ولا يعود إلى هذا مرة ثانية، بخلاف الفضيحة، فإنه إذا فضح وتكلم الناس فيه فإنه يستسهل هذه الجريمة، وكثرة الكلام في هذا يسهل على الناس أن يتخيلوا هذه الجريمة واقعة، فإذا رأوها بعد ذلك سهل عليهم أن يسكتوا عنها، فتشيع بين الناس هذه الجريمة.

النهي عن إشاعة الفاحشة

النهي عن إشاعة الفاحشة قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19]. وقد نزلت هذه الآية في قصة الإفك وفيما أشاعه أهل الإفك من الكلام عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} [النور:19]، والمحبة أمر قلبي، فالذي يحب ويتمنى أن تشيع الفاحشة بين الناس له {عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور:19] فكيف بالذي يفعلها؟ ومن إشاعة الفاحشة التكلم بها، فكثرة الكلام في الزنا يجعل الناس يتهاونون في أمره، فيسكت كل إنسان عما يراه، فلا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر. ولذلك كان من أول الأشياء في الكف عن ذلك إسكات ألسنة الناس عن الكلام في ذلك، فنهي أن يتكلم الإنسان في عرض أخيه المسلم ويقول: رأيت فلاناً يزني أو كذا، وشدد الله سبحانه وتعالى في ذلك فاشترط لقبول هذا القول أربعة شهود، ((فإن لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكذابون)) أي: وهم الفسقة الذين ترد شهادتهم. وقد قال العلماء في قول الله عز وجل: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور:4] أنه يبقى مدة العمر إلى أن يموت لا تقبل شهادته، إلا أن يتوب إلى الله عز وجل، كما قال سبحانه وتعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:5]، فقوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور:5] يعني: من هذا الذي وقعوا فيه، بأن يكذبوا أنفسهم في هذا الذي قالوه، ويرجعوا عن هذا الذي فعلوه أو قالوه، والله غفور رحيم.

اختلاف العلماء في الاستثناء الوارد في الآية

اختلاف العلماء في الاستثناء الوارد في الآية وقد تضمنت هذه الآية ثلاثة أحكام، ثم جاء الاستثناء بعدها، فاختلف العلماء في عود هذا الاستثناء، وعلى ماذا يرجع؟ فإن الآية ذكرت: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4]، فهذا هو الحكم الأول، والحكم الثاني: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور:4]، والحكم الثالث: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4]، ثم جاء الاستثناء {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور:5]. فاتفق العلماء على أن القاذف يجلد، وأن الاستثناء لا يعود إلى هذا الحكم، فإذا طلب المقذوف إقامة الحد على من قذفه فإنه يجلد ثمانين جلدة. وأجمعوا على أن الاستثناء لا يرجع إلى الجلد، وأما الحكمان الباقيان {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4] فالجمهور على أن قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور:5] يرجع إليهما. وقالوا: إن الأصل أنه إذا تعاقبت جمل وجاء شرط بعدها أو استثناء فإن هذا الاستثناء أو الشرط يعود إلى جميع الجمل. وقال الإمام أبو حنيفة ومن وافقه: إن الاستثناء يعود إلى أقرب مذكور إليه. فعلى قول الجمهور فالاستثناء يعود إلى الجميع، إلا أن الإجماع قد قام على أنه لا يعود إلى الجميع، بل لا بد من الجلد، وإنما يعود إلى الأمرين الباقين، وهما قوله تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور:4] أي: فإذا تابوا فاقبلوا شهادتهم. {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4] أي: فإذا تابوا فلا يوصفون بكونهم فسقة. وأما عند الإمام أبي حنيفة رحمه الله فإن الضمير لا يعود إلا إلى قوله تعالى: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4]؛ لأن الضمير لا يعود إلا إلى أقرب مذكور، فإذا تاب إلى الله سبحانه فيرتفع عنه وصف الفسق فقط، وأما شهادته فلا تقبل أبداً عند أبي حنيفة فسواء تاب أو لم يتب فلا تقبل شهادته، وهذا باعتبار أن الاستثناء إذا جاء بعد جمل فإنه يرجع إلى آخر جملة. ومما احتج به الجمهور على أن الاستثناء يرجع إلى جميع ما سبق قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة:33 - 34]. فذكر الله سبحانه وتعالى أنهم: {يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة:33]، وقال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة:34] أي: فلا تفعلوا بهم ذلك، فعاد الاستثناء إلى جميع ما كان قبل ذلك في هذه الآية. ولكن جاء في قتل المؤمن خطأً أن الله سبحانه وتعالى ذكر استثناء في النهاية فلم يعد هذا الاستثناء إلا إلى آخر مذكور، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء:92]. فذكر الله سبحانه وتعالى أن على القاتل خطأً دية مسلّمة إلى أهل المقتول، فقال: {وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء:92] أي: فمن لم يجد الرقبة المؤمنة فليصم شهرين متتابعين. قالوا: فعاد الاستثناء إلى آخر جملة باتفاق. أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة النور الآية [3]

تفسير سورة النور الآية [3] يخبر الله تعالى أنه لا ينبغي للزاني أن يتزوج بامرأة عفيفة إلا إذا كان قد تاب وظهرت توبته، وكذلك لا يجوز للزانية أن تتزوج بعفيف، وإنما تتزوج بمثلها، والتزوج من الزانية المشركة يحرم باتفاق، وأما الزانية المسلمة فيحرم التزوج بها إذا لم تتب, وهذا باتفاق أيضاً.

تفسير قوله تعالى: (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة)

تفسير قوله تعالى: (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة) الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3]. لما حرم الله عز وجل الزنا، وحرم الوسائل التي تؤدي إليه من النظر واللمس وغير ذلك، ذكر هنا شيئاً آخر من الأحكام الشرعية التي تجعل الإنسان يبتعد عن أمر الزنا، ويبتعد عن الزناة. قال سبحانه: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} قال المفسرون: صيغة الخبر هنا في قوله: {لا يَنكِحُ} بمعنى النهي، فهذا نهي للإنسان أنه يتزوج بامرأة زانية، وكذلك المرأة العفيفة لا تتزوج الرجل الزاني، فالزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة، فلا يتزوج إلا بمثله. ويأتي حديث للنبي صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى وهو قوله: (لا ينكح الزاني المحدود إلا مثله)، وفي رواية في سنن أبي داود: (لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله)، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم ينهى أن يتزوج الزاني المجلود الذي لم يتب إلا من كان مثله، أو أن العادة أنه لا يتزوج الزاني إلا بامرأة توافقه على ما كان فيه من الباطل والمحرم.

أقوال العلماء في معنى قوله تعالى: (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة)

أقوال العلماء في معنى قوله تعالى: (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة) اختلف العلماء في معنى هذه الآية، ويذكر الإمام القرطبي ستة أوجه من أوجه التأويل: الوجه الأول: أن مقصد الآية تشنيع الزنا وتبشيع أمره، وأنه محرم على المؤمنين، كأنه في قوله: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ} [النور:3] أي: وحرم الزنا على المؤمنين. قال: وهذا معنى حسن بليغ، واتصال هذا المعنى بما قبل حسن بليغ. فقوله سبحانه: ((لا يَنكِحُ)) أي: لا يطأ ولا يواقع ولا يزني إلا بمن توافقه، فإن كانت مسلمة فقد اتصفت بصفة رذيلة وهي أنها زانية، أو أن التي توافقه على ذلك تكون من المشركات. والعكس: فالزانية لا يطأها في حال زناها إلا إنسان زانٍ، فإن كان مسلماً فقد اتصف بهذا الوصف الرذيل: أنه زان، أو لا يطأها إلا إنسان مشرك يستبيح ذلك الفعل، {وَحُرِّمَ ذَلِكَ} [النور:3] أي: وحرم الزنا على المؤمنين، هذا هو القول الأول من كلام أهل العلم. وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما وأصحابه أنهم قالوا: النكاح في هذه الآية بمعنى الوطء، وإن كان النكاح يأتي في القرآن بمعنى العقد، وذهب بعض أهل العلم إلى أن جميع ما جاء في القرآن من نكاح فإنه بمعنى العقد، ورجح ذلك الإمام الزجاج من أئمة اللغة، وقال لا يعرف النكاح في كتاب الله تعالى إلا بمعنى التزويج، أي: بمعنى عقد الزواج. وقال ذلك أيضاً شيخ الإسلام ابن تيمية أنه لا يعرف النكاح في كتاب الله عز وجل إلا بمعنى العقد، وهذا القول فيه نظر، فصحيح أنه قد جاء في القرآن قوله الله عز وجل: {حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] وهذا فيه معنى العقد، ولكن جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم تبيين النكاح بأنه الوطء والعقد وليس مجرد عقد الزواج، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة التي طلقها زوجها ثلاثاً ثم تزوجت غيره، وأرادت أن ترجع إلى الأول، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) فهنا مجرد تزوجِّها من إنسان آخر والعقد عليها لا يبيح لها أن ترجع إلى الأول حتى يطأها هذا الثاني، فجاء في القرآن النكاح بمعنى الوطء، كما جاء في القرآن بمعنى العقد. فعلى ذلك قول ابن عباس هنا في قوله: {الزَّانِي لا يَنكِحُ} [النور:3] أي: لا يطأ، بمعنى أنه لا يزني إلا بزانية مثله أو مشركة تستبيح ذلك، هذا هو الصواب.

ذكر سبب نزول قوله تعالى: (والزانية لا ينكحها)

ذكر سبب نزول قوله تعالى: (والزانية لا ينكحها) قوله تعالى: {وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا} [النور:3] أي: لا يطأها {إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3]. قالوا: نزلت هذه الآية لسبب، وهو ما رواه أبو داود والترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أن مرثد بن أبي مرثد كان يحمل الأسرى بمكة، وكان بمكة بغي يقال لها: عناق)، كان هذا الرجل الذي هو مرثد بن أبي مرثد يأخذ الأسرى الموجودين في مكة من المسلمين ويهربهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا عمل جليل من هذا الرجل، وكان لهذا الرجل امرأة بغي وهي صديقة له، وهذه المرأة كانت تعينه وتساعده في خطف الأسرى حتى يأخذهم ويهرب بهم إلى خارج مكة. فالرجل أراد أن يتجمل مع هذه المرأة فسأل النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: (يا رسول الله! أنكح عناقاً؟) أي: أأتزوج هذه المرأة التي خدمتني كثيراً في هذا الأمر؟ فكان الجواب (أن النبي صلى الله عليه وسلم سكت، حتى أنزل الله سبحانه وتعالى: {وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور:3])، وهذه المرأة لم تكن قد تابت بعد من الزنا، بل كانت ما زالت على زناها، ومعروفة بالبغاء، ولكن كانت تساعده في تهريب الأسرى، فهنا الفعل الذي فعلته المرأة وإن كان فعلاً حسناً حيث أعانته في تهريب المسلمين إلا أنها كانت زانية، فلا يحل له أن يتزوج هذه المرأة الزانية، فنزلت الآية: {وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور:3] يعني: في حال زناه. قال: (فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها علي وقال: لا تنكحها)، هذا لفظ أبي داود، وجاء في الترمذي بأطول من ذلك. فقال أكثر أهل العلم: إن عناقاً كانت كافرة ولم تكن مسلمة، وكانت فاجرة بغي، فهذا الرجل لما أراد أن يتزوجها منع من ذلك؛ لأنها كافرة وأيضاً لكونها زانية، فوصفت بأنها زانية، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تنكحها).

حكم التزوج بالزانية

حكم التزوج بالزانية اختلف العلماء: هل يجوز للرجل أن يتزوج بالمرأة الزانية؟ ذكرت الآية أن: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور:3]، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم منع من ذلك أيضاً، وذكر أنه: (لا ينكح الزاني المحدود -أو المجلود- إلا مثله). إذاً: فلا يجوز لإنسان مسلم أن يتزوج بامرأة زانية، لكن هل معنى ذلك: أنه لو تزوجها يبطل هذا النكاح؟ الراجح أنه يحرم ولا يبطل النكاح؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ينكح الزاني المحدود إلا مثله) وهذا الزاني إذا كان من المسلمين فيجوز له أن يتزوج، والنبي صلى الله عليه وسلم يذكر أنه إذا كان محدوداً وأقيم عليه الحد في ذلك، فهذا المحدود إما أن يكون قد تاب إلى الله عز وجل، فلا بأس على ذلك، {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا} [البقرة:160]، فيجوز له أن يتزوج من عفيفات المسلمين، أو أنه لم يتب، وكأن الحديث يشير إلى الزاني المحدود الذي لم يتب، فهذا لا يجوز له أن يتزوج من عفيفات المسلمين، بل يتزوج بمثله. وكذلك المرأة التي اشتهرت بالزنا مثلما كانت عناق مشهورة بذلك، وقد كان هناك في الجاهلية بيوت للزناة معروفة، فهذا بيت فلانة، وهذا بيت فلانة، فيذهب إليها الرجال لهذه الفاحشة، فالمعروفة بهذه الجريمة لا يجوز للرجل أنه يتزوج بمثلها حتى تتوب وتظهر توبتها، فإن تابت جاز أن يتزوجها، وهذا مذهب أحمد رحمه الله، أما لو تابت من الزنا وتزوجها رجل فالنكاح صحيح اتفاقاً، لكن جمهور العلماء عندهم أن النكاح صحيح إذا تزوج الرجل بامرأة كانت تزني ولم تتب، لكنه يأثم في هذا الشيء الذي أتاه.

ذكر سبب آخر في نزول قوله تعالى: (والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك)

ذكر سبب آخر في نزول قوله تعالى: (والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك) قال الإمام القرطبي: إن هذه الآية مخصوصة في رجل من المسلمين أيضاً استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في نكاح امرأة يقال لها: أم مهزول، وكانت من الزانيات، وكانت تشترط أن تتزوج الرجل وتنفق عليه بشرط أن تستمر على الزنا الذي هي فيه. فجاء هذا الرجل يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يتزوجها، فرفض النبي صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله عز وجل هذه الآية. وكأن الآية نزلت في قصة أم مهزول وقصة عناق أيضاً، والحديثان صحيحان. وقيل: إنها نزلت في أهل الصفة، وكانوا قوماً من المهاجرين الفقراء، ولم يكن لهم بالمدينة مساكن ولا عشائر، ونزلوا في صفة المسجد، وكانوا أربعمائة، وكانوا يلتمسون الرزق بالنهار ويأوون إلى الصفة بالليل، فكان رزقهم ضعيفاً، وليس معهم مال يتزوجون به، وكان في المدينة نساء من البغايا مشهورات، فهؤلاء سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوجوا من هؤلاء زواجاً رخيصاً؛ لأن التزوج من المرأة البغي أرخص من غيرها، فنزلت الآية في المنع من ذلك، وأنه ولو كان فقيراً فلا يجوز له أن يتزوج امرأة من البغايا المشهورات بهذا الأمر.

قول الحسن في معنى قوله تعالى: (الزاني لا ينكح إلا زانية)

قول الحسن في معنى قوله تعالى: (الزاني لا ينكح إلا زانية) جاء عن الحسن: أن المراد هنا الزاني المحدود، والزانية المحدودة. يعني: كأن الآية محمولة على أن من زنى واشتهر بذلك فإنه لا يجوز له أن يتزوج إلا بمثله، ولا يتزوج بعفيفة من المسلمين. وقال بعض أهل العلم: إن قوله سبحانه: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور:3] منسوخة بقول الله عز وجل: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32] قوله: ((الأَيَامَى مِنْكُمْ)) يعني: غير المتزوجين، فعمت المتزوجين وغير المتزوجين. ولكن الأولى في ذلك أن الإنسان المؤمن لا يجوز له أن يتزوج بامرأة بغي مشهورة بذلك، ويجوز له أن يتزوج بنساء مسلمات عفيفات وهن كثيرات، ويجوز له أن يتزوج بامرأة هذا حالها ولكنها قد تابت إلى الله سبحانه وتعالى، كما ذهب إلى ذلك الإمام الحسن البصري وذهب إلى ذلك الإمام أحمد رحمه الله. وكذلك الرجل الذي وقع في هذه الجريمة واشتهر عنه ذلك، لا يجوز أن يوافق ولي المرأة على أن يزوجه بابنته، ولكن إن تاب وبدت توبته جاز له أن يزوجه. لكن لو حصل أن إنساناً مشهوراً بهذه الجريمة تزوج بامرأة عفيفة من المسلمين، وقلنا بحرمة ذلك، فهل يبطل هذا العقد؟ الراجح: أنه لا يبطل هذا العقد، ولكن عليه الإثم في ذلك. والله أعلم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة النور الآية [4]

تفسير سورة النور الآية [4] إن حفظ العرض مقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية، ولذلك فقد عاقبت الشريعة كل من يفتري على الآخرين ويطعن في أعراض المسلمين، فشرع الله حد القذف صوناً للأعراض وحفاظاً على سمعة العباد.

تفسير قوله تعالى: (والذين يرمون المحصنات)

تفسير قوله تعالى: (والذين يرمون المحصنات) الحمد لله رب العالمين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة النور: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:4 - 5]. في هذه السورة الكريمة يذكر الله عز وجل فيها حكم الإنسان القاذف الذي يقذف مؤمناً أو مؤمنة، سواء كان القاذف رجلاً أو امرأة، فحكمه الشرعي فيه هو ما ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية. قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور:4]، والمحصنات هن العفيفات من المؤمنات. والمحصنة: هي التي أحصن فرجها، وهي العفيفة التي استعفت عن الحرام، فهي كريمة مؤمنة. وقراءة الكسائي: (والذين يرمون المحصِنَات) بكسر الصاد فهي محصنة لنفسها، موصوفة بأنها حصان محصنة، وقراءة الجمهور: (المحصَنات) بالفتح. والرمي: السب والقذف، فالذين يرمون، أي: يسبون ويقذفون، وأصل القذف: أخذ الحجارة والحذف بها، فاستعير ممن يقذف بالحجر فيجرح إلى الذي يقذفه بلسانه فيجرح كذلك، فقالوا: وجرح اللسان كجرح اليد، وقد يكون جرح اللسان أشد بكثير من جرح اليد، فجرح اليد يبرأ، ولكن جرح اللسان بالسب أو القذف ينتشر بين الناس. وقد جاء الإسلام بحماية الأنساب وحفظ النسل بأن حرم الزنا؛ حتى لا تختلط الأنساب، فلا يعرف لمن يكون الولد ومن الذي اشترك فيه. وجاء أيضاً بحماية الأعراض، فحرم على الناس أن يقذف بعضهم بعضاً، وعرض الإنسان هو محل المدح والذم، فالذي يرمي محصناً أو محصنة بجريمة الزنا عوقت بهذه العقوبة، قال سبحانه وتعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4]، فإذا رمى القاذف أحداً بجريمة الزنا فإنه يحد حد القذف، وأما إذا سب بشيء آخر غير الزنا فلا يحد حد القذف وإنما يعزر، وحد القذف ثمانون جلدة، لقول الله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4]. والأمر الثاني: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور:4] أي: إلى أن يموتوا، لا تقبل لهم شهادة، بل يصيرون كذابين، والأمر الثالث: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4]، فوصفهم بالفسق، هو الخروج عن طاعة رب العالمين سبحانه، فعاقب الله الفاسق بعقوبة شديدة منها ما هو حال الآن وهو حد القذف بطلب المقذوف، ومنها ما هو مستمر إلى أن يموت، وهي وصفه بالفسق وعدم قبول شهادته، إلا إذا تاب فحكمه سيأتي. وفي قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ} [النور:4] قال العلماء: الرمي هو السب بجريمة الزنا، ويسمى: القذف، ومنه الحديث: إن ابن أمية قذف امرأته بـ شريك بن سحماء.

الحكمة من تخصيص المحصنات بالذكر

الحكمة من تخصيص المحصنات بالذكر والحكم في قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور:4] يعم الجميع، فالذي يرمي محصنة أو محصناً بهذه الجريمة فهو داخل تحت هذه الآية، ولكن لما كان أمر النساء أشد وأهم في ذلك خصصه الله عز وجل بالذكر، كما بدأ بذكر الزانية في أول السورة؛ لأنها داعية إلى ذلك بفتنتها. وهنا لما كانت المرأة مصونة مستورة خصها بالذكر وإن كان الحكم عاماً لمن يرمي المحصنة أو المحصن. يقول العلماء: إن الله عز وجل ذكر في هذه الآية النساء من حيث كونهن أهم، ورميهن بالفاحشة أشنع وأنكى للنفوس، وسوف يلحقها ويلحق أهلها العار فذكرت لأهميتها. وقذف الرجال المحصنين داخل تحت هذا الحكم بالمعنى وبإجماع الأمة على ذلك، وإن كان النص قد ذكر قذف النساء المحصنات وهذا كتحريم لحم الخنزير، فقد ورد النص به لأهميته، وعظم الخنزير وشحمه وجلده تبع له في التحريم.

شروط حد القذف

شروط حد القذف وحتى يقام حد القذف على القاذف لا بد من توفر شروط إقامة الحد، وهي تسعة شروط: شرطان في القاذف، وشرطان في المقذوف، وخمسة شروط في المقذوف به. فالقاذف هو الإنسان الذي يرمي آخر بالزنى، ويشترط أن يكون عاقلاً بالغاً حتى يقام عليه الحد، فإذا كان مجنوناً فلا حد عليه، وإذا كان غير بالغ فيعزر تعزيراً ولا يقام عليه الحد؛ لأنه غير مكلف. وأما المقذوف به: فهو الكلام الذي يقذف به الإنسان، كأن يقذفه بوطء يلزمه فيه الحد، سواء كان بالزنا أو باللواط، أو بنفيه من أبيه، كأن يقول: يا فلان أنت زان أو واقع في اللواط مثلاً، أو أنت لست ابن فلان، على وجه يقصد به نفيه عن أبيه بسبب هذه الجريمة. ولكن إذا لم يكن يقصد ذلك وإنما يقصد معنى آخر، كأن يرى إنساناً ذكياً ويقول له: أنت لست ابن فلان؛ لأن أباه غبي، فهذا لا يقصد القذف، وإنما يقصد معنى آخر. فهذان شرطان في المقذوف به. وأما المقذوف فيشترط فيه خمسة شروط حتى يؤخذ له من الآخر حقه، ويقام على الآخر الحد: الشرط الأول: أن يكون المقذوف عاقلاً، فإذا كان مجنوناً فلن يتأثر بالقذف، وإن تأثر أهله؛ لأن تشريع حد القذف كان حماية للمقذوف، وتأديباً للقاذف، إلا أنه لما لم يتأذى المقذوف بأن كان مجنوناً فلا يجلد القاذف في هذه الحالة، وقد يعزر على ذلك، والتعزير معناه العقوبة في الشيء الذي لا حد فيه، كعشر جلدات من ذلك ولكن لا يبلغ به حد القذف. وإذا لم يكن المقذوف بالغاً فلا يقام الحد على القاذف؛ لأنه معلوم أنه كذاب، وقد يعزر في ذلك. ويشترط في المقذوف كذلك أن يكون مسلماً، فإذا قذف المسلم كافراً فإنه يعزر على ذلك، ولكن لا يقام عليه الحد. ويشترط في المقذوف أن يكون حراً حتى لا يكون أدنى من القاذف، فإذا كان المقذوف عبداً فلا يقام على قاذفه الحد، ولكن يحرم قذفه، وقاذفه يحد في يوم القيامة، والله عز وجل جعل الناس مسخرين بعضهم لبعض، فجعل هؤلاء أحراراً وجعل هؤلاء عبيداً، وجعل للأحرار أحكاماً وجعل للعبيد أحكاماً، والله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد سبحانه وتعالى. فلو قذف العبد أقتص من قاذفه يوم القيامة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من قذف مملوكه أقيم عليه الحد يوم القيامة). ومن شروط المقذوف: أن يكون عفيفاً عن الفاحشة، فلو أن إنساناً قذف آخر وقال له: يا زاني، وتبين أن هذا الإنسان المقذوف ليس عفيفاً، فعلى ذلك لا يقام عليه الحد، وقد يعزر على ذلك تعزيراً.

اختلاف أهل العلم في التعريض بالزنى هل هو قذف أم لا

اختلاف أهل العلم في التعريض بالزنى هل هو قذف أم لا اتفق العلماء على أن القاذف إذا صرح بالزنا كان قذفاً، كأن يقول: أنت زانٍ مثلاً، وأما إذا لم يصرح بالزنى بل عرض بكلام يفهم منه ذلك فاختلف العلماء هل يقام عليه الحد أو لا؟ فذهب الإمام الشافعي وأبو حنيفة إلى أنه في التعريض لا يقام عليه الحد، وقد يعزر على ذلك. وذهب الإمام مالك والمشهور عن أحمد أنه في التعريض يقام الحد عليه. وسبب الخلاف أن هذا التعريض هل ينظر فيه إلى براءة ظهر هذا الإنسان فيحمي ظهره من الجلد، أو إلى أن المقذوف أوذي بهذا الكلام الذي قيل له؟ فمن العلماء من غلب النظر إلى أن الأصل البراءة إلى أن يثبت القذف بالتصريح، وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة. ومن العلماء من قال: إن التعريض فيه ما يساوي التصريح، فإذا عرض في الكلام كان في ذك إيذاء يستحق أنه يقام عليه الحد، ولعل هذا هو الأرجح. وقد ذكر الله التعريض في كتابه عن قوم شعيب لما قالوا عن سيدنا شعيب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود:87] وهم يقصدون: إنك لأنت السفيه المتهور، فذكرها الله عز وجل في كتابه مشنعاً على هؤلاء السفلة الذين قالوا ذلك لنبيهم عليه الصلاة والسلام، فدل ذلك على أن التعريض كالقذف الصريح. وكذلك ذكر الله سبحانه وتعالى عن أبي جهل أنه يقال له يوم القيامة: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49] وهو في موقف ذل ومهانة يوم القيامة، والمقصود به الإهانة والتحقير، لأنه كان يظن نفسه عزيزاً في الدنيا، فقيل له: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49]، والمقصود: إنك أنت الذليل المهان. وكذلك حكى الله عز وجل عن قوم مريم عليها السلام لما أتت قومها تحمل غلاماً أنهم قالوا لها: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم:28] أي: من أين أتيت بهذا الغلام ولم يكن أبواك يقع في جريمة الزنا، ولا كانت أمك بغياً، والمقصد هو التعريض بأن هذا الغلام من البغي، فأنطقه الله سبحانه وتعالى وقال: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} [مريم:30]، وقد ذكر الله عز وجل قول اليهود عن مريم فقال: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} [النساء:156]، وكان من قولهم: {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم:28]، فكأن التعريض أخذ حكم التصريح. وأيضاً: جاء أن عمر رضي الله عنه حبس شاعراً اسمه جرول، لما قال لأحد الناس: دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي فهذا لا يقصد به المدح، وإنما المقصود به الذم والشتم وأنه كالمرأة تقعد في بيتها، وتؤتى بالطعام والشراب والكسوة، فلذلك حبسه عمر رضي الله عنه، وتوعد هذا الشاعر بقطع لسانه. وأيضاً لما سمع قول النجاشي يقول عن أناس: قبيلة لا يغدرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل أي: أن هذه القبيلة لا يظلمون أحداً ولا يغدرون بأحد، وهذا كأنه مدح ولكن الحقيقة أنه شتم وسب، فـ عمر سمعه وأخذ الكلام على محمله أنه يمدحهم، فسأل رجلاً عنده: تراه ذمهم؟ قال: لقد بال عليهم بهذا الكلام، والمقصود أنهم ضعفاء لا يقدرون أن يقوموا بهذا العمل. فقوله: ولا يظلمون الناس حبة خردل تعريض بضعفهم وقلة عددهم، وكان أهل الجاهلية ينصح بعضهم بعضاً بالظلم، وأنه دليل القوة، فهؤلاء لا يظلمون الناس حبة خردل لضعفهم وقلتهم، وعدم قدرتهم على ذلك. فعاقب عمر هذا الشاعر، وعاقب الآخر؛ لأن التعريض بالكلام قد يكون مثل التصريح. فلذلك إذا عرض إنسان بآخر بهذه الجريمة وفهم من الكلام أنه يقصد الزنا فإنه يقام عليه الحد كالذي يصرح بذلك، والله أعلم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة النور [4 - 9]

تفسير سورة النور [4 - 9] يخبر الله سبحانه في هذه الآيات أن من رمى زوجته بجريمة الزنا فعليه أن يلاعنها بأن يشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين في قوله، ثم يدعو على نفسه في الخامسة باللعنة -وهي الطرد من رحمة الله- إن كان من الكاذبين عليها، ولا يدرأ عنها العذاب حتى تشهد أربع شهادات أنه كذب عليها، ثم تدعو في الخامسة على نفسها بالغضب إن كان صدق فيما قاله، ويترتب على هذه الملاعنة فراق أبدي بينهما، وانتفاء الرجل من الولد، وقد رجح الجمهور أن الملاعنة يمين وليست شهادة، وإن كانت تشبه لفظ الشهادة.

تفسير قوله تعالى: (والذين يرمون المحصنات)

تفسير قوله تعالى: (والذين يرمون المحصنات) الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة النور: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ * وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} [النور:6 - 10]. ذكر الله في هذه الآيات حكم القذف، ثم ذكر سبحانه قذفاً خاصاً وهو أن يقذف الرجل امرأته بجريمة الزنا والعياذ بالله، فالأول: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور:4] أي: عموم المحصنات المؤمنات العفيفات: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4]، فالإنسان القاذف استحق ثلاثة أنواع من العقوبة: أن يجلد الحد وهو ثمانون جلدة، وأن يوصف بأنه إنسان فاسق، وألا تقبل منه الشهادة أبداً، إلا إذا تاب إلى الله سبحانه وتعالى. وذكرنا في الحديث السابق أن الله سبحانه وتعالى ذكر ثلاثة أشياء ثم استثنى بعد ذلك، فاختلف العلماء هل هذا الاستثناء: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور:5] يرجع إلى أقرب مذكور أو يرجع إلى جميع الأشياء السابقة.

عودة الضمير في الجمل المتعاطفة

عودة الضمير في الجمل المتعاطفة اختلف العلماء إذا تعاطفت جمل ثم جاء الاستثناء بعد ذلك هل يعود هذا الاستثناء للجميع إلا ما أخرجه الدليل، أو يرجع إلى آخر مذكور قبله؟ فعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه يعود إلى آخر مذكور فقط دون الباقي، وعند الجمهور أنه يعود إلى الجميع إلا إذا دل الدليل على إخراج أحد المذكورين من هذا الاستثناء. وبناءً على ذلك، فيكون عند الجمهور {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور:4] أي: يقذفون المحصنات بجريمة الزنا: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4]، وبإجماع أهل العلم أنه لو طلب المقذوف أو المقذوفة من القاضي أن يقيم الحد على فلان لأنه قذفه، فإنه لا يسقط الحد عن هذا القاذف ولو تاب. ((وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)) عند الإمام أبي حنيفة أن الاستثناء: في قوله: ((إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا))، يعود على أقرب مذكور، فلا يكون القاذف فاسقاً إذا تاب، ولكن لا تقبل له شهادة حتى ولو تاب، ويقال عنه: هذا عدل وليس بفاسق. والجمهور يقولون: طالما أنه صار عدلاً وليس فاسقاً، إذاً فتقبل شهادته. وذكرنا آيتين أخريين في كتاب الله عز وجل: الآية التي في الحرابة: وهي أن يعمد رجل أو مجموعة رجال فيقطعون على المسلمين طريقهم، قال الله عز وجل: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة:33]. إن العقوبة التي فرضها الله سبحانه عليهم جعلها خزياً لهم في الدنيا، وعقوبة لهم يوم القيامة فإن لهم عقوبة أخرى عند الله عز وجل: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:33 - 34]. فهنا اتفق العلماء على أن التائب من هذه الجريمة يسقط عنه هذا الحد، فقطاع الطريق على المسلمين إذا قدر عليهم الإمام أو نائبه قبل التوبة فإنه ينكل بهم يطبق عليهم هذه الأحكام، لكن إذا لم يقدر عليهم فقد جعل الله عز وجل لهم حكماً آخر وهو: أنه فتح لهم باب التوبة، ولو تاب هؤلاء وعرفوا أنهم سيقام عليهم الحد المذكور في الآية فلن يتوبوا، وسيظلون على ما هم يقطعون الطريق، ويزدادون عتواً فالله عز وجل من رحمته وحكمته أن جعل هؤلاء لو تابوا فإنه يسقط عنهم الحد، واتفق أهل العلم على ذلك. قالوا: فبناءً على ذلك فقوله: ((إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ)) هذا استثناء، وهو يرجع إلى جميع المذكورات قبل ذلك: من أنهم لا يقتلون، ولا يصلبون، ولا تقطع أيديهم ولا أرجلهم من خلاف، ولا ينفوا من الأرض، هذا في سورة المائدة. وفي سورة النساء ذكر الله عز وجل قتل المؤمن خطأ: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء:92] إلى آخر الآية، فذكر هنا شيئين: تحرير الرقبة المؤمنة، والذي لا يجد الرقبة المؤمنة عليه أن يصوم شهرين متتابعين، والأمر الثاني: دية مسلّمة إلى أهله، قال: {إِلَّا أن يصدقوا} [النساء:92]. وإذا تصدق أهل القتيل هل تسقط عنه الكفارة؟ قال أهل العلم: لا تسقط عنه الكفارة؛ لأن الكفارة لازمة له، ولكن إذا تصدقوا بالدية سقطت الدية فقط فلا تؤخذ منه الدية، ويلزمه الكفارة وهي عتق رقبة، وإن لم يجد فصام شهرين متتابعين. ولما جاء كان الاستثناء في القرآن يعود مرة إلى جميع المذكورات، ومرة يعود إلى آخر مذكور، اختلف العلماء في ذلك، والبعض قال: نتوقف حتى يأتي دليل آخر يبين هل يعود الضمير إلى الأخير أو إلى غيره. لكن الراجح أن الأصل في الاستثناء إذا تعاطفت جمل أنه عائد على جميع الأشياء السابقة إلا لدليل يخرج أحد هذه الأشياء أو بعض هذه الأشياء.

تفسير قوله تعالى: (والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم)

تفسير قوله تعالى: (والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم) ثم ذكر الله سبحانه وتعالى بعد ذلك نوعاً آخر من أنواع القذف المخصوص، إذاً: فهنا قذف مؤمنة غريبة لا يعرفها، أو يعرفها كأن تكون جارة له أو غير ذلك، وقد يقذف أي امرأة وأي رجل، لكن أن يقذف امرأته فهذا بعيد، لذلك فالغالب أنه لا يقول ذلك فيفضح نفسه، ويفضح أهله، ويوسم أولاده بهذه الأمر الفظيع وبهذه الجريمة والصفة القذرة، فهنا الله سبحانه وتعالى ألزم الرجل الذي يقذف امرأته بالملاعنة التي ذكرت في هذه الآية: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور:6 - 7].

اختلاف العلماء في الملاعنة

اختلاف العلماء في الملاعنة اختلف العلماء هل الملاعنة التي بين الرجل وبين امرأته شهادة لأن الله عز وجل قال: شهادة أحدهم، أو هي أيمان، موثقة بكلمة الشهادة؟ فذهب الجمهور إلى أنها يمين، ولكن وثقت هذه اليمين بكلمة الشهادة، وبكونه يستحضر أنه شاهد نظر هذا الشيء، فهو على يقين مما يقول. وذهب الإمام أبو حنيفة رحمه الله إلى أن الملاعنة هذه شهادة وليست أيماناً، ولكن أكدت بلفظ اليمين. إذاً: قيل هي شهادة فيها شائبة يمين، وقيل: بل هي يمين فيها شائبة شهادة، فسيبنى على هذين القولين: أنها إذا كانت شهادة فلن تقبل إلا ممن تقبل شهادته، فإذاً لا بد أن يكون الرجل حراً والمرأة حرة، وأما إذا كان أحد الاثنين حراً والآخر عبداً فلن تقبل منه الشهادة؛ لأن العبد ليس من أهل الشهادة. فإذا كان الرجل عبداً متزوجاً بامرأة أمة فلا تصح بينهما هذه الملاعنة على قول من يقول: إنها شهادة. وأما على قول الجمهور: إنها يمين، فقالوا: إن اليمين يصح من أي أحد سواء كان حراً أو عبداً. والذين قالوا: إنها يمين احتجوا بأن هذه الآية ذكر الله عز وجل فيها: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور:6]، ففصل كلمة شهادة بأن يقول: بالله كذا، وهذه ليست صيغة شهادة، وإنما هي صيغة يمين؛ لأن الأصل في الشهادة أن الشاهد لا يحلف، وهنا الشاهد يحلف على الشهادة التي رآها، والأصل أن الشاهد عدل، فطالما أن الشاهد عدل إذاً فتقبل شهادته في الشيء الذي يقوله. ولكن كونه يذكر هنا أنه لا بد أن يقول: بالله كذا، ويكرر هذا اليمين أربع مرات، ففيه دليل على أن هذا من الأيمان وليس من الشهادات. ويدل على ذلك أنه جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل: (احلف بالله الذي لا إله إلا هو إني لصادق، يقول ذلك أربع مرات)، فسماه حلفاً، وفي هذا دليل على أن هذا من الحلف وليس من الشهادة. وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال بعد هذه الأيمان: (لولا الأيمان لكان لي ولها شأن)، فدل هذا على أن الذي قاله الرجل والذي قالته المرأة يمين. إذاً فالراجح أن هذا اللعان بين الرجل وبين امرأته يمين من الأيمان. قال الله سبحانه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ} [النور:6] أي: يقذفون: {أَزْوَاجَهُمْ} [النور:6] أي: الرجل يقذف المرأة فتكون الملاعنة بين الاثنين، وبالملاعنة تحرم عليه المرأة نهائياً، وإذا كانت حاملاً ينتفي عنه الحمل بسبب هذه الملاعنة، والصيغة في (يرمون) لجمع المذكر، فهي في رمي الرجل للمرأة وليس العكس. والمرأة إذا رمت زوجها فإنها تدخل تحت مسألة القذف السابقة. وأما الرجل حين يقذف امرأته فإن فيه مهانة شديدة جداً، وسيكون هناك ولد في يوم من الأيام فينتفي منه هذا الرجل، فيكون ضرره متعدٍ، فلذلك كان فيه هذه الملاعنة. {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ} [النور:6]، فلو كان هناك أربعة شهداء آخرون فشهد الشهود لرجمت المرأة بذلك.

القراءات في قوله: أربع

القراءات في قوله: أربع {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [النور:6]، هذه قراءة حفص عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} [النور:6]، وكأنه مبتدأ وخبر، والتقدير: الشهادة أربع. وقرأ باقي القراء نافع وأبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وابن عامر وشعبة عن عاصم: (فشهادة أحدهم أربعَ شهادات بالله)، وكأن شهادة هنا مصدر أصله: أن يشهد أحدهم أربعَ شهادات بالله، فنصبت على ذلك. فسيقول أربع جمل فيها: أنه يشهد بالله أنه صادق فيما يقول، وأنها فعلت هذه الجريمة.

تفسير قوله تعالى: (والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين)

تفسير قوله تعالى: (والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين) قال الله سبحانه: {وَالْخَامِسَةُ} [النور:7] أي: الشهادة الخامسة، أو الجملة الخامسة التي يقولها هي: {أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور:7]، فيدعو على نفسه باللعنة، وهذا شيء فضيع جداً؛ فاللعنة معناها: الطرد من رحمة الله عز وجل، ولما كان يدعو على نفسه باللعنة إن كان كاذباً فيما يقول، دل هذا على أن القذف فضيع جداً، وأنه إن كان كاذباً فقد استحق أن يطرد من رحمة رب العالمين سبحانه. القراءات فيها: {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ} [النور:7] هذه قراءة الجمهور، وقرأها نافع ويعقوب: (أنْ لعنةُ الله عليه إن كان من الكاذبين)، وكلمة (لعنة) مكتوبة في المصحف بالتاء المفتوحة، فالجميع يقرءونها: (أنَّ لعنةَ الله)، أو (أنْ لعنةُ الله)، والأكثرون عند الوقف عليها يقفون عليها بالتاء، إلا ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب، فإنهم يقفون عليها بالهاء.

تفسير قوله تعالى: (ويدرأ عنها العذاب إن كان من الصادقين)

تفسير قوله تعالى: (ويدرأ عنها العذاب إن كان من الصادقين) قال الله سبحانه {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ)) [النور:8 - 9]، وهي بالفتح قراءة حفص عن عاصم فقط، وباقي القراء يقرءونها بالضم: (والخامسةُ)، وكأن قراءة حفص عن عاصم: (أن تشهد أربع شهادات، والخامسة معطوفة على أربع شهادات. وعلى قراءة الجمهور أنه استئناف، فتكون مبتدأ، والتقدير والخامسة في الملاعنة كذا وكذا. {أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا} [النور:9]، هذه قراءة الجمهور، وقرأها نافع: (أن غضِب الله عليها) على الفعل الماضي. وقراءة يعقوب: (أن غضبُ الله عليها إن كان من الصادقين)، فيكون لفظ الجلالة مضافاً. وقراءة نافع: (أن غضِب الله) على أن لفظ الجلالة فاعل، وقراءة الجمهور: {أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا} [النور:9]، على أن غضب مصدر، ولفظ الجلالة مضاف إليه. وسبب نزول هذه الآية: ما رواه أبو داود عن ابن عباس: أن هلال بن أمية، قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بـ شريك بن سحماء، وهلال رجل من الصحابة، وقد رجع إلى بيته فوجد امرأته ومعها رجل في البيت، فلم يهيجهما، فلما أصبح ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (البينة، وإلا حد في ظهرك) أي: إما أن تأتي ببينة على ما تقول، أو يقام عليك الحد. والحد في القذف كان قد نزل لكن آية الملاعنة لم تكن قد نزلت بعد، فالرجل لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر وماذا يعمل معها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (البينة) يعني: ائت بأربعة شهود يشهدون لك على ذلك وإلا فالحد في ظهرك. فقال الرجل: (يا رسول الله! إذا رأى أحدنا رجلاً على امرأته يلتمس البينة؟!) أي: من أين سيأتي بالبينة؟ قال: (فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: البينة وإلا حد في ظهرك، فقال الرجل: والذي بعثك بالحق إني لصادق، ولينزلن الله في أمري ما يبرئ ظهري من الحد) وفعلاً نزلت هذه الآية تبرئ الرجل من الحد بهذه الملاعنة، فنزلت: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} [النور:6] الآية حتى قوله: {مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور:9]، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم وتلا هذه الآية وحصلت الملاعنة من الاثنين. ومما جاء في ذلك ما قاله سعد بن عبادة رضي الله عنه، قال: (يا رسول الله! إن وجدت مع امرأتي رجلاً أمهله حتى آتي بأربعة؟! والله لأضربنه بالسيف غير مصفح) يعني أنه سيضربه بحد السيف، وصفحة السيف هي عرضه. ويعني: لن اضربه ضرب تأديب ولكن سأضربه ضرب قتل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتعجبون من غيرة سعد، لأنا أغير منه، والله أغير مني، ومن أجل ذلك حرم الله عز وجل الفواحش ما ظهر منها وما بطن). وجاء أيضاً في قصة رجل آخر من الصحابة وهو عاصم بن عدي الأنصاري، أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (جعلني الله فداك، لو أن رجلاً منا وجد على بطن امرأته رجلاً فأخبر بما جرى جلد ثمانين، وسماه المسلمون فاسقاً فلا تقبل شهادته، فكيف لأحدنا عند ذلك بأربعة شهداء؟! وإلى أن يلتمس أربعة شهود فقد فرغ الرجل من حاجته، فقال عليه الصلاة والسلام: كذلك أنزلت يا عاصم). وكان عويمر العجلاني -وهو قريب لـ عاصم - يسأل عن هذا الأمر كثيراً، وكأنها مسألة خطرت في قلبه فبدأ يسأل عنها، وقال: سل لي يا عاصم! أي: اذهب واسأل النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل يجد مع امرأته رجلاً أيسكت أم أنه يفعل شيئاً، ومن أين يأتي بالشهود على ذلك. وكرر الرجل كلامه، فذهب عاصم وسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، أي: لا تسأل عن شيء لم يحصل، فإذا حصل فاسأل، وأحياناً يكون السؤال عن شيء قد سكت عنه الشرع فينزل الأمر بتحريمه، أو يسأل الإنسان عن شيء فيه بلاء فيبتلى بسبب سؤاله، فهذا سأل عن شيء لم يحصل فإذا به هو الذي يبتلى به، فوجد مع امرأته رجلاً، وكأن هذا من شؤم هذا السؤال. فـ عاصم سأل النبي صلى الله عليه وسلم ورجع إلى الرجل وقال له: إنك لم تأت بخير، لقد غضب النبي صلى الله عليه وسلم من الكلام الذي قلته، والآخر رجع إلى بيته فوجد الرجل مع امرأته. وقد نزلت الآية لهذه الأسباب، وإن كان الأقوى أنها نزلت في هلال، ثم طبق هذا الحد على الباقين، كما يذكر بعد ذلك، والله أعلم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة النور [6 - 10]

تفسير سورة النور [6 - 10] لقد حد الشارع الحكيم حدوداً وشرع شرائع حماية للمجتمعات من الرذيلة، وحفاظاً على الأعراض والأنساب، ومن تلك الأحكام التي شرعت ملاعنة الرجل لزوجته إذا اتهمها بالزنا ولم يأت بأربعة شهود، ويترتب على ملاعنة الزوجين أحكام منها: نفي الولد إن كانت حاملاً، والفراق للأبد، وألا ينسب الولد إلى أبيه.

تفسير آيات اللعان

تفسير آيات اللعان الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة النور: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ * وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} [النور:6 - 10].

خلاف العلماء في الشهادات هل هي شهادة أم يمين

خلاف العلماء في الشهادات هل هي شهادة أم يمين ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات حكماً من الأحكام، وحداً من الحدود وهو حد القاذف، وهو الذي يقذف المحصنة أو المحصن من المؤمنين، والمقصود بالمحصن أي: العفيف من الرجال، والمحصنة: العفيفة من النساء يعني: المؤمنات، فهذا يشمل عموم المحصنات، وهنا خص الله عز وجل الذين يرمون أزواجهم، ورمي الرجل لامرأته هذا شيء نادر أن يحدث، فجعل له حكماً من الأحكام وهو: أن الرجل يتلاعن هو وامرأته في ذلك. فالرجل يقول: إنها فعلت هذه الفاحشة، والمرأة تكذب ذلك ولكن بصورة معينة جاءت في هذه الآية، فأحدهما سيشهد بالله أربع شهادات إنه لمن الصادقين فيما رمى به امرأته من ذلك، والشهادة الخامسة أنه يدعو على نفسه بلعنة الله عز وجل إن كان من الكاذبين. فإذا قال الرجل ذلك وجب على المرأة العذاب، ويدرأ عنها أنها تجيب وترد على هذه الدعوى بأن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين فيما يقول، وقد قدمنا في الحديث السابق أن العلماء اختلفوا في أن أيمان الملاعنة التي ذكرت بصيغة الشهادات هل هي أيمان بصيغة الشهادة أم هي شهادة بصيغة الأيمان؟ والجمهور على أنها أيمان بصيغة الشهادات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حلّف الرجل والمرأة، فقال: (لولا الأيمان لكان لي ولها شأن) ففي الحديث بيان أن هذه أيمان. وذهب الأحناف إلى أنها شهادة، وعلى ذلك لا تكون الشهادة إلا ممن هو أهل للشهادة، فالعبد لا تقبل شهادته؛ لأن العبد ليس أهلاً للشهادة، هذا عند الأحناف. واحتج الجمهور بما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، والأحناف ذكروا أنها شهادة واحتجوا بهذه الآية: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ} [النور:6]، قالوا: إن الأصل في الذي يقذف المحصنة أنه لابد أن يأتي بأربعة شهداء، وهنا قام الرجل مقام الأربعة الشهود، فهو الآن شاهد، ولكن لولا أنه جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم تسميتها بالأيمان لكان قول الأحناف قولاً وجيهاً.

قصة الملاعنة التي وقعت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

قصة الملاعنة التي وقعت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم جاءت قصة الملاعنة في صحيح البخاري وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم لاعن بين رجل وامرأته، وذكر القصة أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما بإسناد فيه ضعف يسير، ولكن يشهد له أحاديث أخرى في هذا المعنى، فسياق الإمام أبي داود سياق طويل وفيه تفصيل، ففيه قال ابن عباس رضي الله عنهما: (جاء هلال بن أمية وهو أحد الثلاثة الذين تاب الله عز وجل عليهم، فجاء من أرضه عشياً، فوجد عند أهله رجلاً، فرأى بعينه وسمع بأذنه، فلم يزد حتى أصبح، ثم غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني جئت أهلي عشاءً فوجدت عندهم رجلاً، فرأيت بعيني وسمعت بأذني، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به واشتد عليه صلوات الله وسلامه عليه، فنزلت هذه الآية: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [النور:6] الآية، فسرَّى عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال للرجل: أبشر يا هلال! قد جعل الله عز وجل لك فرجاً ومخرجاً، قال هلال: قد كنت أرجو ذلك من ربي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسلوا إليها، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المرأة لتأتي، فجاءت فتلاها عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم) يعني: هاتين الآيتين، (فذكرهما وأخبرهما أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا). فهنا الرجل قذف امرأته والمرأة كذبته، فالنبي صلى الله عليه وسلم وعظ الاثنين: (الله يعلم أن أحدكما كاذب) أي: لا يمكن أن يكون الاثنان صادقين، فأحدهما كاذب، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم وذكر المرأة والرجل وقال: (إن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا) ففي الدنيا كان الرجم شديداً، ولكن ما في الآخرة أشد وأفظع، فلما قال ذلك صلى الله عليه وسلم قال هلال: (والله لقد صدقت عليها، فقالت: قد كذب) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لاعنوا بينهما)، فهذا الحكم الذي في كتاب الله عز وجل فطبقوه، (فقيل لـ هلال: اشهد، فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، فلما كان الخامسة قيل له: يا هلال! اتق الله؛ فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة) يعني: أنت حلفت أربعة أيمان، فهذه الخامسة هي الموجبة عليك لعنة الله سبحانه وتعالى إن كنت من الكاذبين، (فقال: والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها، فشهد الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم قيل للمرأة: اشهدي) فهنا المرأة شهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين (فشهدت حالفة بالله سبحانه إنه لمن الكاذبين، فلما كانت عند الخامسة قيل لها: اتقي الله؛ فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب) يعني: العذاب في الآخرة (فتلكأت ساعة) يعني: المرأة سمعت النصيحة فكادت أن تؤثر فيها (فتلكأت ساعة ثم قالت: والله لا أفضح قومي)، وهنا قارن بين النظر في الآخرة ثم النظر في الدنيا، الإنسان ينظر إلى الآخرة على أنها بعيدة، فهي رأت أن قومها سيفتضحون فقالت: لا أفضح قومي، فنظرت وآثرت الدنيا على الآخرة، قال: (فشهدت الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين) ثم قال: (ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما).

الأحكام المترتبة على الملاعنة

الأحكام المترتبة على الملاعنة وهنا حكم من الأحكام الشرعية وهو: التفريق بين الاثنين (وقضى ألا يدعى ولدها لأب)، فهي كانت حاملاً من ذلك، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم بالتفريق، ففرق بين المرأة والرجل، وهذا يكون تفريقاً أبدياً، فالرجل الذي يطلق امرأته ثلاثاً لو أنها تزوجت بعد ذلك بآخر ثم طلقها جاز له أن يراجعها ويتزوجها مرة أخرى، ولكن في مسألة الملاعنة إذا تمت فإنه يفرق بين الاثنين ولا يجتمعان أبداً، سواء تزوجت غيره أو لا، فلا يجتمعان أبداً طالما تمت الملاعنة. وقضى النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القضية بألا يدعى ولدها لأب، ولا ترمى، فيقال: ابن أبيه، أو يدعى لأمه: فلان بن فلانة، لكنه ليس لفلان هذا، قال: ولا ترمى المرأة؛ لأنه لم يثبت عليها شيء، فلا ترمى المرأة ولا يرمى ولدها، لكن لو حصل أن شخصاً عيرها وقال لها: أنت زانية ما النتيجة؟! قال: (ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد)، فقد حصلت الملاعنة بين الرجل والمرأة فحكمهما مؤخر إلى يوم القيامة، فالله عز وجل يفصل بينهما، ولكن في الدنيا لو أن إنساناً رمى هذه المرأة حتى ولو كان يوجد هناك شيء يفيد أن هذه المرأة هي فعلاً وقعت في هذا الشيء فليس لأحد أن يرميها، فإن فعل أحد ذلك أقيم عليه الحد، كذلك الولد الذي جاء لا يدعى لأب، ولكن إذا رماه إنسان بالزنا فإنه يقام عليه الحد بذلك. قال: (وقضى ألا بيت عليه ولا قوت؛ من أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا متوفىً عنه)، وهنا حكم آخر، (فقضى ألا بيت لها)، يعني: أن المرأة المطلقة لها النفقة والسكنى إذا كانت في فترة العدة، فالمرأة التي طلقت مرة أو مرتين لها النفقة والسكنى، ولا نفقة ولا سكنى للمرأة بعد الطلقة الثالثة. فقوله: (ولا قوت؛ من أجل أنهما يتفرقان من غير طلاق ولا متوفى عنه)، فيه بيان أن المرأة المطلقة لها النفقة والسكنى على التفصيل الموجود عند الفقهاء، والمتوفى عنها كذلك. ثم أشار في الحديث إلى شيء ليبين أن المرأة ستكون صادقة أو كاذبة فقال: (إن جاءت به أورق، جعداً، جمالياً، خدلج الساقين، سابغ الإليتين فهو للذي رميت به)، فالنبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى زوجها هلال، ونظر إلى شكل شريك بن سحماء فإذا هو رجل غليظ سمين، فقال: -ولم يقل ذلك لكل الناس وإنما للبعض- إذا جاء هذا الولد (أورق، جعداً، جمالياً خدلج الساقين، سابغ الإليتين، فهو للذي رميت به، فجاءت به على هذا النعت)، أورق يعني: أسمر، وجعداً يعني: شعره ليس ناعماً، جمالياً يعني: ممتلئ، خدلج الساقين أي: رجلاه يخينتان وسمينتان، وسابغ الإليتين أي: مقعدته سمينة، (فهو للذي رميت به). فهنا أشار النبي صلى الله عليه وسلم لشيء ومع ذلك فالحكم باق، وهو أن الذي يرمي هذه المرأة حتى ولو ظهر الولد الذي جاءت به يشبه الذي وقعت المرأة به ليس لأحد أن يرمي المرأة، ولا أن يرمي الولد، ومن فعل أقيم عليه الحد قال: (فجاءت به أورق، جعداً، جمالياً، خدلج الساقين، سابغ الأليتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لولا الأيمان) وهنا سمى هذه الشهادة يميناً، فأخذ الجمهور بهذا، قال: (لولا الأيمان لكان لي ولها شأن). قال عكرمة: عن ابن عباس: فكان بعد ذلك أميراً على مصر وما يدعى لأب، يعني: أميراً على قطر من الأقطار، فهذا الولد كبر وفاق غيره وصار أميراً في يوم من الأيام، ومع ذلك لا يعرف أبوه، فلو أنه مات فأمه هي التي ترثه، وهذه هي المسألة الوحيدة التي فيها: أن الأم تكون عصبة للابن، فالأم تأخذ كل الميراث في هذه المسألة، فلو أنه مات أخذت الأم نصيبها ونصيب الأب في هذه المسألة، والغرض أن هذا صار أميراً في يوم من الأيام ولا أحد يرميه بشيء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك. يقول الإمام القرطبي رحمه الله في ذلك: إذا نفى الرجل الحمل فإنه يلاعن، يعني: غاب عنها فترة طويلة ثم جاء فإذا بها حامل فهنا يجوز له أن يرميها في هذه الحال، قال: فإذا نفى الحمل فإنه يلاعن، فيقول: هذا ليس ابني، فتكون الملاعنة بين الاثنين لإثبات ذلك. يقول القرطبي رحمه الله: واللعان عندنا يكون في كل زوجين حرين كانا أو عبدين، مؤمنين أو كافرين، فاسقين كانا أو عدلين، ومبنى ذلك على أن الملاعنة هي أيمان وليست شهادات، فأي إنسان فإنه يصح أن يحلف، والمرأة كذلك تلاعن إذا نفت عنها التهمة، فمن يقول: إنها شهادة فلا تصح الملاعنة إلا إذا كانوا من أهل الشهادة، وإذا كانوا ليسوا من أهل الشهادة فلا يقام ذلك. فـ القرطبي يقول: وعندنا وعند الشافعي هي يمين -وهذا قول الجمهور أيضاً- أنها يمين، وهذا هو الأرجح من ناحية الدليل. يذكر العلماء هنا مسألة: وهي لو أن إنساناً تزوج امرأة ثم طلقها، وبعدما طلقها قذفها، فهل تحصل بينهما ملاعنة أم أنه يقام عليه الحد لأنه الآن صار غريباً؟ قالوا: ننظر في ذلك هل المرأة حامل أو لا، أي: الرجل عندما طلق المرأة هل كانت حاملاً؟ فإذا كانت حاملاً فله أن يلاعن؛ لأن الملاعنة هنا إنما هي لنفي نسب هذا الولد، حتى لا تنسبه إليه، وإذا لم تكن المرأة حاملاً وانتهت عدتها فبعد انقضاء العدة ليست زوجة له، وفي خلال العدة قد يجوز للرجل أن يراجع امرأته إذا كانت له مراجعة، فإذا انتهت العدة صار غريباً عنها، فإذا قذفها لا يقال: لا بد من ملاعنة بين الاثنين، وإنما يقال له: البينة أو حد في ظهرك. وهنا مسألة: الملاعنة لا تكون بين الزوجين في بيت من البيوت مثلاً، وإنما يتلاعنا عند القاضي، فالقاضي هو الذي يفعل ذلك، وهو الذي يفرق بين الاثنين، والملاعنة حكم خطير جداً يبنى عليه التفريق الأبدي بين الاثنين؛ فعلى ذلك لابد من حضور الاثنين عند القاضي ليقوم بذلك، وليس لآحاد الناس أن يفعل ذلك. كذلك من المسائل: إذا شهد أربعة على امرأة بالزنا أحدهم زوجها، الزوج ومعه ثلاثة آخرون شهدوا بذلك، فهل يحسب الزوج شاهداً فيقام عليها الحد أم أن الرجل يلتعن مع المرأة؟ يقول العلماء: إذا شهد أربعة على امرأة بالزنا أحدهم زوجها فإن الزوج يلاعن، فلا بد من ملاعنة بين الرجل وبين امرأته، والشهود ليس لهم قيمة الآن، فلابد من أربعة شهود حتى يثبت قول الرجل، ويقام على المرأة حد الملاعنة. الدليل قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور:4] فهنا الرجل رمى المرأة ولابد له من أربعة شهود يشهدون على المرأة أنها زنت، فذهبوا وشهدوا أمام الحاكم وقالوا: رأينا فلانة تزني وهنا الآن أربعة شهود شهدوا فيقام عليها الحد الرجم. من المسائل التي ينقلها الإمام القرطبي عن ابن العربي المالكي يقول: من غريب أمر هذا الرجل -يقصد الإمام أبا حنيفة - أنه قال: إذا قذف زوجته وأمها بالزنا أنه إذا حد للأم سقط حد البنت، وإن لاعن البنت لم يسقط حد الأم، قال ابن العربي: وهذا لا وجه له، وما رأيت لهم فيه شيئاً يحكى، وهذا باطل جداً، فإنه خص عموم الآية في البنت وهي زوجة بحد الأم من غير أثر ولا أصل قاسه عليه. قلت: الإمام القرطبي ينقل هذا الكلام عن ابن العربي المالكي، وابن العربي أحياناً يكون غير منصف في كلامه، والعجب أن القرطبي ساق هذا الكلام دون أن يبين وجه الصواب، والصواب: أن هذه المسألة هي نفسها التي ذكرناها قبل ذلك في الخلاف بين أبي حنيفة والجمهور من أن الملاعنة هل هي شهادة أو أيمان، فبناها على هذا الأصل، وهنا قول ابن العربي المالكي أن الإمام أبي حنيفة ليس له أصل يرجع إليه غير صحيح، بل له أصل يرجع إليه، وكان المفروض أن الإمام القرطبي ينبه على ذلك. [النور:4] والمسألة: لو أن الرجل رمى امرأته بالزنا وقال: يا زانية يا بنت الزانية! فشتمها بذلك، فهو رماها ورمى أمها، فمذهب الإمام أبي حنيفة أنه إذا قذف الرجل الزوجة وأمها فإن حد للأم سقط حد البنت، وإن لاعن البنت لم يسقط حد الأم؛ لأنه يرى أن الملاعنة شهادة وليست أيماناً، فإذا حد لأجل الأم أصبح فاسقاً لا تقبل شهادته في ابنتها، لأن الله يقول: {وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} [النور:4] الآية. فعلى ذلك لا يصلح أن يتلاعن مع المرأة، فالرجل مشى على أصله رحمة الله عليه في ذلك، فالخلاف في الأصل وليس في هذا التفريع، فكلام ابن العربي ليس بصواب، وقوله: إنه كلام باطل، وأثر غريب، ولا أصل قاسه عليه ولا نظر، هذا كلام خطأ من ابن العربي كعادته إذا لم يعجبه الرأي شن على صاحبه. وذكرنا ذلك لبيان أن القرطبي كان المفروض عليه أن ينبه في المسألة أن أبا حنيفة له أصل يرجع إليه. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة النور (تابع) [6 - 10]

تفسير سورة النور (تابع) [6 - 10] لقد حد الله تعالى حدوداً لهذه البشرية، وبيّن لهم ما يجب عليهم تجاهها، ومن تلك الحدود: اللعان الحاصل بين الزوجين، واللعان يكون إذا قذف الزوج زوجته ولم يأت بأربعة شهداء، فهنا يلاعن بينهما بالطريقة الواردة في هذه الآيات، وبعد ذلك يفرق بينهما أبداً، وينسب الابن إلى أمه، وإذا مات ورثته أمه، ولا يجوز أن يرمى هو ولا أمه، ومن رماهما جلد حد القذف.

سبب نزول آيات اللعان

سبب نزول آيات اللعان الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة النور: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ * وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} [النور:6 - 10]. ذكرنا في الحديث السابق سبب نزول هذه الآيات، وهي قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ} [النور:6]، وكان ذلك في قصة هلال بن أمية لما رمى امرأته بهذه الفاحشة ثم ذهب للنبي صلى الله عليه وسلم يطلب الحكم الشرعي في ذلك، فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن قال له: (البينة وإلا حد في ظهرك) أي: إما أن تأتي بالبينة على قولك أو حد في ظهرك، والبينة هنا مأخوذة من الآيات السابقة التي قال الله عز وجل فيها: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور:4]، وهذا الذي كان معمولاً به قبل نزول هذه الآية، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ هلال: (البينة وإلا حد في ظهرك)، فقال الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم لحسن ظنه بالله عز وجل: إن الله سينزل فيه ما يبرؤ ظهره، وبالفعل فقد أنزل الله عز وجل ما يبرؤ ظهره. وحدثت أيضاً قصة أخرى لرجل آخر من الصحابة اسمه: عويمر العجلاني. فقد جاء في صحيح البخاري أن سهل بن سعد قال: إن عويمراً أتى عاصم بن عدي -وكان سيد بني عجلان- فقال: كيف تقولون في رجل وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه؟ أم كيف يصنع؟ فطلب من عاصم بن عدي سيد بني عجلان أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فأتى عاصم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! وذكر له ما قاله عويمر، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المسائل وعابها صلوات الله وسلامه عليه. وهذا في رواية لـ مسلم: قال: (فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم). إذاً: فهذه من ضمن الأسئلة التي لا ينبغي أن يسألها الإنسان، وهي أن يسأل عن بلاء أو فاحشة ولو حصلت في أهل بيته، فإنه لا يدري لعل البلاء يكون موكلاً بمنطقه وما يقوله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكره المسائل خاصةً التي لم تقع، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)؛ لأنهم كانوا يسألونه كثيراً، فكره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وأخبرهم أن الله عز وجل يكره ذلك، وأخبرهم: (أن من أشد الناس جرماً من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته). فالأصل في المسائل التي سكت عنها الشارع العفو؛ ولذلك كان من أشد الناس جرماً من حرمت بسببه أشياء كان قد سكت عنها الشارع، فهذا الرجل وهو: عويمر العجلاني لما سأل عاصماً أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم كره النبي صلى الله عليه وسلم هذه المسائل وعابها؛ حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رجع إلى عويمر قال له: يا عاصم! ماذا قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عاصم لـ عويمر: لم تأتني بخير، قد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسألة التي سألته عنها، فقال عويمر: والله لا أنتهي حتى أسأله عنها، وكأنه هو الذي ابتلي بهذه المصيبة، فأقبل عويمر حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسط الناس فقال: يا رسول الله! أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه؟ أم كيف يفعل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد نزل فيك وفي صاحبتك)، وكان الحكم في هذا قد نزل قبله بقليل في قصة هلال بن أمية وامرأته، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (قد نزل فيك وفي صاحبتك) أي: أن نفس الحكم في هلال وامرأته سيطبق عليك وعلى صاحبتك، (فأت بها).

بعض الأحكام المتعلقة بالعان

بعض الأحكام المتعلقة بالعان ففيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يأتي بالمرأة إلى مجلسه صلى الله عليه وسلم حتى يفصل بينهما، وهذا يدل على أن الملاعنة تكون عند القاضي أو الحاكم، وليس بين المرأة وزوجها. قال سهل: فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغا قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله! إن أمسكتها)، وهذه رواية الإمام مسلم، قال: (فطلقَها ثلاثاً قبل أن يأمره النبي صلى الله عليه وسلم). قال ابن شهاب الزهري راوي الحديث: فكانت سنة المتلاعنين. يعني: التفريق بين الاثنين، وأخذ جمهور أهل العلم من هذا الحديث: أن طلاق الثلاث يقع ثلاثاً، وليس ذلك بحجة في هذا الحديث؛ لأن التفريق هنا ليس بطلاق، وإنما حصل هذا من النبي صلى الله عليه وسلم، فالفرقة حصلت بالملاعنة، وبإمضاء النبي صلى الله عليه وسلم لها، وبتفريقه بينهما، ثم طلاق الثلاث لا يحرم مطلقاً، فإنه يجوز له أن ينكحها إذا نكحت هي زوجاً غيره، لكن الملاعنة تفريق نهائي إلى الأبد. وفي رواية أخرى لهذا الحديث قال: (وكان فراقه إياها بعدُ سنة في المتلاعنين)، وفيه قال سهل: (فكانت حاملاً)، أي: أن زوجة عويمر كانت حاملاً، فكان ابنها ينسب لأمه فقط، ثم جرت السنة أنه يرثها وترث منه ما فرض الله لها، وأن الزاني بها لا يرث؛ لأنه أب غير شرعي، فالأم ترث منه بالفرض، فإذا لم يوجد لهذا الابن من الزنا أحد يرثه من عصبات ونحوهم ففي هذه الحالة ترث الأم الفرض منه، وترث ما تبقى من الإرث تعصيباً، وهذه هي الصورة الوحيدة التي ترث فيها الأم جميع الميراث. وفي رواية أخرى: في صحيح مسلم أيضاً قال: (فتلاعنا في المسجد وأنا شاهد) أي: تمت الملاعنة بحضور النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، وكأن عظمة المسجد تمنعهما من الكذب خاصة مع هذه الأيمان المغلظة، قال: (فتلاعنا في المسجد وأنا شاهد). وفي الحديث: (فطلقها ثلاثاً قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ففارقها عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذاكم التفريق بين كل متلاعنين). فهذه قصة أخرى من القصص التي حدثت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد نزلت الآية بسبب قصة هلال بن أمية لما رمى امرأته بـ شريك بن سحماء، وكأن بين القصتين وقتاً بسيطاً وقليلاً بحيث إن عويمراً لم يعرف شيئاً عن نزول هذه الآية؛ ولذلك ذهب ليسأل النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.

رجل قذف امرأته بعدما سكت عنها، فهل يلاعن أم لا؟

رجل قذف امرأته بعدما سكت عنها، فهل يلاعن أم لا؟ وهنا يقول العلماء: هل للرجل أن ينفي حمل امرأته بعدما سكت عنها أم لا؟ فالكثير من العلماء يقولون: ليس له أن ينفيه بعد سكوته؛ لأن سكوته بعد العلم به ينزل منزلة الرضا به، وبعض العلماء يقول: إذا وجد امرأته حاملاً ولم يعلم بذلك فإنه يلاعنها لزاماً، وبعضهم يقول: بل يسأل عن سبب سكوته، فإن أعطى عذراً وجيهاً قبل منه، كأن يعتذر بأنه كان يظن انتفاخ بطنها مرضاً من الأمراض أو نحو ذلك. قالوا: فإن أخر ذلك إلى أن وضعت ثم قال: رجوت أن يكون ريحاً أو سقطاً لأستريح من القذف، فالراجح: أن هذا عذر مقبول، وله أن يلاعن بعد ذلك. يقول الإمام القرطبي: قال ابن القصار: إذا قالت امرأة لزوجها أو لأجنبي: يا زانية، فقد رمي بالزنا، فهل لها الملاعنة؟ أقول: لا؛ لأن الملاعنة تكون في رمي الرجل لامرأته، فهذا أفحش وأشد، لكن إذا رمت المرأة زوجها فعليها الحد إلا أن تأتي بشهود فيرجم الرجل، لكن لو أن المرأة رمت زوجها بالزنا بلفظ التأنيث فقالت: يا زانية! فهل يعتبر ذلك صريحاً في الرمي أم يعتبر تعريضاً فقط؟ الراجح: أنه من صريح الكلام، سواء قالت: يا زاني! أو يا زانية!

حكم اللعان في النكاح الفاسد

حكم اللعان في النكاح الفاسد ومن المسائل أيضاً: يقول الإمام القرطبي رحمه الله: يلاعن في النكاح الفاسد؛ لأن النكاح إما أن يكون صحيحاً أو فاسداً، أما السفاح فليس نكاحاً بلا خلاف بين العلماء، وهذا مثل نكاح المتعة، وهو أن يتزوج الرجل المرأة يوماً أو يومين ثم يطلقها من دون ولي ولا شهود، وهذا النكاح كان موجوداً في أيام الجاهلية ثم وجد في الإسلام ثم نسخ وأزيل، والآن موجود عند الشيعة، فهذا من قبيل الزنا، والنكاح باطل في الأصل، لكن النكاح الفاسد: هو الذي فقد بعضاً من الشروط التي اختلف فيها العلماء. وقد جاء في الحديث: (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل)، فإذا جاء بولي دون الشهود واكتفوا بإعلان النكاح، فعند بعض العلماء: أنه يكفي ذلك ويغني عن الشهود، وعند البعض: أنه لا بد من شاهدي عدل في ذلك، وأما الإعلام فهو من ضمن الواجبات في ذلك، فهذا النكاح على هذه الصورة يصير فاسداً عند من اشترط الولي والشاهدين، فهو نكاح وإن وصف بالفساد، لكن لو رمى الرجل امرأته بالزنا وكان نكاحهما فاسداً فإن له أن يلاعنها؛ لأن الفساد لا يخرج النكاح عن مسماه في الأصل. واختلفوا فيما لو أبى الرجل أن يلاعن امرأته بعد رميه لها بالزنا هل يحد أم لا؟ فقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: لا حد عليه؛ لأن الله تعالى جعل على الأجنبي حداً وعلى الزوج اللعان، وهذا خطأ، بل الصواب أن الحد يقع على الاثنين معاً؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ هلال بن أمية: (البينة، وإلا حد في ظهرك)، فلما نزلت آية اللعان أمره بالملاعنة بدلاً عن الحد، فيسقط الحد بالملاعنة؛ ولذلك قال الإمام مالك، والشافعي، وأحمد وجمهور العلماء: إذا لم يلتعن الزوج حُدّ؛ لأن اللعان براءة كالشهود للأجنبي، وفي حديث العجلاني وهو عويمر ما يدل على ذلك، وهو قوله في الحديث: (إن سكت سكت على غيظ، وإن قتلت قتلت، وإن نطقت جلدت أو أقيم علي الحد). فالراجح: أن الإنسان إذا رمى امرأته بهذه الجريمة فإنه يقام عليه الحد إلا أن يأتي بشهود، أو يلتعن مع المرأة.

من الذي يبدأ به في اللعان

من الذي يبدأ به في اللعان والبداءة في اللعان تكون بما بدأ الله عز وجل به، فإذا كانا في مجلس الحاكم أمر الرجل بالبداءة، فيقسم أربع مرات بهذه الصيغة: أشهد بالله إني لمن الصادقين، وهي ضرب من القسم، يعني: أشهد حالفاً بالله سبحانه تعالى إني لمن الصادقين فيما قذفت به هذه من هذا الأمر، ويشهد بشيء قد رآه لا بشيء قد أخبر عنه، ثم يقول في الخامسة: أن عليه لعنة الله إن كان من الكاذبين فيما رمى به هذه من ذلك. فحينئذ وجب عليها الحد بذلك، فالذي يدرأ عنها العذاب أنها ترد بأربع شهادات، فتقسم بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماها به من هذه الجريمة، ولذلك قال تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} [النور:8]، وكأنها قد استوجبت الحد بكون الرجل قال هذه الشهادات الأربع، فهي تدرأ وتدفع عن نفسها هذا الحد بأن تشهد بالله أربع مرات فتقول: أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من هذه الجريمة، وفي المرة الخامسة تقول: إن غضب الله عليها إن كان الرجل من الصادقين.

انقطاع الصلة بين الزوجين المتلاعنين إلى الأبد

انقطاع الصلة بين الزوجين المتلاعنين إلى الأبد فإذا تمت الملاعنة فرق بينهما فلا يجتمعان أبداً، ولا يتوارثان، وبهذا انفسخ هذا النكاح من أصله، فالفرقة هنا ليست فرقة طلاق، بل فرقة فسخ؛ ولذلك فلا ميراث بين الاثنين، ولا نفقة ولا سكنى للمرأة، ولا يحل للرجل أن يراجعها أبداً، هذا قول جمهور أهل العلم. وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن الرجل لو كذب نفسه بعد ذلك وقال: إنه كاذب فيما رماها به من ذلك، فإنه يقام عليه حد القذف، ثم بعد ذلك يكون خاطب من الخطاب. والراجح: أن السنة قد جاءت بأنهما لا يجتمعان أبداً.

ما يفتقر إليه اللعان

ما يفتقر إليه اللعان يقول العلماء: اللعان يفتقر إلى أربعة أشياء، فإذا تمت هذه الأشياء فرق بينهما: الأول: أنه يشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، ثم يدعو على نفسه في المرة الخامسة باللعنة إن كان من الكاذبين، والمرأة تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين. إذاً: فعدد الألفاظ مقصور. الثاني: قالوا: إنه يفتقر أيضاً إلى المكان، والراجح: أن هذا ليس بشرط صحة في الملاعنة، فهو يصح في أي مكان طالما حضر الحاكم أو القاضي. الثالث: الوقت، وليس شرطاً لصحة اللعان، فقد اختار العلماء: أن المساجد تختار لهذا لشرفها، وبعضهم حدد الوقت فقال: بعد صلاة العصر؛ لأنه الوقت الذي يعظم فيه اليمين؛ لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى. الشرط الرابع: جمع الناس. والصواب: أن عدد الألفاظ وحضور الحاكم لهذه الملاعنة شرطان رئيسيان لصحة اللعان، وكذلك وجود الناس في ذلك؛ حتى يشهدوا على الرجل وامرأته، فإذا حدثت هذه الملاعنة فرق بين الاثنين، والله أعلم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة النور الآية [11]

تفسير سورة النور الآية [11] إن أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، ونبينا صلى الله عليه وسلم كان له من البلاء أوفر نصيب، فقداتهم في عرض أحب نسائه إليه، وزيادة في التمحيص واستخراج مكنون الصبر ينقطع الوحي شهراً، فعمت الشائعة، وهمس المنافقون ثم صرحوا، واشتد الكرب على بيت النبوة وصاحبه الكريم لتصفى خلته لربه، ولما بلغ الأمر ذروته جاء الفرج والوحي من الرب الرحيم ببراءة الطاهرة زوجة المصطفى وحبيبته رضي الله تعالى عنها وأرضاها.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شراً لكم) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:11]. يذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية وما بعدها حديث الإفك الذي قاله المنافقون، ووقع فيه بعض المسلمين في شأن السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها، وفي ذلك موعظة لكل إنسان مؤمن لئلا يتطاول على أشياء قد حرمها الله عز وجل فيقع فيها. وقد بدأت هذه السورة بذكر حرمة الزنا، ثم الكلام عن القذف وأن الإنسان الذي يقذف غيره إن لم يأت بالشهداء فهو عند الله من الكاذبين، وقال سبحانه: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4]. فالأصل في الإنسان المسلم أن يمسك لسانه عن الوقوع في أعراض الناس، كما أنه يكف يده عن أن يقع في سفك الدماء، أو أن يأخذ أموال الناس بالباطل. ولما ذكر الله عز وجل في أول هذه السورة القذف والزنا حدثنا هنا عن أمر من الأمور التي وقعت لزوجة النبي صلى الله عليه وسلم وأحب أزواجه إليه، ففي ذلك موعظة وبيان أنه إذا نزلت بإنسان مصيبة فليست هي آخر الدنيا، وأنها ليست الهم الذي يجعل الإنسان يستشعر الشر العظيم في ذلك، ولكن ما من مصيبة تنزل إلا وفيها خير من الله عز وجل، ولذلك يطمئن الله المؤمنين ويقول: {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11]، وإن كانت صورته شراً للمؤمنين، وشراً في بيت النبي صلى الله عليه وسلم أن يحدث هذا الإفك الذي يفتريه الكذابون على آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن مع ذلك يقول الله: هو خير، وما من شر يحدث للإنسان إلا ومن وراءه خير لو صبر على الذي ابتلي به. وليس هناك شيء يدوم، بل إن الشر الذي يبتلى به الإنسان لا بد أن يأتي عليه الوقت ويزيله الله عز وجل، ويرفعه بعدما يكون هذا الإنسان المؤمن قد أخذ الأجر العظيم من الله سبحانه على صبره على ذلك. قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ} [النور:11]. الإفك: حديث الكذب، يقال: الإنسان الأفاك، أي: الكذاب الذي يختلق الشيء، ويؤلف الكذبة ويقولها، فيتناقلها الناس ويتناولونها منه. والعصبة: الجماعة من الناس من ثلاثة فما فوق، وتطلق على العشرة أيضاً، وقد تطلق على الأربعين. فقال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) أي: أن مجموعة منكم وقعوا في الإفك، إلا أن صاحب الجريمة والإفك والكذب هو عبد الله بن أبي ابن سلول زعيم المنافقين، وكان خزرجياً أنصارياً، ووقع فيه كذلك مجموعة آخرون من المسلمين أساءوا بالوقوع في ذلك، فأمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقيم عليهم الحد، والعجيب أن هذا المنافق لم يقم عليه الحد؛ لأنه تكلم في السر وكلم المنافقين أمثاله، وشاع الخبر فتناقله المسلمون، ووقعوا فيه، فكان ممن تكلم في ذلك مسطح بن أثاثة، وأمه ابنة خالة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكان أبو بكر ينفق عليه؛ لأنه كان فقيراً، وكان ممن شهد بدراً، فوقع في شأن عائشة رضي الله عنها، ووقع فيها رجل آخر وهو شاعر النبي صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت رضي الله عنه، وكان ممن نقل هذا الكلام أيضاً أخت زوجة النبي صلى الله عليه وسلم واسمها حمنة بنت جحش، وهي أخت زينب بنت جحش رضي الله عنها وضرة عائشة، ولكن عصمها الله عز وجل بالورع. ومعلوم أن النساء الضرائر تكيد كل ضرة لصاحبتها، ولكن هذه التي كانت في منزلة عائشة عند النبي صلى الله عليه وسلم تقول عنها عائشة: وكانت تساميني عند النبي صلى الله عليه وسلم، فلما تحدث الناس بهذا الحديث الكاذب فـ زينب رضي الله عنها مع كونها ضرة لها عصمها الله عز وجل بالورع، وقالت: لا أقول إلا خيراً، أحمي سمعي وبصري، ما علمنا إلا خيراً. لكن أختها حمنة بنت جحش وقعت في ذلك وتكلمت، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بجلد هؤلاء الحد الشرعي بعد القصة الطويلة التي حصلت. والله عز وجل له حكم عظيمة في هذا الأمر الذي حدث لأحدى نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فغيرها لن تكون أفضل منها فإذا حدث لها مثل ذلك فلتتصبر بما حدث لـ عائشة رضي الله عنها. وكذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما وجد مسطحاً ابن خالته يتكلم عن ابنته وكان ينفق عليه حلف أنه لا ينفق عليه، فنزل القرآن يؤدب أبا بكر الصديق ويحذره من ذلك ويقول: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22]. فإذا به يقول: بلى أحب أن يغفر الله لي.

سياق قصة الإفك كما في صحيح مسلم

سياق قصة الإفك كما في صحيح مسلم وهذه القصة موجودة في الصحيحين: صحيح بخاري وصحيح مسلم لكنها في صحيح مسلم أكمل وأتم، فنذكر رواية مسلم لهذا الحديث عن الزهري قال: أخبرني سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن حديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها حين قال لها أهل الإفك مقالاً فبرأها الله مما قالوا. فـ الزهري أخذ هذا الحديث من أربعة من التابعين وهم: سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله بن مسعود، قال: وكلهم حدثني طائفة من حديثها، وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض، وقد وعيت عن كل واحد منهم الحديث الذي حدثني، وبعض حديثهم يصدق بعضاً. فهنا تتبين قوة حفظ ابن شهاب الزهري رضي الله عنه، فقد كان جبلاً في الحفظ؛ لذلك كانوا يقولون: الحديث الذي لا يعرفه الزهري ليس حديثاً أصلاً. فـ ابن شهاب الزهري يذكر الحديث عن أربعة كل واحد حدثه بهذا الحديث، ويعرف ماذا قال كل واحد، وما هو النقص الذي عنده، والزيادة التي عند الآخر، ويذكر هذه الألفاظ، وقد حفظ الله عز وجل هذا الدين بهؤلاء الحفاظ رضوان الله تعالى عليهم. قال: ذكروا أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج سفراً أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه) أي: كانت عادته -وهو متزوج تسع نساء- إذا أراد أن يخرج في غزو أو سفر أن يقرع بينهن، فلم يكن يقول: هذه المرة فلانة، والمرة الثانية فلانة، وهو لا يعرف هل ستكون المرة الثانية أو لا، فلذلك كان في أمر السفر يقرع بينهن، والتي يخرج سهمها يأخذها معه صلوات الله وسلامه عليه. قالت: (فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك بعدما أنزل الحجاب)، وهذا كان في غزوة بني المصطلق أو غزوة المريسيع، وكان ذلك سنة ست بعدما أنزل الله عز وجل آية الحجاب. قالت: (فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه مسيرنا، حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوه وقفل ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل)، فقد أمر الله عز وجل نساء النبي صلى الله عليه وسلم وبناته بالحجاب الذي هو حجاب الشخص فلا ترى، فهي تحمل في هودج، وهو محفة مثل الصندوق فوق ظهر الجمل، فلا يعرف من حمله أبداخله أحد أم لا؟ فهي مطيعة لله عز وجل حين أمرها بالحجاب على هذه الهيئة وليس مجرد لبس الثياب فقط. فتقول رضي الله عنها: (فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش فلما قضيت من شأني أقبلت إلى رحلي) يعني: كأنها ذهبت تقضي حاجتها ثم رجعت، وكان معها عقد تلبسه فضاع في المكان الذي ذهبت تقضي حاجتها فيه، فرجعت تأتي بالعقد من ذلك المكان، وعند ذلك جاء الذين يحملون الهودج فحملوه وظنوا أنها بداخله، وهي تذكر لماذا لم ينتبهوا إلى الهودج هل هو ثقيل أم خفيف؟ وهل فيه أحد أم لا؟ تقول رضي الله عنها: (وكانت النساء إذ ذاك خفاف لم يثقلن ولم يغشهن اللحم، إنما يأكلن العلقة من الطعام) يعني: لم يكن عندهم سعة، فكان أكل النساء أكلاً قليلاً؛ فلذلك كانت خفيفة لم تحمل اللحم ولا غيره، فالذي يحمل الهودج لا يعرف هل هناك أحد أم لا؟ قالت: (فرحلوا الهودج) يعني: على البعير (وهم يحسبون أني فيه، قالت: وكنت جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل وساروا ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش فجئت منازلهم) فهي تذكر أنها كانت جارية حديثة السنة ولا زالت صغيرة، إذ حين تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم كان لها من العمر ست سنوات ودخل بها ولها تسع سنوات في المدينة، فالعقد كان في مكة والدخول كان في المدينة، وهذه الغزوة كانت في سنة ست، أي: أن عمرها خمسة عشر عاماً رضي الله عنها، وتذكر أنها كانت جارية حديثة السن. فقالت: (فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب)، وقد كان تفكيرها على قدر سنها رضي الله عنها، فذهبت تبحث عن العقد الذي ضاع، وكان من الممكن أن تخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذهابها؛ ولكن لعله لم يكن موجوداً بجوارها صلى الله عليه وسلم، ولم يخطر على بالها أن تخبر أحداً بالأمر، فظنت أنها ستأتي به وترجع قبل أن يمشوا، فما كان منهم إلا أنهم مشوا قبل رجوعها. قالت: (فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب) أي: أن المكان الذي كانوا موجودين فيه ليس فيه أحد. قالت: (فتيممت منزلي الذي كنت فيه وظننت أن القوم سيفقدوني فيرجعون إلي، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيناي فنمت) أي: نامت في المكان الذي كانت فيه. قالت: (وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني قد عرس من وراء الجيش) والتعريس: هو النزول للمبيت من وراء الجيش، فكأنهم يجعلون مثل ذلك بحيث إنه لو فقد الجيش شيئاً يجده من عرس وراءه. قالت: (فأدلج فأصبح عند منزلي) يعني: مكث في المكان الذي هو فيه وبعد ذلك قام من الليل وصار وراء الجيش فجاء على المكان الذي هي فيه في وقت الصباح. قالت: (فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني حين رآني، وقد كان يراني قبل أن يضرب الحجاب عليّ). يعني: كأنها نامت في مكانها فلما نامت انكشف حجابها عن وجهها فهو جاء فرآها فعرفها، وكان يعرفها من قبل ذلك. قالت: (فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني) استرجاعه يعني قال: إنا لله وإنا إليه راجعون. قالت: (فخمرت وجهي بجلبابي فوالله ما كلمني كلمة). فانظروا أدب الرجل لم يكلمها ما الذي أتى بك إلى هنا؟ وما الذي أخرك؟ لم يقل شيئاً رضي الله عنه أكثر من أن قال: إنا لله وإنا إليه راجعون: (والله ما كلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حين عرفني، فأناخ راحلته فوطئ على يدها فركبتها) أي: أناخ الجمل ودعس على يده بحيث يكون ثابتاً على الأرض، فركبت عائشة رضي عنها. قالت: (فانطلق يقود بي الراحلة) فهي راكبة وهو يمشي يقود الجمل. قالت: (حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا موغلين في نحر الظهيرة) يعني: خرج بها من مكانها في الصبح ووصلت إلى الجيش عند الظهر. قالت: (فهلك من هلك في شأني، وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أبي بن سلول) فأبوه أبي، وأمه سلول؛ ولذلك يقال له: عبد الله بن أبي ابن سلول فعندما نكتبها نثبت همزة الوصل في ابن الثانية دون الأولى؛ لأن سلول أم عبد الله وليست أم أبي. قالت: (فقدمنا المدينة فاشتيكت حين قدمناها شهراً، والناس يفيضون في قول أهل الإفك ولا أشعر بشيء من ذلك، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي) يعني: تغير النبي صلى الله عليه وسلم وهو بشر، وذلك حين سمع الناس يقولون هذا الكلام. وكان الذي بدأ بالكلام في ذلك عبد الله بن أبي ابن سلول، فجاء في رواية في غير صحيح مسلم أن هذا الرجل حين وجدهما راجعين قال: والله ما سلم منها ولا سلمت منه، فبهذه الكلمة تعرف إجرام هذا الرجل الذي تسامح النبي صلى الله عليه وسلم معه كثيراً، ومن ذلك أنه حين مات هذا المجرم -لعنة الله عليه وعلى أمثاله- إذا بابنه -وابنه رجل صالح- يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي على أبيه، فمجاملة للابن ذهب النبي صلى الله عليه وسلم فصلى عليه. وقد قال هذا الرجل مقالته في استخفاءً، فلما ذكر مقالته تكلم الناس وانتشر الحديث، فتغير النبي صلى الله عليه وسلم، فلما مرضت لم تعرف من النبي صلى الله عليه وسلم ذلك اللطف الذي كان فيه قبل ذلك، فقد كان يأتيها ويسأل عنها ولا يزيد على أن يقول: كيف تيكم؟ وينصرف صلى الله عليه وسلم، وهي لا تدري ما الأمر، وما الذي حصل. قالت رضي الله عنها: (فذاك يريبني ولا أشعر بالشر حتى خرجت بعدما نقهت وخرجت معي أم مسطح قبل المناصع، وهو متبرزنا ولا نخرج إلا ليلاً إلى ليل) يعني: كان أمر العرب أن البيوت ليس فيها دورة مياه، فلكي يخرجوا للخلاء تخرج المرأة بالليل في صحبة امرأة أخرى، وتذهب إلى المناصع وهو المكان الذي تقضي فيه حاجتها وترجع بالليل. قالت (فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح) أي: دعت على ابنها بالتعاسة، فتعجبت عائشة من ذلك وقالت لها: (أتسبين رجلاً قد شهد بدر؟) يعني: ابنك شهد بدراً ثم تسبينه وهي لا تعرف ما الذي عمله مسطح وما الذي عمله غيره. فقالت لها: (أي هنتاه أتسمعي ما قال) تعني: أنت لا تعرفين ماذا قال فيك. قالت: (وماذا قال؟ قالت: فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضاً إلى مرضي) يعني كانت في بداية شفائها من مرضها، فإذا بها تخبرها بذلك فازداد مرضها رضي الله عنها. قالت: (فلما رجعت إلى بيتي فدخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ثم قال: كيف تيكم؟ قالت: قلت أتأذن لي أن أتي أبوي، وأنا حينئذٍ أريد أن أتيقن الخبر) أي: ليست مصدقة أن يكون الناس قد قالوا عليها هذا الشيء، فأذن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: (فجئت أبوي فقلت لأمي: يا أمتاه ما يتحدث الناس؟ فقالت: يابنية هوني عليك). أمها هي أم رومان وهي امرأة مؤمنة تقية، فق

تفسير سورة النور [11 - 15]

تفسير سورة النور [11 - 15] إن للقدر أسراراً عظيمة قد لا تنكشف لأول وهلة، فيظن من يظن أن في الأمر شراً فإذا به خير عظيم، فحادثة الإفك التي حدثت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم اضطرب بها البيت النبوي، واشتد الكرب، وازدادت البلبلة خصوصاً وقد انقطع الوحي شهراً زيادة في التمحيص، ثم يأتي الفرج من القريب المجيب، فيشرع الأحكام، وترفع الدرجات، ويلاقي المنافقون شنيع صنيعهم.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:11]. ذكرنا في الحديث السابق أن هذه الآيات من هذه السورة الكريمة نزلت في تبرئة السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها مما قاله الأفاكون الكذابون المنافقون عنها، وذكرنا ما رواه البخاري ومسلم من هذه القصة التي فيها حديث الإفك، وكيف أن النبي صلى الله عليه وسلم قام في الناس لما سمع ذلك وقال: (من يعذرني في رجل قال عن أهل بيتي ما قال، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فقام رجل من الأنصار وهو سعد بن معاذ سيد الأوس رضي الله عنه وقال: نحن نعذرك يا رسول الله) يعني: نحن ننصفك في ذلك الذي حدث، (فإن كان من الأوس قتلناه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا بأمرك، قالت عائشة رضي الله عنها: فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج -وكان رجل صالحاً ولكن أخذته الحمية، فقال لـ سعد بن معاذ: كذبت لعمر الله لا تقتله)، وهنا أحياناً العصبية تكون في قلب الإنسان فتدفعه إلى الخطأ وقد يكون مؤمناً، وقد يكون على صلاح، فيتكلم بكلام يحاسبه الله عز وجل عليه، فهذا من أخطر ما كان. فالنبي صلى الله عليه وسلم شغله هذا الحديث الفظيع الذي قيل عن زوجته رضي الله عنها ومع ذلك هذا يتكلم ويقول لـ سعد بن معاذ: (كذبت لعمر الله لا تقتله)، ويقصد المنافق عبد الله بن أبي ابن سلول، (فكاد الأوس والخزرج يقتتلون بسبب ذلك، فسكتهم النبي صلى الله عليه وسلم)، وتأملوا كيف أن عصبية الجاهلية تدفع الناس لنسيان المشكلة الأساسية والدخول في أمور فرعية بعيدة عن الأصل. وأخبرت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءها وقال لها: (إذا كنت قد ألممت بأمر فتوبي إلى الله)، فهي ردت على هذا بما ذكر سابقاً، وفي النهاية أنزل الله عز وجل بعد شهر عذر السيدة عائشة، وأنها بريئة من هذا الذي قيل عنها، فكان لها منزلة عظيمة جداً عند ربها سبحانه أن ينزل في شأنها عشر آيات. وكانت تقول: كان شأني في نفسي أحقر من ذلك، يعني: كانت تتمنى أن لو رأى النبي صلى الله عليه وسلم رؤيا في منامه تبرئها، لكن أن ينزل قرآن فما كان ذلك على بالها. وتقول عائشة رضي الله عنها: سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش رضي الله عنها عن أمري: ما علمت أو ما رأت؟ فقالت: زينب رضي الله عنها: يا رسول الله! أحمي سمعي وبصري، يعني: أخاف من ذلك، وإني لا أقول كلاماً كذباً أبداً، والله ما علمت إلا خيراً. وفيه تقوى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وهن القدوة للمسلمين والمسلمات من بعد ذلك، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم قدوة الجميع، فهؤلاء نساء النبي صلى الله عليه وسلم طهرهن الله عز وجل تطهيراً؛ فلذلك قالت: أحمي سمعي وبصري. ومهما تكون الغيرة في المرأة من ضرتها لكن لا يدفعها ذلك إلى أن تقول مثل هذه المقالة الشنيعة. فقالت زينب وهي كانت تغار من عائشة، والسيدة عائشة تغار منها، ولكن مع ذلك شهدت بالحق وأنه مستحيل أن تقع عائشة في ذلك فقالت: ما رأيت إلا خيراً، وما علمت إلا خيراً، وأقسمت بالله على ذلك رضي الله عنها. إن الذي بدأ بهذا الإفك هو عبد الله بن أبي ابن سلول الرجل المنافق، وقد أسر ذلك لمن حوله من المنافقين فأشاعوا هذا الكلام، ولذلك لم يثبت عليه شيء وإن كان هو صاحب هذه الكذبة العظيمة والإفك العظيم، فحين جاءت السيدة عائشة ومعها صفوان بن معطل السلمي يقود الناقة التي تركبها قال هذا الرجل المجرم: والله ما نجت منه ولا نجا منها، فكان أصل الكلام من هذا الرجل فتناقله الناس، وممن تناقله وثبت عليه حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش، فهؤلاء لما أنزل الله عز وجل براءة السيدة عائشة أمر بهم فأقيم عليهم الحد، وأما عبد الله بن أبي ابن سلول فلم يقم عليه شيء، وهذا من الله عز وجل إملاء واستدراج، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الحدود كفارة) فمن أقيم عليه الحد فهذا كفارة فيتوب الله عز وجل عليهم بذلك، وأما هذا فالله يستدرجه ويمهله ويؤخره إلى يوم القيامة للحساب العظيم، ولنار جهنم التي يستحقها هنا المنافق وأمثاله. لذلك إذا كان ربنا سبحانه وتعالى لا يعاقب العبد في الدنيا فليس معنى ذلك أنه أفلت من العقاب، ولكن إن تاب تاب الله عز وجل عليه، وهذا الرجل لم يتب إلى الله، وكان إلى آخر حياته على كفره ونفاقه وكذبه، وعلى الوقيعة بين المؤمنين حتى أهلكه الله سبحانه وتعالى وهو مشهور بالنفاق بين الناس. فمن كان يدافع عن هذا الرجل علم يقيناً كيف آل الأمر به في آخر حياته إلى النار، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد صلى عليه حين مات، ثم نهاه ربه سبحانه وتعالى بعد ذلك أن يصلي على المنافقين، فلما نهاه عن أن يصلي على أحد منهم مات أبداً علم الناس يقيناً أن هذا الرجل كان من المنافقين، وأنه كان لا ينبغي للنبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له كما ذكر الله تبارك وتعالى. وقد ظلم في هذه القصة مع السيدة عائشة صفوان بن المعطل السلمي فلما عرف أن حسان كان يتكلم فيه أخذ السيف واختبأ في مكان، فلما ظهر حسان علاه بسيفه وقال: تلقّى ذباب السيف عني فإنني غلام إذا هوجيت لست بشاعر فإن كنت شاعراً تستطيع الرد فأنا لا أرد إلا بالسيف، فضربه السيف، فذهب حسان يشكو للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك. وهنا النبي صلى الله عليه وسلم حكم بالعدل، وإن كان حسان من ضمن من وقع في السيدة عائشة فقد أقيم عليه الحد، فعلى ذلك يكون له القصاص. فالنبي صلى الله عليه وسلم طلب من حسان أنه يهب ذلك له، قال: واستوهبه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، يعني: اتركها من أجلي، فتركها حسان رضي الله وتعالى عنه، وكان حسان بعد ذلك يقول شعراً يمدح عائشة رضي الله عنها، فجلس عند غرفتها وقال عنها رضي الله عنها: حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل يذكرها أنها على غاية الكمال في العفة رضي الله تبارك وتعالى عنها، فهي رزينة عاقلة ما يظن فيها أبداً أن تقع في ريبة فضلاً عن أن تقع في ذلك الذي قالوه عنها. وتصبح غرثى من لحوم الغوافل، غرثى بمعنى: جائعة غير آكلة، أي: أنها نظيفة طاهرة لا تقع في عرض أحد أبداً، ولا تأكل لحوم الناس بمثل هذه المقالة. فلما قال لها ذلك رضي الله وتعالى عنهما قالت: ولكنك لست كذلك. فلما كان الناس يريدون أن يقعوا فيه كانت تنهاهم عن ذلك، وتقول: إنه قد أقيم عليه الحد، وإنه كان شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت تذكره بخير. فتأمل ما قال عليها وما قالت عليه، فكان من شعره فيها قوله: حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل حليلة خير الناس ديناً ومنصباً نبي الهدى والمكرمات الفواصل عقيلة حي من لؤي بن غالب كرام المساعي مجدها غير زائل مهذبة قد طيب الله خيمها وطهرها من كل شين وباطل فإن كان ما بلغت اللغت أني قلته فلا رفعت سوطي إلي أناملي فكيف وودي ما حييت ونصرتي لآل رسول الله زين المحافل له رتب عال على الناس كلها تقاصر عنها سورة المتطاول إذاً: يمدح السيدة عائشة، ويمدح النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يلقب بشاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من أقوى شعراء النبي صلى الله عليه وسلم هجاء للكفار، بل جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (أهجهم وروح القدس معك). يعني: كل شاعر من الشعراء تكون الشياطين من وراءه، لكن هذا كان جبريل من وراءه يؤيده. فعلى ذلك فله فضيلة، فمن رحمة رب العالمين سبحانه أن أنزل الحدود وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيم الحد عليه وعلى من معه من المسلمين الذين تكلموا؛ تطهيراً لهم لكي يعرف أنهم قد طهروا من هذا الذي وقعوا فيه. وأما عبد الله بن أبي ابن سلول فأمره إلى يوم القيامة للعذاب الأليم هو وأمثاله. جاء في سنن أبي داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: (لما نزل عذري قام النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك وتلى القرآن، فلما نزل من المنبر أمر بالرجلين والمرأة فضربوا حدهم، وسماهم: حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش). قال العلماء: إنما لم يحد عبد الله بن أبي ابن سلول لأن الله تبارك وتعالى قد أعد له في الآخرة عذاباً عظيماً، فكأنه أخر ذلك ليوم القيامة فيأخذ العذاب الشديد. قال الله عز وجل: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور:12]، هذا تأديب للإنسان المؤمن ألا يسمع كلاماً فيه كذب، أو فيه انتهاك لعرض إنسان مسلم، وأنه إذا سمع ذلك رد على الذي يقوله، ولا يسيء الظن في المسلمين، فالأصل براءة عرض الإنسان المسلم، وأنه بريء مما يرمى به حتى يأتي الرامي بأربعة شهود كما ذكر الله عز وجل يشهدون على ذلك.

القراءات في قوله تعالى: (لا تحسبوه شرا لكم)

القراءات في قوله تعالى: (لا تحسبوه شراً لكم) وفي قوله سبحانه: {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ} [النور:11] قراءتان: قراءة ابن عامر وعاصم وحمزة وأبي جعفر: (لا تحسَبوه) بفتح السين. وباقي القراء: (لا تحسِبوه شراً لكم) بالكسر. والمعنى: أن مثل هذا البلاء الذي قد يرمى ويلقى على إنسان في الدنيا ليس بالشر للإنسان طالما كان من وراءه الأجر عند الله، فيصبر الإنسان المؤمن على ذلك. قال تعالى: {بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11]، أي: وإن كان في ظاهره أنه مصيبة ولكن فيما عند الله عز وجل فيه أجر، فلذلك قال: {هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11]، يعني: فيما تنتظرون من أجر عند الله عز وجل، وأيضاً في الدنيا من تمحيص واختبار وتمييز الخبيث من الطيب، فينتبه الناس من هذا الإنسان الخبيث، ويحذرون شر مثل عبد الله بن أبي ابن سلول في المؤمنين. قال الله سبحانه: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ} [النور:11] يعني: إلا أن يتوب الإنسان ويقام عليه الحد؛ لأن الحدود كفارات للذنوب. قال تعالى: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ} [النور:11] وكأن كثيراً قد تكلموا لكن الذين اشتهر أمرهم أقام النبي صلى الله عليه وسلم الحد عليهم، وأما غيرهم فلم يحصل لهم شيء ولعلهم حكوا الكلام فقط. وهذا الرجل لم يقم عليه الحد تأخيراً له ليوم القيامة، ووصفه بأنه {َالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ} [النور:11]، وفي ذلك قراءتان: هذه قراءة الجمهور. وقراءة يعقوب ((والذي تولى كُبره منهم))، والكبر من الأمر معناه: عظيم الأمر وأعظم الجرم في ذلك فهو أول من قال بالمقالة الذي ذكرناها والباقون رددوا ذلك، فمن عرف منهم أقيم عليه الحد، والله عز وجل يبسط يد التوبة لمن يتوب إليه سبحانه، فقال: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:11]، يعني: أن الحد لا يكفي لتطهيره؛ لذلك لم يقم عليه في الدنيا، ويدخر له العذاب العظيم ليوم القيامة.

تفسير قوله تعالى: (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا)

تفسير قوله تعالى: (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً) ثم أدب المؤمنين فقال: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور:12]. قوله: ((بِأَنفُسِهِمْ)) تحتمل وجهين: ظن كل إنسان بنفسه الخير، وأنه لا يتكلم بمثل هذه المقالة التي هي محض من الشر، فعلى ذلك الظن الخير إني أحسن الظن فيمن قيل عنه هذا الشيء، فيظن المؤمنون والمؤمنات بعضهم في بعض الخير. قال تعالى: ((ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا)) أي: ظن بعضهم في بعض الخير، أو استحضروا ظن الخير في أنفسهم فقاسوا غيرهم على أنفسهم، فقد جاء أن أبا أيوب الأنصاري رضي الله تبارك وتعالى عنه لما سمع ذلك ذهب إلى امرأته وسألها، فقالت له: يا أبا أيوب أسمعت ما قيل في عائشة رضي الله عنها؟ فقال: نعم، وذلك كذب، أكنت يا أم أيوب تفعلين ذلك؟ فهنا ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً، فقالت: لا والله، قال: فـ عائشة أفضل منك لا تفعل هذا الشيء. فهنا لو أن كل الناس كانوا كـ أبي أيوب الأنصاري لأخمد الأمر من أوله، وما كان أحد قال هذا الشيء. فربنا يؤدب المؤمنين لماذا ما قلتم كما قال أبو أيوب الأنصاري، وظننتم الخير في أنفسكم وقستم عائشة على أنفسكم، فهي أفضل منكم، وهي أم المؤمنين، فإذا كان أحدكم يأنف أن تقع امرأته في ذلك فهل يظن بالسيدة عائشة أن تقع في مثل ذلك!! قال تعالى: {وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور:12] (الإفك) أعظم الكذب، و (مبين) يعني: بيِّن واضح، فهذا كذب بين واضح. يقول العلماء: إن هذه الآية أصل في أن درجة الإيمان التي حازها الإنسان، ومنزلة الصلاح التي حلها المؤمن، ولبسة العفاف التي يستتر بها المسلم، لا يزيلها عنه خبر محتمل وإن شاع إذا كان أصله فاسداً أو مجهولاً. والمعنى: أن الإنسان المؤمن إذا قال: لا إله إلا الله فتحلى بهذه الكلمة فهو معصوم الدم والعرض والمال، هذا الأصل. فالإنسان طالما أنه مسلم، فالأصل أنه صالح، والأصل أنه عفيف، فهذه أصول لا نزول عنها، ولا نبتعد عنها إلا بشيء يقيني، وعلى ذلك فمهما جاء من كلام: فلان يعمل كذا، فلا يصدق فيه إلا أن يأتي اليقين أنه فعلاً فعل هذا الشيء، فيقيننا لا يزول عن هذا الوصف الذي هو عليه حتى يثبت الشيء الآخر عليه بدليل يقيني.

تفسير قوله تعالى: (لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء)

تفسير قوله تعالى: (لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء) قال سبحانه: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ} [النور:13] قوله: (لولا) أداة تحضيض، والمعنى: هؤلاء القائلون هلا جاءوا عليه بأربعة شهداء، وقد كانت السيدة عائشة وحدها في هذا المكان، وجاء صفوان فدخلا إلى المدينة، فمن أين سيأتون بالشهود حتى يثبتوا هذا الكذب الذي يقولونه؟! قال سبحانه: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور:13]، هذا فيهم وفي كل من كان مثلهم، فكل من رمى مسلماً في عرضه فالأصل أنه كذاب حتى يثبت ما يقول ببينة واضحة، وبشهود تقبلهم الشريعة، فإذا لم يأت بالشهود فهو كذاب عند الناس وكذاب عند الله سبحانه وتعالى. قال الإمام القرطبي: أي: في حكم الله كاذبون، وقد يعجز الرجل عن إقامة البينة وهو صادق في قذفه، ولكن الشريعة جاءت بحرمة أعراض المسلمين. يعني: ليس من حقك أن تتكلم حتى يكون عندك شهود يشهدون بهذا الشيء، ولو ترك الأمر هكذا فكلما رأى شخص شيئاً تكلم عنه، ففضح الناس بعضهم بعضاً، ولكن في مثل هذا الشيء لا بد من أربعة شهود وإلا يكون هذا المتكلم كاذباً عند الناس وكاذباً عند الله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم)

تفسير قوله تعالى: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم) يقول سبحانه: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:14]. ولولا فضل الله عليكم ورحمته فإن الأمر أمر خطير جداً أن يغضب النبي صلى الله عليه وسلم، والله لا يسكت على مثل ذلك، ولكن رحمة رب العالمين التي جعلته سبحانه وتعالى بفضله وبرحمته يكف عن هؤلاء العذاب العظيم، كأن يزلزل بهم الأرض، أو يخسف بها فيدخلهم النار. ولكنه سبحانه لفضله ورحمته سبحانه في الدنيا والآخرة قال: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:14]، أفاض في الكلام بمعنى: أخذ في الكلام، وكأنهم تكلموا كثيراً، وشاع الكلام في ذلك، فلولا أن الله برحمة عظيمة واسعة رحمكم بها لكان عذبكم جميعكم في الدنيا بما قلتم عن عائشة رضي الله وتعالى عنها.

تفسير قوله تعالى: (إذ تلقونه بألسنتكم)

تفسير قوله تعالى: (إذ تلقونه بألسنتكم) قال: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15]. يعني: يتلقفه بعضكم من بعض في استعجال ودون روية وتثبت.

القراءات في قوله تعالى: (إذ تلقونه)

القراءات في قوله تعالى: (إذ تلقونه) وفي قوله تعالى: ((إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ)) ثلاث قراءات: هذه قراءة الجمهور بسكون الدال، وقراءة ابن كثير: بكسرها. وقراءة حمزة وخلف وأبي عمرو وهشام: بإدغام الذال في التاء. والتلقي بالألسنة لنقل ذلك فأنتم تتكلمون بما ليس لكم به علم، ((وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا)) يعني: أن تتكلم عن عرض مسلم فضلاً عن أن تتكلم عن عرض أم المؤمنين رضي الله وتعالى عنها، فذلك ليس هيناً بل هو عند الله عظيم، وكم من الذنوب يقع فيها الناس وينظرون إليها أنها دقيقة وأنها هينة ولا قيمة لها وهي عند الله عز وجل عظيمة، ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لما مر بالقبرين يعذبان فقال صلى الله عليه وسلم: إنهما لا يعذبان وما يعذبان في كبير؛ بلى إنه لكبير -يعني: ما يعذبان في كبير في نظرهما، وفي نظر الناس أنه شيء بسيط ولكنه عند الله عظيم فضيع- أما أحدهما فكان لا يتنزه من البول، وأما الآخر فكان يمشي بين الناس بالنميمة)، فكم من الذنوب التي يقع فيها الإنسان يحسبها هينة وهي عند الله عظيمة! نسأل الله العفو والعافي في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة النور [11 - 19]

تفسير سورة النور [11 - 19] إن أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، وقد ابتلى الله خليله وحبيبه محمداً صلى الله عليه وسلم ليستخرج منه مكنون خلته، وليعلم أن الخليل لا يرضى بالمزاحمة، فاتهم في عرضه وأحب نسائه إلى فؤاده، ثم زيادة في التمحيص تنتشر الشائعة وينقطع الوحي من السماء، ثم بعد العسر يأتي الفرج وتأتي البشرى: أن ما كنتم فيه من شدة ليس شراً لكم بل هو خير لكم؛ لرفع درجاتكم، ولتسن لكم الحدود، وليجازى المنافقون بسوء صنيعهم.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة النور: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ * لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ * لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ * وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * {يَعِظُكُمْ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:11 - 19] ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات حديثاً تكلم به المنافقون عن عائشة رضي الله عنها في أمر الإفك، فكذبوا وافتروا عليها، قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11]، وعائشة رضي الله عنها ما كانت تظن أن الله سبحانه وتعالى سينزل في شأنها قرآناً، فتقول: كان شأني في نفسي أحقر من أن ينزل في قرآن، ولكن كانت أتمنى أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم رؤيا في منامه تبرئني، فأنزل الله عز وجل عشر آيات في هذا الشأن كما سمعنا. فقال: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور:11] الإفك هو الكذب، وعصبة منكم: أي: مجموعة منكم، وليسوا كل المؤمنين، قال تعالى: {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ} [النور:11]، بل هي مصيبة من المصائب، وما من مصيبة إلا وفيها خير للمسلمين وإن كان ظاهرها الشر. قال تعالى: {بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ} [النور:11] فالإنسان الذي يكسب خطيئة وإثماً فإنما يكسب ذلك على نفسه، وإن كان قد يضر غيره في الدنيا بهذا الذي قال، ولكن في الحقيقة أن ضرره ذلك يقع عليه في الدنيا وفي الآخرة كما حدث بهؤلاء الذين تكلموا بهذا الأمر، وأما الذي أشاع هذا الأمر واستهواه ونشره في الناس، وتكلم به سراً بينه وبين المنافقين حتى شاع بعد ذلك، فهو الذي تولى كبره كما قال سبحانه: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:11].

تفسير قوله تعالى: (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا)

تفسير قوله تعالى: (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً) قال تعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور:12] يحض الله سبحانه وتعالى المؤمنين أنهم إذا سمعوا مثل ذلك أن يحسنوا الظن بإخوانهم، وأنهم إذا أحسنوا الظن في أنفسهم فليقيسوا إخوانهم على أنفسهم، وإخوانهم أفضل منهم، فيقول سبحانه: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ} [النور:12] يعني: كل مؤمن ومؤمنة، {بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور:12] يعني: ظن بعضهم في بعض ظن الخير وليس ظن السوء، أو أن كل إنسان عند نفسه أنه على خير، فإذا كان يرى نفسه كذلك فكيف بنظره إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله وتعالى عنها؟. فالمفروض عليهم أن يحسنوا الظن ولا يتكلموا في ذلك، فهلا فعلوا ذلك؟ {وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور:12] كما قال ذلك أبو أيوب الأنصاري وامرأته رضي الله عنهما.

تفسير قوله تعالى: (لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء)

تفسير قوله تعالى: (لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء) قال تعالى: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ} [النور:13] أي: هؤلاء القائلون الكذابون هلا جاءوا بأربعة شهداء يشهدون لهم أن ما يقولونه حق؟ وهيهات أن يقدروا أن يأتوا بالشهداء على ذلك. قال تعالى: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور:13].

تفسير قوله تعالى: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم)

تفسير قوله تعالى: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم) قال تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:14]، فالله عز وجل رحمن ورحيم في الدنيا والآخرة، فلولا أنه تفضل على المؤمنين فعفا عنهم سبحانه لجازى الجميع بهذا الذي قالوه، وحاسبهم في الدنيا بأن يعذبهم فيجعلهم عبرة لغيرهم. وقوله تعالى: {لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:14] أي: فيما خضتم فيه من الحديث عذاب عظيم.

تفسير قوله تعالى: (إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم)

تفسير قوله تعالى: (إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم) قال تعالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} [النور:15] أي: تتلقونه من لسان إلى لسان فتتكلمون به، {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ} [النور:15] كأن الكلمة كلمة عظيمة وخطيرة وشنيعة تملأ الفم، فتكلموا بأفواههم. قال تعالى: {مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [النور:15]، وربنا سبحانه قد حذرنا من ذلك فقال: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36]، فالإنسان مسئول عن سمعه ماذا يسمع به، وماذا ينصت إليه، ومسئول عن بصره ما الذي ينظر إليه ويبصره، ومسئول عن قلبه ما الذي يكنه فيه وينويه ويضمره. فقال سبحانه: {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [النور:15] فالذم هنا لمن يتكلم فيما لا يفقهه ولا يفهمه وليس له به علم. وفي قوله تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا} [النور:15] تحسبون ذلك هيناً في أنفسكم وفي نظركم وهو عند الله سبحانه شيء عظيم فظيع.

القراءت في قوله تعالى: (وتحسبونه هينا)

القراءت في قوله تعالى: (وتحسبونه هيناً) وفي قوله: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا} [النور:15] قراءتان: بفتح السين، وهي قراءة ابن عامر وعاصم وحمزة. وقراءة أبي جعفر وباقي القراء بكسر السين: (وَتَحْسِبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ).

تفسير قوله تعالى: (ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا)

تفسير قوله تعالى: (ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا) ثم قال: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور:16] أي: هلا إذ سمعتموه {قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور:16] أي: لولا أنكم فعلتم ذلك فقلتم: هذا شيء فظيع ولا نتكلم بمثله أبداً، لخمدت الفتنة في مهدها. قال تعالى: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} [النور:16] أي: ما ينبغي لنا أن نتكلم بهذا الإفك الفظيع في زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم. فلو أنهم عقلوا ذلك فنظروا أن هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاشا لله سبحانه أن يجعل له ما يؤذيه في أهل بيته، وقد قال الله سبحانه: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33]. فهلا أحسنتم الظن في ربكم سبحانه وقلتم: حاشا لله أن يجعل أحداً يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم في زوجته وحبيبته، سبحانك يا ربنا أن يحدث هذا، أو أنك تجعل من يؤذي نبيك صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك، فيقولون: هذا الذي قالوه بهتان عظيم، والإفك أعظم الكذب، والبهت أن يرمي الإنسان غيره بما ليس فيها جهاراً. فيقولون: لو أننا قلنا ذلك فهو بهتان عظيم.

تفسير قوله تعالى: (يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا)

تفسير قوله تعالى: (يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً) قال تعالى: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ} [النور:17] أي: يحذركم بهذه الموعظة وبما حدث أن ترجعوا لمثل ذلك أبداً، قال: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [النور:17]، وهذا تحضيض وتهييج للإيمان في القلوب، فإذا كنتم مؤمنين فلا تعملوا هذا الشيء، وهذا كما تقول لإنسان: إن كنت رجلاً فاعمل كذا، وهنا إن كنتم مؤمنين فلا ترجعوا إلى هذا أبداً واحذروا أن تتكلموا به أبداً.

تفسير قوله تعالى: (ويبين الله لكم الآيات والله عليكم حكيم)

تفسير قوله تعالى: (ويبين الله لكم الآيات والله عليكم حكيم) قال تعالى: {وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور:18] أي: يوضحها لكم لئلا يكون لكم حجة على الله سبحانه بعدما بين ووضح {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور:18] يقول هشام بن عمار: سمعت مالكاً يقول: من سب أبا بكر وعمر أدب، ومن سب عائشة رضي الله عنها قتل. هذه فتوى الإمام مالك رحمه الله، وأبو بكر الصديق أفضل أصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه، ومنزلته منزلة عظيمة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لو كنت متخذاًَ خليلاً لاتخذت أبا بكرٍ خليلاً) وإيمانه لو وزن بإيمان الأمة ليس فيها النبي صلى الله عليه وسلم لرجح إيمان أبي بكر على الأمة، فيقول مالك: لو أن إنساناً سب أبا بكر رضي الله عنه فإنه يستحق أن يعزر وأن يؤدب، وكذلك عمر رضي الله وتعالى عنه. وأما من سب عائشة -يعني: بالإفك- فيستحق القتل، فما الفرق بين الاثنين؟ الفرق أن أبو بكر الصديق رضي الله عنه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو رجل فاضل من المؤمنين، فالإنسان الذي يقذفه يكون فاسقاً وكذاباً يستحق الحد الذي ذكر الله في الكتاب. لكن الذي يقذف عائشة فهذا مكذب بكتاب الله سبحانه، فربنا أنزل براءة عائشة رضي الله عنها في القرآن، فلما يأتي إنسان يرميها بذلك كالشيعة أو كالمجرمين منهم الذين يرمونها بذلك فهنا ربنا سبحانه وتعالى يشهد عليهم بأنهم كاذبون، فلذلك أفتى الإمام مالك: أن من يسبها -يعني يرميها بهذه الفاحشة- فإنه يستحق القتل. ثم قال الله سبحانه وتعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور:18] حكيم بما يشرعه لكم؛ ليردعكم وليؤدبكم، ولتنتهجوا منهج الله سبحانه وتعالى في أمره ونهيه.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا) قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19] أي: الذي يحب ويتمنى في قلبه أن يشيع أمر الفاحشة ويفشو ويكثر. والفاحشة هي الأمر المفرط في القبح، والمقصود به جريمة الزنا. فالإنسان الذي يحب ذلك ويتمنى أن يكون هذا بين الناس أمراً عادياً والناس يفعلونه، فالذي يحب ذلك ولو لم يفعل، ولو لم يعن على ذلك، ولكن يتمنى بقلبه ذلك هذا له عذاب أليم في الدنيا والآخرة، فكيف بالذي يفعلها ويأتيها؟! وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن). قوله: {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور:19]، في الدنيا لهم عذاب أليم بإقامة الحد وغيره مما يبتليهم الله عز وجل به في ذلك الأمر، وذلك إذا لم يتوبوا إلى الله سبحانه، وقد رأينا كيف أن الله يبتلي هؤلاء الزناة واللواطين بالإيدز، ويبتليهم بالسيلان وبالزهري وبالهربز وغيرها من الأمراض الفتاكة التي لا يعرفون لها دواءً. وفي الآخرة العذاب الأليم في نار جهنم، لكنه هنا مقيد في عذاب الآخرة بمن مات مصراً على هذا الذنب، وأما من تاب فيتوب الله عز وجل عليه، والله يعلم مقدار عظم هذا الذنب والمجازاة عليه، ويعلم كل شيء وأنتم لا تعلمون، فقال: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19]. وقد روى الإمام أبو داود والإمام أحمد أيضاً من حديث معاذ بن أنس الجهني قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حمى مؤمناً من منافق بعث الله ملكاً يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم) يعني: سمع منافقاً يتكلم في عرض مؤمن من المؤمنين فيرميه بالفاحشة، ويرميه بكلام زور، فحمى عرضه منه وقال له: فلان لا يفعل مثل هذا الشيء، وأنت كاذب فيما تقول، فحمى عرض المؤمن، ودافع عنه، فالله عز وجل يبعث له ملكاً يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم، فلا يدخلها، فإذا مر على الصراط وكاد أنه يهوي بذنوبه إذا بالملك يعدله على الصراط ولا يجعله يقع في نار جهنم. ثم قال: (ومن رمى مسلماً بشيء يريد شينه حبسه الله على جسر جهنم حتى يخرج مما قاله) فالإنسان الذي يسيء الظن في المسلمين فيفتري عليهم، أو يتحدث عنهم بأكاذيب سواء عرف أنها أكاذيب أو لم يعرف كان مصيره ما ذكر في الحديث؛ لأن التحدث في أعراض الناس لا يحل لأحد، وإذا تكلم فإنه يأتي بشهود على هذا الذي يقوله حتى يقبل منه هذا الشيء، فيقام الحد على من رماه بهذه الجريمة. وإذا كان يتكلم نقلاً للحديث يريد شينه كأن يكون مغتاظاً من شخص فيقول: أنا سمعت الناس يقولون عنه كذا وكذا، يريد شين هذا الإنسان فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل يحبسه يوم القيامة على جسر جهنم، فإذا مر على الصراط يحبس فوقه فلا يستطيع أن يمر على الصراط حتى يخرج مما قال، فهو محبوس على جسر جهنم تلفحه النار، ولن يستطيع أن يخرج مما قال؛ لأنه قد قاله في الدنيا. وكأن المعنى أنه يعذب بذلك في هذا المكان، ويحبس على جسر جهنم حتى يخرج مما قال. وهذا الحديث حسنه الألباني في سنن أبي داود في الطبعة الثانية. وقد ذكر هنا الإمام القرطبي حديثاً بهذا المعنى رواه الطبراني وإسناده فيه ضعف، وفيه: (أيما رجل شد عضد إمرئ من الناس في خصومة لا علم له بها فهو في سخط الله حتى ينزع عنها) وهذا يشهد له الحديث الذي ذكرنا في المعنى. فأي رجل -وكذلك المرأة- شد عضد إمرئ من الناس في خصومة لا علم له بها، يعني: لقي اثنين يختصمان من الناس فوقف مع واحد على الثاني، فشد عضده وهو لا علم له بشيء ولكن عصبية وتحيز له، وبدأ يتكلم مع هذا ويفتري أيضاً فيقول: أنا رأيته وسمعته، وهو لم ير ولم يسمع شيئاً، فذكر هنا أنه في سخط الله حتى ينزع عنها. ثم قال: (وأيما رجل حال بشفاعته دون حد من حدود الله أن يقام فقد عاند الله حقاً) وهذا الحديث إسناده ضعيف لكن له شاهد آخر بهذا المعنى: (من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره) كأنه يعاند الله تعالى، فربنا يأمر بإقامة الحد، وهذا يرفض ذلك ويمنعه. قال هنا: (فقد عاند الله حقاً، وأقدم على سخطه، وعليه لعنة الله تتابع إلى يوم القيامة، وأيما رجل أشاع على رجل مسلم كلمة وهو منها بريء يرى أن يشينه بها في الدنيا كان حقاً على الله تعالى أن يرميه بها في النار) وهذا الجزء من الحديث الذي ذكرناه حسنه الشيخ الألباني في سنن أبي داود وإن كان ضعفه في ضعيف الجامع الصغير لكنه في طبعة ثانية حسن هذا الحديث. والحديث الذي عند الطبراني يشهد له ما عند أبي داود وعند الإمام أحمد من حديث سهل بن معاذ بالمعنى نفسه. فذكر هنا أن الذي يريد أن يشين امرأً مسلماً فيرميه بشيء هو منه بريء، فقال: (كان حقاً على الله تعالى أن يرميه بها في النار، ثم تلا مصداقه من كتاب الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19]). نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة النور [19 - 22]

تفسير سورة النور [19 - 22] لقد نهى الله المؤمنين عن اتباع خطوات الشيطان، وعن سبيل المجرمين، فإن الشيطان حريص على رؤية المسلمين والناس أجمعين في النار، لكن الله يعصم بفضله المؤمنين عن اتباع سبيله، وطريق غوايته، ثم بين تعالى أنه على المنفقين ألا يقطعوا نفقاتهم عن الذين تكفلوا بالإنفاق عليهم ورعايتهم؛ لأنه من اتباع خطوات الشيطان الرجيم، المطرود من رحمة رب العالمين.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان) قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور:21].

مصير الذين يحبون إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا

مصير الذين يحبون إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا في هذه الآيات وما قبلها من هذه السورة الكريمة يخبر الله سبحانه وتعالى عن أحكام عظيمة، منها ما قدمناه قبل ذلك من أن الله عز وجل بين لنا الآيات، وأخبرنا أن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة، وهذا في الذين يحبون إشاعة الفاحشة فقط فكيف بالذين يفعلون الفاحشة؟! لا شك أن لهم عذاباً أليماً في الدنيا، بإقامة الحد عليهم، وبشؤم معصيتهم التي صنعوا، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، فمن شؤم هذه الفاحشة أن ينزع الإيمان من قلبه، ويعلق فوق رأسه حتى يتوب إلى الله ثم يرجع إليه إيمانه. قال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19] أي: أن الله يعلم من يستحق هذه العقوبة ويعلم أن الإنسان الذي يقع في رمي المحصنات الغافلات إنسان يستحق العقوبة العظيمة عند الله عز وجل؛ لإفساده بين الخلق، ولاتهامه المؤمنين أهل العفاف وأهل الصدق وأهل التقوى بهذا البهتان العظيم، فالله يعلم من الذي يستحق العقوبة في الدنيا والآخرة ممن لا يستحقها، وهو يعلم كل شيء، وأنتم لا تعلمون إلا ما يخبركم ويعلمكم به سبحانه. إذاً: الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم العذاب الأليم في الدنيا بإقامة الحد عليهم، وإذا ماتوا وهم مصرون على هذا الذي قالوه فالله عز وجل يعذبهم عذاباً أليماً في نار جهنم. قال سبحانه: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النور:20]، والجواب هنا محذوف ولك أن تتخيل ما الذي يحدث حين تعصي ربك سبحانه؟ وما الذي تستحقه من الله عز وجل على هذه المعصية؟ ((وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)) فتقدير A لعذبكم في الدنيا بعذاب أليم، كأن ينزل عليكم من السماء عذاباً، أو يفتح عليكم من الأرض عذاباً، أو يخسفها بكم، ولو يؤاخذ الله العباد بذنوبهم وبما كسبوه لعجل لهم العقوبة في الدنيا، ولكن الله ذو فضل عظيم، حيث يتفضل فيعفو عن العباد، ويتفضل فيعطي العباد، ويتفضل فيفتح باب التوبة للعباد. قال تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} والرءوف اسم من أسماء الله الحسنى فيه رحمة الله سبحانه وحنانه بعباده. وفيها قراءتان: قراءة نافع وأبي جعفر وابن عامر وحفص عن عاصم {وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النور:20]، وقراءة باقي القراء: (وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُوف رَحِيمٌ) الأولى: رءوف على وزن فعول، والثانية: رَؤُف على وزن فَعُل، وكذا في آيات القرآن التي فيها هذه اللفظة: (رءوف).

التحذير من اتباع خطوات الشيطان

التحذير من اتباع خطوات الشيطان يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور:21] يحذر الله عز وجل المؤمنين من أن يتبعوا مسالك الشيطان ومداخله وأهواءه التي يدعو الناس إليها، والمعنى: لا تسلكوا الطريق التي يدعوكم الشيطان لسلوكها. قوله: ((خُطُوَاتِ)) الخطوات واحدها خطوة، والخطوة ما بين القدمين، كأن تمد رجلاً للأمام فتقيس ما بين القدم الأمامية والقدم الخلفية، فتلك المسافة تسمى: خطوة. قوله: {لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور:21] بالضم للطاء وهذه قراءة قنبل عن ابن كثير وقراءة ابن عامر وقراءة حفص عن عاصم وقراءة الكسائي وقراءة أبي جعفر ويعقوب، وأما باقي القراء فيقرءونها بالفتح: (لا تَتَّبِعُوا خَطَوَاتِ الشَّيْطَانِ). يقول سبحانه {وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور:21] أي: ومن يسر في مسالك الشيطان، وكأن الشيطان يمشي ثم يضع علامة، فيأتي الإنسان ويمشي على هذه العلامة وهكذا، فمن تبع خطوات الشيطان فإن الشيطان يأمره بالفحشاء والمنكر، والله عز وجل يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر، فالذي يسير وراء الشيطان سيكون من أهل الفحشاء -وهي القبائح- ومن أهل الزور والبهتان، ومن أهل الأفعال والأقوال القبيحة، قال سبحانه في سورة البقرة: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} [البقرة:268] أي: أن الشيطان يأمر بالفحشاء والمنكر، ويأمركم بأن تقعوا في كل فاحشة؛ لأن الشيطان لا يحب الخير للإنسان، فهو عندما خلق الله عز وجل آدم عليه السلام كاد له، فجعله الله عز وجل شيطاناً رجيماً، وتوعده بالنار، قال سبحانه: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} [الحجر:36 - 37] أي: المؤخرين فلن نعذبك الآن، وإنما سنؤخر عذابك إلى يوم القيامة، ووعد الله حق لا يخلف، ولذا ظل الشيطان يتغيظ من ابن آدم؛ فهو بخلق آدم أظهر ما في داخله من الكبر والغرور، قال الله عز وجل حاكياً عن إبليس: {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30]. فقد ابتلي آدم بالشيطان، فهو يحسده أن خلقه الله عز وجل بيده، وأمر الملائكة أن يسجدوا له، فرفض أن يسجد لآدم، واستكبر عليه وكان من الكافرين باستكباره، فالله عز وجل جعله من أهل العذاب. فآدم كان سبب عذاب هذا الشيطان، فالشيطان جعل يحسده ويحسد بنيه، يقول الله سبحانه مخبراً عن توعد الشيطان بإغواء بني آدم: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82]، ويقول في موضع آخر: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17]، فهو يكيد للإنسان حتى يأخذه معه إلى النار، والله سبحانه وتعالى بين لنا في كتابه أنه عدو لنا فقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6] أي: احذروا أن تكونوا من أهل النار، فالشيطان يدعوكم إلى ذلك، وهنا في سورة النور يخبر أنه يأمر بالفحشاء والمنكر، فهذا سبيله وهذا ديدنه. قال تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [النور:21]، فتكررت (لولا) مرات في هذه السورة، وقد لا يذكر جوابها أحياناً ويذكر أحياناً أخرى كما في هذا الموضع: ((وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ))، وذلك بأن هداكم وأن علمكم سبحانه، ولولا رحمته بكم سبحانه: ((مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا)) يعني: ما تزكى وما تطهر منكم أحد أبداً، وما استحق أن يكون من أهل الجنة، وما استحق أن يهدى، {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:26 - 28]، وهذا محض فضل من الله عز وجل، إذ أنه يريد بكم الخير والرحمة والتخفيف فضلاً منه ونعمة، فلولا فضله ورحمته بالناس ما تطهر أحد أبداً، ولا عرف شرع الله سبحانه ولا طريق جنته. يقول الله سبحانه: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور:21] أي: يهدي من يشاء إلى طريق الحق وطريق الإسلام، {وَاللَّهُ سَمِيعٌ} [النور:21] كل شيء، ((عَلِيمٌ)) بمن يستحق منكم أن يهدى ومن يستحق منكم أن يضل.

تفسير قوله تعالى: (ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة)

تفسير قوله تعالى: (ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة) قال الله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22] هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وفي غيره من المؤمنين، لكنه كان سبب نزولها، فقد كان ينفق على مسطح بن أثاثة، وأم مسطح هي بنت خالة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، أما مسطح فهو ابن خالته مجازاً، واسمه مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب بن عبد مناف، وقيل: إن مسطح لقب له واسمه عوف، وكان فقيراً مسكيناً، وكان من المهاجرين من أهل بدر، وربنا سبحانه وتعالى قد اطلع على أهل بدر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم). وكان مسطح بن أثاثة ممن خاضوا في حديث الإفك، وقد جاء عنه أنه اعتذر لـ أبي بكر رضي الله عنه عن ذلك، وقال: إنما كنت أغشى مجالس حسان، وكان حسان شاعراً، فـ حسان كان يقول الشعر وأنا أسمعه ولا أقول، فقال له أبو بكر: لقد شاركت فيما قيل، وأقسم أبو بكر يميناً أنه لا ينفق عليه مرة ثانية؛ لأنه كان يحضر المجلس الذي يتكلم فيه عن عائشة، أما اعتذاره ذاك فالله أعلم بثبوته، إلا أن الله عز وجل قد أمر بإقامة الحد، فكان مسطح ممن أقيم عليه الحد، ويلزم منه أنه تكلم فأقيم عليه الحد رضي الله عنه، كما أقيم الحد على حسان بن ثابت وحمنة أخت زينب بنت جحش، فهؤلاء الثلاثة أمر الله عز وجل بأن يقام عليهم الحد؛ تطهيراً لهم في الدنيا، فلا يكون عليهم يوم القيامة شيء، وأما عبد الله بن أبي ابن سلول ذاك المنافق فالله عز وجل أخره للآخرة، فلم يقم عليه الحد في الدنيا؛ ليكون له العذاب الأليم في الآخرة، وقد فضحه في كتابه سبحانه حيث قال: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:11]. فلما حلف أبو بكر رضي الله عنه ألا ينفق على مسطح أنزل الله عز وجل هذه الآية يأمر أبا بكر وغيره بأن يرجعوا في ذلك الحلف الذي حلفوه. فقال سبحانه: {وَلا يَأْتَلِ} [النور:22] يعني: لا يحلف ولا يقسم، فأصلها من الألية، والألية بمعنى اليمين والحلف. قوله: (ولا يأتلِ) هذه قراءة الجمهور، وقرأها أبو جعفر: (ولا يتأل أولوا الفضل منكم والسعة) أي: لا يقسم أولو الفضل منكم والسعة، وفيه مدحة لـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه صاحب فضل، كما أن فيه إشارة إلى أن كل صاحب فضل يجب أن يراعي أن الله سبحانه قد أعطاه من فضله، وجعله أفضل من غيره، فإن أكرمك الله فكن كريماً في معاملتك وأخلاقك مع الناس. قوله سبحانه: {وَالسَّعَةِ} [النور:22] أي: الغنى. قوله تعالى: {أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النور:22] أي: أن يؤتوا أهل القرابة، وقد كان مسطح ابن خالة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وهو من أصحاب المسكنة وأصحاب الفقر والمهاجرين في سبيل الله، والملاحظ هنا أن الذي أتى به مسطح وغيره كبيرة من الكبائر، إذ الوقوع في عرض إنسان مسلم كبيرة من الكبائر، فضلاً عن أن يقع في عرض عائشة رضي الله عنها وهي المكرمة المطهرة. وهذه الكبيرة لم تحبط له عملاً، ودليل عدم حبوط العمل من الآية أن الله ذكر أنهم من أولي القربى من المساكين والمهاجرين في سبيل الله، وقد كان مسطح من المهاجرين، فدل على أن الذي وقع فيه لم يحبط عمله، ولذلك كان البعض من أهل العلم يقولون: هذه أرجى آية في كتاب الله عز وجل، وآيات الرجاء كثيرة في كتاب الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ومع أن أبا بكر الصديق مقصود بالآية إلا أنها عامة له ولغيره، أي: ينبغي أن تراعي قرابتك وإن أساءوا إليك، فهذا أبو بكر أساء إليه قريبه بأفظع ما يكون، حيث رمى ابنته زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، فأمره الله أن يعطيه وإن كان قال ذلك. قوله: ((وَالْمَسَاكِينَ)) أي: راع الفقير والمسكين؛ لكونه فقيراً أو مسكيناً مسلماً، فيعطى حتى ولو كان مسيئاً في جانب آخر ووقع في كبيرة من الكبائر. قال تعالى: {وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النور:22]، فوصفه بأنه مهاجر، وهجرته في سبيل الله، فلم يهاجر لدنيا مع أنه وقع في كبيرة، ومع ذلك لم يلغ له ذلك سبحانه، وهذا من فضله ورحمته سبحانه. قوله: ((وَلْيَعْفُوا)) اللام لام الأمر، فالله عز وجل يأمر المؤمنين بالعفو، فإذا كان العفو في ذلك الشيء الفظيع وهو الطعن في العرض، وقد يحمي الإنسان عرضه بدمه، مع ذلك فالله يقول له: ((وَلْيَعْفُوا))، فكيف بما هو أقل من ذلك؟! فيجب العفو أيضاً. قوله: ((وَلْيَصْفَحُوا)) الصفح: هو التجاوز والمغفرة عن هذا الذي وقع في الإساءة، وقد تعظم الإساءة عند إنسان حتى إذا قيل له: اعف واصفح قال: لا؛ لأنك لا تعرف ماذا عمل بي، فقد عمل فيّ كذا وعمل فيّ كذا، فالله سبحانه وتعالى يقول {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} [النور:22] أي: اعف واصفح ليكون جزاؤك من جنس عملك، كما أنك تعفو عن الناس فالله يعفو عنك، وإذا كنت تصفح عن الناس فإن الله يصفح عنك. ولذا حين تحدث إساءة لإنسان ينبغي أن يتذكر ذنوبه في جانب ربه سبحانه وتعالى، ويتذكر إساءاته مع الله عز وجل، ويتذكر معصيته لله سبحانه وتعالى، فإذا تذكر ذلك ورغب في مغفرة الله له فعليه أن يغفر للناس ويصفح عنهم، قال سبحانه وتعالى: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22]، فلما قال الله عز وجل ذلك قال أبو بكر رضي الله عنه: بلى بلى أحب والله أن يعفو ويصفح عني. فقد وعد الله سبحانه كرماً منه بالعفو والصفح لمن كان من أهل العفو والصفح، فقال: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22] أي: يغفر ويتجاوز ويعفو {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22].

بيان ما تحبط به الأعمال

بيان ما تحبط به الأعمال قال العلماء: في هذه الآية دليل على أن القذف وإن كان كبيرة من الكبائر فإنه لا يحبط العمل، وإنما يحبط عمل الإنسان الكفر بالله والشرك به، قال تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65] يعني: لا يحبط العمل إلا إذا مات الإنسان على الشرك بالله، فإنه إذا أشرك بالله ومات على ذلك حبط عمله؛ لقوله تعالى: ((لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ))، والراجح أن جميع الكبائر غير محبطة لعمل الإنسان، لكن الكبيرة ذنب عظيم يستوجب العذاب عليه، ومع ذلك قد يكون للإنسان أعمال أخرى يقبلها الله عز وجل، فلا تحبط هذه الكبيرة هذه الأعمال. ومن محبطات الأعمال مع الشرك بالله سبحانه أن الإنسان يمن بالعمل الذي عمل، فلو أن مؤمناً عمل عملاً يبتغي به وجه الله سبحانه ثم منّ بعمله سواء كانت صدقة أو غيرها فإنه يحبط.

بعض الأحكام المستنبطة من قوله تعالى: (ولا يأتل أولوا الفضل)

بعض الأحكام المستنبطة من قوله تعالى: (ولا يأتل أولوا الفضل) لقد أخذ أهل العلم من الآية مع ما ورد في الأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم: أن الذي يحلف على شيء أنه لا يفعله فرأى أن فعله أولى فعليه أن يرجع عن هذا الحلف، ويفعل هذا الذي حلف ألا يفعله، ويكفر عن يمينه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني والله لأحلف على شيء فأرى غيره خيراً منه إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير)، فالإنسان إذا حلف على ألا يعمل كذا ثم وجد أن ما حلف على تركه واجب عليه، وهو آثم بتركه، كأن يحلف أن يقطع الرحم، فهنا يحرم عليه قطيعة الرحم، ويجب أن يصل الرحم ويكفر عن هذه اليمين. وفي الحديث (لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي افترض الله عليه)، أي: لأن يصر في يمينه، كمن يغضب ثم يقسم أن يفعل المعصية، فالنبي صلى الله عليه وسلم يخبره أن الإصرار على هذه اليمين أشد إثماً من أن يرجع في يمينه ويكفر عنها. قال الفقهاء: من حلف ألا يفعل سنة من السنن وأقسم على ذلك، جُرحت عدالته، وردت شهادته؛ لأن الله عز وجل ينهانا أن نحلف على فعل شيء باطل لا يجوز {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النور:22]، ولذا ينبغي ألا تحلف على منع خير، فلو أن إنساناً حلف على منع خير وجب عليه أن يفعل الخير، وأن يكفر عن هذه اليمين. وأما إذا كان على التأقيت كأن يقسم ألا يصوم يوماً بعينه وصيامه نافلة، فلا يفسقه ذلك، ولا ترد شهادته بذلك، إنما الذي يفسق الإنسان أن يحلف أنه لا يفعل سنة للنبي صلى الله عليه وسلم أبداً، فهذا جارح قوي فيه، وقد تصل التهمة في الإنسان الذي يقسم على ترك سنه إلى الكفر والعياذ بالله، إذا كان يرفض سنة النبي صلى الله عليه وسلم من أصلها، كأن يأخذ بالقرآن ويترك سنة نبيه صلى الله عليه وسلم رافضاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، والله سبحانه قد أمرنا بأخذ القرآن والسنة، فقال: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4]، فكل ما يلفظ به النبي صلى الله عليه وسلم من كتاب وسنة هو وحي من عند الله، فمن رد السنة كأنه يرد الوحي من عند الله، والله أعلم.

تفسير سورة النور [23 - 26]

تفسير سورة النور [23 - 26] من الموبقات المهلكات التي توعد عليهن رب الأرض والسماوات: قذف المحصنات الغافلات المؤمنات، فإن هذه الجريمة من أعظم الكبائر، ومن أشد المخاطر، فكيف يقف من وقع في أعراض المؤمنات -وبالأخص في عرض عائشة أم المؤمنين وسيدة الطاهرات- أمام الله عز وجل؟! وماذا يصنع من تشهد عليه جوارحه بذلك عند الحكم العدل؟! فإياك إياك من الوقوع في الهلاك والخسران!

تفسير قوله سبحانه: (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة)

تفسير قوله سبحانه: (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة النور: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ * الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النور:23 - 26]. في هذه الآيات من سورة النور يخبرنا ربنا سبحانه وتعالى عن الجزاء الأخروي والدنيوي للذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات، وذكر الله عز وجل قبل ذلك حد القذف، وهذا جزاء في الدنيا، وذكر هنا شيئاً آخر من العقوبة التي تكون في الدنيا وفي الآخرة وهي اللعن؛ لأنهم يستحقون ذلك، واللعن: هو الطرد من رحمة الله سبحانه وتعالى.

أوجه القراءة في كلمة المحصنات

أوجه القراءة في كلمة المحصنات قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:23] أي: هؤلاء الذين يقذفون المحصنات، وهنّ العفيفات من النساء، وكلمة: (المحصنات) في كل القرآن فيها قراءتان: قراءة الجمهور: (المحصنات)، وقراءة الكسائي: (المحصِنات)، ما عدا التي في سورة النساء في آية التحريم: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء:23] إلى قوله سبحانه: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:24]، فقد اتفق الجميع على أنها هنا بالفتح. والمحصنات هن المتزوجات، لكن كلمة: (المحصنات) في غير هذا الموضع تقرأ بقراءتين: قراءة الجمهور: (المحصنات)، على أنها اسم مفعول، يعني: أن غيرها أحصنها، وقراءة الكسائي: (المحصِنات)، على أنها اسم فاعل، يعني: أنها أحصنت فرجها ونفسها، فهي محصنة، وهي محصَنة يعني: أحصنها زوجها لما تزوجها، فجعلها عفيفة؛ لأنه كفها عن غيره. كذلك: أحصنها وليها، أو أحصنها الله سبحانه وتعالى، أي: فطرها عفيفة، وجعل العفة من طبيعتها، فهي محصَنة وهي محصِنة، أي: عفيفة مانعة فرجها عن غير ما أباح الله سبحانه وتعالى لها. قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ} [النور:23] أي: يقذفون، {الْمُحْصَنَاتِ} [النور:23] أي: العفيفات، {الْغَافِلاتِ} [النور:23]، وهذا مدح للمرأة المؤمنة، فليس فيها لؤم أو خبث أو نوع من التطفل، بحيث إنها تريد أن تعرف كل شيء، فهذا مدح للمرأة المؤمنة المبتعدة عن الناس، التي لا تستمع إلى الوشايات وإلى أقوال الزور وإلى الكلام غير الطيب، فهي غافلة عن أحوال الناس، وعما يراد بها، فتجدها دائماً في سترها وبيتها، فقد أعفها الله سبحانه وتعالى عن الحرام، فهي في غفلة عن أمر الدنيا، مقبلة على ربها سبحانه وتعالى، فهذا مدح للمرأة المؤمنة.

صفات المحصنة في هذه الآية

صفات المحصنة في هذه الآية قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النور:23]، فمن صفاتها: أنها مؤمنة عفيفة غافلة عن هذا الكلام الفارغ الذي يقال عنها، وحكم المحصن أيضاً نفس هذا الشيء، فكما أن العفاف موجود في النساء، فهو كذلك موجود في الرجال، فالذين يرمون هؤلاء لعنوا في الدنيا والآخرة، أي: استحقوا اللعن، وهو الإبعاد عن رحمة الله سبحانه وتعالى. والمقصود بالذين يرمون المحصنات: إما المنافقون، فهم ملعونون في الدنيا والآخرة؛ لأنهم يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام، ولذلك لن يدخلوا الجنة أبداً، فالمنافقون في الدرك الأسفل من النار لكفر قلوبهم. أو: أنهم الفسقة والمجرمون، فعلى ذلك ستكون اللعنة والطرد من رحمة رب العالمين سبحانه إلى حين، فهناك فرق بين لعن الكافر ولعن المنافق ولعن الإنسان الذي هو على التوحيد، فقد يخلد في النار كما يخلد القاتل نفسه في نار جهنم إلى ما يشاء الله سبحانه وتعالى، ولكن خلود هذا الموحد دون خلود الكافر، فالكافر خالد مخلد فيها أبداً بلا خروج، وأما عصاة الموحدين وإن أتوا من الكبائر ما أتوا فسيدخلون نار جهنم إلى ما يشاء الله سبحانه، فإذا أخبر أنهم ملعونون، أو أنهم خالدون، فخلودهم أقل من خلود الكفار وإن كان مدة طويلة جداً لا تحصى، نسأل الله العفو والعافية. إذاً: فهؤلاء الذين يقذفون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة، فهم ملعونون مطرودون من رحمة الله سبحانه في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا وقعت عليهم لعنة من يلعن أمثالهم، فهو يقول: لعنة الله على الذين يرمون المحصنات الغافلات، فيستجاب لمن يدعو عليهم بذلك، وفي الآخرة يطردهم الله عز وجل من رحمته ويدخلهم نار جهنم والعياذ بالله، وقد يكون ذلك في الكفار -كما ذكرنا- والمنافقين فهو خلود أبدي، وقد يكون في عصاة الموحدين فهو خلود دون خلود، وقد يكون هذا لمن أصر على ذلك ومات عليه، وقد يكون الإنسان وقع في هذا الجرم ولكنه تاب إلى الله سبحانه وتعالى، فأمره إلى الله سبحانه إن شاء عذبه وإن شاء رحمه سبحانه وتعالى، ولكن لا بد من القصاص، فيقتص للمؤمن أو المؤمنة الذي وقع هذا الإنسان فيهما، فيحبسون حتى ولو كان هذا الإنسان من أهل الجنة، حتى ولو كانت له أعمال صالحة تدخله الجنة، فيحبس على جسر قبل الجنة حتى يقتص هذا الآخر منه، فيأخذ من حسناته ما يشاؤه الله سبحانه وتعالى، فالإنسان إذا تاب إلى الله عز وجل تاب الله عليه، لكن في حقوق الآدميين لا بد من القصاص، فإن لم تكن عنده حسنات أخذ من سيئاتهم فوضعت عليه، وذلك حتى يقتص لحقوق الآدميين. قال الله سبحانه عن هؤلاء: {لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:23] يعني: يوم القيامة لهم العذاب العظيم، وقد يكون العذاب في الدنيا أيضاً كما في الآخرة.

تفسير قوله تعالى: (يوم تشهد عليهم ألسنتهم إن الله هو الحق المبين)

تفسير قوله تعالى: (يوم تشهد عليهم ألسنتهم إن الله هو الحق المبين) قال سبحانه: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور:24]، وهذا متعلق بما قبله، فلهم عذاب عظيم، إذاً: فهم ملعونون في الدنيا والآخرة: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:23]، أي: في يوم القيامة، وفي هذا اليوم يقول سبحانه: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور:24]، هذه قراءة الجمهور، وقراءة حمزة والكسائي وخلف (يوم يشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون)، ففصل بين الفعل والمفعول بالجار والمجرور، وهي كلمة: عليهم، فجاز فيها الوجهان، إما التأنيث على الأصل فيها، وإما التذكير على أنه فصل بين الفعل والمفعول بهذا الضمير. قال: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ} [النور:24] يعني: يوم القيامة {أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور:24]، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في التحذير من رمي المحصنات الغافلات المؤمنات حديث في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات)، والموبقة هي المهلكة، وهي من عظائم الذنوب التي تهلك صاحبها، قال: (اجتنبوا السبع الموبقات، قيل: يا رسول الله! وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)، فهذه الخصال من كبائر الذنوب. فبدأ بالشرك بالله، ثم السحر وهو من الكفر، وذكر من الجرائم العظيمة قتل النفس، قال: (وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)، إذاً: فمن أعظم الكبائر الوقوع في هذه الأشياء. والحديث هنا لم يذكر فيه أشياء أخرى هي من الكبائر، وكأن هذه الأشياء من أعظم الكبائر. إذاً: فاللسان يشهد على صاحبه، فالإنسان كان يتكلم في الدنيا بلسانه، وعقله يوجه لسانه إلى كيفية الكلام، فيكذب ويصدق ويخبر، وأما يوم القيامة فالله سبحانه هو الذي يجعل اللسان ينطق بالحق، ولا يستطيع عقل الإنسان أن يوجه اللسان في تلك اللحظة، وإذا باللسان الذي كان يجادل عن صاحبه في الدنيا يشهد عليه يوم القيامة: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ} [النور:24] أي: وتنطق أيدي هؤلاء بما كانوا يقترفون، {وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور:24]، فكل هذه الجوارح تنطق يوم القيامة، فيومئذ يكون الجزاء وافياً، قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} [النور:25]، والدين هنا بمعنى: الجزاء والحساب، كما قال سبحانه: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]. وقد جاءت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم توضح نطق أعضاء الإنسان يوم القيامة بالخير شاهدة له، أو بالشر الذي كان يفعله في الدنيا. فمن الأحاديث التي جاءت في أمر الخير: حديث رواه الترمذي والإمام أحمد وأبو داود أيضاً من حديث يسيرة -امرأة من المهاجرات- قالت: (قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليكن بالتسبيح والتهليل والتقديس، واعقدن بالأنامل؛ فإنهن مسئولات مستنطقات، ولا تغفلن فتنسين الرحمة)، فأمرهن بالتسبيح والتهليل والتقديس، أي: ذكر الله سبحانه بقول: سبحان الله، وقول: لا إله إلا الله، وهذا معنى التسبيح والتهليل، وأما التقديس فمعناه: أن تقول: سبوح قدوس، فتقدس ربك سبحانه. قال: (واعقدن بالأنامل)، والأنملة: هي طرف الأصبع، فالأفضل أن يسبح الإنسان بيده؛ لأن الأنامل تنطق يوم القيامة أنها كانت تسبح لله سبحانه وتعالى. قال: (فإنهن مسئولات مستنطقات) أي: الأنامل، فسيسألن وسيطلب منهن النطق والشهادة لصاحبهن. قال: (ولا تغفلن فتنسين الرحمة) يعني: عن ذكر الله سبحانه، فإذا غفل الإنسان عن ذكر الله نسي رحمة الله، فنُسي يوم القيامة، فهذا في الخير. وأما في الشر فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم من حديث أنس قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك صلى الله عليه وسلم، فقال: هل تدرون مما أضحك؟ قال: قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: من مخاطبة العبد ربه، يقول: يا رب! ألم تجرني من الظلم؟ -يعني: يحتج على الله سبحانه وتعالى، وهو كذاب فيما يحتج به- يقول: يا رب! ألم تجرني من الظلم؟ فيقول الله تبارك وتعالى: بلى، فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني)، وهذا من كذب العبد وإجرامه، فهو يريد أن يكذب على الملك سبحانه وتعالى، وهو يظن أن جوارحه ستنطق بما ينفعه يوم القيامة، وهذا كما قال سبحانه: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142]. قال: (فيقال: كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً، وبالكرام الكاتبين شهوداً، فيختم على فيه، فيقال لأركانه: انطقي، فتنطق بأعماله، ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيدعو على نفسه: بُعداً لكنّ فعنكن كنت أناضل)، أي: أدافع عنكن ثم تشهدن علي؟! فما نفعته أعضائه يوم القيامة، بل شهدت عليه. والآية أخبرت أن اللسان أيضاً ينطق شاهداً على العبد، وجاء في حديث أبي هريرة في صحيح مسلم: أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: (يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: هل تضارون في رؤية الشمس في الظهيرة ليست دونها سحابة؟)، أي: هل يصيبكم الضرر أو يزدحم بعضكم على بعض؟ وفي رواية: (هل تضامون؟)، يعني: هل يظلم بعضكم بعضاً من أجل النظر إلى الشمس؟ بل كل الناس ستنظر من مكانها. إذاً: فليس أحد في الدنيا يتضرر أو يزدحم عند رؤيته الشمس، فكذلك الحال في النظر إلى الجبار جل جلاله، ولله المثل الأعلى سبحانه، قال: (فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ قالوا: لا، قال صلى الله عليه وسلم: فوالذي نفسي بيده لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤية أحدهما)، والمعنى: لن تتضرروا في رؤية ربكم سبحانه تعالى، ولن تزدحموا لتروا ربكم، بل سيرى كل مؤمن ربه سبحانه وتعالى يوم القيامة. قال: (فيلقى العبد) أي: يلقى الله عبده، (فيقول: أي فل!)، أصلها: أي فلان! (ألم أكرمك، وأسودك، وأزوجك، وأسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع؟) أي: سخرت لك هذه النعم العظيمة، قوله: (وأسودك) من السيادة، أي: أجعلك سيداً ورئيساً على قومك، (وأزوجك) أي: أعنتك وجعلتك تتزوج، (وأسخر لك الخيل والإبل)، فكنت أنت المالك لها، والمتحكم فيها، والمسيطر عليها، (وأذرك ترأس وتربع) يعني: تركتك تترأس على قومك (وتربع)، أي: ترتع كما تشاء، أو: تملك الرباع، وتملك الأطيان والديار، أو: تأكل مرباع قومك، قال: (فيقول: بلى، فيقول: أفظننت أنك ملاقيّ؟ -أي: هل خطر على بالك أنك ستقف هذا الموقف؟ -فيقول الرجل: لا، فيقول: سبحانه: فإني أنساك كما نسيتني) أي: مثلما نسيت أنك ستقابل ربك وأنه سيحاسبك. قال: (ثم يلقى الثاني، فيقول: أي فل! ألم أكرمك، وأسودك، وأزوجك، وأسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى أي رب! فيقول: أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا، فيقول: فإني أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثالث، فيقول له مثل ذلك، فيقول الثالث: يا رب! آمنت بك وبكتابك وبرسلك وصليت وصمت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع، فيقول له: هاهنا)، أي: قف هنا؛ لأنه يعلم أنه كذاب، فيحاسبه الله حساباً عسيراً، ثم يقال له: (الآن نبعث شاهدنا عليك)، فيفكر في ماهية هذا الشاهد ومن يكون، قال: (فيختم على فيه، ويقال لفخذه ولحمه وعظامه: انطقي، فينطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله، وذلك ليعذر من نفسه، وذلك المنافق الذي يسخط الله عليه)، فهذا الإنسان تنطق أعضاؤه بالشهادة عليه أنه فعل كذا وفعل كذا، وفي الحديث الذي قبله ذكر: أنه يدعو على نفسه، ويدعو على أعضائه إذا شهدت عليه. وهنا في الآية يقول الله عز وجل: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ} [النور:24]، فلسان الإنسان أيضاً ينطق شاهداً عليه يوم القيامة، قال: {وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور:24] أي: بكل ما كانوا يعملون في الدنيا، قال: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} [النور:25] أي: جزاءهم الحق، {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} [النور:25]، أي: في يوم القيامة {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} [النور:25] أي: الحكم العدل سبحانه وتعالى، فهو الحق الذي يحق الحق سبحانه وتعالى، ويعلمون أن ما سواه مما عبدوه من دون الله باطل، وأن الله هو الحق وحده سبحانه وتعالى، {الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور:25] أي: الظاهر الجلي، والمبين كذلك: الذي يبين شريعته ومنهاجه ويظهرهما، فيبين طريق الهدى وما يحتاج إليه خلقه من شرعه سبحانه وتعالى، قال: {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} [النور:25] قالوا: بمعنى: يبين لهم الحقائق ويظهر حقائق ما كانوا يصنعونه في الدنيا، وما كان يعدهم به من ثواب ويهددهم به من عذاب يوم القيامة، فالله هو الحق المبين.

تفسير قوله سبحانه: (الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات)

تفسير قوله سبحانه: (الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات) ثم يقول سبحانه: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النور:26]، الخبيثات: أكثر المفسرين على أن المراد بها هنا: الكلمات، يعني: الكلمات الخبيثات، والسياق نفسه يدل على ما حدث من أهل الإفك في كذبهم على عائشة، فقد أخذوا الكلمات الخبيثة في ذم السيدة عائشة رضي الله تبارك وتعالى عنها وفي قذفها، فالله عز وجل يقول للناس: تفكروا! فالكلمات الخبيثة لا تخرج إلا من خبيث، فالخبيثات للخبيثين، والخبيثون هم: أهل الخبث، وهم متلازمون مع الكلام الخبيث، فهي لهم وهم لها. قال: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ} [النور:26] أي: أصحاب الكلمات الطيبة الجميلة، فهي لا تخرج إلا من الإنسان الطيب، صاحب الكلام الحسن، والنية السليمة، والقلب الطيب، فالطيبات للطيبين، فهم أهل لذلك. وكلام الإنسان دليل على ما في قلبه، فإن كان لا يتكلم إلا بكلام خبيث فهو إنسان خبيث، وإن كان لا ينطق إلا بطيب فهو إنسان طيب، قال تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور:26]. ثم قال: {أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} [النور:26] يعني: أن الطيبين والطيبات بريئون من كلام هؤلاء الخبثاء الذين يرمونهم بالفواحش، يعني: المنافقين. ثم قال: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النور:26]، فقد أعد الله عز وجل لهم المغفرة العظيمة يوم القيامة، وكذلك الرزق الكريم؛ جزاءً على صبرهم في الدنيا على أصحاب الكلام الخبيث. نسأل الله العافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة النور [23 - 27]

تفسير سورة النور [23 - 27] يبين المولى سبحانه سنة من سننه الماضية في الغابرين واللاحقين، وهي أن الرجل الطيب لا يتكلم إلا بطيب الكلام، ولا ينكح إلا طيب النساء، وأن الرجل الخبيث لا يتفوه إلا بخبيث الكلام وفاحشه، ولا يقع إلا على خبيثات النساء، وذلك إذا لم يتوبوا، وأما لو تابوا فإن التوبة تجب ما قبلها، وتلحقهم بالصنف الأول وهم الطيبون.

تفسير قوله تعالى: (الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات)

تفسير قوله تعالى: (الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النور:26]. ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية وما قبلها أحكاماً في يوم القيامة: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:23]. وقد قدمنا قبل ذلك أن الله سبحانه حرم أعراض المؤمنين كما حرم دماءهم وأموالهم، فالمؤمن لا يحل له أن يقع في عرض أخيه المؤمن أو المرأة المؤمنة، فلا يتكلم عنه بما يسوءه وما لا يحل له الكلام فيه، بل لو أنه رأى فيه ما لا يجوز فينبغي عليه أن ينصح، وأما القذف بجريمة الزنا فلا يجوز لأحد أن يقع فيه إلا أن يأتي بأربعة شهود على هذا الذي يقوله، فإن لم يفعل ذلك فهذا إنسان كذاب كما وسمه الله عز وجل بذلك، مع أنه قد يكون رأى ذلك بنفسه ولكن الشريعة لم تبح له أن يتكلم حتى يكون معه أربعة يشهدون على ذلك، فأخبر: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:23]. فهم في الدنيا ملعونون، وفي الآخرة مطرودون من رحمة رب العالمين سبحانه، قال سبحانه: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور:24]. وقدمنا كيف أن الإنسان يأتي يوم القيامة يجادل عن نفسه فإذا بأعضائه تشهد عليه بما كان يصنعه يوم القيامة، فيوفيهم الله عز وجل جزاءهم وعقابهم الوافي الذي يستحقونه، جزاءً على ما قدموا، قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور:25]. فالله سبحانه وتعالى يحق الحق، ويأبى أن يدوم الباطل، فإنه وإن ترك أهل الباطن ففي النهاية يقصمهم سبحانه وتعالى، ويأخذهم أخذ عزيز مقتدر. فمن أسماء الله تعالى الحق، وهو يحق الحق يوم القيامة، فيرون كيف يحكم الملك الحق بالعدل المبين، ويظهر الحق يوم القيامة فهو الحق المبين، أي: المبين المظهر لهذا الحق يوم القيامة، والمبين في الدنيا للناس طريق الهدى، وما يحتاجون إليه من شرع رب العالمين سبحانه. والله هو الحق المبين أي: الحق الثابت بذاته، الظاهر في ألوهيته سبحانه وتعالى. والله الحق أي: هو ذو الحق وصاحب الحق البين، فيعلمون يوم القيامة أن الله هو الحق المبين الذي يبين لهم حقائق ما كانوا يعملون في الدنيا، وما كان يتوعدهم عليه فيها فيظهره سبحانه. ثم قال: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} [النور:26]، والخبيثات وصف لمحذوف تقديره: الكلمات، والمعنى: أن الكلمة الخبيثة لا تخرج إلا من إنسان خبيث، والكلمة الطيبة لا تخرج إلى من إنسان طيب. ثم قال: {وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} [النور:26] يعني: لا ينتظر من خبيث إلا كلاماً خبيثاً كلاماً غير طيب. قال تعالى: {وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور:26] يعني: المنتظر من الأناس الطيبين المؤمنين أن يتفوهوا ويتكلموا بالكلام الطاهر الطيب الجميل، فكأن هذه أوصاف للكلمات وأوصاف لأصحابها. ثم قال: {أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} [النور:26] يعني: أن الطيبين والطيبات بريئون مما يقول هؤلاء المنافقون وهؤلاء الفساق, ومما يرمونهم به من كلام خبيث، كأن المقصود بذلك عائشة رضي الله تعالى عنها وصفوان، فهؤلاء الطيبون، ولا يخرج منهم إلا الطيب، وهؤلاء قد برأهم الله عز وجل مما وقع في أعراضهم من أهل الكذب وأهل النفاق. وقيل: إنها تحمل على ما تقدم قبل ذلك في قوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3]. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الزاني المجلود لا ينكح إلا مثله)، وكأن المعنى المقصود: أن الزاني المجلود مفضوح أمام الناس؛ فقد شهد عليه أربعة بهذه الجريمة، فإذا كان عاهراً مجاهراً بذلك ولم يتب فلا يجوز لإنسان أن يزوج ابنته الطيبة لمثل هذا الإنسان الخبيث الذي يجاهر بهذا الزنا، أو بهذه الأفعال الفاحشة، فهذا يتزوج امرأة مثله في ذلك. لكن إذا تاب وعلمت توبة، وإذا تابت المرأة وعلمت توبتها، جاز أن يتزوج الرجل وأن تتزوج المرأة، وأما أن يغر إنسان طيب بمثل ذلك فهذا يعد عيباً من العيوب، فلا ينبغي لمسلم أن يتزوج مثل هذه، وإنما يبحث عن المرأة الطيبة كما قال النبي صلوات الله وسلامه عليه: (فاظفر بذات الدين تربت يداك)، فالإنسان المؤمن يتزوج لقضاء وطره، وهذا شيء ولكن ليس هو كل شيء، وإنما يتزوج أيضاً لتكون له أسرة طيبة، وأولاد طيبون ينفعونه في الدنيا وفي الآخرة، ففي الدنيا ينفعونه بالبر والإحسان، فإذا كبر الإنسان احتاج إلى أولاده، فيكونون بجواره يعينونه على طاعة الله سبحانه وتعالى، فإذا مات دعوا له، فإذا كان يوم القيامة قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور:21]. فالبيت الطيب ينفع صاحبه والبيت الخبيث يضره دنيا وآخرة، لذلك فالمؤمن يكون حريصاً على أن يكون بيته بيتاً مؤمناً، فيظفر بذات الدين، وإلا فتربت يداه. وقد ذكر بعض أهل العلم عن عائشة رضي الله عنها أنها أعطيت تسعاً لم تعطهن امرأة من نسائه صلى الله عليه وسلم، فالله عز وجل فضلها بذلك، فذكر بعض أهل العلم عن عائشة أنها قالت ذلك، وإن كان إسناده ضعيفاً إليها، فمما أعطاها سبحانه: أن جبريل عليه السلام نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بصورة عائشة رضي الله عنها حين أمر أن يتزوجها كما صح بذلك الحديث، فنزل في سرقة من حرير وقال: هذه زوجتك في الدنيا والآخرة، فكانت عائشة رضي الله عنها زوجة للنبي صلى الله عليه وسلم تزوجها بإعلام الله عز وجل له في ذلك. كذلك تزوجها بكراً، وما تزوج بكراً غيرها. وكذلك توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأسه في حجرها رضي الله عنها، وكانت تقول: توفي رسول الله ما بين حاقنتي وذاقنتي، تعني: على صدرها تحت ذقنها. فلا شك أن لها فضيلة أن يجعل الله عز وجل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أقرب ما يكون إليها. وقالت: إنه قُبر في بيتها، وهذا موجود حتى الآن، وهو دليل على فضيلة عائشة رضي الله تعالى عنها. والملائكة تحف بيت عائشة رضي الله عنها؛ لأن فيه قبر النبي صلوات الله وسلامه عليه. وإذا كان في أهله لا يأتيه جبريل حتى ينصرف عن أهله، وأما عائشة فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم معها فجاءه جبريل وبلغها السلام، فقالت للنبي صلى الله عليه وسلم: ترى ما لا أرى. وتقول: إن كان لينزل عليه وأنا معه في لحافه، فما يبعدني عن جسده صلوات الله وسلامه عليه. وقد أنزل الله عز وجل عذرها في كتابه، وبرأها مما قال الكذابون عنها. وكذلك أبوها أبو بكر الصديق رضي الله عنه قال الله عنه: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة:40]. وهو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو وزن إيمانه بإيمان الأمة لوزنه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك وعدها الله عز وجل بمغفرة ورزقاً كريماً على أنها إحدى زوجات لنبي صلى الله عليه وسلم، ثم خصها في هذه الآية فقال: {أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النور:26]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في فضلها: (فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام). وذكروا أيضاً في فضائل عائشة رضي الله عنها: أن يوسف عليه السلام، لما رمي بالفاحشة برأه الله عز وجل على لسان شاهد، فقال: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف:26 - 28]. فبرأه الله عز وجل على لسان إنسان قال ذلك، قيل: كان صبياً صغيراً أو كان رجلاً كبيراً فالله أعلم بذلك، فكان على لسان بشر. والمسيح صلوات الله وسلامه عليه لما رموا أمه وقالوا: {لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} [مريم:27]. أنطقه الله سبحانه فقال: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} [مريم:30]، فأجاب عن نفسه وعن أمه. فلما رميت عائشة رضي الله عنها بالإفك برأها الله عز وجل ولم يجعل براءتها على لسان أحد من الناس، لا على لسان النبي صلى الله عليه وسلم من عند نفسه، ولا على لسان أحد يدافع عنها، وإنما في كتاب الله عز وجل، بآيات تتلى إلى يوم القيامة، فجعل لها فضيلة أن ذكر شأنها في كتابه في هذه السورة الكريمة.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا) يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:27]. هذا أمر من الله سبحانه وتعالى للمؤمنين بالاستئناس والاستئذان، وهذه آية من آيات الآداب التي يجهلها كثير من الناس، وإن علموها فلا يطبقها أكثرهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} [النور:27]. فالبيوت التي هي غير بيتك لها حكم، وبيتك له حكم آخر، فقال: (لا تدخلوا بيوتاً).

القراءات في قوله (بيوتا)

القراءات في قوله (بيوتاً) في هذه الآية قراءتان: قراءة ورش وأبي عمرو وحفص عن عاصم، وجعفر ويعقوب: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} [النور:27] بضم الباء في بيوت. وقراءة باقي القراء: {لا تَدْخُلُوا بِيُوتًا غَيْرَ بِيُوتِكُمْ} [النور:27] بكسر الباء فيها. قال: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور:27]، والاستئناس هو طلب الأنس الذي يكون بين الناس، والألفة التي تكون بيهم، فالألفة تكون بالحديث وبالمودة؛ لأنك إذا اقتحمت على الناس بيتهم يخافون من دخولك، فجعل الله أمرين هنا: أمر الاستئذان بالقول، وكذلك تؤنس هذا الذي دخلت عليه من نفسك فيستشعر الراحة، ويستشعر الألفة والمودة، فيستمع إليك فيما تريد. فالله عز وجل كرم بني آدم فقال: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الإسراء:70]. فمن تكريم الله عز وجل للإنسان أن خلقه إنساناً يمشي على قدميه، وليس كغيره من الحيوانات التي تمشي على الأيدي والأقدام. وجعل للإنسان عقلاً يفكر به، وجعل له مراكب يركبها، وحمله في البر والبحر، وجعل له بيتاً لراحته، وجعل الأرض كفاتاً للإنسان في حياته ومماته، ففي الحياة هو فوق الأرض، وفي الممات هو في باطن الأرض، وأكرمه الله عز وجل بأن جعله يستتر في الدنيا في البيت، ويستتر في الموت بالقبر، فالبيت سترة للإنسان يقضي فيه حاجته، أو يغير فيه ثيابه، ويتحرر فيها من أشياء تكون أمام الناس قيوداً عليه، وفي بيته يتخفف من ثيابه، وينام كما يشاء. فالبيت مكان راحته، فلذلك جعل لهذه البيوت آداباً بحيث إنه لا أحد يحرج الآخر في بيته ولا يضايق عليه، فخصص الله عز وجل بني آدم بالمنازل، وأما الحيوان فيقضي حاجته في الطريق، والإنسان يذهب إلى بيته فيستتر تكريماً من الله عز وجل له. فستره عن أبصار غيره في بيته، وجعل له الاستمتاع بهذه البيوت على الانفراد، وجعله ملكاً في بيته، وهذه من المنن التي منّها ربنا سبحانه على بني إسرائيل قال: {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} [المائدة:20]. فليس كل واحد من بني إسرائيل سيكون ملكاً على الناس، وإنما المقصود كالملوك، والملك لا يختلف كثير عن غيره من الناس، فهو يملك بيتاً، وأنت تملك بيتاً، وتملك مالا، وتملك طعاماً وشراباً، وعندك أمن في بيتك. فالله عز وجل جعل للإنسان طعامه وشرابه، وجعل له مكان أمنه في بيته، وملكهم الاستمتاع بها على الإنفراد، وحجر على الخلق أن يطلعوا على الإنسان في بيته، ومنعهم من النظر داخل البيت حتى يستأذنوا ويلجوا بإذن، وأما بغير إذن فلا يحل لأحد أن يطلع على بيت أحد بغير إذنه. جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من اطلع في بيت قوم من غير إذنهم حل لهم أن يفقأوا عينه). ومعنى الحديث: إذا كان الإنسان يتجسس وينظر إلى نافذة إنسان آخر أو من داخل ستارة أو نحوها، جاز لهذا الآخر أن يفقأ عينه ولا دية في ذلك. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً نظر إليه وهو في بيته وبيده مدرى -أي: عود يمشط به شعره صلى الله عليه وسلم- والرجل يتلصص وينظر، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يفقأ عينه به، ثم قال: إنما جعل الاستئذان من أجل البصر) وذلك أن الإنسان له حرية بداخل بيته، فمن حقه أنه يكون له أشياء يسترها عن غيره، وليس من حق أحد أن يتدخل في ذلك. وذكر الإمام الطبري في سبب نزول هذه الآية ما جاء عن علي بن ثابت: (أن امرأة من الأنصار سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد) فالمرأة في بيتها لعلها تخلع شيئاً من ثيابها فلا تحب أن يراها أحد إلا إن يكون زوجاً لها، قالت: (لا أحب أن يراني عليها أحد، وإنه لا يزال يدخل علي الرجل من أهلي وأنا على تلك الحال) يعني: يأتي أبوها يفتح الباب ويدخل، ولعلها تكون متجردة من ثيابها، فيدخل الأب على هذه الحالة، فشكت للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فأنزل الله عز وجل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27]. قالوا: والاستئناس بمعنى الاستعلام، أي: طلب العلم، كأنك تعلم من بداخل البيت أنك موجود في الباب، والاستئناس يكون قبل الدخول وبعده، وأما قبل الدخول فيكون بصوت يعلم أن هذا الإنسان موجود بالخارج، ثم إذا كان الآخر يسمع، فيقول: السلام عليكم أأدخل؟ أما بعد الدخول فيكون الاستئناس بالمودة في الكلام، حتى يرتاح الآخر بدخولك عليه. ومن ذلك لما دخل عمر على النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد غضب على نسائه واعتزل في مشربة له، فخشي عمر وغيره أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد طلق نساءه، فذهب عمر للنبي صلى الله عليه وسلم واستأذن، فلم يؤذن له إلا في المرة الثالثة، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم وجلس فوجد النبي صلى الله عليه وسلم غضبان، فجلس ساكتاً وبعد قليل استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الكلام، فأذن له فتكلم عمر حتى ضحك النبي صلى الله عليه وسلم. فالغرض أن الاستئناس إذا كان قبل الدخول فهو من باب الاستئذان والاستعلام، أو إعلام من في الداخل بوجود هذا الذي في الخارج، ثم يستأذن فيدخل، فإذا دخل فيؤنس أهل البيت بالكلام الطيب الذي يقوله والله أعلم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة النور الآية [27]

تفسير سورة النور الآية [27] إن الدين الإسلامي دين الآداب، ففيه مراعاة وحفظ لعورات الآخرين، ومما يدلل على ذلك أنه شرع أدباً حث عليه في القرآن الكريم وعلى لسان النبي الأمين وهو أدب الاستئذان، وهذا الأدب فيه حفظ لعورات المسلمين، فتنبغي مراعاته والعمل به والتأدب بآدابه.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة النور: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [النور:27 - 29].

وجوب الاستئذان قبل الدخول

وجوب الاستئذان قبل الدخول في هذه الآيات من سورة النور يذكر الله عز وجل لنا آداباً من الآداب الشرعية التي ينبغي أن يتحلى بها المؤمنون، فقال: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27]، وذكر أن ذلك {خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:27]، والاستئناس كما ذكرنا في الحديث السابق طلب الإيناس، وهو من الأنس: ضد الوحشة، فتدخل البيت فيأنس بك أهل البيت ولا يستوحشون منك، فينبغي على الإنسان ألاّ يدخل على أهل بيت ويهجم عليهم هجوماً، ولكن يجب عليه أن يستأذن قبل الدخول، ويعلن بأنه على الباب، أو أنه قادم إليهم، فيشعرون بنوع من الأنس وعدم الاستيحاش منه. فقالوا: إن الاستئناس من الإيناس، أي: أن تؤنس غيرك أو أن تجعله يأنس بك ويألفك ولا ينفر من دخولك عليه.

الفرق بين الاستئذان والاستئناس

الفرق بين الاستئذان والاستئناس ذكر الله هنا الاستئناس وذكر الاستئذان، ولكل منهما معنى يختلف عن الآخر، فلذلك قالوا في الاستئناس: أنه قبل دخوله الدار يعلن أنه فلان، أو أنهم يستشعرون منه بصوت ونحو ذلك، فجاء عن أبي أيوب رضي الله عنه ذكر الاستئناس ورفعه للنبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (على الرجل أن يتكلم بتسبيحة، أو بتكبيرة، أو يتنحنح، فيأذن له أهل البيت) والمعنى: أن الذي يأتي إلى أهل بيت عليه قبل الدخول أن يعلمهم أنه آت ولا يدخل دون أن يشعرهم بذلك فسيشعر الناس بالوحشة منه، سواءً كان هو صاحب البيت أو غير صاحب البيت. وجاء عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود أن ابن مسعود كان إذا دخل الدار استأنس فيتكلم ويرفع صوته، ومن في البيت يستشعرون أن أحداً آتٍ فيتهيئون لذلك. وقد جاء عن مجاهد أنه قال: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور:27] أي: تتنحنحوا أو تتنخموا، وليس الغرض التنحنح ولا التنخم ولكن الغرض أنك لا تدخل البيت فجأة فيفزغ منك أهل البيت، فإذا أردت دخول البيت فعليك أن تؤنس أهل البيت، ثم تسلم عليهم، ثم تدخل. وفي بيتك أيضاً عليك أن تستأنس وتستأذن وتدخل، إلا أن يكون داخلاً على امرأته أو العكس، فيجوز ذلك دون إذن، لكن دخول الابن على أبيه، أو البنت على أبيها أو على أمها، والابن على أمه أو على أخته فكل ذلك لا بد من الاستئناس والاستئذان؛ فإنه قد يدخل على وضع قد يتأذى ويكره صاحبه أن يراه أحد وهو على هذا الوضع. يقول أهل العلم في ذلك: مد الله سبحانه وتعالى التحريم في دخول بيت ليس هو بيتك لغاية وهي الاستئناس وهو الاستئذان، وإن كان الراجح أن الاستئناس غير الاستئذان. (تستأنسوا) أي: فتعلموا أهل البيت أنكم آتون بأي صورة من الصور، فيصبح أهل البيت يستشعرون أن هناك أحداً موجوداً فيتهيئون، فإذا سلم أجابوا وردوا عليه السلام.

من آداب الاستئذان

من آداب الاستئذان {وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27]، والتسليم أنك تستأذن على أهل البيت ثلاث مرات وتسلم فتقول: السلام عليكم أأدخل؟ السلام عليكم أأدخل؟ السلام عليكم أأدخل؟ فإذا أذنوا دخلت، وإذا لم يأذنوا لم يجوز لك أن تفتح الباب وتدخل، قال تعالى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27]. وذكرنا قبل ذلك حديث أبي موسى الأشعري مع عمر رضي الله تبارك وتعالى عنهما، فقد أرسل عمر إليه فذهب أبو موسى واستأذن ثلاثاً، ولم يأذن عمر رضي الله عنه؛ لأنه كان مشغولاً، فبعد الثالثة انصرف أبو موسى الأشعري، فقال عمر بن الخطاب: ألم أسمع صوت الأشعري؟ فقالوا: بلى، فقال: علي به، ائتوا به، فأتوا بـ أبي موسى الأشعري رضي الله عنه فسأله عمر رضي الله عنه: ما منعك أن تأتينا؟ فقال: أتيت فسلمت ثلاث مرات فلم ترد علي فرجعت، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع) فأراد عمر رضي الله تعالى عنه أن يستيقن من ذلك فأمره بأن يأتي بمن يشهد له بذلك، فجاء أبو سعيد الخدري وأبي بن كعب وشهدا له بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك. فعلى ذلك إذا استأذن الإنسان على أهل بيت فليستأذن ثلاث مرات وهذا أقصى ما فيه، وليس له أن يزعج أهل البيت بأكثر من ذلك، فإذا أرادوا أن يردوا عليه ردوا، وإذا لم يردوا عليه رجع وانصرف إلا أن يستيقن أنهم لم يسمعوا استئذانه فله أن يستأذن أكثر من ثلاث مرات، ولكن إذا سمعوا ولا يريدون مقابلتك فارجع، والله عز وجل يقول: {وإَذْا قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا} [النور:28]. فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً من بني عامر استأذن النبي صلى الله عليه وسلم وهو في البيت فقال الرجل: أألج؟) يعني: أأدخل، وهذا ليس من أدب الاستئذان؛ فالأدب أن يبدأ بالسلام. وجاء في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من بدأكم بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه)، ولأن ذلك {هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:28] كما قال الله عز وجل. يقول العلماء: إنما خص الاستئذان بثلاث؛ لأن الغالب من الكلام أنه إذا كرر ثلاثاً سمع وفهم؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً، أي: إذا تكلم بكلمة وأراد أن يحفظوا هذه الكلمة أعادها ثلاثاً حتى يحفظوها، فالعادة أنه إذا تكرر الشيء ثلاث مرات فإنه يكفي فهماً وعرفاً، فالذي يستأذن ثلاث مرات يعرف أنه يستأذن فإما أن يسمح له بالدخول وإما ألا يسمح له. وأيضاً جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (كان إذا سلم على قوم سلم ثلاثاً)، وهنا لعل القوم عدد كبير فيريد أن يسمع الجميع فيسلم ثلاثاً، فلعله يظن أنهم مشغولون فلا يسمعون في المرة الأولى، فيسلم الثانية ويسلم الثالثة صلوات الله وسلامه عليه؛ ليسمع الجميع. يقول أهل العلم: فإذا لم يؤذن له بعد الثالثة فقد ظهر أن رب المنزل لا يريد الإذن، فإذا ما أذن بعد ثلاث مرات - سواء كان الاستئذان بالتسليم، أو بالطرق على الباب، أو برن جرس الباب - فأهل البيت لا يريدون دخول هذا الضيف. قالوا: أو لعله يمنعه من الجواب عذر، فربما أن صاحب المنزل في دورة المياه فيتأذى من كثر طرق الباب. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه ذهب إلى أحد الصحابة وهو عتبان بن مالك رضي الله عنه فأتاه صلى الله عليه وسلم واستأذنه، فخرج الرجل مستعجلاً، في رواية (أنه خرج يجر إزاره)، كأن الرجل كان يغتسل أو كأنه كان قد أتى أهله، فلما سمع صوت النبي صلى الله عليه وسلم لبس ثيابه وأسرع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعلنا أعجلناك)، وهذا من أدب النبي الكريم عليه الصلاة والسلام. ولم يرد هنا أنه استأذن أكثر من ثلاث، أو أنه أمر الرجل بالخروج حالاً، ولكنه استأذن صلى الله عليه وسلم فسمع الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فخرج متعجلاً. وجاء عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه أتى سعد بن عبادة الأنصاري رضي الله عنه فاستأذن فسلم صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات يسمعه سعد بن عبادة ولا يجيب إلا في سره -يعني: يستكثر من تسليم النبي صلى الله عليه وسلم عليه- ولما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم من الثالثة انصرف عليه الصلاة والسلام، فخرج سعد رضي الله عنه وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم ورد عليه السلام جهراً، وقال: إنما أردت أن أستكثر من تسليمك -يعني: أحبينا أنك تكثر من السلام علينا؛ من أجل أن ينالنا بركة هذا السلام- ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم معه). وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ترك الناس العمل بالاستئذان. وكأنه يقصد في زمنه رضي الله عنه أن الناس تركوا العمل به؛ لوجود الأبواب على البيوت، فأصبح الذي في الداخل لا يسمع صوت التسليم فيحتاج أن يطرق الباب، فكأن هذا معنى كلام ابن عباس. فقال العلماء: وذلك لاتخاذ الناس الأبواب فيصعب على الإنسان في هذه الأزمنة أن يأتي على باب العمارة مثلاً ويقول: السلام عليكم أأدخل؟ وهذا لن يسمعه أحد، فعليه أن يرن جرس الباب. وجاء عن عبد الله بن بسر رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر، ويقول: السلام عليكم السلام عليكم). وهذا من الأدب، فأنت حين تطرق على الباب أو ترن الجرس ولا تقف بوجهك أمام باب الشقة؛ فلعل امرأة تفتح الباب فتنظر للداخل، أو لعل صاحب البيت يفتح فتنظر إلى داخل البيت، ولكن يجب أن تقف عن يمين أو عن شمال الباب بحيث يكون وجهك تلقاء الحائط وليس تلقاء الباب. وقد كان عليه الصلاة والسلام يفعل ذلك؛ بسبب أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور، فإن كان الباب مغلقاً فله أن يقف حيث شاء منه ويستأذن وإن شاء دق الباب؛ لما رواه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في حائط بالمدينة على قف في البئر، فمد رجليه في البئر، فدق الباب أبو بكر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني للحاجب-: ائذن له، وبشره بالجنة). فكان النبي صلى الله عليه وسلم في حائط، أي: في بستان جالساً على بئرٍ، وكأن الجو كان حاراً فأراد أن يبرد رجليه بداخل البئر صلوات الله وسلامه عليه، والبستان له باب، فجاء أبو بكر رضي الله عنه فطرق الباب لأنه أتى من بعيد وطرق الباب حتى يسمع من بالداخل. يقول الإمام القرطبي: صفة الدق أن يكون خفيفاً بحيث يُسمع، ولذلك ثبت في حديث عن أنس بن مالك قال: (كانت أبواب النبي صلى الله عليه وسلم تقرع بالأظافر) أي: أن الصحابة لما كانوا يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا يطرقون الباب بأكفهم، ولكن يطرقون الباب بأظافرهم، وهذا من الأدب. ويتحكم في مثل هذا الشيء اختلاف المكان، وبحسب سماع أهل البيت.

ذم قول الطارق: (أنا)

ذم قول الطارق: (أنا) ومن الأدب أن الذي بداخل البيت إذا سأل من؟ فعلى الطارق أن يقول: فلان، أو يقول: أنا فلان، لكن لا يقول: أنا فقط، فالذي بداخل البيت لا يعرف من يكون الذي بخارجه، فقد جاء (أن جابراً استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من هذا؟ فقال جابر رضي الله عنه: فقلت: أنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنا أنا، كأنه كرهها)، إذاً فالأدب أن يقول الإنسان: أنا فلان. وجاء عن عمر بن الخطاب (أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مشربة له فقال: السلام عليك يا رسول الله! أيدخل عمر؟)، فالاستئذان يجب أن يذكر صاحبه اسمه. وكذلك في التلفون فبعض الناس أحياناً عندما يتكلم لا يذكر اسمه ظناً أن الذي يتكلم معه يعرفه، فهذا مما لا ينبغي، فعلى الإنسان أن يتواضع، وأما الذي يستكبر فيحس أن كل الناس يعرفونه بمجرد أن يتصل بالتلفون، فالإنسان يجب عليه أن يتواضع ويستشعر في نفسه أن غيره أفضل منه، فمن تواضع للناس يرفعه الله سبحانه وتعالى، قال عليه الصلاة والسلام: (ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، ومن تواضع لله رفعه الله). وقد جاء عن الصحابة والتابعين آثار في هذا الأمر: فـ أبو موسى الأشعري جاء إلى عمر بن الخطاب يستأذن وقال: السلام عليكم هذا أبو موسى، السلام عليكم هذا الأشعري ثلاثاً، فيذكر نفسه، فربما ما سمع الأولى فيسمع الثانية أو الثالثة، فذكر اسمه ووصفه رضي الله تبارك وتعالى عنه. وذكر الخطيب البغدادي في جامعه عن علي بن عاصم الواسطي قال: قدمت البصرة فأتيت منزل شعبة بن الحجاج رضي الله عنه، وهو من أمراء وأئمة المؤمنين في الحديث، قال علي بن عاصم: فدققت عليه الباب، فقال شعبة: من هذا؟ قال: فقلت: أنا، فقال شعبة: يا هذا ما لي صديق يقال له أنا! ما أعرف أحداً اسمه أنا، ثم خرج إلي رضي الله عنه. وذكر عمر بن شبة حدثنا محمد بن سلام عن أبيه قال: دققت على عمرو بن عبيد الباب فقال لي: من هذا؟ فقلت: أنا، فقال: لا يعلم الغيب إلا الله. وجاء عن كثير من السلف كراهة أن يصف الطارق نفسه ويقول: أنا، ولكن يقول: أنا فلان، أو يقول: فلان. وجاء في سنن أبي داود: (أن صفوان بن أمية أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بلبن وجدايا وضغابيث، والنبي صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة -أي: أرسل إليه بلبن ولحم ضباء غزلان وضغابيث وهي قثاء- فدخل الذي أتى بالهدية ولم يسلم -فلم تشفع له الهدية التي أتى بها- فقال له صلى الله عليه وسلم: ارجع فقل: السلام عليك). وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من بدأكم بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه). وجاء عن أبي هريرة قال: إذا قال الرجل: أأدخل؟ ولم يسلم، فقل: لا، حتى تأتي بالمفتاح وهو: السلام عليكم. فالذي يريد أن يدخل يأتي بمفتاح الدخول وهو: الاستئذان مع التسليم. وجاء عن حذيفة أنه جاءه رجل فنظر إلى ما في البيت -بسبب أن الباب كان مفتوحاً- فقال: السلام عليكم أأدخل؟ فقال حذيفة رضي الله عنه: أما بعينك فقد دخلت، وأما استك فلم تدخل، أي: ما دخلت وقعدت بمقعدتك ولكن بعينك قد دخلت. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من حديث سهل بن سعد: أنه اطلع رجل من جحر في حجرة للنبي صلى الله عليه وسلم ومع النبي صلى الله عليه وسلم مدراة يحك بها رأسه - أي: كان معه عود يحك بها رأسه صلى الله عليه وسلم، والرجل ينظر من خرم في الجدر على النبي صلى الله عليه وسلم- فقال صلى الله عليه وسلم: (لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر). يقول الإمام القرطبي هذه الأحكام كلها إنما هي في بيت ليس لك، فأما بيتك الذي تسكنه الذي فيه أهلك فلا إذن عليك، إلا أنك تسلم إذا دخلت، وعند الدخول على المرأة يفضل أن يستأنس؛ لعله يرى منها ما يكره، كأن تكون المرأة في غير حالة الاستعداد لأن يراها الزوج، فلعلها تتأذى بهذا الشيء، فقد كان ابن مسعود يقول: السلام عليكم حتى يشعروا أنه موجود، فتقوم زوجته تتهيأ لاستقبال زوجها، وخاصة إذا كان قادماً من سفر. يقول قتادة: إذا دخلت بيتك فسلم على أهلك؛ فهم أحق من سلمت عليهم، فإن كانت التي تدخل عليها أمك أو أختك قالوا: تنحنح واضرب برجلك؛ حتى تنتبه لدخولك. قال قتادة: لأن الأهل لا حشمة بينك وبينها -ويقصد بالأهل: الزوجة- قال: أما الأم والأخت فقد يكونا على حالة لا تحب أن تراهما فيها. ولذلك قال مالك رحمه الله: ويستأذن الرجل على أمه وأخته إذا أراد أن يدخل عليهما. روى عطاء بن يسار (أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أستأذن على أمي؟ قال: نعم. قال: إني أخدمها -يعني: أستأذن وأنا أخدمها؟ - فقال: استأذن عليها. فعاوده ثلاثاً، فقال: أتحب أن تراها عريانة؟ فقال: لا. قال: فاستأذن عليها)، الحديث رواه مالك في موطئه بإسناد رجاله ثقات، ولكنه مرسل عن عطاء، وعطاء بن يسار من كبار التابعين. وإذا دخل بيتاً وليس فيه أحد فيستحب أن يسلم على نفسه؛ لعموم قوله سبحانه وتعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور:61]، فاستحب أهل العلم أن يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فقال قتادة: إذا دخلت بيتاً ليس فيه أحد فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإنه يؤمر بذلك، وهذا صح عن ابن عمر رضي الله عنه، ورواه البخاري في الأدب المفرد، ورواه ابن أبي شيبة بسند حسن عن ابن عمر رضي الله عنه بهذا المعنى: إذا دخلت بيتاً ليس فيه أحد فقل ذلك، وليس على سبيل الوجوب، ولكن استحباباً، وذُكر أن الملائكة ترد عليهم. قال الله عز وجل: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:27] يعني: هذا التسليم والاستئناس أخير وأفضل لكم {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:27]، والذكرى ضد النسيان، وتتذكر أي: تتعظ، وفيها قراءتان {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:27]، وهي قراءة حفص عن عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف، و (لعلكم تذَّّكَّرون) بالإدغام وهذه قراءة باقي القراء، والمعنى أنك تتذكر بهذه الموعظة فلا تنساها، فتعمل بها فتؤجر عليها. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة النور [27 - 30]

تفسير سورة النور [27 - 30] من أهم ما جاءت به الشريعة إتمام مكارم الأخلاق، والأمر بمحاسن الآداب، ومنها: أدب الاستئذان، الذي بتطبيقه يستأنس الإنسان بصاحبه، ويحفظ عينه عن الوقوع في نظر ما لا يحل له فيؤذي بذلك قلبه ويؤذي صاحبه، إلا أن البيوت التي فيها منفعة للإنسان ولا يوجد فيها ما يثير الفتنة ومكامن الشهوة فلا بأس ألا يستأذن فيها؛ لأنه إنما جعل الاستئذان من أجل البصر.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:27]. في هذه الآية يذكر الله سبحانه وتعالى أدباً من الآداب يعلمه للمؤمنين في (حالة إتيانهم) بيوتاً غير بيوتهم، وذلك أنهم يستأنسون ويستأذنون ويسلمون على أهلها، قال: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27]، فهنا ذكر الاستئذان والتسليم على أهل البيت كما قدمنا قبل ذلك، ثم قال: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:27]، {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} [النور:27] وكذلك إذا كان يوجد لك محارم في هذا البيت وأردت أن تدخل فتستأذن أيضاً على الدخول على المحارم، إلا أن تكون الزوجة فهنا لا يجب الاستئذان في الدخول على الزوجة، والعكس الزوجة مع الزوج وإنما هذا الأفضل، فالأفضل أن يستأنس وألا يفزع أهل البيت بأن يدخل فجأة عليهم. {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا} [النور:28] يعني: في هذه البيوت إذا لم تجدوا أحداً فيها فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم. ومن الآداب أن الإنسان إذا جاء بيتاً واستأنس واستأذن وسلم ولم يرد عليه، وعلم أنه يوجد أحد بداخل البيت فطالما لم يؤذن له فليس له أن يدخل هذا البيت. {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} [النور:28]، فالبيوت لها حرمات، فعلى ذلك فليس من حقك أن تدخل بيتاً غير بيتك حتى تستأنس، وتسلم على أهله، ويؤذن لك بذلك. جاء عن قتادة قال: قال رجل من المهاجرين: لقد طلبت عمري هذه الآية -يعني: قوله سبحانه: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا} [النور:28]- فما أدركتها: أن أستأذن على بعض إخواني فيقول لي: ارجع وأنا مغتبط. قال سبحانه: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا} [النور:28]. وهذا أدب آخر من الآداب أن صاحب البيت قد يقول لك: ارجع، سواء كان له عذر في ردك أو لا، فعليك أن ترجع ولا تغضب قال تعالى: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُم} [النور:28] يعني: أطيب وأطهر لكم، فحين رجعت بزكاء نفسك طيب الله عز وجل قلبك، وأعطاك الثواب على استجابتك لأمر الشارع الحكيم. فانظر إلى قصة المهاجر السابقة الذي أراد أن يطبق الآية على نفسه، ويتمنى أن يستأذن فيقال له: ارجع، فيرجع بهذا الأجر والثواب الذي قال الله عز وجل عنه: {هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:28]. يعني: أنك استجبت لدين ربنا سبحانه، فترجع وقد طهر الله عز وجل قلبك، وجعل نفسك زاكية، وجعل لك أجراً عظيماً عنده. وهناك فرق بين هؤلاء وبيننا، فنحن إذا ذهب أحدنا إلى آخر فقال له: ارجع، غضب غضباً شديداً، وتألم لذلك، وأما هم فبالعكس تماماً، فهذه الآداب الشرعية لا بد أن نلتزم بها، ودين الله عز وجل يعلم الإنسان المؤمن الذوق، والأدب الراقي، ويعلمه أنه لا يغضب من الحق، وهذا هو معنى الاستئذان فإما أن يسمح لك بالدخول أو لا، فطالما أنك رضخت للإذن فارضخ للجواب. وقد علمهم الله تعالى في الآية الأخرى كيف أنهم يستأذنون على النبي صلى الله عليه وسلم إذا دعاهم إلى طعام، فقال: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} [الأحزاب:53]، فالأصل أنه إذا دعاك لطعام أن تذهب في وقت الطعام ولا تذهب قبل ذلك، فإذا كانت الوليمة بالليل فلا تذهب من أول النهار وتنتظر، قال: {وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} [الأحزاب:53] أي: بعد ما انتهيتم من الطعام فانصرفوا. وعند الدعوة تذهب على وقتها، فإذا قيل لك: أنا أدعوك للطعام عندي في وقت المغرب، فلا تذهب من العصر. وهنا ربنا سبحانه وتعالى يقول: {وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} [الأحزاب:53]، فالدعوة يليها الدخول بعد الإذن، ثم إذا طعمت فانتشر، ويقول لنا: {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [الأحزاب:53] بمعنى: طبخ الطعام ونضجه، ولكن اذهب في وقت نضج الطعام، فتأكل وتنصرف، وهذا الأدب علمه الله عز وجل للمؤمنين هو مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع غيره عليه الصلاة والسلام. يقول الإمام القرطبي: إذا ثبت أن الإذن شرط في دخول المنزل فإنه يجوز من الصغير والكبير، يعني: الذي يستأذن سواء كان صغيراً أو كبيراًَ، والذي يأذن سواء كان صغيراً أو كبيراً، فصاحب البيت قد يبعث إليك ابنه يحضرك فيكون قد أذن لك في الدخول فتدخل؛ لأنه وكيل أو مبلغ عن صاحب البيت، وسواء كان هذا الصغير دون البلوغ أو فوق البلوغ، وكان أنس بن مالك رضي الله عنه دون البلوغ وكان يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يخدمه، ومع ذلك يستأذن عليه في دخوله، ويجلس معه ثم ينصرف في قضاء حوائج النبي صلى الله عليه وسلم. قال الله سبحانه: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [النور:28] يعني: أن الله يراقبكم ويعلم ما تعملون، فإذا راقبكم وعلم ما تعملون فإنه سيحاسبكم عليه يوم القيامة، وكأنه يهدد الإنسان: أنك إذا لم تلتزم بهذه الآداب الشرعية ولم تلتزم بشرع الله عز وجل فالله يحاسبك على هذا الذي فعلت يوم القيامة. ويكون هذا توعد لأهل التجسس على البيوت, وطلب الدخول على غفلة لفعل المعاصي، والنظر إلى ما لا يحل وما لا يجوز، ولغيرهم ممن يقع في المحظور. فتعلمنا من الآيات كيف نستأذن، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستأذن، ويعلم أصحابه ألا يستقبلوا الباب بوجوههم، ولكن عن يمين الباب أو عن شمال الباب؛ حتى لا تقع العين على ما في الداخل. ولو أن إنساناً وقف أمام الباب متغافلاً ويقصد أنه إذا انفتح البيت فإنه ينظر إلى داخل البيت، فالله عز وجل يهدده ويقول: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [النور:28]، فيمكن أن يظهر أمام الناس أنه غافل، لكن ما في قلبه يعلمه الله سبحانه. فمن تجسس على البيوت أو طلب أن يدخل على غفلة من أهل البيت حتى يرى ما لا يجوز له، أو أنه ينظر من خارج البيت إلى ما لا يحل له، فهؤلاء جميعهم الله عز وجل يقول لهم ولغيرهم: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [النور:28].

تفسير قوله تعالى: (ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة)

تفسير قوله تعالى: (ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة) قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} [النور:29] البيوت نوعان: بيوت مسكونة، وبيوت غير مسكونة، فالبيوت المسكونة: إما بيوتكم أو بيوت غيركم، فتتعلم الاستئذان في الجميع، إلا الرجل مع امرأته. وإذا كانت بيوتاً غير مسكونة مثل أن ينزل في فندق مثلاً ويحجز غرفة فإنه يدخلها بلا إذن؛ لأنه ليس بداخلها أحد أصلاً. أو إنسان دخل دورات مياه في الطريق وهي خالية فلا حرج في ذلك. فإذا كانت أماكن فيها منافع للإنسان وليس فيها أحد فلا يوجد إذن ولا معنى للإذن، فيقول: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} [النور:29] يعني: ليس فيها أحد من الناس، ولكن {فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} [النور:29] يعني: فيها منفعة لك كالدخول لقضاء حاجة أو نحو ذلك. يقول جابر بن زيد: ليس يعني بالمتاع: الجهاز، ولكن ما سواه من الحاجة، إما منزل ينزله قوم في ليل أو نهار، أو خربة يدخلها لقضاء حاجة، أو جاء ينظر إليها فهذا متاع، وكل منافع الدنيا متاع. والمعنى: أن البيت غير المسكون ليس شرطاً أن يكون معداً للنزول فقط، ولكن قد يكون بيتاً للنزول وليس فيه أحد، أو أنه مكان لقضاء الحاجة، أو بستان، أو طريق يأتيه الإنسان لقضاء حاجة من حوائجه، فليس فيه أحد فيجوز له أن يدخل هذا المكان من غير استئذان. يقول سبحانه: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [النور:29]، قد يبدي الإنسان الخير والله عز وجل يعلم أنه يضمر الشر، فما خفي على الناس فلا يخفى على الله سبحانه وتعالى، فالله يعلم ما تبدون من خير أو شر، وما تخفون من خير أو شر.

تفسير قوله تعالى: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم)

تفسير قوله تعالى: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم) أمر الله المؤمنين بعد ذلك ويقول: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30]، فأمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبلغ المؤمنين بهذا الأمر: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30]، وسورة النور أول ما بدأها سبحانه وتعالى بأن ذكر حد الزاني والزانية، ومن مقدمات الزنا: النظر، فلذلك هنا أمر بغض الطرف، يعني: اخفض بصرك، ولا ترفعه فتنظر إلى ما يحرم، وقلل من النظر إلى الأشياء حتى لا تقع في الحرام، قال تعالى: {يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30]، وما قال: يغضوا أبصارهم وفرق بين يغضوا أبصارهم، ويَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ، فالبصر نعمة من النعم، فتنظر إلى ما يحل لك، وتنظر إلى ما تحتاج إليه، وتنظر إلى أشياء فيها منفعة لك، وتنظر فتعلم أن هذا فيه خير لك أم أنه ليس كذلك. والبضاعة تشتريها فتنظر إليها، ولكن إذا وصلت للحرام هنا يقول لك: غض من البصر، ولم يقل: غض بصرك فتبقى دائماً تنظر في الأرض ولا تنظر إلى ما أحل لك، وأبغض النظرات هي النظرات المحرمة، وذلك إذا وجدت الفتن، وإذا وجد ما يحرم على الإنسان أن ينظر إليه من امرأة أجنبية، أو أمرد حسن وغير ذلك مما لا يجوز له أن ينظر إليه، فعلى ذلك يغض بصره في هذه الأحوال، والأصل أنه يباح له أن ينظر إلى ما يحل، فإذا عرض شيء يحرم فنظر إليه فله النظرة الأولى، وعليه النظرة الثانية، كأن يكون الإنسان ماش في الطريق وفجأة رأى أمامه ما يحرم عليه، وهو لم يتعمد ذلك فيغض البصر، فإذا استدام البصر فهنا يأثم على ذلك. جاء في صحيح البخاري أن سعيد بن أبي الحسن قال للحسن بن أبي الحسن أخيه: إن نساء العجم يكشفن صدورهن ورءوسهن، يعني: حين يخرجون للجهاد في سبيل الله عز وجل فيصلون إلى الأماكن التي فيها الكافرات فتكون المرأة كاشفة عن وجهها، وعن شعرها، وكاشفة عن صدرها. قال: اصرف بصرك، يقول الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30]. وقال قتادة: عما لا يحل لهم. قال تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31]، فيحفظ الإنسان نظره عن أن يقع في خائنة عين، فينظر إلى ما نهى الله عز وجل عنه، يقول الإمام القرطبي: البصر هو الباب الأكبر للقلب، وأعمر طرق الحواس إليه، فإن نظر الإنسان لشيء فسرعان ما يشتهي قلبه هذا الشيء الذي نظر إليه، وبحسب ذلك كثر السقوط من جهته -يعني: من جهة البصر، فينظر الإنسان ولا يزال ينظر حتى يقع في الشيء المحرم- فيجب التحذير منه، وغضه واجب عن جميع المحرمات، وكل ما يخشى الفتنة من أجله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (إياكم والجلوس في الطرقات)، يحذرهم من أن يجلسوا في الطرقات. فقالوا: (يا رسول الله! ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها، فقال: فإذا أبيتم إلا الجلوس فأعطوا الطريق حقه)، فطالما أنكم ستقعد في الطريق وليس لكم أماكن أخرى فافعلوا، وقد كان العرب ليس لهم بيوت ولا نوادٍ للجلوس فيها، وكانت بيوتهم ضيقة، فكان المكان الذي يجتمعون فيه إما المسجد وإما الطريق، فيجتمعون في الطريق، فحذرهم النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، فقالوا: ما لنا منها بد، أي: نحن نحتاج لهذا من أجل أن نتحدث في أشياء، أو يرشد بعضنا بعضاً، فقال: (فإذا أبيتم إلا ذلك فأعطوا الطريق حقه، قالوا: ما حق الطريق؟ قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، فهذه خمسة حقوق للطريق، فالمار في الطريق يحرم عليه أن ينظر إلى ما حرم الله عز وجل، والذي يحط في الطريق أشياء يحرم النظر إليها يأثم إثماً عظيماً؛ كأن يخرج الرجل ابنته أو امرأته متبرجة إلى الطريق، أو يعلق صور نساء عاريات في الطريق، فإذا كان النظر إلى ذلك حراماً، فالذي يجعل ذلك أشد إثماًَ، وواقع في الحرمة الشديدة بسبب ذلك. ثم قال: (وكف الأذى) أي: أنك لا تؤذي أحداً من المسلمين، والدين يعلمك أنك تكون رفيقاً لا عنيفاً، وترشد الناس برفق، فتأمر بالمعروف تبتغي أن يهدي الله عز وجل الناس بك، وتنهى عن المنكر حتى يقل، وإذا كان النهي عن المنكر سيسبب منكراً أكبر فلا داعي للنهي عنه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، وعلمهم ربنا سبحانه وتعالى فقال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125]. ومن حقوق الطريق: رد السلام، فإذا مر بك إنسان وسلم عليك وجب عليك أن ترد عليه السلام. وقد جاءت أحاديث أخر بحقوق أخرى مثل: إرشاد الطريق، وإعانة الإنسان الذي يحمل شيئاً على دابته، أو يحمل على ظهره فتعينه على ذلك، وتغيث الملهوف والمحتاج. جاء في حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد سأله عن نظر الفجأة، فقال صلى الله عليه وسلم: (اصرف بصرك)، وقال: (لا تتبع النظرة النظرة) يعني: لو فرضنا أنك كنت ماشياً فوقع بصرك على شيء محرم فتغض البصر ولا تنظر مرة أخرى، قال: (لا تتبع النظرة النظرة؛ فإنما لك الأولى وليست لك الثانية). قال الإمام الأوزاعي: حدثني هارون بن رئاب أن غزوان وأبا موسى الأشعري كانا في بعض مغازيهم، فكشفت جارية فنظر إليها غزوان وهو أحد التابعين، فلما نظر إليها راجع نفسه ولطم نفسه على عينه ففقأها. ثم قال لعينه: إنك للحاظة إلى ما يضرك ولا ينفعك. فلقي أبا موسى الأشعري الصحابي الفاضل الفقيه رضي الله عنه، فقال له أبو موسى: ظلمت عينك، فاستغفر الله وتب. يعني: أنت نظرت والعين أداة، ولكن القلب والعقل هما اللذان يوجهانها، وليس مطلوب منك ذلك، فقد ظلمت عينك فإن لها أول نظرة، وعليها ما كان بعد ذلك. قال الأوزاعي: وكان غزوان ملك نفسه، فلم يضحك حتى مات رضي الله وتعالى عنه. يعني: كان يتعهد نفسه بالتأديب أنه لا يضحك فيما لا يليق مثلاً، أو أنه من شدة خوفه من الموت والحساب كان يحاسب نفسه على أعماله وأقواله وضحكاته. وفي صحيح مسلم عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجاءة، فأمرني أن أصرف بصري)، فالإنسان المؤمن إذا نظر إلى شيء يحرم عليه من صورة إنسان أمرد فعليه أن يغض البصر، وكما يقال: النظرة سهم من سهام إبليس. فكلما نظر الإنسان إلى شيء وأطال النظر إليه أورث في قلبه نوعاً من العشق لهذا الشيء، وشيئاً فشيئاً حتى يقع في الحرام، والقلب والفرج يصدق ذلك أو يكذبه، لذلك فالإنسان الذي في البرّ لا يدخل نفسه في اللجة فيغرق. فإذا نظر إلى الشيء فالعين تستحلي النظر، والقلب يدفع إلى ذلك ولكن إذا غض البصر من أوله عصمه الله عز وجل، وأورثه في قلبه إيماناً، وأذاقه الله عز وجل حلاوة الإيمان في قلبه بذلك. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وعلى طاعته وغض أبصارنا وكف أيدينا، وحفظ فروجنا، نسأل الله عز وجل أن يعيننا في الدنيا على طاعته، وفي الآخرة على جنته.

تفسير سورة النور [30 - 31]

تفسير سورة النور [30 - 31] يأمر الله سبحانه المؤمنين أن يغضوا أبصارهم عن الحرام؛ لأن البصر هو بوابة الوقوع في كبيرة الزنا، وبيَّن سبحانه أن غض البصر أزكى للمؤمن وأطهر لقلبه؛ لأن المؤمن إذا فعل الطاعات واجتنب المعاصي والسيئات زكت نفسه وطهرت، ولأهمية غض البصر أمر الله عز وجل المؤمنات بأمر خاص أن يغضضن من أبصارهن، مع أنهن قد دخلن بالتبع في قوله: (قل للمؤمنين).

تفسير قوله تعالى: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون)

تفسير قوله تعالى: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة النور: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:30 - 31]. لقد أمر الله عز وجل عباده المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم، وأن يحفظوا فروجهم، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30]، فهذا أمر من الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر أمته بغض البصر. وغض البصر: هو خفض البصر وعدم النظر إلى ما حرمه الله سبحانه وتعالى، وبدأ بذكر البصر لأن البصر يوصل الإثم إلى الفرج، فغض البصر يجعل في قلب الإنسان الإيمان، ويحصنه من الوقوع في الزنا؛ لأن البصر يرسل النظرة إلى النفس فتتشهى، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه، فبدأ بالسبب الذي يؤدي للنتيجة وهي الوقوع في الفاحشة. وكلمة المؤمنون يدخل فيها الذكور بالأصل والإناث بالتبع، وكذلك نقول لمجموعة من الناس: هؤلاء مسلمون، فهذه الكلمة وإن كانت جمع للذكور لكن يدخل تحتها الإناث، وإنما غلب الذكور، فكان من الممكن أن يكتفى بذلك وتكون الآية للمؤمنين والمؤمنات جميعاً، ولكن الله سبحانه وتعالى ذكر المؤمنين الذكور وذكر المؤمنات حتى لا تظن المرأة أن هذا خطاب للرجال فقط، فأكد أنها مقصودة بالآية التي تليها. قوله: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} توكيد لهذا الشيء، وقد ورد في القرآن أوامر يأمر الله عز وجل المؤمنين بها بصيغة: يا أيها الذين آمنوا فيدخل فيها الرجال والنساء، ولكن عندما يكون الأمر أمراً خطيراً يحتاج لأن ينبه عليه الجميع، وأن كل إنسان سيسأل عن هذا الأمر يوم القيامة، فإنه يذكر الرجال ويذكر النساء، فهنا السورة في أولها ذكرت الزانية والزاني، ولو كان ذكر الزاني فقط لعرفنا أنه يدخل فيه الزانية أيضاً، ولكن للتأكيد على أن الرجل الذي يقع في هذه الفاحشة مسؤول يوم القيامة والمرأة كذلك، وحتى لا يكون لأحد عذر ذكر الله الرجال والنساء، وعندما جاء ذكر حكم كبيرة من الكبائر قال الله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} [المائدة:38]، فنص على الرجل ونص على المرأة، وكذلك عندما تظن البعض من المؤمنات أن الرجال مذكورون في القرآن وحدهم بأن لهم أجراً كبيراً، والنساء بالتبع تأتي الآية وتقول: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ} [الأحزاب:35] إلى آخر هذه الآية، فيذكر الرجال ويذكر النساء، ولو ذكر الرجال لكفى ويدخل تحته النساء، ولكن لبيان أن هؤلاء يثابون، وأيضاً هؤلاء يثبن على ما يفعلن من الأعمال الصالحة، ومن هذا الباب جاء التأكيد وأن كل إنسان رجل كان أو امرأة سيسأل يوم القيامة عن هذا الأمر، فالرجل مطلوب منه غض البصر، والمرأة أيضاً مطلوب منها غض البصر. (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ)، حفظ الفرج: هو أن يستره عن أن يراه من لا يحل له أن ينظر إليه، والمعنى الآخر: ستر الفرج عن الوقوع في الفاحشة. فعندما قال الله تعالى: (يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) لأن بصر الإنسان حاسة يحتاج إلى النظر بها رجلاً كان أو امرأة، ولكن الفرج الأصل فيه الستر والحفظ فلم يقل: ويحفظوا من فروجهم، ولو قال ذلك لكان معنىً صحيحاً، لأن الإنسان يحفظ فرجه إلا عما يحل له، ولكن لما كان الأصل في النظر أن ينظر الإنسان، قال: (يغضوا من أبصارهم) أي: بعضاً من هذه الأبصار، وهو النظر المحرم، ويباح ما سوى ذلك، لكن الفرج على العكس من ذلك، فالأصل فيه الستر والحفظ، فلم يقل: (من فروجهم) ولكن قال: (وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ). قوله: (ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) (ذَلِكَ): أي: الغض والحفظ. (أَزْكَى لَهُمْ) أي: أطهر لهم، والإنسان كلما عمل طاعة زكى نفسه، {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9 - 10]، وكلما زكاه الله عز وجل وطهره أورثه إيماناً في قلبه، والإيمان يزيد وينقص، فيزيد الله عز وجل المؤمنين هدىً، ويزيدهم إيماناً بطاعتهم له سبحانه وتعالى، وينقص الإيمان بمعصية الإنسان لربه سبحانه، ولا يزال الإيمان ينقص حتى يضيع بالكلية، لذلك فالمؤمن يحرص على المحافظة على إيمانه بطاعة الله سبحانه، وعلى أن يزداد إيمانه بذكره لله سبحانه وبالعمل الصالح، فغض البصر يجعل للإنسان في قلبه نوراً، ولذلك جاء عن الإمام الشافعي رحمه الله أنه قال: شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي وأخبرني بأن العلم نور ونور الله لا يهدى لعاصي فالإنسان العاصي يبتعد عنه نور الإيمان، والإنسان المطيع يمتلئ قلبه نوراً، فيعرف ما الذي يفعل ويعرف ما الذي يجتنب. (ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ) أي: غض البصر، وحفظ الفرج. (إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ) الخبرة: هي العلم الدقيق بخفايا الشيء وخباياه، وخفايا النفوس وخفايا الأعين، فالله خبير سبحانه وتعالى. (بِمَا يَصْنَعُونَ) بما يصنع الرجل وبما تصنع المرأة، وبما يتصنع الرجل وبما تتصنع المرأة، فالله خبير بما يبديه هذا الإنسان وبما يخفيه، وبما يصنعه لله عز وجل وما يصنعه لغير الله سبحانه وتعالى. وقد جاء في حديث بهز بن حكيم بن معاوية القشيري عن أبيه عن جده قال: (قلت: يا رسول الله! عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟! قال صلى الله عليه وسلم: احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك) أي: أن الأصل الستر وحفظ العورة. (فقال: الرجل يكون مع الرجل) وكان أهل الجاهلية لا يستحيون من هذا الشيء. (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن استطعت ألا يراها أحد فافعل) أي إن استطعت أن تستتر ولا يرى سوءتك أحد أبداً فافعل، (قال قلت: فالرجل يكون خالياً؟!) أي: وحيداً في البيت، (فقال صلى الله عليه وسلم: الله أحق أن يستحيا منه من الناس)، فالإنسان يستحيي من ربه سبحانه أن يقعد متجرداً، وإن كان ليس محرماً عليه إذا كان في حمام أو نحو ذلك فتجرد من ثيابه لحاجة، ولكن إذا كان يستحيي من الناس فليستحيي من الله سبحانه وتعالى.

حكم دخول الحمام

حكم دخول الحمام يقول الإمام القرطبي رحمه الله: بهذه الآية حرم العلماء نصاً دخول الحمام بدون مئزر، والمقصود بالحمام هنا: الحمام العمومي، وهو مكان يدخله الناس كلهم يستحمون فيه، وفي الماضي لم يكن هناك حمامات في البيوت، ولم يكن يوجد دورات مياه في البيوت، فكان الصحابة رضوان الله عليهم إذا أراد أحدهم أن يأتي الخلاء فإنه يخرج إلى البقيع فيقضي حاجته ثم يرجع إلى بيته، والنساء كن يخرجن من الليل إلى الليل إلى المناصع -مكان- فتخرج المرأة مع امرأة أخرى لقضاء الحاجة، فكان أمراً صعباً جداً، وهذه كانت عادة العرب في أول الأمر، ثم بعد ذلك فتح الله عز وجل عليهم وأصبحت البيوت بها دورات مياه، ولكن كانت المياه باردة فكانوا يحتاجون لتسخين المياه للاستحمام، ولم يكن البيوت يوجد بها هذا الشيء، فكانوا يحتاجون أن يخرجوا إلى الحمام -وهو مكان فيه نار يخرج منها ماء-، فيذهب الناس يستحمون فيه، والحمام مأخوذ من الحميم، والحميم هو اللهب والنار، فكانوا يذهبون إلى المكان الذي فيه الحميم، ليستحموا بالماء الساخن، فكان البعض من الناس يدخلون ويتكشفون في هذا المكان، فحذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، ولم يكن ذلك مشهوراً عند الصحابة، ولكن لما فتحوا الفتوح بدأوا يذهبون إلى بلاد الشام ويجدون هذه الحمامات، ويذهبون إلى بلاد العراق ويجدون هذه الحمامات ولم يكن معروفاً في المدينة هذا الشيء إلا على سبيل الندرة. فإذا دخل الإنسان حماماً عمومياً فلا بد له أن يستر ما بين سرته وركبتيه. وقد جاء عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: أطيب ما أنفق الرجل درهم يعطيه للحمام في خلوة. فذكر في خلوة، وإن وجد إنسان فيه فليكن هذا مستتر والآخر مثله. وصح أن ابن عباس رضي الله عنه أنه دخل الحمام وهو محرم بالجحفة، فقالوا: يجوز للرجال أن يدخلوا الحمام بالمآزر، ولكن يستر من سرته إلى فخذه. قالوا: وكذلك النساء للضرورة، ويشدد في أمر النساء، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي ترويه أم سلمة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده! ما من امرأة تضع ثيابها في غير بيت أحد من أمهاتها إلا وهي هاتكة كل ستر بينها وبين الرحمن عز وجل) إن من النساء في زماننا هذا من تنزع ثيابها في الحمام، وفي بيت غير بيتها، ونراها تمشي كاسية عارية، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنها تهتك الستر الذي بينها وبين الله عز وجل، أي: تستحق من الله أن يفضحها وأن يعاقبها في الدنيا وفي الآخرة، فقال: (إلا وهي هاتكة كل ستر بينها وبين الرحمن عز وجل). وأيضاً جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (احذروا بيتاً يقال له: الحمام) الحديث رواه الطبراني والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان من حديث ابن عباس، وصححه الشيخ الألباني قالوا: يا رسول الله! ننقي الوسخ، قال: فاستتروا) أي: إذا كنت تحتاج أن تذهب إلى هذا المكان فلا بد أن تكون مستتراًَ ولا تكون متجرداً. يقول الإمام القرطبي رحمه الله: وأما دخول الحمام في هذا الزمان فحرام على أهل الفضل والدين. والمقصود بالزمان زمن القرطبي، وقد كان في القرن السابع رحمه الله تعالى. قال: لغلبة الجهل على الناس، واستسهالهم إذا توسطوا الحمام رمي مآزرهم أي: أنه يدخل الحمام وعندما يكون في وسط الناس يخلع ثيابه فتبدو عورته أمام الناس، وهذا محرم. يقول رحمه الله: حتى يرى الرجل البهي ذو الشيبة قائماً وسط الحمام وخارجه بادية عورته، فهذا أمر بين الرجال، فكيف بين النساء؟! لاسيما بالديار المصرية. هذا كلام القرطبي، وأصله من قرطبة، وسكن في صعيد مصر، ومات فيها رحمه الله تعالى، وعندما رأى أشياء كثيرة في مصر قال: لاسيما بالديار المصرية؛ فإن حماماتهم خالية عن المظاهر التي هي عن أعين الناس سواتر، أي: أن الأشياء التي تستر الناس في حماماتهم قد خلت منها الحمامات المصرية، فكيف لو أتى في هذا الزمان ورأى البحار التي بها العري ولا حول ولا قوة إلا بالله.

شروط دخول الحمامات العامة

شروط دخول الحمامات العامة يقول رحمه الله: قال العلماء: فإن استتر فليدخل بعشرة شروط: الأول: ألا يدخل إلا بنية التداوي، أو بنية التطهير عن الرحضاء، أي: أن يكون محتاجاً لهذا الشيء، فإن لم يكن محتاجاً فلا يذهب. الثاني: أن يتعمد أوقات الخلوة أو قلة الناس. فلا يذهب في وقت يكثر الناس فيه؛ لأنه قد يكون منهم من لا يستحيي فينكشف أمام هذا الداخل. الثالث: أن يستر عورته بإزار صفيق، والإزار: هو ثوب يستره من سرته إلى ركبته أو أسفل من ذلك، ومعنى صفيق: أي متين وغليظ. الرابع: أن يكون نظره إلى الأرض، أو يستقبل الحائط؛ لئلا يقع بصره على محظور، أي: إذا ذهب محتاجاً إلى هذا المكان فليكن بصره للحائط أو للأرض؛ حتى لا ينظر إلى شيء محظور. الخامس: أن يغير ما يرى من منكر برفق، فيقول: استتر سترك الله، أي: أن يأمر غيره بالاستتار برفق. السادس: إن دلكه أحد فلا يمكنه من عورته: من سرته إلى ركبته إلا امرأته أو جاريته. السابع: أن يدخله بأجرة معلومة بشرط أو بعادة الناس. الثامن: أن يصب الماء على قدر الحاجة. التاسع: إن لم يقدر على دخوله وحده اتفق مع قوم يحفظون أديانهم على كرائه، أي: عندما يحب أن يدخل مع الناس فلينتظر إلى أن يأتي أناس محترمون أهل دين فيذهب معهم، بحيث يكون في وسط أناس لهم خلق ودين واستتار. العاشر: أن يتذكر به جهنم، أي: إذا رأى النار تذكر نار جهنم، فيعينه ذلك على الاستتار وعلى غض البصر. هذه الشروط في الحمام المصري الذي يكون مقفلاً فكيف الحال بالبحر المفتوح الذي فيه الرجال والنساء، فممنوع أن يذهب المسلم إلى مثل هذا المكان فيكون في وسط الناس ويقول: أغض بصري! كيف سيغض بصره؟! إلا أن يكون على الصورة التي ذكرها القرطبي أن يذهب في وسط أناس من أهل الخير والتقوى في وقت خال مثل الفجر أو غيره. فالمرء المسلم يخاف من الله سبحانه وتعالى، ويحافظ على نفسه، وعلى دينه، ويغض بصره، ولا يذهب إلى مكان يرى فيه الفحش أمامه ولا يقدر على إنكار شيء منه، وقد عمت الفواحش في الناس ولا حول ولا قوة إلا بالله، والله يقول في كتابه: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25]، فالإنسان عندما يختلط بأهل السفه وأهل العري يسهل عليه أن يكون مثلهم، فتجده يذهب إلى البحر وينزل في وسط الناس، ويقف بينهم وفخذاه ظاهرتان، فيهين نفسه شيئاً فشيئاً، حتى يهون في نفسه، ويهون عليه دينه، وينسى ربه سبحانه وتعالى. فالمسلم دائماً عصمته في الالتجاء إلى الله عز وجل، وفي كونه مع جماعة المسلمين وإخوانه الصالحين، فإذا ذهب إلى مكان فليذهب إلى المكان الذي به أهل الصلاح، وليحرص على أن يطيع الله سبحانه وتعالى، ويغض بصره؛ لأن الإنسان إذا نظر إلى شيء سرعان ما يتساهل ويتأول لنفسه حتى يقع في الفاحشة والعياذ بالله، ولنأخذ العبرة من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا أخذهم الطاعون والأمراض التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا من قبل)، فتجد الناس يتساهلون في الحرام وفي المنكر وفي العري، ثم يختلط الرجال بالنساء، وبعد ذلك يقعون في الفاحشة، فيأتي العذاب من عند الله سبحانه وتعالى، وهذا ما نسمع عنه في هذه الأيام، فهناك وباء ظهر في الصين وبدأ ينتشر في شرق آسيا وغيرها، وهو وباء (سارس)، وهو التهاب رئوي، وهو: ميكروب ضعيف جداً، والقضاء عليه في خارج جسم الإنسان لا يستغرق خمس دقائق بكلور أو بغيره، أما إذا دخل جسم الإنسان فإنه ليس له علاج، فلم يجدوا له علاجاً إلى الآن، وقد أخذ ينتشر، فالآلاف من الناس يموتون من هذا المرض، وقد قرأنا في الصحف أن الصين يقولون: نريد أن نرجع إلى تقاليدنا القديمة، فلا داعي لأن يقُبِّل الناس بعضهم بعضاً، لقد بدءوا يعرفون سبب الأمراض، فهم عندما يقبلون بعضهم يقعون في الفواحش فيبتليهم الله عز وجل بالأمراض، فمرض الهربس والسيلان والإيدز يأتي من المباشرة الجنسية، فقالوا: لا بد من وضع واقٍ لكي لا يأتي بالمباشرة، ولكن هذا الميكروب أصبح ينتقل إليهم عن طريق التنفس، يخادعون الله سبحانه وتعالى وهو خادعهم، ويريدون أن يعجزوا ربهم سبحانه وتعالى؟! وهيهات أن يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. وقد قالت وزيرة الصحة الصينية ونائبة رئيس الوزراء: نريد أن نرجع إلى التقاليد القديمة، لا داعي لأن يقبل أحدنا الآخر، لا داعي حتى أن يصافح أحدنا الآخر، يريدون أن يسلموا بالإشارة فقط، لقد بدءوا يعرفون أن الفاحشة التي يقعون فيها هي التي تجلب لهم المصائب والأمراض، وكلما كثرت الفواحش في الناس ابتلاهم الله عز وجل، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها)، وأما إذا كانت الفاحشة مستترة فإن الله قد يستر على عباده، حتى إذا أعلنوها بين الناس ضربهم الله بالطاعون والأمراض التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة النور (تابع) [30 - 31]

تفسير سورة النور (تابع) [30 - 31] من حكمة الله عز وجل أن أمر بغض البصر وحفظ الفرج؛ حتى لا تشيع الفاحشة وتنتشر الجريمة، وحتى يتمكن الإنسان من غض بصره وحفظ فرجه عن المحرمات أمر الله عز وجل النساء بعدم الخروج سافرات، ونهاهن عن التبرج حتى لا يفتن بهن الرجال، وسداً لذريعة الفساد، وإغلاقاً لأبواب الفتن.

الأمر بغض البصر وحفظ الفرج

الأمر بغض البصر وحفظ الفرج الحمد لله رب العالمين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة النور: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:30 - 31]. في هاتين الآيتين من سورة النور يأمر الله عز وجل المؤمنين رجالاً ونساءً بأمرين: غض الأبصار، وحفظ الفروج. ثم ذكر للنساء مزيد تأكيد في ذلك فقال: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] إلى آخر ما ذكره سبحانه وتعالى. ففيه أن هذا الدين العظيم جعل حدوداً للإنسان، وليس من حق الإنسان أن يقتحم هذه الحدود التي جعلها الله عز وجل حماية له ولغيره، فبصر الإنسان خلقه الله عز وجل لينظر به إلى ما ينفعه، وحرم عليه النظر به إلى ما يضره، فليحذر الإنسان وليغض بصره، كما أمر الله عز وجل بقوله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30]، ولم يقل: قل للناس، ولكن قال: قل للمؤمنين، تهييجاً لداعي الإيمان في القلوب، فإذا كان العبد مؤمناً فسوف ينفذ ما أمره الله عز وجل به. وقوله: (يغضوا من أبصارهم)، (ويغضضن من أبصارهن) أي: من بعض النظر وليس من جميع النظر، وإلا فالعين خلقت لكي تنظر وتبصر، ويتأمل بها الإنسان ما يريد أن يتأمله، ويبصر بها ما يريد أن ينظر إليه. فيكون غض البصر، واخفض الطرف عن الحرام. قال تعالى: {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30]، وكأن البصر علاقته بقلب الإنسان وبفرجه علاقة شديدة وقوية، فلذلك هنا عقب بعد غض البصر بحفظ الفرج، فقال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30]، ولما كان الأصل في البصر: غض بعضه، قال: عضوا من أبصاركم، ولما كان الأصل في الفرج: الحفظ، قال: احفظوا فروجكم كاملة، فأمرهم بحفظ الفرج عن كل ما حرم الله سبحانه وتعالى إلا ما يباح للإنسان من زوجته أو ملكت يمينه. قال الله تعالى: {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور:30] أي: أطيب وأطهر لهم، وقد مدح الله عز وجل المؤمنين الذين يتطهرون بقول: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222]، وقال عن الذين يزكون أنفسهم ويطهرونها: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:9]، فيزكي نفسه أي: يطهرها بطاعة الله سبحانه والبعد عن محارمه. {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:10] أي: أوقعها في الرجس والنجس والخبث، وفيما حرم الله عز وجل من المعاصي ومن الذنوب، فالمؤمن يزكي نفسه بمعنى: يطهرها. وفرق بين التزكية التي يريدها الله عز وجل من العبد، والتزكية التي يمنع منها العبد، كما في قوله تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32] أي: لا تمدحوا أنفسكم بالأوصاف التي فيها المدح، بمعنى: لا تجعل نفسك أفضل من غيرك بهذه الصفات، ولكن الله أعلم بما في القلوب، وهو أعلم بأهل التقوى سبحانه، فقوله تعالى: {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:10] أي: قد أفلح من زكاها بالعمل وليس بالقول وقوله تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ} [النجم:32] أي: بالأقوال، وبمدح بعضكم بعضاً، فتقطعوا ظهور إخوانكم بهذا المديح الذي لا ينبني عليه إلا العجب والرياء والافتخار، ولكن زكوها بتقوى الله عز وجل، وبفعل الطاعات، فمن كان كذلك فهو مفلح، فيزكيه الله عز وجل ويطهر قلبه، ويعصمه من الشيطان: {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30]. وأمر الله المؤمنات بما أمر به المؤمنين، فقال: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31]، فبغض الإنسان بصره: يحافظ على فرجه وإيمانه، ويحافظ على قلبه من الشهوات والشبهات؛ لأن الإنسان إذا أطلق لبصره العنان، ونظر إلى ما حرم الله: اشتهى هذا الذي حرمه الله، فوقع في العشق الحرام، وبعد ذلك يستبيح الحرمات التي حرمها الله سبحانه وتعالى.

التحذير من فتنة النساء وما يقع في آخر الزمان

التحذير من فتنة النساء وما يقع في آخر الزمان لقد ذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم أن أشد ما يخشاه على هذه الأمة هو فتنة النساء، فقال: (اتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن فتنة بني إسرائيل كانت في النساء). فخاف صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة من النساء، وأمر المرأة بأن تحتجب، وقال: (المرأة عورة)، كما أمرها الله عز وجل ألا تبدي زينتها إلا لمحارمها، فإذا أبدت المرأة زينتها للأجانب عنها أوقعت نفسها في الفتنة، وأوقعتهم في ما حرم الله سبحانه وتعالى، فأوشك الناس أن يستبيحوا للزنا، وهذا هو الحاصل في هذا الزمان ولا حول ولا قوة إلا بالله، فقد أصبح الإنسان يترخص في شرع الله سبحانه، وينسى دينه، ويقع في المحرمات، رجالاً ونساء، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البزار وابن حبان عن عبد الله بن عمرو بن العاص: (لا تقوم الساعة حتى يتسافدوا في الطريق تسافد الحمير. قال: قلت: إن ذلك لكائن؟ قال: نعم، ليكونن)، فلا تقوم الساعة حتى يحدث ذلك، وقوله (يتسافدوا في الطريق) أي: يزني الرجل بالمرأة في الطريق. وهذا ما يحدث في دول الغرب، ففي الحدائق العامة أمام الناس لا يستحي الإنسان أن يأتي المرأة فيفعل بها ما يشاء، طالما أنها بالغة وكبيرة راشدة، فالقانون عندهم لا يمنع من هذا الشيء، وأما بلاد المسلمين - ولا حول ولا قوة إلا بالله - فقد وجدت بعض تلك الصور سواء قلت أو كثرت، فالرجل يحتضن الفتاة في الشارع، ويمشي معها في الطريق، ويضع يده على كتفها، وتتعرى المرأة في الطرقات، وفي البحار، إلى غير ذلك من العري والأشياء الفاضحة التي تحدث هنالك، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (لا تقوم الساعة حتى يتسافدوا - يقعوا في الزنا- في الطريق تسافد الحمير)، كما تفعل البهائم بلا حياء. قال عبد الله بن عمرو: (قلت: إن ذلك لكائن؟) كأنه يتعجب: هل من الممكن أن يحصل هذا الشيء؟ قال: (نعم، ليكونن). وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالإخبار بما يكون من معجزاته عليه الصلاة والسلام، وذلك أن الله عز وجل يخبره بما يكون، فيخبر الناس، فيكون على ما قاله صلوات الله وسلامه عليه.

ما ينبغي للمسلم فعله حتى يغض بصره ويحفظ فرجه

ما ينبغي للمسلم فعله حتى يغض بصره ويحفظ فرجه روى الترمذي وابن حبان، من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المرأة إذا أقبلت أقبلت في صورة شيطان، فإذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته فليأتي أهله؛ فإن الذي معها مثل الذي معها). وهذا الحديث قاله النبي صلى الله عليه وسلم قولاً وبينه عملاً صلوات الله وسلامه عليه، فقد كان جالساً مع أصحابه عليه الصلاة والسلام -والنساء في عهده صلى الله عليه وسلم كن محتجبات، فليس هناك امرأة تمشي كاشفة أو عارية، التزاماً بأمر الله سبحانه وتعالى- فتمر امرأة من بعيد، ويقوم النبي صلى الله عليه وسلم ويذهب إلى بيته ويأتي أهله، ثم يخرج إليهم بعد ذلك ويخبرهم أنه رأى هذه المرأة، فذهب إلى بيته وأتى أهله صلى الله عليه وسلم. والنبي صلى الله عليه وسلم لا يهيجه الشيطان، أو يوسوس له؛ لأن الله قد عصمه من ذلك، ولكنه أراد أن يعلم أصحابه عليه الصلاة والسلام، فأتى أهله، ثم اغتسل، ثم خرج وأخبرهم بما حدث، وكأنه يقول: لا تجعل نفسك تشتهي ما لا تفعله ولا تحصل عليه إلا بطريق الحرام، ولكن اذهب إلى ما أحله الله لك. أما الشباب العزاب فقد قال لهم: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء). فعلمهم أن من استطاع منهم تكاليف الزواج، وعنده القدرة عليه فليتزوج: (فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج) أي: فإن الزواج يعين المؤمن على أن يغض بصره، وعلى إحصان فرجه. والذي لا يقدر على الزواج فعليه ألا يتمنى ما لا يقدر عليه، ولكن قال له صلى الله عليه وسلم: عليك بالصوم؛ لأن الصوم يقلل ما في نفسه من شهوة، فالغذاء إذا قل قلت شهوة الإنسان، وكثْرة الصيام نوع من تقليل الأغذية. والأمر الآخر أن الصوم يذكر الإنسان بمحارم الله، فيحفظ لسانه وبصره وأذنه ويده ورجله عن الحرام، فإذا بصومه -إذا كان صوماً حقيقاً- يبعده عن ذلك، ويعينه على غض بصره وحفظ فرجه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن أن يتزوج، والأمر بالزواج هنا للاستحباب، ولكن إذا خشي الإنسان على نفسه الوقوع في الفتنة وعنده قدرة على الزواج وجب عليه أن يتزوج؛ حتى يحصن فرجه، ويعف نفسه عن الوقوع في ما حرم الله سبحانه. وقوله سبحانه: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] فيه أمر للنساء أن يحفظن فروجهن، وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (احفظ فرجك إلا من زوجك أو ما ملكت يمينك). فيجب على المرأة أن تحفظ فرجها إلا من زوجها، كما يحرم عليها وعلى الرجل إبداء ما حرم الله سبحانه وتعالى إبداءه.

حفظ الفرج نوعان

حفظ الفرج نوعان حفظ الفرج -كما ذكرنا قبل- نوعان: الأول الحفظ من النظر، فلا ينظر إليه أحد. والثاني: الحفظ من الوقوع في الحرام، ولذلك مدح الله عز وجل المؤمنين بقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون:5] فهذا هو الأصل، {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون:6] أي: أن الرجل يحفظ فرجه إلا من زوجته أو ما ملكت يمينه، فله أن يملك الأمة فيطأها ويكون له منها الولد، أما المرأة فإنها تحفظ فرجها إلا من زوجها فقط، وأما ما ملكته يمينها فلا يجوز لها معاشرته. والآن وفي زماننا لا يوجد إماء ولا عبيد، وعلى ذلك فيجب على الرجل حفظ فرجه إلا من زوجته فقط، والمرأة كذلك مع زوجها.

الأمر بالحجاب وعدم إظهار الزينة

الأمر بالحجاب وعدم إظهار الزينة قال الله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31]، وهذا يدل على أن زينة المرأة: زينة ظاهرة، وزينة باطنة. فالزينة الظاهرة: كالثياب ونحوها، فعندما تمشي المرأة في الطريق لابسة ثيابها فإنها تكون معذورة في إبداء هذه الزينة.

اختلاف أهل العلم في كشف الوجه والكفين

اختلاف أهل العلم في كشف الوجه والكفين واختلف العلماء: هل للمرأة أن تكشف وجهها وكفيها للأجانب؟ مع اتفاقهم على أن المرأة إذا خشي منها الفتنة وكانت في زمن يكثر فيه الفساق أنه لا بد أن تستر وجهها وكفيها بحيث لا يبدو منها شيء، وفي غير ذلك اختلفوا، فذهب البعض إلى أنه لا يبدو منها إلا الوجه والكفان، وذهب البعض الآخر إلى أنه لا يبدو منها شيء مطلقاً.

أدلة القائلين بجواز كشف الوجه والكفين

أدلة القائلين بجواز كشف الوجه والكفين استدل القائلون بجواز كشف الوجه والكفين بما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه فسر قول الله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] بقوله: إن ما ظهر منها هو الوجه والكفان. وجاء أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنه في تفسر ما ظهر منها، قال: الكحل والسوار والخضاب، وذكر نحو ذلك. وجاء عن عائشة رضي الله عنها ما يؤيد هذا القول فيما رواه أبو داود أن أسماء بنت أبي بكر أخت السيدة عائشة رضي الله عنها دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق، فلما رآها النبي صلى الله عليه وسلم أعرض عنها، وقال: (يا أسماء! إن المرأة إذا بلغت المحيض لم تصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا، وأشار إلى وجهه وكفيه) صلوات الله وسلامه عليه. فهذا الحديث احتج به من قال: إن المرأة يجوز أن يبدو منها الوجه والكفان. وهذا الحديث اختلف أهل العلم في الاحتجاج به، فأكثرهم قالوا بضعفه، حتى الذي رواه - وهو الإمام أبو داود - ذكر أنه مرسل، وقال: هذا مرسل خالد بن دريك، ولم يدرك عائشة. يعني: أن فيه انقطاعاً؛ لأن راوي الحديث وهو خالد بن دريك لم يدرك عائشة رضي الله عنها، أي: أنها ماتت رضي الله عنها قبل أن يسمع منها رضي الله عنه، ولأجل ذلك ضعف الحديث. قالوا: وعلى فرض صحته فيكون قبل أن يأمر الله عز وجل النساء بالحجاب في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59]، فالحديث كان في بداية الأمر، وبعد ذلك أمر الله عز وجل بالحجاب. واحتج من أجاز كشف الوجه والكفين أيضاً بما جاء في صحيح البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في أن الفضل كان رديفاً للنبي صلى الله عليه وسلم، فجاءت امرأة من خثعم فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، فقالت: (يا رسول الله! إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: نعم. قال: وذلك في حجة الوداع). فقالوا: إذا كان هذا الحديث الأول قبل الحجاب، فإن الحديث الثاني كان بعد الحجاب، ففيه أن الفضل بن عباس كان راكباً خلف النبي صلى الله عليه وسلم، والمرأة كانت حاجة تسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أن تحج لأبيها، وأن الفضل نظر إليها، فالنبي صلى الله عليه وسلم لوى وجه الفضل إلى الناحية الأخرى؛ حتى لا ينظر إليها. فالذين قالوا بجواز كشف الوجه احتجوا بأن المرأة كما في الحديث كشفت وجهها.

أدلة القائلين بعدم جواز كشف الوجه والكفين

أدلة القائلين بعدم جواز كشف الوجه والكفين استدل القائلون بعدم جواز كشف الوجه والكفين بأن ينظر إليها لتركه النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إليها، وقالوا أيضاً: إن المرأة كانت محرمة، فكأنها أبدت وجهها وكفيها لكونها محرمة، والكلام ليس في الإحرام وإنما في غير ذلك. كما احتج العلماء القائلون بأنه لا يجوز أن يبدو منها شيء بحجة قوية وهي قول النبي صلى الله عليه وسلم: (المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان) وهذا الحديث رواه الترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنهما بسند صحيح. وراوي الحديث هو الذي قال في قول الله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31]: إن ما ظهر منها هو الثياب الظاهرة. والنبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (المرأة عورة) لم يستثن شيئاً، فكل المرأة عورة لا يجوز أن يبدو منها شيء. فالعمل بهذا الحديث أقوى، والمرأة يلزمها أن تستتر وخاصة في زمن يكثر فيه الفساق. وفي هذا الحديث: (إذا خرجت استشرفها الشيطان)، فالشيطان: إما شيطان الجن -إبليس وأشياعه- وإما شيطان الإنس. واستشرف بمعنى: رفع البصر إليها، وأصل الاستشراف: أن يضع الإنسان يده على عينه حتى ينظر إلى الشيء البعيد. فمعنى: (استشرفها الشيطان) أي: نظر إليها الشيطان، أو أنه جاء إليها فجعل الناس ينظرون إليها، فكأن الاستشراف هنا إذا كان من شيطان الجن بمعنى: زينها في نظر الناظرين من شياطين الإنس حتى تعجبهم. فالنبي صلى الله عليه وسلم كأنه يحذر المرأة أن تخرج إلى الرجال فينظروا إليها فتفتنهم، وأكثر ما يفتن في المرأة وجهها، وأول شيء ينظر إليه الإنسان من غيره هو الوجه. فعلى ذلك يلزم المرأة أن تستتر في مثل زماننا هذا الذي كثر فيه الفساق، وإن كانت المسألة خلافية بين أهل العلم، هل يجب عليها أن تستر وجهها وكفيها أو يستحب؟! الأحوط هو قول من قال بلزوم ستر الوجه والكفين؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان)، والله أعلم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة النور الآية [31]

تفسير سورة النور الآية [31] لقد كرم الله سبحانه وتعالى المرأة المسلمة، وعلمها كيف تصون نفسها، وتعتز بحجابها، فهي محط أنظار أمراض النفوس، وهي فتنة إذا لم تلتزم بأوامر ربها، ولذلك فإن سورة النور تذكر بعض الآداب والواجبات التي على المرأة أن تعمل بها؛ لتحفظ دينها ومجتمعها من الانحلال، ولنساء المسلمين اليوم أسوة بنساء المهاجرين والأنصار بالأمس، وبهذا التأسي يفزن برضا الله سبحانه وجناته.

تفسير قوله تعالى: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن)

تفسير قوله تعالى: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة النور: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]. لقد أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين والمؤمنات بغض البصر وحفظ الفرج كما قدمنا قبل ذلك، وزاد هنا للمؤمنات فقال: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}، أي: لا تبدي المرأة زينتها إلا ما ظهر منها.

اختلاف أهل العلم فيما يحرم إظهاره من زينة المرأة

اختلاف أهل العلم فيما يحرم إظهاره من زينة المرأة واختلف أهل العلم في هذه الزينة المذكورة في الأول، وقال بعد ذلك: ((وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ))، فكأن هناك زينة ظاهرة في المرأة يجوز إيداؤها، وزينة أخرى لا يجوز لها أن تبديها وهي زينة باطنة. فالزينة الظاهرة: هي الثياب الظاهرة التي تلبسها المرأة، فلا تملك أن تخفيها، وتحتاج المرأة للخروج لحاجتها، فهذه هي الزينة الخارجة والزينة الظاهرة، فلا ينبغي للمرأة أن تلبس من الثياب ما يلفت إليها النظر، وتتبرج في الطريق بألوان الثياب وتجعل الناظرين ينظرون إليها، ولا يجوز لها أن تلبس شيئاً يصف بدنها، ولكن لا بد أن تستتر بثياب صفيقة غير شفافة، وتكون ساترة لها، وربنا سبحانه وتعالى كرم المؤمنات وجعل المرأة المؤمنة مستترة، فلا ينظر إليها أحد ولا يهينها أحد، فهي مستورة بستر الله سبحانه وتعالى، فتلبس ثيابها، وتتجمل بإيمانها، فهي ثياب الإيمان التي تفرق بين المرأة المؤمنة والمرأة الفاسقة الفاجرة الكافرة، فصان الله عز وجل المؤمنات من أن ينال من أعراضهم، فالمرأة المؤمنة تغض بصرها فلا تقع في الحرام، وهي لا تنظر إلا إلى ما أحل الله عز وجل لها، فلا تنظر إلى رجال أجانب، ولا تنظر إلى عورات النساء أو الرجال، فهي تغض بصرها إلا ما أحل الله عز وجل لها من نظر إلى الزوج أو نظر إلى المحارم فيما يحل، قال تعالى: ((وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ)).

اختلاف أهل العلم في نظر المرأة إلى الرجل وفي نظر الرجل إلى المرأة

اختلاف أهل العلم في نظر المرأة إلى الرجل وفي نظر الرجل إلى المرأة وهنا اختلف أهل العلم في نظر المرأة إلى الرجل، فهل يجوز للمرأة أن تنظر إلى الرجل؟ نقول: يحرم على الرجل أن ينظر إلى المرأة، ولا بد أن تستتر المرأة من الرجل إلا في حال الضرورة، فإذا كان في حالة ضرورة جاز للرجل أن ينظر للمرأة، كالمداواة ونحوها إن لم يوجد نساء، فعلى ذلك يجوز أن ينظر إلى ما تدعو الحاجة إليه، لكن غير ذلك لا بد من غض البصر، وحفظ الفرج، وحفظ ما حرم الله عز وجل أن يبدو وأن يظهر، فالمرأة تحفظ نفسها وبدنها، وتحفظ فرجها، وتغض من بصرها، وجاء في ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، تقول أم سلمة: (كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وميمونة)، تعني: أنا وميمونة كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، (فأقبل ابن أم مكتوم حتى دخل عليه، وذلك بعد أن أمر بالحجاب)، يعني: بعدما أمر الله عز وجل بالحجاب، (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احتجبا منه، فقلن: يا رسول الله! أليس أعمى لا يبصرنا؟ قال صلى الله عليه وسلم: أفعمياوان أنتما؟) أي: ألستما تبصران؟ هذا الحديث رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه الترمذي، لكن إسناد الحديث فيه ضعف. ففيه: أن المرأة لا تنظر إلى الرجل، وهذا هو المعنى الصحيح، وجاء عن السيدة عائشة رضي الله عنها في الصحيحين قالت: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد، حتى أكون أنا أسأم، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو). وهذا الحديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم ستر عائشة وكانت تنظر إلى الحبشة، وكانت عادة الحبشة في الأعياد أن يلعبوا بالحراب ويرقصوا بها، وقد دخلوا مسجد النبي صلى الله عليه وسلم يوم العيد، وفعلوا هذا الشيء في مسجده صلى الله عليه وسلم ونظر إليهم، وقال للسيدة عائشة رضي الله عنها: (أتشتهين تنظرين؟) أي: أتحبين أن تنظري؟ وهي لا تريد أن تنظر ولا غيره، ولكن تريد أن ترى قدرها من النبي صلى الله عليه وسلم (فوقفت تنظر وهو يسترها بثوبه صلى الله عليه وسلم، وظل النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك حتى هي التي سئمت) أي: لم يقل لها: كفى، ولكن هي التي سئمت فدخلت، فالسيدة عائشة رضي الله عنها هنا نظرت لذلك، وفي رواية: (أن الحبشة كانوا يلعبون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم عيد، قالت: فاطلعت من فوق عاتقه فطأطأ لي منكبه، فجعلت أنظر إليهم من فوق عاتقه حتى شبعت ثم انصرفت). فالجمع بين الحديث وهذه الآية: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31] أن المرأة لا تنظر إلى الرجل الواحد نظرة تأمل وتفحص فيه، وكونها تنظر إلى مجموعة يلعبون نظرة عامة فهذا جائز يدل عليه حديث عائشة رضي الله عنها هذا. وأما أن تنظر إلى رجل واحد أو إلى رجال نظرة شهوة ونظرة تفحص فهذا غير جائز؛ لأن ذلك يوقع في قلبها الفتنة كما يحدث العكس للرجال، فهذا هو المنهي عنه. وقال بعض أهل العلم: هذا الحديث كان والسيدة عائشة صغيرة، فقد تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم ولها سبع سنوات، ودخل بها ولها تسع سنوات، قالوا: فكانت صغيرة، فيجوز للصغيرة ذلك. والصواب: أنها كانت كبيرة وليست صغيرة، فقد جاء في بعض الروايات أن هذا كان بعد مقدم الحبشة، وكان قدومهم سنة سبع، وكون النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها في المدينة ولها سبع سنوات، ودخل بها ولها تسع سنوات، فإنه سيكون قد مضى من عمرها ست عشرة سنة، إذاً: فالقول: إنها كانت صغيرة قول بعيد، والصواب: أنها جاوزت الست عشرة سنة رضي الله عنها. وأيضاً جاء في حديث لـ فاطمة بنت قيس في الصحيحين، لما طلقها زوجها التطليقة الثالثة، وكأن المرأة لم يكن لها مكان تعتد فيه، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم، وقد كان في البداية أمرها أن تمضي إلى إحدى النساء واسمها أم شريك، امرأة أنصارية، قال: اذهبي واعتدّي عندها، ثم رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه المرأة عجوز، ويحضر إليها الكثيرون من الصحابة في بيتها تطعمهم أو تعطيهم شيئاً، والبيت مع ضيقه وهي فيه سيحصل شيء من الحرج حين يقدم أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فتنظر إليه أو ينظر إليها، فقال: (اعتدي عند ابن أم مكتوم)، وكان ابن عمها وليس محرماً لها رضي الله عنهما، فأمرها وقال: (إنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده)، إذاًَ: هو أعمى لا يراها، ولكنها تراه، والضرورة موجودة، فالمرأة ليس لها مكان تعتد فيه، وزوجها طلقها الطلقة الثالثة وليس لها بيت، إذاً: فالأحرى بها أن تذهب عند هذه المرأة العجوز، وهذا من حيث النظر في البداية، ولكن لما كانت هذه المرأة كبيرة وكان الناس يحتاجون إليها ويذهبون إليها في بيتها، والبيت مع ضيقه وحضور الرجال إليها تطعمهم أو تعطيهم شيئاً، سيجعل هذه المطلقة تنظر إلى مجموعة من الرجال. إذاً: الأفضل أن تعتد عند ابن أم مكتوم في بيته، فهو رجل واحد، وإن نظرت نظرت إلى رجل واحد، والرجل سيكون متزوجاً، وعنده أهله في بيته، فعلى ذلك سيكون الأمر أيسر بكثير عند ابن عمها ابن أم مكتوم من أنها تكون عند أم شريك، فلذلك أمرها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها تعتد عند ابن أم مكتوم، وعلل ذلك بأنه رجل أعمى تضع ثيابها عنده، يعني: في هذا البيت، فضلاً عن أن ابن أم مكتوم كان ابن عم لها. قال تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31]، واختلف العلماء فيما يظهر من الزينة: فذهب ابن عباس وغيره إلى أن ما ظهر من الزينة هو الوجه والكفان. وجاء عن ابن مسعود وغيره من الصحابة رضوان الله عليهم أن قوله تعالى: {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] يعني: الثياب الظاهرة. وقال أهل العلم: إنه في الزمن الذي يكثر فيه الفساق ويبتعد الناس عن الدين، فلا بد للمرأة أن تستتر جميعها، والمسألة فيها خلاف بين أهل العلم في أنه هل تبدي المرأة الوجه والكفين أم أنها تستر الجميع؟ لكن في زمن الفتنة تستتر المرأة وخاصة إذا كانت جميلة ينظر إليها الناس، فلابد أن تستر وجهها، وتستتر بستر الله الذي أمرها الله به. قوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31]، الخُمُر: جمع خمار، والخمار: الغطاء، ومنه: خمرّ الشيء، يعني: غطاه، والخمار هنا المقصود به: الغطاء الذي يوضع على رأس المرأة، فيكون الخمار نازلاً من فوق الرأس فيستر صدر المرأة، وسمى الله صدر المرأة جيباً، وأمر أن تضرب المرأة بالخمار، فينزل من على رأسها ويستر صدرها، وقوله تعالى: {جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] مثل كلمة عيون، وكلمة بيوت في القرآن، فإنها تقرأ بالضم وتقرأ بالكسر، فتقرأ بُيوت وبِيوت، شُيوخ وشِيوخ، عُيون وعِيون، جُيوب وجِيوب، وابن ذكوان وشعبة عن عاصم وحمزة والكسائي يقرءونها بالكسر، وبقية القراء يقرءونها بالضم.

سبب نزول قوله تعالى: (وليضربن بخمرهن على جيوبهن)

سبب نزول قوله تعالى: (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) ذكروا في سبب نزول هذه الآية أن النساء كن في ذلك الزمان إذا غطين رءوسهن بالأخمرة وهي المقانع سدلنها من وراء الظهر، يعني: كانت المرأة في الجاهلية تضع خماراً على رأسها وتجعله وراءها، فيبدو من الأمام صدرها، فهذا مثل جاهلية اليوم تجد المرأة تمشي وصدرها منكشف، فكان أهل الجاهلية على هذا الشيء. وكانت المرأة في الجاهلية لا تبالي أن يظهر منها شعرها، أو أن يظهر منها أذنها وقرطها، أو يبدو خلخالها، بل كانت تمشي في الطريق لابسة خلاخيل في رجليها فتضرب برجلها حتى يسمع صوت الخلخال وهي ماشية، فينتبه إليها الناس وينظرون إليها، فحذر الله عز وجل المؤمنات من الوقوع في ذلك. فقد ذكر الإمام البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (رحم الله نساء المهاجرات الأول، لما نزل: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] شققن أزرهن فاختمرن بها)، وكذلك نساء الأنصار، فجاء عنها رضي الله عنها في صحيح البخاري أنها قالت: (لما أنزلت هذه الآية {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] أخذن أزرهن فشققنها من قبل الحواشي فاختمرن بها) يعني: أخذت الإزار الذي تلبسه فشقته من قبل الحاشية، أي: البطانة، فقد كان الثياب عندهن قليل، فنزلت الآية بالأمر بحجاب المرأة. وأيضاً جاء في حديث ذكره ابن أبي حاتم عن صفية بنت شيبة قالت: (بينا نحن عند عائشة رضي الله عنها قالت: فذكرنا نساء قريش وفضلهن، فقالت عائشة رضي الله عنها: إن لنساء قريش لفضلاً، وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقاً لكتاب الله ولا إيماناً بالتنزيل، لقد أنزلت سورة النور: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] لما نزلت هذه السورة انقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها، ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته، وعلى كل ذي قرابته، فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل فاعتجرت به تصديقاً وإيماناً بما أنزل الله من كتابه، فأصبحن وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم معتجرات كأن على رءوسهن الغربان) تعني: أن كل واحدة بحثت عن الذي عندها من إزار أو مرط أو غيره، فتغدو وتجعله فوق رأسها وتغطي به صدرها، وتذهب لتصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الفجر، ففي الليل عرفن ذلك، وفي الفجر ذهبن يصلين مع النبي صلى الله عليه وسلم كما تقول السيدة عائشة: أنها نظرت لمنظر النساء وكأن الغربان على رءوسهن، يعني: فقد وضعن على رءوسهن أشياء من الثياب السوداء ونحو ذلك، ومعروف أن الغراب أسود، أو المقصد: أن المرأة كانت تجعل الثياب على رأسها وتبالغ في إخفاء رأسها. وورد في رواية أخرى عن عائشة عند أبي داود قالت: (يرحم الله النساء المهاجرات الأول، لما أنزل الله: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] شققن أكتف مروطهن فاختمرن بها)، فدل على أن كلاً من المهاجرات والأنصاريات فعلن ما أمر الله عز وجل به حالاً، ولم تقل المرأة: سنفعله تدريجياً كما يفعل نساء هذا الزمان، فتلبس ما تشاء من بنطلون ضيق وتزعم أنها محجبة، وتحط على رأسها ريشة قماش وتزعم أنها طارحة جلباباً، وتخادع نفسها ويغرها الشيطان، وفي النهاية الموت يأتي على الجميع والحساب يوم القيامة.

الدعوة إلى الحجاب وإلى الرجوع إلى تطبيق كتاب الله وسنة نبيه

الدعوة إلى الحجاب وإلى الرجوع إلى تطبيق كتاب الله وسنة نبيه ولذلك على الإنسان المؤمن أن يعلم أهل بيته، ويعلم بناته أن يستترن، وأن يطعن الله سبحانه وتعالى، فالمرأة إذا عصت الله سبحانه وتعالى كانت شؤماً على نفسها وعلى أهل بيتها، وكانت فتنة لغيرها، فلا بد أن يتقي الله سبحانه وتعالى النساء والرجال في البنات وفي الأخوات وفي الأهل. ففي حالات كثيرة تجد الرجل يمشي مع زوجته متبرجة ولا يستحيي من ذلك، وتلاقي المرأة تمشي مع ابنتها والرجل مع ابنته وهي متبرجة، فإن قلت: هذا حرام، قال: لا زالت صغيرة، فكلمة صغيرة ضحك بها الغرب على الشعوب المسلمة، وبدءوا يقولون: المرأة صغيرة، ثم تجد الأب يترك ابنته إلى ثمانِ عشرة سنة ويعاملها كطفلة! إن السيدة عائشة تزوجت ولها سبع سنوات، ودخل بها النبي صلى الله عليه وسلم ولها تسع سنوات، فتقول: إذا بلغت الصبية تسعاً فهي امرأة. ففي عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يعاملون الصغيرة على أنها كبيرة، وليس من اللائق أن تقول عن رجل: طفل صغير، وقد مضى من عمره ثمانِ عشرة سنة، فإن أعداء الإسلام يضربون هذه الأمة بأسلحتهم ويهينونها، وبذلك فإن المسلم يهين نفسه، ويستحق الهوان من غيره، ولا يستحق أن يدافع الله عز وجل عنه. من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام فالإنسان الذي تهون عنده نفسه يصير أهون عند الغير، فأمة المسلمين لما نسوا أنفسهم، وطأطئوا رءوسهم للغرب، ولما تركوا دينهم وراءهم، واقتدوا بأوروبا وأمريكا، وصارت التشريعات الفرنسية هي التي تحكمهم، وأصبح كتاب الله زينة للبيوت فقط لا للتشريع، ونسى المسلمون ربهم سبحانه وتعالى سلط الله عليهم غيرهم فأذلوهم، وصارت الشعوب ترمي المسلمين بأنهم متخلفون، وشعوب المسلمين هي الشعوب المتأخرة التي جعلت اهتمامها بالدنيا فقط، فإذا أراد المسلمون أن يقلدوا الغرب يتركون التقليد في الأشياء العلمية المفيدة ويقلدونهم فيما يخالف دين الإسلام، فهل من التنوير أن المرأة تتبرج، وأن الرجل ينظر إلى ما يشاء، والبحور تمتلئ بالعرايا، فهذا هو التنوير الذي عرفه المسلمون من هؤلاء، فقد تركوا ما عندهم من علوم وبقوا متأخرين، وقد كانوا قادة الأمم في العلوم قبل ذلك، فقد كانت كتب المسلمين في الطب وغيرها تترجم إلى هؤلاء ليتعلموا من المسلمين، واليوم أصبح المسلمون المتأخرين المتخلفين وأصبح هؤلاء القادة عليهم والسادة فوقهم، فيأمرونهم فينفذون لهم ما يريدون، فكيف يقول المسلمون: نحن نريد أن نعرب الطب، فنقول: لو عربتم كتب الطب فهل سيقرؤها الآخرون وهم أصلاً يسبقكونكم في هذه العلوم، فهذا الكلم الذي يتكلم به المسلمون عبارات جوفاء وأشياء لا ينظرون إلى جوهرها، بل ينظرون إلى مظهرها فقط، فالمسلمون لن يعودوا إلى ما كانوا عليه إلا إذا تمسكوا بكتاب ربهم سبحانه وتعالى، وطبقوا هذا النور العظيم، إذا تعلمت المرأة كيف تحتجب، وكيف تطيع ربها سبحانه، وكيف تعلم أولادها، فإذا عرفوا ذلك ورجعوا إلى دين الله عز وجل أعانهم الله سبحانه على أن يكونوا سادة الأمم، وجاء العصر الذي يقاتل فيه المسلمون اليهود ويقول الحجر (يا مسلم هذا يهودي ورائي تعال فاقتله)، فهنا يجعل الله عز وجل الجمادات تقاتل مع المسلم، وتعينه على الجهاد في سبيل الله عز وجل. وأما إذا كان المسلم متأخراً ومتخلفاً وتاركاً لدين الله عز وجل وراء ظهره فلا ينتظر توفيقاً من الله إلا أن يراجع دينه، ويرجع إلى ربه. نسأل الله عز وجل أن يعيننا ويعين كل المسلمين على العودة إلى كتابه وسنة نبيه صلوات الله وسلامه عليه. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة النور (تابع) الآية [31]

تفسير سورة النور (تابع) الآية [31] لقد جاء الإسلام بصيانة المرأة وسترها والمحافظة عليها، وكذلك جاء لتطهير المجتمع من أمراض الشهوات والرذائل، ولذلك حرم الزنا، وأمر بحفظ الفروج. ولما كانت المرأة هي العامل الأقوى في نشر هذه الأمراض أمرها الله عز وجل بحفظ البصر والفرج، وأمرها بالحجاب وعدم إبداء الزينة إلا لمن ذكرهم الله عز وجل في هذه الآية.

تفسير قوله تعالى: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن)

تفسير قوله تعالى: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن)

أنواع الزينة

أنواع الزينة الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة النور: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]. ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أمراً للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو أن يأمر المؤمنات بما أمر به المؤمنين، فقال تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31]. والزينة زينتان: ظاهرة وباطنة. فالزينة الظاهرة لا تبدي المرأة منها إلا ما تحتاج إلى إبدائه كالثياب الخارجة، بشرط ألا تكون زينة في نفسها بحيث تلفت إليها أنظار من تمر به من الرجال ونحو ذلك، قال تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31]، والخمار هو: ما تغطي به المرأة رأسها، فتضرب بهذا الخمار على رأسها، وتستر به صدرها. والمقصود بالجيب: جيب القميص، أو جيب الدرع، وهو مكان دخول الرأس في القميص أو في الدرع أو في ما تلبسه المرأة، وقد يكون واسعاً فيبدو صدرها فأمرها الله عز وجل أن تنزل الخمار الذي فوق رأسها فتستر به صدرها. قال تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور:31]، وهذه هي الزينة الثانية وهي الزينة الباطنة، فلا لا يجوز للمرأة أن تبدي هذه الزينة إلا لمن ذكرهم الله عز وجل هنا وأباح لها أن تبديها لهم. وما تبديه المرأة للزوج غير ما تبديه لباقي هؤلاء الذين ذكرهم الله عز وجل في هذه الآية. وقد ذكر سبحانه هنا اثني عشر صنفاً من الأصناف الذين يجوز للمرأة أن تبدي زينتها أمامهم.

الزينة التي تبديها المرأة أمام الزوج

الزينة التي تبديها المرأة أمام الزوج قال تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور:31]، والبعل: هو زوج المرأة، ويطلق على السيد أيضاً. والمرأة إما حرة وإما أمة، فالمرأة الحرة تبدي زينتها وجمالها وبدنها كله لزوجها، فللزوج أن ينظر من زوجته إلى كل شيء منها، وكذلك تنظر المرأة إلى زوجها، وهذا حلال أحله الله عز وجل. وكذلك السيد مع أمته، والأمة هي المملوكة المشتراة بالمال، والزوجة هي التي يعقد عليها وليها للزوج، فلا يملك الزوج منها شيئاً، ولكن ينتفع بما أباح الله عز وجل له من استحلال فرجها، والاستمتاع بها. وأما الأمة فيملك سيدها أن يبيعها وأن يبقيها وأن يعتقها، والآن لا توجد إماء ولا يوجد عبيد؛ فقد حررهم الله عز وجل بما فرض في القرآن من كفارات ونحوها، فحررهم كلهم حتى لم يبق في المسلمين عبيد، بل وفي العالم كله لم يبق عبد ولم يبق إلا العبودية لغير الله سبحانه وتعالى الموجودة في الخلق، أو في الكفرة فهم يعبدون غير الله سبحانه، وأما العبيد والإماء فليسو موجودين الآن. فالبعل المقصود به: السيد أو الزوج، فللزوج أن يرى من المرأة كل ما يبيحه الله عز وجل له، فينظر إليها إلى بدنها كله، وقد بدا هنا بالزوج.

الزينة التي تبديها الزوجة أمام بقية الأصناف غير الزوج

الزينة التي تبديها الزوجة أمام بقية الأصناف غير الزوج قال تعالى: {إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} [النور:31]، فللمرأة أن تبدي زينتها لأبيها، ولا شك أن ما تبديه المرأة لزوجها غير ما تبديه لأبيها، فإن الزينة التي تبديها المرأة لزوجها هي بدنها كله، وأما الزينة التي تبيدها المرأة لأبيها أو لباقي من ذكر الله سبحانه وتعالى فهي ثياب المهنة أو ثياب البيت، وما قد يبدو منها في ثياب بيتها أو ثياب مهنتها، مثل يدها أو رجلها أو ساقها أو ذراعها أو شعرها أو رأسها، وأما عورتها فيما بين سرتها إلى ركبتها فلا يطلع هؤلاء على ذلك. وتخفي صدرها فلا تظهره أمام هؤلاء، قال أهل العلم: إن ما تبديه المرأة لهؤلاء الأحد عشر غير ما تبديه المرأة لزوجها. قال تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] أي: آباء البعولة وآباء الأزواج. قال تعالى: {أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] أي: إن المرأة أمام أبيها وأمها وأولادها وبقية الأصناف لا تظهر لهم إلا ما يظهر منها في ثياب مهنتها في بيتها مثل كتفها ونحرها وذراعها وقدمها وشعرها ورأسها وذراعها ولا تظهر أمام هؤلاء ما بين سرتها إلى ركبتها، وإنما هذا يظهر أمام الزوج فقط. قال سبحانه وتعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ} [النور:31]، أي: ابن المرأة {أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] أي: ابن زوجها. {أَوْ إِخْوَانِهِنَّ} [النور:31]، أي: أن للأخ أن يرى ذراعها وساقها ورأسها فهذا جائز {أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ} [النور:31] أي: من تكون هي عمة له فيجوز له أن ينظر أيضاً إلى رأسها وشعرها وذراعها ورجلها. قال تعالى: {أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ} [النور:31] أي: من تكون لهم خالة، قال تعالى: {أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور:31] أي: نساء المرأة فمن كان معها من نسائها قريبة لها فتدخل عليها، وهن غير الكافرات. وقد اختلف أهل العلم في المقصود هنا. قالوا: لكن الأصل هنا في قوله: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور:31] يعني: نساء المرأة من المؤمنات. فهنا الاتفاق على أن المسلمات يدخلن على المرأة، وينظرن منها إلى ما يجوز للمرأة أن تنظر إلى المرأة منه.

حكم التجرد وإظهار العورة

حكم التجرد وإظهار العورة ولا يجوز للمرأة أن تبدو متجردة أمام امرأة أخرى، وكثير من النساء يفعلن هذا الشيء ويتساهلن فيه، فلا تستحي المرأة أن تبدي ما بين سرتها إلى ركبتها أمام امرأة أخرى، وهذا غير جائز، فعلى المرأة أن تستتر من النساء، والرجل يستتر من الرجال، فلا يبد لهم ما بين سرته إلى ركبته، فهذا عورة. والعورة قسمان: عورة مغلظة، وعورة مخففة، فالعورة المغلظة: السوءتان. والعورة المخففة: غير ذلك مما بين السرة إلى الركبة. والعورة المغلظة لا يجوز لأحد أن يبديها، ولا يجوز لأحد أن ينظر إليها إلا لحاجة، والعورة المخففة قد تبدو مع المهنة أو مع شيء آخر، ولكن لا يُنظر إليها. والمرأة مع المرأة كذلك، فلا تنظر المرأة إلى عورة امرأة أخرى فيما بين سرتها إلى ركبتها إلا لحاجة من تطبيب ونحو ذلك. وأما لغير حاجة فليس لها ذلك. وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: (لا تباشر المرأة المرأة تنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها) يعني: لا تنظر إلى بدنها كله، فقد يكون في نفسها شيء فتذكر هذا الشيء لزوجها، أو تفضح هذه المرأة أمام غيرها، فحمى ربنا سبحانه وتعالى المؤمنة وقال لها: لا تظهري زينتك أمام أحد إلا من ذكر هاهنا. ولا يجوز للمرأة أن تظهر ما بين السرة إلى الركبة لأحد إلا لزوجها، وإلا لحاجة من تطبيب ونحوه. إذاً: فالمقصود بقوله تعالى: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور:31] النساء المسلمات، قال العلماء: تَظهر المرأة بزينتها للنساء المسلمات دون نساء أهل الذمة، وأما نساء أهل الذمة فقد خاف العلماء من أن تبدي المرأة زينتها أو تكثر من التزين أمامهن فيفضحها، فإنهن لا دين عندهن، فإن من الممكن أن يذكرن أن فلانة شكلها كذا ولونها كذا ورجلها كذا وعينها كذا، فيذكرن أشياء من زينتها فيفضحنها، أو يذكرنها للكفار. وقد جاء عن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى أبي عبيدة: أما بعد: فإنه بلغني أن نساء من نساء المسلمين يدخلن الحمامات مع نساء أهل الشرك، وإنهن من قبلك، فلا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن ينظر عورتها أو إلى عورتها إلا أهل ملتها. فهذا مذهب عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، فقد خشي عمر من دخول المسلمات مع الكافرات في الحمامات، فإذا كان المسلمون إذا دخلوا الحمامات العمومية تجردوا من ثيابهم أمام الآخرين فكيف بالنساء؟ فهن ناقصات عقل ودين، فقد تفعل المرأة ذلك، فإذا دخلت المرأة حماماً فيه كافرات أيضاً فقد تفعل هذا الشيء، فخشي عمر من ذلك، فنهى عن مثل ذلك؛ خوفاً من هذا الشيء.

حكم إبداء المرأة لزينتها أمام النساء

حكم إبداء المرأة لزينتها أمام النساء إن مسألة إبداء الزينة أمام الكافرات أنواع: أما إبداء البدن كله فهذا محرم، فلا يجوز لا أمام مسلمة ولا أمام كافرة. وأما أن تخفي المرأة ما بين السرة إلى الركبة وتبدي غير ذلك أمام امرأة مسلمة فهذا جائز، وأما أمام الكافرة فتمنع المرأة من هذا الشيء، وأما ثياب المهنة التي تلبسها في بيتها أمام أبيها أخيها وأقاربها ومحارمها الذين ذكرهم الله عز وجل فقد اختلف أهل العلم في ذلك: فذهب الشافعي وغيره: إلى المنع من ذلك. فقد ذكر الإمام النووي وغيره أن المرأة المسلمة لا تبدي زينتها أمام امرأة كافرة في ذلك. وذهب الحنابلة وغيرهم: إلى أنه لا فرق بين ما تبديه المرأة المسلمة أمام المسلمة وبين ما تبديه أمام المرأة الذمية، كما أنه لا فرق بين ما يبديه المسلم أما المسلم وبين ما يبديه أمام الذمي. وجاء عن الإمام أحمد روايتان في هذه المسألة. فقال: أنا أذهب إلى أنها لا تنظر إلى الفرج، ولا تقبلها حين تلد. أي: أن المرأة الكافرة لا تكون لها قابلة إذا وجدت الطبيبة المسلمة أو الداية المسلمة، فإن لم يوجد غيرها واحتيج إلى ذلك فلا بأس، ولو اضطرت إلى الذهاب إلى طبيب ذهبت إلى الرجل الطبيب المسلم. أي: أن الأمر في التطبيب مع الحاجة، فقد تذهب المرأة إلى الطبيبة المسلمة، وإذا لم تجد ذهبت إلى الطبيبة الكافرة، وإذا لم تجد ذهبت إلى الطبيب الذكر المسلم. وجاء عن الإمام أحمد رواية أخرى، وهي: أن المسلمة لا تكشف قناعها عند الذمية. والقناع هو: الغطاء الذي تجعله المرأة فوق رأسها تستر به رأسها ومحاسنها. فقال: لا تكشف قناعها عند الذمية، ولا تدخل معها الحمام، والخوف من دخول الحمام خوفاً من التجرد، فإن المرأة قد تستهين بأمر دينها فتخلع ثيابها كما يحدث الآن، فقد صارت المرأة تخلع ثيابها في البحار أمام الرجال والنساء، ولا تفرق بين شيء وشيء، فنهى العلماء عن ذلك؛ خوفاً مما يحدث بعد ذلك، فلعل المرأة المسلمة تتجرد أمام المرأة الكافرة، فتصورها وترسلها لغيرها لتفضحها بها. ولعلها إذا تجردت أمام الكافرة يكون في نفسها شيء من شهوات النساء الباطلة أو الشذوذ، فتقع معها في السحاق، والعياذ بالله. أو تدعوها إلى مثل ذلك. فإذاً تستتر المرأة ولا تبدي زينتها أمام هؤلاء، وأما إذا كان لا يقصد إلى هذا الشيء فالراجح: أن ما تبدو به أمام المرأة المسلمة جاز لها أن تبدو به أمام غيرها، ولكن الأحوط أن تحتاط المرأة لنفسها، فإذا عرفت عن هذه أنها تتكلم في أمر النساء، أو يخشى من شهوتها، أو ثرثرتها، فإنها تستتر، ولا تدخل أمثالها على بيتها. قال ابن قدامة رحمه الله: والأول أولى. وهو أنها تبدو أمام الكافرة بثياب الزينة وبما يجوز لها أن تظهره أمام المسلمة، قال: لأن النساء الكوافر من اليهود وغيرهن كن يدخلن على نساء النبي صلى الله عليه وسلم. يعني: كان بعض نساء اليهود يدخلن على السيدة عائشة رضي الله عنها، ولم ينهاها النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت أنه أمرها أن تحتجب من هذه المرأة، قال: فلم يكن يحتجبن ولا أمرن بحجاب، وقد جاء أن امرأة يهودية جاءت إلى عائشة رضي الله عنها: تسألها شيئاً، أي: تطلب منها إعانة، فدعت للسيدة عائشة وقالت: أعاذك الله من عذاب القبر. فسألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزل الله عز وجل عليه بعد ذلك (إنكم تفتنون في قبوركم، فكان يتعوذ بالله عز وجل من عذاب القبر). يعني: إلى هذا الحين لم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم في عذاب القبر ولم يوح إليه في أمر عذاب القبر بشيء، حتى دخلت المرأة اليهودية على السيدة عائشة ودعت لها بذلك. فسألت السيدة عائشة النبي صلى الله عليه وسلم عن قول اليهودية فأنزل الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: (إنكم تفتنون في قبوركم. وقال: إنه قد أوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم، فكان يتعوذ بالله من عذاب القبر)، صلوات الله وسلامه عليه. وكذلك قالت أسماء وهي أخت عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهم: (قدمت علي أمي وهي راغبة، يعني: في الإسلام، أو: راغبة عن الإسلام، أو: راغبة في صلة من الصلات، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أأصلها؟ فقال: نعم)، وقد كانت أم أسماء غير أم عائشة، فأم عائشة اسمها أم رومان وقد كانت مؤمنة مسلمة، وأما أم أسماء فكانت كافرة، فجاءت تزور أسماء وهي كافرة، فلما جاءت أرسلت أسماء لتسأل النبي صلى الله عليه وسلم: هل تستقبلها وهي كافرة؟ فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تستقبلها؛ فإنها أمها. والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرها هنا أن تحتجب منها. وهنا قد يقال: هي أمها، والمرأة لا تحتجب من أمها، إلا ما لا يجوز لها إظهاره أمام الأم. ولكن اليهودية التي دخلت على عائشة رضي الله عنها لم يأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تحتجب منها، ولم يثبت عنه مثل ذلك. قالوا: فعلى ذلك لا يثبت الأمر بالحجاب إلا بنص من كتاب أو سنة، وهذا ليس فيه ذلك، فعلى ذلك فقوله سبحانه: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور:31] يحتمل أن يراد به جملة النساء، يعني: من يدخل على المرأة من النساء سواء كن من أقارب المرأة، أو غريبات عنها، أو إمائها مسلمات أو كافرات، أو كن حرائر من ذميات أو نحو ذلك، فيجوز للمرأة أن تظهر أمامهن كلهن بثياب زينتها، ولكن لا تتجرد أمامهن، وعليها أن تستر أمام النساء ما بين سرتها إلى ركبتها، وتستتر أكثر من ذلك أمام النساء الكافرات.

معنى قوله تعالى: (أو ما ملكت أيمانهن)

معنى قوله تعالى: (أو ما ملكت أيمانهن) قال الله عز وجل: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور:31] وهذا هو الصنف العاشر ممن تبدي المرأة زينتها أمامهم، قال تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور:31] فإذا كانت فالمرأة تملك أمة مسلمة أو كافرة فيجوز لها أن تبدو بثياب زينتها أمامها، وكذلك إذا كانت المرأة تملك عبداً كافراً أو مسلماً، ففي الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها وعلى فاطمة ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما تلقى قال: إنه ليس عليك بأس، إنما هو أبوك وغلامك). فالعبد الذي تملكه المرأة يجوز له أن ينظر إلى وجهها ويدها. وفرق بين أن تملك المرأة عبداً وبين أن يملك الرجل أمة، فالرجل إذا ملك أمة فيجوز له أن يطأها؛ لأنها ملكه، والمرأة إذا ملكت عبداً فلا يجوز له أنه يطأها، إلا إذا تزوجها بإذن وليها، أو زوجها وليها عبداً، وكان هذا العبد يجوز له أن يتزوجها. فلا يجوز له أيضاً أن ينظر إليها متجردةً، وإنما يدخل عليها ويقضي لها حوائجها، فيجوز له أن ينظر إلى وجهها ويدها ولو انكشف شيء من شعرها أيضاً جاز له أن ينظر إليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى لـ فاطمة غلاماً عندما كانت محتاجة لمن يخدمها ويعينها، فدخل عليها وكان ثوبها الذي عليها إذا غطت به رأسها انكشف قدمها، وإذا عطت قدمها انكشف شعرها أو رأسها رضي الله عنها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه ليس عليك بأس، إنما هو أبوك أو غلامك)، فدل هذا على أن العبد يجوز له أن ينظر إلى يد سيدته ووجهها، أو حتى إلى شعرها. وأما أكثر من ذلك فلا، وهذا الحديث لم يذكر فيه أكثر من أنه بدأ شيء من رأسها أمام هذا العبد، فإذا اعتقت هذا العبد صار حكمه كغيره من الناس، فلا يجوز له أن ينظر إليها.

معنى قوله تعالى: (أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال)

معنى قوله تعالى: (أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال) ومن الأصناف الذين ذكرهم الله عز وجل في هذه الآية: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ} [النور:31]، والإربة أصلها: الحاجة. والمقصود هنا: الشهوة، قال تعالى: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} [النور:31]، وذلك مثل الرجل الشيخ الكبير والعجوز الذي لا شهوة عنده، أو الإنسان العنين، أو الإنسان المخنث خلقة، يعني: خلق وفيه خنوثة وتكسر، وفيه صفات الأنوثة وليس له في النساء حاجة. فإذا بدأ أنه له في النساء ذلك لم يجز أن يدخل عليهن، قال تعالى: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ} [النور:31]، قال المفسرون: هو: الأحمق الذي لا حاجة به إلى النساء، يعني: المعتوه الذي ليس فيه شيء من العته، ولا شهوة فيه. وقيل: العنين، وقيل: الإنسان المخنث خلقة، وقيل: الرجل يتبع القوم فيأكل معهم، ويرتفق معهم وهو ضعيف، يعني: في شهوته وفي علقه، ولا يشتهي النساء. فإذا كان على هذا النحو بأن خلق لا شهوة فيه، أو بسبب مرض فيه جاز له أن يدخل مع رجال البيت على النساء، وأن يسأل أو يأكل أو نحو ذلك. قال تعالى: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ} [النور:31]، فإذا بدا أن هذا الإنسان يفهم أمر النساء لم يجز له أن يدخل، ولذلك جاء في الحديث: (أن رجلاً كان مخنثاً وكان يدخل على بيوت النبي صلى الله عليه وسلم يسأل نساء النبي صلى الله عليه وسلم فيعطينه، وكانوا يرون أنه لا حاجة له في النساء ولا شهوة فيه، فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم مرة وهو يتكلم في أمر النساء، وهو ينصح أخاً لإحدى أمهات المؤمنين، ويصف له امرأة ويقول: إذا فتح الله عز وجل عليكم ثقيفاً فعليك بابنة غيلان، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان. فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ألا أرى هذا يعلم ما هناك؟) يعني: يفهم أمر النساء، فمنعه ونفاه خارج المدينة أبداً؛ من أجل ألا يخدع الناس، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فنفي خارج المدينة، وكان يؤْذن له كل أسبوع ينزل المدينة يسأل الناس. فهو لما كان معروفاً بين الناس أنه مخنث وأنه لا شهوة له في النساء كانوا يتركونه يدخل بيوتهم يسأل، فيعطونه ويطعمونه، ولما ظهر من كلامه أنه يفهم أمر النساء، ويصف امرأة بأنها فيها من الجمال وكذا وكذا، وعرف النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منعه من الدخول على بيوت النساء، ونفاه خارج المدينة، فكان بعد ذلك ينزل في كل أسبوع مرة، فيسأل الناس. وفي قوله تعالى: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} [النور:31] قراءتان: فقرأ ابن عامر وشعبة عن عاصم وأبو جعفر (غيرَ أولي الأربة من الرجال)، وقرأ باقي القراء بالجر فيها.

معنى قوله تعالى: (أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء)

معنى قوله تعالى: (أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء) قال تعالى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ} [النور:31]، وهذا هو الصنف الثاني عشر ممن يجوز للمرأة أن تبدو أمامهم بزينتها، وهو: الطفل. والطفل يطلق على من لم يبلغ الحلم، فيطلق على الإنسان وهو في بطن أمه جنين، وعندما يخرج من بطن أمه إلى المراهقة. وكلمة راهق بمعنى: قارب البلوغ ولم يبلغ، فمرحلة المراهقة تطلق على آخر مرحلة من مراحل الطفولة قبل البلوغ. أي: أنه قارب البلوغ ولم يحتلم. فالطفل إذا لم يبلغ جاز للمرأة أن تبدو بزينتها أمامه، إلا إذا بدأ عليه شيء من الشهوة، أو كان يتكلم بما يراه، وينقله لغيره، أو يصف النساء، فإذا علم منه ذلك فعلى المرأة أن تتستر أمامه. والله أعلم. أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة النور [31 - 32]

تفسير سورة النور [31 - 32] إن النظرة سهم مسموم من سهام إبليس ينفذ إلى القلب فيمرضه، أو يصيبه في مقتل، ومن تركه أورثه الله نوراً يجد حلاوته في قلبه، وقد جاء الأمر الرباني لمن اتصفن بصفة الإيمان من النساء أن يغضضن أبصارهن، وألا يكن داعيات للفتنة بحركاتهن أو زينتهن وملابسهن، أو حتى بالضرب بأرجلهن ليعلم ما يخفينه من زينتهن، ثم جاء النداء الرباني الرحيم بأن من فعل شيئاً من ذلك فطريق فلاحه أن يتوب إلى الله تعالى، ويرجع إليه.

تفسير قوله تعالى: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن)

تفسير قوله تعالى: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. لما أخبرنا الله سبحانه وتعالى في الآية السابقة عما يجوز للمرأة أن تظهره أمام محارمها، وعن الزينة الظاهرة والباطنة، وما لا يحل لها أن تظهره أمام غير محارمها، أمر عباده بالتوبة إليه سبحانه فقال: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]، فإذا كان النبي صلوات الله وسلامه عليه يقول: (إني لاستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة)، وهو المعصوم الذي قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ويعد له في المجلس الواحد سبعين مرة يستغفر فيها، فالمؤمنون مأمورون بأن يتوبوا في كل وقت إلى الله سبحانه، قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]، وتوبة العبد سبب للفلاح، فما من إنسان إلا ويبدر منه ذنب من الذنوب كبر أو صغر، جاء في الحديث: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون). وذكر لنا ربنا سبحانه وتعالى ما تتعلق هذه الآية أو هذه الجملة به، فذكر النساء وقال: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور:31]، فذكر هؤلاء. وقد يبدو من المرأة شيء من زينتها أمام غير من ذكر الله عز وجل، فكأنه يشير إلى ذلك ويقول: توبي إلى الله عز وجل مما بدر منك سواء كان عمداً أو خطأً، وقد تنكشف المرأة أمام البعض، وتستتر أمام البعض الآخر، وقد منع الله عز وجل من إظهار الزينة إلا أمام من ذكر. وقد تستصغر إنساناً ولا يكون صغيراً، وقد تظن أن هذا من غير أولي الإربة ويكون من هؤلاء، فيأمر الله عز وجل بالتوبة إليه، ففي نهاية هذه الآية قال الله سبحانه وتعالى: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ} [النور:31] يعني: الرجال الذين لا حاجة لهم في النساء: من كبر سن فيه، أو يكون إنساناً مخنثاً خلقة. فإذا دخل وطلب طعاماً أو سأله ونظر إلى شيء فهنا لا يجب على المرأة أن تستتر استتاراً كاملاً منه، ولكن قد تظن أن هذا من غير أولي الإربة ثم يبدو أنه من هؤلاء، مثل المخنث الذي كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ونقصد بالمخنث الإنسان الذي ليس به حاجة إلى النساء، أو الذي في تركيبه طبيعة النساء، وأما المخنث تطبعاً فهذا ملعون، وفي الحديث: (لعن النبي صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال). فالإنسان الذي يتكسر في مشيته ويتشبه بالنساء ملعون، والمرأة المترجلة التي تتشبه بالرجال في زيها وفي مشيتها ملعونة. ولكن لما نتكلم عن المخنث الذي يجوز أن يدخل البيت ويسأل المرأة نقصد به من كان أشبه بالنساء منه بالرجال خلقه. وكذلك الطفل قال تعالى: {وَالطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور:31] أي: الطفل الذي لا يميز العورات، أو الطفل الذي لم يبلغ. فإذا كان الطفل صغيراً جاز للمرأة أن تبدو أمامه بزينتها، فإذا كان الطفل كبيراً وهنا سواء كان ابنها أو غير ابنها، فإذا كان ابن لها فهو ممن دخل في هذه الآية، وإذا كان ليس ابناً لها وكان صغيراً مثله لا يطلع على عورات النساء ولا يفهمها جاز أن تبدو في ثياب مهنتها أمامه، لكن إذا ظن أنه يفهم ذلك وأنه قد قارب البلوغ، وأنه يتكلم بكلام كثير ممكن ينقل أوصاف المرأة للرجال مثلاً فيجب عند ذلك أن تستتر المرأة أمامه، فإن بدا منها شيء فهنا ربنا سبحانه وتعالى يذكر بالتوبة فيقول: {تُوبُوا إِلَى اللَّهِ} [النور:31]، فالإنسان المؤمن يكثر من التوبة إلى الله عز وجل من ذنوبه التي يقع فيها. وأيضاً هنا ذكر في هذه الآية تحذير للنساء من الضرب بالأرجل فقال: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31]، فقد كانت المرأة في الجاهلية تمشي وقد ينكشف شيء من شعرها، أو شيء من صدرها فلا تبالي بذلك، وإذا أحبت إحداهن أن تلفت النظر لبست خلخالاً في رجلها، فإذا مرت بالرجال ضربت برجلها الأرض فيحدث الخلخال صوتاً، فينتبه الرجال لها وينظرون إليها. وقارن بين جاهلية الأمس وجاهلية اليوم كيف أنها اليوم لا تحتاج إلى الخلخال ولا غيره، فهاهي تمشي عريانة أصلاً، فتلفت نظر جميع من ينظر إليها في الطريق، وأيهما أشد الجاهلية الأولى حين يبدو من المرأة شيء من رقبتها، أو شيء من شعرها وهي تمشي، أو لكي تبين أنها امرأة تسير في الطريق تضرب برجلها ليسمع صوت الخلخال، أم جاهلية اليوم حين تمشي المرأة كاسية عارية في الطريق والكل ينظر إليها؟! ولا حول ولا قوة إلا بالله. وقد تمشي المرأة في الطريق فتضحك بصوت مرتفع ينتبه إليها من ينظر إليها، وقد تتكلم بصوت عالٍ، وهذه هي الحرية التي تطلبها، النساء فتضع إحداهن المساحيق على وجهها أو على جسدها، وهي ألوان تلفت النظر إليها، أو عري فاضح وتهتك أمام الناس، فتهتك ما بينها وبين ربها من ستر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

القراءات في قوله تعالى: (أيه المؤمنون)

القراءات في قوله تعالى: (أيه المؤمنون) قوله: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} [النور:31] هذه قراءة الجمهور، وقراءة ابن عامر: (أيهُ الْمُؤْمِنُونَ)، كأنه أخذ الكلمة على أنها كلمة واحدة أصلها: أي والضمير، فتعامل معها على أنها كلمة واحدة، فهي مناداة، فعلى ذلك بناها على ما يرفع به فكانت (أيهُ الْمُؤْمِنُونَ). وهي قراءة أنكرها بعض أهل العربية، ولكن القرآن حجة على غيره، وليس غيره حجة عليه، فأفصح اللغات ما نزل به كتاب رب العالمين، وطالما ثبتت القراءة عن النبي صلى الله عليه وسلم فهي حجة وحدها لذاتها. وأيها مكتوبة في المصاحف همزة وياء وهاء، فعلى قراءة (أيه) ستكون عليها فتحة بدون ألف، ولذلك اختلف القراء في الوقف عليها: فذهب أبو عمرو، ويعقوب والكسائي إلى أنها تقرأ بالألف على أصلها {وتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا} [النور:31]. وباقي القراء قالوا: نتعامل مع الرسم الذي هو موجود فيها. فإذا وقفنا عليها قلنا: ((أيّهْ)) على أنها همزة وياء وهاء، والهاء عليها فتحة فإذا قرئت وصلاً كانت: {أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} [النور:31]، وإذا وقف عليها يبقى: ((أيُّه)) على قراءة الجمهور. قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]، فقيد الفلاح بالتوبة إلى الله سبحانه وتعالى. وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (التوبة تجب ما قبلها)، فالتوبة تمحو وتزيل ما كان قبلها من معاصي.

تفسير قوله تعالى: (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم)

تفسير قوله تعالى: (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم) ثم قال: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32]، هذه الآية خطاب من الله عز وجل للأولياء أن أنكحوا بمعنى: زوجوا، فكأنه يشير لولي المرأة، أو إلى ولي من يحتاج إلى تزويج ممن لا يقدر أن يتزوج بنفسه؛ لضعف عقله مثلاً، أو لكونه عبداً، فيقول: زوجوا هؤلاء. فالإنسان الذي يقدر على الزواج بنفسه فسيتزوج، ولكن المرأة لا تزوج نفسها فوليها مأمور أن يزوجها، فقال: {وَأَنكِحُوا} [النور:32]، وفرق بين أنكحوا وانحكوا، فانكحوا بمعنى تزوجوا، وهو خطاب للرجل، وأما أنكحوا فمعناها: زوجوا، وهو خطاب لولي المرأة ألا تعضل المرأة عن الزواج. وفيها إشارة إلى أن المرأة لا تزوج نفسها إذ لم يقل: أنكحن، ولذلك جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيمن تزوجت بغير ولي: (أيما امرأة نكحت بغير أذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل)، فلا يجوز للمرأة أن تزوج نفسها، ولكن الولي هو الذي يزوجها، والولي أبوها أو جدها أو عمها أو أخوها، فهؤلاء عصبة المرأة الذين يزوجونها. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل)، فلا يتم النكاح إلا بأن يعقده ولي المرأة. قال تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور:32] والأيامى: جمع أيم، والأيم هي المرأة التي لا زوج لها، وقد يطلق على الرجل الذي لا امرأة له، ولكن هذا قليل. فأصل الأيم المرأة غير المتزوجة سواء كانت لم تتزوج أصلاً، أو تزوجت وطلقت، أو تزوجت وتوفي عنها زوجها، فهذا كله داخل تحت الأيامى. وقد اختلف العلماء في حكم هذا النكاح: هل هو فرض، أم مستحب، أم مباح؟ فقال العلماء: يختلف ذلك باختلاف حال المؤمن من خوف العنت، وعدم صبره. يعني: حسب حال الإنسان: هل يقدر على الصبر عن النكاح فلا يتزوج، أم أنه لا صبر له عن النكاح، فإذا كان يخاف على نفسه العنت، ويقدر على الزواج فيجب عليه أن يتزوج إذا كان عنده التكاليف المالية، ويخاف على نفسه الوقوع في الزنا. وإذا كان معه مال يكفيه: إما للحج وإما للزواج فهو مخير بين الاثنين. لكن إذا كان يخاف على نفسه الزنا في زمن مثل زماننا الذي كثرت فيه الفتن، ويخاف على نفسه الوقوع فيها، ولا صبر له عنها فيبدأ بالزواج، ثم يرزقه الله عز وجل ما يحج به بعد ذلك، وإلا فليقدم الحج على الزواج. يقول العلماء: إذا خاف الهلاك في الدين أو الدنيا أو فيهما فالنكاح حتم واجب، وإن لم يخش شيئاً فيقول بعض العلماء: إنه يباح له الزواج. وقال البعض: إنه مستحب، وهذا هو الراجح؛ فهو سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في الحديث الذي في الصحيحين من حديث أنس بن مالك قال: (جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها) أي: أن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذهبوا يسألون نساء النبي صلى الله عليه وسلم عن حال النبي صلى الله عليه وسلم، وعن عبادته: كم يصوم؟ وكيف يصلي؟ وكم يقوم من الليل؟ فلما أخبر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء الصحابة عن حاله وعن صلاته؛ كأنهم تقالوها، يعني: كانوا يظنون أن يقال لهم: إنه يصلي من بعد العشاء إلى طلوع الفجر، والنبي صلى الله عليه وسلم بشر يحتاج لقضاء حاجته، ويحتاج إلى أن يكون مع نسائه، وهو مشغول بأشياء فلا يمكن أن يكون وقته كله صلاة وصوم فقط. فهؤلاء كأنهم تقالوها، فقال بعضهم لبعض: (وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً). يعني: هو الذي كان يتوقعه أن النبي صلى الله عليه وسلم يقوم الليل كله من العشاء إلى الفجر، فقال: أنا سأعمل هذا الشيء. وقال الآخر: (وأنا أصوم الدهر ولا أفطر)، وهذا كان متوقعاً أن النبي صلى الله عليه وسلم يصوم كل يوم. وقال الآخر: (وأنا اعتزل النساء ولا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال لهم: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له) أي: أنا أخشى الخلق لله عز وجل، واتقى خلق الله لله سبحانه. قال: (لكني أصوم وأفطر)، ولو أن الدهر كله كان صياماً فكيف سيقوم بالعبادات الأخرى كالجهاد في سبيل الله عز وجل، وتعليم الناس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! قال: (وأصلي وأرقد)، ولو أنه يقوم الليل كله لتعب، ونفهت عيناه، وتعبت قدماه، ولم يقدر على المواظبة والمواصلة، ولكنه يقوم من الليل، ويرقد صلوات الله وسلامه عليه. قال (وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)، وضع لهم هذه القاعدة: فالذي لا يريد سنة النبي صلى الله عليه وسلم فلا يستحق أن ينسب إليه، ولا يستحق أن يتشرف بأن ينسب إلى سنته، أو أن يكون معه يوم القيامة. فوضع لهم هذه القاعدة التي أراحت المؤمنين، ومن شدد على نفسه وجد المشقة بعد ذلك، فـ عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه شدد على نفسه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرأ القرآن في شهر، قال: أطيق أكثر من ذلك، قال: اقرأ القرآن في خمسة عشر يوماً، قال: أطيق أكثر من ذلك، قال: في أسبوع، قال: أطيق أكثر من ذلك، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: من قرأ القرآن في أقل من ثلاث لم يفقه). فشدد على نفسه فكان يختم في كل ثلاثة أيام، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (صم يوماً وأفطر يوماً، فقال: أطيق أفضل من ذلك، قال: لا أفضل مثله، ثم قال: خير الصيام صيام داود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً). فـ عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما لم يأخذ الرخصة، وأخذ بهذا لما كبر سنه رضي الله تعالى عنه وجاءته الشيخوخة، فلم يكن قادراً على ذلك، وهذا ليس فرضاً عليه، وكان يقول: يا ليتني أخذت برخصة النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: هو كان أعلم مني بنفسي، فقيل له: لماذا لا تترك الذي أنت فيه؟ يقول: لا أريد أن أترك شيئاً كنت أفعله على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فأريد أن أقابله يوم القيامة، فشدد على نفسه فشدد عليه. قال الله سبحانه: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32]، هذا إذا وجد العبيد، فهنا يأمر الله عز وجل سيد العبيد أن يزوجهم ويعفهم، وإذا تركوا بغير زواج أوشك العبد أنه يهرب من سيده ليزني، والأمة كذلك، فأمره بإعفاف هؤلاء. ثم وعد الله عز وجل الجميع فقال: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32]، وفضل الله عظيم سبحانه. والإنسان يعيش في الدنيا يبتغي فضل الله سبحانه، ورزقك عند الله مقسوم، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58]، فوعد من الله عز وجل لهم أنهم إذا استغنوا بالله سبحانه، وطلبوا العفاف في هذا الزواج، فالله يغني الناكح المتعفف، وكم من إنسان يتزوج ويغنيه الله سبحانه، وكم من إنسان يتزوج ويفتقر، فهذا وعد الله والله لا يخلف الميعاد، فمن توكل على الله فالله وكيله، والله حسبه، والله يعطيه سبحانه. والإنسان الذي يعتمد على نفسه ويترك توكله على الله سبحانه ويحسن الظن بنفسه، ويسيء الظن بالله لا يستحق أن يعان إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]. وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة حق على الله عونهم)، فجعل الله عز وجل لهؤلاء حقاً عليه عز وجل أن يعينهم. فقال: (المجاهد في سبيل الله سبحانه) أي: ليس في سبيل دنيا ولا مغنم، وإنما في سبيل الله، ولرفع دين الله ونصره. قال: (والناكح يريد العفاف)، إنسان يتزوج يريد أن يغض بصره، وأن يحصن فرجه، ويريد أن يتعفف بهذا النكاح، ويرجو رحمة الله ثقة في الله، فهذا حق على الله أن يعينه وأن يغنيه سبحانه. قال: (والمكاتب يرد الأداء)، والمكاتب: هو العبد الذي كاتبه سيده على أن يؤدي مالاً معيناً ويصير حراً، فهو يسعى جاهداً لذلك، فحق على الله عونه. وهذا حديث صحيح رواه النسائي، والترمذي، وابن ماجه. يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (التمسوا الغنى في النكاح)، أي: أنه يستدل وينزع بهذه الآية: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32]. وقال عمر رضي الله عنه: عجبي ممن لا يطلب الغنى في النكاح وقد قال الله تعالى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32]. فهذا في الإنسان الناكح الذي يريد العفاف، والذي يتوكل على الله، ويتقيه، ولا يرهق نفسه ولا يرهق غيره بتكاليف النكاح، فالإنسان الذي يتزوج على كتاب الله وعلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويريد أبسط الأشياء، والمرأة التي تريد ذلك فهذا زواج مبارك، وهذا من بركتها. فالله عز وجل ييسر النكاح لهؤلاء، وييسر لهم الغنى، والإنسان الذي يتزوج ويريد أن يتزوج بالديون، وأن يكون عنده الشيء العظيم من والمتاع، والمرأة تأبا أن تتزوج إلا إذا كان المهر كذا، وكان المتاع كذا، فهؤلاء يفتقرون في النهاية. ولكن كلما تيسر أمر النكاح كان فيه بركة من الله عز وجل، وكان فيه عون من الله سبحانه على ما في هذه الآية من وعد الله، نسأل الله من فضله ورحمته. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله و

تفسير سورة النور [32 - 33]

تفسير سورة النور [32 - 33] دين الإسلام هو دين الفطرة، فقد جاء ليهدي النفوس لا ليعذبها، ومن أجل ذلك سن الزواج الذي هو نداء الفطرة في كل إنسان سوي، فأمر المولى سبحانه أولياء الأمور بتزويج من احتاج إلى ذلك رجالاً ونساء، ولأن هذه الغريزة متعلقة بالجسد والنفس فهي مرادة حتى من العبيد والإماء، إذ لا دخل لرقهم في غرائزه وشهواتهم.

تفسير قوله تعالى: (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم)

تفسير قوله تعالى: (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم) الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور:32]. يأمر الله سبحانه في هذه الآية بالنكاح والإنكاح، فيقول: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32] (أنكحوا) أي: زوجوا، فالولي يزوج من هو ولي عليها، كابنته وأخته، فإذا زوجت فلا ترفض ذلك؛ فهي مأمورة بالطاعة، ويلزمه ألا يكرهها، إلا أن تكون صغيرة ومثلها لا رأي له. ولكن الأصل أن الله سبحانه وتعالى جعل النكاح عفة لعباده، وجعله وسيلة للتناسل وإبقاء النسل إلى ما يشاء الله سبحانه وتعالى. قال: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى} [النور:32] يعني: من ليست له زوجة من الرجال، ومن ليس لها زوج من النساء، والأصل أن الأيم هي المرأة التي لا زوج لها، ويطلق أيضاً على الرجل الذي لا زوجة له. قال: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32]، فأمر أيضاً بتزويج العبيد والإماء، أي: أعينوهم على العفة بالزواج، قال: {مِنْ عِبَادِكُمْ} [النور:32]، فكما أن الحر له حقوق، فكذلك العبيد لهم حقوق، فالله عز وجل جعل لهم حقوقاً في كتابه، وجعل لهم حقوقاً على لسان النبي صلوات الله وسلامه عليه؛ لأن العبد إنسان مؤمن مثل الحر، ولكن جعله الله عز وجل تحت يدك، فلا تتجبر عليه، ولا تقس عليه، ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم)، إذاً: فهذا العبد جعله الله تحت يد الحر، ولو شاء الله لجعل هذا الحر عبداً تحت يد هذا العبد وجعله حراً، ولكن الله عز وجل منّ على عباده حين ملكهم هؤلاء، وقال: راعوا الحقوق في الذين تملكونهم، فكما أنك إنسان ومقتضى إنسانيتك أن لك حقوقاً فتحتاج إلى النكاح لتعف به نفسك، فكذلك هذا العبد يحتاج إلى ذلك. والإنسان الحر لو لم يتزوج لعله يقع في السفاح والزنا، والعبد كذلك، بل العبد أشد، فالحر قد يجد من أهله من يمنعه من ذلك، وأما العبد والأمة فلا أهل لهما. فالعبد قد يكون أسيراً وجيء به إلى أرض غير أرضه، فإذا به لا أهل له، ولا رادع له، فإما أن يكون في قلبه إيمان يمنعه وخوف من الله عز وجل يدفعه إلى طاعة الله، وإما أنه لا يهتم بشيء، فإذا به من أفجر الفجار. ووجود الإنسان الحر في أهله إذا أراد أن يقع في منكر فإنه يستحيي منهم ويخاف؛ لأنه يوجد فيه من يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر. ولذلك أمر الله عز وجل الأحرار بالزواج؛ لأن هذا يحصنهم ويمنعهم من الفجور، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (يا مشعر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فأنه أغض للبصر، وأحصن للفرج)، فالزواج ليس للأحرار فقط دون العبيد، ولكن قال الله عز وجل هنا: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32]، والصلاح خير لصاحبه في كل أحواله حراً كان أو عبداً، فهنا وصى الله سبحانه بهؤلاء الصالحين من العبيد والإماء أن زوجوا هؤلاء، فالسيد يملك الأمة، فإما أن يعفها هو بأن يطأها ويكون له منها الولد، فهي ملك يمين، أو يتزوجها، أو يزوجها، أو يبيعها لمن يقدر على ذلك. وأمر الله عز وجل الحر السيد أن يزوج هذا العبد حتى لا يقع في الحرام، قال: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32].

معنى قوله تعالى: (إن يكونوا فقراء يغنهم الله)

معنى قوله تعالى: (إن يكونوا فقراء يغنهم الله) ثم قال سبحانه: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ} [النور:32]، فوعد من الله سبحانه أن الإنسان الذي يتزوج ابتغاء العفاف أن الله عز وجل سيغنيه من فضله. وفي قوله تعالى: {يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32] ثلاث قراءات: فقراءة أبي عمرو، وروح عن يعقوب: (يُغْنيِهِمِ الله من فضله). وقراءة حمزة والكسائي وخلف ورويس أيضاً: (يغنيهُمُ الله من فضله) بضم الهاء والميم؛ لأن أصل حركة الضمير الضم، فمشى مع هذا الأصل. وقراءة باقي القراء: {يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32]، بكسر الهاء وضم الميم. والله سبحانه وتعالى واسع الرحمة، واسع الفضل، واسع الغنى، فلا تقتر على خلق الله سبحانه. والله عليم بمن يستحق أن يغنيه، فكم من إنسان يتزوج ويكون فقيراً، فتكون البركة في هذا النكاح. وكم من إنسان يتزوج ويكون قد قدر عليه رزقه في هذا النكاح، فالله أعلم بمن يستحق فضله، فنحن نرى شيئاً والله عز وجل يرى قلوب العباد ما الذي فيها، وما الذي يستحقونه. فقد وعد في كتابه فقال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]، فهناك إنسان يتقي ربه سبحانه، ويتوكل عليه، ويمشي في الأمر فييسره الله عز وجل، وهناك إنسان يجرب ربه فيقول: سأتزوج فأنظر هل سيغنيني أم لا؟ والله جل في علاه لا يجرَّب، لكن إن تثق في الله عز وجل يعطك، وإن تتوكل على الله فالله نعم المولى ونعم الوكيل ونعم النصير. ولذلك فالإنسان الذي يثق بالله عز وجل يقول له: (أنا عند ظن عبدي بي)، فظن بالله خيراً؛ فإن الله عز وجل عند حسن ظنك به. أما أن تجرب ربك وكأنك لم تحسن الظن به، وكأنك تشك في وعده سبحانه وتعالى، فلا يستحق فاعل هذا إلا ما يشاءه الله سبحانه. ففقر الإنسان لا يمنعه من الزواج طالما أنه يملك شيئاً يتزوج به، ويجد من ترضى به على حاله، فليتزوج ولينتظر الفضل والرزق من الله سبحانه، وإذا كان شديد الفقر لا يقدر أن ينفق على من يتزوجها، فليصبر في هذه الحال. وفرق بين إنسان رزقه قليل فيستطيع أن يعيش عيشة متواضعة في مكان يسير، وعلى قدر حاجته، وينفق على المرأة التي يتزوجها وهي ترضى بهذا، فهذا خير وبركة وتيسير من الله سبحانه وتعالى، ولذلك هنا جاء في الحديث ما يبين أن الفقر لا يمنع من الزواج، وأن الإنسان الفقير طالما أنه يجد شيئاً فليتزوج. ففي الحديث الذي أخرجه البخاري من حديث سهل بن سعد أن امرأة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (إني وهبت لك نفسي)، وهذا جائز للنبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب:50]، وهذا الحكم له وحده فقط صلى الله عليه وسلم، لذلك قال الله عز وجل: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50]. فلما قالت المرأة ذلك سكت النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر هنا في الحديث أنها قامت قياماً طويلاً، فقال رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم: (زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة) يعني: كأن الرجل وجد أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يريد أن يتزوجها، وكان شديد الحياء، فاستحيا أن يقول لها: لا، وهذا من أدبه الجم عليه الصلاة والسلام. فالرجل استشعر ذلك، والمرأة تريد الزواج، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (زوجنيها إن لم تكن لك بها حاجة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل عندك من شيء تصدقها؟)، ولم يقل: اذهبي وهاتي أولياءك؛ لأن الله تعالى يقول: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6]، فهو أولى بها من أبيها وأخيها ومن نفسها أيضاً. فقال لهذا الرجل -وقد نظر لمصلحة المرأة الآن-: (هل عندك من شيء تصدقها) يعني: لم يسأله هل عنده بيت أو مكان يتزوجها فيه، ولكنه سأله عن المهر. فقال الرجل: (ما عندي إلا إزاري) أي: ليس عندي شيء إلا الإزار الذي ألبسه، فقال: (إن أعطيتها إزارك جلست ولا إزار لك) يعني: ماذا ستعمل؟ وكيف ستصلي وقد أعطيتها وأصبح ملكاً لها؟! ثم قال: (التمس شيئاً، فقال: ما أجد شيئاً، فقال التمس)، وكانوا فقراء، فالرجل منهم يذهب يعمل ويأتي بطعام يومه أو وجبته، فهذا الذي يملكه، فإذا تزوج فإنه يستطيع أن يطعم المرأة كل يوم، ولكن لابد للمرأة من مهر، فالرجل لم يجد، فقال: (التمس ولو خاتماً من حديد) ولم يقل له: من ذهب أو من فضة، لأنه لن يستطيع أن يأتي به، ولكن ولو خاتماً من حديد، فلم يجد، فقال: (أمعك من القرآن شيء، فقال: نعم، سورة كذا وكذا، وسورة كذا، لسور سماها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد زوجناكها بما معك من القرآن) يعني: مهرها الآن السور التي معك، فإذاً: أنت ملزم أن تحفظها الذي تحفظه من القرآن، فهذا هو مهر هذه المرأة. والغرض من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم وجد الرجل فقيراً لا يملك أن يدفع مهراً، ومع ذلك لم يقل له: لا تتزوج، فطالما أنه يقدر على أن يأتيها بطعام يومها، وأنه يستطيع أن ينفق عليها ما تحتاجه من ضروريات الحياة، إذاًَ: فعلى ذلك له أن يتزوجها ولو كان المهر شيئاً يسيراً. وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن: (من بركة المرأة يسر مهرها)، فيكون مهراً يسيراً خفيفاً، وهذا من بركة المرأة أن تتزوج فيكون الزواج يسيراً لا مشقه فيه، وأيضاً ما إن تتزوج حتى تنجب فهذا من بركة المرأة.

تفسير قوله تعالى: (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا)

تفسير قوله تعالى: (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً) قال الله عز وجل بعد ذلك: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33]، فإذا كان الإنسان لا يوجد معه مهر، ولا يستطيع أن يقوت من يعول ولا أن يقيم بيتاً، فكيف سيتزوج؟! فيلزمه الاستعفاف إذاً. قال تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ} [النور:33] السين في يستعفف استدعاء واستفعال، يعني: ليطلب العفة، ويستدعي العفة من نفسه. والعفة: هي الكف عما حرم الله سبحانه وتعالى، وعما لا يحل للإنسان أن يفعله. فالإنسان العفيف هو الذي يصبر عن محارم الله سبحانه، ويضبط نفسه ويكف نفسه عما حرم الله، وعما يجب أن يتركه. وليستعفف هؤلاء الذي لا يجدون نكاحاً، يعني: لا يجدون طول النكاح، فلا يقدر على النكاح بسبب المال. وإلى متى يستعففون؟ قال الله تعالى: {حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33]، وكأنه وعد من الله سبحانه وتعالى إن تستعفف يغنك الله عز وجل. وليستعفف هؤلاء إلى أن يرى الله عز وجل منهم عفة حقيقة وصبراً جميلاً، فيغنيهم الله عز وجل من فضله. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء)، فالصوم يمنع الإنسان من معصية الله عز وجل؛ لأنه يقلل الدماء في عروقه، فيصبره على الشهوة، ويصبره على أمر النكاح، ولا يستعجل الإنسان فيقول: أنا صابر فلماذا لم يغنني الله؟ وأنا أسال الله فلماذا الله لم يعطني؟ فالإنسان المتعجل جدير بعدم الإجابة، لذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول: دعوت فلم يستجب لي)، فهذا إنسان عجول يدعو قليلاً ثم ينقطع، فالإنسان الذي يدعو يصبر لأمر الله سبحانه، فالله لم يقل: أنا سأستجيب لك اليوم، ولا غداً. وانظر حين وعد الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بفتح مكة فقال: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا} [الفتح:27]، فالصحابة يريدون وعد الله عز وجل، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى رؤيا قبل ذلك أن الله يفتح لهم، فلما ذهبوا عام الحديبية ولم يستطيعوا أن يدخلوا مكة ورجعوا قالوا: (ألم تكن تحدثنا أنا نأتي مكة)، فكأنهم تعجلوا ذلك، قال: (بلى، وإنا إن شاء الله آتوها، هل حدثتكم أنا نأتي هذا العام؟!)، هل قلت لكم إننا سنأتي هذه السنة؟ فلم يقل ذلك ولكن ذكر لهم رؤيا رآها أنهم سيفتحون مكة، وسيدخلونها، وأما تحقيق ذلك فمرجعه إلى الله تعالى، ولكن سيكون وعد الله الذي وعد به نبيه صلوات الله وسلامه عليه. فرجعوا من الحديبية بعدما كانوا مؤملين أنهم يدخلون مكة، ولم يدخلوا، ولما أمرهم أن يحلقوا كأنهم ما زالوا ينتظرون دخول مكة، فلم يحلقوا، وأصبح كل واحد يتلكأ ويتأخر حتى حلق النبي صلى الله عليه وسلم شعره، ثم بدأ يحلق بعضهم لبعض، وكاد بعضهم يقتل بعضاً من شدة غمهم؛ لأنهم لم يدخلوا مكة هذا العام. فلما كانوا راجعين أنزل الله عز وجل سورة الفتح: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1]، فتح ماذا وقد رجعنا من دون فتح ولا شيء؟ فذهب عمر يسأل النبي صلى الله عليه وسلم -وكان من أكثر الناس كلاماً في هذا اليوم- فقال: (أو فتح هو؟ قال: نعم) يعني: هل هذا الذي عملناه فتح وقد رجعنا بشروط أقرب للهزيمه منها للعدل، ورجعنا ولم ندخل ولم نعتمر؟ فقال: نعم، فتح، فصدَّق عمر أن الأمر فتح، وكان أعظم الفتوح. وفي سنين الإسلام الطويلة قبل ذلك كان العدد الذي يدخل في الإسلام قليلاً، إلا أن ما بين الحديبية إلى فتح مكة دخل في دين الله الأفواج الكثيرة، ثم فتحت مكة بعد عامين فكان الفتح العظيم من الله، وكانت الإجابة بوعد الله سبحانه وتعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه. فهنا لم يقل: سنفتح لكم مكة اليوم، أو غداً أو بعد كذا، والله أعلم من يستحق أن يستجيب له حالاً، ومن يستحق التأجيل، ومن لا يستحق الاستجابة في الدنيا بل يدخر له ذلك ليوم القيامة. لذلك على المؤمن أن يصبر لأمر الله وينتظر الفرج ولو بعد حين، وتأمل صبر يعقوب عليه الصلاة والسلام على ذهاب ابنه، فلما قال الله: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف:4]، وهذه رؤيا نبي فهي حق، فلذلك الأب فهم الرؤيا، وأنه لابد أن الأب والأولاد كلهم يسجدون ليوسف عليه الصلاة والسلام، فهذه رؤيا حق، فقال: {لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف:5]، ثم أخذوا أخاهم وألقوه في الجب، وجاءوا لأبيهم وقالوا: أكله الذئب، فلم يصدقهم في ذلك، ولم يقل: يا رب ائتني به الآن، فأنا لا أصدقهم فيما يقولون، أو دلني على مكانه، وإنما صبر سنين طويلة إلى أن أصبح يوسف أميراً على مصر، وحاكماً عليها، وهذه سنين طويلة جداً إلى أن رجع يوسف لأبيه أو جاء الأب إلى ابنه. فعلم أن الله لا يخلف الميعاد، وأن هذه رؤيا حق، فلم يسأل ربه أو يناقشه في هذه الرؤيا، وأولاده يكذبون عليه يوماً بعد يوم، فقالوا: أكله الذئب، ثم قالوا: {تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنْ الْهَالِكِينَ} [يوسف:85] وقد قالوا له ذلك قبل أن يجد يوسف عليه الصلاة والسلام. وقد كان شديد الصبر والكظم لغيضه، {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف:84]، فذهبت عيناه من الحزن، لكنه لم يتعجل أمر الله إلى أن جاء أمر الله سبحانه وتعالى: {وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف:100]، وهذه الرؤيا لها فوق الخمسين سنة قبل ذلك، ثم كان تأويل هذه الرؤيا -وهي رؤيا صدق- وتحققت لكن لم يُحدد زمن لوقوعها. كذلك الإنسان المؤمن الذي يتوكل على الله ويثق بوعده، وأن الله يريد به الخير واليسر، وأنه إن أخر شيئاً فلخير أخره، فماذا سيخسر الله إن استجاب الآن أو غداً، ولكن له حكمة سبحانه وتعالى، فثق بالله سبحانه، وانتظر فضله ورحمته الواسعة. نسأل الله عز وجل من فضله ورحمته. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة النور الآية [33]

تفسير سورة النور الآية [33] خلق الإنسان في هذه الحياة ليبتلى، فقد يبتلى بالفقر والغنى، ومن ذلك أن الرجل كامل القوة تام الأعضاء قوي البنية قد لا يجد صداق امرأة ينكحها، فيأتي التوجيه الرباني مرشداً له كيف يتصرف ويواجه هذا الابتلاء، وذلك بأن يطلب الاستعفاف بالصيام، والابتعاد عن كل ما يثير هذه الشهوة الجامحة حتى تزول شدته، ويأتي الفرج من ربه، فينكح ما طاب له من النساء.

تفسير قوله تعالى: (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله)

تفسير قوله تعالى: (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:33]. لما أمر الله عز وجل عباده بالنكاح وقال: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32]، ووعد سبحانه بالفضل منه {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور:32]. قال: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا} [النور:33]، فالقادر على النكاح يتزوج، وخاصة إذا كان في زمن الفتنة ويخاف على نفسه من العنت والوقوع في الفاحشة، فيجب عليه أن يتزوج طالما عنده القدرة المالية، وعنده القدرة على النكاح. وأما الذي لا يقدر فيطلب العفاف والكف عن ما حرم الله سبحانه بأن يغض بصره، ولا يمشي في أماكن الحرام، ولا يصادق أصدقاء السوء، ولا يطلع على ما لا يحل له الاطلاع عليه، ويكف شهوته بأن يكثر من الصوم، ويتذكر أمر الآخرة والحساب عند الله عز وجل، وأمر النار لو أنه وقع في الفاحشة وفي المعصية، ويتذكر ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من أحاديث في أن (العين تزني، وأن اليد تزني، وأن الرجل تزني) وما إلى ذلك من أحاديث، فيستعين بما ذكرنا وغيره على أن يحصن نفسه؛ لئلا يوقع نفسه في الفاحشة, فيتعفف بالبعد عن الحرام. {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33]، والله سبحانه يعد بأن يغنيه من فضله وقت ما يشاء سبحانه وتعالى، فيتعفف هؤلاء انتظاراً لفرج الله، وانتظاراً للغنى من الله سبحانه وتعالى.

تشوف الإسلام إلى إعتاق العبيد

تشوف الإسلام إلى إعتاق العبيد ثم قال: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النور:33] وهؤلاء هم ملك اليمين، وهم العبيد والإماء، فلهم حقوق كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث فقال: (إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم) فالله عز وجل جعل هؤلاء العبيد تحت أيدي الأحرار يملكونهم، والله يفعل ما يشاء، وقد كان الرق قبل الإسلام منتشراً جداً، وكان موجوداً عند العرب في الجاهلية وعند اليهودية والنصرانية وعند الكفار من هنود وبوذيين وغيرهم من الأمم، فجاء الإسلام على هذا الوضع الموجود، فلو أنه بدأ وقال: حرروا الرقاب، لما أطاق أحد أنه يفعل ذلك، وما نفذوا ذلك؛ لأن الرقاب التي في أيديهم أموال، فالواحد يشتري بماله عبداً أو عبدين أو ثلاثة؛ ليعلموا ويأخذ منهم الأجرة على العمل الذي عملوه، وهو يملكهم ويبيعهم، فلو أنه حرم عليهم ملك العبيد وأمر بتحرير كل العبيد لما استجابوا لذلك. ولذلك جاء الإسلام يريد أن يحرر هؤلاء العبيد، ولكنه لم يأت بوجوب إعتاق الرقاب مطلقاً، ولكن جعل ذلك في الكفارات مثل كفارة القتل خطأً أو عمداً، فيحرره إذا كان قبل عمداً واستحق بذلك النار؛ فلعل الله عز وجل أن يعفو عنه. فالإنسان الذي قتل خطأ الكفارة التي عليه أن يبدأ بالعتق، والإنسان الذي يحلف يميناً فعليه كفارة ويبدأ بتحرير الرقبة، والإنسان الذي يظاهر من أهله عليه في الكفارة تحرير رقبة، والذي يفطر عمداً بجماع في نهار رمضان عليه كفارة تحرير رقبة. فجعل كفارات كثيرة أول ما يبدأ المكفر فيها يبدأ بتحرير الرقاب، فهذا هو ما يجب فيه تحرير الرقاب، وما سوى ذلك فقد جعل تحرير الرقاب مستحبا، ً فمن خاف من النار يوم القيامة أعتق عبداً يكون فكاكاً من النار. وأمر الله المسلمين أن يجعلوا جزءاً من زكاة أموالهم في عتق الرقاب، قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة:60]، فقوله: (وفي الرقاب) يعني: جعل شيء من زكاة ماله لعتق العبيد. وقد جعل من ذلك أيضاً عتق المكاتَب، فإذا وجد السيد في عبده خيراً وعلم منه صلاحاً وتديناً وأمانة وقدرة على الكسب ولا يوجد مانع من عتقه أعتقه، وقد يقول الإنسان: هذا مالي فكيف أضيعه من يدي ببساطة؟! فلما علم الله شح النفوس جاء بطريقة ثانية فحْواها ألا يضيع مال السيد، بل يترك العبد يعمل ويدفع ثمن نفسه، فيكتب عقداً بينهما أنه يدفع ذلك خلال سنتين مثلاً، ثم يكون بعد ذلك حراً. فانظروا كيف حرر العبيد، فمرت السنون والأعوام وإذا بكل العبيد يعتقون، ولا يوجد رق بعد ذلك. وانظر الفرق بين الإسلام وبين الغرب الكافر فلما أراد الأمريكان أن يحرروا العبيد صدر بذلك قرار جمهوري، فوقعت حرب أهلية بين الناس، ودام القتال سنوات طويلة بين أصحاب المال ومن يريد أن يتحرر. أما الإسلام من فقد حرر العبيد من غير إراقة دماء، ولكن حرر هؤلاء خلال سنين طويلة. فالإسلام يخاطب القلوب والعقول، ويذكر بالآخرة، ويربط العامل بدخوله الجنة، والنجاة من النار، فجاءت هذه الآية في الكتابة، والكتابة: هي العقد بين السيد والعبد سواء كان ذكراً أو أنثى. فيقول لهم سبحانه: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النور:33] فالعبد يطلب من سيده أن يحرره، فهذا معنى قوله: (يبتغون)، فلا يتعنت السيد فيمنع ذلك، لكن طالما أن العبد يقدر على أن يأتي بثمن نفسه، وهو عبد صناع فلا مانع أن يكتب معه عقده، قال: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النور:33] وملك اليمين هو العبد أو الأمة. قال: {فَكَاتِبُوهُمْ} [النور:33]، هذا أمر من الله للسادة بالكتابة، قال: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور:33] يعني: إن علمت في هذا الإنسان أمانة وتديناً وصلاحاً وقدرة على الكسب فكاتبه. وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن عقد الكتابة في هذه الحالة واجب، واحتجوا بقوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ} [النور:33]، وهذا أمر من الله فيحمل على الوجوب. لكن الجمهور قالوا: هذا الأمر على الاستحباب، وقرينة صرفه عن الوجوب قوله في الآية نفسها: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور:33]، والخير والصلاح والتدين والأمانة شيء قلبي ولا أحد يطلع عليه، فالسيد لم يعلم إلا بالظاهر، وقد يكون الباطن خلاف ذلك، فقد يظهر ذلك ليعتق. وقد كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إذا وجد من عبيده من هو محافظ على العبادة اعتقه، فكان عبيده يتظاهرون أمامه بذلك، فكان يعتقهم. ففال له الناس: إن هؤلاء يخدعونك وإنما يفعلون ذلك أمامك فقط، فكان يقول: عبد الله بن عمر رضي الله عنه: من خدعنا بالله انخدعنا. فـ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان صادقاً مع الله، وتأمل الفرق بيننا وبينه، فنحن نحاول أن نكون أذكياء، لكن الصحابة كان ذكاؤهم فطرياً، فهم لا ينخدعون ولكن يتغافلون. والمؤمن يتعامل مع الله سبحانه وتعالى، فإذا وجد إنساناً يظهر الصلاح اعتبره صالحاً، ولا يشغل نفسه به: هل هو صادق أم لا؟ لأن الله سبحانه هو الذي سيتولى حسابه، فلماذا يضيع وقته معه ويقعد يرقبه ليتأكد من صلاحه؟! لذلك كان الصحابة أفطن وأعلم بأمر الدنيا والآخرة منا، فنحن نقعد نفتش وننقب ونبحث فيضيع وقتنا بدون فائدة، لكنه ببساطة يقول: من خدعنا بالله انخدعنا. يعني: نحن عملنا هذا العمل لله، فلنا الأجر عند الله، وهم حسابهم عند الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور:33]، فإن علم الإنسان في هذا العبد خيراً كاتبه، قالوا: وعلم الخير شيء مجهول، ونحن إنما نعلم الظاهر فقط، وأما ما في القلب فلا نعمله، فيكون الحكم على ذلك: إذا علمت صلاحه يقيناً وجبت مكاتبته، وأما إذا لم يعلم يقيناً فيستحب أن أكاتب هذا العبد الذي ظهر فيه الخير والصلاح. قال تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33]، فانظروا الفضل من الله عز وجل، فربنا كريم ويعلِّم العباد الكرم. فالله عز وجل يأمرك أن تكاتب هذا العبد، وهو لا يملك مالاً؛ لأنه قبل عتقه ملْك لسيده، وكذلك كسبه، فإذا كاتبته على مال معين فاعفه عن جزء منه؛ إعانة له في عتقه، فالله عز وجل يقول لهذا السيد: اتق الله في هذا العبد أن تأخذ منه كل المال، فإن كنت كاتبته على ألف فخفِّض له قليلاً، فإذا أعطاك ثلاثة أرباع المال فاعف عن الربع الأخير، وإذا كان عليه عشرة أقساط فأترك له قسطاً أو قسطين. وهنا قال سبحانه: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33]، فالله عز وجل دائماً يذكرك أن المال ليس مالك، وإنما هو مال الله، ويعرف الإنسان ذلك في وقت الوفاة حينما يقول: مالي كله صدقة، فيقال له: المال مال الورثة، ولكن لك أن توصي بالثلث من المال فقط، وبشرط ألا توصي بذلك لوارث، فليس من حقك أن تفعل ذلك، فإن كنت تريد أن تعمل الخير فأوصي إلى غير وارث. وعندما يكون الإنسان في مرض الموت يستشعر أنه الذي جمع المال طول عمره، فإذا أراد أن يصرفه رُفع أمره إلى القاضي ليحجر عليه، فهذا المال جمعة في حياته كلها لكن ليس من حقه الآن أن يصرفه؛ فقد انتقل للورثة. فالإنسان خليفة في الأرض، وهو لا يخلف الله تعالى كما يقولون، وإنما الإنسان يخلف غيره، فهذا يموت والآخر يأتي بعده، وهذا يذهب وهذا يأتي، والمال في يد هذا وبعد ذلك أخذ هذا المال آخر، فيخلف بعضهم بعضاً. فهنا يقول ربنا سبحانه: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33] يعني: أن السيد الذي كاتب عبده يتنازل عن قسط أو قسطين من المال، وكذلك المسلمون يدفعون من زكاة أموالهم؛ ليساعدوه من اجل أن يعتق ويتحرر. وبهذه السورة العظيمة الجميلة تحررت رقاب كثيرة حتى تحررت كل الرقاب التي مع المسلمين. والكتابة كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم صورة من الصور التي تبين حرص الصحابة على الخير وخاصة أمهات المؤمنين رضوان الله وتعالى عليهن، فهذه عائشة رضي الله عنها جاءتها بريرة، وهي امرأة كانت أمة وكان زوجها عبداً، فـ بريرة يملكها أناس، وزوجها -اسمه مغيث - يملكه أناس آخرون، فتزوج مغيث من بريرة، وبعد ذلك كاتبها أهلها على تسع أواق في تسع سنوات أو في خمس سنوات، فـ بريرة لما كاتبوها دخلت على عائشة رضي الله عنها تستعينها في كتابتها، وعليها خمس أواق نجمت عليها في خمس سنين. وهذه الرواية من روايات الحديث في صحيح البخاري، وفي رواية أخرى وهي الأرجح منها: أنهم كاتبوها على تسع أواق من الفضة خلال سنين معينة وتعتق بعدها، فهي لم تكن أدت من كتابتها شيئاً، فجاءت إلى عائشة رضي الله عنها تستعين بها على ذلك، فأعجبتها وأحبت أن تسارع وتبادر إلى خير، فقالت: أرأيت إن عددتها لهم عدةً واحدة أيبيعك أهلك فأعتقك فيكون ولاؤك لي؟ يعني: إذا دفعت لك ذلك مرة واحدة، هل سيبيعك أهلك؟ وهي لا تريد أن تشتريها لتجعلها أمة عندها، وإنما لتعتقها رضي الله تبارك عنها. فذهبت بريرة إلى أهلها فأبى أهلها ذلك، وقالوا: لا إلا أن يكون لنا الولاء. والولاء في هذا الباب بمعنى: الميراث، والمعنى: أنهم أرادوا ذلك، إذ قد تصبح غنية في المستقبل، فلعلها تموت فإذا لم يكن لها ورثة ورثوها بالولاء. وبريرة كانت متزوجة من مغيث، والظاهر أنها عندها أولاد منه، فلما عتقت خيرت في زوجها هل تبقى معه أو لا تريد أن تبقى معه، فكان مغيث يجري وراءها في الطريق وهو يبكي يريدها أن تبقى معه،

تفسير سورة النور [33 - 34]

تفسير سورة النور [33 - 34] لقد حث الله عباده على النكاح، ومن لم يجد ما لا يتزوج به فقد حثه الله على العفاف، ووعده بالغنى، ورغب الله في مكاتبة الرقيق إن كان فيهم خير، فيكون العتق صلاحاً لهم في دينهم ودنياهم؛ ولا يكونون عالة على غيرهم، وحرم الله على من يملك الجواري أن يكرههن على الزنا، فإن أكرهن فإن الله يغفر لهن إن كن لا يردن ذلك.

تفسير قوله تعالى: (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا)

تفسير قوله تعالى: (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً) الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة النور: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [النور:33 - 34]. يأمر الله سبحانه وتعالى في هاتين الآيتين بالعفة بعدما أمر بالإنكاح، قال سبحانه وتعالى قبل ذلك: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32]، فأمر بالتزويج، وأن الولي الذي عنده عبد أو أمة وهم يريدون النكاح أن يعينهم عليه. ثم قال: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا} [النور:33]، فالقادر على النكاح يتزوج، والذي لا يجد قدرة مالية على النكاح فليستعفف: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33]، وهذا أمر.

معنى قوله تعالى: (والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم)

معنى قوله تعالى: (والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم) قال: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ} [النور:33]، هذه المكاتبة التي فصلناها قبل ذلك، فقد أمر الله عز وجل الذين يملكون العبيد والإماء إذا وجدوا منهم صلاحاً، ووجدوا فيهم أمانة، ووجدوا فيهم خيراً وقدرة على الاكتتاب؛ أن يعينوهم على التحرر والخروج من الرق إلى الحرية، قال: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33]، فأمرهم أن يكاتبوهم إذا لم يحرروهم بلا شيء، فيدفع العبد ثمن نفسه، وذلك بأن يعمل ثم يدفع ثمن نفسه فيكون حراً بعد ذلك. وأمر الله عز وجل بإعانتهم، فهذا الذي يملك عبداً، ويكاتب هذا العبد على ثمن أمره الله عز وجل بالإعانة، وذلك إما بخفض قيمة الأقساط التي يدفعها، فيتنازل له عن قسط أو قسطين من هذا المال، أو أن يعنيه بالمال من صدقة أو من زكاة ونحو ذلك؛ حتى يصير حراً، قال الله: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33]، ويذكرنا الله أن المال هو مال الله عز وجل، فمهما آتيت إنساناً من مال فلا تزعم أن الفضل لك، وإنما الفضل من الله؛ لأنه صاحب المال وصاحب الغنى الحقيقي سبحانه وتعالى.

معنى قوله تعالى: (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء)

معنى قوله تعالى: (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء) ذكر الله حكماً ثالثاً في الآية نفسها وهو: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النور:33]، فالحكم الأول: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا} [النور:33]، والحكم الثاني: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ} [النور:33] وأمر بإعانتهم على فك رقابهم فقال سبحانه: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33]، ثم ذكر حكماً آخر فقال: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النور:33]، وهذا الحكم عام وسبب هذا الحكم خاص، والفتيات هنا هن الإماء، وما كان رجل أبداً يكره ابنته على أن تذهب إلى الزنا، بل كان العرب يقتلون بناتهم خوفاً من الوقوع في ذلك، ولم يكن يحدث هذا من الحرائر غالباً وإنما كان يحدث من الإماء، فكان الرجل يملك مجموعة من الإماء، فيأمر الأمة أن تذهب تسافح وتأتي له بأجرة، فنهى الله عز وجل عن ذلك. وكان سبب نزول هذه الآية في المنافق عبد الله بن أبي ابن سلول لعنة الله عليه، فقد كان منافقاً كافراً امتلأ قلبه بالكفر والحنق على الإسلام، وأعماله فاسدة، وهذا الرجل كان في الجاهلية من كبار الناس في المدينة، وكادوا يجعلونه ملكاً عليهم لشرفه عندهم، فلما جاء الإسلام وجاء النبي صلى الله عليه وسلم ظن أنه قد انتهى أمره وضاعت رياسته، فانقلب ما كان فيه من أمور خير كان عليها في الجاهلية، إلى شر شديد جداً في الإسلام! فدخل في الإسلام كرهاً؛ لأنه وجد من حوله قد دخلوا في الإسلام، وسيضيع منه الأمر إذا ظل على كفره، وخوفاً من أن يقتل كافراً، فدخل في الإسلام ظاهراً وقلبه ممتلئ بالبغض للإسلام وللنبي صلى الله عليه وسلم، فكانت أعماله شنيعة قذرة، وقد كان يكيد للنبي صلى الله عليه وسلم، ويوالي اليهود، ويدافع عن اليهود، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد قتل يهود بني قينقاع دافع عنهم هذا المنافق دفاعاً شديداً، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم أجلاهم ولم يقتلهم. وهناك فرق بين هذا المنافق الكافر المجرم وبين الرجل الأنصاري العظيم سعد بن معاذ رضي الله تبارك وتعالى عنه، فهذا المنافق عبد الله بن أبي ابن سلول كان يهود بني قينقاع أولياء له في الجاهلية، وسعد بن معاذ كان يهود بني قريظة أولياء له في الجاهلية أيضاً، فلما جاء الإسلام ومنع الموالاة مع الكفار فـ سعد بن معاذ ترك هؤلاء. ولما أراد النبي صلى الله عليه وسلم قتل بني قينقاع، إذا بـ عبد الله بن أبي يدافع عنهم دفعاً شديداً، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: أتقتلهم في غداة واحدة؟! ولم يزل يدافع عنهم حتى تركهم النبي صلى الله عليه وسلم له؛ تأليفاً لقلبه، وليس حباً لهذا الإنسان، عسى أن يصلح حاله، وأيضاً خوفاً من الفتنة؛ لأن أشياعه من الأنصار كثير، فقد كان خزرجياً، والخزرج أهل ود النبي صلى الله عليه وسلم، وأهل دفاع عن دين الله عز وجل، فخشي النبي صلى الله عليه وسلم فتنتهم بهذا الرجل المجرم عبد الله بن أبي ابن سلول، فترك له هؤلاء اليهود، وأجلاهم النبي صلوات الله وسلامه عليه. وأما سعد بن معاذ الأوسي الأنصاري رضي الله عنه الذي اهتز عرش الرحمن لوفاته رضي الله تبارك وتعالى عنه؛ فرحاً بقدومه على ربه سبحانه، فلما أراد النبي صلى الله عليه وسلم في حصاره لبني قريظة أن ينزلوا على حكمه، رفضوا أن ينزلوا على حكم النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: ننزل على حكم سعد بن معاذ، وظنوا أنه سيفعل بهم كما فعل المنافق عبد الله بن أبي ابن سلول بحلفائه، فالنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزلهم من الحصن بأمان إلى أن يحكم فيهم سعد بن معاذ، ولما جاء سعد بن معاذ وقفوا يبكون له ويتوددون له، ويذكرونه بأيام الجاهلية، وما كان بينه وبينهم، فقال: آن لـ سعد بن معاذ ألا تأخذه في الله لومة لائم، وحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم، وأن تسبى ذراريهم، وأن تؤخذ أموالهم، فقتل في غداة واحدة جميع رجالهم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم مصوباً لحكمه: (لقد حكمت فيهم بحكم الملك). وهذا عبد الله بن أبي بن سلول المجرم الملعون قال عن النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8]، يقصد بالأعز نفسه، وبالأذل النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين لعنة الله عليه، وقد سلط الله عز وجل عليه ابنه عبد الله، وكان رجلاً مؤمناً رضي الله عنه، فوقف بسيفه على أول المدينة ومنع أباه من الدخول؛ حتى يعترف أنه هو الأذل وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأعز، ومنعه من الدخول حتى أقر بأنه الذليل لعنة الله عليه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم هو العزيز ومن معه من المؤمنين. فهذا الرجل أهل لكل خيانة، وأهل لكل شر، وأهل لكل فساد، وهو سبب نزول هذه الآية، فقد كان عنده جاريتان، وكان يأمرهما بالزنا ويكرهما عليه، فتخرج الفتاة وتزني وترجع إليه بمال الزنا والعياذ بالله. روى الإمام مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن جارية لـ عبد الله بن أبي ابن سلول، يقال لها: مسيكة، وأخرى يقال لها: أميمة، كان يكرههما على الزنا، فشكتا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النور:33]. قال الله: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور:33]؛ لأنه لا يتصور الإكراه إلا والفتاتان لا ترغبان في ذلك وتمتنعان منه، وأما إذا كانت الفتاة تطاوع على ذلك فلا إكراه في ذلك، لكن الفتاة كانت مؤمنة، وكانت ترفض ذلك، فكان يجبرها على هذا الزنا، فأنزل الله عز وجل هذه الآية يحرم ذلك. وقوله: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور:33] هذا وصف للحال الذي عليه الفتاتان، وليس هذا شرطاً، وليس المعنى: إذا أردن تحصناً فلا تكرهوهن، وإذا لم يردن فأكرهوهن، فلا مفهوم لهذه الآية، ولكن المعنى: والحال أنهما تريدان التحصن والبعد عما حرم الله، وتريدان هذا الإسلام العظيم، وتريدان طاعة الله سبحانه، فلا يحل لكم أن تصنعوا ذلك معهن ولا مع غيرهن، والتحصن بمعنى العفة. ثم بين الله سبب إكراههم الفتيات على البغاء فقال: {لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النور:33]، فالأمر كله من أجل المال، والمنافق لا يشبع من شيء، فهو يريد المال ولو بهذه الصورة القذرة حيث يأمر الفتيات بالبغاء. وقوله: (لتبتغوا) مفعول لأجله، أي: لأجل أنكم تبتغون عرض الحياة الدنيا، والدنيا أعراض، نقول: جاء للإنسان عرض، والمرض عرض يعرض للإنسان، والعرض شيء لا يدوم، فما أخذته في الدنيا لا يدوم لك أبداً، بل ينفد ويزول، فكل أعراض الدنيا مهما أخذت منها شيئاً، وكذلك ما يعرض لك من مرض ومن أشياء تبتلى بها فإنها لا تدوم، فهؤلاء يبتغون عرض الدنيا، فالله يحذر من ذلك، ويبين أن هذا عرض ليس دائماً، فابتغ ما عند الله من الجنة الدائمة. وقوله {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور:33] فيها قراءات: قرأها ورش وقنبل عن ابن كثير وأبو جعفر ورويس: (على البغاء ان) بهمزة أولى محققة، وبهمزة ثانية مسهلة. وقرأها قالون والبزي بالعكس؛ بتسهيل الأولى، وبتحقيق الثانية (على البغآ إن)، ولهما المد أو القصر في ذلك. وقرأها ورش أيضاً مطولاً لها: (على البغآ إن أردن) فيمد الهمزة الأولى ويمد الأخرى، وهذه قراءة أخرى له في ذلك. وقرأها أبو عمرو: (على البغا إن)، بحذف الهمزة الأولى وإثبات الثانية فقط. ثم قال تعالى: {وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ} [النور:33] أي: يكره الفتاة على الزنا {فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ} [النور:33]، أي: هؤلاء النساء {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:33]، فالمكرهة معذورة في إكراهها، فإذا أجبرها سيدها على ذلك بالضرب أو بالتخويف بالقتل، فهذه مكرهة، فالله يغفر لها، وهذا الذي أكرهها له العذاب الأليم عند رب العالمين سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات)

تفسير قوله تعالى: (ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات) قال الله: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [النور:34]، لقد تفضل الله عز وجل على عباده بأن أنزل عليهم هذا القرآن الذي يتلى ويعمل بما فيه ويثاب الإنسان عليه. {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ} [النور:34] عظيمات {مُبَيِّنَاتٍ} [النور:34]، فيها قراءتان: (آيات مُبْيَّنات) و (آيات مُبِّيَنَات)، فقرأها ابن عامر وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف: بالكسر، وقرأها نافع وأبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وشعبة عن عاصم: بالفتح على اسم المفعول. فهي مبِّينة على اسم الفاعل بمعنى آية موضِّحة، فهي توضح لك ما تحتاج إليه، فهي في ذاتها ظاهرة وواضحة، وليست محتاجة إلى تعب وعناء في فهمها، فهذا القرآن العظيم كل إنسان يعرف العربية ويسمعه فإنه يفهم ما يقوله الله سبحانه وتعالى، فهو بيِّن في نفسه، وهو مبَّين للأحكام التي يريد الله عز وجل منك أن تعمل بها، وهي مُبَّيَنَة، فإذا جاءت في موضع مجملة وضحت في موضع آخر، وإذا أشكلت في موضع وضحت وفسرت في موضع آخر، وكذلك يبينها النبي صلى الله عليه وسلم بسنته صلوات الله وسلامه عليه. وقوله: {وَمَثَلًا} [النور:34] يعني: هذا القرآن الذي نزل من عند رب العالمين فيه الآيات البينات، وفيه الأمثال، فالله يضرب لكم فيه الأمثال كما قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26]، فيضرب المثل بالبعوض، وضرب المثل بالذبابة، ويضرب المثل بالأحياء والأموات، ويضرب المثل بالجماد، وبالحيوان، وبالطيور؛ لنفهم عنه سبحانه وتعالى. قوله: {وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} [النور:34] أي: الأمثال من الأمم السابقة كيف فعلوا، وكيف فعل بهم. {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [النور:34] أي: وفيه موعظة، والذي يفهم هذه الموعظة ويعمل بها هو التقي، وأما غير التقي فلا يفهم ولا يعتبر، فيكون هو عبرة لغيره، فالسعيد من وعظ بغيره، والشقي من شقي في بطن أمه، فالقرآن فيه آيات بينات، وأمثال من خلوا من قبلنا؛ لنتعظ ونعمل. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيعملون بأحسنه وينتفعون به. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة النور الآية [35]

تفسير سورة النور الآية [35] ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أنه نور السماوات والأرض، ومنورهما، وهادي أهل السماوات والأرض إلى الصراط المستقيم، وضرب الله سبحانه وتعالى مثلاً لنوره قي قلب المؤمن بمشكاة -وهي الكوة غير النافذة- فيها مصباح بداخل زجاجة بيضاء نقية كالكوكب المنير المتلألئ، وفتيل هذا المصباح يوقد من زيت شجرة الزيتون المباركة، وهذا الزيت يكاد يضيء من شدة صفائه، فهذا مثل لنور الله في قلب المؤمن، وهو نور الإيمان والوحي والهدى.

تفسير وقوله تعالى: (الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة)

تفسير وقوله تعالى: (الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة النور: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:35]. ذكر الله عز وجل نوره في هذه الآية العظيمة الكريمة، ومجيئها في هذا الموضع غاية في الجمال والإحكام والإتقان، فالله عز وجل ذكر قبلها غض البصر، فقال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30]. وذكر بعدها: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31]. ثم ذكر أنه أنزل: {آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [النور:34]. ثم ذكر هذه الآية العظيمة، وذكر بعدها: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36]. فالذي يتأمل في هذه الآيات يجد أن الله سبحانه وتعالى قصد أن يبين لنا نوره سبحانه وتعالى، فهو النور سبحانه، وجعل في قلوب عباده نوراً، وأنزل عليهم من السماء نوراً يهديهم، وأرسل إليهم رسولاً من عنده يهديهم إلى نوره سبحانه وتعالى، {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة:15]. فهذا نور بعضه وراء بعض: نور طاعة الله سبحانه وهداه، ونور اجتناب معصية الله سبحانه وتعالى وعقوبته، وذكر ذلك لما ذكر غض البصر، وكأن المعنى: أن من غض بصره فإنه يورث في قلب الإنسان نوراً من عند الله سبحانه وتعالى. فالله نور السموات والأرض، أي: منورهما وهادي كل شيء سبحانه وتعالى، وطاعته تورث في القلب النور، ومعصيته تحجب عن القلب النور.

فوائد غض البصر

فوائد غض البصر قال أهل العلم: من فوائد غض البصر: أنه يورث نور القلب، والإنسان الذي يغض بصره فإنه يستنير قلبه، ويورث الفراسة، فيكون الإنسان ذكياً تقياً يعرف الشيء ويفطن إليه بمجرد إحساسه. ولذلك أخبر سبحانه وتعالى عن قوم لوط أنهم أظلمت قلوبهم فصاروا متحيرين لا يفهمون ولا يفقهون، ووقعوا في هذه الجريمة الشنعاء وهي إتيان الرجال من دون النساء، فالله سبحانه وتعالى يخبر عنهم: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72]. والإنسان الذي يقع في المعصية وخاصة الفاحشة من زنا ولواط، فإن مبدأ هذه الفاحشة هو النظر إلى المرأة أو الأمرد، فيقع في النهاية في هذه الفاحشة والعياذ بالله. وهؤلاء وقعوا فيها واستحلوا ما حرم الله سبحانه وتعالى، فأخبر تعالى أنه عاقبهم وعاجلهم بعقوبة عجيبة جداً، فأرسل عليهم رسولاً من عنده سبحانه يستدرجهم فيما هم فيه من بلاء ومعصية حتى إذا أصروا على الوقوع في هذه الفاحشة، إذا برسل الله عليهم الصلاة والسلام -وكانوا ملائكة من عند رب العالمين- يخرجون لوطاً، وإذا بالقرية تهدم على من فيها، ويرسل عليهم ربنا سبحانه وتعالى حجارة تحرق من كان فيها، ويهلكهم ويتلفهم ويدمرهم بهذه الجريمة، يقول تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يعمهون} [الحجر:72]. والسكرة: العماية، يعني: كأنهم مخمورون، فعقولهم تائهة قد سكرت كالإنسان الذي يشرب الخمر فيتوه عقله، وكذلك أنها مسَّكرة، أي: مغلقة عليهم قد أغلقت وتاهت عقولهم؛ بسبب ما وقعوا فيه من الفاحشة. فالفواحش تظلم على الإنسان قلبه، ومبدأ هذه الفواحش من نظر الإنسان، فينظر فيقع في الزنا أو اللواط، والقلب يتمنى الشيء والفرج يصدق ذلك أو يكذبه.

أضرار النظر إلى ما حرم الله

أضرار النظر إلى ما حرم الله قال أهل العلم: إن التعلق بالصور والنظر إلى ما حرم الله سبحانه يوجب فساد العقل، وعمى البصيرة، وسكر القلب بل جنونه، فيجن القلب فلا يعقل ما الذي يدفع صاحبه إليه، فلذلك قال بعض الشعراء: سكران سكر هوى وسكر مُدامة فمتى إفاقة من به سكران والإنسان السكران الذي في قلبه هوى لا يفيق، وعقله يذهب، فإذا بالقلب والعقل لا يأبهان لشيء ولا يفهمان شيئاً، فإذا به يضيع، ومتى يفيق هذا الإنسان الذي يضيع؟

الأمور التي تؤدي إلى إصابة الفراسة

الأمور التي تؤدي إلى إصابة الفراسة ذكر الله سبحانه آية النور عقب آيات غض البصر لينبه الإنسان أن غض البصر يورث في القلب نوراً وهذا من فوائد الطاعة وتجنب معصية الله سبحانه، لذلك قالوا: كان رجل من أهل العلم اسمه شاه بن شجاع الكرماني، كانت لا تخطئ له فراسة، فكان يتوسم في الشيء ويقول: أظنه كذا، فيكون على ما ظنه، والأمر ليس أمر ذكاء من الإنسان أو أن يجعل نفسه فاهماً وعارفاً بكل شيء، ولكنها من الله عز وجل نور في قلب الإنسان، فيتفطن للشيء الذي لا يتفطن إليه غيره. فسألوا هذا الرجل عن ذلك، فقال: من عمَّر ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوام المراقبة، وغض بصره عن المحارم، وكفَّ نفسه عن الشهوات، وأكل الحلال، لم تخطئ له فراسة. فالإنسان الذي يريد أن يتوقع الشيء ويكون على النحو الذي يتوقعه، ولا أحد يستطيع أن يخدعه، فإن ذلك لن يأتي من كثرة مخالطة الناس، أو أن يظن الإنسان أنه ذكي، ولكن يطيع الله عز وجل فيورثه الله عز وجل في قلبه ما يفهم به الأمور. فهذا الرجل الفاضل كان يقول: من عمّر ظاهره بإتباع السنة، أي: من يفعل كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ويتابع هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسنته. وعمّر باطنه بدوام المراقبة، أي: لا يبقى الظاهر متابعاً للسنة والباطن خرب، ولكن يعمره بمراقبة الله وبالخوف من الله سبحانه وتعالى، فاجتنبوا المعاصي ظاهراً وباطناً. ويغض بصره عن المحارم، ويكف نفسه عن الشهوات، يعني: الباطلة التي حرمها الله عز وجل، فكذلك يأكل الحلال ولا يأكل من حرام، وإذا اجتمعت فيه هذه الصفات الخمس فالله عز وجل يجعل في قلبه فراسة، فلا يكاد يخطئ في شيء يظنه أو يتفرس فيه، فـ {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:35].

شرح حديث: (إن الله عز وجل لا ينام)

شرح حديث: (إن الله عز وجل لا ينام) وجاء في صحيح مسلم عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور -وفي رواية: النار- لو كشفه لأحرق سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه). فالله عز وجل من صفاته سبحانه وتعالى وكماله وجماله أنه لا ينام، وإذا كان أهل الجنة لا ينامون، والنبي صلى الله عليه وسلم تكلم عن ذلك فقال: (النوم أخو الموت) فالنوم دليل على أن الإنسان متعب، فيستريح بالنوم، وأهل الجنة لا يتعبون أصلاً، فالجنة لا تعب فيها ولا شقاء ولا نصب، والنوم في الجنة يضيع على المؤمنين جزءاً من استمتاعهم بالشهوات فيها، وبما أباحه الله عز وجل وجل لهم، وما أعطاهم من إكرام. ولا موت بعد الموتة الأولى، فإذا كان هذا في الإنسان المخلوق، فإذا دخل الجنة فالله عز وجل لا يجعله ينام إكراماً من الله عز وجل لعبده، فكيف يجعل في عبده صفة ويكون هو سبحانه وتعالى على خلاف ذلك! فالله له الكمال سبحانه وتعالى، فالله لا ينام أبداً، فإن النوم أخو الموت، فلا يظن أبداً بالله عز وجل أن يكون فيه هذا النقص. وقوله صلى الله عليه وسلم: (يخفض القسط ويرفعه) فهنا ميزان الله عز وجل العدل، فيفعل ما يشاء ويحكم بما يريد، فيعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، يخفض ويرفع، يعز ويذل، ويفعل ببعض عباده شيئاً ويفعل بغيرهم شيئاً آخر خلاف ذلك، وكل هذا مقتضى حكمته سبحانه وتعالى. وقوله صلى الله عليه وسلم: (يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل)، معناه: أن الأعمال كلها تصعد إلى الله عز وجل ولا يتأخر منها شيء، والإنسان لما تأتيه أشياء فإنه يأخذ بالأول فالأول؛ لأنه لا يقدر على أن يأخذ الجميع مرة واحدة، ولله عز وجل المثل الأعلى، فكل شيء يصعد إليه فهو يعلم كل شيء سبحانه وتعالى، فالأعمال تتسابق ارتفاعاً إليه سبحانه، وهو مطلع على الجميع سبحانه وتعالى قبل صعودها إليه بل قبل أن يفعله الخلق.

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (حجابه النور)

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (حجابه النور) قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حجابه النور) فقد احتجب الله عن خلقه وهم أهل سمواته وأرضه بحجاب من النور سبحانه وتعالى، والله عز وجل أخبر عن نفسه أنه نور سبحانه وتعالى، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في قيام الليل: (اللهم لك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن) أي: منور السموات والأرض، فالله عز وجل نور السموات والأرض، كما ذكر لنا في هذه الآية، وكما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى، وأيضاً جاء في القرآن قول الله سبحانه: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر:69]. ويوم القيامة لا شمس فيه ولا قمر ولا نجوم ولا كواكب، والذي يضيء ويشرق في الأرض ويجعلها منيرة يوم القيامة هو نور الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر:69]. وجاء في صحيح مسلم عن عبدالله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله خلق خلقه في ظلمة، وألقى عليهم من نوره -سبحانه وتعالى- فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل) فرجعت الهداية إلى نور الله سبحانه وتعالى، فإنه خلق الخلق وجعلهم في ظلمة، ثم ألقى عليهم من نوره سبحانه، فمن أصابه من هذا النور جاءه الهدى من الله عز وجل، ومن لم يصبه من نور الله عز وجل كان من الأشقياء. وأيضاً جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار، فنور السموات من نور وجهه سبحانه وتعالى. فالله نور السموات والأرض ومنورهما وهادي أهل السموات وأهل الأرض. والله عز وجل ذكر آيات في غض البصر قبل قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:35]، ثم بعد ذلك ذكر الله عز وجل أمر المساجد فقال: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36]. فالمراد بالنور: الطاعة، أي نور غض البصر، فمن كف نفسه عن المعصية أورثه الله عز وجل في قلبه نوراً، ومن أتى إلى بيوت الله عز وجل وعمرها بطاعة الله جعل الله عز وجل في قلبه نوراً، فالبعد عن المحارم يورث في القلب النور، والاشتغال بالطاعة يجعل في القلب النور، فالله عز وجل يجزي العبد على عمله بما هو من جنس عمله، فإن غض بصره عما حرم الله سبحانه عوضه عليه من جنسه بما هو خير، فجعل الله مكانه نوراً في قلبه يرى به الأشياء على حقيقتها، فيطلق نور بصيرته، ويفتح عليه أبواب العلم والمعرفة والفراسة من فضله سبحانه. ومن فائدة غض بصر الإنسان والبعد عن المعاصي: قوة القلب، فالله عز وجل يقوي قلب الإنسان ويثبته ويشجعه، ويجعل الله عز وجل له سلطاناً من عنده ينصره به مع سلطان حجته، ولهذا قالوا: إن الإنسان العاصي يوجد في قلبه من الذل ما لا يستشعره إلا هو، أما الإنسان الطائع فإنه يستشعر في قلبه عز الطاعة. وذل المعصية جاء من ظلمتها، فإذا به لا يبصر الشيء على حقيقته. يقول الحسن البصري رحمه الله: إنهم وإن هملجت بهم البراذين، وطقطقت بهم البغال، فإن ذل المعصية في رقابهم، يأبى الله إلا أن يذل من عصاه. فالإنسان وإن ركب المراكب العالية الفخمة: فسارت به السيارات، وطارت به الطائرات، وركب السفن، ومشى مختالاً في الأرض، فالله يأبى عز وجل إلا أن يجعل في قلبه الذل والحاجة إليه سبحانه وتعالى. قال الله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:35]. فالله نورٌ سبحانه وتعالى، وهو منور السموات والأرض، وهادي أهل السموات والأرض، وهو سبحانه حجابه النور، ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ليلة المعراج: (هل رأيت ربك؟ قال: نوراً أنى أره) أي: أنه لا يطيق أن يرى ربه سبحانه تبارك؛ لأنه لم يعط من القوة أن يرى الله عز وجل كما يعطى ذلك المؤمنون فيرونه في يوم القيامة، وأما في المعراج فالنبي صلى الله عليه وسلم لم ير ببصره إلا نوراً، وأما أن يصف ربه سبحانه فلا يقدر على ذلك صلوات الله وسلامه عليه. وقوله تعالى: ((مَثَلُ نُورِهِ)) ليس هذا هو النور الذي هو حقيقته سبحانه وتعالى، ولكن النور الذي يضرب له المثال هو نور هدايته في قلب الإنسان المؤمن، فإن الله عز وجل يقذف في قلب المؤمن نوراً شديداً قوياً كهذا النور الذي يصفه سبحانه وتعالى، فمثل نوره في قلب المؤمن كمشكاة فيها مصباح، والمشكاة هي الكوة، وهي طاقة في الحائط غير نافذة، وأصل المشكاة هو الدلو من الجلد، أو العلبة المفتوحة من مكان وحد فقط. وهذه المشكاة بداخلها مصباح، وفتيل هذا المصباح موضوع في داخل زجاجة، والزجاجة غاية في الإنارة والإضاءة كالكوكب الدري الشديد الإضاءة، وهذه المشكاة موجهة للضوء إلى مكان واحد مثل اللمبة التي يوضع عليها عاكس، فإنه يوجه النور ويكون قوياً موجهاً إلى مكان، فالعلبة المفتوحة من طرف واحد يكون ذلك أقوى للإضاءة، وبداخل هذه المشكاة مصباح، وفتيل هذا المصباح داخل الزجاجة، والزجاجة كالكوكب المنير المضيء، فكيف إذا اتقد هذا الفتيل بداخلها؟! وقوله تعالى: {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} [النور:35]. فهذا المصباح له زيت يوقده، وهذا الزيت يستخرج من شجرة الزيتون، وزيت الزيتون يعطي إنارة عظيمة، وهو زيت مبارك، كما سيأتي في أحاديث للنبي صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى، وهذه الآية تكفي في الدلالة على ذلك. والشجرة إذا كانت شرقية يكون فيها فوائد، فإنها تأتيها الشمس من المشرق فتعطيها نوعاً من التطييب لها، وإذا كانت غربية ففيها نوع أخر، وإذا كانت وسطاً كانت أفضل أنواع أشجار الزيتون، فهي شجرة وسط لا شرقية ولا غربية، والزيت الذي فيها يكاد يضيء وحده من غير ما يوضع فيه نار، فكيف إذا وضع بداخله النار! فهذا كله لبيان النور الذي في قلب الإنسان المؤمن، فكيف يكون إذا كان في قلبه هذا النور الشديد العظيم؟ وهل يقع هذا في معصية؟ وهل يضل ويتوه عن طاعة الله سبحانه؟ كلا. قال الله سبحانه: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور:35] أي: نور فوقه نور، فهو أنوار مجتمعة بقلب الإنسان الذي يتبع هدى الله سبحانه وتعالى، {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35]، وأمر الهدى والإضلال يرجعان إلى الله، فالله يهدي من يشاء ويضل من يشاء سبحانه وتعالى، ويضرب الأمثال بذلك لعل الناس يتذكرون. هذا هو التفسير الإجمالي للآية، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة النور [35 - 37]

تفسير سورة النور [35 - 37] لقد شبه الله نوره الذي يقذفه في قلب المؤمن فينير له الطريق، ويهديه في الظلمات، ويطمئن في المخاوف، شبهه تشبيهاً رائعاً في هذه الآيات، فانظره مع تفسيره تزدد علماً وفهماً.

تفسير قوله تعالى: (الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة)

تفسير قوله تعالى: (الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة) الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:35]. ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية نوره العظيم الذي يهدي به من يشاء من خلقه، فقال: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:35]. {اللَّهُ نُورُ} [النور:35] أي: منور السموات والأرض بما جعل فيها من ضياء،. قال سبحانه: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:35] أي: هادي من في السموات ومن في الأرض، فالله نور ليس كغيره من النور، كما أننا نؤمن بصفاته سبحانه وأنه لا يشبهه شيء، كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]. وأخبر أنه خلق الإنسان من سلالة من طين، فقال: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان:2]. فالله سميع وبصير سبحانه، وجعل للإنسان سمعاً وبصراً، وجعل فيه حياة، ونؤمن أن الله عز وجل ليس كمثله شيء، فالمخلوق فيه كحياة، ولكنها ليست كحياة الخالق سبحانه وتعالى. وللمخلوق سمع وبصر، ولكنها لا يشبهان أبداً سمع الخالق سبحانه ولا بصره، وكذلك الله نور، ولا يشبهه نور غيره. فالله نور السموات والأرض، والله منوِّر السموات والأرض، فينورهما بما يشاء، والله يهدي أهل السموات وأهل الأرض، فهذه من معاني تنوير الله سبحانه وتعالى للسموات والأرض. ثم ضرب مثالاً لنوره فقال: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور:35]، وختم بقوله: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35] إذاً: فلا يضرب مثلاً لنوره الذي هو صفة من صفاته سبحانه، فهو لا يشبهه شيء، ولا يضرب له الأمثال، ولكن يذكر لنا شيئاً من نور هداه سبحانه في قلب الإنسان المؤمن. فالإنسان يعرف صفات الله سبحانه وتعالى لما يرى أمامه في الكون من قدرة الله عز وجل العظيمة المبهرة، فيعرف قدر الله سبحانه، قال: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91]، فلولا أن الإنسان يرى أشياء كبيراً حجمها، لما عرف أن الله هو الكبير سبحانه وتعالى. فيرى الأرض عظيمة قد استوعبت من عليها من مخلوقات، ويرى من الأجرام التي خلقها الله عز وجل ما هو أكبر بكثير من هذه الأرض، فيعلم أن هناك ما هو أكبر من هذا الكبير. ثم ينظر في هذه المجرات التي خلقها الله عز وجل، فيعلم أنها أعظم وأعظم وأكبر من هذا الكون الذي يراه من أرض ومن شموس حولها، فيرى هذا شيئاً كبيراً، والله أكبر من كل شيء سبحانه وتعالى. فالله يُري الإنسان الآيات ليعرف بها عظيم صفات الله تبارك وتعالى. وكذلك يرينا نوراً قد خلقه الله عز وجل، وهذا نور آخر أعظم منه خلقه الله أيضاً، وهذا نور ثالث أعظم وأعظم، فالإنسان يطلع على ما يراه من نور، فيرى نوراً موجوداً في الأرض، ونوراً يأتي من القمر، وهذا ضياء يأتي من الشمس، وفوقها ما هو أعظم من ذلك بكثير. فالإنسان يرى النور في الدنيا، فهو يطيق أن ينظر إلى ضوء الشمعة، ولكن إذا كان مصباحاً لم يكد يقدر أن ينظر إليه، فإذا كبر ما فيها من ضوء صارت هالوجيناً مثلاً فمستحيل أن ينظر إليها بنظره، فالله نور سبحانه وتعالى، وهو أعظم من ذلك بكثير. فيضرب لنا هذا المثل للتقريب للأذهان، فعندما يرى الإنسان الشيء الكبير يعلم أن الله أكبر من ذلك، وعندما يرى الشيء العظيم يعلم أن الله أعظم من ذلك. فمثل نوره ما يجعله في قلب الإنسان المؤمن من نور الإيمان، ونور معرفة الله سبحانه، واليقين به سبحانه، ونور القرآن في قلب الإنسان المؤمن، ونور الإتباع والهدى في قلبه، فهذا النور الذي يضيء له فلا يكاد يضل، ولا يكاد يقع في شيء يغضب الله سبحانه وتعالى. {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} [النور:35] قالوا: المشكاة: هي الكوة في الحائط، وكأنه نافذة مغلقة من مكان ومفتوحة من مكان آخر، وكأنه فتحة في الحائط موضوع فيها هذا المصباح. قال تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور:35] كأنه العلبة التي توضع بداخلها اللمبة من أجل تجميع الإضاءة في مكان، فكأنه يريد هنا أن يرينا مثلاً من الأمثلة: أنه إذا وجد مثل هذا النور في مكان فلا يمكن لإنسان ألا يرى ما حول هذا النور إلا أن يكون أعمى. إذاً: فهو نور عظيم أضاء المكان الذي هو فيه، فتخيل مكاناً مغلقاً، وهناك علبة بداخلها مصباح، وهذا المصباح صفته أنه: {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور:35]، والفتيلة التي فيها النار داخل الزجاجة، وهذه الزجاجة يذكرها الله عز وجل فقال: {الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ} [النور:35]، فكل شيء فيها مضيء، والفتيلة مضيئة، والمشكاة التي بداخلها كأنها مضيئة. قال تعالى: {الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} [النور:35] بداخل علبة زجاجية، الزجاجة هذه كأنها وحدها {كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ} [النور:35] كأنها كوكب دري، والمصباح: {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ} [النور:35].

القراءات في قوله (كوكب دري)

القراءات في قوله (كوكب دري) قوله تعالى: {دُرِّيٌّ} [النور:35] فيها ثلاث قراءات: (دِرِّيء) وهي قراءة أبي عمرو والكسائي. و (دُرِّيء) هي قراءة شعبة عن عاصم، وحمزة وباقي القراء يقرءون: {دُرِّيٌّ} [النور:35] كأنه من الدر، أو من الإضاءة العظيمة الشديدة. وقوله تعالى: {كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} [النور:35] أي: كوكب ثاقب مضيء إضاءة عظيمة، أو كأنه الكوكب الدِّرِّي من الدرء، وهو الاندفاع، كأنه الكوكب الجاري بسرعة في السماء، فكلما ازداد جرياً ازداد إضاءة وتوهجاً، فكأن الزجاجة كوكب مضيء، إذاً: الزجاجة وحدها كأنها مضيئة، المصباح بداخلها مضيء. يقول هنا سبحانه وتعالى: {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ} [النور:35] يعني: أن الفتيل يوقد من زيت هذه الشجرة التي بارك الله عز وجل فيها، وهي شجرة الزيتون، فجعل في زيتها الفوائد العظيمة للإنسان في كل شيء، فإذا أوقد فيه مصباح كان أشد استنارة. {لا شَرْقِيَّةٍ} [النور:35] أي: لا شرقية فيحجب عنها الضوء الغربي. {وَلا غَرْبِيَّةٍ} [النور:35] فيحجب عنها الضوء الشرقي، ولكنها وسط، وهذا أشد لجمالها ولحسن زيتها. يقول الله سبحانه: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ} [النور:35] أي: أن زيتها الذي يوقد هذا المصباح يكاد يضيء لوحده، فلو فرضنا أن فتيلة سيخرج منها نار، ومن أجل أن نغذي هذه الفتيلة سنضع لها زيتاً، والزيت لوحده يكاد يضيء، والمصباح يضيء، والزجاجة كوكب دري، وموضوعة في مكان مغلق، فكم سيكون حجم الإضاءة التي بداخل هذا المكان؟ فهل ممكن أن يضيع منك شيء في مكان بمثل هذه الإضاءة؟ لا. وكذلك ما يجعله الله عز وجل في قلب الإنسان المؤمن من نور الإيمان يستدل به على عظمة الخالق سبحانه، ويستدل على صدق الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وعلى العمل الصالح فيعمله، ويستدل على أن هذا حلال فيأتيه، وأن هذا حرام فيبتعد عنه، فهذا نور في قلب المؤمن يهديه الله عز وجل به إلى ما يشاء من طاعته. قال سبحانه: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور:35] يعني: هذه الأنوار بعضها فوق بعض تضيء لصاحبها، وتريه الطريق المستقيم. قال سبحانه: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35] أي: لنور الهدى، ونور الإيمان، ولنور القرآن العظيم، ومتابعة سنة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد ذكرنا في الحديث: (إن الله عز وجل خلق خلقه في ظلمة، فألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل). فالله سبحانه وتعالى يهدي لنوره من يشاء. قال تعالى: {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ} [النور:35] فهذا مثال من الأمثلة العظيمة، وهو مثال: النور، ويضرب الله أمثلة كثيرة في كتابه سبحانه، ويقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26]، فيضرب المثل بالبعوض، ويضرب المثل بالذبابة، ويضرب المثل بالنور، ويضرب المثل بالنار، ويضرب المثل بالظلمات، ويضرب الأمثلة بما يشاء سبحانه؛ حتى يقرب للإنسان فيفهم عن الله سبحانه وتعالى ما يريد أن يفهمه إياه. إذاً: فهنا يضرب الأمثال حتى يفهم الإنسان، فإذا قرأ القرآن ولم يفهم ما أراده الله عز وجل منه ضرب له الأمثال، فحذره من الحرام، وأمره بأن يؤدي الواجبات والمستحبات فإذا لم يفعل ذلك ولم يفهم، فهذا شاء الله عز وجل أن يضل ولا يهتدي. فالله يضرب الأمثال واضحة كهذا النور، فإذا لم يعقل الإنسان، فمعناه: أنه لا يريد أن يفهم هذا الذي آتاه من عند الله، فيستحق ما يناله من عذاب يوم القيامة. قال تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:35] أي: ليس علمه محدوداً بل أحاط بكل شيء علماً، فما في السموات وما فوقها، وما في الأرض وما تحتها، كل ذلك قد أحاط الله عز وجل به علماً.

تفسير قوله تعالى: (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه)

تفسير قوله تعالى: (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه) قال سبحانه: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [النور:36]. {فِي بُيُوتٍ} [النور:36] وهي: المساجد بيوت الله سبحانه وتعالى، وكل شيء ملك لله، فالأرض أرض الله، والسماء سماء الله، وكل شيء لله، ولكن لتشريف هذه المساجد سماها بيوته سبحانه وتعالى. {أَذِنَ} [النور:36] أي: أمر الله سبحانه وتعالى وقضى أن ترفع وتشيد وتبنى؛ لعبادة الله سبحانه وتعالى.

القراءات في قوله تعالى: (في بيوت)

القراءات في قوله تعالى: (في بيوت) في قوله تعالى: ((فِي بُيُوتٍ)) قراءتان: قراءة بضم الباء وهي قراءة ورش وأبي جعفر وأبي عمرو ويعقوب وحفص عن عاصم بضم الباء. وباقي القراء يقرءونها بالكسر: ((في بُيوت أذن الله أن ترفع)). ومثلها ما جاء في القرآن من: ((شُيُوخ)) و ((شِيوخ))، و ((عُيُون)) و ((عِيون)) ونحو ذلك، ففيها قراءتان: بالكسر وبالضم. قال تعالى: (أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ) أي: يرفعها الإنسان ليعبد الله عز وجل فيها. {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36]. إذاً: هذه المساجد ليست مبنية للعب، وإنما بنيت لعبادة الله سبحانه وتعالى. وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما بنيت المساجد لما بنيت له) أي: لذكر الله وما والاه، وعالم ومتعلم، وللصلاة، فهذه بيوت الله سبحانه أذن أن ترفع لذلك.

تفسير قوله تعالى: (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله)

تفسير قوله تعالى: (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله) {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ} [النور:37]، فهذه البيوت فيها رجال وصفهم الله عز وجل بذلك، (رِجَالٌ) وكأنه يقول: نعم الرجال وأفضل الرجال عمّار بيوت الله سبحانه وتعالى، الذين ذكرهم وقال: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:18]. فهؤلاء الذين هداهم الله سبحانه وأكرمهم، لذلك فالإنسان المؤمن إذا وجد نفسه يواظب على بيوت الله عز وجل للعبادة، ويكون محباً لبيت الله سبحانه، فليبشر بهذه البشارة التي بشر الله سبحانه بها هنا وفي سورة التوبة. فذكر هنا: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ} [النور:36 - 37] فكأنه يمدحهم بهذا الوصف، فهم رجال ليسوا كغيرهم من الرجال. فهؤلاء الرجال اختصهم الله بأن يعمروا بيوته، فاستحقوا أن يوصفوا بهذا الوصف: أنهم رجال، يعني: نعم الرجال، وهكذا كما تقول لإنسان: أنت رجل، وأنت تقصد: أنت نعم الرجل، أنت فيك صفات ليست في غيرك. وكذلك في هؤلاء، وذكر أنهم يعمرون مساجد الله وبيوته فقال: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:18]. وبيوت الله هي المساجد، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من بنى لله مسجداً، ولو كمفحص قطاة بنى له الله بيتاً في الجنة) سواء كان المسجد صغيراً أو كبيراً. قال تعالى: {أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36] أي: تشيد ويرفع بنيانها، ليصلي الناس بداخلها. وترفع أيضاً بمعنى: تطهّر وتعظّم ويرفع شأنها. فالمؤمن يعظم بيت الله عز وجل، فلا يأتي المسجد من أجل أن يلعب بداخله، ولا يأتي المسجد من أجل أن يؤذي أحداً في بيت الله سبحانه، فلا يجوز الأذى ظاهراً ولا باطناً، وقد يتأذى الإنسان من شيء فتتأذى الملائكة منه أشد من أذى الإنسان. فيُرفع بيت الله سبحانه فلا يؤذي فيه أحداً، ويطهره من الأنجاس والأقذار، ويعظم بيت الله سبحانه وتعالى. وجاء في حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتخذ المساجد في الدور، وأن تطهر وتطيب)، فديار الأنصار كانت كثيرة، فكأن البعض منهم يشق عليهم أن يأتوا إلى مسجد النبي الله صلى الله عليه وسلم من عوالي المدينة ونحوها، فأمرهم أن يتخذوا مساجد في الدور. والدار: مجموعة البيوت التي تكون متلاصقة في مكان، يعني: يتخذون في أحيائهم مساجد، فيصلون فيها صلاة الجماعة، فإذا كان يوم الجمعة جاءوا فصلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المساجد أن تطهر وتطيب، فالمسجد مكان يصان عن الأذى، ويطهر ويطيب، فتكون رائحته طيبة. إذاً: فالإنسان الذي يأتي إلى بيت الله برائحة خبيثة من ثيابه أو من جواربه، هذا قد فعل غير ما أمر الله عز وجل به، لذلك فالإنسان المؤمن يحرص على نظافته، ويحرص أنه إذا جاء إلى المسجد أن يتطيب، وأن يتجمل لبيت الله سبحانه، كما أمر الله سبحانه وتعالى قال: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31]. قال تعالى: ((أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ)) إذاً: هنا ستبنى المباني، لكن هل المعنى أن ترفع فوق القدر المحتاج إليه فيكون المسجد تحفة معمارية مثلاً؟ لم نؤمر بهذا الشيء، بل جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم المنع من ذلك صلوات الله وسلامه عليه، فجاء في الحديث: (لا تقوم الساعة حتى يتباهي الناس في المساجد) إذاً: فالمساجد أصبحت للمباهاة وليست من أجل الصلاة، بل من أجل أن يقال: مسجدنا أحسن من المسجد الآخر. وجاء في حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا زخرفتم مساجدكم، وحليتم مصاحفكم فالدمار عليكم) وفي رواية: (فالدبار عليكم) وهو بمعنى: الدمار. والمعنى: أنك مخلوق لعبادة الله سبحانه، فإذا نسي الإنسان هذه العبادة، ونظر إلى شيء آخر غير العبادة، وكل همه أن يزخرف المسجد، وأن يدهن بأصفر وأحمر، وينقش ويزخرف، ويضع صور في المسجد، فإذا دخل الصلاة نقرها كنقر الغراب، فإذا انتبه الإنسان لزينة المسجد، ونسي السبب الذي من أجله بني هذا المسجد، فانتظروا الدمار من الله سبحانه وتعالى، فلم تعد المساجد للعبادة، ولم تعد لذكر الله، بل صارت للمباهاة. وكذلك في الحديث نفسه قال: (إذا حليتم مصاحفكم) فأصبح هم الإنسان أنه يشتري مصحفاً حسناً؛ من أجل أن يعلقه في السيارة، أو من أجل أن يعلقه في بيته، أو يضعه أمام المرآة حتى يتفرج عليه، لكن لا يفتح المصحف ولا يقرأ فيه شيئاً، مع أن كتاب الله أنزل ليحفظ في الصدور، ويحفظ بالأعمال، فيعمل بما فيه شريعة ومنهاجاً، ويحفظه فيتلوه متعبداً به لله سبحانه، فإذا ترك هذا كله، وأصبح المصحف من أجل أن يعلق في السيارة، أو يوضع في البيت كنوع من الديكور، فانتظر الهلاك والدمار؛ فالمصحف لم ينزل من أجل أن تضعه تحت المخدة وتنام، من أجل البركة في زعمك، أو تضعه على الدولاب ولا يقرأ فيه، وإنما جاء المصحف شريعة من الله عز وجل يقرأ ويتدبر، قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، وقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، فكأن قلب الإنسان الذي لا يقرأ القرآن ولا يتدبر فيه مغلق بقفل لا يفتح؛ لأنه ترك القرآن وراءه. يقول الله سبحانه وتعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور:36 - 37]. قوله: {بِالْغُدُوِّ} [النور:36] أول النهار. قال تعالى: {وَالآصَالِ} [النور:36] الأصيل: وقت العصر، والمقصد أنه دائماً صباحاً ومساءً وهو في تسبيح وفي ذكر لله عز وجل في الصلوات الخمس وفي غير ذلك. {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور:37] فهؤلاء هم الرجال الذين وعدهم الله سبحانه أن يهديهم، وأن يغفر لهم، وأن يرحمهم. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من هؤلاء. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة النور الآية [36]

تفسير سورة النور الآية [36] ما أجمل تلك البيوت التي رفعها الله سبحانه فنزهها عن الأقذار الحسية والمعنوية، وخصها بأن يذكر فيها اسمه، وجعل روادها أهل القلوب السليمة التي لا تلهيها تجارة أو بيع عن ذكر ربها، فالأجساد خارجها والقلوب معلقة كالقناديل تضيء فيها، فيجازيهم ربهم الرحيم يوم القيامة أحسن الجزاء وأتمه، ويزيدهم من فضله!

تفسير قوله تعالى: (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه)

تفسير قوله تعالى: (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:36 - 37]. يذكر الله سبحانه وتعالى في هاتين الآيتين المساجد وهي بيوت الله في الأرض، قال: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36] (أذن) أي: أمر وقضى سبحانه وتعالى. {أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [النور:36]، فذكر صفة هذه المساجد أنها مرفوعة يرفعها المؤمنون ويبنونها بطاعة الله سبحانه وتعالى، وبذكر الله سبحانه.

القراءات في قوله تعالى: (يسبح له فيها)

القراءات في قوله تعالى: (يسبح له فيها) في قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا} [النور:36] قراءتان: قراءة حفص ومن معه، وابن عامر ومن معه، فـ ابن عامر وشعبة يقرءان هذه الآية: (يُسبَّح له فيها بالغدو والآصال)، فعلى قراءة شعبة عن عاصم وابن عامر يستحسن الوقف على رأس هذه الآية: (يُسبح له فيها بالغدو والآصال). وباقي القراء منهم حفص عن عاصم ونافع وأبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وحمزة والكسائي وخلف يقرءون: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [النور:36]. وعلى هذه القراءة يستحسن الوصل حتى لا يفصل الفاعل عن الفعل، فيقرأ: (يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال) فيصل الآية بما بعدها. فهؤلاء رجال من صفاتهم: أنهم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة. فهؤلاء المؤمنون عمّار بيوت الله سبحانه وتعالى لا يلهيهم شيء عن صلاتهم، ولا عن ذكر الله سبحانه وتعالى، وقد مدحهم الله سبحانه وتعالى بأنهم لا تلهيهم الدنيا، وقد عبر عن الدنيا بالتجارة والبيع وذلك أكثر ما يشغل الإنسان، فهو يحتاج أن يشتري ويبيع ليتم بهما عيشه، ومع ذلك لا يلهيهم هذا عن ذكر الله سبحانه، وعن الإتيان إلى بيت الله في الصباح وفي المساء وفي كل وقت، فلا يضيع صلاة، فقلوبهم معلقة بالمساجد، وهؤلاء ممن يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله كما في الحديث: (رجل قلبه معلق بالمسجد)، إذا خرج منه حتى يرجع إليه، فقد تعلق قلبه بالمسجد، فجعله الله عز وجل من أهل جنته وأظله بظله يوم لا ظل إلا ظله. هذه المساجد التي أذن الله عز وجل أن ترفع ويذكر فيها اسمه جعل في بنائها الثواب العظيم، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة) فمن بنى لله مسجداً ولو كان صغيراً، وضرب له هنا مثالاً بمفحص القطاة، وهي الحمامة التي تجعل لنفسها عشاً تبيض فيه ولو كهذا، ويستحيل أن يكون المسجد كهذا ويصلي فيه أحد، ولكن المقصد أنه ولو كان مسجداً صغيراً يصلي فيه جماعة قليلة، فكيف بمن بنى لله مسجداً كبيراً.

رفع المساجد حسيا ومعنويا

رفع المساجد حسياً ومعنوياً {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36] يقول العلماء: وبيوت الله عز وجل أذن برفعها وتطييبها وتطهيرها ولم يأذن باللغو فيها، ولا باللعب فيها، ولا بتنجيسها ولا بالإيذاء فيها للملائكة أو للناس، فلذلك تصان المساجد من اللغو، وتصان من الرفث، ومن البيع والشراء ونحو ذلك كما سيأتي. فمما تصان عنه وتنزه عنه: الروائح الكريهة، يقول الإمام القرطبي رحمه الله: مما تصان وتنزه عنه المساجد: الروائح الكريهة، والأقوال السيئة وغير ذلك، وذلك من تعظيم المساجد أنه لا ينبغي أن يكون فيها رفث، ولا ينبغي أن يكون فيها لغو، ولا ينبغي أن يرفع فيها الأصوات إلا بذكر الله سبحانه وتعالى. وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه في غزوة تبوك: (من أكل من هذه الشجرة -يعني الثوم- فلا يأتين المساجد)، فالذي يأكل ثوماً وبصلاً لا يأتي المساجد. وفي حديث آخر قال: (من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم). وقال عمر رضي الله عنه في خطبته: (ثم إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين ولا أراهما إلا خبيثتين: هذا البصل والثوم، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما من رجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع، فمن أكلهما فليمتهما طبخاً). فلا مانع من أكل الثوم والبصل وهما مطبوختان، فإنهما في هذه الحالة لا رائحة لهما، وأما إذا كانا غير مطبوختين فإنهما لهما رائحة كريهة، فإذا أكلهما أحد وجاء إلى المسجد فإنه يؤذي الملائكة والمصلين بذلك، فلا ينبغي له أن يأتي إلى المسجد، فلا يجوز للإنسان أن يتعمد أن يأكل ذلك قرب وقت الصلاة، ولكن يجعل بينه وبين وقت الصلاة وقتاً كافياً، كأن يأكل بعد العشاء مثلاً بحيث إذا جاء الفجر لا تكون رائحة فمه متغيرة بذلك. يقول العلماء -وهذا نقل الإمام القرطبي رحمه الله-: وإذا كانت العلة في إخراجه من المسجد أنه يؤذي الناس برائحة فمه الكريهة، وكذلك يؤذي الملائكة فالعلة يقاس عليها. قال: وفي القياس أن كل من تأذى به جيرانه في المسجد بأن يكون ذرب اللسان سفيهاً عليهم، أو كان ذا رائحة قبيحة لسوء صناعته أو عاهة مؤذية كالجذام وشبيهه ينبغي أن يجتنب مجتمع الناس. أي: إنسان رائحة ثيابه منتنه يتأذى بها الناس إذا جاء المسجد فعليه التباعد عن الناس؛ لرائحته النتنه. أو إذا كان الإنسان ثيابه قذرة مشحمة فإذا دخل في الصف يؤذي الناس ويسجد على الأرض فيوسخ سجاد المسجد، فهذا لا ينبغي أن يأتي المسجد وهو على هذه الحالة، ولكن يغير ثيابه ويأتي بيت الله نظيفاً طاهراً، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31] أي: عند موضع كل صلاة، فتتزين للصلاة كما تتزين لضيفك الذي تقابله. فهنا رائحة الثوم والبصل رائحة منتنه فكيف برائحة السجائر التي يشربها الإنسان فيؤذي بها الناس، ويؤذي بها الملائكة؟! وكذلك إذا كانت رائحة الإنسان قذرة منتنة من عرق شديد ونحو ذلك مما يتأذى به الناس، وأحياناً بعض الناس تكون رائحة عرقهم رائحة شديدة فإذا كان على ذلك فليتنظف قبل أن يأتي بيت الله سبحانه، حتى لا يؤذي الناس بهذه الرائحة. وبعض الناس في الصيف يلبس حذاءً وجورباً ويدخل المسجد فتكون رائحة المسجد غاية في القذارة والنتانة لا يقبلها الإنسان، فعلى المرء أن ينزع جوربه وليدخل مكان الوضوء فيتوضأ ويغسل رجليه؛ حتى لا يؤذي الناس برائحته. ولو أن كل الناس دخلوا المسجد بأرجل منتنه أوشك الناس ألا يصلوا في المسجد، فتجد أحياناً سجاد المسجد حين تسجد عليها لا تطيق رائحتها، فتجلس منتظر متى الإمام يرفع تكاد أن تختنق من وضع رأسك على الأرض، ومن شم الرائحة المنتنه في الأرض. فإذا كان هذا من إنسان فلا ينبغي أن تكون مثله، فإذا تأذيت بذلك فاحرص على أن تكون نظيفاً عند دخولك المسجد؛ حتى لا يتأذى أحد من رائحتك، ولا تؤذي الملائكة بذلك. وكذلك أصحاب الروائح المنتنه في صناعة من الصناعات، كأن تكون صناعته تحتم عليه أن يتعامل مع أشياء لها رائحة تكون في يده أو ثيابه، فإذا جاء عند وقت الصلاة فليغسل ذلك، والمنظفات موجودة عند الناس من صابون ونحوها بحمد الله وبفضله، فليغسل أثر ذلك حتى يأتي المسجد وهو نظيف طيب الرائحة. قالوا: وإذا كان هذا يتأذى به الناس، وتتأذى منه الملائكة فلا ينبغي أن يحضر الجماعة، فمن يتأذون منه أكثر من ذلك كأن يكون في المرء مرض فيخرج منه رائحة منتنه، أو إنسان به جرح فحصل في الجرح نوع عفونة بحيث إنه لا يطيق الناس أن يشموا رائحة هذا الإنسان، فله عذر أن يمكث في بيته ولا يجب عليه أن يأتي لصلاة الجماعة؛ حتى لا يؤذي الناس، وقد قال الله تعالى: {وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور:61]. ولذلك كان من الشريعة أن الإنسان المجذوم يكون بعيداً عن الناس، (لما جاء المجذوم للنبي صلى الله عليه وسلم يبايعه قال له: ارجع فقد بايعناك، ارجع فقد بايعناك). والجذام نوع من الأمراض المعدية بقدر الله، فهو سبحانه يجعلها سبباً من أسباب انتقال الأمراض من شخص إلى آخر، وهو مرض صعب شديد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن صاحب هذا المرض. (فر من المجذوم فرارك من الأسد). فلا ينبغي للمجذوم أن يحضر مع الناس الجماعات، وهذا الذي قاله للناس قاله تعليماً، وحتى لا يظن الإنسان أنه بمجرد أن جاء هذا المجذوم وواقف بجواره أنه سيكون مثله، فكأنه يقول للمجذوم: لا تؤذ الناس، ولما أتى يبايع النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (ارجع فقد بايعناك). فيأخذ الإنسان بالحيطة والحذر في ذلك، ويستيقن أن ما أصابه فبقدر الله سبحانه وتعالى، وما أخطأه فلن يخطئه إلا بقدر الله سبحانه وتعالى. فقال أهل العلم: إن من كان ذا عاهة مؤذية يتأذى منه الناس بسببها فلا ينبغي عليه أن يحظر في جماعة الناس. وكالمريض بمرض في الرئة يعلم منه أنه يؤذي الناس بعطاسه، ومعلوم عند عطس الإنسان أن الرذاذ يصل من عطسته إلى سبعة أمتار، فإذا كان الإنسان صاحب مرض معدي فلا ينبغي أن يحضر مع الناس في صلاة جماعة، ولكن يعتزل في بيته حتى يشفيه الله سبحانه وتعالى، أخذ أهل العلم ذلك من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في التأذي برائحة الثوم والبصل، فقالوا: هذا أشد من ذلك، فإذا كان هذا المريض معذوراً في ذلك فالإنسان غير المعذور الذي لسانه ذرب وطويل ومؤذي، ولا يستطيع أن يتحكم في نفسه إذا دخل المسجد، وإذا كان في الشارع أو في السوق وكلمه أحد شتمه وسبه، فمثل هذا يمنع من دخول المسجد. وذكر الإمام القرطبي عن أبي عمر بن عبد البر من فقهاء المالكية وأحد الأئمة المجتهدين، قال: شاهدت شيخنا أبا عمر أحمد بن عبد الملك بن هشام رحمه الله أفتى في رجل شكاه جيرانه، واتفقوا عليه أنه يؤذيهم في المسجد بلسانه ويده. يعني: رجل سفيه يأتي بيت الله عز وجل ويتكلم على الناس ويؤذيهم بلسانه، ويمد يده فيضرب الناس، ولا يحترم بيت الله سبحانه وتعالى. يقول أبو عمر بن عبد البر: فأفتى بإخراجه من المسجد، وإبعاده عنه، وألا يشهد معهم في الصلاة؛ إذ لا سبيل مع جنونه واستطالته إلى السلامة منه. يعني: عامله معاملة المجنون، فهو طالما كان سفيهاً لا يمسك نفسه فيضرب ويبطش بيديه، فعلى ذلك يكون حكمه حكم المجنون، فلا ينبغي أن يكون في بيت الله سبحانه وتعالى. وأبو عمر بن عبد البر من العلماء المجتهدين يقول: فذاكرته يوماً أمره، وطالبته بالدليل. يعني: يتكلم مع شيخه فيما أفتى به، ما الدليل على الذي ذكرته؟ فقال: وراجعته فيه القول فاستدل بحديث الثوم، فقال: هو عندي أكثر أذى من أكل الثوم. فإذا كان الذي يأكل ثوماً يمنع من المجيء إلى المسجد، مع أنك يمكن أن تتعود على رائحة الثوم والبصل، وأما طول اللسان واليد في المسجد فهذا مما لا يطاق. قال: وهذا عندي أكثر ممن أكل الثوم، وصاحبه يمنع من شهود الجماعة في المسجد. فكأن الإمام ذلك أبو عمر ابن عبد البر ينقل ذلك موافقاً لشيخه بعدما سأله. قال أهل العلم: المساجد كلها سواء، وهذا هو الصواب وإن كان فيه خلاف يسير، ولكن المساجد كلها سواء في ذلك فالإنسان الذي به رائحة غير طيبة لا ينبغي أن يدخل المساجد: لا المسجد النبوي، ولا الكعبة، ولا المسجد الحرام ولا غيره من المساجد، فكلها يستوي فيها المنع. قال: أفتى العلماء على أن المساجد كلها سواء لحديث ابن عمر فيمن أكل من هذه الشجرة، -يعني: الثوم- فلا يأتين المساجد. قال العلماء أيضاً: وتصان المساجد أيضاً عن البيع والشراء وجميع الأشغال، والاشتغال في بيت الله عز وجل لا ينبغي أن يكون إلا بالصلاة وبالذكر. ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً قام في المسجد وقال: (من دعا إلى الجمل الأحمر) فقد كان عنده جمل أحمر فضل عليه، فوقف في المسجد بعد الصلاة وقال: من رأى الجمل الأحمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا وجدت لا وجدت) فدعا على الرجل ألا يجد جمله فقال: (لا وجدت، إنما بنيت المساجد لما بنيت له) وجاء في حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر (أنما بنيت المساجد للتسبيح، ولذكر الله، وللصلاة). فهنا قال للرجل: (لا وجدت) مع أن يمكن أن يقال: هذا معذور وجمله ضائع، وهو ليس شيئاً حقيراً. فنقول: (ولو كان جملاً أو أكثر من ذلك فليست المساجد مكاناً لذلك، وإذا أراد أن ينادي على جمله فليناد خارج المسجد، أو في الشارع وليس في المسجد، فإنما بنيت المساجد لما بنيت له، فلا ينبغي رفع الأصوات في المساجد، وهذه حالة تجدها في كثير من المساجد، وأحياناً عندنا في المسجد بعد الصلاة تجد بعض الناس يقف ويتكلم ويكثر من الكلام، فيشوش على الناس صلاة النافلة وهو يحكي ويتكلم، ولا يدري أن الناس ين

تفسير سورة النور (تابع1) الآية [36]

تفسير سورة النور (تابع1) الآية [36] إن عمارة بيوت الله بالذكر والصلاة وقراءة القرآن دليل على تعلق قلب العبد بربه، وعلى قوة إيمانه واتصاله بالله تعالى. ولما كان لعمارة بيوت الله هذا الفضل العظيم كان لا بد من التأدب مع هذه البيوت العظيمة، وتعظيمها، وعدم اللهو واللعب فيها، وترك ما يفضي إلى شغل الناس عن الصلاة وقراءة القرآن فيها.

فضل عمارة المساجد بالذكر والطاعات

فضل عمارة المساجد بالذكر والطاعات الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة النور: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور:36 - 38]. مدح الله سبحانه وتعالى المؤمنين الذين يحرصون على المجيء إلى بيوت الله سبحانه، وعلى الجلوس فيه مصلين مسبحين الله تعالى، فقال: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ} [النور:37]، وقال في سورة التوبة، {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:18]، فجعلهم الله عز وجل من أهل الهدى؛ لحرصهم على المجيء إلى بيوت الله سبحانه، ومواظبتهم على صلاة الجماعة، وحرصهم على الجلوس بعد الصلوات في المساجد مسبحين الله، ذاكرين الله سبحانه، فجعل الملائكة يستغفرون لهم، ويشهدون لهم عند الله عز وجل كما في الحديث بقولهم: (أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون). فالمساجد بيوت الله سبحانه وتعالى في الأرض، وقد شرفها الله عز وجل وجعلها لذكره، ففي الحديث أنه لما جاء الرجل الأعرابي وجلس وبال في المسجد نصحه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: (إن هذه المساجد لم تبن لهذا؛ إنما هي لذكر الله، والصلاة، وقراءة القرآن)، فبيوت الله عز وجل يصلي العبد فيها صلاة الجماعة، والنافلة ونحو ذلك، ثم يجلس ذاكراً الله عز وجل فيها، كما يأتيها ليتعلم أو يعلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم يبين أن هذه المساجد بنيت لذكر الله، أي: لأصناف ذكر الله عز وجل: من قراءة للقرآن، ومن تسبيح وتحميد وتهليل وتكبير، وقراءة وسماع دروس العلم.

آداب الجلوس في المسجد

آداب الجلوس في المسجد

عدم الانشغال بكلام أهل الدنيا

عدم الانشغال بكلام أهل الدنيا جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة يذكر فيها آداب المساجد، وأشياء لا يجوز للإنسان أن يفعلها داخل المسجد، فمن ذلك ما جاء في الحديث: (أن رجلاً من الصحابة كان يصلي -وهو يجهل عدم جواز الكلام في الصلاة- فإذا برجل بجواره يعطس في الصلاة، فقال: الحمد الله، فقال: يرحمك الله -فتكلم في الصلاة-، فلما قال ذلك نظر إليه الناس -فكأنه هش لما نظر إليه الناس- فقال: ما لكم تنظرون إلي؟ فضرب الناس بأيديهم على أفخاذهم، فسكت بعد أن كاد يتكلم)، وبعد الصلاة توقع من النبي صلى الله عليه وسلم أن ينهره أو يزجره، فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن قال له: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن). فالإنسان وهو يصلي سواء في المسجد أو في غير المسجد لا يجوز له أن يتكلم بكلام أهل الدنيا، فإذا كان في بيت الله جالساً ينتظر الصلاة فهو في صلاة، فينبغي عليه أن يكون على هيئة الذي يبتغي الفضل والأجر من الله عز وجل على جلوسه، فلا ينشغل بكلام الدنيا، ولا بالمسامرة مع الناس. يقول الإمام القرطبي رحمه الله: وأما رفع الصوت في المسجد فإن كان مما يقتضي مصلحة للرافع صوته دعي عليه بنقيض قصده، والمعنى: أنه إن رفع صوته في غير صلاة مكتوبة جهرية مثلاً، أو في غير تعليم الناس العلم، وإنما لمصلحة خالصة، كأن ينادي: ضاع مني كذا، أو من يشتري كذا، أو غيره من المصالح الخاصة، فهذا يدعى عليه بنقيض قصده، أي: بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمن سمع من ينشد ضالة في المسجد: (فليقل لا ردها الله عليك، فإن المساجد لم تبن لهذا).

النهي عن التشبيك بين الأصابع في المسجد

النهي عن التشبيك بين الأصابع في المسجد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان إذا توضأ وخرج من بيته قاصداً المسجد فهو في الصلاة، ثم قال: (فلا يفعلن هكذا، وشبك بين أصابعه)، أي: إذا كنت في الطريق من بيتك إلى المسجد وأنت متوضئ فأنت في صلاة، فلا تشبك بين أصابعك حتى في الطريق إلى المسجد؛ لأنك في صلاة، فإذا كان هذا في الشارع، فكيف في بيت الله سبحانه وتعالى؟! فلا ينبغي أن يتشاغل الإنسان بتشبيك أصابعه أو بقرقعتها، أو باللعب واللغو في داخل بيت الله عز وجل، فالمساجد بنيت لما بنيت له من ذكر الله وما والاه من التعلم والتعليم، والصلاة وقراءة القرآن.

النهي عن رفع الصوت في المسجد

النهي عن رفع الصوت في المسجد سمع عمر رضي الله عنه رجلاً في المسجد كان يرفع صوته فقال عمر: ما هذا الصوت؟ أتدري أين أنت؟ فأنكر عليه أن يرفع صوته في المسجد، ونهاه عن ذلك؛ لأنه ليس من الأدب أن يرفع الإنسان صوته في بيت الله عز وجل إلا لما هو مشروع، كإمام يرفع صوته، أو مبلغ يبلغ عن الإمام في الصلاة، أو في درس علم، أما رفع الصوت بكلام الدنيا فهذا مما لا ينبغي في بيت الله سبحانه.

النهي عن تناشد الأشعار في المساجد

النهي عن تناشد الأشعار في المساجد جاء في سنن الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن تناشد الأشعار في المسجد، وعن البيع والشراء فيه، وأن يتحلق الناس يوم الجمعة قبل الصلاة)، فهذه من الأشياء التي ينهى عنها في بيت الله عز وجل. فمما ينهى عنه في المساجد: تناشد الأشعار، والأشعار منها ما هو جائز ومنها ما ليس بجائز، فالشعر الجائز كأن يكون في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، أو في ذكر الله سبحانه وتعالى، أو في مدارسة العلم، كأن يكون متناً في الفقه، أو في الحديث، ونحو ذلك مما يقوم الإنسان بحفظه من الأشعار؛ ليتعلم العلوم الشرعية، ومما يكون خلال الدروس العلمية، أو في المواعظ ونحوها. لكن أن يقعد الإنسان في المسجد يقول شعراً من أشعار الدنيا فهذا لا يجوز، وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم. والدليل على جواز قول الشعر في المسجد إذا كان فيه مدح للنبي ودفاع عن الإسلام: هو أن حسان بن ثابت كان ينشد في المسجد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اهجهم وروح القدس معك)، فيدعوه النبي صلى الله عليه وسلم إلى هجاء المشركين، وقد كان يدافع عن الإسلام بشعره رضي الله تبارك وتعالى عنه، ومثل ذلك جائز، وأما أشعار الدنيا التي يقولها الإنسان في المسجد فهذا لا يجوز، وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم. يقول الإمام القرطبي رحمه الله: وأما تناشد الأشعار في المسجد فاختلف ذلك -أي: كما تقدم ذكره- وجاء عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الشعر: (هو كلام: حسنه حسن، وقبيحه قبيح)، وهذا حديث حسن. ففيه أن الأشعار منها ما هو حسن ومنها ما قبيح، فإذا كان الذي في بيت الله عز وجل من قبيل الحسن فهو الذي يجوز أن يقال، كأن يكون في موعظة مثلاً، أو أثناء خطبة ونحوها، أو في مدارسة العلم كدراسة متن أو أرجوزة من الشعر في أصول الفقه مثلاً، أو في أصول الحديث، فهذا يعين طالب العلم على حفظ العلم، ومثل ذلك يجوز، وأما إنشاد الشعر للشعر فلا يجوز، وهذا نهى عنه النبي صلوات الله وسلامه عليه.

النهي عن البيع والشراء وإنشاد الضالة في المسجد

النهي عن البيع والشراء وإنشاد الضالة في المسجد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن البيع والشراء في المسجد، ففي الحديث: (إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك) أي: ادعوا على الإنسان الذي يبيع ويشتري في المسجد، وقولوا له: لا أربح الله تجارتك. كذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تنشد الضالة في المسجد، وأن يرفع الإنسان بذلك صوته وينادي: من لقي كذا، أو أنا لقيت الشيء الفلاني، فهذا لا يجوز، فالبحث عن الضالة، أو تعريفها ليس في المسجد، وإذا أحب الإنسان أن ينشد ضالة ويرفع بذلك صوته فليخرج خارج المسجد، ولا مانع أن يقول: وجدت كذا أو لقيت كذا، أما داخل المسجد فلا، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه رأى رجلاً يفعل ذلك ويقول: من دل على الجمل الأحمر؟ فقال: لا رده الله عليك، إن المساجد لم تبن لهذا). فهذا رجل ضاع منه جمل فرفع صوته في المسجد قائلاً: من لقي الجمل الأحمر، فالنبي صلى الله عليه وسلم نهاه عن ذلك، ودعا عليه، وقال: (لا رده الله عليك). إذاً: فالنبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا أنه لا يجوز رفع الصوت في المسجد بتجارة، أو ببيع وشراء، أو بالبحث عن ضالة، فأمور الدنيا لا ينبغي الانشغال بها في المسجد، بل ينشغل فيه الإنسان بذكر الله عز وجل، والصلاة، وبالعلوم الشرعية ونحو ذلك.

النهي عن تحلق الناس يوم الجمعة قبل الصلاة

النهي عن تحلق الناس يوم الجمعة قبل الصلاة جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه نهى أن يتحلق الناس يوم الجمعة قبل الصلاة)، أي: كأن تكون هناك حلقات يتحدثون فيها، أو حلق للعلم، فلا ينبغي أن يجلسوا قبل خطبة الجمعة متحلقين، فهذا يعلمهم القرآن والتجويد، وهذا يعلمهم التفسير وغير ذلك؛ لأنهم بذلك يسدون على الناس الأماكن في بيت الله عز وجل، فقبل خطبة الجمعة ينتظر الناس الصلاة، فمنهم من يصلي، ومنهم من يذكر الله عز وجل، ومنهم من يقرأ سورة الكهف، ومنهم من يقرأ غيرها من القرآن، ومنهم من يسبح وهكذا، فكل إنسان مشغول بشيء. فالناس يحرصون على المجيء إلى بيت الله عز وجل في يوم الجمعة، ويزدحمون في المسجد، فلو جلس إنسان يعلم الناس قبل صلاة الجمعة في حلقة، وكل واحد أخذ حلقة في المسجد، حتى يمتلئ المسجد بالحلقات، فلن يلقى الذي يأتي من خارج المسجد مكاناً يجلس فيه، وإن قعد فلن يستطيع أن يقعد وسط الحلقة، فقد (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الجلوس في وسط الحلقة)، وإن قعد خارج المسجد فالملائكة على أبواب المسجد يكتبون أسماء الداخلين إلى بيت الله عز وجل. وأيضاً: فالذين يجلسون قبل خطبة الجمعة لإلقاء الدروس فإنهم يرفعون أصواتهم ويشوشون على الناس الذين يصلون، ويذكرون الله عز وجل، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. فلا ينبغي أن يكون قبل خطبة الجمعة حلق للدروس ولا لغيرها، ولكن يأتي كل إنسان بمفرده ليذكر الله أو ليصلي النافلة، أو يجلس ينتظر صلاة الجمعة، هذا الذي ينبغي أن يكون. يقول الإمام القرطبي رحمه الله: وقد كره بعض أصحابنا التعليم في المساجد، ورأى أنه من باب البيع، وهذا إذا كان بأجرة.

الحفاظ على المسجد من لعب الصبيان

الحفاظ على المسجد من لعب الصبيان إن الأطفال قد يأتون إلى المسجد لكي يتعلموا العلوم، وقد كانوا في الماضي يعلمون الأطفال القرآن في المسجد، ويحفظونهم الأحاديث، فكانوا يخافون على المسجد من اللغو واللعب الذي يقوم به الأطفال، ويمنعون من ذلك. أما إذا كان بأجرة فقد عده بعض العلماء أنه من باب الإجارة، أو من باب البيع، فقد يرفع المعلم صوته بطلب الأجرة بداخل المسجد، وهذا ممنوع منه في البيع. قال القرطبي رحمه الله: فإذا كان بغير أجرة منع أيضاً من وجه آخر، وهو أن الصبيان لا يتحرزون عن الأقذار والوسخ، فيؤثر دخولهم المساجد على نظافتها، وقد أمرنا بتنظيفها وتطييبها، والأطفال منهم من قد يتبول في المسجد، ومنهم من يأكل ويرمي الأكل فيه، أو يقذره بحذائه، ولهذا يمنع من ذلك. وليس معنى ذلك هو القول بمنع الأطفال من المسجد منعاً باتاً، ولكن إذا كان وجودهم يشوش على المصلين، وهناك من يؤدبهم ويعلمهم ويمنعهم من اللعب فلا بأس إذاً، وأما إذا ضاق الأمر واستمر الإزعاج، وضاعت على الناس صلاتهم، فيمنعوا من دخول المسجد، وخاصة إذا كانوا صغار السن، أو دون سن السبع السنوات بحيث يتأذى المصلون من أصواتهم ولغوهم ولعبهم؛ لأن صغار السن قد لا يأتون المسجد إلا للعب، ويمكن أن يأخذ الطفل المصحف ويقطعه، أو يشطب فيه، فإذا كان الإمام القرطبي يقول: تقذير أرض المسجد -فقط- ممنوع منه، فكيف بتقطيع المصاحف، أو الشطب فيها ونحوه؟! إذاً: إذا أتينا بالأطفال إلى المسجد فليكن في السن الذي أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة فيه: (مروا أولادهم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر)، فبعد سن السبع يؤتى بالطفل إلى المسجد، بشرط أن يعلم آداب المسجد، ويحذر من اللعب مع الأطفال فيها.

حكم المبيت في المسجد

حكم المبيت في المسجد قال القرطبي رحمه الله: وأما النوم في المسجد لمن احتاج كإنسان غريب احتاج أن يبيت في المسجد، وليس له مكان يأوي إليه فلا بأس أن يبيت فيه. وجاء في صحيح البخاري عن أنس: (قدم رهط من عكل على النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا في الصفة). وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنه: أنه كان ينام وهو شاب عزب لا أهل له في المسجد. وكان ذلك قبل أن يتزوج عبد الله بن عمر، فكان يبيت في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ويصلي فيه ويقوم الليل، ويجتهد في العبادة، ثم يستريح في المسجد كالمعتكف في بيت الله سبحانه وتعالى، فمثل ذلك جائز. وجاء في صحيح البخاري عن عائشة قالت: أسلمت امرأة سوداء لبعض العرب وكان لها حفش في المسجد، قالت: فكانت تأتينا فتتحدث عندنا، فإذا فرغت من حديثها قالت: ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا ألا إنه من بلدة الكفر نجاني فهذه المرأة أسلمت وكان قومها كفاراً، ولما أسلمت هاجرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن لها مكان تنزل فيه، فجعلها النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده، وبنى لها حفشاً، والحفش: هو عش صغير أو خيمة صغيرة في المسجد تنام فيها المرأة إذا لم يكن لها بيت، ولم يكن عند أحد مكان يسعها فتنزل فيه. فهذه المرأة كانت تدخل على السيدة عائشة رضي الله عنها، فإذا جلست فإنها تقول: ويوم وشاح من تعاجيب ربنا ألا إنه من بلدة الكفر نجاني فسألتها السيدة عائشة: وما يوم الوشاح؟ فقالت المرأة: خرجت جويرية لبعض أهلي وعليها وشاح من أدم، فسقط منها، فانحطت عليه حدية وهي تحسبه لحماً فأخذته. أي: أن جارية قريبتها كانت تلبس وشاحاً من جلد -الوشاح لونه أحمر- فنزلت حدية وحسبته لحماً، وخطفته وطارت به، فأخذوا هذه المرأة -ظناً منهم أنها سرقت هذا الوشاح- وعذبوها وفتشوها، قالت: فبينا هم حولي وأنا في كرب إذ أقبلت الحدية -أي: وهم يعذبونها ويفتشونها ويتهمونها بالسرقة، فإذا بالحدية تأتي- ومعها الوشاح وتلقيه فوقهم، فهذا هو الأمر العجيب الذي جعل المرأة تقول هذا البيت من الشعر. ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا ألا إنه من بلدة الكفر نجاني فقالت: قلت لهم: هذا الذي اتهمتموني به وأنا منه بريء. فهذه المرأة هاجرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم مسلمة، وليس أهل لها في المدينة، فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن جعل لها عشة في مؤخرة المسجد تبيت فيها. يقول الإمام القرطبي: من احتاج إلى ذلك -أي: إلى المبيت بمثل هذه الحاجة- فليبت في المسجد. أما أن يتخذ المسجد كالفندق فلا، فبعضهم يذهب ليعمل في النهار، ثم يجيء بالليل لينام، لا ليصلي أو يقوم الليل أو يعتكف؛ فهذا لا ينبغي، ولم تبن المساجد لهذا، ولكن الذي يأتي إلى المسجد ويبيت فيه؛ لكي لا تفوته صلاة الفجر، فهذا إنسان بات لغرض ولعلة صحيحة، وأما أن يتخذ في المسجد مكاناً كالبيت؛ حتى لا ينزل في فندق ويدفع أجرته فهذا لا ينبغي. والله أعلم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة النور (تابع2) الآية [36]

تفسير سورة النور (تابع2) الآية [36] لقد شرع الله لعباده الصلاة في المساجد، وبين أنها بيوته، وبين فضلها وفضل بُنائها، ووصف المنشغلين بذكر الله عن الملاهي والمغريات بأنهم الرجال، فالرجل الحقيقي: هو الذي يقدم حق الله على حظوظ نفسه وشهواتها، ولقد بين الله جزاء هذا العمل من إكرامه لأهله في الدنيا والآخرة، فكما تدين تدان، والجزاء من جنس العمل.

فضل المساجد وفضل أهلها وما يقال عند دخولها

فضل المساجد وفضل أهلها وما يقال عند دخولها الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة النور: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور:36 - 38]. ذكرنا في الحديث السابق هذه الآية وهي قوله سبحانه: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [النور:36]. ففيها ذكر هذه المساجد التي عظمها الله عز وجل وقضى وأمر برفعها، وأن يذكر فيها اسمه سبحانه، وأن يسبح له فيها في الصلاة وغيرها. قوله: (بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ) الغدو: أول النهار، ومنه صلاة الغداة أي: الفجر. والآصال: جمع أصيل وهو من الظهر إلى العشاء، فدخلت مواقيت الصلوات الخمس فيها، فكأن التسبيح يكون في جميع أوقات الصلاة في المساجد، فهؤلاء هم الرجال الذين من صفاتهم: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:37]. فهم يأتون بيوت الله سبحانه فيصلون لله سبحانه وتعالى، ويذكرونه ويسبحونه، ويحضرون حلق الذكر، فتشهد لهم الملائكة بذلك من وقت إتيانهم من بيوتهم إلى رجوعهم إلى بيوتهم، فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون. ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم أنك إذا جئت بيت الله عز وجل ودخلته أن تسمي الله تعالى، وتدخل برجلك اليمنى، وتدعو ربك سبحانه أن يفتح لك أبواب رحمته. فقد جاء في صحيح مسلم عن أبي حميد -أو عن أبي أسيد - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك)، فداخل المسجد طالب للرحمة، والخارج من المسجد طالب لفضل الله سبحانه وتعالى، فالذي يأتي إلى بيت الله يريد المغفرة ويريد فضل الله عز وجل ورحمته، والخارج من المسجد يبحث عن رزقه عندما يرجع إلى بيته، فيسأل الله عز وجل من فضله، وأن يرزقه ويغنيه ويعفه ويعطيه من فضله سبحانه. وقد جاء في الحديث الآخر: (إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم، وليصل على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك). وجاء في حديث السيدة فاطمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان إذا دخل المسجد قال: باسم الله، والسلام على رسول الله، اللهم! اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج قال: باسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم! اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب فضلك). فدخول المسجد ليس كدخول غيره، فعندما تدخل المسجد تطلب الرحمة، وعندما تخرج من المسجد تطلب الفضل من الله عز وجل، وهذه مزية لبيت الله سبحانه. وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه كان إذا دخل المسجد يقول: أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وبسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم، ويدخل برجله اليمنى ويقول: باسم الله، اللهم صل على محمد، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك)، وجاء في هذا الذكر في قوله: (أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وبسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم) يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإذا قال ذلك قال الشيطان: حفظ مني سائر اليوم). فيجب على المسلم أن يحفظ هذا الذكر العظيم، فإذا دخل بيت الله عز وجل قال: (أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم)، فإن الله عز وجل يعصمه من الشيطان الرجيم، (يقول الشيطان: حفظ مني سائر اليوم). وإذا دخل صلى على النبي صلى الله عليه وسلم بأي صيغة من صيغ الصلاة عليه، ومن هذه الصيغ كما في هذه الرواية: (اللهم صل على محمد) وفي رواية: (والصلاة على رسول الله)، أو (والسلام على رسول الله) صلى الله عليه وسلم، ثم تسأل الله عز وجل من رحمته. فالدخول إلى المسجد يكون بالرجل اليمنى، والخروج من المسجد يكون بالرجل اليسرى.

بعض من أحكام تحية المسجد

بعض من أحكام تحية المسجد وفي الحديث عن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس)، وهذا أدب آخر يختص به بيت الله عز وجل، فإذا دخلت المسجد فلا تقعد حتى تصلي ركعتين تحية المسجد. وفي حديث آخر يقول أبو قتادة: (دخلت المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فجلست، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما منعك أن تركع ركعتين قبل أن تجلس؟ قلت: يا رسول الله! رأيتك جالساً والناس جلوس، قال: فإذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين)، فمن السنة ألا تقعد إذا دخلت بيت الله عز وجل مباشرة، بل لابد أن تفرق بين المسجد وبين غيره، فتصلي ركعتين تحية المسجد، ثم تجلس بعد ذلك. وتحية المسجد سنة على قول جماهير أهل العلم، وذهب البعض إلى أن تحية المسجد واجبة، واحتجوا على ذلك: (بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب الجمعة فدخل سليك الغطفاني والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فجلس الرجل، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوم وأن يصلي ركعتين، وأن يتجوز فيهما)، قالوا: وسماع خطبة الجمعة واجب، فكون النبي صلى الله عليه وسلم يأمره أن يقوم وأن يصلي ركعتين دليل على أنه سيترك الواجب، فليس من الممكن أن يترك الواجب لأجل المستحب على قولهم، فعلى ذلك يترك الواجب للواجب، فقام فصلى ركعتين تحية المسجد، فعلى ذلك تكون ركعتا تحية المسجد واجبتين، وهو قول البعض من الظاهرية، كـ داود بن علي، وأما ابن حزم فذهب إلى أنها سنة وليست فريضة، وهو الصواب. ودليله ما جاء في حديث المعراج: قال الله عز وجل: (هن خمس في العدد وهن خمسون في الأجر، أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي)، فالصلوات المفروضات خمس من عند الله عز وجل، وهن في الأجر خمسون. ومن الأدلة: حديث الرجل الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم: (هل علي غيرهن؟! قال: لا، إلا أن تتطوع)، فدل ذلك على أن غير الصلوات الخمس لا تكون فريضة إلا ما كانت الصلاة فيها فرض كفاية مثل: صلاة الجنازة، وأما غير الصلوات الخمس فليست بفريضة إلا أن يكون نذراً نذره الإنسان على نفسه. وقد ذكر أهل العلم: أن تحية المسجد لو كانت واجبة لوجب على كل من دخل أن يصليها، ويلزم من ذلك عدم جواز دخول المسجد إلا على وضوء. يقول القرطبي رحمه الله: ولا أعلم قائلاً بذلك. وهذا الاستدلال صحيح، إذ لو كانت واجبة لما جاز لأحد أن يدخل المسجد إلا وهو متوضئ؛ لأنه يلزمه أن يصلي تحية المسجد، ولكن أهل العلم يقولون بجواز أن يكون متوضئاً أو غير متوضئ، فإن لم يكن متوضئاً جاز له أن يجلس، ولكن الأفضل فيه أن يكون على وضوء حتى يصلي ركعتين تحية المسجد.

حكم تعارض تحية المسجد مع الخطبة في الجمعة أو السلام على الناس وأيهما يقدم

حكم تعارض تحية المسجد مع الخطبة في الجمعة أو السلام على الناس وأيهما يقدم وإذا كان الخطيب يخطب فليصل ركعتين وليتجوز فيهما، حتى يدرك الخطبة ولا يضيع على نفسه واجباً، فإن ضيع بعضها فلن يضيع الكثير، ويجب عليه ألا يطيل في تحية المسجد، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صل ركعتين وتجوز فيهما)، فأمر بالتجوز في ذلك. وقال صلى الله عليه وسلم في صلاة تحية المسجد هنا: (فلا يجلس حتى يصلي ركعتين). ولو أن الإنسان دخل المسجد فسمع شيئاً ينشغل به عن تحية المسجد كسماعه للأذان، فإنه يجوز له أن يصلي تحية المسجد ثم يدرك ترديد ما بقي من الأذان، والأفضل أن ينتظر حتى يردد الأذان مع المؤذن ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو، ثم بعد ذلك يصلي تحية المسجد؛ لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (إذا سمع أحدكم المؤذن فليقل مثلما يقول، ثم يصلي علي، ثم ليسأل الله لي الوسيلة، فإنها منزلة لا تنبغي إلا لعبد واحد وأرجو أن أكون أنا هو)، صلوات الله وسلامه عليه. ولو أن الإنسان دخل المسجد فهل يبدأ بالسلام على الناس أم بتحية المسجد أولاً؟ الصواب فيها: هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فلا يجلس حتى يصلي ركعتين)، فنهى عن الجلوس حتى يصلي ركعتين، فيجوز له أن يسلم على الناس إذا دخل لقول الله سبحانه: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور:61]، فإذا دخل الإنسان المسجد بدأ فسلم على الناس، ثم صلى ركعتي تحية المسجد، والتسليم لن يأخذ منه وقتاً، ولن يجلس ليسلم على الناس، والنهي في الأصل ليس عن التسليم وإنما النهي عن الجلوس فقط حتى يصلي ركعتين، ونحن نقول هذا الكلام لأن بعض إخواننا يسأل عن ذلك. وأما تسمية هذه الصلاة: بتحية المسجد فلم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث فيه كلمة تحية المسجد، أو أنه سمى هذه الصلاة: تحية المسجد، ولكنه قال: (فليصل ركعتين)، فهذا ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم، لكن الفقهاء سموها: تحية المسجد، فالشاهد: أن من قال: إنه يمنع السلام على الناس حتى يبدأ بتحية المسجد فقد أخطأ، وقد قال الله عز وجل: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا} [النور:61]، فجاء بالفاء المفيدة للترتيب والتعقيب مباشرة، فإذا وجدت المسلم أمامك فسلم، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسلام على المسلمين، فإذا وجدت المسلم في طريقك أو في مسجدك أو في أي مكان فابدأه بالسلام، حتى إنه يشرع السلام إذا فرق بينك وبينه شيء من جدار أو شجرة أو نحوه، وتسلم عليه أيضاً إذا التقيتما بعد ذلك، ولا ينبغي لي أن أدخل المسجد والناس أمامي يقابلوني ثم لا أسلم على أحد حتى أصلي ركعتين وبعد ذلك أتوجه إلى الجميع بالسلام، فلم يقل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقل ذلك أحد من أهل العلم، وإنما الصواب: أنه يسلم على من لقيه في المسجد أو في غيره، ثم يصلي تحية المسجد بعد ذلك. وقد نبهنا قبل ذلك: على أنك إذا جئت والإمام يخطب ودخلت المسجد فلا بد عليك أن تصلي ركعتين ثم تجلس، ولا ينبغي أن تلقي السلام على أحد والخطيب يخطب، فالواجب عليك أن تستمع الخطبة فقط، وكلامنا هنا: هو في إلقاء السلام على الناس إذا لم يوجد ما يمنع من الكلام، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال لصاحبه: أنصت! والإمام يخطب فقد لغا). وفي حديث آخر: (ومن لغا فلا جمعة له)، والإنسان إما أن يتكلم لحاجة أو لغير حاجة، كأن يقطع كلام الخطيب ويكلم الناس، أو يعطس الإنسان فيرفع صوته بالحمدلة، فيجيبه أحدهم بصوت مرتفع فيقول: يرحمك الله، فيرد عليه، فهذا كله لا ينبغي في أثناء الخطبة، لكن إذا عطست والخطيب يخطب فقل: الحمد لله في سرك، ولا ترفع بها صوتك، وإذا رفعت صوتك وقلت: الحمد لله، فلا ينبغي لأحد أن يشمتك إلا إذا سكت الخطيب، فيقول: يرحمك الله؛ حتى لا يكون هناك كلام في أثناء الخطبة، فإن من تكلم في أثنائها فقد لغا، ومن لغا فقد ضيع على نفسه صلاة الجمعة، لكن إذا كان الإنسان خارج المسجد فلا تحية عليه حينئذ، فلا توحد تحية للشارع مثلاً، فإذا جاء والخطيب يخطب وهو في الشارع، فليجلس في الشارع، لكن هل يجوز له أن يسلم على الناس ويرفع صوته مدِّعياً أنه في غير مسجد؟ لا؛ لأن للشارع حكم المسجد في السماع؛ لأنه يسمع الخطيب، فيلزمه أن يستمع للخطبة كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.

تفسير قوله تعالى: (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله)

تفسير قوله تعالى: (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله)

جواز الوقف والوصل في قوله تعالى: (يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال)

جواز الوقف والوصل في قوله تعالى: (يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال) قوله سبحانه: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [النور:36] >قوله: (يُسَبِّحُ): أي: ينزه الله سبحانه وتعالى عن النقص ويقول: سبحان الله! ويسبح: أي: يصلي لله سبحانه وتعالى، ولذلك سميت صلاة النافلة بالسبحة؛ لأن الله سبحانه يسبَّح فيها. وقوله: (يُسَبِّحُ)، فيها قراءتان، قراءة الجمهور: (يُسَبِّحُ). وقراءة ابن عامر وشعبة عن عاصم: (يُسَبَّحُ). وإذا قرئ بقراءة ابن عامر وشعبة فالمستحسن أن يقف على رأس الآية فيقول: (يسبَّح له فيها بالغدو الآصال)، ثم يبدأ: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور:37]، وهنا شيء محذوف يدل عليه ما بعده. وقوله: (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ)، إما أنه عائد على الآية التي قبلها (فِي بُيُوتٍ)، فيكون المعنى: في بيوت رجال؛ لأن (رجال) هنا مبتدأ، و (في بيوت) الجار والمجرور في محل رفع خبر مقدم عليه. أو هم رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله على الابتداء والخبر. وعلى قراءة الجمهور: (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا) بالفعل المبني للمعلوم، فإنه قوله: {رِجَالٌ} [النور:37] يكون فاعلاً، وبالتالي فلا يجوز الفصل بين الفعل والفاعل، فعلى ذلك يصل بينهما فيقال: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ} [النور:36 - 37]، فيصل الفاعل مع فعله؛ حتى لا تنقطع الجملة.

المؤمنون لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله سبحانه

المؤمنون لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله سبحانه قال تعالى: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ} [النور:37]، فذكر أن هؤلاء الرجال لا يلهيهم شيء عن ذكر الله سبحانه، وأعظم شيء يلهي الإنسان عن الذكر هو المال، وأعظم الأموال: هي التي تكون مكتسبة من التجارة. فهؤلاء المؤمنون لا يلتهون عن ذكر الله عز وجل بتجارة ولا ببيع، وقالوا: إن التجارة هي ما يجلب من خارج البلد، والبيع: ما يكون فيما بينهم من تجارة حاضرة. قالوا: (لا تلهيهم تجارة ولا بيع)، أي: لا شيء يجيء من الخارج، ولا شيء موجود بينهم يبيعونه.

عظم أجر الذهاب إلى المساجد والمرابطة فيها

عظم أجر الذهاب إلى المساجد والمرابطة فيها ووجود الإنسان المؤمن في بيت الله عز وجل فيه أجر عظيم جداً حتى ولو كان جالساً لا يصلي، فلو كان جالساً ينتظر الصلاة أو في عقب الصلاة فله أجر عظيم، بل في مشيه إلى بيت الله سبحانه الأجر العظيم، كما جاء في الأحاديث، ومنها ما رواه أبو داود بإسناد حسن عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من خرج من بيته متطهراً إلى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاج المحرم، ومن خرج إلى تسبيح الضحى لا ينصبه إلا إياه)، وهنا: أن أجر الذي يأتي إلى الصلاة المكتوبة كأجر الحاج المحرم، وليس معنى هذا أنه يغني عن الحج، ولكنه أجر يماثل أجر الحاج المحرم. قال: (ومن خرج إلى تسبيح الضحى) أي: وقت صلاة الضحى، ليصلي ركعتين في المسجد. قال: (لا ينصبه إلا إياه فأجره كأجر المعتمر، وصلاة على إثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين). فقوله: (وصلاة على إثر صلاة) أي: صليت الصبح وبعد ذلك رجعت إلى بيتك ثم جئت في صلاة الظهر بشرط ألا تلغو بين الصلاتين، أي: لا تضيع الوقت في كلام فارغ، أو أشياء تأثم عليها أو أشياء مكروهة، فإذا حفظت لسانك فيما بين الصلوات كتب لك كتاب في عليين، أي: أعلى الجنة، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها. وجاء في الحديث: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)، ومشاء: غير معنى ماش؛ فالماشي قد يمشي مرة أو مرتين، لكن المشاء: هو المداوم على المشي، فهو يواظب على صلاة الفجر، ويواظب على صلاة العشاء في بيت الله عز وجل، فلا يمتنع من ذلك بزعم: أن الدنيا مظلمة، والجو بارد، أو الجو حار، بل يأتي بيت الله عز وجل في كل وقته، خاصة في أوقات الظلم: الفجر والعشاء، فالذي يأتي في الظلام إلى بيت الله سبحانه فليبشر بنور تام يوم القيامة، والنور التام هو عكس النور الناقص، والإنسان يوم القيامة قد يكون له نور يضيء أمامه ما يشاء الله سبحانه، وقد تكون أمامه ظلمات يوم القيامة، فالله عز وجل ينيرها لأصحابها بصلاتهم، وبإتيانهم المساجد في وقت الظلم: في الفجر وفي العشاء. وبعض الناس يتقد له النور ويخبو مرة على قدر عمله، وعلى قدر قربه من الله عز وجل؛ ولأنه ابتعد وعصى، فيتقد له نور يرى به قليلاً ثم ينطفئ النور ويظلم عليه، ويتقد مرة أخرى وبعد ذلك يظلم عليه، لكن أهل صلاة الفجر وصلاة العشاء لهم نور تام كامل لا يخبو ولا ينطفئ، وذلك بمواظبته على الصلاة في هذين الوقتين: في العشاء وفي الفجر. قوله: (بشر المشائين) أي: المواظبين على صلاة الفجر، (بالنور التام يوم القيامة). وقد جاء كذلك في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلاً في الجنة كلما غدا أو راح). و (النزل): هو طعام الضيف، فتقول: فلان نازل عندي، أو: جهزت له نزله، أو: جهزت له القرى -وهو طعام الضيف- فكأن هذا الذي يغدو إلى بيت الله عز وجل في الصباح، أو يروح وقت العشي ونحوه، كالضيف لله عز وجل، فالله يجهز له في الجنة نزله وطعامه، فالله عز وجل يتفضل على زائر مساجده بأن يعطيه من فضله ورحمته في جنته. نسأل الله عز وجل أن يرزقنا من فضله ومن رحمته، وأن يجعلنا من أهل عليين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة النور (تابع3) الآية [36]

تفسير سورة النور (تابع3) الآية [36] إن المشي إلى المساجد له فضل عظيم، وثواب جسيم، فكل خطوة ترفع درجة، وتمحو سيئة، وكذلك المكث في المساجد له ثواب عظيم، فالمرء في صلاة إذا كانت الصلاة هي التي تحبسه في المسجد.

فضل المشي إلى المساجد والصلاة فيها مع الجماعة

فضل المشي إلى المساجد والصلاة فيها مع الجماعة الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة النور: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور:36 - 38]. ذكرنا أن الله سبحانه وتعالى جعل له في الأرض بيوتاً، وهي: المساجد، وجعل عمّارها أفضل الخلق، وأقربهم إلى الله سبحانه وتعالى، والذين يستحقون أن يهديهم الله عز وجل في الدنيا، وأن يظلهم بظله يوم لا ظل إلا ظله. وجعل من هؤلاء من يحفظون كتاب الله عز وجل، وجعلهم أهله سبحانه، وبشرهم بمشيهم في الظلمات إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة). وذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ومنهم: رجل قلبه معلق بالمساجد) إذا خرج منها حتى يرجع إليها، فتعلقت القلوب بالمساجد، والذي يتعلق قلبه ببيت الله سبحانه وتعالى هو متعلق بالله عز وجل، فإذا كان يوم القيامة نفعه هذا التعلق ببيت الله سبحانه في أن يظله الله عز وجل في ظله يوم لا ظل إلا ظله. وجاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله؛ ليقضي فريضة من فرائض الله، كانت خطوتاه إحداهما تحط خطيئة، والأخرى ترفع درجة) وهذا ثواب عظيم من الله عز وجل لمن أتى إلى بيت الله، فكل خطوة يرفعه الله بها درجة، ويحط عنه بها خطيئة. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أيضاً: (صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه بضعاً وعشرين درجة) أي: أن صلاته في الجماعة في بيت الله سبحانه وتعالى تزيد على صلاته منفرداً في بيته أو في سوقه ببضع وعشرين درجة. قال صلى الله عليه وسلم موضحاً: (وذلك أن أحدهم إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى المسجد لا ينهزه إلا الصلاة، فلم يخطُ خطوة إلا رفع له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة حتى يدخل المسجد، فإذا دخل المسجد كان في الصلاة ما كانت الصلاة هي تحسبه، والملائكة يصلون على أحدكم ما دام في مجلسه الذي صلى فيه، يقولون: اللهم ارحمه، اللهم اغفر، اللهم تب عليه، ما لم يؤذ فيه، ما لم يحدث فيه)، فأي فضيلة أعظم من هذه الفضائل التي ذكرت في هذه الأحاديث. فصلاة الإنسان في جماعة تضاعف على صلاته وحده ببضع وعشرين درجة، وسبب هذه الدرجات هو أن المسلم قام بأفعالٍ كثيرة وليس مجرد الصلاة فقط، بل إنه توضأ وتطهر وأحسن وضوءه، ثم خرج يمشي من بيته إلى المسجد، فالخطوة الواحدة يرفعه الله عز وجل بها درجة، والأخرى يحط عنه بها خطيئة، وهكذا، لكن بشرط أنك لم تأت إلا للصلاة، وليس من أجل أن تقابل أحداً، أو أن لديك موعد مع إنسان، لا، ولكنك جئت لا تنهزك إلا الصلاة، ولم تدفعك وتحضك على المجيء إلى بيت الله إلا الصلاة، وحب الله سبحانه وتعالى.

فضل الجلوس في المسجد

فضل الجلوس في المسجد قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا دخل المسجد كان في صلاة ما كانت الصلاة هي تحبسه) فمن حين أن يدخل بيت الله عز وجل فهو في صلاة حتى يخرج. وفي هذا الحديث يخبرنا صلى الله عليه وسلم وهو يرى ما لا نرى، ويعلم ما لا نعلم، صلوات الله وسلامه عليه، حيث يقول: (والملائكة يصلون على أحدكم)، وهناك فرق بين: يصلون عليكم، وقوله: يصلون على أحدكم، فمعنى يصلون عليكم أي: على الجميع، فتكون الصلاة على جميع الموجودين، فقد ينال البعض منها الكثير وينال البعض القليل، ولا ينال البعض الآخر، ولكنه قال: (يصلون على أحدكم) أي: على كل واحد منكم، وكل واحد تختصه الملائكة بالصلاة عليه، فتدعو له، وجميع الموجودين في المسجد ينالهم الخير العظيم، وتنالهم دعوات الملائكة الكرام عليهم السلام. قال: (يصلون على أحدكم) أي: يدعون لأحدكم، (ما دام في مجلسه الذي صلى فيه، يقولون: اللهم ارحمه، اللهم اغفر له، اللهم تب عليه) وهذه دعوات عظيمة، والواحد منا إذا وجد أحد الصالحين فإنه يقول له: ادع لي، فالملائكة هنا تدعوا للعبد دعاء مستجاباً من فضل الله وكرمه سبحانه وتعالى، ولن تخص أحداً دون الآخر، بل تدعوا للجميع واحداً واحداً، فتقول لكل واحد من القادمين إلى بيت الله عز وجل: (اللهم ارحمه) تدعو لهم بالرحمة. (اللهم اغفر له) تدعو له بالمغفرة. (اللهم تب عليه) تدعو له بالتوبة، فإذا كان مذنباً تاب الله عز وجل عليه، وغفر له ورحمه، وإذا تاب الله عليه وغفر له ورحمه، فقد فاز بجنة الله عز وجل ورضاه سبحانه. فهذه الدعوات، وهذا الجزاء العظيم يناله بشرط أن يأتي إلى المسجد لا ينهزه إلا الصلاة، أي: أنه جاء من بيته متطهراً من أجل الصلاة، ثم قيد الحصول على تلك الفضيلة بقيدين في آخر الحديث، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما لم يؤذ فيه، ما لم يحدث فيه)، فالمؤذي أذاه في كل مكان، فإذا كان في المسجد آذى نفسه بأذاه لغيره، فإذا آذى أحداً من الناس: بغيبة، أو بنميمة، أو بلمز، أو برفع صوت، أو بشتم، أو بسب، أو بأي نوع من أنواع الأذى باليد أو باللسان، فلا يستحق ذلك الجزاء العظيم، حتى وإن كان جاء للصلاة ولم ينهزه إلا الصلاة. والقيد الآخر: قوله صلى الله عليه وسلم: (ما لم يحدث فيه)، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) أي: مردود عليه، إذاً: فقوله: (ما لم يحدث فيه) أي: ما لم يبتدع في بيت الله سبحانه وتعالى. فإذا لم يؤذ أحداً من الناس، ولم يبتدع في دين الله سبحانه وتعالى، فقد استحق هذا الأجر العظيم الذي جاء في الحديث. وقد سئل أبو هريرة عن معنى الحدث؟ ففسره ببعض معنى الحدث، وقال: (ما لم يحدث) أي: يفسو أو يضرط، بمعنى: خروج الحدث منه، وهذا معنى صحيح أيضاً، ولكن الحديث المرفوع للنبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما لم يؤذ فيه، ما لم يحدث فيه)، ولم يزد على ذلك صلوات الله وسلامه عليه. فهذا تفسير من الراوي، وهو: أبو هريرة رضي الله عنه، وهو من أعلم الناس بحديث النبي صلى الله عليه وسلم ومعناه، فذكر بعض معاني الحدث، ومن ضمن الإحداث في المسجد: أن يبتدع الإنسان بدعة في دين الله، وهذا فسره قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد). ومن ضمن الإحداث، بمعنى: الحدث: أن يجلس في المسجد على غير وضوء، فمن توضأ وجلس في المسجد نال من الأجر وكأنه في صلاة، وذلك من حين أن يدخل المسجد إلى أن يخرج، حتى ولو كان جالساً في سهو أو يتفكر، فإذا كان على وضوء ناله هذا الأجر كله. فينبغي على المسلم أن ينتهز فرصة وجوده في المسجد بأن يكون على وضوء، وأن يكثر من ذكر الله سبحانه، وألا يلغو وهو في بيت الله سبحانه وتعالى.

المكوث في المسجد أو حضور الجنازة

المكوث في المسجد أو حضور الجنازة قال حكيم بن زريق: قيل لـ سعيد بن المسيب: أحضور الجنازة أحب إليك أم الجلوس في المسجد؟ بمعنى: هل تفضل أن تجلس في المسجد من الصلاة إلى الصلاة، أو تترك المسجد وتخرج لحضور الجنازة؟ فقال رضي الله عنه: بل الجلوس في المسجد أحب إلي؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من صلى على جنازة فله قيراط، ومن شهد دفنها فله قيراطان) وأما الجالس في المسجد فإن الملائكة تقول: (اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، اللهم تب عليه). فاستحضر رحمه الله أن الملائكة تدعو له وهو جالس في المسجد، وفضل أن يجلس في المسجد على أن يحضر الجنازة، وفي كل خير، فحضور الجنازة فيه أجر عظيم، وقد جاء عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه، لما سمع حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من شهد -أي: تبعها- فصلى عليه جنازة فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان) أي: بشهوده الجنازة، والانتظار حتى تنزل في قبرها، فلما سمع ذلك قال: لقد فرطنا في قراريط كثيرة. ففيه أن ابن عمر تحسر على أنه اكتفى بأن صلى على الجنازة، ولم يشهدها، أو أنه وصلها وانصرف قبل أن تنزل إلى قبرها، فقال: لقد فرطنا في قراريط كثيرة. فينبغي على الإنسان أن يحرص على حضور الجنازة ما لم يمنعه عذر، فإذا خير بين أن يعتكف في المسجد وبين أن يحضر الجنازة، فهو مخير بين خيرين، وإن كان حضور الجنازة فيه خير ونفع متعد، وثوابه عظيم، كما فيه أيضاً تطيب لقلب أهل الميت، ومواساة لهم، وفيه دعاء للميت وهو في قبره بالتثبيت، وأجور كثيرة من نواح أخرى قد تزيد على وجود الإنسان في المسجد، ولكن في كل خير.

المفاضلة بين المكوث في المسجد وحضور الجنازة

المفاضلة بين المكوث في المسجد وحضور الجنازة قال حكيم بن زريق: قيل لـ سعيد بن المسيب: أحضور الجنازة أحب إليك أم الجلوس في المسجد؟ بمعنى: هل تفضل أن تجلس في المسجد من الصلاة إلى الصلاة، أو تترك المسجد وتخرج لحضور الجنازة؟ فقال رضي الله عنه: بل الجلوس في المسجد أحب إلي؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من صلى على جنازة فله قيراط، ومن شهد دفنها فله قيراطان) وأما الجالس في المسجد فإن الملائكة تقول: (اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، اللهم تب عليه). فاستحضر رحمه الله أن الملائكة تدعو له وهو جالس في المسجد، وفضّل أن يجلس في المسجد على أن يحضر الجنازة، وفي كل خير، فحضور الجنازة فيه أجر عظيم، وقد جاء عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه لما سمع حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من شهد جنازة -أي: تبعها- فصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان) أي: بشهوده الجنازة والانتظار حتى تنزل في قبرها، فلما سمع ذلك قال: لقد فرطنا في قراريط كثيرة. ففيه أن ابن عمر تحسر على أنه اكتفى بأن صلى على الجنازة ولم يشهدها، أو أنه شهدها وانصرف قبل أن تنزل إلى قبرها، فقال: لقد فرطنا في قراريط كثيرة. فينبغي على الإنسان أن يحرص على حضور الجنازة ما لم يمنعه عذر، فإذا خير بين أن يعتكف في المسجد وبين أن يحضر الجنازة فهو مخير بين خيرين، وإن كان حضور الجنازة فيه خير ونفع متعد، وثوابه عظيم، كما فيه أيضاً تطيب لقلب أهل الميت، ومواساة لهم، وفيه دعاء للميت وهو في قبره بالتثبيت، وأجور كثيرة من نواح أخرى قد تزيد على وجود الإنسان في المسجد، ولكن في كل خير.

ذم الكلام بغير ذكر الله في المسجد

ذم الكلام بغير ذكر الله في المسجد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث أنه قال: (سيكون في آخر الزمان رجال يأتون المساجد فيقعدون فيها حلقاً حلقاً، ذكْرهم) وفي رواية: (إمامهم الدنيا فلا تجالسوهم؛ فإنه ليس لله بهم حاجة)، ذكره الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة، وذكر له شواهد، وصححه أو حسنه. أي: أنهم جاءوا يتسامرون في المسجد، فيجلسون حلقاً حلقاً يتكلمون في الدنيا وليس في ذكر الله سبحانه وتعالى. وقوله: (ذكْرهم أو إمامهم الدنيا) بمعنى: ما يأمونه، أي: مقصدهم وذكرهم ليس ذكر الله عز وجل، ولكن يذكرون الدنيا، فيتكلم هذا عن ما عنده في البيت، ويتكلم ذاك بما وراءه من الشغل، وهكذا، فكثير من الناس هذا حالهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله. قوله: (فلا تجالسوهم) أي: لا تقعدوا معهم في مثل هذه المجالس، فإذا رأيت شخصاً يحدثك عما صنع بالأمس، أو أنه ذهب إلى مكان كذا، أو بقي له عند فلان كذا، فلا تجلس معه، فإنه يحرمك من الأجر، ومن دعوة الملائكة لك. والإنسان المؤمن يضن بعمره، ويضن بوقت العبادة أن يضيعه في كلام فارغ لا يؤجر عليه. فإذا كنت في المسجد فاحرص ألا يلهيك أحد عن ذكر الله عز وجل، وإذا وجدت نفسك جالساً تسبح الله بعد الصلاة، وتريد أن تقرأ آية الكرسي والمعوذات، وجاء أحدهم يريد أن يتكلم معك ويشغلك فلا ترد عليه، وقل له: اصبر حتى اختم الصلاة؛ لأن كثيراً من الناس يحب أن يضيع وقته بالكلام، فإذا وجدك في الشارع، أو في المسجد تكلم معك، فاحرص على ألا تضيع وقت العبادة معه. إن الذي يأتي ليتكلم معك في أمور الدنيا قد ضيع عليك أجراً عظيماً، فآية الكرسي التي تقرأ عقب الصلاة يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (من قرأ آية الكرسي دبر الصلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت) أي: أنك إذا صليت الفريضة، وقرأت آية الكرسي ثم مت، دخلت الجنة، فالذي يأتي ليكلمك عن أمور الدنيا في هذا الوقت فإنه يحرمك من هذا الثواب، فلا يستحق الجواب، إلى أن تختم الصلاة، وتختم بهذه الأذكار التي علمنا إياها النبي صلى الله عليه وسلم، فينبغي على الإنسان ألا يفرط في وقته أو وقت غيره. وكثير من الناس يقولون: إنهم مشغولون وورائهم أعمال مهمة، فيصلي مستعجلاً ويترك الأذكار، فإذا خرج وقف على باب المسجد يحدث هذا ويتكلم مع ذاك، فينشغل عن ذكر الله عز وجل، وعن التسبيح والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بكلام هذا وذاك، وبأشياء له عنها مندوحة أن يتركها. إن العمر لا يعوض، واليوم الذي يمضي من الإنسان لا يعود إليه، واليوم قد يقدر الإنسان على شيء، ولا يقدر عليه غداً، فليحرص على أن يأخذ من الدنيا أعظم ما فيها وهو ذكر الله سبحانه وتعالى وطاعته.

من آداب المساجد

من آداب المساجد لقد جمع الإمام القرطبي حوالي خمسين عشر خصلة في تعظيم حرمة المساجد، وهي أكثر من ذلك بكثير، ولكن نذكر الملخص الذي ذكره القرطبي رحمه الله، قال من حرمة المسجد: أن يسلم وقت الدخول إن كان القوم جلوساً، فيلقي السلام إذا دخل المسجد على أقرب الناس إليه، ولا يرفع بذلك صوته فيزعج الآخرين، ويسمع كل من في المسجد؛ لأنه لو رفع كل إنسان دخل المسجد صوته بالسلام ليتأذى الناس بذلك، خاصة وفيهم من يقرأ القرآن، أو يسبح، أو يصلي. ولذلك قال رحمه الله: إن كان الناس جلوساً، فكأنه احتراز من إزعاج المصلين، حتى لا يشغلهم بالسلام. ولذلك يقول جابر بن عبد الله: لا أحب أن أسلم على من يصلي، وإن سلم علي أحد رددت، أي: أنه إذا وجد أحداً يصلي لا يقول له: السلام عليكم، ولكن إذا سلم عليه أحد وهو في الصلاة ردّ عليه السلام، وذلك بأن يشير بيده، أو بإصبعه أنه سمع ذلك، ولكن لا يرد بالقول وإلا بطلت صلاته. فمن آداب المسجد: أن يسلم الداخل على من فيه، فإن لم يكن في المسجد أحد فإنه يسلم كذلك؛ لقوله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور:61] أي: يسلم بعضكم على بعض، وإذا لم يكن فيه أحد من الناس فإن فيه ملائكة الله عز وجل، فإذا دخل استحب أهل العلم أن يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أي: أنه يسلم على نفسه، وعلى من في المسجد من ملائكة الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال القرطبي رحمه الله تعالى: إن لم يكن في المسجد أحد قال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. ومن آداب المساجد أيضاً: أن يركع ركعتين قبل أن يجلس كما ذكرنا في الحديث السابق. قال: وألا يشتري ولا يبيع فيه، والمعنى: أنه لا يجوز أن يجري عقد الشراء والبيع أو المساومة على المبيع في المسجد، ولكن لو أن إنساناً اشترى من إنسان شيئاً خارج المسجد، وجاء هذا بالشيء إلى المسجد، وأعطاه له فقط من غير كلام آخر، فهذا جائز؛ لأنه مجرد مناولة، كأن يشتري إنسان كتاباً من آخر خارج المسجد، ثم جاء البائع وأعطاه كتابه داخل المسجد. وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم على من يبيع أو يشتري في المسجد فقال: (إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك) أي: يدعون عليه. قال رحمه الله: ومن آدابها: ألا يسل فيه سهماً ولا سيفاً، والغرض أنه لا يؤذي أحداً من المسلمين بشيء في يده، فإذا دخل المسجد ومعه حديدة، أو شيء قد يؤذي به الناس فليتجنب أن يمشي به في وسط الزحمة؛ لكي لا يخدش بحديدته أو ما معه أحداً. قال القرطبي رحمه الله: ولا يطلب فيها ضالة، وقد ذكرنا من قبل أنه لا يجوز للإنسان أن يعرف فيه ضالة، كأن يقول: وجدت كذا، أو ضاع مني كذا، فمن أراد ذلك فليكن خارج المسجد. قال: ولا يرفع فيه صوتاً بغير ذكر الله سبحانه وتعالى، أي: بالكلام عن أمور الدنيا، وإذا رفع صوته فليكن في درس علم أو في صلاة. وأيضاً: لا يرفع الصوت بذكر الله عز وجل؛ حتى لا ينزعج الناس، ولذلك لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم على الصحابة في رمضان وهم يصلون التروايح خشي أن تفرض عليهم، فلم يصل بهم صلاة التراويح جماعة، إلا مرة أو مرتين، ولم يفعل بعد ذلك، وقال: (خشيت أن تفرض عليكم أو تكتب عليكم). فكان الصحابة يصلون فرادى، فخرج مرة فسمعهم يصلون، وكل شخص يصلي وحده، ويرفع صوته، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقال: (كلكم يناجي ربه، فلا يرفع بعضكم صوته على بعض، ولا يؤذي بعضكم بعضاً) أو كما ذكر صلوات الله وسلامه عليه. إذاً لا يرفع في المساجد صوت بغير ذكر الله سبحانه، وكذلك إذا كان بذكر الله فلا يرفع بحيث يؤذي الناس بعضهم بعضاً، فإذا كان الناس جالسين في انتظار صلاة الجمعة فلا يرفع الإنسان صوته بقراءة القرآن؛ حتى لا يشغل الذي بجواره، بل يسمع نفسه فقط، أو يسر القراءة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة). والجاهر بالقرآن: هو الذي يرفع صوته، والله تعالى يقول: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} [البقرة:271] أي: شيء حسن أن تبدي الصدقة، ولكن: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271] أي: أفضل لكم، وكذلك في قراءة القرآن، فالجهر بها بين الناس شيء طيب، لكن من غير أن يتأذى بها أحد من الناس، فإذا كان في رفع الصوت بها أذى فيجب على القارئ أن يخفض صوته، ومع هذا فالإسرار بها أعظم في الأجر إذا كان بين الناس. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة النور [36 - 37]

تفسير سورة النور [36 - 37] إن أحب البقاع إلى الله تعالى هي المساجد، وقد أمر الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، وللمساجد آداب ينبغي لكل مسلم مراعاتها، وقد بين أهل العلم هذه الآداب بأدلتها من الكتاب والسنة وقواعد الشريعة ومقاصدها.

آداب المساجد

آداب المساجد الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة النور: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور:36 - 38]. ذكر الإمام القرطبي في هذه الآية خصالاً في تعظيم بيوت الله سبحانه وتعالى وهي المساجد، فقال رحمه الله: قد جمع بعض العلماء في ذلك خمسة عشرة خصلة قال: من حرمة المسجد أن يسلم وقت الدخول إن كان القوم جلوساً، وإن لم يكن في المسجد أحد قال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وأن يركع ركعتين قبل أن يجلس، وألا يشتري ولا يبيع، ولا يسل فيها سهماً ولا سيفاً، ولا يتخطى رقاب الناس. والنبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن البيع والشراء في المسجد فقال: (من رأيتموه يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك). وفي صحيح البخاري من حديث أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مر في شيء من مساجدنا أو أسواقنا بنبل فليأخذ على نصالها؛ لا يعقر مسلماً) يعني: الذي يمشي في زحمة سوق أو في مسجد وفي يده شيء قد يؤذي به الناس كسيف أو سهم ونحو ذلك، فيأخذ النصل بيده حتى لا يؤذي به أحداً من الناس. وأيضاً لا يجوز أن يطلب في المسجد ضالة كأن يقول: لقد ضاع مني الشيء الفلاني، ولكن يطلبها خارج المسجد وليس داخله، ومن وجد شيئاً فليعرفه خارج المسجد وليس في داخل المسجد.

حرمة تخطي رقاب الناس في المسجد وإيذائهم

حرمة تخطي رقاب الناس في المسجد وإيذائهم ومن آداب المسجد أن السابق إلى المكان أحق به، فالإنسان الذي جاء إلى الصف الأول مبكراً هو أحق بمكانه، ولا أحد ينازعه في المكان فيقيمه ويجلس مكانه؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيم الرجل الرجل من مكانه ويجلس هو فيه. وكذلك نهى عن تخطي الرقاب، فقد رأى رجلاً يتخطى الرقاب في صلاة الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة، فقطع خطبته وقال للرجل: (اجلس فقد آذيت وآنيت) أي: آذيت الناس وتأخرت عن الصلاة. فإذا كان الناس قد ازدحموا وملئوا المكان فلا ينبغي لأحد أن يتخطى رقابهم حتى يجلس أمامهم، وهذا تجده كثيراً، فبعض الناس في وقت صلاة الجمعة والمسجد مزدحم، فيدخل متأخراً من باب المسجد فيتخطى الصفوف حتى يجلس في الصف الأول! وهذا من سوء الأدب، فقد تأخر عن المجيء إلى المسجد وجاء ليؤذي الناس، والإيذاء للمسلمين حرام، فلا يجوز لأحد أن يؤذي أحداً من المسلمين، فمن الأذى لهم أن يتخطى أحد الصفوف ويجلس بينهم فيزحمهم في صفهم، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجلس الرجل بين الرجلين إلا بإذنهما، فلعل إنساناً يحب إنساناً آخر ويحب أن يجلس بجواره، فيأتي ثالث ويقول: وسع وسع، ويقف بين الاثنين، هذا من سوء الأدب، فالأدب أن يسلم ويستأذن فإذا أذنا له جلس، وإلا لم يجلس بينهما. وأيضاً من الأدب في بيت الله عز وجل ألا يرفع فيه صوت بغير ذكر الله سبحانه وتعالى، ولا يتكلم في المسجد بأحاديث الدنيا. وكذلك لا يضيق على أحد في الصف، وعلى الإنسان أن يحرص على الصف الأول، ففي الحديث: (إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول)، ولكن ليس معنى هذا أن يزاحم الإنسان المصلين، بل يأتي مبكراً حتى يجلس في الصف الأول. وكثيراً ما يحدث هذا الخطأ فتجد الصف ممتلئ ولا يوجد مكان لآخر، فتجد من يدخل في الصف، حتى إن بعضهم يترك له المكان ويرجع إلى الصف الثاني، فهذا أخذ مكان غيره وليس مكانه ولا يستحقه. وأحياناً بعض الناس يضايق الآخرين في الركوع أو السجود بكوعه، فقد علم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد فرج بين يديه، فيحاول أن يصنع ذلك في صلاة الجماعة، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك إذا كان منفرداً أو إماماً صلى الله عليه وسلم. فعلى المصلي في الصف أن يحرص على آداب الصف، ولا يؤذي أحداً من المصلين. وكذلك لا يرفع صوته بذكر الله عز وجل لا في الصلاة ولا في غيرها بحيث يتأذى منه الناس، فالبعض يقرأ من المصحف بصوت عالٍ، وهذا خطأ، فعليه أن يخفض صوته ويسمع نفسه فقط، وإذا كان المسجد فارغاً فليرفع صوته إذا شاء: (والجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة) كما في الحديث. وكثير من الناس يرفع صوته حتى في الصلاة، فيسمع الناس قراءته وتسبيحه ودعاءه، ويؤذي من بجواره. عليك أن تقبل على الصلاة نشيطاً فرحاً بأنك تصلي كما في الحديث: (أرحنا بها يا بلال)، لكن لا ترفع صوتك فيها فتؤذي أحداً من الناس. وبعض الناس في الصلاة يقرأ الفاتحة سراً حتى يصل إلى {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] فيرفع صوته، فيزعج الذين بجواره. وبعض الناس يظهر تعبه في الصلاة كالكسلان، فأنت تصلي بين يدي الله عز وجل، وفي الحديث: (إن الله لا يمل حتى تملوا)، فالله عز وجل لا يمنع عنك ثوابه حتى تمتنع أنت من طاعته سبحانه وتعالى، ومن ذكره سبحانه، فاحرص على إتقان الصلاة وإحسانها، فقف فيها بجد وبنشاط فإنك بين يدي الله عز وجل، وأري ربك أنك تعبده عبادةً حقيقة لا عبادةً فيها ملل. ومن الآداب: ألا يمر أحد بين يدي مصلي، فإذا كان إنسان يصلي وجعل أمامه سترة فامش من وراء السترة. والسترة للمصلي مشروعة، وبعض الناس يصلي في آخر المسجد بلا سترة، فيوقع الناس في الحرج عند الخروج والبحث عن أحذيتهم. فاحرص إذا كنت مسبوقاً أن تصلي إلى سترة، وإذا لم تجد سترة أمامك فتقدم ودع غيرك يمر من ورائك.

تنزيه المسجد من النجاسات والقاذورات واللعب وكلام الدنيا

تنزيه المسجد من النجاسات والقاذورات واللعب وكلام الدنيا ومن الآداب: ألا يبصق ولا يتنخم ولا يتمخط في بيت الله سبحانه وتعالى، إلا إذا كان محتاجاً إلى ذلك فيخرج منديلاً ويتفل في منديله بطريقة مهذبة بحيث لا يؤذي من بجواره من الناس. ولا يفرقع أصابعه في الصلاة، ولا يعبث بشيء من جسده، فهذا ليس من أدب الصلاة. وكذلك ينزه المسجد عن النجاسات وعن الصبيان والمجانين، فمن كان على ثيابه نجاسة قد يلوث بها الأرض. فليجتنب دخول بيت الله عز وجل حتى يزيل النجاسة. ويجنب دخول المسجد الصبيان الذين لا يعقلون، فقد يجري ويلعب في المسجد، ويرفع صوته ويؤذي الناس، فمثل هذا ينزه المسجد عن إدخاله فيه، والذي يؤتى به إلى المسجد هو من كان في سن يصلى فيها وذلك بعد سبع سنوات، ويكون معلوماً من حاله أنه يعرف أن يصلي، وإذا قيل له: اسكت يسكت، وبعض الناس عنده سفاهة غريبة جداً، فهو يعلم أن ابنه قليل الأدب يلعب في المسجد، فإذا قيل له: يا أخي اتق الله لماذا أتيت به؟ فيقول: ما هو دليلك يا أخي؟! يعني الذي عمله ابنه في المسجد من سوء الأدب غير مهم عنده، لكن أنت ما هو دليلك على أنك تمنعه؟! وقد ذكرنا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره على حرمة ذلك، فالمساجد لها حرمة، فلا يجوز الإتيان إلى المسجد بالصبيان المعروفين بأذى الناس واللعب لا للصلاة ولا لغيرها، لكن الذي يؤتى به لبيت الله عز وجل من يصلي ويتأدب، وإذا أمر أن يسكت سكت. وكذلك المجنون لا يمكَّن من دخول المسجد، فهو غير مكلف أصلاً حتى يدخل بيت الله، وإنما يخرج من بيت الله سبحانه حتى يستطيع الناس أن يصلوا، فالمسجد ليس مكاناً للمجانين ولكنه بيت الله سبحانه. وإذا علم من حال إنسان أنه يأتيه حالات جنون فمثل هذا يمنعه أهله من المجيء للمسجد حتى يزول عنه ذلك. أيضاً: من حرمة المساجد عدم إقامة الحدود فيها من جلد ونحوه؛ لأنه الذي يقام عليه الحد سيصرخ ويصيح، وليس المسجد مكاناً لذلك، وإذا كان حد القتل فسيلوث المسجد بدمائه. ومن الآداب: أن يكثر من ذكر الله تعالى ولا يغفل عن ذكره سبحانه، ولا ينشغل بكلام الدنيا، فهذا بيت الله سبحانه وتعالى، فينبغي أن يعظم، فعلى المرء أن يجلس في بيت الله لطاعة الله وليس لإزعاج المصلين، فكل مصل منشغل بصلاته، ويكفيه الوساوس التي تأتيه وهو في الصلاة يسرح فيها، فلا تزدها عليه بكلامك ورفع صوتك وكأنك تنفر الناس عن الصلاة.

عدم اتخاذ المساجد طرقا والحرص على نظافتها

عدم اتخاذ المساجد طرقاً والحرص على نظافتها قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من اقتراب الساعة أن يرى الهلال قبلاً، فيقال: لليلتين، وأن تتخذ المساجد طرقاً، وأن يظهر موت الفجأة) رواه الدارقطني، وقال الألباني: حديث حسن. قوله: (أن يرى الهلال قبلاً) قبلا: بفتحتين، ومعناه أنه يرى الهلال كبيراً، والهلال في أول ليلة من الشهر يرى صغيراً جداً ولا يكاد يراه إلا القليل من الناس، ويختفي سريعاً، ولكن من علامات الساعة أنه يكبر في أول ليلة من الشهر، فيظن الناس أنه قد طلع قبل تلك الليلة ولم ينتبهوا له! قال: (وأن تتخذ المساجد طرقاً) هذا من أشراط الساعة، فالمسجد يكون طريقاً للناس، فيدخل الرجل المسجد ليمر منه ولا يصلي، وإنما يدخل لحاجة وينصرف، وكأن المسجد شارع وليس هو بيت الله سبحانه! قال: (وأن يظهر موت الفجأة) يعني: يكون الرجل قاعداً صحيحاً وفجأة يموت، وهذا يحدث كثيراً، ومن الماضي كان يحدث ولكن يكون في آخر الدنيا موت أكثر الناس كذلك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (موت الفجأة أخذة أسف). وهذا للإنسان الفاجر يعني: أن الله عز وجل يعاجله بالعقوبة ولا يعطيه فرصة ليتوب إليه سبحانه، وقد كان الصحابة يفرحون إذا مرض الإنسان قبل أن يموت، ويحبون أن يمرض شهراً أو شهرين أو أكثر من ذلك أو أقل؛ لأن المرض كفارة، فيكفر المرض من ذنوب الإنسان، فإذا مات بعد ذلك لعله يموت مغفوراً له، فإذا غضب الله على عبد فإنه لا يترك له فرصة ليتوب، ويأخذه فجأة، قال الله: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} [يونس:24]، وفي الحديث: (إن الله يملي للفاجر حتى إذا أخذه لم يفلته) أي: يتركه يعلو ويعلو ويعلو وفجأة يأخذه فلا يفلته، يقبضه الله عز وجل ليعذبه على جميع ذنوبه، ولا يجعل له شيئاً من الكفارات، فمن أشراط الساعة أن يكثر شرار الخلق، فيكثر فيهم موت الفجأة. وفي صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البزاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها)، وهذا إذا كانت أرض المسجد تراباً، فإذا كان المسجد مفروشاً بسجاد فلا يحل لأحد أن يبصق عليه، فإذا فعل وجب عليه أن يطهر ذلك المكان من أثر ذلك. وفي حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم قال: (عرضت علي أعمال أمتي حسنها وسيئها، فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق)، فإماطة الأذى من محاسن أعمال هذه الأمة عند الله عز وجل، فقد تكون هناك قشرة موزة قد يتزحلق بها أحد فأماطها وأبعدها عن الطريق، فله أجر، أو وجد أذىً يؤذي الناس فأزاله عن الطريق، أو وجد مجاري تخرج إلى الشارع فأصلحها، فإنه يؤجر على ذلك. فمن الحسنات أن تميط الأذى عن الطريق، وقد صار الناس يأنفون من ذلك، بل وانقلب الحال، فصار الناس بدل أن يميطوا الأذى عن الطريق يضعون الأذى في الطريق، فيضع الزبالة في الطريق مع وجود صناديق القمامة، وبعضهم يرميه أمام الجيران، ولا حول ولا قوة إلا بالله. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق، ووجدت في مساوئ أعمالها النخاعة تكون في المسجد لا تدفن). فمن مساوئ الأعمال تقذير بيت الله سبحانه، فعلى المسلم أن يحرص على نظافة بيت الله سبحانه وتعالى، فقد كانت امرأة تقم وتكنس المسجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فافتقدها النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فسأل عنها، فقالوا: ماتت بالليل فدفناها، فقال: (هلا آذنتموني؟)، يعني: هلا أخبرتموني بموتها، وهذا لفضيلتها، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه إلى قبرها فصلى عليها هنالك بعدما دفنت المرأة؛ لأنها كانت تكنس المسجد وتزيل الأذى من المسجد، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم لها فضيلتها فذهب فصلى عليها عند قبرها، وقال: (إن هذه القبور ممتلئة ظلمة على أصحابها، وإن صلاتي عليهم تنور قبورهم). قوله سبحانه وتعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ} [النور:36 - 37] وخص الرجال بالذكر، والمعنى: هم رجال ليسوا كغيرهم من الرجال، كذلك قال الإمام القرطبي هنا، وتخصيصهم بالذكر دليل على أن النساء لا حظ لهن في ذلك، فالمرأة صلاتها في البيت وليس في المسجد، فإذا جاءت المسجد لحاجة فهذا حسن، كأن تأتي لسماع درس علم أو نحوه ما لم تفتن أو تفتن، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وبيوتهن خير لهن، وليخرجن وهن تفلات). وقد جاء في سنن أبي داود عن عبد الله بن مسعود قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها) يعني: كلما صلت المرأة في المكان البعيد عن أن يراها الناس كان هذا أفضل لها، ومع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) فإنه نبه على أن البيوت خير للمرأة من المساجد إلا أن تحتاج المرأة لشيء في المسجد فيجوز لها أن تذهب إلى المسجد. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة النور [36 - 39]

تفسير سورة النور [36 - 39] ذكر الله تعالى صنفاً من عباده يتميزون عن غيرهم من اللاهثين وراء الدنيا والغافلين عنها بأنهم يسبحون الله تعالى ليل نهار في الغدو والآصال، فلا يلهيهم تصرفهم في قضاء حوائجهم ومعاشهم من تجارة وبيع عن ذكر ربهم، أو عن إقامة صلاتهم، أو أداء حق الله الواجب في أموالهم؛ لأنهم يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار، فالمولى الكريم سيجزيهم أحسن ما عملوا، ويبدلهم بعد خوفهم أمناً. وأما الكافرون فلا ينفعهم ما عملوه في الدنيا، بل يكون حالهم كالعطشان في الصحراء يرى السراب فيظنه ماءً، فإذا جاءه لم يجده شيئاً.

تفسير قوله تعالى: (في بيوت أذن الله أن ترفع والله يرزق من يشاء بغير حساب)

تفسير قوله تعالى: (في بيوت أذن الله أن ترفع والله يرزق من يشاء بغير حساب) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة النور: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:36 - 39]. ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات رجالاً لا تلهيهم التجارة والبيع عن المجيء إلى بيوت الله سبحانه، ولا تشغلهم الدنيا عن رحمة رب العالمين، ولا عن حب الله وطاعته سبحانه. {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [النور:36] أي: في الصباح والمساء، ففي كل وقت يسبحون الله سبحانه ويصلون طائعين، فهم رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة. فالمؤمنون الصالحون الذين يعرفون حق الله سبحانه وتعالى يعبدونه ولا يشركون به شيئاً، فأقبلوا بقلوبهم ووجوههم عليه، وأتوا إلى المساجد حين سمعوا النداء، وحرصوا على صلاة الجماعة، وتعلقت قلوبهم بالمساجد فلا تلهيهم تجارة ولا بيع. ولعل المقصود بالتجارة التي تقدم عليهم من خارج البلد، والبيع: التجارة الحاضرة التي بينهم. فلا يلهيهم الشيء البعيد الذي يتشوق الناس إليه، وينتظرونه، ولا الشيء القريب الذي هو في متناول أيديهم شغلهم عن ذكر الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، فهم في ذكر لله سبحانه وتعالى دائماً، فإن كانوا في تجاراتهم فهم في ذكر لله. وقد اختلف العلماء في قوله سبحانه: {عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاة} [النور:37] فقال بعضهم: (عن ذكر الله) يعني: الأذان، فكأنهم يسمعون الأذان ويرددونه، ويأتون إلى المساجد حين يسمعون النداء. وقيل: حضور الصلاة. وقال ابن عباس: عن الصلاة المكتوبة. وقيل: عن ذكره بأسمائه الحسنى، فيوحدونه ويمجدونه بها. وقيل: نزلت في أهل الأسواق، قال سالم: جاز عبد الله بن عمر رضي الله عنه في السوق وقد أغلق الناس حوانيتهم وقاموا ليصلوا في جماعة، فقال فيهم نزلت: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور:37]. والغرض: أن ذكر الله أعم من أن يكون الصلاة أو غيرها، فذكر الله سبحانه في قلب الإنسان المؤمن، وعلى لسانه في كل حين، فلا ينشغل عن الذكر وهو يبيع؛ لأن ذكر الله عز وجل في قلبه وفي عقله، فهو يخاف من الله ولا ينساه أبداً، فلا يغش في بيعه، ولا يخون، ولا يطفف في الكيل، ولا في الميزان، ولا يخدع، ولا يدلس ولا يغبن، ولا يفعل فعلاً يسخط الله عز وجل عليه، فهو بذلك ذاكر لله لا ينساه: لا في بيعه، ولا في تجارته، ولا في مشيه، ولا في بيته ليل نهار. وهذا الإنسان المؤمن يلهمه الله عز وجل ذكره، فإذا به يستمتع به، فإذا أكل قال: بسم الله، وإذا دخل بيته قال: بسم الله، وإذا مشى وهو في الطريق سمى الله سبحانه، ويذكر الله عز وجل في أبسط ما يكون من ذكر الله، فكيف إذا قرأ كتاب الله سبحانه، وذكر الله بكلام الله سبحانه؟! وكذلك لا ينشغل عن إقام الصلاة، فيحضرها عند إقامتها، ويحرص على تكبيرة الإحرام مع الإمام، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (من صلى لله أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتبت له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق)، ويحرص الصف الأول. فإذا صلى أقام صلاته فأحسنها ولم يسئ فيها، ولم ينقرها نقر الغراب، ولم يصل صلاة الإنسان المتلهف على الدنيا، المسرع إليها المفرط في الصلاة. كذلك لا يلهيه البيع ولا التجارة عن إيتاء الزكاة، وكم من إنسان يكون معه مال، ويخاف إن أخرج الصدقة أن ينقص المال، فيبخل ويشح ويضل، فإذا أتى عليه وقت الزكاة بدأ يفكر هل يخرج الزكاة دفعة واحدة أو على دفعات وأقساط؟! وكأنه يشح ويظن على ربه سبحانه، وكأنه يستكثر أن يعطي الفقير المال جملة واحدة، وقد يخشى إن أعطاها الفقير أن تضيع منه!! فيقال لمن هذا حاله: أنت لم ترسل حافظاً على الفقير، ولا حسيباً عليه، ولكن الله عز وجل أمرك أن تخرج زكاة مالك في وقتها. لكن لو أن إنساناً أخرج جزءاً قبل وقته لحاجة الناس، فلا مانع من ذلك، وأما إذا جاء وقت الزكاة فصار عليك إخراجها فرضاً، فإذا أخرتها صارت ديناً عليك، فإذا قسطته شيئاً فشيئاً كان ديناً عليك تسدده بالتقسيط، ولا تدري لعلك تموت قبل تسديده كاملاً ولا يخرج ما بقي عنك أحد، فيضيع عليك الأجر في الدنيا، وعليك الوزر في الآخرة؛ لأنك منعت زكاة المال. فهؤلاء لا يلهيهم البيع، ولا تلهيهم التجارة عن ذكر الله، ولا عن إقام الصلاة، ولا عن إيتاء الزكاة، فيفعلون كل ذلك مخافة الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:37] أي: يخافون يوماً عظيماً خطيراً، ونكّره الله سبحانه وتعالى معظماً لشأنه، والتقدير: يخافون يوماً وأي يوم يكون هذا اليوم؟ إنه يوم عظيم. {يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:7] أي: الشر فيه منتشر وعظيم، وشر هذا اليوم ما يكون فيه من عذاب وأهوال. وفي هذا اليوم يقوم الناس خمسين ألف سنة ينتظرون أن ينتهي بهم هذا الموقف إما إلى الجنة، وإما إلى نار. ومن شدته يقول بعض الناس: يا رب! اصرفنا ولو إلى النار، ويظنون أن النار أهون عليهم من هذا الموقف، ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال تعالى: {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:37] أي: تتحول قلوب الناس عن أماكنها، وهذه الآية مثل قوله تعالى: {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} [غافر:18] فالكفار يوم القيامة لا يطمئنون أبداً فهم في غاية الفزع، وقد كانوا في الدنيا مطمئنين وهم يعصون، ولك أن تتخيل إنساناً في شدة الفزع يقول: قلبي، وهذا في فزع الدنيا وهو فزع خفيف، وأما فزع يوم القيامة فلا نجاة منه، بل تتحول فيه القلوب عن أماكنها. وكذلك تتقلب وتتحول فيه الأبصار، فإذا ببعضهم قد ازرقّت أبصارهم، قال تعالى: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} [طه:102] أي: عيونهم زرقاء وألوانهم سوداء، وذلك أقبح ما يكون في الإنسان. وكذلك تعمى أبصارهم يوم القيامة والعياذ بالله. وكذلك تتحير الأبصار فتصير عينا الإنسان المفزوع زائغتين، فتتقلب شمالاً ويميناً يبحث عن منجى وملجأ فلا يجد ملجأً، ولا منجىً من الله إلا إليه. وإذا دخلوا النار تقلبت قلوبهم وأبصارهم في نار جهنم. وأما المؤمنون فيعصمهم الله سبحانه وتعالى وينجيهم، نسأل الله العصمة والعافية في الدين والدنيا والآخرة. قال تعالى: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} [النور:38]، فالمؤمن يجزيه الله سبحانه أفضل ما عمل. وأصل الجزاء يوم القيامة أن يكون على الإحسان في الدنيا وعلى الإساءة، لكن لأنهم كانوا مؤمنين، واجتنبوا كبائر الذنوب، غفر الله لهم صغائر ذنوبهم وتجاوز عنها، قال سبحانه: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء:31]. بل يبدل سيئاتهم حسنات من فضله وكرمه سبحانه وتعالى. قال تعالى: {وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:38]، وهذا كقوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، فالزيادة النظر إلى وجه الله تبارك وتعالى. قال تعالى: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور:38] فلا أحد يطلب من الله عز وجل شيئاً وهو مخلص لرب العالمين سبحانه، راجٍ له إلا أعطاه الله سبحانه. فالله هو الغني بذاته، فيرزق من يشاء في الدنيا وفي الآخرة ولا أحد يجبر الله عز وجل أن يعطيه شيئاً، وإذا أراد أن يضيق على أحد فلا أحد يغالبه سبحانه. فهو يعطي من يشاء على الحسنة عشر أمثالها، وعلى الحسنة مائة مثل أو سبعمائة مثل، أو بغير حساب، أي: من غير عد. وقوله تعالى: (بغير حساب) لها معنيان: الأول: بغير خوف أن ينفد ما عنده؛ فإن خزائنه ملآى لا تغيظ أبداً. والثاني: أن يرزق عبده بغير أن يحاسبه، والله يفعل ما يشاء، وقد يدخل أناساً من المؤمنين جنته من غير أن يحاسبهم على شيء، بل يغفر لهم ويدخلهم جنته بفضله ورحمته.

تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة)

تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة) أما الكفار فذكر أمرهم وحالهم ومآلهم، فقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:39]. فالكفار عملوا أعمالاً في الدنيا ظنوا أنها نافعتهم، فلما أتوا يوم القيامة صارت هباءً منثوراً، قال الله سبحانه: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]. وقد يفعل الكافر في الدنيا الأعمال الصالحة، فقد يحسن إلى جاره، وقد يفعل الخير، وقد يتصدق بصدقة، ولكن ذلك لا يقبل منه، إنما يوفيه الله به في الدنيا، ولا يدخر له شيئاً يوم القيامة. فإذا جاء الكافر يوم القيامة جعل الله عمله هباءً منثوراً، والهباء هو ما يراه الإنسان في شعاع الشمس وهي داخلة من الكوة، وكذلك عمل الكافر يكون هباءً منثوراً لا قيمة له في يوم القيامة. وذلك أن العمل لكي يكون مقبولا لا بد فيه من شرطين: الأول: الإخلاص، وهو أن يعمله لله وحده لا شريك له. والثاني: المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم. فهذان شرطان لقبول العمل؛ فإذا أتى الإنسان بالعمل الخالص لله المتابع للنبي صلى الله عليه وسلم فيه قبله الله. وأما الكافر: فقد امتنع أن يتابع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عمل عملاً أشرك بالله فيه وعبد غيره، فالله أغنى الشركاء عن الشرك، فجعل أعمالهم التي عملوها وظنوا أنهم ينتفعون بها يوم القيامة كالسراب. والسراب هو: الشيء الذي تراه في وقت الظهيرة في الصحراء المنبسطة أمامك كأنه ماء، فمن شدة الحر يسخن الهواء ثم تنعكس الأشعة، فتظن أن الأشعة المنعكسة فوق الأرض ماءً وليست ماءً. والإنسان العطشان في الصحراء يجري وراء هذا السراب يظنه ماءً؛ فإذا وصل إلى مكانه لم يجده شيئاً، فكذلك الإنسان الكافر. فقد كان في الدنيا يعمل أعمالاً يظن أنه يتقرب بها، وأنها صالحة، وأنها تنفعه، وقد رفض أن يتابع النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يؤمن به، وأن يدخل في هذا الدين العظيم الذي ارتضاه الله عز وجل لعباده ولم يرض لهم غيره. فلما رفض إذا بالله سبحانه لا يقبل منه عملاً، فقدموا يوم القيامة وأعمالهم كسراب بقيعة. والقيعة والقاع: المنبسط من الأرض الصحراء، قال تعالى: {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً} [النور:39] أي: أن هذا الإنسان الظمآن الذي يكون في الصحراء يشتهي شُرْب الماء، فإذا رأى السراب جرى إليه ولهث حتى يصل فلا يجد شيئاً؛ وكذلك هذا الكافر يوم القيامة يظن أنه ينتفع بعمله فلا يقبل منه شي.

القراءات في قوله تعالى (يحسبه الظمآن)

القراءات في قوله تعالى (يحسبه الظمآن) وفي قوله تعالى: {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً} [النور:39] قراءتان: قراءة ابن عامر، وعاصم، وحمزة، وخلف: (يحسَبه) بفتح السين. وقراءة باقي القراء: (يحسِبه الظمآن) بكسر السين. قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور:39] أي: إذا وصل إليه لم يجده شيئاً. وانتقل إلى يوم القيامة فقال: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} [النور:39]، فكأن الظمآن حين يصل إلى الذي ظنه ماءً ولم يجد شيئاً سيموت من شدة العطش، والكافر يوم القيامة يقدم ويظن أن ينتفع بعمله، فإذا جاءه ضاع منه هذا العمل، ووجد الله عنده؛ ليوفيه حسابه، والله له بالمرصاد، فيأخذه ويحاسبه الجزاء الوافي، والله سريع الحساب. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة النور [39 - 40]

تفسير سورة النور [39 - 40] يضرب الله تعالى مثلاً رائعاً لمآل أعمال الكافرين في الآخرة برجل مسافر انقطع عنه الماء، واشتدت عليه حرارة الجو، ولا أنيس له ولا سمير في الصحراء القاحلة، فيلوح له من بُعد سراب لامع، فيحسبه ماء، فيهرع إليه وإذا به ينصدم، فبعد أن يجهد نفسه ويزداد عطشه لشدة جريه يجد أن ذلك سراباً فلا ينتفع به، وكذلك أعمال الكافرين، فهم يظنون أنها تنفعهم، فيجعلها الله سبحانه يوم القيامة هباءً منثوراً.

تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة)

تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:39]. لما ذكر الله سبحانه وتعالى قبل هذه الآيات أمْر المساجد وأن هذه المساجد يوجد فيها المؤمنون الذين يعبدون الله سبحانه وتعالى، ويخلصون له، والذين ينير الله عز وجل قلوبهم بحفظ كتابه سبحانه، وبكثرة تسبيحهم وصلاتهم في بيوت الله، ثم ذكر المؤمنين وذكر شيئاً من أعمالهم وذكر جزاءهم. ثم انتقل لذكر الكافرين كيف تكون أعمالهم وكيف يكون جزاؤهم عند الله تبارك وتعالى، فقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً} [النور:39]، فالكافر مهما عمل من خير فإنما يجزى عليه في الدنيا فقط. وأما عند الله يوم القيامة فلا أجر له ولا ثواب؛ لأن الأجر والثواب عند الله مرتبط بإيمان العبد، وشرط الثواب على العمل أن تعمله خالصاً لله سبحانه وتعالى، فليس فيه ريا ولا شرك. فهؤلاء الكفار عملوا أعمالاً هي شرك بالله تبارك وتعالى، وتقربوا إلى غير الله، أو عملوا أعمالاً ابتغوا بها الخير لغيرهم، ولكن أصل الإيمان ليس في قلوبهم، فقد كفروا وجحدوا ربهم، وكذبوا رسل رب العالمين، ثم عملوا أعمالاً فلن تقبل منهم؛ لأن شرط القبول: الإيمان والتصديق والدخول في هذا الدين العظيم، فإذا رفضوا كلام رب العالمين، وكذبوا النبي صلوات الله وسلامه عليه، ثم بعد ذلك تصدقوا أو عملوا أعمالاً صالحة في الظاهر فهذه لا قيمة لها عند الله سبحانه وتعالى، فإذا جاءوا يوم القيامة اغتروا بأعمالهم، وظنوا أن لهم أعمالاً مقبولة عند الله سبحانه، فلما قدموا وجدوا هذه الأعمال هباء منثوراً، قال سبحانه: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] أي: كالذرات المتناثرة التي تراها في الكوة إثر دخول الشمس منها، فكذلك أعمالهم لا يؤجرون عليها. وهنا ضرب الله ومثلاً آخر يتبين منه عدم قبول أعمال هؤلاء وكيف يكون شأنها، وكيف يتحسرون عليها يوم القيامة، فيقولون: يا ليتنا عملنا هذه الأعمال مع تصديقنا بالله تبارك وتعالى، قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور:39]، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} [النور:39] مبتدأ، و {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ} [النور:39]، مبتدأ ثانٍ وخبر، والجملة خبر للمبتدأ الأول، أو {أَعْمَالُهُمْ} [النور:39]، بدل من {الَّذِينَ كَفَرُوا} [النور:39]. قال تعالى: {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ} [النور:39]، وهو هذا الشيء اللامع البعيد الذي تراه في وقت الظهيرة وأنت تمشي في صحراء واسعة منبسطة في شدة الحر، فتنزل الحرارة وتبخر الأبخرة الموجودة في طبقات الهواء مع تمدد أشياء منها، فتنكسر عليها أشعة الشمس فتراها كأنها ماء أمامك، فمثل عمل الكافر كإنسان يمشي في صحراء في غاية العطش، فوجد أمامه قاعاً منبسطاً فظن أن فيه ماء وهو سراب في وقت شدة الظهيرة، فجرى تجاه هذا الماء يريد أن يشرب منه، فلما وصل بعد تعب لم يجد ماء ولا شيئاً، ولكن وجد سراباً لامعاً كالماء وليس ماء حقيقة. قال تعالى: {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً} [النور:39]، فغير الظمآن في هذا المكان ليس محتاجاً للماء ولكن الظمآن في غاية العطش هو الذي يكون في غاية الاشتياق أن يصل إلى هذا الماء ليشرب منه، وكذلك الكافر يوم القيامة ينتظر عملاً ينجيه وينقذه مما هو فيه، فإذا به يتذكر الأعمال الصالحة التي عملها، فلما ظن أنه ينتفع بها إذا بالله عز وجل لا يقبل منها شيئاً. قال هنا: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} [النور:39]، لما جاء يوم القيامة ولم يقبل منه هذا العمل وجد الله هناك عز وجل ليسأله ويجازيه على كفره وجحوده وتكذيبه، فكما لم يجد صاحب السراب العطشان ماء، كذلك هؤلاء يوم القيامة لم يجدوا ثواباً على أعمالهم بل قد أحبطها كفرهم فلم يجدوا شيئاً. قال تعالى: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} [النور:39] أي: وجد الله له بالمرصاد، أو وجد جزاء الله سبحانه وتعالى له على كفره عند حشره، قال: {فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} [النور:39] أي: أعطاه العقوبة الوافية جزاءً بما قدم من كفر قال: {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:39]، فيحاسب الخلق جميعهم لا يشغله شيء عن شيء يوم القيامة، فيوفي للمؤمنين جزاءهم بالحسنى، ويوفي الكافرين جزاءهم وعقوبتهم على ما فرطوا وما قدموا من أعمال سيئة.

تفسير قوله تعالى: (أو كظلمات في بحر لجي)

تفسير قوله تعالى: (أو كظلمات في بحر لجي) وهذا مثال آخر قال سبحانه: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} [النور:40]، إذاً: فالكفار أعمالهم مثلها الله عز وجل لنا بهذين المثلين: بمثل السراب، أي: أنها لا شيء، وبمثل الظلمات، فقال: {كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} [النور:40]، فأعمالهم مع كفرهم لا نجاح فيها ولا قبول لها، بل هم في ظلمات الكفر والشك والحيرة، وفي ظلمات المعاصي في الدنيا وكذلك يوم القيامة، فيمثِّل لهم هذه الأعمال وهم في حيرة وشك وفي كفر. وانظر إلى هذه الصورة قال تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ} [النور:40]، فهذه الظلمات في بحر شديد غوره وعميق جداً، وليس في أي بحر، ولكن قال: {فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} [النور:40] أي: في بحر عميق بعيد غوره بعيد قاعه يغشى هذا البحر {مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ} [النور:40]. وهنا في هذه الآية يذكر الله عز وجل موجاً فوقه موج آخر، وقد كانوا في الماضي يقولون: موج من فوقه موج، أي: من ورائه موج. إذاً: موج عالٍ وراءه موج عالٍ مثلما ترى البحر عندما يكون مرتفعاً عالياً، فتأتي موجة تلو الأخرى، فكانوا يقولون ذلك، ولكن مع تقدم علوم البحار ونزول الناس بآلاتهم إلى أعماق البحار وجدوا تطبيقاً حقيقياً لهذه الآية، وأنه {مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ} [النور:40]، وليس موج، من وراءه موج فقالوا: هذا لا يكون إلا في البحر العميق. قالوا: وهذه من معجزات كتاب رب العالمين سبحانه التي تبين أنه جاء من عند رب العالمين، وليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم الذي لم ينزل بحراً قط، ولو كان عند بحر فإنه يكون بحراً سطحياً، وأما البحر العميق فلا، لا هو ولا أحد من أصحابه أبداً نزلوا بحراً عميقاً، ومن يقدر على ذلك؟! قالوا: أقل أعماق الموج الداخلي في البحر مائتا متر من سطح البحر، قالوا: ويكون موجاً داخلياً في البحار العميقة جداً كالمحيطات، فتكون أمواج مختلفة جداً في العمق الذي لا يقدر الإنسان أن يصل إليها في الغطس في البحر، وأكبر مسافة ينزل إليها الإنسان ولا يؤذى بنزوله إليها حوالي ثلاثين متراً أو سبعة وثلاثين متراً، فهذه أقصى مسافة يقدر الإنسان أن يصل إليها من غير آلات ولا شيء. وإذا نزل أكثر من ذلك فإنه يزيد عليه ضغط الماء فتتحول الغازات الموجودة في دماغ الإنسان كغاز النيتروجين مع شدة الضغط إلى سائل، فإذا خرج وخف الضغط رجع إلى غاز، فيفور دماغه ويموت. لذلك فهؤلاء الذين ينزلون أقصى من ذلك لا بد أن تكون معهم آلات حتى لا يحدث لهم ذلك، وإذا أرادوا الصعود لا يصعد مرة واحدة، ولكن يصعد مسافة قليلة وينتظر فترة طويلة، ومن ثم يطلع مسافة ثانية وينتظر فترة طويلة، ويحتاج أن تكون معه أنبوبة أكسجين من أجل أن يتنفس، والغواص يعلمونه ذلك حتى لا يصاب بأذى. فهنا الآية تخبر عن هذا الموج الذي تحت أعماق مائتي متر عن سطح الماء أنه موج وفيه ظلمة، وهذا فعلاً هو الحاصل، فالمكان الذي فيه الموج الداخلي في أعماق المحيطات لا تجد شيئاً من النور، ولذلك الكائنات الحية التي في هذا المكان لها خصائص أخرى غير الكائنات التي فوق السطح القريبة من الناس، فتجد أن بعض الأسماك ليس لها عيون أصلاً؛ لأنها ليست محتاجة للرؤية بداخل هذه الأعماق المظلمة. فالله عز وجل يخبر عن هذه الأعماق أنها ظلمات، فإذا نزلت تسبح في البحر مترين مثلاً تجد أشعة الشمس غير منكسرة، فترى ما حولك، ثم تنزل تحت جداً فتجد الظلمة بالداخل التي أخبر الله سبحانه وتعالى عنها بقوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ} [النور:40]، وليس هذا في أي بحر، وإنما هو البحر العميق {فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ} [النور:40]، وهو موج داخلي قال: {مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ} [النور:40]، وهو موج سطحي، فيقولون: هذا الموج السطحي مع حركة الماء يكسر أشعة الشمس، ولذلك عندما تصنع شيئاً داخل الماء ومن ثم تحرك الماء فوقه فإنك لا ترى هذا الشيء الداخلي؛ لانكسار الأشعة، فهذا الموج الداخلي في ظلمة. ثم قال: {مِنْ فَوْقِهِ سحاب} [النور:40] إذاً: فوق ذلك سحاب أيضاً فاليوم شاتي والسماء مظلمة وفي سطح البحر موج عالٍ، وداخله موج آخر، قال تعالى: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور:40]، فالذي في مثل هذا المكان العميق في الماء وفي مثل هذه الظلمة ظلمة السحاب، وظلمة السماء، وظلمة الليل، وظلمة قاع البحر، إذا أخرج يده لا يكاد يراها. قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40]، إذاً: هذه الظلمات نطبقها على حال الإنسان الكافر فهو في ظلمة كفره، وفي ظلمة حيرته وتخبطه، وفي ظلمة شكه في قلبه، فلا يطمئن الكافر أبداً، فمهما ظهر أمام الناس أنه مطمئن، وأنه ساكن، ولكن قلبه ممتلئ حيرةً بخلاف الإنسان المؤمن. والإنسان المؤمن وإن تكالبت عليه مصائب الدنيا، فهو مطمئن بالله سبحانه وتعالى، ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، فتطمئن القلوب بذكر الله والركون إليه؛ قال سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]، فالمؤمن يعرف ربه، ويعرف مصيره وأنه راجع إلى الله؛ لذلك إذا أصابتهم مصيبة قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون، فهذه كلمة عظيمة يستحق عليها الإنسان المؤمن الثواب العظيم، فإذا قال: إنا لله في وقت المصيبة ووقت البلاء يعني: ماذا حصل: أخذت مني الدنيا أو أخذ مني شيء منها، فأنا كلي لله سبحانه وتعالى، وأمري راجع إلى الله، فهو مطمئن بالله سبحانه.

القراءات في قوله تعالى: (من فوقه سحاب ظلمات)

القراءات في قوله تعالى: (من فوقه سحاب ظلمات) وأما الكفار فهم في ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ. وفي قوله: {مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} [النور:40] ثلاث قراءات: هذه قراءة الجمهور. وقرأها البزي عن ابن كثير (من فوقه سحاب وظلمات). وقرأها قنبل عنه (ومن فوقه سحاب ظلماتٍ بعضها فوق بعض) على الإضافة، وكأن المعنى: سحاب فيه ظلمات عظيمة، وهو سحاب الليل أو سحاب الشتاء الذي فيه الظلمة، فهو يستر ضوء الشمس عن الإنسان، أو سحاب من فوقه سحاب. ثم رجع على البدل من أولها {أَوْ كَظُلُمَاتٍ} [النور:40]، فقال: {سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} [النور:40]، على البدل من الأول. قال تعالى: {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور:40]، إذا أخرج يده في هذه الظلمات لم يكد يرى يده ولو قربها من عينه، وقد لا يرى هذه اليد، فمعناه أنه في ظلمات شديدة. قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40]، فالنور نور الله سبحانه قال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:35]، وقال: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35]، فالمؤمنون أنار الله قلوبهم وأبصارهم وبصائرهم. فالمؤمن يرى الآيات فيعتبر ويتعظ، والكافر مهما رأى من شيء فلا عبرة ولا اتعاظ، وهو بعيد عن الله سبحانه وتعالى وقد سحب منه النور، فلا نور له. فمن أراد الله به خيراً أضاء الله قلبه ونورّه فاهتدى، ومن لم يرد الله به خيراً ابتعد عن دين الله سبحانه وتعالى، قال: {مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40]، يهتدي به في ظلماته، ويموت هذا الإنسان على كفره إلا أن يشاء الله به خيراً. لذلك الإنسان المؤمن الذي يواظب على المجيء إلى بيت الله عز وجل له البشارة العظيمة من كتاب رب العالمين في قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} [النور:38]، إذاً: فالبشارة في كتاب رب العالمين بالجزاء على أحسن ما عملوا، ويكفر عنهم سيئاتهم سبحانه وتعالى. والبشارة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (بشر المشائين في الظلم بالنور التام يوم القيامة). ففي ظلمات الليل يذهب المؤمن لصلاة المغرب، ولصلاة العشاء في بيت الله رب العالمين. وفي ظلمة الفجر يذهب المؤمن إلى بيت الله، فيقال له: كما ذهبت في الظلمة وأنار الله قلبك بالإيمان؛ فيوم القيامة ينير لك ويضيء لك موقفك ومكانك، ويضيء لك الصراط، فتمر عليه بفضل الله سبحانه وتعالى وبنور الله. نسأل الله عز وجل أن ينير لنا طريقنا إليه في الدنيا، وفي قبورنا، ويوم القيامة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة النور [41 - 45]

تفسير سورة النور [41 - 45] يخبر تعالى أنه يسبح له من في السماوات والأرض من الملائكة والإنس والجن والحيوان وحتى الجماد، فكل قد أرشده إلى طريقته ومسلكه في عبادة الله تعالى. ثم أخبر تعالى أن له ملك السماوات والأرض، فهو الحاكم المتصرف الإله المعبود وحده لا شريك له. ثم ذكر سبحانه أنه يسوق السحاب بقدرته، وقد يكون المطر النازل من السحاب نعمة وقد يكون نقمة، ويقلب الله الليل والنهار ويتصرف فيهما كيف يشاء، فهذا دليل على عظمته وقوته وعزته تعالى.

تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض)

تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض) الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة النور: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ * يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ} [النور:41 - 44]. يخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن تسبيح الكائنات التي خلقها، فكل مخلوق خلقه الله سبحانه يسبح بحمده، قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]، ومعنى يسبح بحمده أي ينزهه ويحمده. فقوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:41] أي: أن السموات والأرض ومن فيهما من جميع المخلوقات تسبح ربها، وأخبر هنا (بمن)، التي يخبر بها عن العاقل، فمن يسبح الله وينزهه ويحمده فهو عاقل وإن كان جماداً أو نباتاً أو حيواناً، فطالما أنه عرف ربه، وحمد ربه وسبحه فهو عاقل، فاستحق أن يخاطب بذلك. فكل من في السموات والأرض يسبحون ويطيعون الله سبحانه وتعالى، ويخضعون له ويخشونه، قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [الحج:18]. أي: ما من شيء إلا يسبح بحمد الله سبحانه، ويسجد لله طائعاً أو مكرهاً، فالمؤمن يسجد لله طائعاً له وينفذ أمره، لكونه عرف الله سبحانه وعبده وابتغى رضاه سبحانه وتعالى، والكافر يسجد لله مكرهاً، ويطيعه، وينفذ فيه أمر الله الكوني القدري. فكل شيء يسجد لرب العالمين سبحانه طائعاً أو مكرهاً، وقوله تعالى: {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ} [النور:41] أي: ما بين السموات والأرض، وهو هذا الجو وما فيه من مخلوقات من طيور تطير وغيرها، فهذه الطيور تسبح بحمد ربها سبحانه، فتصطف في السماء باسطة أجنحتها مسبحة ربها سبحانه تبارك وتعالى، حامدة له على ما أعطاها وما قدره لها. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير: تغدوا خماصاً، وتروح بطانا). ففهمت الطيور أن الله ربها وخالقها ورازقها، وأنه لا يتركها، فإذا بها تسبح حامدة ربها، في حال كونها صافات وباسطات أجنحتها في السماء. {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور:41] أي: أن الله عز وجل قد علم صلاة كل مخلوق وتسبيحه، والإنسان لا يفهم لغة الطيور والحشرات والحيوان، وقد جعل الله عز وجل لها ما تتخاطب به وتسبحه به. فالمؤمن يتفكر في خلق الله الخلاق العليم العظيم سبحانه، الذي هو أكبر من كل شيء، ويعلم كل شيء، فهو يعلم لغات الطيور وغيرها في اللغات. فالعربي يتكلم بلغة يعرفها الله، وكذلك الأعجمي والطير والبهائم، فكل هذه المخلوقات قد علم الله عز وجل صلاتها ودعاءها وتسبيحها. وعلماء الحيوان يبحثون في ذلك، ويقولون: هناك لغة للحيوان يتخاطب بها، وكذلك للحشرات وللنمل وللنحل فكل منها يخبر بعضها بعضاً عن أشياء، وهي تصلي لرب العالمين بهيئة يعلمها الله، وتسأل الله فيعطيها، وتتوكل على الله فيرزقها. ومعنى تسبيح الله: تقديسه وسؤاله ودعاؤه وتنزيهه عن كل معصية. وقوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [النور:41] أي: والله عليم بما يفعل الخلق جميعهم: من إنسان أو حيوان أو جان أو ملك أو جماد، فمن يفعل شيئاً يعمله الله سبحانه وتعالى، ولا يتحرك شيء إلا بمقدار، ولا ينزل شيء إلا بقضاء الواحد القهار، سبحانه وتعالى. فالله قد أحاط بكل شيء علماً، فكل شيء دق أو جل، صغر أو كبر قد أحاط الله به علماً، فلا يخفى عليه شيء سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (ولله ملك السموات والأرض وإلى الله المصير)

تفسير قوله تعالى: (ولله ملك السموات والأرض وإلى الله المصير) قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:42]، لله يملك السموات وما فيها، والأرضين وما فيها، فكل شيء خلقه الله فهو ملك له. ومهما زعم إنسان أنه يملك في الدنيا، أو أنه صار ملكاً فملكه هذا عرض، ولكن صاحب الملك الحقيقي هو الله سبحانه تبارك وتعالى، وملك الإنسان يزول ويرجع كله بعد ذلك إلى خالقه سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [النور:42] أي: كل شيء راجع إلى الله، فملك الإنسان في الدنيا راجع إلى الله عز وجل، وهو تارك ما أخذه ليرجع إلى صاحبه وخالقه سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله يزجي سحابا)

تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله يزجي سحاباً) يخبرنا الله عن قدرته العظيمة سبحانه تبارك وتعالى، كما أخبرنا عن تسبيح الكائنات له عز وجل، فالله يرزقنا من السماء، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا} [النور:43]، ومعنى يزجي سحاباً أي: يدفعها برفق، فيحركها ويسوقها ملك من ملائكة رب العالمين موكل بالسحاب، فالسحاب يتراكم بعضه مع بعض، وهذا معنى قوله تعالى: {ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} [النور:43]، ثم ينشأ بداخله من الهواء ما يجعله كالشفاط فيسحب السحب بعضها من بعض، ثم يجعله ركاماً، أي: يتراكم بعضه فوق بعض. إذاً في البداية يسوق الله سبحانه وتعالى السحب من مكان إلى مكان، ثم تجتمع، ثم يعلو بعضها فوق بعض حتى تصير كالجبل في النهاية، وهذا الشيء لا يراه أبداً إنسان من الأرض، وإنما يعلمه من صعد فوق السحاب بطائرة، فيرى السحابة فعلاً مثل الجبل بالضبط، والنبي صلى الله عليه وسلم لم ير ذلك، وإنما أخبره الله خالق كل شيء سبحانه وتعالى. فإذا صارت السحب كالجبل بعضها فوق بعض إذا بأمر الله يأتي فينزل المطر من خلاها، قال تعالى: {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ} [النور:43]، والودق هو قطرات المطر، وقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ} [النور:43] ومعنى من خلاله أي: من بينه.

القرءات في قوله تعالى: (وينزل)

القرءات في قوله تعالى: (وينزل) ((وَيُنَزِّلُ)) [النور:43]، هذه قراءة الجمهور، وقراءة ابن كثير وأبي عمرو: (ويُنِزلُ). وقوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ} [النور:43] أي: السحاب الركامي الذي يتكون بعضه فوق بعض حتى صار كهيئة الجبل، فينزل منه فيصيب به من يشاء، ويصرفه عمن يشاء، فيسوق الله المطر إلى من يشاء من خلقه فيكون رزقاً له، وينزل على من يشاء من خلقه البرد فيهلكهم فيكون وبالاً عليهم، والله يفعل كل خير بعباده ويفعل ما يشاء سبحانه وتعالى. قال تعالى: {فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ} [النور:43]، قال علماء الفلك: يكون ارتفاع السحاب الركامي من خمسة عشر إلى عشرين كيلو متر ممتداً إلى أعلى، ويمر بثلاثة مراحل: مرحلة الالتحام ثم مرحلة تراكم السحب بعضها فوق بعض، فتكون كالجبل، ثم مرحلة الهطول، ومن ثم تفنى هذه السحابة وتنتهي. وهذا السحاب الذي خلقه الله عز وجل يتكون بداخله شحنات كهربائية -الله أعلم بها- فينشأ منها هذا البرق، قال سبحانه: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ} [النور:43] والمعنى: ليس كل بصر يذهب من ضوء هذا البرق، وإنما يكاد يذهب.

القراءات في قوله تعالى: (يذهب)

القراءات في قوله تعالى: (يذهب) وفي قوله تعالى: {يَذْهَبُ} [النور:43] قراءتان: الأولى قراءة الجمهور ببناء الفعل للمعلوم، والثانية: (يُذْهِبُ) وهي قراءة أبي جعفر يزيد بن قعقاع، وهي ببناء الفعل للمجهول أو لما يسم فاعله. قال علماء الفلك: إن هذا السحاب فيه شحنات كهربائية مفرقة فيه قد تصل إلى أربعين شحنة في الدقيقة الواحدة، فإذا حصلت هذه الكمية من الشحنات بعضها وراء بعض تكون البرق، فالذي ينظر إليه تخطف بصره، ولذلك فإن الراصد لهذه البروق يذهب بصره، وهو ما يحدث للملاحين والطيارين الذين يخترقون عواصف الرعد والبرق، كما في المناطق الحارة، فينجم عن فقد أبصارهم أضرار عظيمة في غرق المراكب أو السفن وفي سقوط الطائرات بسبب النظر إلى هذا البرق. فهل كان هناك طائرات في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ليرون ذلك؟ أم هل راقبه أحد الصحابة حتى ذهب بصره من هذا البرق؟

تفسير قوله تعالى: (يقلب الله الليل والنهار)

تفسير قوله تعالى: (يقلب الله الليل والنهار) قال الله تعالى: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ} [النور:44]. والمعنى أن الله تعالى يقلب الليل الطويل في الشتاء إلى ليل قصير في الصيف، والعكس من ذلك في النهار، فالليل تكون فيه البرودة، والنهار تكون فيه الحرارة، والليل يكون فيه القمر، فيكون هلالاً ثم محاقاً وسراراً الخ والنهار تأتي فيه الشمس، وقد تأتي السحب فتحجب ضوء الشمس، ويقلب ما يشاء سبحانه وتعالى، فيقلب أرزاق العباد بالليل والنهار، فيعطي من يشاء ويمنع من يشاء، فهو يقلب الليل والنهار كما يشاء سبحانه. وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ} [النور:44] أي: ما يفعله الله عز وجل من تقليب الليل والنهار فيه عبرة لأصحاب الأبصار الذين ينظرون ويعقلون ويفهمون ويعلمون أن الذي يفعل ذلك هو الله سبحانه وتعالى، فهو الذي خلق الإنسان ورزقه وقدر له المقادير، وهو الذي يعطي من يشاء ويمنع من يشاء. فهم ينظرون في الكون ويعلمون أن مدبر هذا الكون واحد لا شريك له، فلو كان في هذا الكون إله غير الله سبحانه لفسد الكون كله، ولكن هذا الكون أصلحه الله عز وجل وجعله على هذا النظام البديع الذي يظل عليه إلى أن يأتي قضاء الله وقدره سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (والله خلق كل دابة من ماء)

تفسير قوله تعالى: (والله خلق كل دابة من ماء)

القراءات في قوله تعالى: (والله خلق)

القراءات في قوله تعالى: (والله خلق) قال الله سبحانه وتعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور:45]، فهذا آية من آياته سبحانه. وقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور:45] هذه قراءة الجمهور، وقراءة حمزة والكسائي وخلف: ((والله خالق كل دابة من ماء)). فلم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم تحليل طبي لجسد الإنسان ليعرف مم خلق!

كلام علماء الطب عن الماء في جسم الإنسان

كلام علماء الطب عن الماء في جسم الإنسان قال علماء الطب: إن جسد الإنسان يتكون من سبعين في المائة (70%) منه ماء، وباقي هذا الجسد يتركب من باقي المواد التي خلق منها، وكذلك كل ما يدب على الأرض مخلوق من ماء سواء كان إنساناً أو حيواناً أو ما يكون في الأرض من حشرات، وما يكون في الجو من طير، فالتحليل لأجساد هذه الأشياء يثبت أن التركيب الأغلب فيها هو من الماء.

معنى الماء في الآية الكريمة

معنى الماء في الآية الكريمة والماء يأتي لمعنيين: فيأتي بمعنى النطفة، فكل ما يدب على الأرض يتكاثر بذلك. ويأتي بمعنى الماء المعروف الذي يتركب منه الجسد، وكان الناس في الماضي يفهمون أن المراد بالماء هو النطفة، وأما أن جسد الحيوان أكثره ماء فهذا لم يعرف إلا بالعلم الحديث، والقرآن قد سبق العلم الحديث في أن الماء ضروري للإنسان، فيمنُّ الله عز وجل على الإنسان بأنه قد رزقه هذا الماء. والإنسان ممكن أن يعيش من غير أكل مدة أقصاها ستون يوماً، وأما الماء فلا يستطيع أن يصبر على فقده أكثر من ثلاثة أيام إلى عشرة أيام، ويموت الإنسان إذا فقد الماء أكثر من ذلك. فالماء ضروري للإنسان وجسده مركب منه، والماء أساس تكوين الدم في الإنسان، وكذلك السائل اللمفاوي، والسائل النخاعي، وإفرازات جسم الإنسان: كالبول والعرق والدموع واللعاب والمخاط، والسوائل الموجودة في الغضاريف والمفاصل، وسبب رخاوة جسم الإنسان هو الماء الذي فيه، ولو أن الإنسان فقد عشرين بالمائة من الماء الذي فيه فإنه يوشك أن يموت. فالله يمن على العباد أنه خلقهم من ماء، وسقاهم منه، قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48]، ليطهرهم به، وليثبت به أقدامهم. فالماء نعمة عظيمة، فإنه يذيب المواد الغذائية والفضلات الموجودة في جسد الإنسان حتى تخرج منه كالبول والعرق، فيجب على الإنسان أن يحمد الله على هذه النعمة العظيمة بعد الشرب وكذلك بعد أكل الطعام، فصاحب النعم العظيمة لا يعرفها إلا إذا فقدها، فاحمد ربك في وقت الرخاء يعطك في وقت البلاء، ولا تكن كالذي لا يذكر ربه إلا إذا فقد النعمة.

تفسير سورة النور [42 - 46]

تفسير سورة النور [42 - 46] يدلل الله عز وجل على عظيم قدرته في هذا الخلق والكون بأنه ينشئ السحاب الثقال المحملة بالماء الكثير والبرد فيرزقه من يشاء، ويصرفه عمن يشاء، ويقلب الليل والنهار ليستفيد منهما الإنسان للعمل والراحة والسكنى، وخلق المخلوقات على أشكال وصور مختلفة، كل هذا ليدلل على قدرته العظيمة، وحكمته البالغة، وآياته الواضحة الباهرة.

تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه)

تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله يزجي سحاباً ثم يؤلف بينه) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة النور: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ * وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النور:44 - 46]. أخبرنا الله تعالى في هذه الآيات وما قبلها عن بديع صنعته في خلقه سبحانه وتعالى، وعن قدرته العظيمة، وأنه يسبح له من في السموات والأرض، والطير كذلك تسبح ربها صافات، فكل قد علمه الله عز وجل صلاته وتسبيحه. فالله عليم يعلم كل شيء، والله خالق كل شيء، والله سبحانه وتعالى أعلم بمن خلق، قال تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، فخلق كل شيء وجعل له ما يفهم به ويخاطب به، والله يفهم جميع لغات هذه الأشياء من إنسان وحيوان وبهائم وحشرات وطيور وجماد ونبات، {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]، والله سبحانه وتعالى عليم بما يفعلون، وعلمه محيط بكل شيء، ولا يحيط الخلق بشيء من علمه، فالله أحاط بكل شيء علماً، فانظر إلى الإنسان كيف أحاط الله به علماً، يكتب ما يعمل هذا الإنسان منذ خلق، ويؤمر الملك أن يكتب أجل هذا الإنسان وعمله، وشقي أو سعيد، فكم سيبقى هذا الإنسان في بطن أمه؟! ومتى سينزل من بطن أمه؟! وهل سيموت فيها أم يخرج منها حياً؟! فيأمر الله عز وجل الملك أن يكتب جميع ما يكون عليه، فيؤمر بكتب رزقه وأجله وشقي أو سعيد. فنزل إلى هذه الدنيا وقد علم الله عز وجل قبل خلقه كيف سيكون هذا الإنسان فيها، هل يعيش أم يموت، وهل يموت صغيراً أم شاباً أم كهلاً أم شيخاً، وما الذي سيتعلمه، وما الذي سيعمله، وما الذي سينويه، وهل سيكون على الإسلام أم على غيره، فعلم الله كل شيء، والإنسان قد يبتلى ويصاب بأشياء من مصائب الدنيا، يصاب بأشياء تسعده وأشياء تشقيه، والله قد علم ذلك كله، فهذا في الفرد الواحد، ويعلم فوق ذلك بكثير، فيعلم نفس الإنسان حين يخرج ونفسه حين يدخل، ومتى يكون آخر نفس لهذا الإنسان، فهؤلاء الناس جميعهم الله يعلم من كل واحد منهم هذا الشيء، يعلم من يموت ومن يعيش، ويعلم في النبات {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59]، فهذا شيء عظيم جداً جداً، فعندما تنظر في علم الله سبحانه في ورقة من ورق الشجر فهو يعلم متى ستنبت هذه الورقة، ومتى تكتمل، ومتى تسقط على الأرض، وكذلك الحبة الصغيرة يعلم الله متى تنمو، ومتى تكون في الشجرة، ومتى تكون ثمرة، ومتى تجف، ومتى تسقط في الأرض، ومتى تبتلعها، ومتى تنمو من جديد، وهذا شيء عظيم جداً من علم الله سبحانه، فيتحير الذي ينظر ويفكر في هذا، فعلم الخالق سبحانه وتعالى علم محيط بكل شيء. والإنسان لا يحيط بشيء من علم الله، والإنسان هنا جنس فيشمل كل الناس، فلو اجتمعوا فلا يحيطون بشيء من علم الله عز وجل، والذي ينظر في علم الإنسان يريد أنه كلما ازداد علماً تخصص في شيء، وإذا ازداد علماً بعد ذلك قلّ الشيء الذي يتخصص فيه، فانظر للإنسان الذي يتعلم وهو صغير فعندما يكبر ويذهب إلى الكلية يتعلم الطب، فيدرس جميع الفروع دراسة ليست تفصيلية، وإنما يدرسها دراسة عامة، فإذا ترقى بعد ذلك تخصص في فرع واحد فقط، فإذا ترقى بعد ذلك تخصص في شيء من هذا الفرع، وتجد إنساناً أصبح طبيباً ممارساً أو أصبح أخصائياً لجزء من جسم الإنسان، ويقوم بتحضير الدكتوراة في جزء منها في شيء معين فيه، وبعد ذلك يتخصص في مرض معين من الأمراض يكون له باع في هذا الشيء، فعلم الإنسان كلما ازداد تخصص وضاق، وبقية الأشياء ليس لديه فيها خبرة، فتذهب لطبيب مشهور جداً في نقطة معينة في هذا الشيء يعرفه، فعندما تسأله عن منطقة بعيدة منها يقول لك: اذهب إلى أخصائي فيها، فهذا الإنسان علمه لا يحيط بشيء واحد من كل جهاته، والله عز وجل أحاط بكل شيء علماً، قال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [البقرة:255]، فهو العليم سبحانه وتعالى الخبير، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [النور:41]. {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:42] جميع ما في السموات وما في الأرض ملك لله تعالى، فهو المالك الحقيقي، فيملك كل شيء، ويحكم على كل شيء، ثم المصير إليه سبحانه وتعالى، {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [النور:42] أي: المرجع والمآب. ثم يعجبنا من قدرته العظيمة كيف يكون السحاب كما ذكرنا في الحديث السابق: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ} [النور:43] (يُزْجِي): يسوق ويدفع برفق، ثم يؤلف بين هذه السحاب، ثم يركمها بعضها فوق بعض حتى تصير جبلاً عالياً بمقدار (15) كيلو متراً أو (20) كيلو متراً بعضها فوق بعض. قوله: (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) أي: فترى قطرات المطر تنزل من خلاله، فلو شاء لسكبه دفعة واحدة، وتخيل لو انسكب هذا السحاب دفعة واحدة، كيف سيصنع بمن ينزل فوقه؟ فهذا يكون شيئاً عظيماً ومهولاً، ولكن الله بفضله ورحمته سبحانه ينظم كونه. قوله: (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ) وهذا مثل هيئة الجبل الموجود على الأرض. (فِيهَا مِنْ بَرَدٍ) أي: قطع الثلج. ومن رحمة رب العالمين أنه لا يجعل السحابة تسقط قطعة ثلج واحدة؛ لأنها ستنزل على الناس وتكسر كل ما تنزل عليه، لكن الله بفضله ورحمته ينزل البرد قطعاً صغيرة من الثلج، ولو شاء الله عز وجل لجعله مهلكاً لخلقه، ولكنه رحيم بنا سبحانه تبارك وتعالى. قوله: (فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ) يصيب بهذا المطر والبرد من يشاء، فرحمة الله مقسومة، فيقسم الأرزاق لعباده، فيكون في هذا المكان مطر كثير، وفي هذا المكان مطر غزير، وفي هذا المكان مطر يسير، بحسب ما يقدره رب العالمين سبحانه من أرزاق للعباد، ويكون في مكان ما مهلكاً، وفي مكان آخر منبتاً، والله يفعل ما يشاء. قوله: (يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ) أي: ضوء البرق الذي يخرج من خلال هذه السحاب ومن خلال هذا الرعد، وفي البرق شحنات كهربائية تكون بداخل هذه السحاب، فيكاد سنا وضوء هذا البرق يذهب بأبصار من ينظر إليه.

تفسير قوله تعالى: (يقلب الله الليل والنهار)

تفسير قوله تعالى: (يقلب الله الليل والنهار) قال تعالى: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ} [النور:44]. كما ذكرنا أنه يجعل الليل يطول فيقصر النهار، ويجعل الليل بارداً والنهار حاراً، ويجعل الليل مظلماً وقد يكون منيراً، ويجعل النهار مضيئاً وقد يظلمه بسحاب، فيقلب أرزاق العباد بين الليل والنهار، ويقلب حالاتهم من نوم وغيره بالليل والنهار. قوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ) أي: هذه عبرة وعظة لأولي الأبصار، فينظرون كيف يقلب الله الليل والنهار، ولو شاء لجعل الليل سرمداً إلى يوم القيامة، قال تعالى: {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ} [القصص:71]، فلو أنه فعل ذلك فمن سيقدر أن يأتي بالضياء، ولو شاء الله لجعل النهار سرمداً إلى يوم القيامة، وقال تعالى: {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ} [القصص:72]، فجعل الليل سكناً، وجعل فيه النوم سباتاً، وجعل النهار فيه معاشاً، فالإنسان يحتاج إلى أن يستريح، وقد يقول الإنسان: أنا أستطيع أن أظل بغير نوم لمدة ثلاثة أيام، ويحاول هذا الشيء ويجد في النهاية أنه يستسلم للنوم ولا يقدر على هذا الشيء، وإلا فإنه يتعب ويموت في النهاية، فالله عز وجل جعل الليل والنهار، وتقلب العباد واحتياجهم لليل والنهار والنوم والعمل عبرة لأولي الألباب والأبصار، فيعلمون أنهم محتاجون لربهم سبحانه، ومحتاجون إلى فضله ورحمته جل وعلا، فيحتاج الإنسان إلى رزقه فيقول: يا رب! ويحتاج إلى صحته وعافيته فيقول: يا رب!، ويحتاج إلى نومه فيقول: يا رب! ولا يشعر بحاجته إلا حين يفقدها، وعندما تجد نفسك أرقت ليلة ثم ليلة أخرى فتصير كالمجنون، ولا تعرف كيف ينام! فتقول: يا رب! اجعلني أنام، وتقوم بشرب المسكنات والمنومات، لكي تجد النوم، فالله عز وجل صاحب الفضل العظيم على الإنسان، فهو الذي يجعلك تنام بالليل، والإنسان يريد أن يعمل وفجأة يمرض، فيقول: يا رب! اشفني أريد أن أعمل، وأريد أن آكل، وأريد كذا، ولا يعرف فضل الله عز وجل ونعمته عليه، فلا يشكره على هذه النعمة إلا حين يبتليه الله سبحانه بفقدان هذه النعمة، فالإنسان المؤمن دائماً يتذكر ويبصر ما بصره الله عز وجل به.

تفسير قوله تعالى: (والله خلق كل دابة من ماء)

تفسير قوله تعالى: (والله خلق كل دابة من ماء) ثم يذكر الله نعمة أخرى من نعمه سبحانه وتعالى كما ذكرنا في الحديث السابق، وهذه النعمة هي الماء، قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [النور:45]. قوله: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ)، أي: كل ما يدب على الأرض خلقه الله عز وجل من ماء، والله خلق خلقاً كثيراً، فخلق الملائكة وجعلهم من نور، وخلق الجان فجعلهم من نار، وخلق الإنسان والدواب فجعله من ماء، فالله خلق كل ما يدب على الأرض من ماء. قوله: (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ) هنا يرينا الله آياته العظيمة سبحانه وتعالى، فهو الخالق وحده لا شريك له، فخلق الخلق وجعل لكل شيء من خلقه قدرة معينة قدره عليها، فمن هذه المخلوقات ما يمشي على بطنه كالثعبان والحية وغيرها، فهذه تمشي على بطنها على الأرض، أو في الماء كالحيتان ونحو ذلك. قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ)، فهذا الإنسان الذي جعله الله عز وجل يمشي على رجلين، وكرمه سبحانه وتعالى، وشرف يديه فرفعها ولم يجعله كغيره ممن يمشي على يديه، ثم يتناول بها طعامه، ولكن جعل اليدين مرتفعتين، وجعل القدمين على الأرض، فشرف الإنسان وكرمه سبحانه وتعالى. قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ)، والله يخلق ما لا تعلمون، ولكن هذا الغالب المشاهد، وإن وجدنا من الحشرات ما له أكثر من أربع أرجل، فالله يخلق ما يشاء، ولكن هذا الغالب الذي نراه أمامنا، فلو شاء الله عز وجل لجعل الإنسان يمشي على يديه ورجليه، فأراد أن يريه كيف كرمه سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الإسراء:70] أي: جعلنا الإنسان مكرماً يركب فوق الجمل والخيل ولا يمشي على أربع، ولا يُركب ولكنه يَركب، فكرمه الله سبحانه ليعبده ويشكره، ولو شاء لجعله مثل الحشرات، ولو شاء لجعله مثل الثعابين يمشي على بطنه. فقد أرانا الله هذه القدرة منه سبحانه حتى نحمده ونشكره سبحانه وتعالى على ما أنعم به علينا، فيقول سبحانه: (يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) يخلق الله ما يشاء ممن يمشي على رجلين، وممن يمشي على أربع، وممن يمشي على بطنه، وخلق الملائكة تطير بأجنحتها {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر:1]، يخلق ما يشاء سبحانه وتعالى. قوله: (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فكل شيء قد جعله الله للإنسان عبرة، فيرى آية من آيات الله: وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد فالإنسان يتفكر في كل مخلوقات الله عز وجل التي تدل على بديع صنعها، وعلى أن الخالق واحد، فينظر إلى النملة كيف خلقها الله! وكيف تكسب رزقها! وكيف جعل لها تفكيراً فتعرف كيف تأتي بهذا الطعام! وكيف تخزنه للشتاء! وإذا كانت الحبة التي ستأتي بها لو مكثت إلى الشتاء فستنبت، فيفهمها ربها سبحانه كيف تخرق هذه الحبة حتى لا تنبت ولا تنمو! فجعل فيها قدرة أن تأكل وتبحث عن طعامها، وأن تعيش مع غيرها، فالذي أعطاها هذا الشيء، وأعطى الحيوان من بهائم وغيرها هذه القدرة هو الله سبحانه وتعالى، وأعطى الإنسان ما هو فوق ذلك، فيتفكر الإنسان كيف أن الله جعل لهذه قدرة وجعل لهذه قدرة! أفلا يكون هو القدير على كل شيء سبحانه وتعالى؟! وجعل في هذه حياة وفي هذه حياة، أفلا يكون هو الحي الباقي سبحانه وتعالى؟ فيرينا آيات قدرته سبحانه وبديع صنعته في هذه المخلوقات، لنتفكر أن الذي جعل هذا معجزاً وهذا معجزاً وهذا معجزاً هو الله الواحد القادر على كل شيء سبحانه!

تفسير قوله تعالى: (لقد أنزلنا آيات مبينات)

تفسير قوله تعالى: (لقد أنزلنا آيات مبينات) قال تعالى: {لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النور:46]. قوله: (لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ) هي آيات بينات، وهي مبينات، والآية البينة: هي الآية الواضحة، فأنزل كتاباً واضحاً، وجعل لنا في الكون آيات واضحة لكل ذي عينين وبصيرة، فيبصر ويعلم أن الله خلق هذا عبرة لخلقه ليتفكروا. (مُبَيِّنَاتٍ) اسم فاعل، والمعنى: أنها مبيِّنة للإنسان فيما يحتاج إليه، وهذه قراءة ابن عامر وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف، وباقي القراء يقرءونها: (لقد أنزلنا آيات مبيَّنَات) أي: قد وضحنا ما أشكل عليكم فيها، وهي في نفسها مبَّينة قد بينها الله سبحانه وتعالى، وبينها لنا النبي صلوات الله وسلامه عليه. قوله: (وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)، والآيات المبيَّنَة لا يفهمها كل إنسان، ولكن ذلك راجع لأمر قضاء الله وقدره سبحانه، وحكمته وعلمه، فهو يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وكم يمر الإنسان على آيات من آيات رب العالمين في الكون فينظر إلى الآية ولا يعتبر بها، ويقرؤها ولا ينتبه لها! حتى يقول له إنسان: انظر إلى هذا الشيء فينتبه؛ لعظيم قدرة الله عز وجل على هذا الأمر، وكم من آيات نراها ولا نتعجب لها! فإذا تفكرنا فيها أو دلنا إنسان عليها كأننا لأول مرة نسمع هذه الآية ونرى مقتضاها في الكون الذي أمامنا، فالله عز وجل هو الذي يهدي سبحانه، فمهما استعان الإنسان بغيره فلا يقدر أن يعينه على الهدى إلا رب العالمين سبحانه، فهو الذي يهدي من يشاء إلى دينه القويم وإلى شريعته ومنهاجه. وكلمة (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) فيها إثبات للقضاء والقدر، وأن الله عز وجل من شاء أن يهديه هداه، ومن شاء أن يضله أضله، فإنه سبحانه يهدي من يشاء ويعافي ويعصم فضلاً، ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلاً، فالإنسان الذي يضله الله هذا عدل من الله؛ لأنه يستحق غير ذلك، والإنسان الذي يهديه الله فهذا فضل من الله سبحانه وتعالى يتفضل به على من يشاء. قوله: (إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) الصراط: هو الطريق، أي: إلى طريق مستقيم، وهو طريق شريعة رب العالمين سبحانه. وكلمة صراط هنا فيها ثلاث قراءات: فتقرأ بالصاد، وتقرأ بالسين، وتقرأ بالزاي المشمة. فيقرؤها قنبل عن ابن كثير، ورويس: (إلى سراط مستقيم) بالسين. ويقرؤها خلف عن حمزة بالزاي: (إلى زراط مستقيم). ويقرؤها باقي القراء: (إلى صراط مستقيم) بالصاد المكسورة. نسأل الله عز وجل أن يهدينا، ونعوذ به أن يضلنا، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة النور [47 - 52]

تفسير سورة النور [47 - 52] يخبرنا الله سبحانه هنا عن صفات المنافقين الذين يظهرون خلاف ما يبطنون، ويقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، فأعمالهم تخالف أقوالهم، فهم يقولون أنهم مؤمنون بينما أعمالهم تنافي الإيمان وتضاده، وهذا فيه تحذير من الله للمؤمنين حتى لا يقعوا فيما وقع فيه أولئك من النفاق والكفر بالله تعالى، وقد بين سبحانه للمؤمنين بأن الفلاح والفوز كله في طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.

تفسير قوله تعالى: (ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم)

تفسير قوله تعالى: (ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم)

عدم التحاكم إلى شرع الله من صفات المنافقين

عدم التحاكم إلى شرع الله من صفات المنافقين الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورو النور: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [النور:47]. يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآية عن المنافقين وكيف يتصرفون حين يدعون إلى الاحتكام لرسول الله صلى الله عليه وسلم. يحذرنا الله عز وجل من مثل هذه الأخلاق التي عليها هؤلاء المنافقون، فهم يقولون بألسنتهم: آمنا، ويقولون: سمعنا وأطعنا، وفي وقت الجد إذا بهم يندفعون عن الإيمان إلى ما يشتهون من هوىً ومن باطل. فإذا كان الشيء الذي يطلبونه عند النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: نتحاكم إليه، وإذا لم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم ولن يعطيهم هذا الشيء -لأنهم يعرفون أنهم مبطلون- تحاكموا إلى غير النبي صلوات الله وسلامه عليه. قال الإمام الطبري وغيره: (كان رجل من المنافقين اسمه بشر كانت بينه وبين رجل من اليهود خصومة في أرض، فدعاه اليهودي إلى التحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان المنافق مبطلاً فرفض، وقال: إن محمداً يحيف علينا)، حاشا له صلوات الله وسلامه عليه، بل إن هذا المنافق كان ظالماً لليهودي، فانظروا إلى أهل النفاق كيف تخرج كلمة الكفر من ألسنتهم، فمهما أخفوا ما في قلوبهم فلا بد وأن تتلفظ الألسن بهذا الشيء الذين يبطنونه، ويظهر في فلتات الألسن منهم ذلك. فاليهودي يقول له: تعال نتحاكم إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن اليهودي علم أن النبي صلى الله عليه وسلم سيحكم بالحق، وأنه نبي حقاً صلوات الله وسلامه عليه، وإن لم يعترف هذا اليهودي أنه نبي. ولكن على كلٍ عرف اليهودي أنه صلى الله عليه وسلم لن يحكم إلا بالحق، وكان له حق فقال للمنافق: (تعال نذهب للنبي صلى الله عليه وسلم، فرفض المنافق وقال: تعال نذهب إلى كعب بن الأشرف) لأن الضلِّيل كعب بن الأشرف يهودي يقبل الرشوة، فهذا المنافق يذهب لليهودي فيعطيه الرشوة فيحكم له على أخيه اليهودي، لكن النبي صلى الله عليه وسلم سيحكم بالعدل وبالحق صلوات الله وسلامه عليه. فالله عز وجل يعجب من أمر هؤلاء المنافقين الذين يقولون: آمنا بألسنتهم ولا يتجاوز الإيمان الألسن إلى القلوب، فقال تعالى مخبراً عنهم: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا} [النور:47] هذه المقالة بالألسن. ثم قال: ((ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ))، فيسهل على المنافق أن يقول: لا إله إلا الله، لكن كونه ينفذ مقتضى لا إله إلا الله بأن يتحاكم إلى شرع الله عز وجل، فهذا ما لا يفعله المنافق إلا إذا كان الشرع في هذا الشيء سيوافق هواه، وإذا كان هو المظلوم والشريعة ستعطي له حقه ففي هذه الحالة يذهب ويقول: أريد الشريعة، فالحاكم الذي سيعطيه ما يهواه فهو تابع لهذا الذي يريد. فهنا ربنا سبحانه وتعالى يقول: ((ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ)) أي: من بعد هذا القول. ثم قال: ((وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ))، فالله عز وجل أخبر المؤمنين أن هؤلاء ليسوا من المؤمنين في شيء، فالذي يدعى إلى كتاب الله تعالى ليحكم بيننا ويرفض هذا الشيء فهذا ليس مؤمناً، وليس على دين النبي صلى الله عليه وسلم.

تفسير قوله تعالى: (وإذا دعوا إلى الله ورسوله وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين)

تفسير قوله تعالى: (وإذا دعوا إلى الله ورسوله وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين) يقول سبحانه في هؤلاء المنافقين: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور:48]، قوله: ((وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ)) ذكر هنا الله سبحانه وتعالى وذكر الرسول صلوات الله وسلامه عليه، ثم أعاد الضمير لواحد، فقال: ((لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ))، فالذي سيحكم بين الاثنين بشرع الله هو النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي سيقضي في الخصومة صلى الله عليه وسلم، فلذلك أعاد الضمير إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحده، فذكر الله عز وجل أنه الذي أنزل الكتاب وهو الذي أنزل الأحكام الشرعية وجعلها شريعة ومنهاجاً، لكن الذي سيحكم بهذه الشريعة هو النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ)) يعني: النبي صلى الله عليه وسلم. ثم قال: ((إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ)) كأن هؤلاء هم الذين يقولون: آمنا بألسنتهم، فمنهم من يستجيب ويذهب، ومنهم من يعرض. فكأن الفريق الذي يذهب للنبي صلى الله عليه وسلم ويتحاكم إليه إنما ذهب استحياءً، وهم قالوا: آمنا بألسنتهم، فاستحيوا وذهبوا وتحاكموا، وأما الفريق الآخر منهم الذي لا يذهب للنبي صلى الله عليه وسلم إلا إذا رأى في زعمه أن الحق معه، وأنه سيحكم له بذلك، فيذهب للنبي صلى الله عليه وسلم. ثم قال تعالى: {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} [النور:49] فالحق إما لك وإما عليك، فإن كان الحق عليك فأده، وإن كان الحق لك فخذ حقك، فالنبي صلى الله عليه وسلم سيحكم بالحق، ويعطي كل ذي حق حقه، فيأخذ من الظالم ليعطي للمظلوم، فهؤلاء المنافقون إذا كانوا مظلومين تحاكموا للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه سيأتي لهم بحقهم، وإذا كانوا ظالمين ذهبوا لأهل الرشوة وأهل الفساد ليتحاكموا إليهم. فقوله: ((وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ)) أي: طائعين منقادين خاضعين مسرعين للنبي صلى الله عليه وسلم طالما أنهم سيأخذون منه، لكن إذا كان سيحكم عليهم ذهبوا إلى غير النبي صلى الله عليه وسلم.

تفسير قوله تعالى: (أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا)

تفسير قوله تعالى: (أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا) قال الله سبحانه وتعالى: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [النور:50] أي: أن هذا الذي يبعد عن حكم الله وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم هل يظن أن الله عز وجل سيظلمه؟ حاشا لله عز وجل. وهل يظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيظلمه؟ هذا مستحيل أيضاً، فيقول سبحانه: ((أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)) أي: هل في قلوبهم النفاق والكفر. ثم قال: ((أَمِ ارْتَابُوا)) أي: صاروا متشككين في شرع رب العالمين سبحانه، ومتشككين في النبي صلى الله عليه وسلم أنه لن يحكم بينهم بالعدل، فهذا كله من النفاق، وهذا كفر بالله عز وجل، فكون في قلوبهم الشك والريبة من النبي صلى الله عليه وسلم هذا كفر. ثم قال: ((أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ)) أي: إن ظنوا أن الله سبحانه وتعالى سيظلمهم فقد كفروا بذلك، فالله يعجب من أمرهم: فإما أن يكونوا مؤمنين فمستحيل أن يظنوا هذه الظنون، وإلا فهم على كفرهم فالله يفضحهم. وقال سبحانه: ((أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)) أي: يميل ويجور ويظلم. وقوله: {بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [النور:50] أي: أن الله لا يظلم أحداً شيئاً سبحانه وتعالى، والظلم: هو وضع الشيء في غير موضعه. فهؤلاء الذين يخافون أن يظلمهم الله كيف يظلمهم وهو يملك كل شيء؟! وقال سبحانه: (إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا). قال أهل العلم: إن القاضي الذي يحكم بين المسلمين بعضهم مع بعض لا بد وأن يكون مسلماً، فلا يجوز أن يكون الكافر قاضياً ولا والياً على المسلمين ويحكم بينهم، وكيف سيحكم بشرع الله سبحانه وهو كافر به؟! وقال سبحانه: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141]. فإذا كانت هناك خصومة بين مسلم وبين كافر فالذي يحكم بينهما هو القاضي المسلم، وأما إذا كانت الخصومة بين ذمي وذمي وبين كافر وكافر، فإذا تحاكما للمسلمين جاز أن يحكموا بينهما، وجاز أن يعرضوا عنهما إذا علموا أنهما مبطلان، وإذا تحاكما إلى غير المسلمين فشأنهما. فهنا وجوب الحكم إذا تخاصم المسلمون فيما بينهم إلى القاضي المسلم، وأن الواجب عليهم أن يحكِّموا بينهم من يصلح للقضاء وللحكم، ومن يصلح لفصل الخصومة من المسلمين، وليس من الكافرين ولا من المنافقين. قال الله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51]. قوله: ((إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ)) (قول) خبر كان مقدم، واسمها (أن يقولوا) وهو المصدر المنسبك من أن والفعل، كأنه يقول: إنما كان قولَ المؤمنين قولهُم، أي: أنهم يقولون: سمعنا وأطعنا. فالمعنى: أن السمع والطاعة هو قول المؤمنين حين يدعون إلى الله عز وجل إلى رسوله صلى الله عليه وسلم للحكم بينهم. وقوله: ((إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ)) (إنما) أداة قصر وحصر، والمعنى: أن هذا القول فقط هو الذي يصدر عن المؤمن، ولا يصدر عنه قول غير هذا القول أبداً، فالمؤمن إذا دعي إلى الله ورسوله: تعال نتحاكم لشرع الله، قال: سمعنا وأطعنا، فإن كان الحق له أخذه، وإن كان الحق عليه أعطى الحق لصاحبه. ثم قال: ((إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ)) ((لِيَحْكُمَ)) هذه قراءة الجمهور، وقراءة أبي جعفر: ((لِيُحْكَمَ)) بينهم، أي: ليُحْكَمَ بينهم بشرع رب العالمين. وقوله: ((أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا)) أي: ننفذ أمر الله عز وجل ونطيعه سبحانه وتعالى بما يحكم فينا النبي صلى الله عليه وسلم. ثم قال: ((وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) فقضى الله عز وجل بأن الذين يقولون ذلك إذا دعوا ليحكم بينهم رب العالمين لكتابه وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم أنهم الناجون يوم القيامة، والناجحون النجاح الأبدي، وأهل النعيم المقيم، وأهل الجنة. فالواجب على كل إنسان مؤمن إذا حدث بينه وبين غيره خصومة أن يتحاكما، إلى قاض مسلم؛ ليحكم بينهما بشرع رب العالمين سبحانه. فالمؤمن عليه أن يحكِّم شرع الله، وإذا كان يعلم أنه ليس له حق على الآخر ولكن في يده أوراق، أو في يده شيكات فليس له أن يقول: سأرفع عليك قضية؛ لأن بيدي أوراقاً بهذا الشيء؛ لأن المؤمن يعرف شرع رب العالمين سبحانه، ويخاف من عقوبة رب العالمين، والمؤمن لا يكذب ولا يغش ولا يخدع ولا يخون ولا يزور، وإنما يقول بالحق، قال تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [النساء:135]. فالإنسان المؤمن يكون قائماً بالعدل، وشهيداً ولو على نفسه، أو على والديه أو على أقاربه، فيشهد بالحق ولا يكذب أبداً. وربنا يحذرنا من أكل أموال الناس بالباطل حيث يقول سبحانه: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:188]، فالإنسان المؤمن يتحاكم لشرع رب العالمين سبحانه وتعالى. وأيضاً الذي يحكم بين الناس لا بد وأن يعرف شرع رب العالمين، ولا بد أن يكون دارساً لشرع رب العالمين، وخاصة مسائل القضاء التي تكلم فيها الفقهاء، وأما إذا كان شيخ حارة، أو حافظاً للقرآن وهو لا يعرف شيئاً من أحكام رب العالمين سبحانه فهنا لا يلزم أن يذهب إلى هذا الإنسان، وإنما الواجب أن يذهب إلى من يعرف الأحكام الشرعية، وكم من إنسان يجهل الأحكام الشرعية ويقضي بالهوى والإثم، فتجد بعض هؤلاء إذا سأله إنسان عن شيء أجاب بما يعرفه هو ولم يرجع إلى أهل العلم في ذلك، لذلك فاحذر أن تحكم بين الناس وأنت جاهل، وأنت لا تعرف الحكومة في هذه المسألة، ولكن قبل أن تحكم اقرأ واطلع واعرف الحكم الشرعي في الشيء قبل أن تقضي بشيء فيوبقك يوم القيامة، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (أن القضاة ثلاثة: رجل عرف الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل عرف الحق ولم يقض به فهو في النار، ورجل قضى على جهل فهو في النار). لذلك فالمؤمن إذا دعي إلى كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم قال: سمعنا وأطعنا، ولا يتحاكم إلى غير شرع الله سبحانه، فلا يتحاكم إلى إنسان يقبل الرشوة، أو إنسان لا يعرف شرع الله سبحانه، أو يحكم بالهوى ويحكم بالعرف، فبعض الناس يحكمون في المسألة بالقضاء العرفي كما يزعمون، فتجدهم يقولون لمن تحاكم إليهم: سنحكم عليك أن تذبح جملاً، أو تذبح خروفاً، أو عليك دية أو ديتين أو ثلاث ديات، في أشياء لم يحكم الله عز وجل فيها بذلك، فهذا الذي يحكم بهذا كأنه يحكم مع الله سبحانه وتعالى، وكأنه يشرع شيئاً لم يقله رب العالمين ولا حكم به النبي صلوات الله وسلامه عليه. لذلك فالذي يقضي بين الناس أو يفصل في الخصومات لا بد وأن يكون على علم بشرع رب العالمين سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه)

تفسير قوله تعالى: (ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه) قال الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:52] أي: أن الإنسان الذي يسمع ويطيع الله ورسوله فهو المفلح والفائز، ففي الآية الأولى ذكر السمع والطاعة في الحكم، وفي هذه الآية ذكر السمع والطاعة في جميع الأمور. فالأولى: ((إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ)) يعني: في حال الحكم، قالوا: سمعنا وأطعنا على العين والرأس، فالذي يقوله ربنا ننفذه، وليست مقالة باللسان فقط، ولكن يقول باللسان وينفذ ذلك بالفعل، فإن كان عليه الحق دفع هذا الحق، ولم يتهرب ولم يتملص من ذلك، فحكم الله يجب على العبد أن ينفذه. ثم عمم ربنا سبحانه في كل قضية وفي كل عمل من الأعمال أنك تطيع رب العالمين سبحانه، فقال: ((وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)) أي: في كل شيء من أمور العبادات، ومن أمور المعاملات، ومن أمور الأحوال الشخصية، ومن أمور الجنايات والديات، ومن أمور حياته ومعاشه، فهو في كل الأمور يطيع الله عز وجل فيها، ويطيع الرسول صلى الله عليه وسلم، مع خشيته وإخلاصه لرب العالمين؛ لأن الإنسان قد يطيع في الظاهر ولكنه في باطنه لا يخشى، بل ينافق ويرائي، فلابد من هذا القيد: الطاعة مع الخشية لرب العالمين سبحانه، فهي طاعة في الظاهر وفي الباطن. وقوله: ((وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ)) أي: يتقي غضب الله سبحانه وتعالى، ويكف عن نفسه غضب الله بطاعة الله سبحانه، فالتقوى أن يجعل وقاية وحاجزاً بينه وبين معصية الله، وبينه وبين غضب الله سبحانه. فقوله: ((وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ)) (يتقه) هذه فيها قراءات للقراء، فيقرؤها: (ويتقْهِ) بسكون القاف حفص عن عاصم فقط، كأنها على نية الجزم؛ لأن أصلها: يتقي، ففي آخرها حرف العلة، فإذا جزمت حذفت حرف العلة فقط، وتصير القاف مكسورة، ولكن حفصاً سكن القاف، وكأنه اعتبر في هذا الأخير نية الوقف عليه، أو بنية الجزم له، كذا قال النحويون فيها. فقراءة حفص: ((ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقْهِ فأولئك هم الفائزون))، وأما بقية القراء غير حفص عن عاصم فيقرؤنها بكسر القاف: (ويتقِه) لكن اختلفوا في الهاء، فمنهم من يختلسها، يعني: يجعلها كسرة، ومنهم من يشبعها، يعني: يجعلها كالياء فيها، فقرأ قالون ويعقوب وابن عامر بخلفه: (ويتقِهِ) بكسر القاف والهاء بعدها. وقرأ ورش وابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي وخلف وكذلك أبو جعفر بالإشباع للهاء بكسر الهاء: (ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقِهي فأولئك هم الفائزون). وقرأها أبو عمرو وشعبة عن عاصم -وهذه قراءة ثانية عن عاصم - وهشام وخلاد بخلفهما، وكذلك ابن وردان بسكون الهاء وبكسر القاف، فتصير قراءة هؤلاء: (ويخش الله ويتقِهْ). فالله عز وجل حكم لهم بأنهم مفلحون، وبأنهم فائزون قد نالوا الفوز العظيم، ونالوا الدرجات العظيمة عند رب العالمين بطاعتهم له سبحانه. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة النور [53 - 55]

تفسير سورة النور [53 - 55] إن أعظم ما يواجهه المؤمنون الصادقون هو ذلك الصنف المتلوث المدعو بالمنافقين، فهو ظاهره الإيمان وباطنه الكفر، ولما كان الوحي الكريم يبين للمؤمن ما ينفعه ويريه ما يضره كشف المولى سبحانه صفات هذا الطابور الخامس، ومن صفاتهم: أنهم يكثرون الحلف ويبالغون فيه أنهم إن أمروا ليخرجن، ولكن الله خبير بأعمالهم، ومطلع على قلوبهم، فيجازي كل واحد بما عمل.

تفسير قوله تعالى: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لإن أمرتهم ليخرجن)

تفسير قوله تعالى: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لإن أمرتهم ليخرجن) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له,, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [النور:53]. في هذه الآيات يذكر الله عز وجل المنافقين وكيف أنهم يقسمون بالله سبحانه وتعالى ويجتهدون في أيمانهم وهم كاذبون، وقد حذر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم من طاعة كل حلاف مهين، فهؤلاء المنافقون كانوا يحلفون للنبي صلى الله عليه وسلم، ويكثرون من الحلف، والإنسان إذا وجد نفسه أنه يكذب في الكلام فإنه يؤكد كلامه باليمين حتى يظن به أنه صادق ولا يهتم أن يكذب، فإنه قد امتلأ قلبه بالنفاق، فإذا به لا يهتم بأن يعظم اليمين ويعظم ذكر الله سبحانه وتعالى. فالمنافق في باطنه الكفر، ويظهر الإسلام بلسانه فلا يهتم أن يحلف صادقاً أو كاذباً، فيحلفون أمام النبي صلى الله عليه وسلم مجتهدين بأغلظ الأيمان: إنهم لصادقون، كما ذكرهم الله عز وجل وفضحهم في سورة التوبة قال: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} [التوبة:56]، فيحلفون للنبي صلى الله عليه وسلم بالله رب العالمين أنهم من المؤمنين، وربنا يكذبهم (وَمَا هُمْ مِنْكُمْ)، وقال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ} [النور:53] متى يكون هذا الكلام؟ إذا انتهت الحرب وإذا انتهى القتال، فتظهر شجاعتهم في الكلام فقط فيقولون: نحن مطيعون لما تأمرنا وسنقاتل في سبيل الله، ويجتهدون في الأيمان المغلظة، والحقيقة أنهم لن يفعلوا ذلك ولكنهم قوم يكذبون. فيكذبون على النبي صلى الله عليه وسلم، ويكذبون على الناس فإذا جاءوا يوم القيامة كذبوا على الله سبحانه وتعالى، ويحلفون بالله سبحانه إنهم من المؤمنين والله يعلم أنهم كاذبون في الدنيا، ويشهدون بالله إنهم مع المؤمنين والله يشهد أنهم لكاذبون، قال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1]. فكم كذبهم الله عز وجل في كتابه، وكم فضحهم في كتابه العزيز سبحانه، فهنا من ضمن ما يكذبون به يقول: ((وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم)) يعني: بالجهاد والطاعة (ليخرجن) مطيعين مجاهدين في سبيل الله، فأجاب الله عز وجل وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ((قل لا تقسموا)) أي: لا تحلفوا فأنتم كذابون، ثم قال: {طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} [النور:53] وفيها معنيان: المعنى الظاهر منها والقريب: طاعتكم طاعة معروفة، يعني: قد عرفنا دأبكم وعرفنا عادتكم وكذبكم، فطاعتهم باللسان فقط، وأما الحقيقة فهي التكذيب في القلوب، وعدم فعل الذي تحلفون أنكم ستفعلونه، قال سبحانه {لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} [النور:53] أي: طاعتكم طاعة معروفة، فهي طاعة باللسان لا يصدقها القلب ولا تصدقها الأفعال. والمعنى الآخر: أن الطاعة التي يريدها الله عز جل طاعة معروفة، فليست هي التي تصنعون، وإنما هي أن تنفذوا أحكام رب العالمين سبحانه، وقد بين الله عز وجل في القرآن ما هو المطلوب منكم وهو: أن تطيعوا الله، وأن تطيعوا الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وأن تفعلوا ما جاء في القرآن، وما جاء في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فالطاعة ليست غائبة عنكم وليست بعيدة منكم وليست مجهولة لكم، فهي أوامر الله وأوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك معروف عندكم، ولكنكم لا تفعلون. فالطاعة التي يريدها الله عز وجل معروفة وليست مجهولة فنفذوا إن كنتم صادقين، وأما طاعتكم التي تزعمون فهي أيضاً معروفة وأنها أكاذيب، وأنكم لا تصنعون ما تقولون. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [النور:53] أي: خبير بما خفي في قلوبكم وما خفي من أفعالكم، فالله خبير بما تعلمون من أفعال باطنة تكتمونها عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويعلم الله سبحانه ما تعملون فيما بينكم، وما تقولونه وتخفونه عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الناس.

تفسير قوله تعالى: (قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول)

تفسير قوله تعالى: (قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) قال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النور:54] أي: أطيعوا الله والرسول، فمن أطاع الرسول فقد أطاع الله؛ لأنه يبلغ أوامر رب العالمين سبحانه. وهنا أكد فقال: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النور:54]، فهؤلاء فهم منافقون يحتاجون إلى أن يؤكد عليهم؛ فلعلهم إن قيل: أطيعوا الله قالوا: نطيع الله ولا نطيع الرسول عليه الصلاة والسلام، فأكد ربنا أنه لا بد من طاعة الله وطاعة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه. قال تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} [النور:54]، فإن تولوا أصلها إن تتولوا، فقال هنا: قل مخاطباً لهم أطيعوا الله، وأطيعوا الرسول؛ فإن تتولوا عن طاعة الله وطاعة الرسول صلوات الله وسلامه عليه فإنما عليه ما حمل، وعليكم ما حملتم، فهنا إدغام تاء في تاء. فإن تولوا فإنما على الرسول صلى الله عليه وسلم البلاغ المبين، وهذا هو الذي حمل من ربه سبحانه، أي: فإنما عليه ما حمل من تبليغ الرسالة، قال تعالى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:54]، فهذا هو المطلوب من النبي صلى الله عليه وسلم أنه يبلغ، وأما الهداية فعلى الله، قال تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]، فالله يهدي من يشاء من عباده، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يقدر على تحويل القلوب، ولا على تغيير قناعات الناس، وإنما يأمر وينهى بأمر رب العالمين. قال تعالى: {وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} [النور:54] أي: من طاعة الله وطاعة الرسول صلوات الله وسلامه عليه، فهو مكلف بالتبليغ وأنتم مكلفون بالتنفيذ وبالطاعة، فهو لا يحمل من أوزاركم شيئاً، وأنتم عليكم هذه الأوزار وعليكم ما حملتم. قال تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور:54]، أكد ربنا سبحانه بهذا طاعة النبي صلوات الله وسلامه عليه. ثم قال: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:54] أي: تبليغ ما أمر الله عز وجل به، البلاغ المبين: هو البلاغ الواضح، وقد فعل صلوات الله وسلامه عليه، فبلغ البلاغ الواضح، وأدى الأمانة التي أمره الله عز وجل بها، وبيَّن للناس ووضح لهم وشرح لهم ما يحتاجون إليه، فما تركهم إلى أن لقي ربه سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض)

تفسير قوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض) ثم جاء وعد رب العالمين سبحانه وتعالى فقال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:55]، فوعد الله سبحانه النبي صلوات الله وسلامه عليه في هذا الكتاب العظيم ووعد المؤمنين فقال: ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ))، وقيَّد وعده بالإيمان والعمل الصالح، فوعد الله عز وجل بالتمكين في الأرض للمؤمنين، وهذا وعد لا بد أن يكون ولا بد أن يحدث، فالله عز وجل لا يخلف الميعاد. فإذا لم يحدث هذا فالمسلمون لم يأتوا بالشرط الذي ينبني عليه الجواب، والحكم الذي قاله الله سبحانه ووعده وعد مشروط فيه أن تكونوا مؤمنين، وأن تعملوا الصالحات. فإذا كانوا مؤمنين وعملوا الصالحات -والصالحات كل ما أمر الله عز وجل به في دينه-: فأقاموا أمر دينهم، وجاهدوا عدوهم، وكانوا صالحين في أنفسهم مصلحين لغيرهم، هادين مهديين، فالله عز جل ينجز ما وعد. قال تعالى: ((لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم)) الفعل المضارع إذا كان قبله لام التوكيد وآخره نون التوكيد الثقيلة فتكون هذه الجملة واقعة في جواب قسم محذوف، فالتقدير هنا: والله ليستخلفنهم، فالله سبحانه يقسم أنه لابد أن ينصر هؤلاء، وليجعلنهم خلفاء في الأرض. قال تعالى: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:55]، فقد استخلف الذين من قبلهم من المؤمنين في الأمم التي كانت قبل أمتنا، والتي جعل الله عز جل لها نصراً على عدوها، فقد كانت أمة موسى عليه الصلاة والسلام مستضعفة في الأرض، فوعدهم الله عز وجل أن يستخلفهم ويمكن لهم، فنصرهم على فرعون وجنوده، ومكن لهم وأهلك فرعون ومن معه. لهذا وعد الله عز وجل المؤمنين أنهم إذا نصروا الله فإن الله ينصرهم، فقال: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7]، ووعدهم الله عز وجل إذا أعدوا القوة واستعدوا لأعدائهم وكانوا مؤمنين صالحين أن ينصرهم وأن يستخلفهم. قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} [القصص:5]، وتمكين الله سبحانه وتعالى للمؤمنين في الأرض إنما يكون بهذا القيد وبهذا الشرط وهو: طاعة رب العالمين، فكما جعل الذين من قبلنا يتمكنون بإيمانهم، وجعلهم أئمة بطاعتهم لرب العالمين، فكذلك أرانا سبحانه وتعالى كيف جعلهم أذلة بمعصيتهم له، فبنو إسرائيل الذين أطاعوا الله مع موسى نصرهم الله، ثم عبدوا العجل فإذا بالله عز وجل يأمرهم أن يقتل بعضهم بعضاً، فقتلوا في غداة واحدة سبعين ألفاً منهم، فالمؤمن ينصره الله، والذي يخالف يخذله الله. فلما أطاعوا ربهم سبحانه نجاهم وخرجوا منصورين، ولما انحرفوا عن دين رب العالمين إذا بربنا سبحانه يجعلهم أربعين سنة يتيهون في الأرض، فلما رجعوا إلى الطاعة رجع الله عز وجل إليهم بالفضل، فلما عصوا ربهم رجع عليهم بالعقوبة قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [المائدة:78]. فالمؤمنون الذين يتبعون النبي صلى الله عليه وسلم، ويتمسكون بدينهم، ويعملون الصالحات وكان عملهم خالصاً لله، وعدهم الله أن ينصرهم، فقال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم} [النور:55] يعني: يجعلهم خلفاء، فيزيل الأمم ويجعل هؤلاء الذين يتمكنون يخلفونهم في الأرض، فيزيل حكاماً ويزيل ملوكاً ويذهب طغاة ويجعل هؤلاء هم الخلفاء في الأرض. فأول من مكن الله عز وجل لهم من هذه الأمة هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أطاعوا الله عز وجل، وأطاعوا النبي صلى الله عليه وسلم، وجاهدوا في سبيل الله، ففتحت لهم الفتوح، ومكن لهم ربنا سبحانه وتعالى، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (الخلافة من بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون ملكاً)، فكأن ذلك هو التطبيق الحرفي لهذه الآية في هؤلاء، وليس فيهم فقط ولكن في كل من يفعل كفعلهم رضوان الله تبارك وتعالى عليهم. فالخلافة كانت ثلاثين سنة، يروي هذا الحديث أبو داود والترمذي عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويفسره سفينة ويقول لمن يحدثه: أمسك عليّ خلافة أبي بكر سنتان، وخلافة عمر عشر سنين، وخلافة عثمان ثنتا عشرة سنة، وخلافة علي ست سنين، فيكون المجموع ثلاثين سنة سنة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. وهذه من علامة نبوته ومعجزاته صلوات الله وسلامه عليه، فقد أخبر أنه ستكون خلافة على منهاج النبوة ثلاثين سنة ثم يكون ملكاً عضوضاً. فلما تولى معاوية رضي الله عنه تحولت الخلافة إلى ملك، ولكن كان يحكم بشرع رب العالمين. فالذين استخلفهم المؤمنون في هذا العصر العظيم في الثلاثين سنة كان فيها الحق والعدل والاتباع لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها النصر والتمكين، ثم جاء الخلفاء من بعدهم فأقاموا دين رب العالمين وتمسكوا، وإن كان من بعدهم أقل ممن كانوا من قبل، ولكن كانوا مستمسكين بدين الله، ففتح الله لهم بلاد الأرض مشارقها ومغاربها. ثم ترك المسلمون دين رب العالمين سبحانه فإذا بالله يذلهم وإذا بهم يتقهقرون ويتراجعون، وتتمكن منهم الأمم؛ لأنهم خالفوا ما قال الله سبحانه وتعالى: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:55] يعني: بني إسرائيل ومن قبلهم ممن كانوا مؤمنين. وهذه فيها قراءتان {كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:55]، وهي قراءة الجمهور. وقراءة شعبة عن عاصم: {كَمَا اسْتُخْلفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}. وقال تعالى: ((وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ)) هذا وعد من الله سبحانه بتمكين دين الإسلام الذي قال فيه: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، وهذا أيضاً جواب للقسم والتقدير: والله ليمكنن لكم هذا الدين طالما أنتم على الإسلام وعلى الصلاح في العمل، وأنتم تعبدون الله ولا تشركون به شيئاً، قال تعالى: ((وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا)) بشرط أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة النور الآية [55]

تفسير سورة النور الآية [55] لقد وعد الله أولئك المتطلعين إلى النصر والتمكين، ونشر دين رب العالمين، والذين يريدون الاستخلاف في الأرض وتمكين دينكم فيها، وإزالة الرعب وإبداله أمناً، وعدهم بذلك بشرط أن يؤمنوا ويعملوا ويعبدوا الله حق عبادته، ويحذروا من الشرك بنوعيه، فإذا حققوا ذلك فإن الله لا يخلف الميعاد.

تفسير قوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض)

تفسير قوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55]. في هذه الآية الكريمة وعد من الله سبحانه وتعالى للذين آمنوا به سبحانه، وعملوا الصالحات التي أمروا بها بالتمكين في الأرض والاستخلاف. قال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور:55]، فهذه ثلاثة أشياء وعد الله عز وجل بها هاهنا: الاستخلاف في الأرض، فيعطيهم الله عز وجل الحكم فيحكمون بشرعه سبحانه وتعالى، فقد آمنوا وعملوا الصالحات وتربوا على العقيدة الصحيحة وعلى العمل الصالح، فاستحقوا أن يسودوا العالم، وأن يحكموا غيرهم، فوعدهم بالاستخلاف، ووعدهم بأن يمكن لهم هذا الدين العظيم الذي ارتضاه لهم. قال تعالى: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} [النور:55]، والخطاب هنا لأصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه، فقال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} [النور:55]. والمعنى: أنه سيعجل لكم هذا ما استمسكتم بدين الله، وما استمسكتم بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولن يؤخره عنكم، وكان وعد الله الحق سبحانه وتعالى، فرأى الصحابة ذلك مباشرة، فهم أولى الناس بأن يستخلفوا، ولذلك خير القرون وأحبها إلى الله عز وجل هم قرن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم الصحابة الذين رباهم النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه على هذا الدين العظيم. قال: (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم). فإذا كان الله عز وجل وعد المؤمنين فالوعد عام، فإذا نص على هؤلاء فالوعد عاجل في التنفيذ: أنه يا من أنتم آمنتم بالنبي صلى الله عليه وسلم، وابتليتم وتعبتم وأوذيتم في سبيل الله عز وجل سنمكن لكم، فكان الوعد من الله عز وجل، وكان التنفيذ في حياة النبي صلوات الله وسلامه عليه، والله لا يخلف الميعاد. فأخبر هنا أنه ليستخلفنهم فكانت الخلافة للنبي صلى الله عليه وسلم، فحكم بدين رب العالمين، وجاء الخلفاء الراشدون من بعده فحكموا بشرع الله، ومكن الله عز وجل لهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في وعده للمؤمنين: (والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون). فالآية وعد من الله عز وجل، والحديث وعد من النبي صلى الله عليه وسلم بوحي من الله سبحانه وتعالى. وهذا الحديث في صحيح مسلم وفيه: أن الله سيتم هذا الأمر بعدما كانوا في ضعف، وفي قلة، وفي ذلة، وفي خوف، وفي أذى من الكفار، فالله يعدهم أن سنمكن لكم وستكونون أقوياء، وسيسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله سبحانه، يعني: أنه في غاية الأمان وليس خائفاً من أحد إلا الله سبحانه وتعالى، والذئب على غنمه وهذا خوف الطبع، فإذا كان معه غنم فهو ليس خائفاً من أحد أن يسرقها؛ فبالإسلام استتب الأمن والأمان، لكنه يخاف الخوف الجبْلي الطبعي: أن الذئب يأكل الغنم. وحدث مثل هذا الأمن في يوم من الأيام، بل وفي أعوام كثيرة طالت واستقر الأمن وحدث وعد الله سبحانه وتعالى للمؤمنين، وذلك لما فعلوا ما أمر الله عز وجل به، فقال: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:55] يعني: المؤمنين السابقين قبلهم من بني إسرائيل وغيرهم قد استخلفهم الله سبحانه، قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ} [القصص:5]. فمنّ عليهم وجعلهم -بعدما كانوا عبيداً- سادة، وبعدما كانوا مقهورين أذلة جعلهم منصورين أعزة، والفضل بيد الله تبارك وتعالى. قال تعالى: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} [النور:55]، فدين الإسلام في أيام مكة لم يكن ممكناً له، فكان المشركون يؤذون المؤمنين، ويؤذون النبي صلوات الله وسلامه عليه، ولكن لما هاجر النبي إلى المدينة، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، مكن له ربه سبحانه وتعالى، أي: نصره، وجعل له المكانة في الأرض. قال تعالى: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور:55]. وهو الخوف الذي كانوا فيه من المشركين ومن أذى الكفار، والخوف الذي كانوا فيه من غيرهم، فالله عز وجل يذكر أنه سيبدل هذا الخوف إلى الأمن والأمان بالقوة التي يعطيهم الله عز وجل، وبالعلم والعزة التي يعزهم الله عز وجل بها، بالضعف الذي يصيب أعداءهم، وكيف نصر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نصرت بالرعب مسيرة شهر)، فكان من جنود النبي صلى الله عليه وسلم التي جعلها الله عز وجل ليمكن له الرعب في قلوب المشركين. قال تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [آل عمران:151]. إذاً: فالإنسان الكافر المشرك يجعل الله عز وجل في قلبه الرعب والخوف، فإذا به يخاف من النبي صلى الله عليه وسلم، ويخاف من المؤمنين، وهذا من تمكين الله عز وجل لدينه. والنصر له أسباب مادية، وأسباب معنوية، فمن أسبابه المادية قال الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60] , وقال: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [الأنفال:66]. إذاً: فالقوة المادية: هي قوة السيف، وقوة العدد. وقوة الإيمان في قلوب المؤمنين من القوى التي يجهز المؤمنين أنفسهم بها، فالمؤمن يؤمن بالله، ويثق في نصر الله، والله يزيده إيماناً، ويزيده قوة، ويجعل قلبه ثابتاً، قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27]، فيربط على قلوب المؤمنين ويجعلهم في ثبات ولا يخافون ولا يبالون بأعدائهم. والكافر يجعل الله عز وجل الخوف في قلبه، فأقل شيء يفزعه ويخيفه، ولذلك أخبرنا عن بني إسرائيل فقال: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} [الحشر:14]. أي: لا يجتمعون لقتالكم وأنتم جيش وقوة، فهم يخافون منكم، إلا إذا فقدتم أسباب النصر فلم توجد قوة عندكم: لا قوة بدنية، ولا قوة عقدية، ولا قوة معنوية، فعندئذ يبتدئ الكافر يتحرش بكم. فأهل الكتاب يخافون من المؤمنين، وقد جعل الله بأسهم بينهم شديداً طالما كان المؤمنون متمسكين بعهد الله سبحانه وبدينه، فالله يلقي في قلوب الذي كفروا الرعب، قال سبحانه: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ} [الحشر:14]. إذاً: لما يكون عندهم حصون، وأما وجهاً لوجه فيخاف إذا كان المؤمن في قوة، وعنده جيش، وعنده سلاحه. ولذلك ترى هؤلاء بدباباتهم وبمدافعهم يجرون وراء الصبيان الذي يحذفوهم بالحجارة في فلسطين، فهو يخاف أن يجري وراءه بحجر مثله، لكنه يجري وراءه بمدفع، فهذا يحذفه بحجرة، وهذا يرميه بالرصاص، فطالما هو في دبابته فهو متحصن بحصنه وسيقاتل، قال الله تعالى: {أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} [الحشر:14] أي: من وراء سواتر، أو من وراء جدار، لكنه يخاف من المواجهة وذلك مما جعل الله عز وجل في قلبه من رعب ومن خوف. قال الله سبحانه للمؤمنين: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور:55]. فتبديل الخوف الذي أنت فيه أمناً هو من الله سبحانه، ويقلب الأمر على هؤلاء الكافرين، فالكافر مستقر في نفسه أنه سينتصر، فيزعزع الله عز وجل هذا في قلبه، ويزلزل قدمه، ويبعد عنه أسباب النصر، ويهزمه سبحانه وتعالى، ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] أي: أنت أخذت بالأسباب وأنت ترمي، فعليك الرمي فقط، والذي يوصل هذا الشيء ويجعله يصيب ويجعله يقتل هو الله سبحانه وتعالى. فالله يطمئن المؤمنين ويقول: {أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال:12]، فلا تخف من الكافر، واقدم عليه واقطع رقبته ويده والله معك. هذا إذا استمسك المؤمنون بدين رب العالمين سبحانه يمكنهم وينصرهم.

القراءات في قوله تعالى: (وليبدلنهم)

القراءات في قوله تعالى: (وليبدلنهم) قال تعالى: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور:55] هذه قراءة الجمهور: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ} [النور:55]. وقراءة ابن كثير، وشعبة عن عاصم ويعقوب: ((وليبدِلنهم من بعد خوفهم أمناً)). فيبدل الخوف الذي في القلوب أمناً وأماناً، وهذا الوعد من الله عز وجل له شروط، قال سبحانه: {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55]، إذاً: فالمؤمن يعبد الله سبحانه ولا يشرك به شيئاً، وكأنه يقول: أنتم أيها المؤمنون طالما تمسكتم بدين رب العالمين، وكنتم تعبدون الله ولا تشركون به شيئاً: لا شركاً أكبر يخرجكم من الملة، ولا شركاً أصغر، ولا شركاً خفياً، فلكم الاستخلاف والنصر. والشرك الأكبر أن يعبد الإنسان وثناً أو حجراً، أو يطلب من غير الله ما لا يطلب إلا من الله سبحانه وتعالى، أو يتوكل على غير الله ولا يتوكل على الله سبحانه، فهذا من الشرك الذي يخرج صاحبه من الملة. والشرك الأصغر كأن يقول: لولا السلاح الذي في يدي لما انتصرت، وينسى الله سبحانه وتعالى. والشرك الخفي في قلب الإنسان كالرياء والسمعة، كأن يقول: نحن ذاهبون إلى القتال وسنعمل كذا، وكأنه هو الذي يفعل وينسى الله سبحانه وتعالى. فإذا انتفى ذلك عن قلب الإنسان المؤمن وكان صادقاً مع الله، وأخلص لله كان الله معه ينصره سبحانه. قال: {يَعْبُدُونَنِي} [النور:55] أي: يتوجهون بالعبادة إلي وحدي، فالمؤمن حين يجد نفسه قد ضاقت به السبل وقد اعتاد أن يقول: يا رب، ففي وقت الضيق ينصره الله سبحانه وتعالى. وأما إذا ضاق عليه الأمر وابتلي فدعا: يا سيدي فلان، يا وليي فلان، يا فلان، فيسأل غير الله سبحانه فقد أشرك بالله، وإن زعم أنه على الإسلام. وكذلك إذا نسي الله، ونسي التوكل على الله سبحانه، وبدأ يتوكل على الخلق، فيتوكل على فلان أن يمده بسلاح، ويتوكل على فلان أنه ينصره ويكون معه في وقت الذل، وينسى الله سبحانه وتعالى، فهنا يتخلى عنه ربه. فالتوكل على الله: أن تجعل الله وحده وكيلك الذي يقوم بأمرك، وهو الذي يدبر أمرك. فالإنسان المؤمن توكله على الله، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير: تغدوا خماصاً، وتروح بطاناً). فلو أن المؤمن يتوكل على الله حق التوكل ثقةً بالله سبحانه وتعالى، ويأخذ بالأسباب، فالله يكون معه، وينصره سبحانه وتعالى. فهذا وعد من الله سبحانه، وقد جاء في حديث تميم الداري الذي رواه الإمام أحمد في مسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر) وكان تميم الداري رضي الله عنه يقول: قد عرفت ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز، ولقد أصاب من كان منهم كافراً الذل والصغارة والجزية. والحديث إسناده صحيح. قال هنا: (ليبلغن هذا الأمر)، ليبلغن: فعل مضارع مسبوق باللام المؤكدة، ومنتهي بالنون المثقلة المؤكدة، فهو جواب لقسم، كأنه يقول: والله ليبلغن هذا الأمر، يعني: هذا الدين العظيم، سيبلغ ما بلغ الليل والنهار، وهذا من جوامع كلمه صلوات الله وسلامه عليه، ومن محاسن التشبيه العظيم، فالإسلام يبلغ ما بلغ الليل والنهار، إذ الليل والنهار يدخلان كل البيوت، فكذلك هذا الدين العظيم لابد وأن يبلغ جميع بقاع الأرض يوماً من الأيام. وهذا وعد من الله سبحانه وتعالى على لسان رسوله صلوات الله وسلامه عليه، كما يأتي الليل على الجميع، ويأتي النهار على الجميع فسيأتي هذا الدين على الجميع، قال: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر) المدر: الطوب، والوبر: الشعر. فبيوت الخيام في الصحاري، وبيوت الطوب والأبنية في البلدان والقرى كلها سيدخلها هذا الدين يوماً من الأيام. قال: (إلا أدخله الله هذا الدين) يدخله هذا الدين وإن أبى المشركون. قال صلى الله عليه وسلم: (بعز عزيز، أو بذل ذليل) يعني: إنسان يعزه الله عز وجل بهذا الدين، أو إنسان آخر يرفض هذا الدين فيذله الله سبحانه وتعالى برفضه إياه، حتى يدخل هذا الدين كل البيوت. قال: (عزاً يعز الله به الإسلام وأهله، وذلاً يذل الله به الكفر وأهله). فهنا وعد من الله سبحانه وقد تحقق شيء من هذا الوعد، وجاء دين الله عز وجل ودخل الناس فيه أفواجاً، وانتشر في بقاع الأرض، ولكن بهذه الصورة التي في هذا الحديث سيكون يوماً من الأيام؛ فإن الله لا يخلف الميعاد، ولم يحدث أن الدين دخل جميع البيوت فأسلم جميع الناس، ولكن سيكون بهذا الوعد الذي في هذا الحديث يوماً من الأيام يعز الله عز وجل هذا الدين كما كان قبل ذلك وأكثر من ذلك، فيدخل الجميع فيه، وذلك حين ينزل المسيح صلوات الله وسلامه عليه، فيحكم الناس ليس بالتوراة ولا بالإنجيل، ولكن يحكمهم بهذا القرآن، ويكون إمام المسلمين من المسلمين، فيصلي بهم ويتأخر للمسيح عليه الصلاة والسلام حتى يتقدم، فيقول المسيح: لا إمامكم منكم. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المسيح عليه الصلاة والسلام ينزل فيضع الجزية -يعني: يمتنع من أخذها- فلا يقبل إلا الإسلام، ويقتل الخنزير، ويكسر الصليب)، فلا يكون في الدنيا إلا هذا الدين العظيم. قال الله عز وجل:: {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55] فهذا شرط، والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، فإذا كانت حياة المؤمن ظاهراً وباطناً، قولاً وعملاً، كلها فيما يحبه الله عز وجل، استحق أن ينصره الله وأن يمكن له. قال: {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ} [النور:55] أي: بعدما ذاق حلاوة الإيمان، وعرف ربه سبحانه، قال: {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55]. والفسق هنا: الفسق الأكبر بمعنى: الخروج من دين رب العالمين سبحانه، وأصله من فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرتها، فكذلك هؤلاء بعدما دخلوا في دين الله عز وجل لم ينالوا منه شيئاً كفروا بالله، ففسقوا فخرجوا عن دين الله، وخرجوا عن طاعته، فلا يضرون إلا أنفسهم، قال: {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55] بمعنى: الفسق الأكبر، فالكفر منه أكبر مخرج لصاحبه من الملة، ومنه أصغر. والظلم منه ظلم أكبر، ومنه ظلم أصغر. والفسق منه فسق أكبر وفسق أصغر، فهنا الفسق المقصود به الكفر برب العالمين، والخروج من هذا الدين. نسأل العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة النور [56 - 59]

تفسير سورة النور [56 - 59] لقد أمر الله سبحانه عباده المؤمنين بإقامة الصلاة، وهي عبادة لله وحده لا شريك له، وإيتاء الزكاة، وهي الإحسان إلى المخلوقين ضعفائهم وفقرائهم، وأن يكونوا في ذلك مطيعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لعل الله يرحمهم بذلك. وذكر سبحانه أحكام استئذان الأقارب بعضهم على بعض، فأمر الله المؤمنين أن يستأذنهم خدمهم مما ملكت أيمانهم وأطفالهم الذين لم يبلغوا الحلم منهم في ثلاثة أوقات: ألأول: من قبل صلاة الغداة، والثاني: وقت القيلولة، والثالث: بعد صلاة العشاء، وفي غير هذه الأوقات لا جناح عليهم في الطواف على بعضهم البعض.

تفسير قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون)

تفسير قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور:56]. لما وعد الله سبحانه وتعالى المؤمنين الذين يعبدون الله سبحانه ولا يشركون به شيئاً أن يمكن لهم في الأرض، وأن يستخلفهم، وأن يبدل خوفهم أمناً، أمرهم بعد ذلك بأن يقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ويطيعوا الرسول صلوات الله وسلامه عليه؛ لعلهم يرحمون، فالوعد من الله عز وجل بالتمكين في الأرض، والوعد من الله سبحانه وتعالى بالرحمة في الدنيا وفي الآخرة، إذا كان المؤمنون على صلاح وعلى حسن عبادة لرب العالمين، فإذا فعلوا ذلك استحقوا الاستخلاف والتمكين، وأن يؤمنهم الله عز وجل في الدنيا، وكذلك استحقوا أن يرحمهم الله عز وجل يوم القيامة. فهنا استحقاق الرحمة كان بما قال: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور:56]، فخصص عبادات ثم عمم الطاعة، فهنا خصص العبادة البدنية والعبادة المالية بالذكر، فالعبادة البدنية: الصَّلاة، وهي أفضل العبادات البدنية، والعبادة المالية: الزكاة، فعلى صاحب المال أن يؤدي ما فرضه الله عز وجل عليه، فإذا كان عنده نصاب من أي نوع من أنواع الأموال التي فيها الزكاة وحال عليه الحول وجب عليه أن يؤدي زكاة ماله. قوله: ((وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ))، إن إقامة الصلاة ليست مجرد الأمر بالصلاة، وإنما هي أن تستقيم فيها، ولا تتلهى عنها، ولا تسهو فيها، بل تقيم الصلاة على النحو الذي أمرك به ربك سبحانه، والذي وضحه لك النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب). وكذلك أمر في الصلاة بقوله: (اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً)، فيطمئن الإنسان في صلاته، وليكن مقبلاً على الله سبحانه فيها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صل صلاة مودع) أي: لا يظن أن يصلي غيرها، فأنت تقوم في الصلاة على الهيئة التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم، وبالخشوع الذي أمرت به، فإذا أقمت الصلاة كما أُمرت نهتك عن الفحشاء وعن المنكر، وكذلك الزكاة تبعد عنك شح النفس الذي خلق في الإنسان. قوله: ((وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ))، وقد ذكر ربنا سبحانه في غير هذه الآية: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء:59]، وقال في آية أخرى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [آل عمران:132]، وقال في الآية الأخرى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]، فطاعته صلى الله عليه وسلم طاعة لله سبحانه وتعالى، فأمر وقال: ((وأَقِيمُوا الصَّلاةَ)) أي: على الهيئة التي أمرتم بها، ((وَآتُوا الزَّكَاةَ)) أي: على ما فرض الله عز وجل عليكم، ((وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ)) أي: فيما يأمركم به عليه الصلاة والسلام، وكل ما نهاكم عنه تنزجرون عنه. قوله: ((لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)) هذا وعد من الله عز وجل، وهو لا يخلف الميعاد، فإذا قال: لعلك ترحم فيقيناً سيرحمك، لكن إذا أتيت بهذا الشرط الذي ذكره لك، فرحمة الله عز وجل عظيمة وواسعة، وأخبر عنها بقوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف:156]، هذا وعده سبحانه أنه يكتب هذه الرحمة {لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [الأعراف:156 - 157] أي: بكل معروف، {وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ} [الأعراف:157] يعني: عن كل منكر، {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:157]. إذاً: هنا ربنا سبحانه جعل المطيعين من المؤمنين هم المرحومون وأهل الرحمة، وهم المفلحون يوم القيامة.

تفسير قوله تعالى: (لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض)

تفسير قوله تعالى: (لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض) قال الله تعالى: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [النور:57]، قوله: ((لا تَحْسَبَنَّ))، جاءت بالخطاب وجاءت بالغائب، فقوله: ((لا تَحْسَبَنَّ))، هي قراءة عاصم وقراءة أبي جعفر، أي: يقول هنا للنبي صلى الله عليه وسلم: لا تظن ولا تحسب أن هؤلاء المشركين يعجزون الله سبحانه وتعالى في الأرض. وأما قراءة ابن عامر وقراءة حمزة: (لا يحسَبن الذين كفروا معجزين في الأرض)، وقراءة باقي القراء: (لا تحسِبَن الذين كفروا معجزين في الأرض)، ففي كل القرآن يقرأ: (تحسَب) عاصم وابن عامر وحمزة وأبو جعفر بفتح السين، وأما باقي القراء فيقرءون (تحسِب) بالكسرة. إذاً: أربعة يقرءونها في كل القرآن: (تحسَب) أو (يحسَب) أو (تحسبَن) أو (يحسبَن)، كلها بفتح السين، وهؤلاء هم: ابن عامر وعاصم وحمزة وأبو جعفر، وأما باقي القراء فيقرءون هذه الألفاظ كلها: (تحسِب) و (يحسِب) و (تحسِبن) و (يحسِبن) بكسر السين. قوله: (لا تحسبن) هي على الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي تنصب مفعولين، فقوله: ((لا تَحْسَبَنَّ)) أي: هؤلاء الكفار، ((مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ)) أي: لا تحسب أنت، فهنا الفاعل هو النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: (الذين كفروا) هذا المفعول الأول، وقوله: ((مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ)) هذا هو المفعول الثاني لتحسب. والقراءة على الغائب: (لا يحسبَن) قراءة ابن عامر وقراءة حمزة وقراءة إدريس عن خلف، والمعنى: لا يحسبَن الذين كفروا أنفسهم يعجزون الله سبحانه وتعالى في الأرض، فهنا قوله: أنفسهم هو المفعول الأول، و (مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ) هو المفعول الثاني. قوله: ((لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ)) أي: ومعاجزين، يقال: أعجزت الإنسان أو أعجزت الرجل أن يدركني، يعني: بحيث لا يقدر عليه ولا يقدر أن يأتي به، فهؤلاء الكفار وصل غرورهم أن يظنوا أنهم يعجزون الله عز وجل، وأن ربنا لا يقدر عليهم، فهو قال لهم: لا تظنوا هذا الشيء، فأين تذهبون من الله عز وجل والأرض أرضه، والسماء سماؤه؟ فلا ملجأ من الله إلا إليه، فلا يحسبون أنفسهم أنهم معجزون لله عز وجل، وفائتون من الله سبحانه وتعالى في الأرض. قوله: ((وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ)) أي: أنهم لا يفلتون من الله عز وجل، وأنهم إذا ماتوا سيجمعهم من الأرض مهما تفرقوا فيها، وانظروا إلى ذلك الإنسان الذي أمر بنيه وقال: (إذا مت فاحرقوني، ثم اسحقوني، ثم انظروا يوماً شديداً ريحه فذروني في البر والبحر، إن الله إن يقدر علي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين). فهنا الإنسان ظن أنه إذا عمل هذا الشيء فلن يفلت من الله عز وجل، فأين يذهب من الله عز وجل؟ فالأمر يسير عليه جداً سبحانه، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا} [المرسلات:25] أي: جامعة لما فوقها في الحياة وبعد الممات، فلما مات هذا الإنسان وذروه في البر والبحر جاء أمر الله عز وجل يوم القيامة: يا أرض هاتي ما كان فيك منه، فجمعته الأرض، ويا بحر هات ما كان فيك فاجتمع الرجل، فأحياه الله عز وجل وسأله يوم القيامة، والحديث معروف. والمقصود أن الإنسان لا يغتر ولا يظن أنه يعجز ربه سبحانه وتعالى، فمهما هرب فالله عز وجل يأتي به، فليتأدب المرء مع ربه سبحانه، وليحسن الظن بالله عز وجل، وليفعل الطاعات، وليعلم أنه مهما هرب فإن الله آت به، ثم يكون مأوى هؤلاء الذين يهربون من الله عز وجل نار جهنم. قال تعالى: ((وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ)) فهذا مصير بئيس وفظيع لهؤلاء، فبئس المكان مكان هؤلاء، وما صاروا وذهبوا إليه يوم القيامة وهو النار.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم) يأمر الله عز وجل المؤمنين بأدب من الآداب الشرعية العظيمة فيقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور:58]، وهذه الآية في الاستئذان الخاص، والآية السابقة كانت في الاستئذان بعمومه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27] أي: في أي بيت غير بيتك لا تدخل حتى تستأذن وتستأنس، فإذا كان في بيتك فهناك ثلاثة أحوال لا بد من الإذن فيها، فخصص هنا وقال: ((لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ)) أي: العبيد الذين تملكونهم في بيوتكم، وكذلك {والَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} [النور:58] أي: الأطفال الصغار، والطفل متى فهم ووعى وعرف العورة واستحيا منها فإنه يؤمر بالاستئذان، ولذلك قال الزهري حين سئل عن عُمْر هذا الذي يستأذن؟ فقال: أربع سنوات، يعني في هذا السن يعرف العورة، وإذا نظر يستحي من هذا الشيء، فعلى ذلك يعلم الصبي أنه لا يفتح الباب ولا يدخل على أبيه وأمه إلا بعد أن يستأذن، فيعلَّم في هذا السن. والصبي ليس مكلفاً ولذلك أمر الله عز وجل المؤمنين بقوله: ((لِيَسْتَأْذِنْكُمُ)) أي: ليستأذنوكم أنتم لكن لا يأثم إن دخل دون استئذان وإنما هو تعويد حتى لا ينظر إلى شيء يتأذى به ولا يفهمه، فقد يدخل الصبي الصغير ويفتح الباب ويجد الأب يجامع الأم، فهذا منظر بالنسبة له يجعله يتحير فيه، ولعله يمرض بسببه، وكم رأينا من أصيب بعقدة نفسية في حياته من صغره بسبب أنه نظر لشيء لا يفهمه، لذلك ربنا سبحانه وتعالى يؤدب المؤمنين ويؤدب الصغار والكبار ويعلمهم أن الصغير يستأذن طالما أنه يعقل ويفهم ذلك، فإذا أراد أن يدخل باباً مغلقاً فيه الأب أو فيه الأم، أو فيه الأخ، أو فيه الأخت فإنه يستأذن في هذه الأوقات الثلاثة؛ لأن هذه الأوقات هي مظنة أن يكون الإنسان فيها عارياً، فقال سبحانه: ((لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثلاث مرات)) يعني: الأطفال الصغار الذين يفهمون العورات، يستأذنون ثلاث مرات، وهنا المقصد أن يستأذنوا في الأوقات الثلاثة التي سيأتي بيانها، وليس المعنى أنه يستأذن ثلاث مرات ويقول: أأدخل؟ أأدخل؟ أأدخل؟ لا؛ لأن بقية الآية يوضح مقصد الله سبحانه وتعالى من الثلاث المرات، فقال تعالى: ((مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ))، فهذه هي الأوقات الثلاثة التي الغالب فيها أن الإنسان وخاصة في الحر يدخل غرفة نومه، ويخلع ثيابه، فلعله ينام وليس عليه إلا ما يستر العورة المغلظة فقط. وإذا كان الصغير الذي هو غير مكلف ومرفوع عنه القلم ومع ذلك هو مأمور بأن يستأذن، ومأمور الولي أن يعلمه أن يستأذن فكيف بالبالغ الكبير؟! قال سبحانه وتعالى: ((مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ)) يعني: هذه الأوقات الثلاثة أوقات قد تنكشف فيها عوراتكم وأنتم نائمون أو مستيقظون، ((ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ)) يعني: هي ثلاث عورات لكم، فهنا المبتدأ محذوف، والخبر فيها (ثلاثُ) على قراءة الجمهور، وأما شعبة عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف فقرءوا: (ثلاثَ عورات لكم) يعني: كأن هذه الأوقات أوقات عورات لكم. فقوله: ((ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ)) أي: حرمنا على الإنسان فيها أن يفتح باباً مغلقاً في هذه الأوقات حتى يستأذن مَن بداخلها، ((لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ)) أي: ليس عليكم أنتم أن تفتحوا باباً في بيتكم، فيدخل بعضكم على بعض، لكن في الماضي كانت الغرف ليس لها أبواب، وإنما عليها ستور، فكان الواحد يفتح ستره ويدخل بسهولة، فالله عز وجل علم أدب الاستئذان سواء الستر موجود أو الباب مغلق، ففي غير هذه الأوقات عادة الإنسان أنه يلبس فيها ثيابه، فلا بأس أن يدخل بعضهم على بعض، إلا أن يكون الباب مغلقاً، فإذا كان الباب مغلقاً فلا أحد يفتح باباً ويدخل فيه؛ لعل إنساناً يبدل ثيابه، ولعله يكون متعرياً، فطالما أن الباب مغلق فإن عليه أن يستأذن. إذاً: في هذه الأوقات الثلاثة قد يكون الباب مفتوحاً بالليل مثلاً وعليه ستارة، ويكون وراء الستار الرجل مع امرأته أو نحو ذلك، فنهى عن الدخول فيها دون استئذان؛ لأن هذه الأوقات مظنة انكشاف العورة. قال سبحانه: ((لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ))، فهنا الخطاب في قوله (عليهم) للعبيد الذين ملكت أيمانكم، وأما الأطفال الصغار فليس عليهم إثم أصلاً، وإنما الإثم على الكبير البالغ. وقوله: (جناح) يعني: إثم قوله: ((طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ)) يعني: يطوف بعضكم على بعض؛ لأن العادة في بيت الإنسان أن أبواب الغرف تكون مفتوحة، ويدخل من مكان إلى مكان ويتحرك براحته في بيته، ولكن في هذه الأوقات يراعي الإنسان أن يستأذن حتى لا ينظر إلى أمه أو إلى أبيه وهما على حال لا ينبغي أن ينظر إليهما فيه. فقوله: ((طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ)) يعني: في سائر الأوقات، قوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ} [النور:58] يعني: كهذا البيان العظيم الواضح، فالله عز وجل يوضح لكم دينكم ويوضح لكم آدابكم، فهو سبحانه لا يستحيي من الحق، فعلى ذلك هنا تأمر ابنك أن يستأذن، وتعلمه أدب الاستئذان من صغره، حتى يتعود على ذلك، فإذا كبر لا يفتح باباً مغلقاً أبداً حتى يستأذن مَن بداخل هذا المكان. قال سبحانه: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} [النور:58] أي: بما تحتاجون إليه وبما ينفعكم، {حَكِيمٌ} [النور:58] في أمره سبحانه، فكل ما يأمر به مبناه على حكمته سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا)

تفسير قوله تعالى: (وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا) قال تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور:59]. يعني: هذا الطفل الصغير إذا كان يعود على الاستئذان، فإنه حين يبلغ الحلم من باب أولى أن يستأذن كما استأذن الكبار قبل ذلك، وإلا يكون عليه الإثم في ذلك. قوله: ((وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ)) أي: الاحتلام، وهي علامة البلوغ، ((فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ)) يعني: البيان واضح وليس بخفي {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور:59]، فإذا اتضح لك هذا البيان فلا يحل لك أن تفعل ما نهاك الله عز وجل عنه. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة النور [58 - 60]

تفسير سورة النور [58 - 60] أمر الله النساء بالحجاب والستر؛ صوناً لهن وحفاظاً عليهن، وأباح للقواعد منهن اللاتي لا يرجون النكاح أن يضعن بعض ثيابهن رفقاً بهن، وتيسيراً عليهن، ومراعاة لكبر سنهن، لكن ذلك بشرط ألا يتبرجن بزينة، ومع ذلك فإن الستر خير حتى للعجائز، والله أعلم بخلقه وما يصلحهم.

تفسير قوله تعالى: (والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا)

تفسير قوله تعالى: (والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحاً) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة النور: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور:60]. ذكر الله عز وجل آيات الاستئذان وأمر المؤمنين أن يستأذنهم الذين ملكت أيمانهم والذين لم يبلغوا الحلم منهم؛ حفاظاً على العورات، ودعوة إلى التستر في البيوت، فأخبر الله سبحانه وتعالى أن الذين هم في ملك اليمين وإن كانوا يدخلون على أهل البيت إلا أنهم في هذه الثلاثة الأوقات لا بد وأن يستأذنوا. وكذلك الأطفال الصغار الذين لم يبلغوا الحلم عليهم أن يستأذنون في هذه الأوقات الثلاثة: من قبل صلاة الفجر، وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة، ومن بعد صلاة العشاء؛ لأن هذه ثلاث عورات، فيضع الرجل والمرأة الثياب في هذه الأوقات؛ للنوم والراحة. وقوله تعالى: {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النور:58] أي: في البيوت يطوف بعضكم على بعض، ويخرج هذا من مكان ويدخل في مكان آخر، ولكن هذه الأوقات لا بد من الاستئذان عند الدخول. ثم ذكر بعد ذلك أن هؤلاء الصغار إذا بلغوا الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم، فقال: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:59]، إذاً: فالكبار يستأذن الرجل منهم على أبيه، وعلى أمه، ويستأذن على أخيه، وعلى أخته؛ لأنه إذا لم يستأذن فقد يفتح باباً ويرى عارياً مثلاً فيتأذى بذلك الرائي والمرئي، فأمر الله عز وجل بالاستئذان، فيعلم الصبي الصغير ويربى على ذلك، فإذا بلغ فلا يفتح باباً مغلقاً حتى يستأذن قبل الدخول. ثم قال الله عز وجل: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور:59]، فكرر المعنى للتأكيد أن الله عز وجل يبين آياته التي أنزلها من عنده سبحانه، ويبين أحكامها التي فيها حكمته العظيمة البالغة، وهي من علمه سبحانه، قال الله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور:59]. وذكر الله عز وجل أن المرأة يجب عليها أن تستتر، وأنه لا ينظر إنسان إلى شيء منها، ثم تكلم عن القواعد من النساء، والقواعد: جمع قاعد، والقاعد من النساء: المرأة الكبير العجوز، ولا يقال: قاعدة؛ لعدم وجود المذكر فيها، وأما قولهم: الرجل قائم، والمرأة قائمة فلوجود الوصف في الرجل وفي المرأة، فيحتاج لتاء التأنيث للتفريق بينهما، ولكن القاعد تكون عن الحمل، ولا يوجد رجل قاعد عن الحمل، فكلمة قاعد هنا ليست محتاجة لتاء التأنيث، إذاً فالقاعد من النساء هي المرأة الكبيرة في السن التي لا تشتهى، ولا يرجى من وراءها حمل إذا تزوجت، والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحاً، قالوا: هن العجز اللواتي قعدن عن التصرف في حوائجهن، وقعدن عن الولد والمحيض؛ بسبب كبر السن. وهذا قول أكثر أهل العلم، والمقصد أنها عجوز كبيرة لا يشتهى مثلها لزواج. {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور:60]، فلم يقل: ((فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن)) فقط، بمعنى وضع جميع الثياب، ولكن قيد ذلك بشرط وهو: {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور:60]، أي: لا زال هناك ثياب أخرى عليهن، فالمقصد هو التخفيف من بعض الثياب، فليس عليهن جناح أن يضعن من ثيابهن ويبقى عليهن ثياب؛ حتى لا يكن متبرجات، ولذلك قال: ((غير متبرجات بزينة))، وخص القواعد بذلك لانصراف الأنفس عنهن، فلا حاجة للرجال فيهن، فأبيح لهن ما لا يباح لغيرهن. إذاً: فالمرأة الشابة البالغة إلى أن تصل إلى سن القواعد قبل ذلك يجب عليها أن تستتر، والراجح أن تستر جميعها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المرأة عورة)، فتضع الخمار فوق رأسها، وتلبس الدرع، وهو القميص الذي تلبسه النساء، ثم تجعل الجلباب ساتراً فوقها، وهو العباءة تلبسها فتتغطى من رأسها إلى رجليها. وإذا كانت المرأة قاعداً فيجوز أن تترك العباءة التي تضعها النساء فوق الثياب، وتكتفي بالقميص والخمار الذي فوق رأسها وتستر به شعرها، فتلبس الثياب التي تستتر فيها، ولا تحتاج إلى لبس العباءة والجلباب. قال العلماء: إن الكبيرة في السن كالشابة في التستر، إلا أن الكبيرة تضع الجلباب الذي يكون فوق الدرع والخمار، والمقصود بالدرع: القميص الذي يسمى بالجلابية، والخمار هو الغطاء الذي تستر به رأسها ومنكبها ورقبتها. قال ابن مسعود وابن جبير: إن القاعد من النساء تضع الجلباب الذي يكون فوق الدرع. وقوله تعالى: {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور:60] أي: غير مظهرات زينة، والتبرج مأخوذ من البروج، والبروج جمع برج، والبرج يطلق على القصر، ويطلق على منازل الكواكب في السماء، والبروج كأنها منازلها والقصور التي تنزل فيها، وسميت البروج لكونها مضيئة ومزينة، ولذلك جعلها الله عز وجل زينة في السماء. فقوله: غير متبرجات، يعني: أن المرأة لا تبدوا أمام الرجال مظهرة زينتها بحيث تفتنهم بمنظرها، فغير متبرجات أي: غير مظهرات ولا متعرضات بالزينة لينظر إليهن، فإن ذلك من أقبح الأشياء وأبعدها عن الحق. إذاً كأن التبرج هو التكشف والظهور للعيون، ومنه قوله سبحانه: {بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78]، والمرأة الكبيرة لا تشتهى، فلا يجوز لها أن تزين نفسها بحيث تبدو أمام الناس في فتنة. قيل لـ عائشة رضي الله عنها: يا أم المؤمنين! ما تقولين في الخضاب والصباغ والقرط والخلخال وخاتم الذهب؟ فقالت: يا معشر النساء! قصتكن قصة امرأة واحدة، أحل الله لكن الزينة غير متبرجات، تعني: أن المرأة في بيتها تلبس الخلخال والخاتم وتتزين، ولكن الظهور بهذه الزينة أمام الرجال الأجانب ممنوع، فقالت: لا يحل لكن أن يروا منكن محرماً.

صنفان من أهل النار

صنفان من أهل النار إن التبرج شيء نهى الله عز وجل عنه، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه أشد النهي، ففي الصحيح عن أبي هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس) أي: ما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكونوا في عهده عليه الصلاة والسلام. الصنف الأول: هم الشُّرَط، وقوله: (قوم معهم سياط كأذناب البقر) أي: معهم كرابيج وسياط يضربون بها الناس، ويعذبوهم بها. والصنف الثاني: (ونساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)، فمن الكبائر التي تقع فيها المرأة هو تبرجها وإظهار زينتها، وتعريها للناس، فهذه من أشد النسا عذاباً يوم القيامة. يقول الإمام القرطبي: قال ابن العربي: إنما جعلهن كاسيات؛ لأن الثياب عليهن، وإنما وصفهن بأنهن عاريات؛ لأن الثوب إذا رق يصفهن. أي: أنهن يلبسن الثوب الرقيق، وفي الزمان الماضي لم يكونوا يعرفون البنطلونات ولا الثياب المحزقة ولا الشفافة، وإنما الذي يعرفونه هو أن المرأة إما أن تلبس جلابية ثقيلة أو خفيفة، والجلابية الخفيفة هي التي يتحدث عنها ابن العربي، فتكون رقيقة تصف المرأة إذا لبستها، ولو عاش ابن العربي إلى هذا الزمان لذهل مما يراه بين الناس ولا حول ولا قوة إلا بالله. يقول الإمام القرطبي: هذا أحد التأويلين. التأويل الثاني: أنهن كاسيات من الثياب عاريات من لباس التقوى، أي: أنها لابسة للثوب وليس عندها تقوى، فالذي كان في زمنهم هو أن المرأة إذا خرجت عارية تكون مكشوفة وليست كاسية عارية، ففسروا الكاسية العارية بأنها كاسية بالثوب عارية من التقوى، ويستشهد له بقول الشاعر: إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى تقلب عرياناً وإن كان كاسيا وخير لباس المرء طاعة ربه ولا خير فيمن كان لله عاصيا كما يحتج له بما في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قمص، منهم ما يبلغ الثدي ومنهم ما يبلغ دون ذلك، ومر عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره، قالوا: ماذا أولت ذلك؟ -أي: الثوب- قال: الدين)، فكأن القرطبي رحمه الله يقول: إن هؤلاء النساء كاسيات من الثياب عاريات من الدين، وهذا الذي يمكن أن يفهم في الزمان الماضي. يقول القرطبي: هذا التأويل أصح التأويلين، وهو اللائق بهن في هذه الأزمان، وخاصة الشباب، فإنهن يتزين ويخرجن متبرجات، فهن كاسيات بالثياب عاريات من التقوى حقيقة ظاهراً وباطناً، حيث تبدي زينتها، ولا تبالي بمن ينظر إليها، بل ذلك مقصودهن، وذلك مشاهد في الوجود منهن، فلو كان عندهن شيء من التقوى لما فعلن ذلك، ولم يعلم أحد ما هنالك، هذا كلام القرطبي رحمه الله. يقول: مما يقوي هذا التأويل: ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في وصفهن في باقي الحديث: (رءوسهن كأسنمة البخت المائلة) أي: أن المرأة منهن تلبس طُرحة بعد أن لفت شعرها وجعلته بارزاً يظهر من تحت الخمار، ومنه ما يسمى في زماننا بالكعكة. وما ذكر في الحديث موجود في هذه الأيام، فالمرأة تمشي متبرجة، وفوق رأسها لفات كبيرة من الشعر، وتذهب إلى الكوافير؛ حتى تتزين للناس، وتمشي كاسية تلبس ثياباً رقيقة، وتبدي ما تحتها، بل تكشف صدرها، ويدها، ورجلها، وفخذها، وتلبس البنطال الضيق الذي يرى منه كل جسمها، فمن فعلت ذلك فهي من أشد الناس عذاباً يوم القيامة، وهي من الملعونات، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (العنوهن إنهن ملعونات)، وهذا على العموم، ولا يخص واحدة دون أخرى. فكل من فعلت ذلك فهي منحرفة بعيدة عن دين الله سبحانه، وعن شرع رب العالمين بتبرجها، وداعية إلى الفتنة والفحش ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رءوسهن كأسنمة البخت) البخت: نوع من أنواع الجمال، عظام الأجسام، ضخام الأسنمة، فقوله: (رءوسهن كأسنمة البخت المائلة) أي: أنهن يقمن بلف شعورهن وجمعها في مكان فوق الرأس، ومن يرى ذلك يعلم أن الشعر قد لف بطريقة معينة تلفت الأنظار. وقوله: (لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا) يعني: الذي لم يدخل الجنة قد يشم رائحتها من مسيرة مئات السنين، وهذه لن تدخل الجنة ولن تشم رائحتها.

خير النساء وشر النساء

خير النساء وشر النساء يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البيهقي عن أبي أذينة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير نسائكم الودود الولود، المواتية المواسية إذا اتقين الله)، فهي ودود فيها مودة ومحبة مع زوجها وأهلها، وولود: لها أولاد، والمواتية: المطيعة لزوجها، فهي امرأة ذات حنان ورقة وطاعة لزوجها، فهي مواتية وليست مخالفة. وأما المرأة التي تتبنى مبدأ: خالف تعرف، فتخالف زوجها وتعارضه ولا تطيع أوامره فليست من خير النساء، بل هي من شر النساء. والمواسية: هي التي تواسي الزوج بنفسها وبطيب كلامها، ففيها رحمة ورأفة، فهذه من خير النساء، وهذه الصفات قد توجد في المرأة المسلمة، أو قد توجد فيها الكثير من هذه الصفات، ولكنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا اتقين الله)، فإذا كانت المرأة مؤمنة تتقي ربها سبحانه وتعالى فهي من خير النساء. ثم بدأ صلى الله عليه وسلم بالمتبرجات، فالمتبرجة أشر امرأة على الأرض، فقال: (وشر نسائكم المتبرجات المتخيلات) من الظهور وتحسين الخلقة، فالمرأة المعجبة بنفسها، والمهتمة بزينتها، والتي تحب أن تفتن الناس بمنظرها وجمالها: متخيلة، ويقال: الروضة متخيلة، أي: روضة نضرة، فكذلك المرأة التي تريد أن تبدي زينتها للناس، والأصل في المرأة ألا يرى جمالها إلا زوجها، وأما أن تبيح نفسها للناس -ولا حول ولا قوة إلا بالله- فهذا لا يجوز، ولعلها في بيتها لا تتزين لزوجها ولا تلبس له، فإذا خرجت تزينت لغير أهلها، فهذه شر النساء (المتبرجات المتخيلات)، وهن المنافقات اللاتي قل إيمانهن. وهذا النفاق قد يكون نفاقاً أكبر مخرجاً من الملة وذلك إذا استحلت التبرج، وزعمت أنه لا دليل على إن التبرج حرام، وأنه مسألة شخصية مزاجية، فتنكر فرضية الحجاب، وتنكر ما أمر الله عز وجل به من استتار المرأة، فهذه أنكرت ما هو معلوم من الدين بالضرورة، فتكون بذلك كافرة، ونفاقها نفاق أكبر مخرج من دين رب العالمين. وأما من اعتقدت أن التبرج حرام إلا أنها تفعله فنفاقها من النفاق العملي، والأولى والثانية لا يدخلن الجنة كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا يدخل الجنة منهن إلا مثل الغراب الأعصم)، فالغربان بيضاء وسوداء، وهذا فيهن كثير، لكن الغراب الأعصم صاحب المنقار الأحمر والذي رجلاه حمروان نادر في الغربان، فكذلك لا يدخل الجنة من هؤلاء إلا النادر منهن ولا حول ولا قوة إلا بالله.

التحذير من فتنة النساء

التحذير من فتنة النساء جاء في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيكون في هذه الأمة ما كان في بني إسرائيل حذو النعل بالنعل، حتى لو كان في بني إسرائيل من يأتي أمه علانية والعياذ بالله لكان في هذه الأمة من يصنع ذلك، وانظروا إلى حال المسلمين الآن، وانظروا إلى المسلمات في تشبههن بالكافرين والكافرات، فالمرأة تتبرج ولا تبالي بدين ربها سبحانه، بل لا تعرف منه شيئاً، فلا تصلي ولا تصوم ولا تصنع شيئاً من الدين، ومن النساء من تسأل عن حكم الصلاة بالبنطلون؛ لأنها تريد أن تصلي مع الناس بالبنطلون الجنز، فتسأل عن شيء لا يجهله أحد، فالكل يعلم أن صلاتها باطلة، ولكن ذلك من الجهل بدين رب العالمين، وقد تسأل المرأة عن حكم الصلاة ورأسها مكشوف، وغير ذلك من الأسئلة التي تدل على جهل الناس بدين الله سبحانه. فعلى المسلمين أن يتقوا الله في نسائهم ويعلموهن أمور دينهن، ولا يتركوهن لمن يعلمهن التبرج. إن من المسلمين من يصلي وعلامة الصلاة على رأسه ولكنه يمشي مع ابنته في الشارع متبرجة، فإذا أمرته بالمعروف ونهيته عن المنكر قال لك: لا زالت صغيرة، وقد يكون عمرها عشرين سنة مثلاً، فلعلها لن تكون كبيرة في نظره إلا عندما تكون من القواعد، ولا حول ولا قوة إلا بالله. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الفرقان

تفسير سورة الفرقان [1 - 3] بدأ الله عز وجل سورة الفرقان بتنزيهه وتقديسه عن النقائص جل وعلا، ممتناً على عباده بإنزال القرآن على حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم، ومذكراً لعباده بأنه المالك للخلق وحده ولم يكن له شريك في الملك، الذي أحصى كل شيء وخلقه وقدره تقديراً؛ ولذا كان العجب من أولئك الذين عبدوا غيره من أصنام وأحجار لا تنفع نفسها فكيف ستنفع غيرها؟!

تفسير قوله تعالى: (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا)

تفسير قوله تعالى: (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الفرقان: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا * وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:1 - 6]. هذه السورة الخامسة والعشرون من كتاب رب العالمين سبحانه، وهي سورة الفرقان، وهي سورة من السور المكية، قيل: إلا ثلاث آيات منها فمدنية، والجمهور على أن هذه السورة مكية، قال ابن عباس: إلا قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان:68] إلى قوله سبحانه: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:70] قالوا: فهذه مدنية، وباقي السورة كلها مكية، والسورة فيها خصائص السور المكية، ففيها: ذكر الكفار ومطاعنهم على هذا القرآن العظيم وعلى النبي صلى الله عليه وسلم، وطعن هؤلاء في نبوته صلى الله عليه وسلم، وفيها الرد على مقالات هؤلاء وجهالاتهم. كذلك فيها: الرد على افترائهم على النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها ذكر صفات الله سبحانه وتعالى وعظيم قدرته، وفيها أيضاً أخلاق وصفات المؤمنين، وبيان كيف خلق الله عز وجل الإنسان والبحار والأرض، وجعل سبحانه وتعالى آيات لعباده في ذلك على ما يأتي التفصيل. وفيها أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، والسور المكية تهتم بأمر العقيدة، وذكر اليوم الآخر والجنة والنار، وفيها بيان صفات المتقين: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]، إلى غير ذلك من خصائص وصفات السور المكية. والسورة آياتها سبع وسبعون آية اتفاقاً ليس هناك خلاف بين أهل العلم.

معنى قوله: (تبارك)

معنى قوله: (تبارك) بدأها الله سبحانه وتعالى بقوله: {تَبَارَكَ} [الفرقان:1]، كما بدأ غيرها بقوله: {سُبْحَانَ} [الإسراء:1]، فتبارك الله بمعنى: تقدس سبحانه، وبمعنى: تعالى الله عز وجل، وهو من البركة ومعناه: الخير العظيم، فتبارك الله بمعنى: زاد خيره وثبت ودام، فبدأ السورة بهذه الكلمة العظيمة: {تَبَارَكَ} [الفرقان:1]، أي: تقدس سبحانه، ثبت خيره، دام خيره، زاد خيره، والبركة منه، يعني: يطلب منه سبحانه وتعالى البركة التي هي نماء الخير وزيادته.

معنى قوله: (الذي نزل الفرقان)

معنى قوله: (الذي نزل الفرقان) قوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} [الفرقان:1]، أي: الله سبحانه وتعالى، فذكر صفة له سبحانه وتعالى، أنه ينزل، أنه يشرع سبحانه وتعالى، فمن أفعاله أنه ينزل الفرقان على عبده، والفرقان: هذا الكتاب العظيم، وسمي فرقاناً؛ لأنه يفرق بين الحق والباطل، بين الإيمان والكفر، بين أعمال أهل الجاهلية وأعمال أهل الإسلام.

معنى قوله: (على عبده)

معنى قوله: (على عبده) قوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان:1]، فيه شرائع رب العالمين سبحانه من حلال وحرام وغير ذلك مما يعظ الله عز وجل به عباده، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان:1] أي: النبي محمد صلوات الله وسلامه عليه، وعبد الله ورسوله عليه الصلاة والسلام. هذه صفته وهو يقول للناس: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله)، صلوات الله وسلامه عليه، ويقول -وهو جالس على الأرض يأكل صلوات الله وسلامه عليه طعامه-: (إنما أنا عبد، أجلس كما يجلس العبد، وآكل كما يأكل العبد)، وقد وصف الله سبحانه نبيه بالعبودية في أشرف المواضع: ففي سورة الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1]، فشرفه بهذا الوصف، وأنه عبد لله صلوات الله وسلامه عليه، فذكره في سورة الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1]، فهذا مقام الإسراء، وهو مقام عظيم للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد أسرى به ربه، ثم عرج به جبريل إلى السماء، فالله عز وجل شرفه وذكره بهذا الوصف في مقام تفضيله وتكريمه. وفي مقام التحدي في سورة البقرة، يقول سبحانه: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة:23]، فهو عبد نزل عليه القرآن من عند رب العالمين سبحانه، فليس ملكاً من الملائكة ولكنه بشر من البشر، وصفة العبودية صفة جميع خلق الله عز وجل، الملائكة والإنس والجن، فكل خلق الله عبيد لله رب العالمين سبحانه. في مقام الدعوة إلى رب العالمين، قال تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن:19] صلوات الله وسلامه عليه، وهنا قال: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان:1] صلوات الله وسلامه عليه. فالصفة التي يتشرف بها الإنسان هي صفة العبودية للملك الديان سبحانه وتعالى، فالإنسان المؤمن يتشرف بأن ينسب إلى ربه؛ لأنه عبد لله سبحانه، وطبيعة الإنسان في هذه العبودية إن لم يرض طائعاً أن يكون عبداً لله كان عبداً لهواه، وعبداً للشيطان، وعبداً لأحقر خلق الله سبحانه وتعالى. فنفس الإنسان فيها العبودية، إما أن يعبدها ويذللها لرب العالمين وهذا مقتضى لا إله إلا الله، يعني: لا أعبد إلا الله وحده لا شريك له، وإما أن يأنف الإنسان ويتكبر، فإذا بالله عز وجل يجعله عبداً لأحقر خلقه فيعبد تمثالاً أو حجراً، يعبد وثناً أو شجراً، يعبد شمساً أو قمراً، يعبد غير الله سبحانه وتعالى.

معنى قوله: (ليكون للعالمين نذيرا)

معنى قوله: (ليكون للعالمين نذيراً) قوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان:1]، لماذا نزل الفرقان على النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1]، والضمير هنا عائد على الفرقان أو على النبي صلوات الله وسلامه عليه، فالفرقان: القرآن العظيم، هذا الكتاب نذير للبشر. والنذارة: بمعنى التخويف، أي: مخوفاً ومحذراً للعالمين -عالم الإنس وعالم الجن- جميعهم من بطش الله وانتقامه، ومن غضبه على من عصاه وأشرك به، {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1]، فالقرآن منذر للناس، وكذلك هو مبشر للمؤمنين الذين يعملون الصالحات. كذلك النبي صلى الله عليه وسلم هو النذير البشير، قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الفتح:8]، فهو شاهد على الخلق صلوات الله وسلامه عليه، ومبشر لمن أطاع بالجنة، ومنذر لمن عصى بالنار، فالنبي صلى الله عليه وسلم النذير المبين، والقرآن نذير من عند رب العالمين قال تعالى: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1]، أي: منذراً.

تفسير قوله تعالى: (الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا)

تفسير قوله تعالى: (الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولداً) قوله: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الفرقان:2]، يعني: رب العالمين سبحانه الذي له ملك السماوات والأرض، (له ملك): الذي يملك سبحانه وتعالى، و (له) هنا للملك، بمعنى: يملك كل شيء، وملك وملكوت واحد بمعنى: أن ما في السماوات وما فوقها وما تحتها، والأرض وكل شيء فوق وتحت وبين كل ذلك ملك لله سبحانه وتعالى. فهو الذي خلق، وهو الذي ملك سبحانه وتعالى: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الفرقان:2]، وما قال: الذي ملك السماوات والأرض، وكأنها كانت لأحد ثم ملكها هو، ولكن اختص بالملك وحده لا شريك له، فلم يكن لأحد غيره سبحانه وتعالى. وما قال: الذي ملك السماوات والأرض له، وإنما: (الذي له)، فبدأ بالجار والمجرور لبيان الاختصاص الذي له سبحانه وتعالى، فله ملك السماوات والأرض، كما قدم المفعول في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5]، ففرق بين: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5]، و (نعبدك)، فمعنى نعبدك أي: قد يعبد الإنسان ربه ويعبد غيره، فيثبت شيئاً ولم ينف غيره، بخلاف: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5]، فأثبت العبادة له وحده لا شريك له دون غيره. فهذه فائدة تقديم المعمول على العامل، وكذلك هنا لم يقل: (ملك السماوات والأرض له)، فقد يكون له ولغيره، ولكن الذي له وحده سبحانه وتعالى ملك السماوات والأرض.

معنى قوله: (ولم يتخذ ولدا)

معنى قوله: (ولم يتخذ ولداً) قوله: {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} [الفرقان:2]، حاشا له، وفيه رد على المشركين الذين يقولون: الملائكة بنات الله، ورد على اليهود الذين قالوا: عزير ابن الله، ورد على النصارى الذين قالوا: المسيح ابن الله، فأخبر سبحانه أنه لم يتخذ ولداً حاشا له سبحانه، فالذي يتخذ الولد يكون محتاجاً إليه، حتى إذا كبر سنه وبلغ العجز والشيخوخة احتاج إلى الولد. والله الحي القيوم سبحانه قائم على كل شيء، لا يفنى ولا يبيد، ولا يكون إلا ما يريد سبحانه وتعالى، فله ملك السماوات والأرض، كيف يكون له الولد؟! وكيف تكون له الصاحبة؟! وأي حاجة به سبحانه وتعالى إلى ذلك؟! ثم من يحتاج إلى الصاحبة؟ ومن يحتاج إلى أن يكون له نسل بعد ذلك؟ ولكن الله عز وجل لا يحتاج إلى شيء، فكل شيء مفتقر إليه سبحانه، ولم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك. ولم يكن له من يشاركه في تدبير ملكه حاشا له سبحانه وتعالى، بل الله مدبر لكل شيء، والوكيل على كل شيء، والقائم على كل شيء سبحانه، فليس له شريك في ملكه، ولا في خلقه، ولا في العبادة، فالله سبحانه وتعالى المعبود وحده، الخالق وحده، الملك وحده، ملك الملوك سبحانه.

معنى قوله تعالى: (ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا)

معنى قوله تعالى: (ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديراً) قال تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2]، فالله الخالق البارئ المصور سبحانه وتعالى، خلق كل شيء فأحسن خلقه، وقدره ودبر أمره تدبيراً محكماً سبحانه وتعالى، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى:2 - 3] سبحانه وتعالى. يقدر الشيء فيعطيه قدره، فلا يكون أكثر من هذا القدر، ولا أقل من هذا القدر، ومنها ما هو عند البشر، نقول: هذا يقدر كذا، يخرص ويظن ويدبر في نفسه الشيء كيف يكون. فالخلق والتقدير بمعنى: أنه ظن أن هذا البساط يكون طوله كذا، وعرضه كذا، فبدأ يعطيه المقاسات، ثم قصه على هذا الشيء، فالله سبحانه وتعالى المقدر الذي دبر الأمر فأعطى، لهذا يكون كذا، ويكون كذا، ويكون كذا، فلما أوجده كان على هذا الذي دبره الله عز وجل لا زاد فيه شيء ولا نقص منه شيء. فانظر إلى قوله سبحانه: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر:24]، الخالق معناه: خالق كل شيء، وموجد كل شيء سبحانه وتعالى، البارئ: الموجد أيضاً للأشياء، والمصور أي: للأشياء التي يوجد فيها أشياء معينة، كالعينين، والأذنين، والأنف، والشعر ونحوه. ولو أتى كل اسم لوحده من هذين الاسمين فإنه يشمل معنى الخلق والتصوير، لكن لما اجتمعا مع بعض صار هناك فرق دقيق بين معاني هذه الأسماء الحسنى العظيمة لرب العالمين، فهو الخالق يعني: الذي يقدر الشيء قبل أن يوجده، هذا سيكون إنساناً، فإذا أوجده لابد وأن يكون إنساناً، وهذا سيكون حيواناً فكذلك، وهذا سيكون جماداً، وهذا سيعيش كذا ويموت في كذا وهذا في صفته كذا وكذا وكذا، فقبل أن يوجده قدره سبحانه وتعالى، فالخالق قدر الشيء، فيكون المعنى: الله عز وجل خلق الأشياء وأوجدها. فلما قال: {الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر:24]، أعطى معنى التقدير في الخلق الذي قدر سبحانه وتعالى، والبارئ: براه وأوجده بعد أن كان عدماً، والمصور: سماه سبحانه بالتصوير، فجعل له العينين والرأس والشعر، وأعطاه الصورة التي تميزه عن غيره. فـ {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر:24]، سبحانه وتعالى، فهنا أخبر أنه خلق كل شيء يعني: دبره وأوجده على حكمة منه سبحانه، فكان على التقدير الذي جعله سبحانه وتعالى عليه، وخلق كل شيء فقدره تقديراً، فهو تقدير عظيم محيط بكل شيء إلى يوم يبعثون إليه سبحانه وتعالى. فالله يقدر كل شيء حتى دخول كل إنسان الجنة أو النار إلى ما شاء رب العالمين، فهذا الإنسان يخلق في الوقت الفلاني في العصر الفلاني، وينزل في الوقت الفلاني، ويمكث في الحياة كذا وكذا، ويكون من صفاته كذا وكذا، ويكون عمله كذا وكذا، ويكون في الناس كذا وكذا، وهذه صورة نذكرها في الإنسان، وقس على ذلك ما يكون من حيوان وجان وجماد ونبات، وكل شيء يدخل في هذا التقدير بحكمة رب العالمين سبحانه. قال: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2]، لا تحيط بهذا الشيء علماً، ما هي الأشياء يا ترى؟ كل شيء أوجده الله في الأرض حتى الحشرة الصغيرة التي في باطن الأرض، يا ترى! كم حشرة موجودة على الأرض؟! لا تعد هذه الأشياء، وكم قد مات منها وكم سيوجد بعد ذلك؟ كل شيء من هذا تقديره عند الله سبحانه، النبات وأوراق الأشجار والثمار والأشجار نفسها، وكل ما يكون على ساق، وكل ما يكون على نجم، هذا كله خلقه الله وقدره تقديراً، وقس على ذلك في كل مخلوقات الله سبحانه، فكل شيء مقدر عند الله سبحانه وتعالى. إذاً: فقد بدأ في بداية السورة بذكر هذا القرآن العظيم، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر الاعتقاد في كتاب رب العالمين، وأنه الفرقان، وأنه شرع رب العالمين، وأنه جاء من السماء لإثبات صفة العلو لله سبحانه، فقد نزل القرآن فجاء من عند رب العالمين، فالله فوق سماواته سبحانه، ونزل الكتاب على عبده محمد صلوات الله وسلامه عليه، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر وصفه الذي نعتقد به أنه رسول رب العالمين عليه الصلاة والسلام، وأنه نذير من عند الله مبين، وأنه عبد من عباد الله صلوات الله وسلامه عليه. ثم ذكر نفسه سبحانه أنه الملك، وأنه الذي لا شريك له في خلقه ولا في تقديره، ولا في ملكه، ولا في عبادته سبحانه وتعالى، لا شريك له فهو المالك الملك، وهو الذي خلق كل شيء، وهو الذي أحكم وقدر تقديراً.

تفسير قوله تعالى: (واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون)

تفسير قوله تعالى: (واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون) ثم ذكر المشركين كيف عبدوا غير الله متعجباً من حالهم، أهذا الإله العظيم الذي يعبد؟ وما الذي يعبدونه من دون الله؟ قال: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الفرقان:3]، أي: أن هذه الآلهة التي عبدوها لا تخلق شيئاً، بل هي مخلوقة حيث كانت حجراً، وليس الإنسان هو الذي أوجد هذا الحجر، ولكن الله عز وجل هو الذي خلقه وأوجده، فإذا بالإنسان لا يعبد ربه ويعبد هذا الشيء المخلوق، وهذه الآلهة لا تخلق شيئاً بل هي مخلوقة خلقها الله عز وجل، وصنعها الإنسان فجعلها على هذه الهيئة: {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الفرقان:3]. قوله: (ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً)، هذه الآلهة التي يعبدونها لا تملك لنفسها ضراً ولا نفعاً، هل يمكن للطفل الصغير أن ينفع نفسه؟ هذه الآلهة لا تعرف النفع ولا الضر، فبدأ بالضر قبل النفع؛ لأن النفع يحتاج إلى شيء من التعقل لينتفع به، ولكن الضر قد يقع للصبي فيضر نفسه، فيمسك سكينة ويقطع بها يده، وهذه الآلهة لا تعرف أن تعمل أي شيء، فهي حجر من الأحجار تضعه في مكان سيبقى في هذا المكان حتى ترجع إليه يوماً من الأيام. فهذا الحجر الذي لا يملك أن يضر فضلاً عن أن ينفع نفسه، هل ينفعك أنت أو يضرك أنت؟ قال: {وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا} [الفرقان:3]، هنا يذكر تعالى من أفعاله العظيمة سبحانه أنه الذي يميت، وأنه الذي يحيي، وأنه الذي ينشر ويبعث يوم القيامة، فهل هذه الآلهة تملك أن تحيي شيئاً؟ هل تملك أن تميت شيئاً؟ هل تملك أن تبعث من في القبور للسؤال والحشر والنشور؟ لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم شيئاً، إذاً: كيف يعبدونها من دون الله؟ الحمد لله الذي جعلنا مسلمين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الفرقان [4 - 10]

تفسير سورة الفرقان [4 - 10] لقد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بظروف شديدة مع المشركين في دعوته لهم إلى الله سبحانه وتعالى، فقد واجهوه بأشد أنواع الأذى والكيد والاتهامات الباطلة، فلقد قالوا عنه: أنه مجنون وكاهن وساحر وشاعر وغيرها من التهم الباطلة، بل وقالوا عن القرآن العظيم الذي جاء به: إنه إفك وخرافة وأساطير الأولين، وإنه من قول اليهود، وإنه يعلمه إياه بشر، ثم تعنتوا في طلب الآيات من رسول الله على صدق رسالته، فطالبوه بأن يكون ملكاً، أو يأتي معه ملك، أو أن يكون غنياً، أو صاحب جنات وعيون!! وهذه الآيات تتحدث عن ذلك كله، وتبين ما نال رسول الله صلى الله عليه وسلم على يد هؤلاء المشركين السفهاء، وتبين ما بهم من كفر وعناد عليهم عضب الله العزيز القوي.

اتهام الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم بافتراء القرآن، وأنه استعان بغيره على ذلك

اتهام الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم بافتراء القرآن، وأنه استعان بغيره على ذلك أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الفرقان: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا * انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا * تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا} [الفرقان:4 - 10]. يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن تكذيب الكفار للنبي صلوات الله وسلامه عليه، وتكذيبهم للقرآن العظيم، فقال تعالى حاكياً قولهم: ((وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ))، والإفك: الكذب، فهم يقولون ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم مع أنهم يعلمون أنه الصادق المصدوق، صلوات الله وسلامه عليه، وهم الذين كانوا يلقبونه بالصادق الأمين عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك يقولون عنه ذلك، وقد كان هذا عند النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً عظيماً، حتى طمأنه ربه سبحانه، فقال: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33]، يعني: لا يقولون عنك: إنك تغيرت فصرت كاذباً في كلامك، ولكنهم يجحدون بهذا الكلام العظيم الذي جاء من عند رب العالمين. والجحد للشيء: التكذيب به مع المعرفة بصحته وصوابه، فالإنسان الذي يجحد الحق الذي عليه، وهو يعرف أن عليه حقاً وديناً، وعندما يأتي صاحب الدين يطالبه بحقه فينكر وهو يعلم في نفسه أن عليه ديناً لهذا المطالب، فهذا يسمى جاحداً، والظالمون والكافرون يجحدون ويكذبون النبي صلى الله عليه وسلم ظاهراً، وهم مستيقنون في أنفسهم أنه على الحق صلوات الله وسلامه عليه، وأنه لا يكذب عليه الصلاة والسلام. فقالوا: {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ} [الفرقان:4]، أي: كذب، ((افْتَرَاهُ)) أي: اختلقه وألفه، ((وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ))، أي: فليس وحده قال ذلك، وإنما هناك أناس ساعدوه على أن يقول هذا الشيء؛ لأنهم وجدوا في القرآن أخباراً لا يعرفونها، ولا يعرفها إلا أهل الكتاب. فادعوا على النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع من أهل الكتاب، وأن أهل الكتاب هم الذين علموه هذا الشيء، والمراد بقوله: ((قَوْمٌ آخَرُونَ)) كما قال ابن عباس رضي الله عنه: مجموعة من الناس كـ أبي فكيهة مولى بني الحضرمي وعباس وجبر، وأناس كانوا من النصارى، فقالوا: هؤلاء هم الذين يعلمون النبي صلى الله عليه وسلم، فكذبهم سبحانه وتعالى بالحجج العقلية، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا} [الفرقان:4]. أي: هؤلاء ظلمة كذابون مفترون فيما يقولونه على النبي صلوات الله وسلامه عليه، فإن كنتم صادقين في قولكم هذا (فأتوا بكتاب مثله)، أي: هاتوا قرآناً مثله، كما قال تعالى: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود:13]، وكما قال: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23]، إذا كنتم تقولون ذلك، والأدوات عندكم فأنتم أهل اللغة العربية، فإذا كنتم تزعمون على النبي صلى الله عليه وسلم أنه اختلق القرآن وافتراه فاختلقوا أنتم أيضاً وافتروا وأتوا بمثل هذا القرآن، وإذا كان كما تزعمون قد علمه قوم آخرون فاذهبوا إليهم وتعلموا منهم، وأتوا بمثل هذا القرآن إن كنتم صادقين، فالأدوات التي يزعمون أنه تمكن بها من الإتيان بالقرآن موجودة عندكم، فأنتم تعرفون اللغة العربية كما يعرف، وأهل الكتاب موجودون، فاذهبوا إليهم وأتوا من عندهم بمثل هذا القرآن إن كنتم صادقين، فما قدروا على ذلك أبداً، ولن يقدروا أن يقبلوا هذا التحدي ويأتوا بشيء، والذي قبل منهم هذا التحدي بدأ يخرف، ويقول كلاماً هو تخريف، فيضحك عليه الكفار قبل المسلمين عندما يسمعون ما يقول، فعندما يحاول أن يوزن سورة على مثل سورة العصر مثلاً، أو على مثل سورة الهمزة يؤلف أشياء فيسمعه الكفار ويقولون: والله إنك لتعلم أنا نعلم أنك كاذب فيما تقول، ويسخرون منه، أما أن يقبل أحد هذا التحدي، فإنه لا يستطيع ذلك، وقد قال الله سبحانه: {فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا} [الفرقان:4]، أي: ظلموا النبي صلى الله عليه وسلم، وظلموا أنفسهم؛ بأن جعلوا أنفسهم من أهل النار، والعياذ بالله. {فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا} [الفرقان:4]، أي: ظلماً من القول ومن الفعل، {وَزُورًا} [الفرقان:4]، أي: بهتاناً وتزويراً، وتزوير القول هو: أن يأتي بكلام ظاهره الحسن وباطنه القبح والزور، والذي جاءوا به هو كلامهم وقولهم: إن هذا القرآن مختلق ومفترى، وقولهم للناس الذين يأتون من قبائلهم ليسمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم: لا تسمعوا منه، فنحن أعلم بهذا الرجل منكم، فهو كذاب وساحر وكاهن ومفتر، فيزورون القول على الناس، ويتهمونه زوراً وباطلاً صلوات الله وسلامه عليه.

اتهام الكفار للقرآن بأنه أساطير الأولين

اتهام الكفار للقرآن بأنه أساطير الأولين قال تعالى: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا} [الفرقان:5]، يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب من يكتبها له، فأخذ من أساطير الأولين، والأساطير: جمع أسطورة، والأسطورة: الخرافة، والكلام الكثير، والحكايات والأحاديث؛ فقالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم: إنه جمع هذه الأشياء، {فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان:5]، أي: تلقى عليه، أي: أن هناك أحداً يأتي له بهذه الأشياء ويكتبها له، ثم يلقيها عليه صلى الله عليه وسلم بكرة وأصيلاً، والبكرة: أول النهار، من بعد الفجر إلى طلوع الشمس، والأصيل: بعد العصر وقبل الغروب، فقالوا: هذا هو الوقت الذي لا نراه فيه، بعد الفجر وقبل المغرب عندما تكون الناس منشغلة، فيأتي إليه من يعلمه فيقوله، قال: (فهي تملى)، يعني: ألفوا وزوروا الكلام؛ حتى يصدقهم من يسمعهم، قالوا: ((فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)).

بيان سعة علم الله عز وجل

بيان سعة علم الله عز وجل قال الله سبحانه مكذباً لهم: {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الفرقان:6]، أي: الذي أنزل هذا القرآن العظيم هو الله سبحانه، فقد أنزله من السماء، من عنده سبحانه، ففيه: أن القرآن منزل من عند رب العالمين، جاء به الروح الأمين على النبي صلوات الله وسلامه عليه؛ ليهدي به الخلق، قال تعالى: {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ} [الفرقان:6]، أي: الله سبحانه الذي يعلم كل شيء، ويعلم السر قبل الجهر، فإن الناس لا يعلمون إلا الجهر، ولكن الخالق الكريم يعلم السر والجهر، كما قال تعالى: {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:6]، فهو بهذا يفتح لعباده باب التوبة ليتوبوا فهو يعلم سرهم وجهرهم، ويعلم كذبهم وإفكهم، ومع ذلك إن تابوا تاب الله عز وجل عليهم، وقد كان منهم من يكذب النبي صلى الله عليه وسلم أشد التكذيب، فلما أسلم كان من خيار الناس، كـ عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، فإنه كذب النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ سيفه ليقتله، صلوات الله وسلامه عليه، فألقى الله في قلبه الإيمان فآمن رضي الله تبارك وتعالى عنه، فكان من خير الناس، ومن خير أصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه، قال الله سبحانه: {إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:6]، ففيها: أن الله سبحانه علم من هؤلاء التكذيب، وعلم أن منهم من سيؤمن؛ ولذلك لم يحجب عنهم التوبة والمغفرة، وإنما قال: ((إنه كان غفوراً))، أي: لمن يتوب إلى الله فيغفر ويستر ذنوبه، ((رحيماً))، أي: يرحم ويتوب على من يشاء. ثم ذكر كذبهم أيضاً فقال سبحانه: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} [الفرقان:7]، وهذا من ضمن التضليل عند هؤلاء، يعني: أنت رسول من عند رب العالمين، لم لمَ ينزل علينا ملكاً من السماء؟ وهم يعلمون يقيناً أن الأنبياء من قبله -صلوات الله وسلامه عليه- والرسل عليهم الصلاة والسلام كلهم كانوا من البشر، ولم يكونوا ملائكة ولا جناً، وهم يعرفون ذلك ويعرفون أن سيدنا إبراهيم عليه السلام الذي بنى الكعبة التي يطوفون حولها لم يكن ملكاً من الملائكة، وإنما كان بشراً وهم من ذرية إسماعيل بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، بل ويعرفون أن إسماعيل كان رسولاً، وكان من البشر. فمن أين جاءوا بهذا القول، وهو أن الرسول لا بد أن يكون ملكاً من الملائكة؟ ما هذا إلا افتراء على الله عز وجل، وعلى رسل الله عليهم الصلاة والسلام. قال تعالى: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ} [الفرقان:7]، أي: يعجبون من ذلك {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ} [الفرقان:7]، يعني: أنه لا بد أن يكون الرسول ملكاً من السماء لا يأكل الطعام، حتى يكون رسولاً. {وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان:7]، وهذا من تواضعه صلوات الله وسلامه عليه، فقد كان يقضي حوائجه بنفسه، فيذهب إلى السوق ويشتري ويبيع، صلى الله عليه وسلم، وكان يفعل حوائجه التي يحتاجها بنفسه عليه الصلاة والسلام، فلما لم يعجبهم هذا الشيء اجتمع كما يقول ابن إسحاق سادات منهم، ومنهم عتبة بن ربيعة وغيره، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا محمد! إن كنت تحب الرئاسة وليناك علينا)، في حديث طويل وذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم لأنهم يريدون أن ينتهوا من أمر نبوته صلى الله عليه وسلم بأي شيء. فقالوا له: ماذا تريد منا؟ أتريد أن تكون الرئيس علينا؟ وإن كنت تحب المال جمعنا لك ما شئت من أموالنا، وإن كان بك لمم جمعنا لك من أموالنا وعالجناك، ونظرنا في الطب والأطباء فداويناك، فلما أبى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وأخبرهم أنه رسول من عند رب العالمين سبحانه، فإن آمنوا فهذا خير لهم، وإن لم يؤمنوا فأمرهم إلى الله سبحانه رجعوا إلى باب آخر من أبواب الاحتجاج على النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ما بالك وأنت رسول من الرسل، تأكل الطعام؟ فما هو الذي جعلك تأكل الطعام وأنت رسول من الرسل؟ ونسوا أو تناسوا أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان يكنى بأبي الضيفان؛ لأنه كان عندما يحب أن يأكل يجمع الضيوف ليأكلوا معه، عليه الصلاة والسلام، وكان يأكل الطعام ولم يكن ملكاً من الملائكة، فقالوا له: ما بالك وأنت رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه، تأكل الطعام، وتقف بالأسواق؟ فعيروه بأكل الطعام؛ لأنهم أرادوا أن يكون الرسول ملكاً، وعيروه بالمشي بالأسواق وقالوا له: إن الأكاسرة والقياصرة في بيوتهم، ويجيئ إليهم الطعام إلى قصورهم وأنت تقول: إنك رسول الله، وخيرته من خلقه، عليه الصلاة والسلام، وتذهب لتشتري طعامك من السوق، وتتعب نفسك بذلك، والملوك الجبابرة يترفعون عن الأسواق؟ وقد كان صلى الله عليه وسلم يخالطهم في أسواقهم، ويأمرهم وينهاهم صلى الله عليه وسلم، ويذهب إلى الوفود التي تأتي إلى مكة في الحج؛ ليدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى، فلما أجابهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنه رسول من رب العالمين، وأنه ليس ملكاً، عليه الصلاة والسلام، رفضوا ذلك فأنزل الله سبحانه: {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان:20]، أي ما من نبي من الأنبياء، ولا رسول من الرسل عليهم الصلاة والسلام إلا كانوا من البشر، فأبوكم آدم عليه السلام كان من البشر، عليه الصلاة والسلام، وكان يأكل الطعام كما تأكلوا منه أنتم، وكان كل الأنبياء والرسل يمشون في الأسواق كما يمشي النبي صلى الله عليه وسلم، والمقصود من الآية: لا تغتم بما قالوه يا محمد! فإنهم كذابون.

تعنت المشركين في شروطهم للإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم

تعنت المشركين في شروطهم للإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم

طلبهم إنزال ملك من السماء

طلبهم إنزال ملك من السماء قال تعالى حاكياً عما اشترطوه لإيمانهم: {لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} [الفرقان:7]، فأجابهم سبحانه في سورة الأنعام عن ذلك بقوله: {وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ} [الأنعام:8]، أي: ولو جعلناه ملكاً لجعلناه بشراً؛ لأنكم لا تطيقون أن تنظروا إلى أي ملك من الملائكة، وقد كنتم قبل ذلك لا تستغيثون بالجن، فقد كان يقول أحدكم: أعوذ برب هذا الوادي -أي: من الجن- لأنهم يخافون منهم، وكانت الجان والشياطين يضحكون عليهم، ويرهقونهم في طريقهم، فيسمعونهم أصواتاً، فيخافون من ذلك. فكانت الجن تتلاعب بهم؛ لأنهم مشركون بالله رب العالمين، فإذا كان الجان وهم ضعفاء تخافون منهم فإنكم ستخافون من الملك من الملائكة إذا نزل عليكم، وستصدقون جبراً وكرهاً، والله لا يريد ذلك منكم، وإنما يريد أن تؤمنوا اختياراً وطوعاً، وتستشعرون أنكم تختارون هذا الدين على غيره، حتى يحاسبكم الله سبحانه تبارك وتعالى على ذلك يدخلكم الجنة، فلو جعلناه ملكاً لقضي الأمر ثم لا ينظرون، ولو أنزلنا ملكاً لجعلناه في صورة البشر، فيكون الأمر تحصيل حاصل؛ لأننا سنجعل الملك على صورة البشر، حتى لا تفزعون منه، وإذا كنا سنجعله بشراً فلا داعي لذلك؛ لأن عندكم البشر منكم، وهو النبي صلى الله عليه وسلم، يدعوكم إلى رب العالمين، إذاً: فاختياركم أن يكون الرسول ملكاً ينزل من السماء ليس شيئاً وجيهاً ولا سديداً، بل هو كلام من الزور والكذب والتضليل.

اشتراطهم نزول كنز من السماء على رسول الله

اشتراطهم نزول كنز من السماء على رسول الله قال الله سبحانه حاكياً قولهم: {أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} [الفرقان:8]، وقد كانوا لا يعجبهم أن النبي صلى الله عليه وسلم يأكل الطعام، ولا يعجبهم أنه يمشي في الأسواق، وقد سماه الله سبحانه وتعالى: عبداً شكوراً، صلوات الله وسلامه عليه، وكان من صفاته عند أهل الكتاب التي يعرفونه بها كما جاء في صحيح البخاري: أنه ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق عليه الصلاة والسلام. يعني: يمشي في الأسواق ولا يرفع صوته بالصخب فيها صلوات الله وسلامه عليه. قال المشركون: {أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ} [الفرقان:8]، أي: يريدون أن ينزل عليه من السماء كنز ينظرون إليه نازلاً من السماء؛ حتى يؤمنوا به صلى الله عليه وسلم.

اشتراطهم أن يكون لرسول الله جنة يأكل منها

اشتراطهم أن يكون لرسول الله جنة يأكل منها ثم قال تعالى: {أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} [الفرقان:8]، يعني: هلا كان لك بستان من البساتين، فلا تشتري حاجتك، وإنما تأخذها من هذا البستان؟ فطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون له كنزاً من الكنوز، أو يكون له بستان وجنة يأكل منها.

اتهام الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم بالسحر

اتهام الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم بالسحر ثم قال تعالى: {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} [الفرقان:8]، ومسحور: على وزن مفعول، وهي هنا بمعنى الفاعل، أي: ساحر فكأنهم يقصدون أنه ساحر عليه الصلاة والسلام، فقوله: ((إن تتبعون))، يعني: ما تتبعون ((إلا رجلاً مسحوراً))، أي: ساحراً متقناً للسحر، أو مسحوراً من السَّحْر، والسحر بمعنى الرئة والصدر، وكأنهم يقولون: إنكم تتبعون رجلاً له سَحْر مثله مثلنا، أي: له رئة وله صدر، يعني: أنه شخص من البشر ليس خارجاً عنهم، قال: ((إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا)).

تخبط الكفار في شأن النبي صلى الله عليه وسلم

تخبط الكفار في شأن النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم متعجباً: {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ} [الإسراء:48]، يعني: انظر لكذبهم وإفكهم وزورهم، فهم يضربون أمثالاً وهم يعرفون أنهم على الباطل فيما يقولون، قال: {فَضَلُّوا} [الإسراء:48]، أي: تاهوا عن طريق الحق، ولم يصلوا إلى شيء {فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} [الإسراء:48]، أي: لا يستطيعون سبيلاً للوصول إلى الطريق القويم أو إلى حق يهتدى به، أو إلى كلام يعقل، وإنما هم يعلمون بأنهم كذابون، ولا يفهمون ما يقولون فكيف يقنعون غيرهم؟! ولذلك كان الكفار يجلسون معاً فيقول بعضهم: ماذا نقول عن هذا الرجل؟ فيقول أحدهم: قولوا: ساحر فيرد عليه آخر: نحن عاشرنا السحرة وعرفناهم، والكلام الذي يقوله ليس بسحر، فيقول الثاني: قولوا إنه كاهن فيرد عليه بعضهم: لقد عرفنا الكهان وأقاويلهم وسجعهم، وليس من سجعهم في شيء. فيقول الثالث: نقول عنه: شاعر فيردون عليه: لقد عرفنا الشعر، وما يقوله أهل الشعر، وأهل الرجز وأهل كذا، وليس هذا بالشعر، فكان الكفار أنفسهم يقول بعضهم شيئاً، ويرد عليهم الآخرون بأن هذا ليس صحيحاً فيه، ثم يقولون في النهاية: نقول: ساحر، فإذا سئلنا: لماذا ساحر؟ قلنا: لأنه يفرق بين الأب وابنه، والمرأة وزوجها، يعني: أنه فرق الناس بهذا الدين فجعل هذا مسلماً وهذا كافراً، فنقنع الناس بهذا، إذاً: هو ساحر؛ لأنه يفرق بين الناس، فلما قالوا ذلك قال الله عز وجل عنهم: {انظُرْ} [الإسراء:48]، أي: اعجب لهؤلاء الجهلة فيما يقولون، {كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ} [الإسراء:48]، أي: الأمثال الباطلة {فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} [الإسراء:48]، أي: لا يعرفون طريقاً إلى الحق، بل تاهوا عن طريق الرشد والصواب وطريق الله سبحانه ((فلا يستطيعون سبيلاً)). ثم قال: {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ} [الفرقان:10]، أي: تبارك وتقدس سبحانه وتعالى، و (تبارك)، أي: كثر خيره وبركته، وثبت وزاد {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ} [الفرقان:10]، وقال: (إن شاء)، ولم يقل: لو شاء؛ لأن (إن) حرف تحقيق، فالمعنى: إذا أراد فعل ذلك، وهو قادر وإذا أحببت فعلنا بك ذلك، ولم يقل: لو شاء؛ لأن لو حرف امتناع وقوع الجواب لامتناع وجود الشرط، فيكون المعنى: أنه لن يحصل، فلذلك قال: إن شاء ربك فعل ذلك، وقد خير الله نبيه صلوات الله وسلامه عليه في ذلك، فقد جاء في مسند الإمام أحمد عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: (ادع لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهباً)، وقد كان مما طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قالوا له: إن بلادنا ضيقة، فلو دعوت ربك أن يبعد عنا هذه الجبال قليلاً، وأيضاً طلبوا منه أن يجعل لهم جبل الصفا ذهباً حتى يؤمنوا به، فلما قالوا ذلك قال: (وتفعلون؟ فقالوا: نعم، فدعا صلى الله عليه وسلم فأتاه جبريل، فقال: إن ربك عز وجل يقرأ عليك السلام، ويقول: إن شئت صيرت لهم الصفا ذهباً، فمن كفر بعد ذلك منهم عذبته عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين). وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، وكانت آية النبي صلى الله عليه وسلم هذا القرآن العظيم، ولو جاء لهم بالآيات الحسية التي طلبوها كما طلب قوم صالح الناقة، فلو كفروا بعد ذلك لجاءهم العذاب، واستأصلهم أجمعين، فلما خُير النبي صلى الله عليه وسلم: (إن شئت جعلنا لهم الصفا ذهباً، وإن شئت فتحنا لهم باب التوبة والرحمة)، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بل باب التوبة والرحمة). وفي رواية: قال صلى الله عليه وسلم: (لا، بل أستأني بهم) أي: لا أريد الصفا ذهباً، ولكن أصبر عليهم، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء:59]، أي: أن الآيات تخويف وليست تبشيراً، وهذه هي الآيات الحسية. وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما خرج من مكة لما لم يستجيبوا له وذهب إلى الطائف فرموه بالحجارة ولم يستجيبوا نزل عليه ملك الجبال، وقال: (إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين) وهما جبلا مكة عن شمالها ويمينها، فيهلك الجميع، فجاءه وقال له ذلك، وهو في هذا الوقت العصيب صلوات الله وسلامه عليه، فقد كان كله حزن على كفر هؤلاء ومع ذلك قال: (لا، ولكن أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً) قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، صلوات الله وسلامه عليه. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الفرقان [7 - 16]

تفسير سورة الفرقان [7 - 16] لقد أضل الله المشركين لعنادهم وكفرهم وتعجبهم من كون الرسول صلى الله عليه وسلم بشراً، ومع ذلك يرد الله عليهم بالحجج والبراهين الساطعة، ويرهبهم من دخول النار، ويرغبهم في دخول الجنة، ولا يكون ذلك إلا بالانصياع لأوامر الله، والإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.

ذكر ما جاء في سورة الفرقان من تعجب المشركين من كون النبي صلى الله عليه وسلم بشرا من البشر وما جاء من تعجيزهم له، وما جاء من رد الله تعالى عليهم

ذكر ما جاء في سورة الفرقان من تعجب المشركين من كون النبي صلى الله عليه وسلم بشراً من البشر وما جاء من تعجيزهم له، وما جاء من رد الله تعالى عليهم الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الفرقان: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا * انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا * تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا * بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا * إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا * قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيراً * لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَسْئُولاً} [الفرقان:7 - 16]. يخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن المشركين الذين تعجبوا من كونه صلى الله عليه وسلم بشراً من البشر، وأنه يأكل الطعام، وأنه يمشي في الأسواق، قال تعالى: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} [الفرقان:7]، فهم يعجبون من حاله صلوات الله وسلامه عليه، ويطلبون أن ينزل إليه من السماء ملك ليكون منذراً مع النبي صلوات الله وسلامه عليه، أو يلقى إليه كنز، أو تكون له جنة يأكل منها، وهذا من باب التعنت معه صلوات الله وسلامه عليه. فهم لا يريدون أن يسمعوا له عليه الصلاة والسلام، ولا يريدون أن يتبعوه في دينه، إنما يريدون وضع العوائق والعقبات أمام دعوته صلوات الله وسلامه عليه، فهم يقولون: إذا كنت تريد أن نقبل منك، فاجعل ملكاً ينزل ويمشي معك في الأرض كي نعرف أنك صادق فنتبعك، أو ينزل عليك كنز من السماء كي نصبح أغنياء، أو يكون لك بستان كبير واسع، وتأكل من هذا البستان، وفي هذه الحالة نعرف أنك رسول حق. وهكذا نظروا إلى أشياء مادية على وجه التعنت، وإلا فالتحدي قائم بهذا القرآن على أن يأتوا بكتاب مثله، أو يأتوا بعشر سور مثله مفتريات، أو بسورة من مثله، ولم يقدروا على ذلك، فانصرفوا عن قبول هذا التحدي، إلى وضع العقبات أمامه صلى الله عليه وسلم، وكأنهم يقولون: لا، لن نقبل منك دعوتك، إلا أن تستجيب لنا في ذلك. قال تعالى: {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} [الفرقان:8]، أي: تتبعون رجلاً ساحراً، أو رجلاً كغيره من البشر له سحر، يعني: له رئة، يتنفس كما تتنفسون، وله صدر وبطن ويأكل الطعام، فلا ينفع ذلك في أن يكون رسولاً من الرسل عليه الصلاة والسلام. هذا الذي قالوه مع علمهم اليقين بأن إبراهيم كان نبياً عليه الصلاة والسلام، وكان بشراً من البشر، وكان يأكل الطعام، وكان يكنى بأبي الضيفان، عليه الصلاة والسلام، فهم يعرفون ذلك، ولكن المقصد من كلامهم التعنت معه صلى الله عليه وسلم ورد ما جاء به. فقال الله مكذباً لهم، ومعجباً له من فعلهم: {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ} [الفرقان:9]، أي: أنظر إلى تعنتهم وإلى كلامهم الباطل، وإلى هذا الهراء الذي يزعمونه، قال سبحانه: {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} [الفرقان:9]، أي انظر كيف ضربوا لك هذه الأمثال التي يقولونها؛ ليتوصلوا إلى الباطل وليس إلى الحق، فيا للعجب من ذلك؛ لأن الأصل في ضرب المثل: أن يضرب لتقريب المعنى، ولإحقاق الحق، أما ضرب الأمثلة لإبطال الحق، فهذا من العجب، فاعجب لهم، فإنهم يتعجبون من غير عجب، ولكن اعجب لما يقولونه من أشياء باطلة، قال تعالى: {فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} [الفرقان:9]، أي: لا يستطيعون للوصول إلى الحق سبيلاً، أو إلى تصحيح ما يقولونه. قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ} [الفرقان:10]، أي: كثرت بركته، تبارك وتعالى وتقدس وتمجد سبحانه وتعالى، الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك، وهذه الأشياء التي يطلبونها هي أشياء يسيرة جداً أمام الله سبحانه، لا قيمة لها، فهو سبحانه إن شاء جعل لك خيراً من ذلك جنات وليس بستاناً واحداً فقط ولا جنة تأكل منها، بل يجعل لك جنات كثيرات، فلو كان الأمر على ذلك لجعل لك تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصوراً، وليس بيتاً من حجر، وليس خيمة، وليس بيتاً من طوب، ولكن قصوراً عظيمة كبيرة، قال تعالى: {وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا} [الفرقان:10]. وقوله تعالى: {وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا} [الفرقان:10]، هذه قراءة الجمهور بالإدغام على أنها مجزومة، وقراءة ابن كثير وابن عامر وشعبة عن عاصم: (ويجعلُ لك قصوراً) على الرفع والاستئناف، أي: أن الله قادر على أن يجعل لك ذلك، قال: {وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا} [الفرقان:10].

ذكر حال أهل النار

ذكر حال أهل النار ثم أمر نبيه أن اصرف تفكيرك عن ذلك، فهم قد كذبوا بالساعة فلا تهتم لكلامهم، وقد وقعوا في أعظم الكفر بالله سبحانه، ثم يجادلون في ذلك، قال تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا} [الفرقان:11]، ولم يقل: وأعتدنا لهم سعيراً، بل لهم ولغيرهم وكل من كذب بيوم القيامة أعتدنا له السعير، والسعير: النار المستعرة، يعني: شديدة التلهب والاضطرام والإيقاد والاشتعال، فهي سعير، ومنها الكلب المسعور؛ لأنه يجري في كل مكان، ويعلق في أي شيء، فهو مضطرب ويجري نفوراً، فكذلك نار جهنم ترد على أي شيء والعياذ بالله، تقدم عليه وتحرقه وتلهبه فهي مستعرة، والسعر أيضاً: الجنون، فكأنها نار ملتهبة، حتى أنها لا تقدر أن تميز هذا الذي أمامها، أهو عظيم أم حقير؟ فكل من دخل فيها استعرت عليه، والتهبت عليه وأخذته، نسأل الله العفو والعافية. وقوله تعالى: {وَأَعْتَدْنَا} [الفرقان:11]، أي: حضرنا وجهزنا، {لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا} [الفرقان:11]، وكلمة (لمن) من صيغ العموم، أي: كل من كذب بالساعة أعتدنا له عذاب السعير. ويقول سبحانه في هذه النار: {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان:12]، أي: إذا رأتهم النار من مكان على بعد خمسمائة سنة، أي: من مكان بعيد سمعوا لها تغيظاً وزفيراً، وهنا كأنه من باب الاكتفاء في قوله تعالى: {سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان:12]، والأصل: سماع الزفير، والزفير: صوت النفس الخارج فيسمع، والتغيظ يرى، فتقول: رأيت فلاناً متغيظاً، وسمعت له صوتاً، فالأصل في ذلك: أنهم سمعوا زفيرها، ورأوا تغيظها عليهم، فالتغيظ لا يسمع، وهذا يسمونه: الاكتفاء بالواحد عن المجموع، فالله سبحانه اكتفى بذكر ذلك، كقوله سبحانه وتعالى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} [يونس:71]، فالأصل أنه لا يقال: أجمعت الشركاء، وإنما أجمعت عزيمتي، أجمعت رأيي، بمعنى: عزمت على الشيء، ويقول: جمعت الشركاء، فكأن المقصد منها هنا أن يكتفي بواحد من الفعلين، أجمعوا أمركم وجمعوا شركاءكم، فاكتفى بواحد للتعبير عن الاثنين. وكحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (رغبة ورهبة إليك)، فهذا فيه الاكتفاء أيضاً، وحمل اللفظ على المجاورة، أي: رغبة إليك ورهبة منك، فاكتفى بواحد من الاثنين عن ذلك. ومنه قول الشاعر: إذا ما الغانيات برزن يوماً وزججن الحواجب والعيونا فقوله: تزجد الحاجب أي: تطوله، لكن العيون لا تطول، فكأنه يقصد: زججن الحواجب وكحلن العيون، فاكتفى بفعل على الاثنين، فهذا من باب الاكتفاء الذي يقولونه، أو المجاورة. من أجل ذلك قال تعالى: {سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا} [الفرقان:12]، أي: كأنهم رأوا لها هذا التغيظ، وسمعوا صوت زفير جهنم، قال تعالى: {سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان:12]. فقوله سبحانه: {سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان:12]، وقوله سبحانه: {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [الفرقان:12]، فيهما دلالة على أنها رؤية حقيقية، تراهم النار حقيقة، وقد جاء في حديث عند الترمذي وفي مسند الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يخرج عنق من النار يوم القيامة، له عينان تبصران، وأذنان تسمعان، ولسان ينطق). والله عز وجل يخلق ما يشاء، فإن نار جهنم يؤتى بها، ويخرج منها هذا العنق، والعنق له أذنان تسمعان، وله عينان تبصران، ولسان ينطق، فيقول هذا العنق: (إني وكلت بثلاثة، بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلهاً آخر، وبالمصورين)، وكل هذا يوم القيامة يخطف هؤلاء إلى نار جهنم والعياذ بالله. فيخرج من النار هذا العنق، وهو ذراع يخرج من النار، يبصر ويسمع ويتكلم ويخطف هؤلاء من الموقف، ويجعلهم في نار جهنم والعياذ بالله، وهذا حديث صحيح، وفيه أنه وكل بثلاثة: بكل جبار عنيد، أي: بكل إنسان فيه جبروت، وفيه معاندة لدين رب العالمين سبحانه، وبالمشركين ممن دعوا مع الله إلهاً آخر، وبالمصورين، الذين يصورون الصور، وينحتون التماثيل، ويصنعون الأصنام، والذين يرسمون فيضاهون خلق الله سبحانه، فقد وكل الله بهم هذا العنق يوم القيامة. يقول سبحانه: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ} [الفرقان:13]، و ((ضَيِّقًا)) [الفرقان:13]، قراءة الجمهور، وقراءة ابن كثير: (وإذا ألقوا منها مكاناً ضَيْقاً مقرنين دعوا هنالك ثبوراً)، فقوله تعالى: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا} [الفرقان:13]، أي: أن هذا الكافر وهذا المشرك الذي يدخل النار يلقى منها في مكان ضيق. والنار واسعة جداً والعياذ بالله، وقعرها بعيد جداً، ومع ذلك يضيق الله سبحانه وتعالى على أهل النار الأماكن التي هم فيها، فيلقى كل هؤلاء الكفار في مكان ضيق فيها، والنار لا تكتفي بذلك، بل كلما ألقي فيها فوج وسألهم خزنتها، قالت: هل من مزيد؟ فالخزنة يسألونهم ألم يأتكم نذير؟ يقولون: بلى، والنار تقول: هل من مزيد؟ ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال تقول: هل من مزيد؟ حتى يضع الجبار فيها قدمه، فتقول: قط قط اكتفيت اكتفيت)، أي: لن أقول ذلك مرة أخرى. يقول سبحانه وتعالى: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ} [الفرقان:13]، أي: أن كل إنسان مع قرينه، ومع مشاكله، ومع صاحبه، فرفيق السوء يكون مع رفيقه، والإنسان يكون مع شيطانه، ومع من كان يستهويه من الجان في نار جهنم، مقترناً معه، موثقاً مكتفاً معه، فالإنسان والقرين الاثنان في النار، {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ} [الفرقان:13]، أي: مربوطين بعضهم ببعض، قال تعالى: {دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} [الفرقان:13]، أي: استيقنوا من العذاب، فدعوا بالثبور، والثبور: الهلاك، أي: يدعون على أنفسهم بالموت، من أجل أن يستريحوا مما هم فيه، {دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} [الفرقان:13]، أي: هلاكاً، فيقال لهم: {لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً} [الفرقان:14]، أي: لا تدعو اليوم موتاً واحداً، بل ادعوا موتاً كثيراً، وادعوا ما شئتم، فليس هناك موت.

ذكر حال أهل الجنة

ذكر حال أهل الجنة قال تعالى: {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [الفرقان:15]، وهذا من جمال كتاب رب العالمين أنه عندما يذكر لنا النار، ويكون الإنسان مستشعراً غضب رب العالمين سبحانه، ويستشعر الخوف الذي قد يدفعه إلى أن يظن أنه قد ضاع وأيس من الرحمة، يفتح سبحانه باب الرحمة، ويرينا كما أن هناك نار، فهناك جنة أيضاً، فيجعل الله الإنسان بين الترغيب والترهيب، رهبه وخوفه، ثم رغبه ومناه، قال تعالى: {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ} [الفرقان:15]، أي: هل هذا الذي هم فيه خير، أم الجنة؟ قال تعالى: {أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ} [الفرقان:15]، أي: جنة الخلود، فأهل النار يدعون بالثبور والهلاك على أنفسهم، وأهل الجنة يلقون فيها تحية وسلاماً، حياة دائمة خالدين فيها، فهم يخلدون فيها ولا يخرجون منها. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها. فقوله تعالى: {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ} [الفرقان:15]، أي: هل هذا خير، {أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [الفرقان:15]؟ فقد وعد الله عز وجل المتقين الذين اتقوا غضب الله، أن لهم هذه الجنة جزاءً على ما قدموا من عمل، ومصيراً يصلون إليها، فالمصير والنهاية الدخول إلى هذه الجنة، جزاءً بما كسبوا وبما عملوا من أعمال صالحة. ولهم في هذه الجنة، كما قال تعالى: {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ} [الفرقان:16]، فكلمة: (ما) من ألفاظ العموم، فكل ما يتمناه الإنسان يجده في الجنة، والله عز وجل يقول لهم: تمنوا، ماذا تريدون؟ فيتمنى أهل الجنة ويتمنون، والله عز وجل يذكرهم، وكذا وكذا، فيتمنون ويذكرهم وكذا وكذا، فيعطيهم سبحانه وتعالى، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. قال تعالى: {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ} [الفرقان:16]، هذا الذي هم فيه ليس لزمن محدود يتمتعون به، فالله يطمئنهم، فيقول: وأنتم خالدون فيها، ولن تخرجوا منها أبداً، قال تعالى: {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا} [الفرقان:16]، أي: كان هذا الأمر على ربك سبحانه وعداً ألزم نفسه به، وأوجبه على نفسه، ولا أحد يوجب على الله عز وجل شيئاً، ولكن هو الذي أوجب على نفسه، فقال: كان هذا الأمر وعداً عليَّ، ((مَسْئُولًا))، أي: الملائكة تسأل ربها، كما قال تعالى: {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ُ} [غافر:8]، فالملائكة تسأل ربها سبحانه: أن يدخل المؤمنين الجنة، والمؤمنون يسألون ربهم سبحانه وتعالى، وقد عرف الله عز وجل المؤمنين جنته؛ حتى يسألوه إياها، فهذا كان وعداً من الله، فقد أمر عباده أن يطلبوا الجنة فسألوه إياها، فبشرهم وأدخلهم جنته، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل جنته. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الفرقان [17 - 20]

تفسير سورة الفرقان [17 - 20] أخبر الله عز وجل في كتابه أن الظالمين يوم القيامة يتبرأ بعضهم من بعض، وتعود صداقتهم وموالاتهم لبعضهم عداوة وكرهاً، وهكذا كل محبة وموالاة كانت لغير الله في الدنيا، بل إن هؤلاء الظلمة تتبرأ منهم معبوداتهم الباطلة التي كانوا يعبدونها في الدنيا، سواء من الأحياء أو الأموات أو الجمادات، وهنا يحيق بهم عذاب الله عز وجل، فلا ناصر لهم ولا شفيع ولا حميم ينصرهم من دون الله.

تفسير قوله تعالى: (ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله)

تفسير قوله تعالى: (ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الفرقان: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا * فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا * وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان:17 - 20]. يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن الحشر يوم القيامة، وعن جمع الناس فيها، وعن جمع المشركين مع من كانوا يعبدونه من دون الله سبحانه، وعن السؤال في هذا اليوم العظيم، قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الفرقان:17]، أي: يحشر الخلق جميعهم، وإن كان ذكر هنا المشركين فقط، مع أنهم يحشرون مع المؤمنين يوم القيامة، وهو يذكر لنا هنا ما يكون من خلاف هؤلاء بين يدي الله عز وجل، قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة:166]، فكيف يكون الحال يوم القيامة وقد تبرأ الناس بعضهم من بعض؟ فالوالد يتبرأ من ابنه، والابن يقول: نفسي نفسي، والزوجة تقول: نفسي نفسي، والأنبياء يقولون: نفسي نفسي، فكل إنسان يوم القيامة يقول: نفسي نفسي. فهنا يقول الله عز وجل لهؤلاء المشركين: كيف يكون حالكم يوم يتبرأ بعضكم من بعض؟ قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ} [الفرقان:17]، وهذه قراءة ابن كثير وحفص عن عاصم وأبي جعفر، ويعقوب، {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} [الفرقان:17]، بالكلام على الإفراد. وقرأ باقي القراء بنون العظمة: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ)، وهي تعظيم للخالق سبحانه وتعالى الذي يحشرهم يوم القيامة، قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الفرقان:17]، والحشر: الجمع، والإخراج من القبور، وضم بعضهم إلى بعض في الموقف بين يدي الله سبحانه وتعالى. {فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} [الفرقان:17]، أي: يقول الله سبحانه، وهذه قراءة الجمهور بصيغة الإفراد، وقرأ ابن عامر (فنقول) بنون التعظيم للخالق سبحانه، وله أن يقول ذلك ويتكلم عن نفسه بنون العظمة سبحانه، قال تعالى: {أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} [الفرقان:17]. فهنا يسأل الله سبحانه وتعالى هذه الآلهة التي عبدوها، وينطقها يوم القيامة، فينطق الحجر، وينطق الصخور، وينطق الأشجار التي كانوا يعبدونها، وينطق الإنس والجن والملائكة، وكل من عبد من دون الله سبحانه وتعالى، ويقول الله عز وجل للمسيح عليه الصلاة والسلام: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة:116]. هذا المسيح عليه الصلاة والسلام، والآلهة التي عبدوها من دون الله تنطق وتتبرأ من هؤلاء عندما يسألهم سبحانه: {أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} [الفرقان:17]، أي: أأنتم جعلتموهم يضلون عن سبيل الله، وعن طريق رب العالمين؟ أم هؤلاء العباد هم الذين ضلوا عن السبيل بعقولهم وببعدهم عن الله سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء)

تفسير قوله تعالى: (قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء) فيكون A { قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْماً بُوراً} [الفرقان:18]، أي: ننزهك يا ألله! عن ذلك. {قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا} [الفرقان:18]، أي: لا يحل لنا، ولا يجوز لنا ذلك. {مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} [الفرقان:18]. فأنت ولينا ولا يحل لنا أن نعبد غيرك، أو أن نتخذ من دونك ولياً من الأولياء، والمعنى هنا: أنهم تبرءوا إلى الله عز وجل من كل من عبدهم من دون الله سبحانه وتعالى. وقد قرأها الجمهور: {مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ} [الفرقان:18]، يعني: هذه الآلهة التي عبدت تقول لله سبحانه وتعالى: ليس من حقنا أن نتخذ أولياء نعبدهم وينصروننا، فكيف نعبد نحن؟! فإذا كنا نحن لا يحل لنا أن نعبد غيرك، فكيف يعبدوننا من دونك؟! {قَالُوا سُبْحَانَكَ} [الفرقان:18]، أي: ما كان هذا الشيء ولا طلبناه، ولا أردناه ولا وافقنا عليه، قال تعالى: {مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} [الفرقان:18]، أي: ولياً من دونك نتولاه في الدنيا حتى نضيع الآن، وقرأ أبو جعفر: {قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُتَّخَذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} [الفرقان:18]، يعني: أن نُعبد من دونك، على بناء الفعل للمجهول، والأصل فيها: أن نتخذ دونه أولياء، ومن جاءت زائدة لتأكيد نفي ذلك، فعلى ذلك لا يحل أن نكون معبودين من دونك يا رب العالمين! قال: {مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} [الفرقان:18]. أي: فنعبد من دونك، ولا يحل لنا أن نكون من دونك. ولكن السبب أنك متعتهم وآباءهم، كما قال الله سبحانه: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7]. فالإنسان عندما يكون فقيراً ومحتاجاً وتحيط به المصائب فإنه يدعو ويقول: يا رب! وعندما يستغني ويحس أنه صحيح معافى ينسى ربه سبحانه، فقالوا هنا: ربنا! أنت متعتهم وأغنيتهم فنسوا ذكرك، قال تعالى حاكياً قولهم: {وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ} [الفرقان:18]، أي: حتى نسوا هذا القرآن، ونسوا ما جاءهم به النبي صلى الله عليه وسلم من مواعظ. {حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا} [الفرقان:18]، يعني: لا خير فيهم، نقول هذه أرض بور، يعني: لا تنبت، أي: أنك إذا وضعت فيها الماء والبذور والسماد فلا فائدة فيها، فهي أرض بور لا تنبت زرعاً، ولا ينتفع بها أحد، فكذلك كان هؤلاء بشركهم وكفرهم كالأرض البور التي لا خير فيها، فهم كانوا لا خير فيهم، فقد تمتعوا في الدنيا ونسوا الخالق سبحانه فلم يعبدوه. {وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا} [الفرقان:18]. قال أبو الدرداء رضي الله عنه وقد أشرف على أهل حمص: يا أهل حمص! هلموا إلى أخ لكم ناصح! فلما اجتمعوا إليه قال رضي الله عنه: ما لكم لا تستحون؟! تبنون ما لا تسكنون، وتجمعون ما لا تأكلون، وتأملون ما لا تدركون، إن من كان قبلكم بنوا مشيداً، وجمعوا عبيداً، وأملوا بعيداً، فأصبح جمعهم بوراً، وآمالهم غروراً، ومساكنهم قبوراً. وهذه نصيحة عظيمة من أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه، فهو يقول لأهل حمص: ما لكم لا تستحون؟ تبنون ما لا تسكنون، أي: تبنون البيوت الكثيرة، التي لا تسكنونها، والتي لا تعمرونها، وإنما تتركونها وتذهبون إلى ربكم سبحانه، وتجمعون ما لا تأكلون، أي: تجمعون وتدخرون أكثر مما تحتاجون إليه، وتتكالبون على الدنيا، كأنكم ستعيشون أبداً فيها، وتأملون ما لا تدركون، أي: تأملون أن تعيشوا أبد الآبدين، إن من كان قبلكم، أي: اتعظوا بالذين كانوا من قبلكم، فقد بنوا مشيداً، وجمعوا عبيداً، وأملوا بعيداً، أي: بنوا البناء المشيد العالي، وكذلك جمعوا من العبيد في الدنيا ما يكون لهم بهم عزة وقوة، وأملوا آمالاً بعيدة فلما جمعوا هذه الدنيا قال: فأصبح جمعهم بوراً، وآمالهم غروراً، ومساكنهم قبوراً، أي: هذا الجمع الذي جمعوه لم ينفعهم شيئاً، وإنما صار جمعهم هذا بوراً، وإن الجمع الذي ينتفع به الإنسان هو أن يجمع الأعمال الصالحة، فتكون مثمرة ويكون له أجرها عند الله سبحانه وتعالى. وأما ما جمع من حطام الدنيا فسرعان ما يزول، أو يموت الإنسان عنه ويتركه ويذهب إلى ربه، فإذا بالآمال غرور، أي: ضائعة لم يأت منها شيء، وصارت هذه المساكن قبوراً لأصحابها نسأل الله العفو والعافية.

تفسير قوله تعالى: (فقد كذبوكم بما تقولون)

تفسير قوله تعالى: (فقد كذبوكم بما تقولون) يقول الله سبحانه وتعالى لهؤلاء: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً} [الفرقان:19]، أي: يقول الله للمشركين الكفار: فقد كذبتكم هذه الآلهة التي عبدتموها من دون الله سبحانه، {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} [الفرقان:19]. وقوله: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ} [الفرقان:19]، هذه قراءة الجمهور، وقراءة قنبل عن ابن كثير: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا يَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ} [الفرقان:19]، وقوله: ((فَمَا تَسْتَطِيعُونَ)) هذه قراءة حفص فقط، وقرأ باقي القراء: ((فَمَا يَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا)) فعلى ذلك قوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ} [الفرقان:19]، إما أنه يخاطب المؤمنين أو يخاطب الكفار، فإذا كان الخطاب للمؤمنين فيكون المعنى: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ} [الفرقان:19]، أي: هؤلاء الكفار {بِمَا تَقُولُونَ} [الفرقان:19]، وبما أتيتموهم من كتاب وسنة أيها المؤمنون! وإذا كان الخطاب للكفار فيكون المعنى: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ} [الفرقان:19]، يعني: هؤلاء الآلهة كذبوكم أيها الكفار! بما كنتم تقولون وتزعمون من أنهم ينفعونكم وأنهم يضرونكم، قال تعالى: {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا} [الفرقان:19]، قرأ حفص عن عاصم: {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ} [الفرقان:19]، يعني: يا أيها الكفار! {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا} [الفرقان:19]، وقرأها الجمهور: (فما يستطيعون)، يعني: الآلهة لا تقدر على الصرف ولا على النصر، والصرف معناه: التحويل، فقوله تعالى: {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا} [الفرقان:19]، أي: لا تستطيعون أيها الكفار صرف العذاب عن أنفسكم، ولا هذه الآلهة تقدر أن تصرفه وتزيله عنكم. {وَلا نَصْرًا} [الفرقان:19]، أي: ولا يستطيعون نصركم في هذا اليوم، وحمايتكم من عذاب الله وبطشه سبحانه، فكذبتهم آلهتهم التي عبدوها من دون الله سبحانه، فما استطاعت أن تصرف عنهم العذاب، ولا استطاعت نصرهم على قضاء الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} [الفرقان:19]، وهذا خطاب على العموم، فكل من يظلم وخاصة الظلم الأكبر الذي هو الشرك بالله سبحانه، كما قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، فجزاؤه كما قال الله: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} [الفرقان:19]، أي: ليس أي عذاب، وإنما العذاب العظيم الكبير الأليم، نسأل الله العفو والعافية.

تفسير قوله تعالى: (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام)

تفسير قوله تعالى: (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام) يقول سبحانه مخاطباً رسوله صلوات الله وسلامه عليه: {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان:20]، هنا يطمئن الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بأنك لست بدعاً من الرسل، وليس أمرك غريباً عنهم، بل كل الرسل قبلك كانوا يذهبون إلى الأسواق، ويحضرون متاعهم، ويبيعون ويشترون، وهذا ليس عيباً فيهم، ولا عيباً فيك. قال: {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الفرقان:20]، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: لما عير المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفاقة، يعني: بالفقر، فقالوا له: أنت تذهب تعمل وتبيع، فأنت محتاج للمال مثلما نحتاج نحن إليه فبماذا فضلت علينا؟ ولماذا أنت الذي جعلت رسولاً إلينا؟ قال تعالى: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان:7]، وكأن المعنى: أنت تأكل وتشرب، وتتبول وتتغوط مثلنا، وقد ذكر الله ذلك عن المسيح عليه الصلاة والسلام، فقال: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة:75]، أي: أنه بشر من البشر، فهو يأكل مثل البشر، وأمه كذلك، والذي يأكل يحتاج إلى أن يخرج هذا الذي أكله. وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم بشر من البشر يأكل ويشرب ويحتاج أن يخرج ذلك وليس هو من الملائكة، وليس عيباً أن يكون من البشر صلوات الله وسلامه عليه، قال تعالى: {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ} [الفرقان:20]، وأتى بلام التوكيد ليؤكد أنه لم يخرج عن ذلك أحد فكلهم بشر، قال تعالى: {وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان:20]، أي: في حاجتهم، فيذهبون ويشترون ويبيعون ويتاجرون، أي: أنهم محتاجون إلى ذلك، كما قال تعالى: {وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان:20]، يقول: الإمام القرطبي رحمه الله: هذه الآية أصل في تناول الأسباب وطلب المعاش بالتجارة والصناعة. والإنسان المؤمن يتوكل على الله سبحانه وتعالى، ويعلم أن الرزق من عند الله سبحانه، وليس معنى ذلك: أن الإنسان يجلس في بيته، وينتظر أن ينزل له الرزق من السماء على أطباق يأكل منها، وإنما يخرج إلى السوق كما خرج الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام والأولياء، فكانوا يذهبون يشترون ويبيعون، ويحضرون متاعهم، فهي أصل في أن الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل على الله سبحانه وتعالى. وعندما خرج أهل اليمن للحج من غير زاد وقالوا: نحن المتوكلون، فلما وصلوا إلى مكة سألوا الناس، أنزل الله سبحانه وتعالى: {وَتَزَوَّدُوا} [البقرة:197]، أي: لا تقولوا: نحن متوكلون، ثم تسألون الناس. فهنا يذكر الله تعالى صفة في الأنبياء وهي أنهم يكتسبون، فكان أشرف الرزق لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ما كان من الغنائم في الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الفرقان الآية [20]

تفسير سورة الفرقان الآية [20] لقد أرسل الله عز وجل الرسل لهداية الناس، وتعبيدهم لرب العباد سبحانه وتعالى، وقد كان هؤلاء الرسل بشراً من جنس البشر، يأكلون كما يأكلون، ويشربون كما يشربون، وينامون كما ينامون، ويقضون حوائجهم ككل البشر، ولقد فتن الكفار بهؤلاء الرسل، وظنوا أن من شرط الرسول ألا يكون بشراً على طبيعتهم، جهلاً منهم بحقيقة الرسالة، ومقام النبوة، وقد رد الله على زعمهم هذا في هذه الآية الكريمة، وبين أن الرسل لا يكونون إلا بشراً، حتى يأنس بهم المرسل إليه، وحتى يتمكن الرسول من إبلاغ دعوته كما أراد الله تعالى.

بيان كون الرسل عليهم الصلاة والسلام بشرا كبقية البشر

بيان كون الرسل عليهم الصلاة والسلام بشراً كبقية البشر الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الفرقان: {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان:20]. يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات من سورة الفرقان أنه ما أرسل قبل النبي صلى الله عليه وسلم من المرسلين إلا وحالهم أنهم يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، فكل الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام كانوا يعملون حوائجهم بأيديهم، وهذا من تواضعهم عليهم الصلاة والسلام، فكانوا يخرجون يبتاعون ويشترون، ويقضون حوائجهم بأنفسهم، وقد علمهم ربنا سبحانه وتعالى هذا الخلق العظيم، خلق التواضع، فعلموا الخلق ذلك، وقد قال تعالى منبهاً على ذلك: {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان:20]. والتعبير بأنهم يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق إشارة إلى أنهم بشر كبقية البشر، فهم يأكلون الطعام، كما أن البشر يأكلون الطعام ويخرجونه، وكل الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام كذلك، وليس النبي صلى الله عليه وسلم بدعة من الرسل، عليه وعليهم الصلاة والسلام، بل الكل يستوي في ذلك، فهم سواء في أكل الطعام ثم إخراجه، وفي ذهابهم إلى الأسواق لإحضار طعامهم وشرابهم، وهذا دأب المرسلين عليهم الصلاة والسلام. وقوله تعالى: {وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان:20]، يعني: لشراء ما يحتاجون إليه من الأسواق، ومشي الإنسان إلى السوق لشراء حاجته، قد يكون فيه أجر له، وقد يكون فيه وزر عليه، فيؤجر عندما يتعامل بما أمر عز وجل به، وعندما يبيع ويشتري بيع المؤمن للمؤمن، أو بيع المسلم للمسلم، فلا يخون ولا يغدر ولا يغش ولا يدلس ولا يغبن، فالمسلم الذي يبيع ويشتري على هذه الصورة بالعقود الصحيحة له أجر على ذلك؛ لأنه يخاف من الله سبحانه وتعالى، وأما الإنسان الذي يذهب إلى السوق للمراء والجدال مع الناس، وللاختلاط بالنساء، والنظر والتأمل فيما حرم الله سبحانه وتعالى، وليغش ويخدع ويدلس ويغبن، فإن عليه وزراً في ذلك.

ما يقول عند دخول السوق

ما يقول عند دخول السوق ودخول السوق فيه خطر عظيم جداً، ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في سنن الترمذي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، وبنى له قصراً في الجنة) هذه رواية عند الترمذي. وفي رواية أخرى: (ورفع له ألف ألف درجة)، رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.

سبب عظم أجر هذا الذكر

سبب عظم أجر هذا الذكر فينبغي على المسلم أن يحرص على ذلك، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم أجر هذا الذكر عظيماً؛ لأنه اشتمل على عدد من مسائل الاعتقاد، وهي: أن الله واحد لا شريك له سبحانه وتعالى، وأنه يحي ويميت، وأنه يخلق، وأنه يرزق سبحانه وتعالى، وأن الله هو الحي الذي لا يموت سبحانه، وهو الذي بيده الخير، وهو على كل شيء قدير ومسائل الاعتقاد أجرها عظيم عند الله. وأيضاً لأن السوق مليء بالأشياء التي قد يأثم بها الإنسان، فقد ينظر إلى نساء عاريات، قد يصطدم بامرأة أو برجل أو كذا، فلا يخرج منه إلا وقد امتلأ من الآثام الكثيرة، وقد يحلف كاذباً في بيعه أو شراءه، وقد يخدع، وقد يمد يده إلى شيء من غير إذن صاحبه، وقد يفعل معاصٍ كثيرة، فلا يخرج من السوق إلا وقد وقع في كبيرة من الكبائر، أو في كثير من الصغائر؛ فلذلك يذكره النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الذكر، فإذا قاله لم توقعه نفسه في شيء من هذه الأشياء؛ لأنه ذكر الله عز وجل، وأن الله حي لا يموت، وأن الله يحي ويميت، فيتذكر أنه راجع إلى ربه عز وجل مرة أخرى حين يموت، وأنه قد أخذ عليه العهود والمواثيق أن يعبد الله ولا يشرك به شيئاً، وأن يفعل ما أمره الله عز وجل به، فيتذكر الإنسان أن الله حي الذي لا يموت، وأنه سيموت فيحاسبه الله سبحانه وتعالى، يتذكر أن الله على كل شيء قدير، فيخاف منه؛ لأنه ليس منه مهرب، ويتذكر أن الله سبحانه يرزق عباده، فهو الذي بيده الخير وهو على كل شيء قدير، فإذا تذكر ذلك فلن يسرق، أو يمد يده إلى شيء خفية، أو يغش؛ لأنه يعلم أن الله بيده الخير، وأن خزائنه مليئة لا تغيض، وأن المعطي هو الله، فيدع ما عند الناس، ولا يأخذ مالاً إلا بطيب نفس من صاحبه. فإذاً: على الإنسان المؤمن أن يذكر نفسه بهذا الذكر؛ حتى يتعامل مع الناس معاملة إسلامية صحيحة، فإذا دخل السوق فإنه يغض بصره، ولا ينظر إلى ما حرم الله، ولا يحسد الناس على ما أتاهم الله عز وجل من فضله سبحانه وتعالى، ولا يجادل كثيراً، ولا يماكس أو يساوم حتى يرهق الإنسان، وإنما يتخلق بالخلق الحسن، وكل ذلك يتذكره حين يقول هذا الذكر: (لا إله إلا الله)، يعني: لا أعبد إلا الله وحده لا شريك له، فعبادتي لله، فصلاتي وصيامي ودخولي السوق للبيع أو الشراء ومعاملاتي وآدابي وأخلاقي لله، وهي معاملة مع الله سبحانه، وكل هذه يتذكرها المسلم وهو يقول: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير). فإذا تذكر الثواب هانت عليه الدنيا، فإنه يعطى (ألف ألف حسنة، ويمحى عنه ألف ألف سيئة، وترفع له ألف ألف درجة)، وهذا شيء كثير جداً من فضل الله عز وجل، فإذا نظر إلى ذلك فإنه يحتقر الدنيا، فلم تعد لها عنده قيمة، فيعود ويسأل نفسه: لماذا يعمل كذا، ويحسد الناس على ما أتاهم الله من فضله؟ ولماذا ينظر إلى النساء الكاسيات؟ ولماذا يعمل كذا؟ فيتذكر عند ذلك جنة الله سبحانه، فتهون عليه الدنيا، فيدخل السوق ويحصل على الأجر من الله، ويحصل على ما يحتاجه من السوق ثم يخرج، وهذا فضل من الله.

بيان أن السوق مكان معركة الشيطان

بيان أن السوق مكان معركة الشيطان وأما غيره فإنه يدخل السوق معركة الشيطان، فقد جاء في صحيح مسلم عن سلمان رضي الله عنه قال: لا تكونن إن استطعت أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منه، فإنها معركة الشيطان، وبها ينصب رايته. فالسوق معركة الشيطان، والمعركة مأخوذة من: الاعتراك، والاعتراك: مقاتلة الأبطال، فمكان معركة الشيطان داخل السوق، ينصبها هناك، ليصطاد ضحاياه، ويوقعهم في الهوى فيضلهم، فهذا يسرق، وهذا يبخس، وهذا يغش، وهذا يحتال، وهذا يماكس، وهذا يغدر، وهذا يدلس، وهذا يبيع الشيء المعيب، وهكذا فهو معركة الشيطان؛ لذلك كان سلمان يقول: لا تكن أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منه، فإنها معركة الشيطان. يعني: فيها من يصطاده الشيطان ويضيعه. وقد ذكر الله سبحانه وتعالى عن الأنبياء أنهم دخلوا الأسواق، فيجوز للمسلم أن يدخل السوق، ولكن بالنية الحسنة، ولحاجته من البيع أو الشراء، مع التزامه بالآداب الشرعية.

بيان أن الخلق بعضهم فتنة لبعض

بيان أن الخلق بعضهم فتنة لبعض يقول الله سبحانه وتعالى: {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} [الفرقان:20]، أي: كل خلق الله عز وجل، فقد جعل الله بعضهم لبعض فتنة، حتى المتناقضات في الدنيا، مثل الغني والفقير، فإن هذا نقيض لهذا، فالفقير فتنة للغني، والغني فتنة للفقير، فكل من الاثنين فتنة للآخر، فالفقير ينظر للغني ويقول: أعطاه الله ولم يعط، وليس بأفضل مني، فيكون فتنة له، والغني ينظر للفقير ويقول: لو كان صالحاً لأعطاه الله، وما حرمه إلا لأنه لا يستحق، والذي معي إنما هو بعقلي وذكائي وتدبري، فكل واحد منهما فتنة للآخر، وكذلك المؤمن والكافر كل منهما فتنة للآخر، فالمؤمن ينظر إلى الكافر ويرى أن الله يعطيه في الدنيا مالاً وبنين وكذا وكذا، فيكاد يتزلزل عن دينه، لولا أن الإيمان الذي في قلبه يثبته، ولولا شرع الله عز وجل الذي يقول له: لا، فنحن جعلنا هذا لك فتنة، فإياك أن تفتن بذلك، فإنما نبتليك بهذه الدنيا، فاصبر، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان:20]، فيقول المؤمن: أصبر على هذه الدنيا. والكافر ينظر إلى المؤمن، وإلى البلاء الذي هو فيه، وإلى الكرب والتضييق الذي عليه فيقول: لو كنت أسلمت لحصل لي هذا، فيكون فتنة له. وكذلك الصحيح والمريض، فإن المريض ينظر إلى الصحيح فيكون فتنة له، فيتساءل لماذا هو صحيح يمشي على رجليه وأنا لا أقدر على المشي بقدمي، وإنما على عصا؟ ولماذا هو بصير وأنا أعمى لا أرى؟ ولماذا هو يسمع وأنا لا أسمع؟ فجعل بعضهم لبعض فتنة، فهذا يفتن بهذا، وهذا يفتن بهذا. والإنسان البصير يرى أنه أحسن من المريض؛ لأنه ينظر والمريض لا ينظر. وهكذا يبتلي الله عز وجل العباد بعضهم ببعض. ثم أمرهم الله بالصبر على قضاء الله وقدره، فقال: {أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان:20]؟ وجعل الرسل فتنة لأقوامهم، فمع أنهم هداية لأقوامهم من الضلال إلا أنهم فتنة لهم، كما قال أحد الكفار: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31]، يعني: ألا يوجد عظيم في القريتين -مكة والطائف- ينزل عليه القرآن غير محمد صلوات الله وسلامه عليه؟ أفلا يوجد في مكة فلان وفلان، وفي الطائف فلان وفلان؟ ثم هو فقير ليس معه شيء ومع ذلك صار نبياً ورسولاً!! فكان صلى الله عليه وسلم فتنة للكفار، فامتنعوا من الدخول في دين الله عز وجل؛ لأنهم رأوا أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس أغناهم، ولا رئيس القبيلة التي هو فيها، ففتنوا بذلك، فقال الله عز وجل للمؤمنين: {أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان:20]؟ أي: تصبرون على هذه الفتن وهذا البلاء أم تكفرون؟ فالمؤمن يصبر لأمر الله سبحانه وتعالى، ويعلم أن ما أصابه من مصيبة فبما كسبت يداه، وأيضاً الحكام والرعية فإن بعضهم لبعض فتنة، فالمحكوم يقول: إن الحاكم ظالم يظلمني، ويعمل كذا وكذا، والله يقول له: اصبر لأمر الله سبحانه وتعالى، وأما الحاكم فإنه يتعالى على المحكوم ويقول: أنا أحسن منه، ولم أصل إلى هذا المكان إلا بذكائي ومنزلتي، وصدق الله عندما قال: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان:20]. فالإنسان المسلم يصبر على قضاء الله وقدره، ويصبر عن معصية الله فلا يقع فيها، ويصبر على طاعة الله فيأتيها، فهو صابر لأمر ربه، وربنا يقول: {أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان:20]. وقد روي أن الإمام المزني رحمه الله وهو من تلامذة الشافعي رضي الله عنهما أخرجته الفاقة والفقر يوماً -وقد كانوا يقولون: من طلب العلم الشرعي فلا بد أن يعانق الفقر، وقد كان أغلب العلماء رضي الله تبارك وتعالى عنهم فقراء- خرج يوماً فلم يجد ما يأكل ولا ما يشرب؛ فخرج يبحث عن رزق، فرأى رجلاً في مراكب ومواكب، وليس عنده علم، وإنما كان من الجهال، ويركب المراكب، وحوله مواكب يحمونه ويحرسونه، فلما نظر إليه سمع شخصاً يقرأ هذه الآية: ((وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ))، وهذا من رحمة الله به، فإنه يعظه، ويقول له: اصبر فهذا المزني رحمه الله. وروي أيضاً: أن ابن القاسم صاحب مالك تلا هذه الآية حين رأى أحد الأمراء وهو أشهب بن عبد العزيز في مملكته عابراً عليه، فتلا هذه الآية: ((وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ)). فالمؤمن حين يرى شيئاً لا يقدر عليه يقول: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، فلا يحسد أحداً، ثم يذكر نفسه بقوله تعالى: ((وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ))، ويقول: سأصبر لأمر الله سبحانه وتعالى. أما أن يحسد المبتلى المعافى فهذه هي الفتنة، إذاً: فمعنى قوله تعالى: ((وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً))، أن يقوم المبتلى والفقير وصاحب الحاجة والمريض وصاحب المنزلة الضعيفة والحقيرة يحسد من هو أفضل وأعلى منه، فهذه هي الفتنة أو أن يحتقر صاحب النعمة من هو أقل منه، فهذه فتنة، فالله عز وجل يقول للجميع: (أتصبرون)، فلا بد للإنسان من أن يصبر، ويقول: إن كان الله قد أعطاني المال، فسأنفقه في الوجوه التي يريدها سبحانه وتعالى، وأعطيه لله سبحانه وتعالى، ويقول الفقير: سأصبر على هذه الحاجة التي أنا فيها؛ لأني ابتغي جنة الله سبحانه وتعالى، ((وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ)). وقد كان من الفتن التي فتن الله بها قريشاً: أنهم نظروا لهذا القرآن وعلموا أنه ليس من كلام البشر، بل من كلام الرب العظيم سبحانه، ثم نظروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، فرأوا معه أبا ذر وعبد الله بن مسعود وعماراً وبلالاً وصهيباً وعامراً بن فهيرة وسالماً مولى أبي حذيفة وهم فقراء وبعضهم عبيد، فقالوا: إذا أسلمنا أصبحنا مثلهم، وقعدنا معهم، فلن ندخل في هذا الدين، والذين قالوا هذا القول هم أبو جهل بن هشام والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وعقبة بن أبي معيط وعتبة بن ربيعة والنضر بن الحارث، وكانوا مشايخ قريش وأغنيائها ورؤسائها، فهم الذين قالوا: لن نسلم ونجلس مع هؤلاء، وقالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: إن أردت أن نسلم فاجعل لنا يوماً لا يقعدون فيه معنا، فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجابتهم، وإذا بالله عز وجل ينزل على نبيه صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:52]. أي: احذر أن تطرد هؤلاء عنك، كما يريد الكفار من إبعادهم؛ حتى يجلسوا هم، ثم نصر الله عز وجل دينه، وأذل هؤلاء الكفار، فمنهم من مات على كفره، ومنهم من أسلم بعد ذلك، فرأى فضل هؤلاء السابقين عليه، والذين ذكرهم الله عز وجل بقوله: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة:10]، أي: الذين سبقوا، وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100]، ولذلك: فإن الإنسان المؤمن يصبر إن كان ضعيفاً أو فقيراً أو محتقراً عند القوم، وليعلم أن له عند الله عز وجل ما ترفع به درجته.

دلالة الآية على طلب الرزق

دلالة الآية على طلب الرزق وهذه الآية أيضاً أصل في تناول الأسباب والأخذ بها، وطلب المعاش بالتجارة والصناعة والاحتراف وغير ذلك. فالإنسان المؤمن يعمل ويكتسب بعرقه وبتعب يده، وهذا من أشرف الكسب، فيبيت وقد غفر الله عز وجل له بكسبه وتعبه، فلا يجلس فارغاً في بيته ويقول: لم أجد العمل المناسب، بل إذا وجد عملاً ولو غير مناسب أو ضعيف وهو حلال فهو أفضل له عند الله عز وجل من أن يتكفف الناس، ويمد يده إليهم، وينتظر من ينفق عليه. ولذلك نقول لإخواننا الشباب: اجتهدوا واتعبوا واشتغلوا ولا يجلس الواحد بعد أن يتخرج من الكلية في بيته فارغاً، ويستدين أموال الناس، وإنما يعمل ولو عملاً ضعيفاً، ويتعب نفسه، والله عز وجل سيكافئه على قدر تعبه، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]. فالأنبياء كانوا يتعبون، وكانوا يتوكلون على الله سبحانه، وقد قال ربنا سبحانه وتعالى عن داود: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} [الأنبياء:80]، فعلمه صنعة الزرود، وصنعة الدروع، وعلم سيدنا نوحاً كيف ينجر ويصنع السفينة، والنبي صلى الله عليه وسلم تاجر وتعب، صلوات الله وسلامه عليه، وقد رعى الغنم قبل ذلك عليه الصلاة والسلام، ثم شرفه الله عز وجل بالجهاد في سبيله، وجعل رزقه تحت ظل رمحه، فالإنسان المؤمن لا يأنف من طلب الرزق طالما أنه من وجه حلال. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الفرقان [21 - 26]

تفسير سورة الفرقان [21 - 26] الكافرون دائماً يتعنتون على مر الزمان، فهم يسألون أسئلة ويطلبون مطالب من أنبيائهم على وجه التعجيز وليس للإيمان، وعلى ذلك فإن الله لا يقبل منهم عملاً صالحاً لعدم وجود شرط الإيمان فيهم، ويوم القيامة يظهر الهول، وتشتد الكربات، ويظهر الأمر جلياً أن الملك كله لله الواحد القهار.

تفسير قوله تعالى: (وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة)

تفسير قوله تعالى: (وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الفرقان: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا * يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا * وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا * أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا * وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلًا * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} [الفرقان:21 - 26]. يخبرنا ربنا سبحانه وتعالى في هذه الآيات كيف أن المشركين كانوا يتنطعون مع النبي صلى الله عليه وسلم ويطلبون ما يستحيل عليهم أن يجاب لمثله، قال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ} [الفرقان:21]، فلو شاء الله عز وجل لأنزل ملائكة، ولكن حكمته سبحانه وتعالى تأبى ذلك؛ لأن معناها الإيمان جبراً وقهراً، وإذا رأى الإنسان الملائكة ماذا يملك؟ هل يقدر أن يختار؟ يرى الملائكة أمامه ثم يقول: أؤمن أو لا أؤمن، لا لن يقول ذلك، ولكن إذا رأى الملائكة لا بد أن يؤمن؛ لأنه يخاف ولا طاقة له بهؤلاء الملائكة، فلذلك من حكمة ربنا سبحانه أن يجعل للإنسان اختياراً في باب التكليف، فيكتسب الخير ويكتسب الشر ويحاسب على كسبه، والتوفيق من الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يقدر الأقدار سبحانه وهو الذي يعلم أن هذا في الجنة وهذا في النار، وهو الذي يعطي للإنسان الاختيار ليختار بمشيئته الله في ذلك، قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29]. هؤلاء الكفار الذين لا يرجون لقاء الله، أي: لا يخافون لقاءنا أو لا يؤملون ذلك، أو لا يبالون به فكله من معاني (لا يرجون)، فهم لا يرجون لقاء الله، يعني: ليس على بالهم هذا الشيء؛ لعدم وجود الإيمان باليوم الآخر في قلوبهم، وهم لا يرجون لقاء الله، بل يقولون: {مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24]، إذاً: فلا يوجد بعث بعد أن نصير تراباً، فلن نحاسب ولن نجازى وهم لا يؤملون ذلك، فلا يؤمل لقاء الله إلا هذا الذي يرجو جنة الله ويخاف من عذابه، وهؤلاء ليس على بالهم هذا الشيء فـ {لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} [الفرقان:21]، أي: لا يخافون من لقائنا ولا يبالون بلقائنا ولا يؤملون لقاءنا، فقوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} [الفرقان:21]، هم الكفار. قال تعالى: {لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ} [الفرقان:21]، ولولا: للتحضير والحذف، يعني: هلا نزل علينا الملائكة؟ {لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا} [الفرقان:21]، يعني: من التطاول قولهم: حتى نرى ربنا، وكأنهم يقولون: لن نؤمن إلا بذلك، وهم الذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا} [الإسراء:90 - 92]، و (قبيلاً): مقابلة يعني: نرى الملائكة أمامنا بأعيننا، ولن نؤمن لك حتى وإن أتيتنا بهذا كله، ويقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: ولو أتيت بهذا كله فلا نظن أننا نصدقك. إذاً: فالمعنى: أن الطلب لمجرد المعاندة، فيصير الأمر على ذلك أنهم لن يؤمنوا، فالله أعلم سبحانه وتعالى، وعلمه عظيم وهو الحكيم وهو القوي سبحانه القادر على كل شيء، فإذا آمنوا لن يزداد ملك الله عز وجل بهؤلاء شيئاً، ولو أنهم كفروا وعتوا عتواً كبيراً لم يخسر الله سبحانه وتعالى شيئاً، فهم مع جهلهم وغبائهم يظنون أن تعنتهم على النبي صلى الله عليه وسلم ينفعهم، ولكن ستجري عليهم أقدار الله عز وجل شاءوا أم أبوا، وفي النهاية إلى النار إن ماتوا وهم كفار. قال ربنا سبحانه: {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا} [الفرقان:21]، أي: هؤلاء المتكبرون المتجبرون لقد استكبروا في أنفسهم، والإنسان الذي يستكبر في نفسه يحس أنه أعلم من غيره وأفضل من غيره، فيقول الله عز وجل لهؤلاء المستكبرين: {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} [الفرقان:21]، والعتو: أعظم الظلم وأفحشه، والعتو كذلك: أشد الكفر والفساد في الأرض، والعتو هنا بمعنى: العلو على هيئة الاستكبار، فقد علو وتعاظموا في أنفسهم، واستكبروا على النبي صلى الله عليه وسلم، وأفسدوا في الأرض بكفرهم وعبادتهم غير الله سبحانه وتعالى، وظلموا أنفسهم وغيرهم.

تفسير قوله تعالى: (يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين)

تفسير قوله تعالى: (يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين) قال الله سبحانه: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً} [الفرقان:22]، أي: يرون الملائكة في أثناء قتالهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يراهم إلا الكافر وهم يضربونه على رأسه وعلى جنبه، فالكفار يرون الملائكة، يرونهم وهم يقتلونهم. قوله تعالى: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى} [الفرقان:22]، أي: لهم لا الملائكة، فلن يأتيهم وهم على كفرهم إلا بالعذاب، فيتطاولون ويطلبون رؤية الملائكة، والله عز وجل يعلم أن هؤلاء لا يطيقون ذلك، بل إذا رأى أحدهم جنياً فزع وخاف، وهم من أخوف الناس من الجن، فقد كان الواحد منهم إذا مشى في طريق يأتي الشيطان يستهويه ويضحك عليه فيفزع ويخاف، حتى إنه ليكفر بالله سبحانه ويقول: أعوذ برب هذا الوادي، يعني: بسيد هذا الوادي من الجن، فهو لم ير الملائكة، فإذا رآهم وأنزلهم الله عز وجل عليه فكيف سيميز بينهم وبين الجان؟ فهم يقولون ما لا يفهمون، وكأنهم يطلبون العذاب من الله سبحانه. والكفار أغبياء وحمقى حتى في دعائهم على أنفسهم، فهم يقولون: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} [الأنفال:32]، فهذا الدعاء يدل على غباء القلوب والعقول، فالإنسان يقول: يا ربِّ! إن كان هذا هو الحق فاهدني إليه، والذي يقول: يا ربِّ! عذبني، فيطلب العذاب لنفسه فهو أحمق لا يفكر. يقول سبحانه: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ} [الفرقان:22]، أي: لا توجد بشارة لهم، بل العذاب الشديد، فقد أعطاهم الله في الدنيا مالاً ويقولون: إذا رجعنا إلى الله فإنه سيعطينا كذلك، فيخدعون أنفسهم بذلك؛ لأنه لا بشارة للمجرمين، إنما البشارة للمؤمنين يوم القيامة. والملائكة تضرب الكفار على وجوههم وعلى أدبارهم في أثناء خروج أرواحهم من أجسادهم، وتتقد قبورهم عليهم ناراً، ويوم القيامة يدخلون النار والعياذ بالله. قال الله تعالى: {وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان:22]، وهؤلاء المجرمون إذا رأوا الملائكة يضربونهم على وجوههم وأدبارهم، ومعهم مقامع من حديد كلما أرادوا أن يخرجوا من النار أعيدوا فيها، قال لهم الملائكة: {حِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان:22]، يعني: حراماً محرماً عليكم دخول الجنة، فكلما جاءت النار وعلت بهم يودون أنهم يخرجون فتأتي المقامع من فوق رءوسهم وتردهم ثانية في نار جهنم والعياذ بالله، فالملائكة تقول: إن خروجكم من النار محرم عليكم، وممنوع دخولكم الجنة. والحجر: الحاجز الذي يحيط بالإنسان، وسمي عقل الإنسان حجراً؛ لكونه يحجزه عن المعاصي، ويحجزه عن أن يؤذي نفسه أو يؤذي غيره، فعقل الإنسان يدفع الإنسان إلى أن يفعل الخير وأن يجتنب الضر فسمي حجراً، وكما تقول: حجراً محجوراً، كذلك الكفار يقولون ذلك، فالكافر يقول: حجراً محجوراً يعني: لا تؤذونا يا ملائكة! ولا تعذبونا، حرام عليكم أن تفعلوا بنا هذا الشيء، والملائكة تقول: حجراً محجوراً، أي: لن تخرجوا من هذا المكان، فأنتم محبوسون فيه دائماً.

تفسير قوله تعالى: (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا)

تفسير قوله تعالى: (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً) يقول الله سبحانه وتعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]، أي: قدمنا إلى ما عمل هؤلاء الكفار، ومعنى ذلك: عمدنا إلى أعمالهم التي عملوها وقدموها في الدنيا، فالكافر قد يفعل الخيرات فيبر أمه، ويصل رحمه، ويتصدق على إنسان على دينه أو على غير دينه، لكن الله عز وجل لا يدخر له أجراً للآخرة، بل يعطيه في الدنيا فقط، فقد يعطيه صحة حين يمرض ويشفيه الله سبحانه وتعالى، وقد يعطيه مالاً ويعطيه البنين بحيث لا يبقى له عند الله يوم القيامة شيء، فإذا مات وجاء يوم القيامة ضاع هذا العمل فجعله الله عز وجل {هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]، والهباء: الذرة التي تراها من النافذة حين تدخل الشمس، وحين تمسك هذه الذرات بيدك لا تجد شيئاً في يدك، فهذا الهباء، أو هو غبار التراب الذي تبثه وتذروه الرياح، فكذلك هؤلاء الذين كانوا يعملون في الدنيا بالخير لا يقبل منهم؛ لأن قبول الخير مقيد بشرطه وهو الإيمان، أن يكون مؤمناً بالله سبحانه، ومؤمناً برسله عليهم الصلاة والسلام، ومؤمناً بالملائكة، ومؤمناً باليوم الآخر، ومؤمناً بالقضاء والقدر، فإذا جاء بأصول الإيمان يقبل الله منه عمله، وإذا لم يأت بأصول الإيمان لا يقبل الله منه شيئاً.

تفسير قوله تعالى: (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا)

تفسير قوله تعالى: (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مقيلاً) أما أصحاب الجنة فيذكرهم ربنا سبحانه وتعالى وكأنهم صحبوا الجنة، فهم معها دائماً لا يخرجوا منها وكما أن هؤلاء أصحاب النار ملازمين للنار ملازمة الرفيق لرفيقه والصاحب لصاحبه، كذلك أصحاب الجنة يلازمونها ولا يخرجون منها أبداً، وبين الله حالهم فقال سبحانه: {خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان:24]، والمستقر: مكان القرار، فأصحاب في خير مستقر، وأهل النار في شر مستقر وهو النار، وهؤلاء في خير مقر يستقرون فيه وهو الجنة، وفي أحسن مقيل يقيل فيه الإنسان وإن كانوا لا ينامون، والمعنى: أنه مكان راحة، أي: يدخل أهل الجنة الجنة فيستريحون فيها، والله عز وجل يمتعهم بما شاء خالدين فيها أبداً، ولا نوم في الجنة. فهنا المقيل بمعنى: الراحة، أو بمعنى: المنزل، أو بمعنى: المثوى والمأوى، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: لا ينتصف النهار يوم القيامة من نهار الدنيا حتى يقيل هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار. يعني: يفصل الله عز وجل القضاء بين خلقه ولا يشغله شيء عن شيء، ويطيل الله عز وجل يوم القيامة على من يشاء ويخفف على من يشاء سبحانه وتعالى، فلا ينتصف النهار حتى يدخل هؤلاء الجنة ويدخل هؤلاء النار.

تفسير قوله: (ويوم تشقق السماء بالغمام)

تفسير قوله: (ويوم تشقق السماء بالغمام) قال تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلاً} [الفرقان:25]، أي: اذكر ذلك {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} [الفرقان:25]، فقبل أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار يسبق ذلك حساب الله سبحانه وتعالى لعباده، فاذكر {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} [الفرقان:25]، يعني: اذكروا هذا اليوم، وليكن على بالكم، واعملوا لهذا اليوم، يوم تشقق السماء فترى فيها الغمام الذي يحجب ما وراءه، وينشق هذا الغمام وينزل منه الملائكة، يقول ابن عباس: تتشقق سماء الدنيا فينزل أهلها وهم أكثر ممن في الأرض من الجن والإنس، ويبدل الله سبحانه الأرض، قال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ} [إبراهيم:48]، إذاً: فالأرض تسع هؤلاء كلهم، ولا شك أن الأرض شيء صغير جداً بجوار السماء، فالملائكة حينما ينزلون، لا تسعهم هذه الأرض، ولكن الله عز وجل يبدلها أرضاً أخرى فتسع هؤلاء كلهم، فيأتي الملائكة وينزلون من عند رب العالمين سبحانه. يقول ابن عباس: فينزل أهلها وهم أكثر ممن في الأرض من الجن والإنس، ثم تنشق السماء الثانية فينزل أهلها وهم أكثر ممن في السماء الأولى، ثم كذلك حتى تنشق السماء السابعة. وهذا شيء فظيع جداً وشيء مهول، فالخلق واقفون، والملائكة تنزل وتحيط بهم، والناس في فزع عظيم نسأل الله العفو والعافية، ويسأل الناس الملائكة أفيكم ربنا؟ مما يرونه من عظمة الملائكة في هذا اليوم ونزولهم من السماء، فيظنون أن فيهم الله سبحانه، ثم يأتي الله سبحانه وتعالى لفصل القضاء، نسأل الله عز وجل العفو والعافية. يقول سبحانه: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ} [الفرقان:25]، أصلها: تتشقق، فقوله: (تشَّقَّق) قراءة أبي عمرو، وأما قراءة الكوفيين: عاصم وحمزة والكسائي وخلف وباقي القراء: (وَيَوْمَ تَشَّقَّقُ السَّمَاءُ) بمعنى: تتشقق السماء، والمعنى: المبالغة، فالسماء يأتي أمر الله إذا بها تكشط كما يكشط الشيء من على وجه اللبن. فقوله تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} [الفرقان:25]، يعني: تتشقق فيبدو الغمام عن الغمام، وقوله تعالى: {وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلًا} [الفرقان:25]، أي: ملائكة السماء ينزلون من السماء وأهل الأرض يسألونهم: فيكم ربنا؟ فيقولون: لا، قال تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22]، فجاءت الملائكة من السماء وأتى ربنا سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ} [الفرقان:25]، يعني: أنزلهم الله سبحانه وتعالى، هذه قراءة الجمهور، وقراءة ابن كثير: (وننزِلُ الملائكة تنزيلاً)، يعني: ينزلهم الله عز وجل من السماء فيحيطون بأهل الأرض.

تفسير قوله تعالى: (الملك يومئذ الحق للرحمن)

تفسير قوله تعالى: (الملك يومئذ الحق للرحمن) قال الله تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً} [الفرقان:26]، فهذا يظهر الملك الحقيقي، فالإنسان في الدنيا يقول: أنا ملك وأنا مالك، أي: أملك بيتي وأملك كذا، ويقول: أنا حاكم على الناس، فإذا أتى يوم القيامة ظهرت الحقيقة، وهي أنه لا أحد يملك شيئاً، وإنما {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} [الفرقان:26]، سبحانه وتعالى. وفي الدنيا كذلك الملك لله سبحانه وتعالى، ولكن جعل الناس بعضهم لبعض، وسخر بعضهم لبعض، فبعضهم يملك بعضاً، وبعضهم ملوك على البعض في الدنيا، وليس هذا على الحقيقة، فالمالِكُ والملِكُ الحقيقي هو الله سبحانه وتعالى، فيوم القيامة يظهر ذلك جلياً، قال: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا} [الفرقان:26]، أي: يوم القيامة {وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} [الفرقان:26]، أي: يوماً شديداً شاقاً فظيعاً، يقولون: يا رب! اصرفنا ولو إلى النار، نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الفرقان [27 - 29]

تفسير سورة الفرقان [27 - 29] يندم الإنسان يوم القيامة فلا توبة تنفعه ولا ندم، فقد كان في الدنيا يعرف الحق، ولكنه ضل وانحرف، وكان من أصدقاء السوء من يبعده عن طريق الحق ويشجعه على اتباع الباطل، وهذه الآيات من سورة الفرقان توضح ذلك.

تفسير قوله تعالى: (ويوم يعض الظالم على يديه)

تفسير قوله تعالى: (ويوم يعض الظالم على يديه) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الفرقان: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:27 - 29]. في هذه الآيات من سورة الفرقان يخبرنا الله سبحانه وتعالى عن ندم العصاة والظلمة يوم القيامة وندم المجرمين يوم لا ينفع الندم، فالإنسان يندم في الدنيا وينفعه ندمه، ويتوب إلى الله وتقبل توبته، فإذا غرغرت نفس الإنسان وخرجت فلن تقبل له توبة، فذاك حين {لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158]. ويوم القيامة يريد الكافر أن يؤمن؛ لأنه قد رأى أمامه ما كان غيباً قبل ذلك، فلا ينفعه هذا الإيمان، وإنما ينفعه في الدنيا حين كان الإيمان بالغيب، قال تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3]، فالإيمان ينفع حين يكون الأمر غيباً، أما أن يؤمن والأمر مشاهد أمامه فلا ينفعه ذلك، فيوم القيامة يكثر الندم، قال تعالى: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن:9]، يوم يرى المؤمن نفسه مقصراً فكيف بالفاجر؟ وكيف بالعاصي؟ وكيف بالكافر؟ المؤمن يقول: ضيعت من عمري أياماً كان من الممكن أن أفعل فيها طاعات فترتفع درجاتي، وآخذ بها ثواباً أكثر مما أنا فيه، وسمى الله عز وجل ذلك اليوم بيوم التغابن؛ لأن كل إنسان يرى أنه مغبون، والغبن في الدنيا: أن تشتري السلعة بأكثر من ثمنها، أو تبيع السلعة بأقل من ثمنها، فالإنسان يرى أنه اشترى الدنيا ودفع فيها الكثير، فضيع من وقته وضيع من جهده ودينه، فيوم القيامة يندم؛ لأنه اشترى هذه الدنيا ودفع فيها العمر الذي كان من الممكن أن يستغله في شيء أفضل من ذلك، كذلك يرى أنه باع الآخرة بثمن بخس قليل في الدنيا، باع آخرته بالمعاصي التي فعلها، وبشهوات ضاعت، وبلذات انقضت، وبأموال تركها لورثته، فذلك يوم التغابن، يوم يشعر فيه كل إنسان أنه غبن نفسه وخدعها، وخانته نفسه. وفي هذه السورة يخبرنا الله عز وجل عن الظالمين والمجرمين والمشركين والكفرة يوم القيامة، وذلك حين يعض الظالم على يديه، فالإنسان عندما يستشعر الندم لشيء ضيعه يعض أصبعه، كذلك النادم يوم القيامة يعض يديه، قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} [الفرقان:27].

سبب نزول قوله تعالى (ويوم يعض الظالم على يديه)

سبب نزول قوله تعالى (ويوم يعض الظالم على يديه) قال المفسرون: هذه الآية نزلت في خصوص بعض المشركين، وإن كانت العبرة بعموم اللفظ، فلا مانع من أن نعرف هؤلاء الذين نزلت في خصوصهم هذه الآية، وإن كان كل ظالم يوم القيامة يفعل ذلك: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ} [الفرقان:27]، فالذي لم يتبع النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقتد به ولم يدخل في دينه، يعض على يديه يوم القيامة ويقول ذلك. يقول ابن عباس وسعيد بن المسيب: إن الظالم هاهنا يراد به عقبة بن أبي معيط وخليله أمية بن خلف، فقوله تعالى: {يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا} [الفرقان:28]، هي على عمومها، فكل إنسان صادق إنساناً من أهل السوء ومشى معه، وأحبه للدنيا يجيء يوم القيامة كما قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة:166]، فلا صلات فيما بينهم، ولا قرابات تنفعهم، فيندم كل إنسان على ما فرط وضيع، ويقول: {يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا} [الفرقان:28]، قال ابن عباس: سبب نزول هذه الآية أن عقبة بن أبي معيط كان خليلاً لـ أمية بن خلف، وأمية بن خلف وأبي بن خلف أخوان، وكان الثلاثة يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم. وعقبة بن أبي معيط ابنته من المؤمنات المهاجرات رضي الله عنها، واسمها أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط هاجرت وحدها إلى النبي صلوات الله وسلامه عليه، وأبوها من رءوس الكفر، يقول ابن عباس: يراد بهذه الآية عقبة بن أبي معيط وخليله أمية بن خلف، فأما عقبة فقتله علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان عقبة في الأسارى في يوم بدر، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله؛ بسبب إيذائه الشديد للنبي صلى الله عليه وسلم وهو في مكة، ولو كان هذا الرجل أسلم لتركه النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن ظل على كفره فأمر بقتله صلوات الله وسلامه عليه، فقال: (أأقتل دونهم؟ فقال: نعم بكفرك وعتوك)، أي: أنت كنت كافراً شديد الإفساد وشديد العتو، فقال عقبة: من للصبية؟ قال: (النار)، فقتله علي رضي الله تبارك وتعالى عنه.

مقتل أمية بن خلف في غزوة بدر

مقتل أمية بن خلف في غزوة بدر وأما خليله أمية بن خلف فقتله النبي صلوات الله وسلامه عليه، وفيها قصة يرويها الإمام البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله تبارك وتعالى عنه قال: انطلق سعداً بن معاذ معتمراً فنزل على أمية بن خلف وكنيته: أبو صفوان، وكان أمية إذا انطلق إلى الشام فمر بالمدينة نزل على سعد، إذ كانا صديقين أي: أن سعد بن معاذ كان صديقاً لـ أمية بن خلف، وأمية هذا كافر في مكة، وذاك أسلم وهو في المدينة رضي الله عنه، فكان سعد إذا راح إلى هنالك يطوف بالكعبة ينزل على أمية بن خلف، وكان أمية كذلك إذا جاء المدينة نزل على سعد، فلما نزل سعد في مكة قال أمية: انتظر حتى إذا انتصف النهار وغفل الناس انطلقت فطفت، وذلك بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وإيواء الأنصار له، وكان على رأس الأنصار سعد بن معاذ رضي الله عنه، وكان يحبه النبي صلوات الله وسلامه عليه، فهؤلاء هم الذين آووا النبي صلى الله عليه وسلم ونصروه، وكونه يذهب إلى مكة فإن أهل مكة يعرفون أن هذا سعد بن معاذ الذي آوى النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك ستحصل مشاكل هنالك. لذلك نزل على أمية بن خلف صديقه، فـ أمية بن خلف قال: انتظر لا تطف حتى ينتصف النهار، فلما انتصف النهار أخذ يطوف، فبينما هو يطوف إذا بـ أبي جهل لعنة الله عليه يقول: من هذا الذي يطوف بالكعبة؟ فقال سعد: أنا سعد، فقال أبو جهل: تطوف بالكعبة آمناً وقد آويت محمداً -صلوات الله وسلامه عليه-؟ فقال له: نعم أطوف آمناً بالبيت وقد آويناً محمداً صلوات الله وسلامه عليه، وكان شجاعاً رضي الله تبارك وتعالى عنه، فتلاحيا بينهم، يعني: كل واحد شتم الثاني، أبو جهل شتمه، وهو رد عليه الشتمة، ولاحظ أنه وحده رضي الله عنه وأبو جهل في وسط الناس وفي وسط الكفرة الذين يبغضون النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج أمية وقال لـ سعد: لا ترفع صوتك على أبي الحكم فإنه سيد أهل الوادي، فقال سعد: والله لإن منعتني أن أطوف بالبيت لأقطعن متجرك بالشام، وقد قال الله سبحانه يمن على قريش: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} [قريش:1 - 2]، أي: يذهبون إلى الشام فيتاجرون، ويذهبون إلى اليمن فيتاجرون، فجعل أمية يقول: لا ترفع صوتك على أبي الحكم فقال له: دعنا عنك، فإني سمعت محمداً صلى الله عليه وسلم يزعم أنه قاتلك، وكلمة يزعم هنا بمعنى: يقول وليس معناه: أنه ظن أو كذب، فقال أمية: أنت سمعت هذا من محمد -صلى الله عليه وسلم- قال: نعم، فقد كانوا يلقبون النبي صلى الله عليه وسلم بالصادق الأمين، فمهما كذب هؤلاء الملاعين النبي صلى الله عليه وسلم فإنه في قرارة أنفسهم أنه صادق؛ ولذلك قال ربنا سبحانه: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33]، لذلك لما قال سعد لـ أمية: إن النبي صلى الله عليه وسلم زعم أنه قاتلك، قال: أنت سمعت هذا من محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: نعم، فقال أمية: والله ما يكذب محمد إذا حدث، فرجع إلى امرأته فقال: أما تعلمين ما قال لي أخي اليثربي؟ فقالت: وما قال؟ قال: زعم أن محمداً يزعم أنه قاتلي، قالت: فوالله ما يكذب محمد -صلى الله عليه وسلم- وهي كافرة وزوجها كافر، وهم الذين يقولون عنه كاذب، ويكذبونه عليه الصلاة والسلام، ولكن بينهم وبين أنفسهم هو ليس بكذاب، بل هو صادق صلى الله عليه وسلم، فلما خرجوا إلى بدر وجاء الصريخ في يوم فنادوا: تعالوا نقاتل محمداً ومن معه عليه الصلاة والسلام، فقالت له امرأته: أما ذكرت ما قال لك أخوك اليثربي؟ فقال: نعم، فأراد ألا يخرج؛ لأنه خاف من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتله، وقدر الله سبحانه وتعالى أن يلقاه أبو جهل ويقول له: إنك من أشراف الوادي، فاخرج معنا يوماً أو يومين، فسار معه حتى كانت نهايته بعد ذلك، وكان من المحفزين له على الخروج عقبة بن أبي معيط، ذلك الملعون الذي قال له: اخرج، وأتى بجمرة فيها بخور ووضعها أمامه وقال: اقعد إنما أنت مع النساء، فقال أمية: قبحك الله وأخذته العصبية وخرج معهم حتى يقتل هنالك. ويخبر عبد الرحمن بن عوف فيما رواه البخاري أنه كان بينه وبين أمية مكاتبة قال: كتب أمية بن خلف بأن يحفظني في ضيعتي بمكة وأحفظه في ضيعتي في المدينة، فلما جاء يوم بدر وخرج أمية بن خلف، وقد حضر لنفسه أجود بعير في مكة ليهرب منه صلوات الله وسلامه عليه، فلما جاء إلى بدر أراد أن يهرب، وحاول عبد الرحمن بن عوف أن يحميه، فإذا بـ بلال رضي الله عنه يراه، وقد كان أمية يعذب بلالاً رضي الله عنه، فقال: أمية بن خلف رأس الكفر لا نجوت إن نجا، فنادى الأنصار فحاول عبد الرحمن بن عوف أن يحمي أمية فلم يستطع، وكان مع أمية ابنه علي بن أمية بن خلف، فقال عبد الرحمن بن عوف: فشغلتهم بابنه فقتلوه، وجاء من وراءه أمية حتى لا يقتلوه، قال عبد الرحمن بن عوف: فقلت له: ابرك ونم على الأرض، ونام فوقه عبد الرحمن بن عوف يريد أن يحميه، فإذا به تتناوشه السيوف من تحت عبد الرحمن بن عوف وجرحوا عبد الرحمن بن عوف رضي الله تبارك وتعالى عنه، وقتلوا رأس الكفر أمية بن خلف وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أسر عقبة بن أبي معيط يوم بدر وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله

أسر عقبة بن أبي معيط يوم بدر وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله وأما عقبة بن أبي معيط خليل أمية فله قصة أخرى مع النبي صلى الله عليه وسلم في إساءته إليه، روى البخاري من حديث عمرو بن العاص وقد سأله عروة عن أشد ما آذى الكفار النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في حجر الكعبة، إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: أتقتلون رجلاً أن يقول: ربي الله. أيضاً: جاء أن ابن أبي معيط وأبي بن خلف التقيا، وكان عقبة خليلاً لـ أبي بن خلف، وقد كان أبي ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكاد يسلم، فصنع وليمة ودعا لها النبي صلى الله عليه وسلم فرفض النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيها؛ لأنه كافر، فقال: أريد أن أسلم، فلما قال ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم إذا بـ عقبة بن أبي معيط يلومه ويقول له: لم تبق بيني وبينك مودة ولا محبة حتى تذهب إليه وتشتمه وترد عليه الذي قال. وذكر في رواية أخرى أنه أمره أن يذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأن يدخل عليه ويشتمه، فلما كان يوم بدر أسر عقبة بن أبي معيط في الأسارى، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله، بسبب أفعاله الشنيعة التي استحق بها أن يقتل وألا يعفى عنه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم علياً فقتله.

مقتل أبي بن خلف على يد النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد

مقتل أبي بن خلف على يد النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد وقد كان أبي بن خلف يريد قتل النبي صلى الله عليه وسلم فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن أبياً بن خلف يقول ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: (بل أنا قاتله إن شاء الله)، وقتله النبي صلى الله عليه وسلم بيده الكريمة عليه الصلاة والسلام، أما أخوه أمية فقتله الأنصار الذين كانوا مع بلال رضي الله عنه، وانطلق أبي للنبي صلى الله عليه وسلم وأراد أن يلتمس غفلة من النبي صلى الله عليه وسلم ليحمل عليه، وكان ذلك يوم أحد، فإذا بالمسلمين يحولون بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دعوه)، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم رمحاً لا نصل له فرماه بها، فنزلت من تحت درعه في رقبته فخنقته، ورجع وقد خدش منه خدشاً صغيراً، فرجع إلى قومه وحملوه، وقال: قتلني محمد، فضحكوا منه فقال: بل قتلني محمد -صلى الله عليه وسلم- ووالله لو تفل علي لقتلني، وفعلاً قتل بهذه الضربة من النبي صلوات الله وسلامه عليه، قالوا: فلم يخرج كثير دم، واحتقن الدم في جوفه فجعل يخور كما يخور الثور فأقبل أصحابه حتى احتملوه، ونزلت فيه هذه الآية، وهي قول الله سبحانه: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} [الفرقان:27]، نزلت في عقبة بن أبي معيط وأمية بن خلف وأبي بن خلف، ومن كان على شاكلتهم ممن عصى الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتبعوه على دينه، يقول هذا الظالم: {يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا} [الفرقان:28]. أما القراءات في هذه الآية: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ} [الفرقان:27]، فهذه قراءة الجمهور بإظهار الذال، وهي قراءة يعقوب وابن كثير وحفص عن عاصم ورويس عن يعقوب، فإنهم يقرءون: {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} [الفرقان:27]، أما بقية القراء فيقرءونها: (يَا لَيْتَنِي اتَّخَذتُّ)، بإدغام الذال في التاء، فتقرأ تاء فقط. وقوله تعالى: {يَا وَيْلَتَا} [الفرقان:28]، وقفاً ووصلاً، والجمهور يقرءونها كذلك: {يَا وَيْلَتَا} [الفرقان:28]، ويقرأ رويس وقفاً فيها: (يا ويلتاه)، يعني: كأن الواو للندب هنا، فهو يندب حظه ويندب على نفسه، وأصلها: (يا ويلي) للويل، والويل: الهلاك والموت، وكأنه ينادي: يا هلاك احضر! تعال خذني لأموت، فعندما يدعو الإنسان على نفسه يقول: (يا ويلي) معناها: يا هلاكي احضر! ولا موت يوم القيامة. وكل إنسان كان له خليل يدعوه إلى السوء يوم القيامة يتبرأ منه ويقول: يا ليتني ما صادقتك؛ ولذلك على المؤمن أن يحذر من رفقاء السوء.

تفسير قوله تعالى: (لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني)

تفسير قوله تعالى: (لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني) يقول الله عز وجل هنا عن هذا الإنسان حاكياً قوله: {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ} [الفرقان:29]، أي: لقد أضلني عن كتاب الله، وعن ذكر الله، وعن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم بعد إذ جاءني هذا الذكر، وجاءتني التذكرة، وجاءتني الموعظة، فأضلني وأبعدني عن دين رب العالمين سبحانه، فقوله: {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ} [الفرقان:29]، أي: رماني في الضلال بعد أن جاءني الذكر، يقول الله عز وجل: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:29]، فالشيطان ضحك على الإنسان في الدنيا، وخدعه وخذله يوم القيامة وتبرأ منه، قال تعالى: {مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم:22]، أي: أنتم أشركتموني، ولكن أنا كافر بشرككم، فتبرأ الشيطان منهم يوم القيامة، والمسلم ينظر في هذه الآيات، فيعتبر بما يكون يوم القيامة، ويعمل من الآن، فيعبد الله عز وجل ولا يشرك به شيئاً، ويطيع الله ويطيع الرسول صلى الله عليه وسلم، ويفارق رفقاء السوء، فإنهم يضرونه ولا ينفعونه وقت الحاجة إليهم. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الفرقان [30 - 33]

تفسير سورة الفرقان [30 - 33] صورة بلاغية حقيقية يصورها القرآن الكريم قبل مجيء يوم القيامة، وهي موقف النبي صلى الله عليه وسلم من أمته يوم القيامة، حيث إنه يشتكي إلى الله من بعض أمته الذين هجروا القرآن فلم يتلوه ولم يعملوا به، ولم يتحاكموا إليه، ولكن الله جعل لكل نبي عدواً من المجرمين، فهي سنة الله الكونية التي لا تتبدل، فإنزال القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم له حكمة في كيفية نزوله، وبعد نزوله، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده.

تفسير قوله تعالى: (وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا)

تفسير قوله تعالى: (وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً) الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وبعد: قال الله عز وجل في سورة الفرقان: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا * وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا [الفرقان:30 - 33]. يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات كيف يأتي النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة ويشكو إلى ربه سبحانه وتعالى إعراض قومه، واتخاذهم هذا القرآن مهجوراً. {وَقَالَ الرَّسُولُ} [الفرقان:30]، أي: يوم القيامة، أو أنه في الدنيا يشكو إلى ربه ما حصل، والجزاء يكون يوم القيامة، يقول: {إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30]، أي: هجروا القرآن فجعلوه كالبيت المهجور، والبيت إما أن يكون معموراً وإما أن يكون مهجوراً، والبلد والمكان والموطن والموضع إما أن يكون هذا كله معموراً أو مهجوراً، وكذلك هؤلاء مع القرآن: إما أن يعمروا قلوبهم بذكر الله عز وجل، وبحفظ كتابه سبحانه، وبكثرة قراءة القرآن والعمل به، فيعمرون ديارهم وبيوتهم وقلوبهم بهذا القرآن العظيم الذي فيه شرع رب العالمين، وإما أن يتركوه فلا يعملون به، فإذا تركوه وراءهم كذبوه ورفضوا أن يعملوا به، وعصوا الله سبحانه وتعالى فقد هجروا هذا القرآن، ومن أشد الناس جرماً من يحفظ كتاب الله ثم لا يعمل به، أو يحفظ القرآن ثم ينساه، فهذا من أشد الناس جرماً، وداخل تحت هذه الآية، والعبرة بعمومها، فالذين اتخذوا هذا القرآن مهجوراً هم المجرمون والفجار والعصاة، والإنسان الذي لا يقبل على قراءة القرآن من المسلمين فقد اتخذه مهجوراً، والذي يعلم الأحكام الشرعية الموجودة فيه ثم لا يعمل بها فقد اتخذه مهجوراً، والذي يحفظ القرآن ثم يتناساه أو يتغافل عنه حتى يتفلت من صدره فقد اتخذه مهجوراً، فيأتي الرسول صلى الله عليه وسلم يوم القيامة شاكياً إلى ربه أن قومه اتخذوا هذا القرآن مهجوراً. قال تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30]، هذه قراءة الكوفيين وابن عامر أيضاً، ويقرؤها نافع وأبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو وروح عن يعقوب: (إن قوميَ اتخذوا هذا القرآن مهجوراً) بالفتح. ولفظ (القرآن) يقرؤها جمهور القراء بالهمزة، ويقرؤها ابن كثير المكي بدون همزة (القران). قال تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30]، أي: هجروا هذا القرآن، فكأنهم عرفوا ما فيه ثم تركوه بعد ذلك، فاتخذوه كالشيء الخرب الذي يهجر.

تفسير قوله تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين)

تفسير قوله تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين) قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنْ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31]، (ذلك) اسم إشارة، (وكذلك) تشبيه بالمشار إليه، أي: كذلك جعلنا قبلك كمثل هؤلاء، فجعلنا مع كل نبي أعداء، وجعلنا لكل نبي مجرمين يعادونه، ويتركون ما جاءهم به من شريعة. فإذاً: الذي فعل بك ليس شيئاً جديداً، بل إن سنة الأنبياء من قبلك والرسل عليهم الصلاة والسلام أن قومهم يكذبونهم، ويتخذون ما جاءهم من عند ربهم مهجوراً، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ} [الفرقان:31]، والنبي أعم من الرسول، فالأنبياء كثيرون، والرسل هم الأقل، فإذا قال: (لكل نبي)، فيدخل فيه الرسل كذلك، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ} [الفرقان:31]، كل القراء يقرءونها (نبي) ما عدا نافع، فإنه يقرؤها (نبيء) بالهمز. {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} [الفرقان:31]، فالله يخلق ما يشاء، ويفعل ما يريد سبحانه وتعالى، وكان قادراً على أن يلهم الناس بأن يوحدوا الله سبحانه، وأن يصدقوا الرسول صلوات الله وسلامه عليه، ولكن مشيئة الله قضت أن يوجد المصدق والمكذب، شاء الله عز وجل ذلك، وقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان:31]، فالله هو الذي يهدي، وكذلك الله هو الذي يضل، قال تعالى: {فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [إبراهيم:4] سبحانه وتعالى. قوله: {وَكَفَى بِرَبِّكَ} [الفرقان:31]، يكفي أن الله عز وجل هو الذي يقدر وحده على أن يهدي هؤلاء، وعلى أن يضلهم، وعلى أن ينصرك ويخذل أعداءك {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان:31]، والمعنى: لا تبالي بعداوة من يعاديك، فإنهم لا يملكون لك شيئاً، وإن الله ناصرك، وقد وعده سبحانه وصدق في وعده، فقال: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]، فعصمه ربه سبحانه وتعالى حتى بلغ هذه الرسالة العظيمة. فإذاً: الإنسان المؤمن عندما يتلو هذه الآية: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30]، يخاف على نفسه أن يدخل تحت هؤلاء، وأن يكون قد هجر كتاب رب العالمين، لذلك لا بد من متابعة قراءة القرآن، وحفظ القرآن ليل نهار، فيراجع ما حفظه من القرآن كما قال النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن: (إنه أشد تفلتاً من البعير في عقالها)، فالجمل يتفلت بسرعة إن لم يربطه صاحبه بالعقل، وكذلك هذا القرآن العزيز، فأنت تحتاج إليه وهو ليس محتاجاً إليك، فالله عز وجل يقول: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} [فصلت:41]، فتأمل هذه اللفظة العظيمة التي وصف بها نفسه سبحانه الله العزيز الغالب القاهر فوق عباده الذي لا يغالب، والذي لا يمانع، فلم يقدر أحد أن يمنع شيئاً يريده الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:2]، فهو العزيز سبحانه وتعالى الذي يفعل ما يريد، ويحكم ما يشاء سبحانه وتعالى، وكتابه كتاب عزيز منيع الجانب، لا يقدر أحد على أن يحرف كتاب رب العالمين، وقد حاول الكفار طيلة ألف وأربعمائة سنة أن يحرفوا أو يبدلوا، أو يزعزعوا ويذبذبوا المؤمنين في كتاب ربهم فما قدروا على ذلك، وما استطاعوا إليه سبيلاً. فالقرآن كتاب عزيز، فهو كتاب رب العالمين، المؤمن يحفظه، والله عز وجل يكون معه، ويملأ قلبه نوراً، والإنسان الذي تركه وهجره فإنه يجد ظلمة في قلبه، ويجد نفسه قريبة من المعاصي؛ فيضيع نفسه بترك هذا النور العظيم من عند رب العالمين؛ لذلك احرص على كتاب ربك سبحانه، فكتاب الله فيه الشريعة العظيمة، وفيه الهدى والنور، من تمسك به فإن نهايته إلى الجنة، ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (القرآن شافع مشفع، وماحل مصدق، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله وراءه ساقه إلى النار)، القرآن شافع عظيم يشفع للعبد يوم القيامة، وماحل مصدق، فيأتي ليجادل أشد الجدل عند الله سبحانه وتعالى عن صاحبه الذي عمل به حتى يأمر الله عز وجل بصاحبه إلى الجنة. ولا يزال يجادل ويدافع كالمحامي الشديد الدفاع عن موكله، وكذلك القرآن يوم القيامة يدافع عن صاحبه أشد المدافعة، حتى ينزع صاحبه. فهذا القرآن ماحل مجادل عظيم الجدل عن صاحبه، مدافع عظيم الدفاع عن صاحبه يوم القيامة، فهو ماحل مصدق، والذي يدافع في الدنيا قد يصدق وقد يكذب، لكن القرآن كتاب رب العالمين لا يوجد كلام غير هذا مصدق يوم القيامة للدفاع عن صاحبه. والإنسان الذي يجعل القرآن إمامه يقوده إلى الجنة، والقائد دائماً في الأمام، فالذي يجعل القرآن أمامه فإنه يأخذ بيده، ويقوده إلى الجنة حتى يدخلها، فمن جعله وراءه كأنه جعله سائقاً وراءه يدفعه إلى النار والعياذ بالله! لذلك اجعل القرآن دائماً نصب عينيك، واحفظ كتاب الله، وتدبر ما فيه، كما قال ربنا: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، فالقرآن كتاب من عند رب العالمين، طرفه بيد الله سبحانه، وطرفه الآخر بيدك أنت، فتمسك بهذا القرآن ليقودك إلى ربك، إلى جنة الله كما جاء في حديث النبي صلوات الله وسلامه عليه. لذلك احرصوا على حفظ القرآن قبل تعلم الفقه والعقيدة والأصول، احفظ كتاب رب العالمين سبحانه، فهذا شيء عظيم جداً، فالقرآن كل حرف منه بعشر حسنات، وكل كلمة من هذا القرآن فيها أجر عظيم، وكل آية يرفعك الله عز وجل بها درجة يوم القيامة، فتكون فوق كثير من خلق الله عز وجل يوم القيامة. القرآن إذا حفظه الإنسان يحلى والداه بتاج الإيمان يوم القيامة، وتاج الوقار، يحليان من حلي الجنة، تاج لا يقوم لنوره أحد، فكيف بصاحب القرآن يوم القيامة؟! فاحرصوا عليه ولا تتخذوه وراءكم مهجوراً: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30]، هجروه فلم ينظروا فيه، ولم يتأملوه، وحاجوا النبي صلى الله عليه وسلم وأرادوا أن يبطلوا ما جاء من عند رب العالمين. فإذاً: كفروا وكذبوا به، ثم الهجر بعد ذلك بحسبه، فهجر الإنسان العاصي يكون بترك أحكام الله عز وجل، وهجر الإنسان المسلم لكتاب ربه ألا يواظب على حفظه، وإذا حفظ منه شيئاً نسي هذا الذي يحفظه، ولا يحاول أن يراجع ما يحفظه من كتاب الله، فتكون المصاحف في البيوت معلقة للزينة، ويتركها الإنسان لا يحفظ منها شيئاً ولا يعمل بها.

تفسير قوله تعالى: (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة)

تفسير قوله تعالى: (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة) يقول الله سبحانه وتعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} [الفرقان:32]، الكفار يتعجبون ويعجب بعضهم بعضاً، فيقولون: {لَوْلا نُزِّلَ} [الفرقان:32]، أي: هلا نزل القرآن هذا كله مرة واحدة؟! لماذا ينزل آية آية وسورة سورة؟ {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ} [الفرقان:32]، أي: على النبي صلى الله عليه وسلم: {الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان:32]. الجواب من عند رب العالمين سبحانه حيث قال: {كَذَلِكَ} [الفرقان:32]، أي: فعلنا ذلك: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان:32]، هذا فيه التثبيت لك. تخيل لو أن القرآن نزل مرة واحدة وفيه الناسخ والمنسوخ، كيف يأمرهم صلى الله عليه وسلم بالشيء الذي يعرفون أنه سينسخ بعد ذلك؟! فلعلهم لا يعملون به، وكيف يأتي الأمر أن هذا الغذاء الذي يخلق الله عز وجل منه سكراً ورزقاً حسناً؟! الناس يأكلون ويشربون وبعد ذلك يحرم عليهم الخمور، كيف يأتي هذا مع ذاك؟ فهؤلاء قالوا: إن موسى عليه الصلاة والسلام نزلت عليه التوراة مرة واحدة، والمسيح عليه الصلاة والسلام جاءه الإنجيل مرة واحدة، فلماذا لم ينزل عليك القرآن مرة واحدة؟! فيجيب الله سبحانه وتعالى عن ذلك، بأنه لو نزل هذا القرآن مرة واحدة لما كان فيه التثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم. قال: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان:32]، يعني: نزلناه منجماً آية آية، وسورة سورة، وآيات من سورة وآيات من سورة أخرى لنثبت به فؤادك، والكفار يأتون فيسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء، فتنزل الآيات من عند رب العالمين تجيبهم، فيثبت قلب النبي صلى الله عليه وسلم، ويطمئن قلبه بذلك، فإذاً: الله حكيم سبحانه وتعالى، تستجد لهم الحادثة من الحوادث فينزل حكم رب العالمين فيها، ويأتي عليهم شيء في القتال مع الكفار، فينزل عليهم من كتاب رب العالمين، كيف أنه ثبته في هذه الغزوة، وكيف أنه: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} [الأنفال:11]، فينزل ما يوافق كل حادثة ما يناسبها من آيات من كتاب رب العالمين سبحانه؛ تثبيتاً للنبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك تثبيتاً للمؤمنين، قال سبحانه: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان:32]، أي: قلبك {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان:32]، أي: نزلنا هذا القرآن منجماً ومفصلاً من عند رب العالمين، ويأتي التوكيل بمعنى القراءة، أي: قرأه جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم بقراءة مرتلة رتيبة منتظمة، يطمئن بها قلب النبي صلى الله عليه وسلم، ويعيها قلبه ولبه وعقله عليه الصلاة والسلام، ويحفظ ذلك. كذلك قال ابن عباس: {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان:32]، أنها بمعنى: رسلناه ترسيلاً، يعني: نزلناه مفرقاً، فالترتيل يأتي بمعنى القراءة، والمعنى: أن جبريل قرأه على النبي صلى الله عليه وسلم، ويأتي بمعنى: الترسيل، والمعنى الأول هو الأشهر، والمعنى الثاني كأن تقول لشخص: على رسلك، يعني: على مهلك، فكذلك نزلنا هذا القرآن شيئاً فشيئاً، وتلوناه عليك ترتيلاً، يعني: قرأه جبريل متمهلاً متأنياً حتى تتقن وتحفظ منه ذلك، ولذلك كان القرآن عندما ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعجل في حفظه عليه الصلاة والسلام، ويحرك لسانه بسرعة حتى يحفظ هذا الذي يقوله جبريل عليه الصلاة والسلام، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما فعل ذلك نزل القرآن من عند ربه سبحانه يقول له: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:16 - 19]. فربنا العظيم سبحانه وتعالى يعلم النبي صلى الله عليه وسلم ويعلم المؤمنين كيف يتعلمون العلم الشرعي، ويعلم الإنسان كيف يتعلم ويحفظ، فقال له سبحانه: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة:16]، لماذا تعجل؟ افهم أولاً وتأنى وأعد ما نقوله لك ونحن سنثبته في قلبك، كذلك حين يسمع العلم لا يذهب يتكلم وهو يسمع، فلن يعقل هذا الذي يقول، ولكن يتفهم ويتدبر بقلبه وعقله، ويسمع حتى يفهم ذلك ويكون من الله عز وجل التحفيظ بعد ذلك، قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:18]، تتبع ما يقوله متفهماً متأنياً متأملاً واعياً، (ثم إن علينا بيانه) فنحن نعلمك، و (إن) أداة النصب والتحقيق، ومعناه: يقيناً نبين لك ذلك ونعلمك: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا} [القيامة:19]، وليس على غيرنا، بل نحن الذين سنعلمك ونفهمك ذلك، فعلينا البيان: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:19]. ثم يقول الله سبحانه وتعالى: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان:33]. فالقرآن كثير ضرب المثال، ويحتاج إلى أمثلة ليفهم الإنسان، فالذي يجادل يضرب المثل، والكفار يضربون الأمثال للنبي صلى الله عليه وسلم، ويكذبون ويضلون ويضلون، لكن الله عز وجل يضرب الأمثلة الحقة، يقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26]، فيضرب لك المثل بالبعوضة، وهذه الذبابة لو اجتمعتم على أن تخلقوا مثلها لم تقدروا، ولو يجتمع الناس فيحاولون على أن يخلقوا ذبابة لما استطاعوا إلى ذلك، ولن يستطيعوا إلى ذلك سبيلاً، ثم يتحداهم ربنا سبحانه وتعالى بالذبابة نفسها قال تعالى: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73]، فالذبابة عندما تأخذ من الشخص شيئاً لا يستطيع أن يأخذه منها، والإنسان ضعيف ولكن الذبابة أضعف منه، قال تعالى: {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73]، فالمؤمن يصدق كلام رب العالمين، والكافر ينظر ثم يجرب هذا الأمر، فيأتي الكفار ينظرون إلى الذبابة إذا وقفت على قطعة سكر وأخذت منه قتلوها، ثم نظروا أين ذهب هذا السكر، فلا يجدون، الذبابة حللت السكر وأصبح شيئاً آخر، يقول الله عز وجل: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73]، هذا المثال الحق من رب العالمين، والقرآن كله حق من رب العالمين. والكفار يضربون الأمثلة للنبي صلى الله عليه وسلم، فيقولون: لم تكن ملكاً مثل قيصر وكسرى! لماذا لم يكن لك بيت من ذهب مثلاً؟ لماذا لا تكون لك حقول وبهائم وأنعام وجنات؟! فالله عز وجل يعجبه: (انظر كيف ضربوا لك الأمثال)، بدلاً من أن ينظروا ويتأملوا في كتاب رب العالمين، وهذه الآيات العظيمة يقولون: نريد جنة وبساتين وأنهاراً، ماذا يفعل بالبستان؟ جنة رب العالمين أعظم، أما ما طلبوه في الدنيا فهذا شيء يزول، ولو جاءهم من عند رب العالمين فكذبوه لكان العذاب بعده مباشرة، ولكن رحمة الله سبحانه أن يؤخر هؤلاء لعلهم يسلمون مع النبي صلوات الله وسلامه عليه، لذلك يقول: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان:33]، من هذه الأمثلة الكاذبة الباطلة التي يقولونها، فنحن نجيؤك بما هو أفضل من ذلك بالحق من عند رب العالمين، وأحسن تفسيراً، فقد جئناك بالحق من الأمثلة من عندنا، وجئناك بالحق من كتاب رب العالمين، وما هو أحسن تفسيراً وتأويلاً ونظراً وفهماً من كتاب رب العالمين. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن يتدبرون كتابه كما يريد. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الفرقان [34 - 40]

تفسير سورة الفرقان [34 - 40] يحشر الله الكافرين إلى جهنم على وجوههم يوم القيامة، فهم شر مكاناً وأضل عن سواء السبيل، ويحشر المؤمنين إلى الجنة، فهم في خير مكان وأحسن مقيل، وقد أشار الله سبحانه في سورة الفرقان إلى الأمم السابقة وتكذيبهم لأنبيائهم وإهلاكه سبحانه لهم.

تفسير قوله تعالى: (الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم)

تفسير قوله تعالى: (الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الفرقان: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا * وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا * فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا * وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا * وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا * وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} [الفرقان:34 - 39]، {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} [الفرقان:20]. يخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات من سورة الفرقان عن قوم يحشرهم الله يوم القيامة على وجوههم، وهم الكفار الذين كذبوا بآيات الله سبحانه وكفروا بلقائه، فأخبر أن حشرهم يوم القيامة يكون كذلك: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ} [الفرقان:34]. فالإنسان يوم القيامة يبعثه الله عز وجل من قبره ويحشره إلى يوم القيامة، ويجمع الله عز وجل الخلق كلهم فيقفون في صعيد واحد، فإذا انتهى الحساب، يساق أهل النار إلى النار، ويدخل أهل الجنة الجنة، فأهل النار يدخلون النار على هذا الحال والعياذ بالله، إذ يحشرون على وجوههم إلى جهنم، فيدفعون ويكبون على وجوههم، فيتقون النار بوجوههم والعياذ بالله. جاء في حديث الصحيحين من حديث أنس بن مالك: أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله! يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أليس الذي أمشاه على رجليه في الدنيا قادراً على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة؟) بلى، فالله على كل شيء قدير. فالإنسان في الدنيا يتقي الأشياء بكفه، وسمي الكف كفاً؛ لأنه يكف بها عن نفسه، أي: يدفع بها عن نفسه، فعندما يسقط يتكئ بيده، وعندما ترميه بحجر يتقيها ويكفها بيده، أما في نار جنهم فلا يقدر على ذلك، وإنما يكف عن نفسه بوجهه، فيمشي في نار جهنم وبدلاً من المشي على رجليه يزحف على وجهه، والله على كل شيء قدير، فهؤلاء الكفار الذين كذبوا في الدنيا، وأعرضوا عن النبي صلوات الله وسلامه عليه، وجادلوا بالباطل، هذا مصيرهم يوم القيامة، فهم يحشرون على وجوههم إلى جهنم، قال تعالى: {أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا} [المائدة:60]، يعني: هذا المكان الذي هم فيه هو شر مكان، فهو المكان الرديء الخبيث، وهو المكان الذي يستحقونه: {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ:26]. وإذا كان هؤلاء شر مكاناً فإن أهل الجنة هم خير مكاناً، فإن الله عز وجل يكرمهم ويحشرهم إلى الجنة ركوباً أو مشياً، أو كما يشاء الله سبحانه وتعالى، فيدخلهم جنته بفضله وبرحمته، أما أهل النار فإن الله يقول فيهم: {أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:60]. فهم شر في المكان وأضل عن السبيل، أي: ابتعدوا عن الطريق الحق، ولم يمشوا في طريق الهدى، فتاهوا وضلوا، وكذلك أضلهم الله عز وجل عن طريق الجنة، فإذا بهم يدخلون النار، فهم أضل عن السبيل في الدنيا، وأضل يوم القيامة، فيضلون طريقهم فيذهبون إلى النار.

تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب فدمرناهم تدميرا)

تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب فدمرناهم تدميراً) ثم يخبرنا ربنا سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا * فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا} [الفرقان:35 - 36]. هذه السورة من السور المكية، ففي السور المكية خصائص معروفة منها: تقرير أمر العقيدة، وتقرير أمر توحيد الله سبحانه وتعالى، والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالجنة والإيمان بالنار، وذكر أهل الجنة وذكر أهل النار، كذلك يقص على نبينا صلى الله عليه وسلم في السور المكية قصص المرسلين عليهم الصلاة والسلام وتكذيب أقوامهم لهم، إما بإطالة واستفاضة، وإما باختصار وتفصيل، فهنا يذكر الله عز وجل إشارات إلى ذلك، فإنك لست وحدك الذي أوذيت في الله سبحانه أو الذي كذبك قومك، بل من قبلك موسى وغيره عليهم الصلاة والسلام، قد كذبهم أقوامهم. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [الفرقان:35]، أي: المعهود المعروف وهو التوراة، وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا} [الفرقان:35]، أي: جعلنا له معيناً أخاه هارون، دعا موسى ربه سبحانه أن يشد أزره بأخيه، ويجعله معه وزيراً، فاستجاب الله سبحانه وتعالى، لما قال: {هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه:30 - 36]، فاستجاب له ربه سبحانه، وجعل معه أخاه هارون وزيراً. قال سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [الفرقان:35]، أي: التوراة؛ وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا} [الفرقان:35]، والوزير بمعنى: المعين والمساعد، أي: فجعلناه معه معيناً ومساعداً يحمل معه أثقال الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى. قال الله تعالى: {فَقُلْنَا اذْهَبَا} [الفرقان:36]، يأمر الله موسى وهارون: {اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الفرقان:36]، أي: اذهبا إلى فرعون وملئه، قال: {فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا} [الفرقان:36]. واختصر القصة جداً هنا في هذه السورة، إشارة فقط إلى أنك إذا كذبك قومك، فليس هذا بجديد، بل هم ينتظرون ما جاء لفرعون وجنوده من عند رب العالمين سبحانه، فقد كذبوا فدمرناهم، وكذلك هؤلاء، إن كذبوا وأعرضوا فنحن نفعل بهم ذلك، أو يرحم سبحانه وتعالى ويفعل ما يشاء، قال: {فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا} [الفرقان:36]، أي: إلى هؤلاء القوم فدعوهم إلى الله سبحانه، فلما كذبوا الرسل دمرناهم تدميراً، وعرفنا كيف أن الله سبحانه أغرق فرعون وجنوده في اليم فكان تدميرهم بإغراقهم وإهلاكهم، فرعون وقول: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90]، فلم ينفعه إيمانه في وقت غرقه هو ومن معه.

تفسير قوله تعالى: (وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم)

تفسير قوله تعالى: (وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم) ومن قبل ذلك أول المكذبين قوم نوح، فقد كذبوا الرسل، قال تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً} [الفرقان:37]. فذكر الله أول من أهلك الله عز وجل، وآخر من أهلك الله سبحانه وتعالى قبل النبي صلوات الله وسلامه عليه، فكان قوم موسى الذين كذبوا، فأغرق الله عز وجل فرعون وجنوده، ومن قبل ذلك أول من أهلك الله سبحانه وتعالى من القرون قوم نوح، قال: {وَقَوْمَ نُوحٍ} [الفرقان:37]، يعني: واذكر قوم نوح {لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُل} [الفرقان:37]، مع أن رسولهم نوح فقط، الذي جاءهم من عند رب العالمين سبحانه، فدعاهم إلى الله ليل نهار، والذي يكذب رسولاً واحدا فمعناه: أنه مكذب لجميع الرسل، فإن دعوة الرسل دعوة واحدة إلى رب العالمين سبحانه، فهم يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ويدعون إلى الإيمان بالله سبحانه، ويأخذون على الأقوام العهود والمواثيق، آمنوا بالله سبحانه، فإن جاءكم رسول مصدقٌ لما معكم فآمنوا بهذا الرسول، فالإيمان بالله عز وجل مقتضاه: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر خيره وشره، حلوه ومره، فإذا كذب الإنسان رسولاً واحداً فقد كذب بالرسالة، وكذب بكل ذلك، فلذلك جعلهم الله عز وجل مكذبين لجميع رسله، قال تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُل} [الفرقان:37]، وقد قام فيهم نوح عليه الصلاة السلام ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله عز وجل، قال تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا} [نوح:5]، أي: بالليل يدعوهم، وبالنهار يدعوهم، وبالسر يدعوهم، وبالجهر يدعوهم، وأمام الناس يدعوهم، وفي الخفاء يدعوهم، وهم لا يستجيبون لله سبحانه وتعالى، فاستحقوا أن يغرقهم الله سبحانه، فكأن ذكر فرعون وذكر قوم نوح المقصود منه: بيان الإغراق، فقد أغرق الله عز وجل قوم نوح وأغرق قوم فرعون، فجاء العذاب من عند رب العالمين على صورة واحدة، وإن كان هذا الإغراق لقوم نوح إغراقاً عاماً، فالإغراق لفرعون وجنوده كان خاصاً، أما قوم نوح فقد أمر الله عز وجل الأرض أن يخرج منها الماء، وأمر السماء أن ينزل منها الماء، فأغرق من على وجه الأرض، إلا من كان في السفينة مع نوح، أما فرعون فقد أغرقه الله عز وجل وجنوده في اليم كما عرفتم في قصته، قال تعالى: {أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً} [الفرقان:37]، أي: جعلناهم عظة وعبرة للناس وللخلق جميعهم، فقوم نوح أغرقوا جميعهم، ولم يعش بعدهم إلا المؤمنون فقط، فالكفار جميعهم أهلكهم الله سبحانه، والمؤمنون يحدثون الذين من بعدهم، أنهم كانوا قوماً كافرين أغرقهم الله سبحانه وتعالى، فأخبروا عن ذلك إخبار صدق، فقد أخبر الله عز وجل، وأخبر نبيهم عليه الصلاة السلام، وأخبر بذلك المؤمنون، فكانت عبرة وعظة للخلق جميعهم. وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ} [الفرقان:37]، أي: لجميع الناس {آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفرقان:37]، أي: فقد جهز الله عز وجل وأعد لهم العذاب الشديد.

تفسير قوله تعالى: وعادا وثمود وأصحاب الرس)

تفسير قوله تعالى: وعاداً وثمود وأصحاب الرس) وهنا يذكر لنا عاداً وثمود: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} [الفرقان:38]. يذكر الله عز وجل إشارات في هذه السورة، فنحن نرى أنه في سورة الأعراف مثلاً وفي سورة هود يطيل في ذكر قصصهم، وهنا يشير إشارات إلى هؤلاء، فيقول للنبي صلى الله عليه وسلم: قد كذب قوم نوح فأهلكناهم، وكذب قوم موسى فأهلكناهم، وكذبت عاد فأهلكناهم، وكذبت ثمود فأهلكناهم، وكذب أصحاب الرس فأهلكناهم، وهؤلاء جميعهم يذكرهم الله سبحانه وتعالى مطمئناً للنبي صلى الله عليه وسلم أن الله على كل شيء قدير، وأنه قادرٌ على أن يهلك هؤلاء أيضاً إذا أصروا على عنادهم وتكذيبهم للنبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ} [الفرقان:38]، وثمود يجوز فيها الصرف، ويجوز عدم الصرف فيها؛ فلذلك تقرأ بقراءتين هنا: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ} [الفرقان:38]. والقراءة الأخرى: (وَعَادًا وَثَمُودَّاً وَأَصْحَابَ الرَّسِّ)، بالنصب فيها والتنوين. فقراءة حفص عن عاصم وحمزة ويعقوب أيضاً: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ} [الفرقان:38]، وباقي القراء يقرءون: ((وَعَادًا وثموداً وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا)). فعادٌ أرسل الله عز وجل إليهم هوداً، قال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:65]. ثم ذكرهم بنعم الله عز وجل عليهم، وقال: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء:128 - 129]. وذكرهم بنعم الله عز وجل عليهم وقال لهم: إن الله عز وجل قد {أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء:133 - 135]، ومع ذلك لم يصدقوا، بل كذبوا رسولهم عليه الصلاة السلام، فجاء العذاب من عند رب العالمين فأهلكهم الله سبحانه وتعالى. وقوله تعالى: {وَثَمُودَ} [الفرقان:38]، أي: قوم صالح، فعاد كانوا في جنوب الجزيرة، يبنهم وبين اليمن، وثمود في شمال الجزيرة بينهم وبين الشام، ففي رحلة الشتاء والصيف يذهبون إلى اليمن ويذهبون إلى الشام، ويمرون على ديار ثمود، ويمرون على قوم عاد، فيعرفون هؤلاء، ويعرفون كيف أهلكهم الله سبحانه. فقوم صالح الذين كذبوا صالحاً عليه الصلاة والسلام، دعاهم إلى الله، وتنطعوا وطلبوا آية يرونها أمامهم، وكانت الآية التي أرادوها ناقة تخرج من الجبل، فانشق الجبل وخرجت منه ناقة، والناقة معها فصيلها، وآتاهم الله عز وجل هذه الآية، بعد أن أخذ منهم العهود والمواثيق أنهم إن جاءتهم الآية يؤمنون بها، فلما رأوا الآية كادوا يؤمنون، ولكن كاد القوم بعضهم لبعض فإذا بهم يكفرون ويجحدون ويعقرون الناقة، فجاء العذاب من عند رب العالمين سبحانه، فأهلك الجميع بعدما أهلكوا الناقة، وأرادوا قتل نبيهم عليه الصلاة والسلام، فجاءهم العذاب كما عرفنا. وقوله تعالى: {وَأَصْحَابَ الرَّسِّ} [الفرقان:38]، هم قوم من الأقوام ذكرهم الله عز وجل بهذه الإشارة: أصحاب الرس، وقد ذكر كثير من المفسرين أن أصحاب الرس بمعنى: البئر، فقالوا: هم قوم أرسل الله عز وجل إليهم نبياً فدعاهم إليه، فكذبوه وأخذوه فرسوه في البئر، يعني أخذوه وحطوه في البئر، وأقفلوا عليه البئر، فأهلكهم الله سبحانه وتعالى، وأشار إليهم هنا أنهم أصحاب الرس، قال تعالى: {وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} [الفرقان:38] أي: قرون كثيرة وأمم عظيمة منهم من قصصهم على النبي ومنهم قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك، وليس كل الأنبياء ولا كل الرسل يذكرهم الله عز وجل، بل الكثيرون جداً جداً من الأنبياء والكثيرون من الرسل لم يذكرهم لنا ربنا سبحانه وتعالى في كتابه، إلا عدداً محصوراً محدوداً لبيان أنه قد وعظ الخلق وأقام عليهم الحجج، وأنه أرسل الرسل عليهم الصلاة والسلام يدعون الأقوام إلى الله، فكذبوا رسل الله فأهلكهم سبحانه، فقوله سبحانه: {وَقُرُونًا} [الفرقان:38]، أي: أمماً {بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} [الفرقان:38] أي: بين نوح وبين النبي صلى الله عليه وسلم.

تفسير قوله تعالى: (وكلا ضربنا له الأمثال)

تفسير قوله تعالى: (وكلاً ضربنا له الأمثال) {وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} [الفرقان:39]. يعني: لم نضرب الأمثال لكم أنتم فقط، بل كل الأمم ضربنا لهم الأمثال، ووعظناهم ونصحناهم وذكرناهم، فأبوا إلا التكذيب، قال تعالى: {وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} [الفرقان:39]، أي: دمرنا تدميراً، وأهلكناهم إهلاكاً عظيماً.

تفسير قوله تعالى: (ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء)

تفسير قوله تعالى: (ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء) {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ} [الفرقان:40]، أي: رأوا هذه القرية قرية قوم لوط وهم ذاهبون إلى الشام، فهم يرون ويعرفون أن هنا مكان قوم لوط، أهلكهم الله، وجعل مكانهم بحيرات مالحة متعفنة، ويعرف المارة هناك أن الله عز وجل أهلك قوم لوط وأخذهم أخذ عزيز مقتدر؛ لتكذيبهم رسولهم عليه الصلاة والسلام، ولإتيانهم الفاحشة، فكان الرجال يقعون في الرجال، فأهلكهم الله سبحانه، وأمطر عليهم مطر السوء، وهو المطر السيئ الشديد، فليس من جنس المطر الذي نعرفه، وإنما مطر من نار جهنم، فأتتهم حجارة من السماء، فأهلكهم الله بهاِ: {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ:26]، وهم حتى الآن يرون هذه القرية ويعرفون مكان قوم لوط الذين أهلكهم الله عز وجل بفلسطين، قال تعالى: {أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا} [الفرقان:40]. يعني: أن الكفار كانوا لا يخافون من ربهم ولا يرجون أن يحشروا يوم القيامة؛ لذلك لا يتذكرون ولا يعترفون بالأمم السابقة، ويقولون: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24]. وقد عرف هؤلاء الكفار إبراهيم النبي عليه الصلاة السلام، وعرفوا أنه أبو الأنبياء، وأنه جدهم عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك كذبوا محمداً صلوات الله وسلامه عليه، ولم يرجوا النشور والبعث يوم القيامة، وإنما يفتخرون لأنهم في أرض إبراهيم وأن عندهم الكعبة، ويطوفون ويشركون بالله سبحانه، ولا ينتظرون النشور يوم القيامة، فقال الله عز وجل: {بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا} [الفرقان:40]، فيستحقون العذاب. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الفرقان [41 - 43]

تفسير سورة الفرقان [41 - 43] يخبر الله نبيه عن حال هؤلاء المشركين المعاندين لله ورسوله أنهم يستهزئون بالنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، ويحث بعضهم بعضاً على الصبر على الباطل، وعلى معاندة الحق ومعارضته، والصد عنه، فهؤلاء الناس من صنف من ختم الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم فأصبحوا كالأنعام لا يهتدون سبيلاً، فأنت لست وكيلاً عليهم، وإنما عليك البلاغ والحجة والبرهان.

تفسير قوله تعالى: (وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا)

تفسير قوله تعالى: (وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزواً) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الفرقان: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا * إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا * أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان:41 - 43]. في هذه الآيات من سورة الفرقان يذكر الله عز وجل لنبيه صلوات الله وسلامه عليه كيف أنه اتخذه المشركون هزواً يستهزئون به صلوات الله وسلامه عليه، وهو يدعوهم إلى الله سبحانه وهم يدعونه إلى الضلال، فإذا مر بهم النبي صلى الله عليه وسلم استهانوا به واستهزءوا به صلوات الله وسلامه عليه، ويقولون مستهينين به: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} [الفرقان:41]، وكأنهم يستكثرون عليه صلوات الله وسلامه عليه أن يكون رسولاً لرب العالمين. ولذلك قالوها في موضع آخر: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31]، فكيف ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم؟! لماذا لا ينزل على عروة بن مسعود بالطائف، أو ينزل على أحد من الكبار الموجودين في مكة؟! كيف نزل عليه؟! وبدءوا هم يتخيرون من عند أنفسهم لماذا لم ينزل على فلان أو فلان؟ {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31]، والجواب ليس من النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما من الله سبحانه، قال تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} [الزخرف:32]، هؤلاء الجهلة الحمقى والمغفلون أهم يقسمون رحمة الله؟! {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124]، {اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران:179]، {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص:68]. فالله يفعل ما يشاء، ويحكم بما يريد، يجتبي ويصطفي ويختار من هو أهل لذلك، والله أعلم بذلك، وقبل النبي صلى الله عليه وسلم كان أهل الكتاب يعلمون أنه سيبعث في هذا الزمان رسول، فبعض العرب بدأ يستعد لذلك، فكان أحدهم يلقب نفسه (الراهب) ويتعبد حتى يكون هو رسول هذا القرن أو هذا الزمان، ولكن الله عز وجل يختار من يريده، فهو أعلم بقلوب عباده، فاصطفى نبيه صلوات الله وسلامه عليه. أما ذاك الراهب الذي كان في الجاهلية راهباً فكان بعد الإسلام أفسق خلق الله سبحانه وتعالى وأقذرهم، وأكثرهم معصية للنبي صلى الله عليه وسلم وكيداً له، وابنه كان من أعبد خلق الله سبحانه وتعالى، وقتل شهيداً في يوم أحد، وهو حنظلة بن عامر الراهب غسلته الملائكة بعد موته، فقد سمع الصيحة للقتال فخرج وكان معرساً بامرأته فتركها وانصرف إلى القتال في سبيل الله، فقتل شهيداً رضي الله عنه، فغسلته الملائكة رضي الله تبارك وتعالى عنه، وأبوه كان يستعد لأن يكون رسولاً، وفي ظنه أنه رسول هذا الزمان، وبدأ يتعبد ويتعبد، ولكن الله لم يختره، وإنما اختار نبيه صلوات الله وسلامه عليه بذلك. وكان الكفار إذا رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يستهينون به ويستهزئون، فيظهرون ذلك أو يضمرونه، فأحياناً كانوا يظهرون ذلك وكان يصبر صلى الله عليه وسلم على أذاهم كثيراً، وأحياناً كان يجاريهم ويقول: (والله لقد جئتكم بالذبح)، فإذا بهم يخافون ويقولون: انصرف يا أبا القاسم! فما كنت جهولاً، يخافون منه صلوات الله وسلامه عليه، وأحياناً يجتمعون بشرهم فإذا بهم عندما يرونه ساجداً يسلطون أحدهم فيذهب ويأتي بسلى بعير فيجعله فوق ظهر النبي صلى الله عليه وسلم. وجاء أحدهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد على الأرض فوضع قدمه على رقبته، وكاد أن يقتله ويخنقه صلوات الله وسلامه عليه. وهذا عقبة بن أبي معيط لما جاء إلى المدينة أسيراً في حربهم مع النبي صلى الله عليه وسلم في بدر استحق أن يقتله النبي صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم في مكة. يقول الله سبحانه: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا} [الفرقان:41]، سواء أظهروا الاستهزاء أو أضمروه، قائلين: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} [الفرقان:41]، أي: هذا الذي يأكل الطعام ويمشي في الأسواق يبيع ويشتري مثلنا هو هذا الذي بعثه الله عز وجل رسولاً؟! قال: {إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا} [الفرقان:41]، وأصلها (هزؤ) بالهمز، فقراءة النقل لـ حفص فقط، وبقية القراء يقرءونها بالهمز فيقرؤها الجميع ما عدا حمزة: ((إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هزؤاً))، وحمزة يقرؤها: ((إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هزءاً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا))، فإذا وقف عليها قال: ((إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هزا)) وهناك قراءة أخرى في الوقف عليها لـ حمزة يقول: ((إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزْوا)) والمعنى: يسخرون منك، إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا استهزاءً فيستهزئون بك ويسخرون منك، قائلين: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} [الفرقان:41].

تفسير قوله تعالى: (إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها)

تفسير قوله تعالى: (إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها) قال تعالى: {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} [الفرقان:42]، يعني: لقد كاد يضلنا ويلهينا ويصرفنا عن عبادتنا، أي: عبادتهم الباطلة التي يقولون: إنهم سيصبرون عليها، {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا} [الفرقان:42]، ليصرفنا، {عَنْ آلِهَتِنَا} [الفرقان:42]، الباطلة، ولولا: {أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} [الفرقان:42]، أي: حبسنا أنفسنا على عبادتها. فهم يعلمون أن هذه آلهة باطلة، لا تنفع ولا تضر، ويعلمون أن الله سبحانه وتعالى هو الذي ينفعهم ويضرهم، وهو الذي يرزقهم، وهو خالقهم سبحانه بشهادتهم بذلك، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87]، ومع ذلك صبر الكفار على العبادة الباطلة، أفلا يصبر المسلمون على عبادتهم الحقة؟! فهؤلاء الكفار دافعوا عن باطلهم، وقاتلوا المسلمين، وذهبوا للنبي صلى الله عليه وسلم في يوم بدر، وفي يوم أحد، وفي يوم الأحزاب لقتال المسلمين، وهم يعلمون أنهم أهل باطل، أفلا يصبر المسلمون على دين رب العالمين وهم يعلمون أنهم على الحق، وقد وعدوا الجنة؟! الكفار يقولون: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24]، أي: سنموت ونحيا في هذه الدنيا، يعني: حياة ثم موت وانتهى كل شيء؛ فلذا ما معنا إلا ما أخذناه في الدنيا من الدنيا، فهم على باطل، ويعرفون أنهم على الباطل وليسوا على الحق، فصبروا على باطلهم الذي هم عليه، وقاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إن أبا جهل وهو ملقى على الأرض لعنة الله عليه وعلى أمثاله قتيلاً يأتيه ابن مسعود رضي الله تبارك وتعالى عنه ويصعد فوق صدره فيقول لـ ابن مسعود: لقد ارتقيت مرتقاً صعباً يا رويعي الغنم! يعني: يصغره تحقيراً له يعني: يا راعي الغنم! صعدت فوق صدري وأنت راع، يقول هذا الشيء حال سكرات الموت، ويأبى الله عز وجل له الهداية حتى وهو في موته، فتصعد روحه وهو يقول هذا الشيء. فيقول له ابن مسعود: لقد انتقم الله منك يا عدو الله! فيقول له: وهل أنا إلا رجل قتلني بعض قومي، أي: شخص من أناس قتلهم بعض قومهم، ويموت على هذا الشيء، انظر إلى دفاعهم عن باطلهم حتى الوفاة! رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقاتل فيقول: ضربت رجلاً من المشركين بالسيف على عاتقه ضربة قال: فأخذني فخنقني، -حضنه بساعده- حتى كادت روحي أن تخرج وتزهق بذلك، ثم أردته الوفاة فمات هذا الرجل، وانطلق صاحب النبي صلى الله عليه وسلم. فانظر إلى هذا المضروب ضربة بالسيف أدركته الوفاة من هذه الضربة، ومع ذلك يصر على أن يخنق من ضربه، ولا يمن الله عز وجل عليهم بالهداية وهم أهل باطل يعلمون أنهم على الباطل، ويقول: {اصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} [ص:6]. وهذا دأب الكفار والمشركين في كل زمان، فيصبر بعضهم بعضاً على آلهتهم، والإنسان يفكر بعقله: ما الذي يجعلني أصبر؟! إما أن أصبر لأتجمل مع الناس، أو أصبر لكي آخذ الأجر يوم القيامة، أو أصبر ليكون جزائي في الدنيا مثلاً. فالكفار يقولون: اصبروا، فنقول لهم: وماذا تأخذون عندما تصبرون على هذه الآلهة؟! أما في الآخرة فلا شيء لهم، وأما في الدنيا فقد يأخذون وقد لا يأخذون، قد ينتصرون فإذا انتصروا فالسادة هم السادة والضعفاء هم الضعفاء ولن يتغير شيء من حالهم، فعلى ذلك تحصيلهم في الدنيا شيء يسير حقير ليس له قيمة، أن يحصلوا على مناصب وأموال، أما المؤمن الذي يعده ربه سبحانه وتعالى أن يصبر وله الجنة، قال تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35]، أفلا يغار المسلم حين يرى هؤلاء يصبرون على باطل وهو لا يصبر على الحق الذي هو عليه؟! يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يأتي على الناس زمان يكون القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر). ويذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الواحد من هؤلاء يعمل العمل ويكون له أجر خمسين رجلاً من أصحابه، وفي رواية: (يكون له أجر خمسين شهيداً) فهذا الأجر العظيم الذي يكون للقابض على دينه كما يقبض الإنسان على الجمر، وللمتمسك بدينه، الجنة عند رب العالمين، وله وعد الله عز وجل بالعزة في الدنيا والتمكين إذا صبر على ذلك، وله إحدى الحسنين: إما النصر وإما الشهادة، وله عند الله سبحانه حبه ورضاه في الجنة والحور العين. المسلم أمامه كل هذا الثواب، والكافر لا ثواب له فيصبر ويقول: {وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} [ص:6]، يقول الله سبحانه عن هؤلاء الكافرين: {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} [الفرقان:42]، أي: لولا أننا صبرنا على هذه الآلهة لصرفنا عنها {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:42]، وفي كلامهم إشارة إلى دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وقوته في الدعوة، وحجته البينة القوية. وفي الآية إشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك وسيلة ولا سبيلاً للدعوة إلى الله عز وجل إلا وسلكها صلوات الله وسلامه عليه، يقول الله عز وجل: {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الفرقان:42]، أي: اصبروا فسترون النتيجة، {حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:42]، قالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم: سوف تعلمون من أصحاب الضلال، ومن أصحاب الصراط السوي، {مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:42]، أي: طريقاً يوصل إلى النار. قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان:43]، عبدوا الآلهة من دون الله سبحانه، والآلهة أنواع، فيعبدون أصناماً وأوثاناً وأحجاراً، ويعبدون الشمس والقمر، ويعبدون النجوم والبروج، ويعبدون أشجاراً، ويعبدون الهوى من دون الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43]، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: الهوى إله يعبد من دون الله، وتلا هذه الآية: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43]، فالهوى يدعو الإنسان إلى طاعة الشيطان والبعد عن الرحمن سبحانه، فإذا به يعبد ما يشاء، ويترك عبادة الله، ويكفر بالله، فهو عابد لهواه ولشيطانه {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43]، قالوا: كانت العرب إذا أحبت شيئاً عبدته من دون الله، فإذا هوى الرجل منهم شيئاً عبده من دون الله، فإذا رأى ما هو أحسن منه ترك الأول وعبد الثاني، فكان يأتي بحجر يراه جيداً فيقوم ينحته صنماً ويعبده من دون الله، فإذا رأى حجراً آخر أفضل من الأول نحته صنماً وترك الأول وعبد الثاني؛ فعبدوا الهوى، وعبدوا آلهة بأهوائهم الباطلة وبأكاذيبهم، قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43]، (أَرَأَيْتَ) استفهام، وهذه الكلمة فيها قراءات، (أَرَأَيْتَ) قراءة الجمهور، وقراءة نافع وأبي جعفر بالتسهيل، (أَرَأَيْتَ)، وقراءة ورش بالمد الطويل فيها (أَرَآيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ)، وقراءة الكسائي بدون مداخلة: (أَرَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ))، يعني: هل علمت؟ أو هل رأيت ببصرك ما يصنعون ويعبدون من دون الله سبحانه؟ قوله: {أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان:43]، يعني: هذا الذي اتبع الهوى هل أنت حفيظ عليه؟! هل أنت كفيل وضامن لهذا الإنسان؟! أنت لا تملك لنفسك شيئاً فضلاً عن أن تملكه لغيرك، قال تعالى: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:48]، {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة:99]، فإذا كان ربنا يقول ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فغيره أولى، فلا يملك الداعي إلى الله عز وجل أن يغير قلوب الخلق، وإنما يملك أن يتكلم بالحجة والبرهان، وأن يقنع ويعلم ويرشد، ويدل على الخير، لكن التحويل من شيء إلى شيء هذا لا يملكه إلا الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال:63]، فالنبي صلى الله عليه وسلم يهدي إلى صراط مستقيم بمعنى: يدل، ولكنك: {لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] أي: لا تغير ولا تحول، وإنك لا تهدي إلى صراط مستقيم، وإنما تدل الناس على طريق الخير، وتعلم الناس الخير، وتحذرهم من الشر. أما الذي يحول القلوب من شيء إلى شيء فهو الله سبحانه وتعالى الذي يملك ذلك، ولذلك قال لهم هنا: {أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان:43]، وهذا استفهام إنكاري، والمعنى: لست عليهم حفيظاً، ولست عليهم وكيلاً، فإنما الله عز وجل هو الحفيظ والوكيل، والله هو الذي يغير القلوب. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرشدنا إلى سواء السبيل، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الفرقان [43 - 47]

تفسير سورة الفرقان [43 - 47] الذين يعبدون أهواءهم من دون الله يسمعون ولا يعون ولا يعقلون، فهم أضل من الأنعام، إذ الأنعام تعرف ربها وتسبحه وهي لا تعقل، ثم يذكِّر الله عباده بنعمه عليهم وفضله عليهم بالليل والنهار، وسورة الفرقان إحدى السور المكية التي تبين ذلك.

تفسير قوله تعالى: (أرأيت من اتخذ إلهه هواه وجعل النهار نشورا)

تفسير قوله تعالى: (أرأيت من اتخذ إلهه هواه وجعل النهار نشوراً) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الفرقان: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا * أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} [الفرقان:43 - 47]. لما عجب الله عز وجل نبيه صلوات الله وسلامه عليه من هؤلاء المشركين الذين اتخذوا الهوى إلهاً من دون الله سبحانه، فقال له: {أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان:43]. أي: من كان بهذا الحال لا عقل عنده، ولا يستجيب لدعوة ربه سبحانه، ولا يستجيب لما يدعوه إليه عقله وفطرته، وهو أن يعبد الذي خلقه ورزقه سبحانه، فهل أنت تكون عليه حفيظاً وكفيلاً بأن تدخله في هذا الدين؟ لا تقدر على ذلك، فإن الذي يغير القلوب ويحول الناس من حال إلى حال هو الله سبحانه وتعالى، ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ} [الفرقان:44].

تفسير قوله تعالى: (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون)

تفسير قوله تعالى: (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون) هؤلاء الكفار المشركون هل {تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ} [الفرقان:44]، أي: يسمع سمعاً ينفعه، فيعي ويفهم ويتأمل ويتدبر، حتى يتعلم، ويعلم الحق، بل إنهم يسمعون الكلام والتلاوة لكنهم لا يسمعونها سماع من يبتغي الحق. قال: {أَوْ يَعْقِلُونَ} [الفرقان:44]، أي: يتفكرون ويتدبرون ما جاء من عند رب العالمين، فهم كذلك لا يفعلون ذلك. قوله تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ} [الفرقان:44]، هي قراءة ابن عامر وعاصم وحمزة وأبي جعفر: بفتح السين، وباقي القراء يقرءونها: (أم تحسِب) والمعنى واحد. {أَنَّ أَكْثَرَهُمْ} [الفرقان:44]، ولم يقل: كلهم {يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ} [الفرقان:44]؛ لأن الله قد علم أن منهم من سيسمع ويعقل ويدخل في هذا الدين، وقد كان دخل منهم الكثير في دين الله سبحانه، لكن الأكثرون يسمعون ولا يعقلون، ينظرون إلى الآيات ولا يفهمون ما فيها ولا يحاولون ذلك، يقول الله سبحانه: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ} [الفرقان:44]، يعني: في حال سماعهم، وعدم تفكرهم، وعدم تعقلهم، إن هم إلا كالبهائم. والأنعام خلقها الله سبحانه وتعالى ولم يجعل لها عقولاً تفهم بها كعقول الآدميين تخاطب، ولكنها عرفت ربها سبحانه فسبحته بحسب ما علمها سبحانه وتعالى، وفضل الإنسان بالعقل الذي يفهم ويعي ويتدبر ويتفكر به ومع ذلك لا يعقلون، ولا يفهمون عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، فأيهما خير، البهائم التي لم يعطها الله عقلاً أم هؤلاء الذين لهم عقول وهم لا يسمعون ولا يعقلون؟ قال سبحانه: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ} [الفرقان:44] أي: أنهم أشد من الأنعام وأقبح {بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44]. فبهيمة الأنعام إذا قدتها في طريق مرة أو مرتين عرفت طريقها، أما هؤلاء فلا يحاولون أن يفهموا ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم مع كثرة ما يكرره عليهم صلوات الله وسلامه عليه، فكانوا يقفون له بالمرصاد، ويكذبونه، ويحذرون الناس منه، حتى أن البعض من الناس كان من كثرة ما يسمع من هؤلاء يدخل إلى مكة وقد جعل أصابعه في أذنيه حتى لا يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، ويأتي أحدهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: والله ما جئتك حتى حلفت بعدد أصابعي ألا آتيك، يعني: من شدة تحذير الكفار لهؤلاء فقد كانوا يقولون للرجل لا تذهب إلى محمد ولا تستمع منه، ويحلفونه على ذلك مرة ومرتين وأكثر، فهم يصدون الناس هذا الصد الشديد عن سبيل الله وهم لا يفهمون ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يحاولون ذلك، فهم كالأنعام {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44]. يقول مقاتل: البهائم تعرف ربها، وتهتدي إلى مراعيها، وتنقاد لأربابها التي تعقلها. فصاحب البهيمة يجيء ليربط البهيمة فتقف له حتى يربطها، ويسوقها فتنقاد له، ومعنى أنها تنقاد لأربابها التي تعقلها أي: التي تربطها، أما هؤلاء المشركون فلا ينقادون ولا يعرفون ربهم الذي خلقهم ورزقهم، وإن عرفوا ذلك وأقروا به لم يعبدوه، فلم تنفعهم المعرفة. وقيل: لأن البهائم إن لم تعقل صحة التوحيد والنبوة فهي لم تعتقد كفران ذلك، ولكن الأولى أن يقال: إن البهائم عرفت ربها سبحانه لما جعل فيها من معرفة، وأمرها سبحانه فسبحت بحمده كما أمرها سبحانه وتعالى، قال الله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]. فالبهائم تعرف ربها وتسبحه سبحانه وتعالى، وإذا جاءت يوم القيامة شكت إلى ربها سبحانه سوء صنيع أربابها، وما صنعوا بها من عدم إطعامها وإشرابها، ومن إساءة معاملتها، بل ويقتص للبهائم يوم القيامة، فيقتص للجلحاء من ذات القرن، ثم يأمر الله الأنعام فتصير تراباً. أما الإنسان الذي فهم وعقل فإنه يأتي يوم القيامة وينظر إلى الأنعام كيف يقتص لبعضها من بعض، وكيف أن الله يأمرها بأن تكون تراباً، {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40]، وهيهات أن يكون ذلك. فقد خلقه الله لعبادته، وحذره من معصيته، وحذره من الشرك به، حذره من النار التي يخلد فيها المشركون ولا يزولون عنها، فأبى إلا أن يعصي وأن يشرك بالله، فكان جزاؤه أنه في الدنيا {كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44]، فهم في تحير في الدنيا وتخبط، ويوم القيامة في النار، والعياذ بالله.

تفسير قوله تعالى (ألم تر إلى ربك)

تفسير قوله تعالى (ألم تر إلى ربك) يقول الله لنبيه صلوات الله وسلامه عليه وللمؤمنين بالتبع: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} [الفرقان:45 - 46]. السورة مكية، وفيها خصائص السور المكية من تقرير أمر العقيدة: الإيمان بالله، الإيمان بالملائكة، الإيمان برسل الله سبحانه، كما أن فيها ذكر صفات رب العالمين سبحانه وتعالى، وفيها: تقرير توحيد الله في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته سبحانه وتعالى، وفيها ضرب الأمثال، والحجج والبينات، وفيها الآيات التي تخاطب عقول الناس، {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} [الفرقان:45]، أي: هذا الظل الذي تراه انظر كيف مده الله سبحانه وتعالى! فيكون الظل ثم يتناقص شيئاً فشيئاً، وأعلى ما يكون الظل في الليل، قال العلماء: الظل: الليل، وفرق البعض فقال: الظل ما بين الفجر إلى طلوع الشمس، ثم بعد ذلك تأخذ الشمس من الظل شيئاً فشيئاً حتى تغرب فيكون الليل بعد ذلك. أما علماء الفلك فيقولون: الظل: هو الليل، يأتي الليل فيسود الكون كله، ثم تأتي الشمس تنقص من الليل شيئاً فشيئاً فيتناقص الظل، ويبدأ وقت الظل من الزوال، فقبل صلاة الظهر تكون الشمس فوق الرءوس، ويكون الكل في شمس وفي ضياء، ثم تزول الشمس شيئاً فيبدأ الظل يكبر شيئاً فشيئاً، وكلما مالت الشمس ناحية الغروب كلما انتشر الظل إلى أن يدخل الليل فيستوعب الظلام كل الكائنات. قال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا} [الفرقان:45]، أي: لو شاء الله لأثبته وجعله ليلاً، ولو شاء سبحانه لجعل الشمس دائمة، قال سبحانه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ} [القصص:71 - 72]. فالإنسان يجب عليه أن يتفكر ويسمع ويعقل آيات رب العالمين، فلو شاء سبحانه لثبتت الشمس في مكانها وبقي النهار أبداً، فمن غير الله عز وجل يأتيكم بهذا الليل الذي تستريحون فيه؟ وإذا انعكس الأمر من إله غير الله يأتيكم بنهار ويأتيكم بضياء؟ وهنا يذكر لله لنا المعنى نفسه: لو أن الله سبحانه ثبت هذا الظل فدام الظل وانتهت الشمس فمن سيأتيكم بضياء؟ ثم قال سبحانه: {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا} [الفرقان:45]، فلا يعرف الظل حتى تشرق الشمس فتفرق بين هذا وذاك، ولذلك قالوا: والضد يظهر حسنه الضد، وبضدها تتميز الأشياء، فلولا النهار لما عرفنا فائدة الليل، ولولا الليل لما عرفنا قيمة النهار، فالله جعل ليلاً ونهاراً، أسود وأبيض وجعل أشياء مختلفة لولا هذا الاختلاف لما تبين لنا جمال هذا الشيء الذي أوجده الله عز وجل لنا، فالإنسان في النهار يخرج إلى معاشه، ينظر، ويقرأ، ويكتب، ويرى في النور ما لا يراه في الظلام، فهو في النهار يتعب ويعمل، والجسد يحتاج إلى الراحة، ولو ظلت الشمس ثابتة فمن أين تأتي الراحة؟ إذاً: لابد من ليل، لابد من سكون حتى يستريح الإنسان، فيأتي الليل فيستشعر جمال الليل، وحين يتعب ويستريح يستشعر جمال الراحة بعد تعبه وهكذا، فجعل الله عز وجل الليل والنهار يتقلبان على الإنسان، يستريح في الليل ويعمل في النهار، ألم تر إلى ربك كيف مد الظل وجعله لك آية تستظل به من الشمس، {وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا} [الفرقان:45]، ثابتاً قليلاً أو كثيراً أو ظلاماً، قال: {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا} [الفرقان:45]، فالشمس تقبض الظل شيئاً فشيئاً حتى إذا كان قبيل الزوال زال الظل كله، ثم بعد ذلك ينتشر الظل. {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} [الفرقان:46]، أي: ليس فجأة، ولكن الله عز وجل يجعل الإضاءة شيئاً فشيئاً، فالسماء بعد أن كانت سوداء يكون لونها بنياً ثم تبيض وتطلع الشمس شيئاً فشيئاً من رحمة رب العالمين سبحانه، ولو شاء لجعل الليل يأتي فجأة والنهار يذهب فجأة ولكنه سبحانه يقبضه شيئاً فشيئاً حتى لا ينزعج الإنسان ويتحير في ذلك، فخروج الليل من النهار والنهار من الليل يكون تدريجياً. والزروع منها ما ينتفع بالظل ومنها ما ينتفع بالشمس، ولو دامت عليه الشمس لفسد، ولو دام عليه الظل لفسد، فجعل الله عز وجل الظل والشمس، وجعل الليل والنهار رحمة منه سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي جعل لكم النهار نشورا)

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي جعل لكم النهار نشوراً) قال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} [الفرقان:47]. والإنسان مخلوق ضعيف فحين تطلع الشمس يذهب فيعمل ليأتي برزقه الذي قدره الله عز وجل له، وبعد أن يعمل يجوع فإذا جاع أكل وشرب، فإذا جاء الليل نام، ولو واصل يوماً ويوماً لما استطاع الخروج واكتساب رزقه ولربما مات من ذلك، فجعل الله لنا الليل لباساً يعني: يغطي الكون كله، والإنسان يحتاج إلى ظلمة الليل في النوم، لأن نوم النهار لا يغني عن نوم الليل، فإذا نام الإنسان في النهار ساعات طويلة فإنه لا يستريح بهذا النوم، فهو يحتاج إلى الليل حتى ينام فيستريح في ظلمة الليل، ولذلك نوم الليل للإنسان أفضل بكثير من نوم النهار، فجعل لكم الليل لباساً، وجعل النوم في الليل أو النهار سباتاً، والسبات: هو الراحة والانقطاع، فالإنسان الذي أصابه أرق في النوم يصبح مريضاً، لكن إذا نام وانقطع عن هذه الدنيا فإنه يستيقظ مستريحاً، والسبات مأخوذ من السبت بمعنى: القطع، وسمي يوم السبت؛ لأن اليهود كانوا ينقطعون فيها للعمل باختيارهم، وعقوبة لهم منعهم الله من العمل في يوم السبت، فجعل النوم سباتاً أي: كأنه انقطاع عن العمل، وانقطاع عن الدنيا، والنوم سماه النبي صلى الله عليه وسلم: الموتة الصغرى، والله عز وجل قال {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر:42]، فيتوفى الله الأنفس حين تموت، بقبض الأرواح، والنوم موتة صغرى يتوفى الله عز وجل فيها نفس الإنسان فيستريح الإنسان في هذا النوم ثم يرد عليه روحه حين يستيقظ، فسمي النوم لذلك بالموتة الصغرى، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استيقظ يقول: (الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور). ولا ينام أهل الجنة في الجنة، فلما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن سبب ذلك قال: (النوم أخو الموت)، فأهل الجنة في نعيم لا ينقطع عنهم النعيم بنوم ولا يحتاجون إلى النوم؛ لأنهم في راحة لا يتعبون ولا ينصبون فلا يحتاجون إلى النوم، فجعل الله في الدنيا للعباد النوم سباتاً رحمة منه سبحانه وتعالى، {وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} [الفرقان:47]، والنشور بمعنى: الارتفاع، والنشر: هو الشيء المرتفع، والنشرة: رفع الشيء من شيء إلى شيء، وهنا {وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} [الفرقان:47]، أي: يحيا الإنسان فيه، فبعدما أماته بهذا النوم، وبعدما ذهب في سبات عميق يحيه الله عز وجل فيقوم لعمله يباشره، وهذه من نعم الله التي يدل الإنسان عليها، فكأنه يقول: الذي جعل لكم الليل لباساً، وجعل النوم سباتاً، وجعل النهار نشوراً ألا يستحق أن تحمدوه وتشكروه على هذه النعم وتعبدوه وحده لا إله إلا هو؟ نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الفرقان الآية [48]

تفسير سورة الفرقان الآية [48] شرع سبحانه في هذه الآية وما قبلها في بيان الأدلة الدالة على وجوده سبحانه، وقدرته التامة على خلق الأشياء المختلفة والمتضادة، وبيان نعمه العظيمة على عباده، من نعمة الظل والضياء والشمس والليل والنهار، وكذلك إرسال الرياح التي تبشر بالمطر وتسوق السحاب من مكان إلى آخر، وهذه السحب محملة بالماء الطهور، الذي به حياة الأرض والإنسان والحيوان، وغير ذلك من النعم العظيمة.

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته)

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي أرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته)

معنى الطهور والفرق بينه وبين الطاهر وفوائد الماء

معنى الطهور والفرق بينه وبين الطاهر وفوائد الماء قال سبحانه: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48]، قال: ((ماء طهوراً)) ولم يقل: ماءً طاهراً، وإنما هو طهور، والطهور متعد، أي: ليس طاهراً في نفسه فقط، وإنما هو طاهر في نفسه مطهر لغيره، وهذا الفرق بين: أنزلنا من السماء ماءً طاهراً، (وأنزلنا من السماء ماءً طهوراً)، فالماء الطهور: هو ماء طاهر، ولكن يطهر غيره، وقد يكون الماء طاهراً ولا يطهر غيره، مثل: الماء الذي خالطه شيء طاهر فأخرجه عن وصفه ماء، وعن كونه ماءً مطلقاً، فنقول: هذا ماء مخلوط بكذا ولا يصح أن أتوضأ به، ولا تصح إزالة النجاسة به، بل لابد أن يكون ماءً مطلقاً، فالله عز وجل ينزل من السماء ماءً رحمةً لعباده، وقد ذكر في سورة الأنفال: {لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} [الأنفال:11]. فمن فوائد إنزال الماء من السماء: أن الله عز وجل أنزل على العباد في يوم بدر ماء من السماء، فيتطهرون بهذا الماء، أيضاً من الفوائد: أن هذا الماء يستخدمونه في طعامهم وشرابهم، والماء يثبت الأرض تحت أقدامهم بعد أن كانت أرضاً رملية تتحرك وتضطرب تحتهم، فيثبتها ويهبطها بهذا الماء الذي ينزل من السماء، ويذهب عن العباد رجز الشيطان وهواجسه التي تنادي عليهم أن يهربوا من أمام أعدائهم، فالله عز وجل يطهر العباد بما يشاء. قوله: ((وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا)) هل الماء الذي يخرج من الأرض ليس بطهور؟ لا، ليس هذا بمقصود، ولكن جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الماء طهور لا ينجسه شيء) يعني: الماء باق على أصل خلقته، ولما سئل عن ماء البحر صلوات الله وسلامه عليه قال: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) فالماء النازل من السماء هو ماء طهور، وكذلك الماء النابع من الأرض أو الجاري فوقها أيضاً هو ماء طهور؛ لما جاء في سنة النبي صلوات الله وسلامه عليه. وهنا يذكر الإمام القرطبي في تفسيره للماء الطهور فيقول: المياه المنزلة من السماء والمودعة في الأرض طاهرة مطهرة على اختلاف ألوانها وطعومها وأرياحها حتى يخالطها غيرها. يعني: أن الماء الذي نزل من السماء ماء طاهر وطهور، حتى لو تغير لونه، والماء النابع من الأرض كذلك، إلا أن يتغير بنجاسة فيأخذ حكم الماء النجس، لكن إذا لم تغيره نجاسة، أما ما خرج من بئر أو خرج من النهر أو البحر، فهذا كله ماء طاهر، وسواء كان ملحاً أو مراً أو عذباً فكله طاهر، فعلى ذلك مياه الآبار حتى وإن تغيرت بالمجاورة بالرمال أو بالتراب الذي حولها فهي طاهرة ومطهرة، يتطهر بها الإنسان يتوضأ ويغتسل ويشرب منها، فعلى ذلك الماء الخارج من الأرض الأصل فيه أنه طاهر، لكن إذا جاءت نجاسة على هذا الماء فغيرته وأخرجته عن وصفه صار نجساً، إلا أن يكون ماءً كثيراً ولم تغيره هذه النجاسة، فهو باق على أصل طهوريته؛ لأنه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث، أو قال: لم ينجسه شيء). والقلتان: حوالي خمسة أمتار مكعبة من الماء؛ فإذا كان الماء بهذا الحجم فهذا كثير، فإذا وقعت فيه نجاسة يسيرة ولم تغيره فهو باق على أصل خلقته، والحديث بمنطوقه يدل على ذلك، وبمفهومه يدل على أنه لو كان أقل من هذا فوقع فيه شيء من النجاسة، فإنه يتنجس الماء بذلك. يقول الإمام القرطبي في التفسير: الماء المتغير بقراره كزرنيخ أو جير يجري عليه، أو تغير بطحلب أو ورق شجر ينبت عليه لا يمكن الاحتراز عنه، فاتفق العلماء أن ذلك لا يمنع من الوضوء به. المعنى من كلامه: أنه طالما هو في البئر أو في النهر ووقعت عليه أوراق أشجار فتغير الماء بشيء من الاخضرار، فهو باق على طهوريته، ويجوز الوضوء منه على ذلك، كذلك ماء بئر في صحراء إذا طارت عليه الرمال أو التراب ومن الجير ونحوه فتغير وتعكر، لكن لم يخرج عن وصفه ماء فهو طاهر، ويجوز للإنسان أن يتوضأ به ويغتسل منه وهكذا.

حكم سؤر الإنسان المسلم والكافر

حكم سؤر الإنسان المسلم والكافر قال القرطبي: يكره سؤر النصراني وسائر الكفار، والمدمن الخمر، وما أكل الجيف كالكلاب وغيرها، ومن توضأ بسؤرهم فلا شيء عليه. السؤر: هو ما بقي من الماء، فلو أن إنسان نصرانياً عنده إناء فيه ماء فشرب منه وجاء مسلم وأراد أن يشرب فإنه يكره له ذلك، لكن لا يحرم ذلك؛ لأنك لم تستيقن النجاسة في ذلك، فيجوز للمسلم أن يشرب باقيه أو أن يتوضأ به، ولكن يكره ذلك، سواء كان نصرانياً أو يهودياً أو غيرهم من الكفار. قال: وكذلك المدمن الخمر، فلو أن إنساناً شرب الخمر ثم أخذ إناء فيه ماء وشرب من هذا الإناء، فإنه يكره الشرب من أثر هذا الإنسان. في الماضي يتكلم في هذه المسألة من حيث الطهارة والنجاسة، فيقول: يكره ذلك باعتبار أن هذا الإنسان الذي يشرب الخمر فاسق، ولم يقل: حرام، لكن الآن مع وجود التحاليل الطبية وغير ذلك، نقول: إن الأفضل للإنسان ألا يشرب من أثر أي إنسان؛ لأنه لا يدري ما يكون في فم هذا الإنسان من مرض، كأن يكون مريضاً بالسل، أو بالربو، أو عنده مرض رئوي أو مرض في الفم وكذا، فيتأذى الناس بعضهم من بعض بهذا الشيء، فالإنسان يأخذ حذره في ذلك، ولا يؤذي نفسه ولا يؤذي غيره. إذاً: كلام الفقهاء هنا في كونه نجساً أو طاهراً، وليس معنى ذلك: أنه مأمور أن يشرب أو يستحب له، لا؛ لأن مع كثرة الأمراض لابد أن يأخذ حذره من هذا الشيء، ولذلك نمنع من جعل الماء في العلب وإن كان بعض إخواننا يحب أن يجعلها في المسجد، فكنا نفعل هذا الشيء في الماضي، أما الآن مع كثرة الأمراض وكثرة الأوبئة وانتقال العدوى بقدر الله سبحانه وتعالى، بأسباب ملموسة معروفة، فعلى الإنسان أن يجتنب هذا الشيء؛ لأن الأمراض تنتقل بأسباب لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، ومن ذلك فيروس الكبد، فإنه ينتقل عن طريق اللعاب، وهناك فيروسات تنتقل عن طريق الدم، فعلى ذلك تأخذ حذرك فلا تشرب من هذه العلب الموضوعة في المساجد أو في الشوارع، وهذا لا ينافي قضاء الله وقدره سبحانه وتعالى، وإنما هو أخذ بالأسباب فلا نؤذي أحداً من الناس، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فر من المجذوم فرارك من الأسد) فالنبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا أن نحتاط، وهذا لا يمنع قدر الله؛ لأنه سبحانه إن شاء لك شيئاً لا قدر الله وقع وجرى، وليس معنى ذلك: أنه إذا كان قدر الله جارياً أن نتركه يجري دون الأخذ بالأسباب، لا؛ لأن الجوع والعطش من قدر الله فنحن ندفع القدر بالأخذ بالأسباب فنأكل ونشرب، فكذلك ندفع قدر المرض بالوقاية منه، وعدم الاقتراب من الأسباب المؤدية إليه، وإذا وقع ندفعه بالتداوي بالمباح، ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا نزل الطاعون بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها، وإن لم تكونوا فيها فلا تدخلوها) فنهانا أن ندخل مكاناً فيه الطاعون؛ احتياطاً لأنفسنا، وإن كان قضاء الله عز وجل يجري. ثم قال: وما أكل الجيف كالكلاب وغيرها. والمعنى: أن هناك أناس مثل الصين يأكلون الكلاب والهرر وغيرها من الجيف، فهذا الإنسان لو أنه أخذ الإناء وشرب منه، فهل يجوز للمسلم أن يشرب من هذا الإناء الذي شرب منه ذلك الكافر الذي يأكل الجيف والكلاب وغير ذلك؟ هذا الشيء مؤذ، لكن الفقهاء لا يحرمون ذلك وإنما قالوا: يكره ذلك، كذلك يجوز الوضوء من ذلك الإناء، فقد قال الإمام البخاري: وتوضأ عمر رضي الله عنه من بيت نصراني. يعني: لما خرج عمر رضي الله تعالى عنه إلى الشام طلب ماء ليتوضأ، فقامت امرأة نصرانية فأدت لـ عمر ماء فتوضأ رضي الله تعالى عنه. وهذا الماء شرب منه عمر رضي الله تعالى عنه، فكان ماءً عذباً، فلما شرب منه صعب عليه حال هذه المرأة النصرانية، فقال لهذه المرأة: أيتها العجوز أسلمي تسلمي. يعني: عندما أكرمت عمر بهذا الماء الطيب العذب فشرب منه وتوضأ رأى أن يدعوها للإسلام إكراماً لها، فقال: أسلمي تسلمي، فقد بعث الله سبحانه محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق، فكشفت المرأة عن رأسها فإذا مثل الثغامة، يعني: أبيض، فقالت: عجوز كبيرة أموت الآن، يعني: بعد السن أدخل في الإسلام وأغير ديني! فقال عمر رضي الله عنه: اللهم اشهد.

حكم ولوغ الكلب في الماء الذي في الإناء

حكم ولوغ الكلب في الماء الذي في الإناء يقول الإمام القرطبي: فأما الكلب إذا ولغ في الماء فقال مالك: يغسل الإناء سبعاً ولا يتوضأ منها، فقد ثبت في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات أولاهن بالتراب)، أو قال: (إحداهن بالتراب)، أو قال: (وعفروه الثامنة بالتراب)، فهذا بيان: أنه لا يجوز لك أن تتوضأ بماء شرب منه الكلب، هذا إذا كان ماءً قليلاً في إناء، أما إذا كان ماء في بئر فسؤر الكلب وريقه لا ينجس البئر، إنما ينجس الإناء بذلك؛ لأنه قال: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم). أيضاً لو أن الكلب أخذ ثوبك وعضه فإنه ينجس الثوب ويغسل مرةً واحدة فقط، لكن الإناء فقط هو الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بغسله سبع مرات أولاهن بالتراب فهنا أمر بغسل الإناء سبع مرات، فدل على أن هذا الماء ينجس، لكن الإمام مالك ذهب إلى أن الماء طاهر وليس نجساً، ولكن يغسل الإناء سبع مرات تعبداً، هذا قوله رحمه الله، والصواب قول الجمهور: أن هذا دليل على النجاسة. وجاء في حديث آخر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب)، وهذا الحديث نص في المسألة (طهور): يعني: التطهير، ولا يكون التطهير إلا من نجاسة، فعلى ذلك يكون ريق الكلب نجساً وليس طاهراً، فإذا ولغ الكلب في الإناء فلا بد من غسل أثر الكلب فيها، فيغسل سبع مرات إحداهن بالتراب، والأفضل أن تكون الأولى بالتراب، وكأن ريق الكلب فيه شيء لا يزول إلا بالتراب، وبعض المحللين الذين حللوا المياه التي شرب منها الكلب وجدوا أنواعاً من الجراثيم لا تزول إلا بالتراب، فقالوا: التراب يزيل هذا الشيء، فسبحان الله! فقد جعل عز وجل التراب عجيباً، ويكفي أن الميت يكون دفنه في التراب، فإنه بعد ذلك يتحلل أثر الميت تماماً من هذا التراب، ولا يكون في التراب شيء منه، فالله عز وجل يخلق ما يشاء، ويخبر سبحانه وتعالى عن الشيء الحق، فالماء طهور والتراب أيضاً طهور عند عدم وجود الماء والله أعلم. نكتفي بهذا القدر، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الفرقان (تابع) الآية [48]

تفسير سورة الفرقان (تابع) الآية [48] لقد خلق الله تبارك وتعالى الرياح بشراً بين يدي رحمته، تبشر الإنسان بقرب نزول المطر الذي هو مصدر الرزق بعد ذلك للإنسان، ولقد أهلك الله عز وجل بهذه الرياح قوم عاد لما طغوا وعتوا، وظنوا أنه عارض من المطر والرحمة فكان العكس من ذلك، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يخاف من الرياح ومن الغيم إذا أبصره خشية أن يحل بالمسلمين ما حل بالمجرمين في سالف الدهر، وقد تعرض المفسر هنا لمسائل فقهية خاصة بالماء الطهور وأحكامه ولوازمه، وما إلى ذلك من الأحكام التي ينبغي على المسلم معرفتها والعلم بها.

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته)

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي أرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته)

الفرق بين قراءة (بشرا) (ونشرا) في المعنى

الفرق بين قراءة (بشراً) (ونشراً) في المعنى أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الفرقان: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48]. يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات وما قبلها عن نعمه العظيمة على عباده، فهو الذي جعل لنا الليل لباساً، والنوم سباتاً، وجعل النهار نشوراً، وهو الذي مد الظل ولو شاء لجعله ساكناً، وهو الذي أرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته، فهذه بعض من آيات الله عز وجل التي يراها كل إنسان فيه عقل؛ ليعتبر ويعلم حاجته الماسة لذلك، وكيف أن الله أنعم بهذه النعم العظيمة وغيرها سبحانه وتعالى. فمن نعمه سبحانه: الظل، وكذلك الضياء والشمس، ومن نعمه سبحانه وتعالى: تقليب الأجواء، بين حر وبرد، وفصول أربعة في السنة، وتقليب الليل والنهار بالزيادة والطول؛ ليجعله راحة ومعاشاً للإنسان، فالإنسان يتقلب في نعم الله سبحانه وتعالى بكل حال. وهنا يذكر لنا سبحانه وتعالى من نعمه: نعمة الرياح، فيقول: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الفرقان:48]، ثم قال: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48]، فالرياح تسوق السحاب ومن ثم ينزل الماء من السماء للعباد حتى يحيي الله به الأرض الميتة، ويجعل للعباد من هذا الماء رزقاً ومن كل الثمرات. قال: (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا)، فالله يرسل الريح بشارة للعباد، فيستبشرون بما يأتي من الرياح الباردة نسبياً، فيتروحون بها ويستبشرون بعد ذلك بنزول المطر قريباً بإذنه سبحانه، فهي بشرى كما هي قراءة عاصم فقط: (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِه)، وقرأها نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو، ويعقوب: (نُشُرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِه)، وقرأها ابن عامر: (نُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِه)، وقرأها حمزة والكسائي، وخلف: (نَشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) فالله يرسل الرياح بشراً ونشراً، فمن قرأها: (نُشُرًا) و (نُشْرًا) و (نَشْرًا)، فهو مأخوذ من النشور، والنشور يأتي بمعنى: القيام، وبمعنى: الإحياء بعد الموت، وبمعنى: البعث، فالله عز وجل يرسل الرياح بشارة ونشراً يبشر العباد بهذه الرياح بقرب نزول المطر من السماء، فهي بشارة من رب العالمين سبحانه، وهي نشر: ينشر الله عز وجل ويحيي بها الأرض بعد موتها، فيرسل الرياح فتأتي بالمطر من السماء، فالله عز وجل يحيي هذه الأرض وينشرها، فالرياح تحرك السحاب، ولو لم يخلق الله عز وجل الرياح لكانت السحاب تخرج مياهها من البحر أو من النهر، فتصعد إلى السماء وتنزل في نفس المكان مرةً ثانية، ولكن من رحمة الله سبحانه أن جعل ماء البحر وماء النهر يتبخران ويرتفعان إلى السماء ثم يرسل عليها الرياح فتتكون السحب وتنقلها إلى حيث يريد الله ويشاء سبحانه وتعالى، فينزل المطر على من يشاء سبحانه رزقهم ويمنعه من يشاء، فإذا نزل الماء جعله نشراً ينشر الله عز وجل ويحيي به الأرض الميتة.

أحوال الرياح وأقسامها، وبيان وجل النبي صلى الله عليه وسلم منها

أحوال الرياح وأقسامها، وبيان وجل النبي صلى الله عليه وسلم منها قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا} [الفرقان:48]، وهذه قراءة الجمهور، وقرأها ابن كثير: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيْحَ نُشُرَاً بَيْن يَدَي رَحْمَتِه} [الفرقان:48]، وهذه من ضمن من يقرأها: (نُشراً) فذكر الله عز وجل الرياح والريح على القراءة الأخرى. وفيه دليل: على أن الرياح والريح تتعاقبان في المعنى الواحد، ومن فرق بقوله: إن الرياح تأتي بالخير، والريح تأتي بالشر فقد جاء بتفرقه غير صحيحة؛ لأن كلمة الرياح في القرآن كله منهم من قرأها: (الرياح)، ومنهم من قرأها: (الريح)، فالله عز وجل يرسل الريح بشراً بين يدي رحمته، ويرسل الرياح أيضاً بشراً بين يدي رحمته، فالريح والرياح تأتيان بالخير، وتأتيان بما يشاء الله سبحانه، وقد كان النبي صلوات الله وسلامه عليه يحدث له شيء من الانزعاج إذا هاجت الريح فيقبل ويدبر، ويدخل ويخرج، فلما سألته السيدة عائشة رضي الله عنها عن ذلك؟ قال: (ما يؤمنني! فلقد رأى قوم السحاب في السماء فقالوا: هذا عارض ممطرنا)، وهم: قوم عاد، فما كان عارضاً ولا سحابة وإنما كانت نيراناً من السماء أهلكت القوم جميعهم، فكان إذا أمطرت السماء سر النبي صلوات الله وسلامه عليه وهدأ روعه.

تفسير قوله تعالى: (وأنزلنا من السماء ماء طهورا)

تفسير قوله تعالى: (وأنزلنا من السماء ماءً طهوراً) إذاً: فقد أخبر الله سبحانه أنه يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته، ورحمة الله عز وجل: هي السحب والمطر الذي ينزل من السماء، والرحمة في هذه الآية خرجت مخرج الغالب، إذ أن الرياح قد تكون خالية من المطر، وقد يكون في هذه الرياح هلاك لبعض الناس، قال سبحانه: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} [الفرقان:48 - 49]، فأنزل من السماء ماء طهوراً، ولم يقل: ماءً طاهراً؛ لأن الطهور متعدٍ إلى غيره، فهو طاهر في نفسه مطهر لغيره، وهذا هو الفرق بين الماء الطاهر والماء الطهور، فقد يكون الماء طاهراً ولكنه لا يطهر غيره، مثل: الماء المتغير، فنقول: إن الماء الذي خالطه شيء طاهر فأخرجه عن مسمى الماء، وعن كونه ماءً مطلقاً، فإنه يسمى حينئذ: ماءً مخلوطاً بكذا ولا يجوز الوضوء به، ولا ينفع في إزالة النجاسة، بل لا بد أن يكون ماءً مطلقاً، فالله عز وجل ينزل من السماء ماءً رحمةً لعباده، وقد ذكر سبحانه في سورة الأنفال: {لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} [الأنفال:11].

فوائد إنزال الله المطر يوم بدر على المسلمين

فوائد إنزال الله المطر يوم بدر على المسلمين فمن فوائد إنزال الماء من السماء على العباد يوم بدر: قال: {لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال:11]، فيتطهرون بهذا الماء، {وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} [الأنفال:11]، فهذا من فضل رب العالمين سبحانه على عباده، فإن الماء يستعمل للشرب وللتطهر وللطعام، وليثبت الأرض من تحت أقدامهم بعد أن كانت أرضاً رملية تتحرك وتضطرب تحتهم، فهو يثبتها بهذا الماء الذي ينزل من السماء، وكذلك ليذهب عن العباد رجز الشيطان ورجسه، فهو يحث المسلمين على الفرار والهرب من أمام أعدائهم، فالله عز وجل يطهر العباد بما يشاء، {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48]، ولا يفهم من هذه الآية أن ما خرج من الماء من غير السماء كالأرض غير طهور، فليس المقصود ذلك، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الماء طهور لا ينجسه شيء)، يعني: الماء الباقي على أصل خلقته، ولما سئل عن ماء البحر صلوات الله وسلامه عليه قال: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته)، ففهم من ذلك: أن الماء النازل من السماء أو النابع من الأرض أو الجاري فوقها ماء طهور كما جاء في سنة النبي صلوات الله وسلامه عليه.

حكم التطهر بالمياه النازلة من السماء والنابعة من الأرض

حكم التطهر بالمياه النازلة من السماء والنابعة من الأرض وهنا يذكر الإمام القرطبي في تفسيره في الماء الطهور: أن المياه المنزلة من السماء والمودعة في الأرض طاهرة مطهرة على اختلاف ألوانها ورياحها حتى يخالطها غيرها. يعني: أن الماء الذي نزل من السماء طاهر وطهور، حتى لو تغير لونه؛ لأنه في الأصل ماء طاهر، وكذلك الماء النابع من الأرض، إلا أن يتغير بنجاسة فيبقى له حكم الماء النجس، لكن إذا لم تغيره نجاسة كماء البئر والنهر والبحر فهذا ماء طاهر، سواء كان مالحاً أو عذباً، فعلى ذلك: مياه الآبار حتى وإن تغيرت بالمجاورة بالرمال أو بالتراب الذي حولها فهي طاهرة مطهرة، فيتطهر بها الإنسان ويتوضأ ويغتسل ويشرب منها، فعلى ذلك: يكون الماء الخارج من الأرض طاهراً في الأصل، لكن إذا وقعت فيه نجاسة فغيرته أو أخرجته عن وصفه؛ فإن كان ماءً قليلاً تنجس، وإن كان كثيراً فهو طاهر بشرط: ألا يتغير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث، أو قال: لم ينجسه شيء). والقلتان: حوالي: خمسة أمتار مكعبة من الماء؛ فإذا كان الماء بهذا الحجم فهو كثير، فإذا وقعت فيه نجاسة ولم تغيره فهو باق على أصل خلقته، والحديث بمنطوقه يدل على ذلك، أما مفهومه فيدل على أن الماء يتنجس إذا كان أقل من القلتين.

حكم الماء المتغير بطاهر

حكم الماء المتغير بطاهر يقول الإمام القرطبي في التفسير: الماء المتغير بقراره كزرنيخ أو جير يجري عليه، أو تغير بطحلب أو ورق شجر ينبت عليه لا يمكن الاحتراز عنه، فاتفق العلماء أن ذلك لا يمنع من الوضوء به. والمعنى من كلامه: أن النهر مثلاً قد يتغير إذا وقعت عليه أوراق الشجر، فقد يجعل لونه مائلاً إلى الاخضرار فهذا باقٍ على طهوريته، فهو طاهر ويجوز الوضوء منه، كذلك إذا وجد ماء بئر في صحراء وقد وقع فيه شيء من التراب من الجير ونحوه فتغير وتعكر فإنه يبقى على ذلك طاهراً، فيجوز للإنسان أن يتوضأ به ويغتسل منه وهكذا.

حكم التطهر بسؤر الكفار أو الحيوانات الآكلة للجيف

حكم التطهر بسؤر الكفار أو الحيوانات الآكلة للجيف قال القرطبي: فاتفق العلماء أن ذلك لا يمنع من الوضوء. فلو أن هذا الماء خالطته يد إنسان بأن وضعها في هذا الماء، فهل يتنجس بذلك سواء كان مسلماً أو كافراً؟ يقول لنا هنا: يكره سؤر النصراني وسائر الكفار، والمدمن الخمر، وما أكل الجيف كالكلاب وغيرها، ومن توضأ بسؤرهم فلا شيء عليه، والمقصود من السؤر: هو ما بقي من الماء، فلو أن إنساناً نصرانياً استخدم إناء عنده فشرب منه ثم جاء مسلم وأراد أن يشرب فإنه يكره له ذلك، والمعنى: أنه لا يحرم ذلك؛ لأنك لم تستيقن النجاسة في ذلك، فيجوز أن تستخدم بقية الماء في شرب أو وضوء، ولكن يكره له ذلك، سواء كان نصرانياً أو يهودياً أو غيرهم من الكفار. قال: وكذلك المدمن الخمر، فلو إن إنساناً شرب الخمر ثم أخذ بالشرب من هذا الإناء، فإنه يكره له ذلك ولا يحرم. وهو يتكلم في هذه المسألة من جهة الطهارة والنجاسة، فإذا قلت: يكره ذلك، فباعتبار فسق هذا الإنسان شارب الخمر، فلا نأمن من أن يكون في فمه من أثر ذلك فيتلوث الإناء منه، لكن لما لم يستيقن من ذلك فإنه لم يقل حرام. والآن مع وجود التحاليل الطبية وغير ذلك، نقول: إن الأفضل للإنسان ألا يشرب من أثر إنسان آخر؛ لأنه لا يدري ما يكون في فم هذا الإنسان من مرض، فقد يكون مصاباً بالسل أو الربو أو مرض رئوي أو مرض في الفم ونحو ذلك، فيؤذي نفسه بذلك، فعلى الإنسان أن يأخذ حذره من ذلك؛ لكي لا يؤذي نفسه أو غيره. إذاً: فكلام الفقهاء هنا من جهة الطهارة والنجاسة، لكن ليس معناه: جواز الشرب منه مطلقاً، فلا بد للإنسان مع كثرة الأمراض أن يأخذ حذره من هذا الشيء، ولذلك نمنع من وضع الماء في قلل في المسجد، وإن كان بعض إخواننا يحب أن يضع قلة في المسجد، لكننا ننصح بأخذ الحيطة خصوصاً مع كثرة الأمراض والأوبئة المعدية بقدر الله سبحانه وتعالى وبأسباب ملموسة معروفة، فعلى الإنسان أن يجتنب هذا الشيء، وكذلك نمنع من قضية الماء المسبل في الشوارع، فإن الفيروسات الوبائية قد تنتقل عن طريق اللعاب ومن ثم إلى الدم، فيسبب أمراضاً خطيرة في الكبد ونحوه، فنحن ننصح بعدم الشرب من هذه المياه؛ لأنها قد تؤدي إلى أمراض كالجذام وغيره، وهو مرض معدٍ وهذا لا ينافي أن هذا من قضاء الله وقدره سبحانه وتعالى، لكن يجب أن نأخذ بالأسباب فلا نؤذ أحداً من الناس، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فر من المجذوم فرارك من الأسد)، فهو يعلمنا صلى الله عليه وسلم أن نحتاط، ولكن ليس معنى ذلك: أننا قادرون على منع قدر الله إن أراد بنا شيئاً، فقدر الله جارٍ نافذ، وليس معنى ذلك أيضاً: أن نترك الأسباب ونتوكل على الله فقط، فإننا إذا عطشنا أو جعنا أكلنا وشربنا عملاً بالأسباب، فنفس هذا الكلام يقال في المرض. فالجوع يدفع بالأكل، والعطش بالشرب، والمرض بالوقاية منه؛ ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (إذا نزل الطاعون بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها، وإن لم تكونوا فيها فلا تدخلوها)، فنهانا أن ندخل مكاناً فيه الطاعون احتياطاً لأنفسنا، وإن كان قضاء الله عز وجل يجري. يقول الإمام القرطبي: يكره سؤر النصراني وسائر الكفار، والمدمن الخمر، وما أكل الجيف كالكلاب وغيرها. وقد وجد أناس -كما في الصين- يأكلون الكلاب والقطط، والمقصود: أن كلام الفقهاء في هذا دائر بين الحل والحرمة، وهنا يقول بالكراهة، أي: أن اليهودي أو النصراني أو المشرك إذا شرب من إناء فيه ماء فإنه يجوز لك أن تتوضأ منه، لكن اجتنابه أولى. قال الإمام البخاري: وتوضأ عمر رضي الله عنه من بيت نصراني، وهذا لما جاء إلى الشام رضي الله تبارك وتعالى عنه، وقد كان هذا الماء من أجمل المياه التي ذاقها عمر رضي الله عنه، فقد كان ماءً عذباً جميلاً، فلما شرب منه صعب عليه حال هذه المرأة النصرانية فقال لها: أيتها العجوز! أسلمي تسلمي، فأراد أن يدعوها لأنها أعطته هذا الماء الطيب الجميل، فقال لهذه المرأة يدعوها للإسلام: أسلمي تسلمي، فقد بعث الله سبحانه محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق، فكشفت المرأة عن رأسها فإذا مثل الثغامة، يعني: أن رأسها أبيض من الشيب، والثغامة نبت أبيض الثمر مثل القطن، فقالت: عجوز كبيرة أموت الآن، يعني: أنها تستبعد بعد هذا السن أن تدخل في الإسلام وتغير دينها، فقال عمر رضي الله عنه: اللهم أشهد.

حكم الوضوء من الماء إذا ولغ فيه الكلب، وكيفية تطهيره

حكم الوضوء من الماء إذا ولغ فيه الكلب، وكيفية تطهيره يقول الإمام القرطبي: فأما الكلب إذا ولغ في الماء فقال مالك: يغسل الإناء سبعة ولا يتوضأ منه. وهذا حكم صحيح، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات أولاهن بالتراب) أو قال: (إحداهن بالتراب)، أو قال: (وعفروه الثامنة بالتراب)، فهذا بيان أنه لا يجوز لك أن تتوضأ بما شرب منه الكلب، وهذا إذا كان ماءً قليلاً في الإناء، أما إذا كان ماء بئر أو نهر فإن سؤر الكلب أو ريقه لا ينجس البئر، وإنما ينجس الإناء بذلك فيجب إراقته. أيضاً: لو أن الكلب عض ثوبك فإنه ينجس ويجب غسله مرةً واحدة فقط، لكن الإناء فقط هو الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بغسله سبع مرات أولاهن بالتراب، وإذا أمر بالغسل سبع مرات فهل هذا دليل على أن هذا الماء ينجس أم لا؟ فالإمام مالك: ذهب إلى أن الماء طاهر وليس نجساً، ولكنه يغسل سبع مرات تعبداً لله تعالى، فهذا قوله رحمه الله، والصواب قول الجمهور: أن هذا دليل على النجاسة، فقد ثبت في حديث آخر قوله صلى الله عليه وسلم: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب). وهذا الحديث نص في المسألة، فقوله: (طهور) يعني: التطهير، فلم يطهره إلا من نجاسة، فعلى ذلك يتبين أن ريق الكلب نجس وليس طاهراً، فإذا ولغ الكلب في الإناء فلا بد من غسل أثر ريقه سبع مرات إحداهن بالتراب، والأفضل: أن تكون الأولى بالتراب، وكأن في ريق الكلب شيئاً لا يزول إلا بالتراب، وقد أثبت بعض المحللين للمياه وجود أنواع من الجراثيم في ريق الكلب لا تزول إلا بالتراب، ولذلك يدفن الميت في التراب؛ لكي يتحلل بعد فترة ويذهب أثره تماماً من هذا التراب، فلا يكون في التراب شيء منه، والتراب أيضاً يطهر في عدم وجود الماء والله أعلم. نكتفي بهذا القدر، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الفرقان [48 - 52]

تفسير سورة الفرقان [48 - 52] أنعم الله عز وجل على خلقه نعماً كثيرة لا تعد ولا تحصى، ومن هذه النعم: أنه سخر لنا ما في الكون لننتفع به، مما لا حول لنا ولا قوة عليه، ومن هذه النعم: الرياح التي تسوق السحاب بالمطر إلى حيث يشاء الله، وكذلك نعمة الماء التي لا يستغني عنها أي كائن حي، ومع تسخيره سبحانه لنا هذه النعم إلا أن أكثر الناس لا يشكرون نعمة الله، ولا يقدرونه تعالى حق قدره، بل أبوا إلا الكفر والعناد والبعد عنه سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته)

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي أرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته) أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الفرقان: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا * وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:48 - 52]. في هذه الآيات من سورة الفرقان يخبرنا الله سبحانه وتعالى عن بعض نعمه العظيمة على عباده سبحانه. ومن هذه النعم: أنه أرسل الرياح سبحانه وتعالى بشراً بين يدي رحمته سبحانه، فيستبشر العبد بقدوم الرياح التي يرسلها الله عز وجل، فهي ترطب بدن الإنسان مما هو فيه من حرارة، وكذلك يجعلها سبحانه تحرك السحاب في السماء من مكان إلى مكان؛ لينزل المطر في المكان الذي أراده الله، فيحيي الله عز وجل به الأرض بعد موتها، وهذه من رحمة رب العالمين سبحانه، ويرسل الرياح فتتحرك بها السفن بفضل الله عز وجل وبرحمته، ويحرك بها ما يشاء سبحانه، ويسخرها للعباد يستخدمونها فيما يصنعونه من آلات ومحركات، فقد جعل الله عز وجل الهواء والرياح رحمة منه سبحانه، وقد يقلبها ويصيرها على قوم عذاباً من عنده والعياذ بالله، فالله على كل شيء قدير، يصرف الآيات ويقلبها، فيجعل الرحمة ويأتي بغيرها، من فضله ومن رحمته سبحانه وتعالى. قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48]، والمقصود بالسماء هنا: السحاب التي في السماء، قال تعالى: {أَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48]، والطهور هو: الطاهر في نفسه المطهر لغيره، وهذا أنقى أنواع الماء، ومنه: الماء الذي ينزل من السحاب، وهذا الماء يخرج من الأرض ويكون فيه الطيب والنجس، وقد يكون مالحاً أو مراً أو كدراً، ولكنه يتبخر إلى السماء فلا يصعد إلا الماء النقي، فتتكون منه السحب، فالماء الذي في السحاب أنقى أنواع المياه مطلقاً، فإذا نزل إلى الأرض نزل ورجع إليها ماء نقياً، ولكن قد تعتريه بعض الأتربة والغبار في الجو، وأما وهو في السحاب فهو أنقى أنواع الماء، فإذا نزل على العباد نزل عليهم ماء طهوراً، أي: طاهراً في نفسه مطهراً لغيره. قال الله سبحانه: {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} [الفرقان:49]، أي: هذا الماء الطهور الذي نزل من السحاب يحيي الله عز وجل به البلدة الميتة، كما قال: {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} [الفرقان:49]، وقد قرأها الجمهور: ((ميتاً))، وقرأها أبو جعفر (ميِّتاً). والمعنى واحد، يعني: أن الله عز وجل يحيي بهذا الماء الذي ينزل من السماء الأرض الميتة، أي: المجدبة التي لا زرع فيها، فإذا نزل الماء أحياها الله عز وجل به، فقد جعله سبحانه كالروح للأرض. قال تعالى: {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} [الفرقان:49]، أي: إما أنه بواسطة هذا الماء تخرج الأرض زرعها، وإما أن تكون الأرض سبخة لا زرع فيها، ولكنها تجمع هذا الماء فيشرب منه الإنسان فقد جعل الله عز وجل الماء سقياً للبشر وسقياً لكل حيوان، وجعله روحاً للأرض، ينبت الله عز وجل به النبات من فضله ورحمته. وقوله تعالى: {وَنُسْقِيَهُ} [الفرقان:49]، أي: نسقي هذا الماء، وهو من أسقى الرباعي، ويأتي نسقى من الثلاثي، فيأتي من الاثنين، وفيها في القرآن في غير هذه الآية القراءتان: نَسقي ونُسقي، وأما هنا {نُسْقِيَهُ} [الفرقان:49]، ففيها قراءة واحدة فقط من الفعل الرباعي، قال تعالى: {وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا} [الفرقان:49]، يعني: هذا المطر نزل من السماء لكل حيوان، فيسقي الله عز وجل به الإنسان والحيوان. وقوله تعالى: {مِمَّا خَلَقْنَا} [الفرقان:49]، أي: من كل ما خلقنا، فنسقي بهذا المطر {أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} [الفرقان:49]، أي: بشراً كثيراً، وقوله: {أَنَاسِيَّ} [الفرقان:49]، إما أن واحدها إنسي أو إنسان فيجمع على هذا الجمع، فالله سبحانه وتعالى بفضله وبرحمته يتكرم على عباده بإنزال هذا المطر، وقد يستحق الإنسان هذا المطر وقد لا يستحقه، ولكنه سبحانه لم يمنعه عنهم حتى لا يجدوا شيئاً منه؛ لأن رحمته تأبى إلا أن ينزل المطر، ولكن قد يقلله على قوم ويزيده لأقوام آخرين. فهو سبحانه ينزل المطر من السماء، وإن لم يستحقه الإنسان استحقته البهائم، فينزل من السماء مطراً ليسقي به هذه البهائم، وينتفع الإنسان، كما قال تعالى: {وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا} [الفرقان:49]، وقد قدمها هنا لأنها لا تذنب، وأما العباد فيذنبون فقد يستحقون المطر وقد يستحقون القحط، ولكن الأنعام لا ذنب لها فقدمها، قال تعالى: {ونُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا} [الفرقان:49]، وقد تكفل سبحانه بالرزق لجميع هذه الأنعام التي عرفت ربها؛ لأن هذه الأنعام التي لا تذنب في حق خالقها سبحانه تستحق أن يأتيها الله عز وجل بأرزاقها، فقدمها على الناس، قال تعالى: {وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا} [الفرقان:49]، قال: {وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} [الفرقان:49]، يعني: قد يُحرم الماء من يشاء سبحانه من الإنس ويسقي الكثيرين منهم، فقال: {وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} [الفرقان:49].

تفسير قوله تعالى: (ولقد صرفناه بينهم ليذكروا)

تفسير قوله تعالى: (ولقد صرفناه بينهم ليذكروا) قال تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا} [الفرقان:50]، وأقرب مذكور بهذه الآية هو المطر، أي: ولقد صرفنا هذا المطر بين الناس ليذكروا، وإن قد كان ذكر بعض المفسرين أن المقصود بقوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ} [الفرقان:50]، يعني: القرآن، قالوا: لأن هناك إشارة إليه في أول السورة في قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1]، وكذلك في قوله: {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:29]، وكذلك في قوله تعالى: {اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30]، قالوا: فهذه إشارات إلى أن المقصود هنا هو: القرآن، يعني: صرفنا هذا القرآن على وجوه بالأوامر وبالنواهي، وبالتذكرة وبالعظات، وبضرب الأمثال وغير ذلك، أو: صرفنا هذا المطر الذي ننزله من السماء بوجوه التصريف، فينزل على هذه الأرض فيخرج منها الزرع والثمار، وقد ينزل في مكان آخر فلا تنتفع به الأرض، ولكن تجمعه فينتفع به الإنسان، وقد ينزل في مكان رخو فتشربه الأرض وينزل إلى المياه الجوفية، فيصرفه الله عز وجل بوجوه التصريف. كما قال تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ} [الفرقان:50]، سواء تصريف المطر كما ذكرنا، أو تصريف القرآن بالأوامر وبالنواهي وبالعظات وغير ذلك، فهذا كله للتذكرة، كما قال تعالى: {لِيَذَّكَّرُوا} [الفرقان:50]، أي: وليذكروا الله سبحانه وتعالى، وليعتبروا وليتذكروا وليتبصروا وليشكروا ربهم سبحانه وتعالى على نعمه، ويخافوا أن يحرمهم منها بتقصيرهم، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا} [الفرقان:50]، هذه قراءة الجمهور، وقرأ حمزة والكسائي وخلف: (ليذْكُروا)، أي: الله سبحانه تبارك وتعالى، ويشكروه على هذه النعم العظيمة. قال تعالى: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} [الفرقان:50]، فأما البهائم فقد عرفت ربها سبحانه ولم تعصه سبحانه تبارك وتعالى، وأما الإنسان فمن الناس من يعبد الله، ومنهم من يشرك به سبحانه وتعالى؛ ولذلك جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه على إثر سماء كانت من الليل: (أتدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: لا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يقول الله عز وجل: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله وبرحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فهذا كافر بي مؤمن بالكوكب). فعندما ينزل المطر من السماء فمن العباد من يكفر بالله سبحانه ويشرك به، ومنهم من يحمده سبحانه ويشكره ويوحده، فهؤلاء الشاكرون هم الذين يقولون: مطرنا بفضل الله وبرحمته، أي: جاء المطر من عنده وبرحمته سبحانه. وأما الذين يشركون فهم الذين يقولون: جاءت النوء بكذا، ومطرنا بنوء كذا، والنوء: هو نزول القمر في منازل أو في أماكن معلومة خلال الشهر، ففي كل يوم له منزل ينزل فيه، وأيضاً الشمس في كل ثلاثة عشر يوماً تنزل في منزل من هذه المنازل، فالقمر يدور خلال الشهر كله، التسعة والعشرين أو الثلاثين يوماً خلال هذه المنازل التي في السماء، والشمس خلال السنة جميعها تدور في هذه المنازل، فقد جعل الله هذه النجوم زينة للسماء، وموعظة للعباد، ورجوماً للشياطين، وهداية للخلق، يعرفون طرقهم بها، فإذا ترك الإنسان ذلك وبدأ ينظر في النجوم ويتكلم في الحظ، وينظر في منازل القمر والنجوم ويقول: إذا القمر نزل في المنزل الفلاني فإن هذا اليوم سيكون فيه مطر، أو إذا القمر عمل كذا فسينزل المطر، وكأن النجوم هي التي تأتي بالمطر، أو كأن القمر هو الذي يأتي بالمطر، فالله عز وجل يقول: (أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر). فالكافر هو الذي يقول: لما نزل القمر في المنزل الفلاني أتى لنا بالمطر، والنجم أتى بالمطر، فهذا كافر؛ لأنه نسب الفضل الذي لله عز وجل لمخلوق من مخلوقاته، وهو مسير بأمر الله لا يملك نفسه فضلاً عن أن يملك غيره، فهذا الذي يقول: مطرنا بنوء كذا أصبح كافراً بالله. وفرق بين أن نقول: مطرنا في نوء كذا، وبين أن نقول: مطرنا بنوء كذا، فقولنا: بنوء، كأن النوء هو الذي أتى بالمطر، وكأن القمر أو النجم هو الذي أتى بالمطر، وأما قولنا: في نوء كذا، فهو بمعنى: في زمن كذا، كما نقول: مطرنا في شهر أكتوبر، أو في شهر كذا، ولا نقول: شهر أكتوبر هو الذي يأتي لنا بالمطر؛ لأن شهر أكتوبر زمن من الأزمان خلقه الله عز وجل، لا يأتي بشيء، والذي يأتي بالمطر هو الله سبحانه وتعالى. ففرق بين مطرنا في نوء كذا، ومطرنا بنوء كذا، وإن كان الأفضل ألا تقال أصلاً؛ لأن الكثيرين من الناس لا يفرقون بين بنوء وفي نوء، فالأفضل تركها، وألا يقول الإنسان ذلك، قال تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} [الفرقان:50]، أي: كفروا بالله سبحانه، إما لأنهم نسبوا هذا المطر لغير الله سبحانه قاصدين ذلك فكفروا، أو لأنهم مقلدون في الكلام لغيرهم فوقعوا في ذلك.

تفسير قوله تعالى: (ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا وجاهدهم به جهادا تكبيرا)

تفسير قوله تعالى: (ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً وجاهدهم به جهاداً تكبيراً) قال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:51 - 52]، في هاتين الآيتين إشارة جميلة للنبي صلى الله عليه وسلم إلى قدره العظيم عند رب العالمين سبحانه، فقد ذكر المطر أولاً وهو خير عميم ينزل من السماء، فقال سبحانه: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ} [الفرقان:50]، أي: يرسل المطر إلى هذه القرية وإلى غيرها وغيرها، وأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى كل الخلق، ففي هذه الآية إشارة جميلة إلى أنه صلوات الله وسلامه عليه رحمة للعالمين جميعهم، كما أن المطر رحمة لمن ينزل عليهم، فأشار سبحانه إلى المطر وإلى إرساله إلى أقوام، ومنعه على أقوام، ثم أشار إلى إرساله نبيه صلى الله عليه وسلم إلى الخلق جميعهم إنسهم وجنهم إلى قيام الساعة، فقال له: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ} [الفرقان:51]، أي: كما نزلنا المطر على قرى ومنعنا منه قرى فلو شئنا لفعلنا مثل ذلك وأرسلنا إلى كل قرية رسولاً، ولكن جعلناك أنت رحمة للعالمين جميعهم، فأرسلناك إلى الخلق جميعهم. قال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا} [الفرقان:51]، أي: ينذرهم، ولكن جعلناك وحدك لنرفع درجاتك، وجعلناك رحمة للعالمين. قال تعالى: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} [الفرقان:52]، وقد كان الحمل ثقيلاً على النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:5]، والمسئولية عظيمة عليه عليه الصلاة والسلام، ولكن كان الله يعينه عليها، وقد جعله وحده يدعو إلى الله، فبدأ الإسلام غريباً به وحده صلوات الله وسلامه عليه حتى هدى الله عز وجل به من شاء من خلقه، وقال له: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} [الفرقان:52]، أي: أنهم يريدون أن يصرفوك عما أوحينا إليك، ويريدون إبعادك عن الدعوة إلى الله سبحانه، فاحذر أن تطيعهم في شيء. وهذه السورة سورة مكية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في الأعوام التي كان فيها في مكة يؤذى ويضطهد ويمنعه الكفار من الدعوة إلى الله عز وجل، ويمنعون الناس من سماعه عليه الصلاة والسلام، فيقول له ربه: لا تطع هؤلاء الكافرين، {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ} [الفرقان:52]، أي: بهذا القرآن {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:52]، يعني: بلغ هذا الدين العظيم، وبلغ ما أوحينا إليك من القرآن، وعلم الناس، ومهما أرادوا منعك فلا تطعهم، ولكن جاهدهم به جهاداً كبيراً. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الفرقان [51 - 53]

تفسير سورة الفرقان [51 - 53] قدرة الله سبحانه لا حد لها، فهو سبحانه يفعل ما يشاء، وفي كل أفعاله تتجلى حكمته ورحمته وعدله، فالله قادر على أن يبعث رسلاً إلى كل بلدة ومحلة كما ينزل الغيث، ولكنه خص نبيه بأن يكون خاتم الأنبياء ورسول العالمين، ومن ثم فقد أيده بالمعجزات التي تثبت نبوته لمن رآه أو لم يره، حيث ضمنها كتابه الخالد القرآن الكريم، ومن تلك المعجزات التي تضمنها القرآن: الإخبار بحقائق علمية لم يكتشفها العلماء إلا في مطلع القرن العشرين، فسبحان الله العليم الحكيم!

تفسير قوله تعالى: (ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا برزخا وحجرا محجورا)

تفسير قوله تعالى: (ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً برزخاً وحجراً محجوراً) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الفرقان: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا * وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان:51 - 53]. يخبرنا ربنا سبحانه وتعالى في هذه الآيات أنه قادر على أن يبعث في كل قرية وفي كل بلد منذراً، ولكنه شاء سبحانه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم وحده هو الرحمة للعالمين، فكان هو المرسل من عند رب العالمين اختياراً واصطفاء واجتباءً بهذه الرسالة الكريمة إلى الخلق أجمعين، إنسهم وجنهم، ليدعوهم إلى ربه سبحانه، وكما أن الله سبحانه وتعالى ينزل المطر من السماء ليحيي به الأرض، ويصرفه في البلاد بين عباده كيف يشاء سبحانه وتعالى، فقد أنزل القرآن العظيم رحمة منه ليحيي به القلوب، فكما جعل المطر حياة للأرض، فقد جعل القرآن حياة للقلوب، وكما صرف المطر كيف يشاء في كل قرية وبلد فقد أنزل القرآن العظيم على النبي صلوات الله وسلامه عليه ليدعو به الخلق أجمعين، على أن الله قادر على أن يعدد الرسل، قال سبحانه: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا} [الفرقان:51]، ولكن الله أراد رفع درجة النبي صلى الله عليه وسلم فجعله وحده ليس في زمنه فقط ولكن في كل الأزمان اللاحقة لزمنه عليه الصلاة والسلام، فكان هو الرسول صلوات الله وسلامه عليه منذ بعث إلى قيام الساعة وليس بعده رسول، إلا ما يكون من نزول عيسى عليه الصلاة والسلام ليحكم بشرع النبي صلوات الله وسلامه عليه من قرآن وسنة، فقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يوشك أن ينزل فيكم المسيح بن مريم حكماً مقسطاً فيقتل الخنزير ويرفع الجزية، ويكسر الصليب)، وبذلك علم أن أحكام القرآن هي التي تنفذ وليس غيرها إذا نزل المسيح صلوات الله وسلامه عليه، بل قد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي بالناس ويؤمهم بعد نزول المسيح رجل منهم تكرمة لهذه الأمة، فإنها لا تؤم من غيرها. والآية تبين أن الله عز وجل اختص النبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة إلى جميع الخلق وقد نص على ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة، أو كافة)، أي: أنه عليه الصلاة والسلام بعث إلى انسهم وجنهم، قال سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} [الفرقان:52]، أي: فيما يدعونك إليه من اتباع آلهتهم أو من جعل أيام لهم، ولغيرهم من المسلمين أياماً أخرى، أو لتمييزهم على غيرهم بل: {وَجَاهِدْهُمْ} [الفرقان:52]، والجهاد بالسيف في الأعوام المكية لم يكن قد فرض بعد، وإنما فرض جهاد السيف في المدينة، والمراد بالجهاد في الآية الجهاد بالحجة والبيان، والجهاد بالقرآن والإعلان، وهو المسمى بجهاد الدعوة وهو أن يخرج إلى الناس فيدعوهم إلى الله سبحانه ويحذرهم معصيته فإنها توجب غضبه وعقوبته، ووصف الجهاد المطلوب من النبي أن يقوم به بأنه جهاد كبير مبالغة في الحث على الدعوة إلى الله.

التحذير من التبعية لليهود أو النصارى أو غيرهم من الكفار

التحذير من التبعية لليهود أو النصارى أو غيرهم من الكفار وفي قوله تعالى: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} [الفرقان:52]، تحذير للنبي صلى الله عليه وسلم ولغيره من المؤمنين من التبعية للكفار وطاعتهم، إذ أن طاعتهم مضرة للنبي ومضرة لأتباع هذا الدين، كما أن طاعتهم تؤدي إلى النار والعياذ بالله، ولذا يجب على المؤمن ألا يستجيب للكافر ولا يطيعه، فإن الكافر لن يرضى عن المؤمن حتى يتبع ما هو عليه من باطل، قال تعالى في ذلك: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، وقال أيضاً: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82]، فالمشركون أعداء للمؤمنين، والعدو لا يرضى عن عدوه، فهم لن يرضوا عن المؤمنين أبداً، وكذلك اليهود، وكذلك النصارى، إلا ما ذكر في أمر النصارى أن منهم من يتواضع حين يسمع القرآن، ويبكي خشوعاً وخضوعاً فيدخل في هذا الدين، فهؤلاء فقط ذكر الله عز وجل أن قلوبهم لينة، وأنهم يسمعون القرآن فيبكون عند سماعه ويدخلون في دين النبي صلى الله عليه وسلم، أما غير أولئك من الكفار فإنهم لن يرضوا عن المسلمين إلا أن يتابعوهم في دينهم، قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، فقوله سبحانه: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} [الفرقان:52]، أي: لا تطع الكافرين ظناً منك أنهم يرضون عنك بطاعتك إياهم، بل لن يرضوا، ومهما تنازلت فستجدهم يطلبون المزيد من التنازلات.

جهاد الدعوة والبلاغ

جهاد الدعوة والبلاغ قال تعالى: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ} [الفرقان:52]، أي: جاهدهم بهذا القرآن، والقرآن سلاح عظيم قوي قاهر؛ لأنه كلام رب العالمين سبحانه، وفي الآية أمر للنبي ولكل من يصلح له الخطاب: أن تمسك بالقرآن وجاهد به، ويعني أن تجاهد بهذا القرآن: أن تحفظ القرآن، وتعرف أحكامه، وتدعو الناس إليه، وتتخلق بما فيه من آداب عظيمة، فإنك إن كنت على هذا العلم من القرآن كنت قادراً على أن تجاهد الكفار بالبيان وحينها ينصرك الله عليهم، وقد جاهدهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا القرآن جهاداً عظيماً، فدعاهم إليه في مكة ليل نهار ولكن لم يستجب له عليه الصلاة والسلام إلا القليل، فلما هاجر إلى المدينة ودعا إلى الله سبحانه وتعالى استجاب له الناس ودخلوا في دين الله سبحانه وتعالى، وبعد أن استجاب له الناس في المدينة فرض عليه الجهاد باليد والسيف والسنان، وبذلك يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد جاهد الكفار بالدعوة باللسان، وبالسيف والسنان فنصره الله سبحانه ودخل الناس في دين الله أفواجاًً. وإذا كان في القرآن الحجة البيان، إلا أنه ليس وحده آلة الجهاد فقد جعل الله عز وجل مع القرآن حكم الجهاد قال سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216]، فإذا كان المسلم يحب رحمة رب العالمين سبحانه، ويحب أن يسلم في بدنه، ويأمن في نفسه ولكن الله عز وجل فرض عليه الجهاد والقتال في سبيله سبحانه وأمره: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة:216]، كأمره: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183]، وكقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43]، إذ أن في القتال العزة لهذا الدين، والإعزاز للإسلام والمسلمين، ولذا فالله عز وجل حين فرضه لعل بعض المسلمين لم يفهم من الآية الوجوب فقال: {لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [النساء:77]، فأجابهم الله سبحانه وتعالى بقوله: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء:77]، فلما جاهد المسلمون وجدوا حلاوة النصر، ووجدوا عزة التمكين بعد أن مكنهم الله سبحانه، وحينها أحبوا الجهاد في سبيل الله فلم يزالوا مجاهدين في سبيل الله، طالبين الشهادة والدار الآخرة حتى أعطاهم الله الآخرة والأولى، فأعطاهم الجنة في الآخرة وأعطاهم الدنيا، فصاروا هم الملوك على الدنيا يحكمون بشرع رب العالمين سبحانه، ودانت لهم الدنيا لأنهم أقاموا دين الله سبحانه، ونصروه، وأحبوا الآخرة، وأحبوا الشهادة في سبيل الله سبحانه وتعالى، فقد مكن لهم سبحانه وتعالى، ففي مكة قال لنبيه: جاهدهم به أي: بالقرآن، وفي المدينة قال له وللمؤمنين: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216]، وقال أيضاً: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة:36]، وقال سبحانه: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة:5]، فأمر الله عز وجل المؤمنين بقتال الكفار، والكافر طالما المؤمن يستعد له فإنه يخاف منه، أما إذا نام المسلم ونسي نفسه: فإن الكافر يتحرش به، ويعلو فوقه، ولا يتركه أبداً؛ لأن الدنيا إما أن يغلب المؤمن فيها بدين الله سبحانه فيعزه الله، وإما أن يغلب الكافر بكفره، ولذا ينبغي على الإنسان المؤمن أن يتمسك بدين الله ولا يخاف من أحد، فإنه إن هاب الكافر إستأسد عليه، كما أن المؤمن حين يترك دين ربه سبحانه فإن الله يخذله ولا ينصره؛ لأن من أسباب النصر أن يتعلم الإنسان المؤمن دين ربه وشرعه العظيم، وأن يتمسك به ويدعو إليه، ويجاهد في سبيله، فحينها ينصره الله سبحانه وتعالى.

ملمح من إعجاز القرآن في ذكر حقائق البحار

ملمح من إعجاز القرآن في ذكر حقائق البحار ذكر لنا الله من آياته العظيمة فقال: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان:53]، ومثلها قوله تعالى في الآية الأخرى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} [الرحمن:19 - 20]، ولفظ البحرين في الآية الأولى لا يحتمل معناه إلا البحر الملح والبحر العذب، أي: البحر والنهر، وإن كانت الآية الثانية في سورة الرحمن: تحتمل الاثنين أي: البحر المالح والعذب، وتحتمل واحداً وهو البحر المالح، يقول الإمام القرطبي: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} [الرحمن:19]، أي خلا وخلط، وأرسل، وكلمة (مرج) تأتي بمعنى التراكم، وتأتي بمعنى الإختلاط، وتأتي بمعنى دخول الشيء في الشيء، فيكون معنى قوله: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} [الفرقان:53]، أي: أرسلهما فأرسل البحر المالح وأرسل البحر العذب الذي هو النهر، ومعنى: خلاه أي: تركه فانطلق النهر إلى أن صب في ماء البحر، وعلى المعنى الثالث {مَرَجَ} [الفرقان:53]، الذي هو خلط، اختلط الاثنان، ولكن سيكون المعنى: اتصالهما لم يجعل البحر يتحول إلى عذب، ولم يجعل ماء النهر يتحول إلى ملح، قال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ} [الفرقان:53]، وسمي ماء النهر عذباً؛ لأن فيه عذوبة وحلاوة، وفيه فرات فهو شديد العذوبة، ذو طعم جميل، ثم وصف ماء البحر فقال سبحانه: {وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [الفرقان:53]، أي: شديد الملوحة، وقد يكون فيه مرارة مع الملوحة التي فيه، فالأول: شديد العذوبة وهذا شديد الملوحة. وقد حفظ الله سبحانه ماء البحر بأن جعل الملوحة التي فيه تمنعه من التعفن، وحفظ الكائنات التي فيه بما جعل لها فيه من غذاءً، وما يسر له من تنفس، وحفظ ماء النهر بأن أجراه؛ إذ الماء العذب إذا وقف في مكانه ينتن، وجري ماء النهر يجعله عذباً فراتاً لا يتعفن ما دام جارياً، ومن حكمة الله سبحانه ورحمته بعباده أن حفظ لهم المياه بتلك الأوصاف المصاحبة لها، فلعلمه سبحانه أن ماء النهر عرضة للجراثيم، وعرضة للبكتيريا، وعرضة للأشياء التي تقع فيه، فقد حفظه الله عز وجل بالجريان، فإنه ما دام جارياً لا يتعفن؛ لأنه متغير دائماً، والنهر من المعلوم أنه عندما يصب في البحر، وعندما يصب في البحر يتبخر بفعل حرارة الشمس إلى السماء، ثم تدفعه وتحركه الرياح إلى مصب النهر، فإذا نزل المطر في أول النهر جرى النهر ليصب في البحر وهكذا تستمر دورة بين الأرض والسماء، يحفظ الله عز وجل العباد بهذه المياه وهذه الأمطار، كما يحفظ الله العيون في الآبار بهذه الصورة، إذ أن ماء العيون نابع من مياه جوفية داخلية، وقد جعل الله عز وجل المياه الجوفية على بعد كبير من سطح الأرض، بحيث تكون بعيدة عن نزول الجراثيم إليها، وبذلك يحفظها الله سبحانه وتعالى في جوف الأرض، وهذا من آيات الله العظيمة سبحانه، قوله سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} [الفرقان:53]، أي: أرسل البحرين أو جعلهما يضطربان فيختلطان، ومنها أمر مريج، قال تعالى: {فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق:5]، أي: أمر مختلط مضطرب، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيت الناس مرجت عهودهم، وخفت أماناتهم، وكانوا هكذا ثم شبك بين أصابعه صلوات الله وسلامه عليه، فقال له عبد الله بن عمرو بن العاص: كيف أصنع جعلني الله فداك؟ قال: الزم بيتك، واملك عليك لسانك، وخذ بما تعرف ودع ما تنكر، وعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العامة). فقوله في الحديث: (إذا رأيت الناس مرجت عهودهم، وخفت أماناتهم)، أي: صار الناس أهل منكر، ولم تقدر على تغيير هذا المنكر الذي من علاماته: أن تبقى العهود كثيرة مختلطة مضطربة، لا يفي أصحاب العهود بشيء منها، وقوله: (خفت أماناتهم)، أي: كثرت فيهم الخيانات، والمعنى: إذا رأيت الناس على هذا الحال وكانوا مختلطين مضطربين لا رأي يجمعهم، ولا دين يوجههم فابتعد عنهم، ما دمت غير قادر على أن تصلح فيهم شيئاً وتخشى على نفسك أن تتغير معهم، وعجزت عن إصلاحهم، أما إذا كان المؤمن يقدر على الإصلاح فيلزمه أنه يدعو إلى الله سبحانه وتعالى لعل الناس يستجيبون له، وفي الحديث (المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم). فقوله في الحديث (مرجت العهود)، أي: اختلطت، وكذلك يكون معنى مرج في قوله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} [الفرقان:53]، أي: جعلهما يختلطان أو يدخل هذا في ذاك، وهما كما وضعهما سبحانه: قال: {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [الفرقان:53]، فالفرات: شديد الحلاوة أو شديد العذوبة، والأجاج: شديد الملوحة التي فيها مرارة، ثم قال سبحانه: {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان:53]، قال القرطبي في تفسير البرزخ: أي: حاجزاً من قدرته، فلا يغلب أحدهم على صاحبه، و (حجراً محجوراً) قال: أي: ستراً مستوراً يمنع أحدهما من الاختلاط بالآخر، وأمر التقاء البحرين ووجود آخر لم يره الكثير من العرب وخاصة عند نزول هذه الآية، فمن البعد بمكان أن يذهب الناس إلى مصر لينظروا نهر النيل وهو يصب في البحر المتوسط مثلاً، أو غيره من الأنهار وهي تصب في البحار، ولكن الله سبحانه وتعالى يخبر عباده بهذه الآيات العظيمة العجيبة في مدلولها، فيقول: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} [الفرقان:53]، ولم يذكر بحرين معهودين عند الناس كأن يقول مثلاً: البحر الفلاني والبحر الفلاني، بل الآية عامة في كل بحرين يلتقيان، وخصهما في هذه السورة فقال: {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [الفرقان:53]، وأطلق في سورة الرحمن فقال: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} [الرحمن:19 - 20]، فاحتمل البحر الملح والبحر العذب، واحتمل البحران المالحان.

العلماء المتخصصون يؤكدون سبق القرآن

العلماء المتخصصون يؤكدون سبق القرآن يقول العلماء المتخصصون في البحار: علم البحار لم يستقر كعلم حقيقي إلا في سنة ألف وثمانمائة وثلاثة وسبعين، أي: بعد اثني عشر قرناً من النبي صلى الله عليه وسلم أو نحوها، يقول العلماء: في هذه السنة خرجت سفينة اسمها: (تشالنجر) وطافت حول البحار ثلاثة أعوام للدراسة، وكان هذا أول ما حدث في دراسات البحار فبدأت تدرس مياه البحار ومياه المحيطات ومياه الأنهار، ويدرس التقاء هذه بتلك والكائنات الموجودة هنا، والكائنات الموجودة هناك ودرجة الكثافة في مياه كل منها، ودرجة الملوحة ودرجة العذوبة، وما الذي يحدث إذا التقى البحر بالمحيط؟ أو التقى البحر ببحر آخر؟ أو التقى النهر بالبحر؟ وظلوا ثلاث سنوات يؤسسون علوم البحار. وكان في هذه الباخرة أول هيئة علمية بينت أن البحار المالحة تختلف في تركيب مياهها، وأن البحار المالحة حين تلتقي لا تختلط مياهها، فماء البحر له خصائص معينة وماء المحيط لها خصائص أخرى، وإن كانا مالحين: فإن ملوحة الأول بدرجة معينة وملوحة الثاني بدرجة معينة، كما أن في البحر كائنات حية ليست موجودة في المحيط، وفي المحيط كائنات لا تعيش في البحر، كذلك الماء العذب مع الماء المالح، فإن لكل منهما كائنات حية وأسماك تعيش بداخله لا تستطيع أن تعيش في الآخر، والأعجب من ذلك أن البرزخ: وهو المنطقة التي يلتقي فيها ماء البحر مع ماء النهر، يقولون: كأن حاجزاً يحجز هذه المنطقة عن غيرها فلها كائنات حية تعيش فيها فقط فإذا خرجت منها إلى ماء النهر أو ماء البحر تموت، فإنها لا تعيش إلا في هذا البرزخ الذي قال عنه الله سبحانه: {وَحِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان:53]، أي: مانعاً ممنوعاً فالداخل فيه ممنوع من الخروج منه؛ لأنه حين يخرج منه يموت. يقول العلماء: بينت هذه الباخرة بعد الدراسات أن البحار المالحة تختلف في تركيب مياهها، ولقد أقاموا محطات ثم قاسوا النتائج من هذه المحطات ووجدوا أن البحار المالحة تختلف فيها الحرارة والكثافة، والأحياء المائية، وقابلية ذوبان الأكسجين، وفي سنة ألف وتسعمائة واثنين وأربعين، ظهرت لأول مرة نتيجة أبحاث طويلة جاءت بعد أن قامت مئات المحطات البحرية بدراسة البحار والمحيطات والأنهار، حيث وضع في كل محطة هيئة علمية مؤهلة للدراسة والبحث، وكان خلاصة هذه الأبحاث أنهم توصلوا إلى أن مياه البحار مختلفة عن بعضها فكل بحر له خصائصه التي يختلف بها عن المحيط، والمحيط له خصائصه التي يختلف بها عن منطقة التقاء البحر بالمحيط، وأنهما برغم اختلاطهما لا يغير واحد منهما الآخر.

القرآن يشير إلى حقيقة يجهلها المفسرون

القرآن يشير إلى حقيقة يجهلها المفسرون كما وجد العلماء مصداق قوله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:19 - 22]، فمن المعلوم عند العرب أن اللؤلؤ والمرجان لا يخرج إلا من البحر المالح فقط، ولذلك كان المفسرون جميعهم عندما يتكلمون عن هذه الآية يقولون: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} [الرحمن:19]، أي: العذب والمالح، {يَخْرُجُ مِنْهُمَا} [الرحمن:22]، قالوا أي: من أحدهما الذي هو المالح فقط؛ لأن العرب لم يكونوا يعرفوا لؤلؤاً ومرجاناً يخرج إلا من البحر المالح فقط، لكن هذه الدراسات أثبتت أن اللؤلؤ والمرجان يخرج من البحر العذب أيضاً، فقد وجدوا ذلك في نجلترا، واستراليا، وأمريكا، وهي أماكن بعيدة جداً عن العرب لا يعرفها النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك ذكر القرآن في قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا} [الرحمن:22]، أن اللؤلؤ والمرجان يخرجان من كلا البحرين، فيخرجان من البحر الملح ومن البحر العذب، ولما كان المفسرون يعلمون ذلك فقد قالوا: يخرجان من البحر المالح فقط، وقالوا: إن الآية وإن جاءت على هيئة العموم في البحرين إلا أن المقصود بها الخصوص، ولكن العلماء الآن يقولون: بل يخرج اللؤلؤ والمرجان من البحر العذب كما يخرج من المالح، وصدق الله العظيم حين يخبرنا بذلك قبل ألف وأربعمائة عام فيقول: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:19 - 21]، أي: بأي نعمة من نعم الله عز وجل تكذبون أيها الإنس! وأيها الجان؟! ثم يقول: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:22]، وهنا في آية الفرقان: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا} [الفرقان:53]، فالبرزخ: المنطقة الحاجزة بين البحرين، وهي منطقة الالتقاء، والأعجب من ذلك وجود مياه جوفية عذبة تحت المحيط وتحت البحر، فإنها عندما تنفجر تلك المياه العذبة من تحت البحر يقوم أهل هذا المكان فيخرجوا من قلب مياه البحار مياه عذبة، وذكروا أن هناك حسبة يعرف بها مكان خروج المياه العذبة، كما ذكروا أيضاً: أنه برزخ مائي وفاصل مائي يفصل بين كل بحرين يلتقيان في مكان واحد سواء في محيط أو في بحر، وتمكنوا من معرفة هذا الفاصل وتحديد ماهية هذا الفاصل، وقالوا: إن هذه المياه العذبة التي تنفجر من داخل البحار أحياناً قد يحدد عمقها، إذ يحسبون ارتفاع البر عن البحر ثم يضربون المسافة الأولى في أربعين فينتج سمك هذه المياه، على أن هذه المياه تظل عذبة محتفظة بخصائصها وإن كانت خارجة من قلب البحر، ويستفاد من هذه المياه العذبة للشرب، (بينهما برزخ لا يبغيان)، فلا يطغى ماء البحر فيملح هذه المياه الجوفية، ولا هذه المياه تستطيع تغيير مياه البحر، وبذلك جعلها رحمة للعالمين.

تفسير سورة الفرقان [53 - 57]

تفسير سورة الفرقان [53 - 57] آيات الله الدالة على عظمته وقدرته وحكمته لا نهاية لها ولا حد، ففي البر آيات يعجز المرء عن حصرها، وفي البحر أكثر وأكثر، وليس الأمر كذلك فحسب؛ بل إن شاهد صدق النبي صلى الله عليه وسلم جلي لكل بصير، متفتق لكل عالم، فحديثه عن البحر بهذه الدقة التي عجز العلماء عن إدراكها في زمنهم يشهد بصدق النبي صلى الله عليه وسلم، فعجباً لمن يعرف هذه الآيات ثم يعبد غير الله!

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي مرج البحرين)

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي مرج البحرين) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الفرقان: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا * وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [الفرقان:53 - 57]. يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن بديع خلقه سبحانه وتعالى وكمال قدرته سبحانه، فيقول: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان:53] فذكر في هذه الآية أنه مرج البحرين، ((وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ))، والمرج بمعنى: اختلاط الشيء بالشيء الآخر، وهنا المقصد منه: إدخال هذا في ذاك من غير أن يختلط حقيقة، فماء البحر بما فيه من ملوحة، وماء النهر بما فيه من حلاوة وعذوبة لا يختلطان بحيث يطغى أحدهما بصفاته على الآخر؛ لأن الله جعل بينهما برزخاً وحجراً محجوراً، وتقدم أن للفظ: مرج عدة معان، فهو يأتي بمعنى: أرسل، وبمعنى: خلّى سبيله، وبمعنى: خلط، والمراد منه هنا: أدخل النهر فصب في البحر وتميز الماءان كل منهما عن الآخر، بل وكذلك قد تخرج مياه جوفية من قلب البحر أو قلب المحيط وتظل محتفظة بخصائص المياه العذبة، ولا تختلط بماء البحر ولا بماء المحيط مع أنها تنبع من جوفها، وهذه آية عظيمة على قدرته سبحانه. ومن آياته العظيمة ونعمه العميمة التي امتن بها على عباده في البحر ما ذكره سبحانه في سورة فاطر: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [فاطر:12]، فجعل لنا من فضله سبحانه في هذه المياه عذبها ومالحها اللحم الطري، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هو الطهور ماءه الحل ميتته)، فيأكل المرء مما خلق الله عز وجل في هذا البحر لحماً طرياً وليس ذلك فحسب، بل ويستخرج منه حلية يلبسها ويتزين بها، وذكرت الآية أن الحلي يستخرج من كليهما، ومعلوم أن العرب لم يكونوا يعرفون أن الحلية تستخرج إلا من البحر المالح فحسب، أما البحر العذب أو ماء النهر؛ فإنهم ما كانوا يعرفون أنه يستخرج منه لؤلؤ ومرجان وحلي، فجاء العلم بعد ذلك ليثبت للناس صدق ما قاله الله سبحانه، حين استخرجوا من مياه الأنهار اللؤلؤ والمرجان وغير ذلك من الحلي. قوله عز وجل: {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا}، والبرزخ: هو المكان الذي يتوسط البحرين، ومنه مرحلة البرزخ في القبر؛ لأنها وسط بين الدنيا والآخرة، فالعباد لهم في الدنيا خصائص منها: أنهم أحياء روحاً وجسداً، وفي القبور مرحلة أخرى ينفصل فيها الجسد عن الروح حيث تذهب الروح إلى مستقرها إما في عليين وإما في سجين، وأما الجسد فهو في القبر، ويجعل الله عز وجل ما يأتي عليه من نعيم أو عذاب بما يشاء سبحانه، ثم تتبعها مرحلة ثالثة وهي مرحلة الدار الآخرة، وفيها ترجع الأرواح إلى الأجساد على هيئة أخرى غير التي كانت عليه في هذه الدنيا، إذ أنها في الدنيا كانت على الهيئة التي تفنى فيها، أما يوم القيامة فتكون على الهيئة التي تبقى، ولتخلد إما في الجنة وإما في النار، فكان القبر برزخاً أي وسطاً بين الدنيا والآخرة، وكذلك البرزخ الذي يتوسط البحر والنهر، فمع أن النهر يصب في البحر، إلا أن برزخاً يتوسط عند التقاء المائين يمنع من اختلاطهما، بل ويتميز عنهما بخصائص تجعله مخالفاً للبحر المالح والنهر العذب، كما تعيش فيه كائنات منفردة لا يمكنها العيش إلا فيه، قال تعالى: ((وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا)) [الفرقان:53]، والحجر بمعنى: المانع، ولذلك سمي العقل بالحجر؛ لأنه يمنع الإنسان من الخطأ والخطر والإثم والتعدي، وكما أن للإنسان حجر، فإن البرزخ كذلك، فيكون معنى: وحجراً محجوراً أي: مانعاً يحرم الدخول فيه والخروج منه إلا بإذن الله سبحانه وتعالى، فلا يختلط ماء البحر بحيث يغير ماء النهر الذي يصب فيه ولا العكس، فقد منع الله عز وجل بهذا البرزخ أن يختلط أحدهما بالآخر فيتغير ماء البحر أو ماء النهر، وعن الكائنات التي تعيش في المكان، يقول علماء البحار بعد دراسات دامت سنين طويلة: إن هذا البرزخ يمنع الكائنات التي في ماء البحر أن تدخل ماء النهر والعكس كذلك، كما أن في منطقة البرزخ نفسها كائنات كأنها محجور عليها في هذا المكان، فلا تخرج منه.

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي خلق من الماء بشرا)

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي خلق من الماء بشراً) لما أرانا الله عز وجل بديع قدرته في المياه المالحة والعذبة والبرزخ الذي يتوسطهما وما فيه من كائنات، أرانا من بديع ما خلقه عز وجل في الإنسان، فقال معقباً بعد ذكر الماء الذي يعد أساس الكائنات، فهذه البحار مياه وهذه الأنهار مياه، وما فيها من كائنات مخلوقة من الماء، وكذلك الإنسان الذي يعيش على البر مخلوق من الماء. قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان:54] خلق الله عز وجل الإنسان من ماء، وجعل أكثر ما يتركب منه الإنسان الماء، فقوله: (خلق من الماء) أي: من نطفة من ماء مهين، فجعل من هذه النطفة إنساناً، وجعل النسب، وجعل الصهر، والمراد بالنسب: هم من ينتسب إليهم الإنسان من أقربائه، فكأن النسب الأقرباء: الأب؛ الأم؛ الأخ؛ الأخت؛ الابن؛ البنت؛ الأحفاد؛ الأجداد؛ الأعمام؛ ومن الخطأ لغة وشرعاً ما نقوله عن الأنساب أنهم أقارب الزوجة، أو أقارب الزوج، والصحيح: أنهم الأصهار، والأصهار من المصاهرة، أي: كأنهم صهار، وكأن شيئين متباعدين اختلطا فانصهر أحدهما في الآخر، ومثله ما يقع في صهر المعادن، حيث يؤتى بمعدنين ثم يذابا ويخلط أحدهما بالآخر، ومنه يعلم أن الله عز وجل قد جعل النسب شيئاً والصهر شيئاً آخر، فخلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً. يقول العلماء: إن الصهر يعني: الذي يحل نكاحهم، وأما النسب فيعني: الذين لا يحل نكاحهم، وقالوا أيضاً: اشتقاق الصهر من صهر الشيء بمعنى: خلطه، فالناس يتزوجون بينهم فيختلط الماءان من هذا ومن ذاك، ويأتي النسب بعد ذلك من الأبناء، حيث ينسبان إلى الأب وإلى الأم. ويقال في أقارب الزوجة: أختان، ويقال في أقارب الزوج بالنسبة للزوجة: أحماء، مفردها: حمو، فيطلق الحمو على أخي الزوج وأبيه، وما يتبعهم من أقارب الزوج، والأختان والأحماء هم الأصهار، فيدخل تحت الأصهار الأحماء ويدخل تحتها الأختان، وبذلك يُعلم أن الله عز وجل خلق الإنسان وجعل له النسب وجعل له المصاهرة، وذكر الله عز وجل المحرمات من النسب والمصاهرة والرضاعة في سورة النساء فقال: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} [النساء:22]، ثم ذكر المحرمات من النسب فقال: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ} [النساء:23]، فذكر سبعاً من النسب، ثم قال: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء:23]، فذكر اثنين من الرضاعة، إذ هما ملحقان بالنسب، ثم ذكر بعد ذلك المصاهرة فقال: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ * وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ} [النساء:22 - 23]، وذكر قبل ذلك: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:22]، فذكر من المحرمات بالمصاهرة أصنافاً أربعة. فقد جعل الله عز وجل الإنسان آية من آياته سبحانه وتعالى حيث خلقه من ماء مهين، فجعل النطفة من الرجل، وجعل من المرأة ما يتم خلق الإنسان به، وهي البويضة، ثم جعل الله عز وجل النسب والصهر من ذلك، وهذا من كمال قدرته وحكمته سبحانه، قال سبحانه: {وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} فعبر بكان التي تفيد المضي، ولكن في هذا الموضع تفيد: الماضي، والحاضر، والاستقبال، وهي الأداة الوحيدة التي تدل على ذلك في مثل هذا المعنى، ولذلك كثيراً ما يسند الله عز وجل صفاته إلى الفعل كان، كقوله سبحانه: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:96]، وكان من الأزل، وهو الآن كذلك، ولا يزال كذلك إلى الأبد سبحانه، وبذلك عُلم أن كلمة كان هنا لا تفيد الماضي فقط، ولكن تفيد الاستمرارية من الماضي إلى الأمد البعيد وإلى ما لا نهاية، فقوله: (كان الله خبيراً بصيراً)، وقوله: {وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} [الفرقان:54]، يدلان على أنه قادر على كل شيء، ولم يزل كذلك ولا يزال كذلك، فالله قادر على أن يخلقَ وعلى أن يرزق، وعلى كل شيء سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم)

تفسير قوله تعالى: (ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم) لما ذكر الله الآيات التي تدل على قدرته في خلقه سبحانه، وبين كيف يخلق لنا أشياء في غاية الكمال والجمال والإبداع، أخذ يذكر أن الإنسان وبالرغم مما يرى من آيات الله الباهرة يكفر ويعبد غير الله سبحانه وتعالى، قال سبحانه: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ} [الفرقان:55]، فقوله: (ويعبدون من دون الله) أي: أن كل ما سوى الله فهو دون، فكل من يعبد من دون الله أو من الذين هم غير الله سبحانه وتعالى لا ينفعون ولا يضرون لا أنفسهم ولا غيرهم، قال تعالى: {مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ} [الفرقان:55]، وفي هذا الموضع قدم النفع على الضر وفي غيره من المواضع يقدم الضر على النفع، وهم لا يملكون لا هذا ولا ذاك، إذ الإنسان لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، إلا أن يشاء الله سبحانه فيقدره على ذلك، وفي قوله: (مالا ينفعهم ولا يضرهم) تعريض أنهم يعبدون أصناماً وأوثاناً لا تملك لنفسها نفعاً ولا ضراً، ثم قال: {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} [الفرقان:55]، أي: أن الكافر يعين غيره من الكفار على هدم دين الله سبحانه وتعالى، والمظاهرة بمعنى: التقوية، والمعنى: يقوي الكافر غيره من الكفار على عصيان الله سبحانه وتعالى، ومن يظاهر على المعصية يظاهر على هدم دين الله سبحانه، ويقوي الشيطان فيما هو فيه من عناد واستكبار ويعينه على المسلمين، قال سبحانه: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} [الفرقان:55]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: الكافر هنا: أبو جهل لعنه الله، والمعنى: أن أبا جهل كان يستظهر بعبادة الأوثان على أولياء الله سبحانه وتعالى، وهذه الآية وإن كان سبب نزولها هو أبو جهل، ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ لأن الله عز وجل قال: (وكان الكافر)، فاللام في لفظ الكافر للجنس وهي من ألفاظ العموم، ولذا فكل كافر على ذلك، فهو لا يحب المسلم ولن يرضى عنه حتى يدخل المسلم في دين هذا الكافر، فتلك إعانته الكفار والشيطان على أولياء الله عز وجل. قوله: ((عَلَى رَبِّهِ))، أي: على الله عز وجل، والمعنى: يظاهر على هدم دينه سبحانه وتعالى، وقيل: بل الكافر هو إبليس، ولكن العبرة بالعموم، فعموم الكفار يعين بعضهم بعضاً على هدم دين الله سبحانه. يقول الحسن في معنى (ظهيراً) أي: معيناً للشيطان على المعاصي من المظاهرة وهي: التقوية والإعانة. هذا معنى من المعاني، والمعنى الآخر لقوله تعالى: {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} [الفرقان:55]، أن الظهير مأخوذ من الظهر، نقول: ألقيت الشيء ورائي ظهرية، أي: لم ألتفت إليه، ومعنى: (على ربه) أي: عند ربه، والمعنى: كان مقام الكافر عند ربه مقام الذل والمهانة لا قيمة له، ولذلك يلقيه الله في نار جهنم وأمثاله، ويذكر عنهم أنه يجعلهم كالمنفيين في نارهم، قال سبحانه: {فَالْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الجاثية:34]، وليس المعنى أن الله ينسى، فالله لا ينسى شيئاً سبحانه، وقوله: ((نَنسَاكُمْ)) بمعنى: نعاملكم معاملة المنسيين فنقذفكم في نار جهنم كالمنفيين، فأنتم مطرودون من رحمة الله لا نأبه بكم، وقد ذكر الله في آيات أخر أنهم يصرخون وينادون فلا يغاثون ولا يجيبهم ربهم سبحانه، ومثل النسيان ما دل من الآيات على أن الله لا ينظر، والمعنى: لا ينظر إليهم بنظر رحمة سبحانه وتعالى، إذ الله يبصر كل شيء ويرى كل شيء سبحانه. والقول الثالث في معنى قوله تعالى: ((وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا)) قالوا: بمعنى مظهور، أي: أن كفر الكافرين هين على الله سبحانه وتعالى، فالله لا يأبه بكفرهم شيئاً، فهو الغني سبحانه وهو القدير، فلا يضرون ربهم شيئاً وإنما يضرون أنفسهم.

تفسير قوله تعالى: (وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا)

تفسير قوله تعالى: (وما أرسلناك إلا مبشراً ونذيراً) أخبر الله نبيه بمهمته الذي كلف بها فقال له صلوات الله وسلامه عليه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الفرقان:56]، أي: وظيفتك يا محمد! البشارة والنذارة فحسب، ومثله قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} [آل عمران:144]، فوظيفة النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الدنيا أنه رسول رب العالمين عليه الصلاة والسلام، والرسول: هو صاحب الرسالة أو موصلها، فالنبي صلى الله عليه وسلم جاءته رسالة من عند رب العالمين ليوصلها إلى الخلق، فأداها بأمانة صلوات الله وسلامه عليه كما أمره ربه حيث قال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67]، أي: أنك إن تهاونت في شيء من رسالة الله عز وجل، فكأنك تهاونت بالجميع ولم تبلغ هذه الرسالة، وقد بلغ رسالة ربه سبحانه وأشهد الناس على ذلك وقال لهم: (ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم! قال: اللهم فاشهد)، فأشهد ربه سبحانه أنه بلغ الخلق هذه الرسالة التي مقتضاها تبشير من يطيع الله سبحانه وتعالى بالجنة، وبذلك سمي مبشراً عليه الصلاة والسلام، وهو منذر يخبرهم ويتوعدهم بالنار إذا عصوا ربهم سبحانه، فمعنى الآية: وما أرسلناك إلا مبشراً للمؤمنين ومنذراً للكافرين والعصاة.

تفسير قوله تعالى: (قل ما أسألكم عليه من أجر)

تفسير قوله تعالى: (قل ما أسألكم عليه من أجر) قال تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [الفرقان:57]، ينفي النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلب أجرة على تبليغ هذه الرسالة صلوات الله وسلامه عليه، فهو مبلغ لرسالة ربه سبحانه، ورزقه على ربه سبحانه وتعالى، وقوله: ((مِنْ أَجْرٍ))، نفي أن يسألهم النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً من الأجر مهما كان يسيراً، ((إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا))، وهذا استثناء منقطع، أي: غير متعلق بما قبله، فالمعنى: ما أسألكم عليه من أجر، ولكن الذي أطلبه منكم أن تطيعوا الله سبحانه وتعالى، وأن تتخذوا إليه السبيل باتباع هذا الدين. وقوله في الآية الأخرى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23]، استثناء منقطع أيضاً، والمعنى: لا أطلب شيئاً من أموالكم ولكن الذي أطلبه منكم أن تراعوا قرابتي، فأنتم الأقربون، فبدلاً من أن تعينونني على هذه الدعوة تعادونني؟! فغاية ما أطلب منكم أن تراعوا ما بيني وبينكم من المودة فتتركونني أبلغ رسالة ربي سبحانه ولا أطلب أموالكم، وقد عرضوا عليه صلوات الله وسلامه عليه أن يعطوه من الأموال ما يشاء، أو يملكوه عليهم، أو يزوجوه خير نسائهم، فأبى إلا أن يراعوا قرابته وأن يطيعوا الله سبحانه وتعالى، فإن لم يفعلوا فليكفوا شرهم عنه حتى يبلغ دين ربه، وبلغ صلوات الله وسلامه عليه دين الله سبحانه حتى دخل الناس في دين الله أفواجاً.

تفسير سورة الفرقان [60 - 61]

تفسير سورة الفرقان [60 - 61] آيات الله الكونية كثيرة، وكلها تدعو لعبادته والسجود له سبحانه، ومن هذه الآيات: النجوم التي في السماء والشمس والقمر، ومنها: اختلاف الليل والنهار، وقد جعلها الله خلفة لمن أراد أن يتذكر فيهما ويشكر الله في أوقاتهما.

تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن)

تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الفرقان: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا * تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:60 - 62]. في هذه الآيات من سورة الفرقان يخبرنا ربنا سبحانه وتعالى عن كفر المشركين وتعنتهم مع النبي صلوات الله وسلامه عليه، وقد علموا أنه رسول رب العالمين صلوات الله وسلامه عليه، ولكن دفعتهم العصبية والجاهلية إلى أن يعاندوا النبي صلى الله عليه وسلم ولا يستجيبوا له، يقول الله عز وجل عن هؤلاء أنهم إذا قيل لهم: اسجدوا للرحمن، اسجدوا لله سبحانه، والرحمن: اسم من أسمائه سبحانه وتعالى، أي: ذو الرحمة العظيمة الواسعة سبحانه وتعالى، والرحمن والرحيم صفتان على وزن المبالغة، فالرحمن على وزن فعلان، والرحيم على وزن فعيل، فالرحمن ذو الرحمة بجميع خلقه المؤمنين والكافرين، فرحمة الله عز وجل عظيمة واسعة، فمن رحمته أن أنزل الكتب لهداية الخلق جميعهم، وأرسل الرسل لهداية الناس إلى دين رب العالمين، فهو الرحمن سبحانه، ورحمته واسعة عظيمة، يرزق المؤمن ويرزق الكافر، يعطي هذا ويعطي ذاك سبحانه وتعالى، والرحيم ذو الرحمة العظيمة المختصة بالمؤمنين، ولذلك يقول: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43]، فهو رحمن رحيم. فإذا قيل لهؤلاء الكافرين: {اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان:60]، يعني: أي شيء هذا؟ {وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} [الفرقان:60]، يعني: هل نعمل بما تأمرنا به؟ ويتعنتون معه صلوات الله وسلامه عليه، ويتهمونه بأنه ينهاهم عن الشرك وأنه يقع فيه بحجج غبية تليق بأمثال هؤلاء الذين وصفهم الله بقوله: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44]، فيقولون: يأمرنا بالتوحيد وينهانا أن نشرك وهو يقول: الله الرحمن، فهو يشرك وينهانا عن الشرك! وحاشا له صلوات الله وسلامه عليه أن يقع في الشرك، ولكن غباء المشركين يدفعهم لهذا القول، مع أن الرجل منهم له اسم، وله كنية، وله لقب، ولم يقولوا: إنه ثلاثة بل هو واحد عندهم، فما الذي جعل ذلك واحداً عندهم وفهموا أن النبي صلى الله عليه وسلم بزعمهم يشرك بالله سبحانه؟! فالله سبحانه الواحد، وهذه أسماؤه وصفاته سبحانه وتعالى لا شريك له. فإذا قيل لهؤلاء الكفرة: {اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ} [الفرقان:60]، أبوا ورفضوا وعاندوا وقالوا: {وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} [الفرقان:60]، يخاطبونه صلى الله عليه وسلم، وهذه قراءة الجمهور، وقراءة حمزة والكسائي: (أنسجد لما يأمرنا) بالغيب، وكأنهم يخاطبون بعضهم بعضاً: هل ننفذ ما يأمرنا به هذا الرجل ونسجد لما يأمرنا؟ ثم يكذبون ويقولون: إنه يعلمه رجل في اليمامة اسمه الرحمن! فيكذبون على النبي صلى الله عليه وسلم ويكذبون على الله سبحانه، قال الله سبحانه: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33] يعني: لا يعتقدون أنك كذاب في أنفسهم، وهم الذين لقبوه بالصادق الأمين صلوات الله وسلامه عليه، ولكنهم يجحدون بآيات الله، والجحد أن يجحد الإنسان الشيء وينكره وهو يعلم وجوده، فهذا جاحد، وهو أشد من الكاذب. يقول الله سبحانه: {وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان:60]، يعني: زادهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم لهم بأن يسجدوا لله سبحانه، وأن يطيعوا، وأن يخضعوا، وأن يصلوا لله ويسجدوا؛ زادهم هذا الأمر نفوراً وابتعاداً عن طاعة الله سبحانه وتعالى، وبعداً عن الدين.

تفسير قوله تعالى: (تبارك الذي جعل في السماء بروجا)

تفسير قوله تعالى: (تبارك الذي جعل في السماء بروجاً) قال سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} [الفرقان:61]. فقوله: {تَبَارَكَ} [الفرقان:61]، أي: كثرت بركته، وكثر خيره، وتمجد وتعالى سبحانه، {الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} [الفرقان:61]، يعني: جعل في السماء النجوم والكواكب والمجرات، وفيها خلق لله سبحانه أعظم من هذا الإنسان الضعيف، وهذه الكائنات التي خلقها الله سبحانه تسجد له، قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]، فتبارك الله سبحانه الذي جعل في السماء بروجاً وهي منازل النجوم، ومنازل الكواكب. {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا} [الفرقان:61]، وهي الشمس، {وَقَمَرًا مُنِيرًا} [الفرقان:61]، وهذه قراءة الجمهور: {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا} [الفرقان:61] على التوحيد ومعناها: الشمس، وقراءة حمزة والكسائي وخلف: (وجعل فيها سُرُجاً وقمراً منيراً) فليست شمساً واحدة ولكن شموس، ولكنكم لا ترون كل هذه الشموس التي خلقها الله عز وجل، فالله جعل شموساً وجعل أقماراً، وجعل مجرات فيها كواكب ونجوم وشموس، وجعل فيها ما يشاء من خلقه سبحانه وتعالى، فتبارك الله الذي جعل هذه الأشياء تسجد له، وتطيعه ولا تعصي الله أبداً، ولكن المشرك ينفر من طاعة الله سبحانه، ويأبى ويرفض! هذا الكون كله يطيع ربنا سبحانه، فلما ذكر الله أن الكافر أعرض ونفر وبعد عن الطاعة؛ ذكر أن الشمس والقمر والبروج كلها تطيع رب العالمين سبحانه وتعالى، فتبارك الله الذي جعل خلقه يطيعونه كما يشاء سبحانه، وإذا أبى الإنسان فقد قال لنا ربنا سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [الحج:18]، يعني: الكثير يدخلون في دين الله عز وجل، وكثيرون آخرون لا يدخلون في دين الله ويعصون ربهم سبحانه، فالمؤمنون أطاعوا الله مع باقي خلق الله سبحانه، فصار الكون موافقاً في طاعة الله سبحانه، والمؤمن مع هذا الكون المطيع، فانظر المؤمن يسجد لله، والشمس والقمر والجبال والنجوم والبحار والأشجار كل شيء يسجد لله سبحانه ويطيعه وينفذ أمره سبحانه وتعالى. قال: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} [الفرقان:61]، والبرج هو: المنزل الذي ينزل فيه القمر، وتنزل الشمس في هذه المنزلة في كل ثلاثة عشر يوماً، فهذه منازل الشمس ومنازل القمر. قال: {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} [الفرقان:61]، وصف القمر بأنه منير، وما قال: وقمراً مضيئاً، وفرق بين الإنارة والإضاءة: فالإضاءة تحتاج إلى إشعال وفيها احتراق، وفيها نار، أما الإنارة فلا تحتاج إلى ذلك، فالشمس تضيء والقمر ينير، فالقمر مظلم ولكن ضوء الشمس ينير الأرض ويضيء القمر؛ ولذلك قال الله سبحانه: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [الإسراء:12]، فالله جعل الليل آية، وجعل النهار آية، وجعل آية النهار الشمس ترونها، وجعل آية الليل القمر، قال: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ} [الإسراء:12]، يعني محا من القمر نوره، وعلماء الفلك يقولون: كان القمر يوماً من الأيام مشتعلاً متوهجاً كالشمس، قالوا ذلك الآن، وقالها قبلهم ابن عباس قبل ألف وأربعمائة سنة، قال ذلك مفسراً هذه الآية يقول: كان القمر مضيئاً كالشمس فمحا الله عز وجل النور الذي كان فيه، قال الله: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء:12]، بينة مضيئة يراها كل ذي عينين، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الشمس والقمر آيتان من آيات الله سبحانه وتعالى لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته)، فهما يسجدان لله سبحانه، ويطيعان الله سبحانه وتعالى، فالشمس والقمر والمجرة وأصغر الأشياء وأكبر الأشياء وكل المخلوقات تطيع ربها سبحانه، والإنسان الكافر يطيع الله إذا أجبره الله سبحانه وتعالى بقضائه وقدره، وإذا جاء الاختيار فكثيرون يطيعون، وكثيرون يعصون الله سبحانه، ولن يفروا من قضائه وقدره سبحانه وتعالى، وقد ذكر الله طاعة الشمس والقمر بعد ذكر نفور هؤلاء ليبين طاعة الكائنات لله سبحانه، فكل شيء في الكون يطيع ربه ويصرفه كما يشاء، والذي ينظر في آيات الله سبحانه وتعالى وفي علم الفلك وما يذكره العلماء في ذلك يعلم أن منظومة الكون كلها على نظام وقانون سنه الله عز وجل لها لا تشذ عنه أبداً، ويوافقها في ذلك المؤمنون فقط، فالمؤمن يطيع الله عز وجل ويسجد لله سبحانه وتعالى مختاراً طائعاً مريداً لذلك، والشمس والقمر والنجوم والأفلاك وكل شيء يجري لمستقر له إلى قضائه وقدره الذي يقدره الله سبحانه وتعالى، وتجد الأرض تدور ولا تخرج عن مدارها أبداً، ولا تغير اتجاهها أبداً، وتدور من الشمال إلى اليمين عكس عقارب الساعة، والشمس كذلك تجري، والأرض تدور على الشمس بهذه الطريقة عكس عقارب الساعة، والمجموعة الشمسية كلها تدور حول نفسها وحول المجرة بنفس هذه الطريقة، والمجرة نفسها تدور في الكون بنفس هذه الطريقة، منظومة عجيبة جداً! كل الكون من أكبر شيء إلى أصغر شيء حتى الذرة الصغيرة لها نواة حولها الإلكترونات تدور حولها عكس عقارب الساعة من الشمال إلى اليمين، مثل المجرة تدور بهذه الطريقة من الشمال إلى اليمين عكس عقارب الساعة، ويوافقهم في هذا الدوران المسلمون وهم يطوفون حول الكعبة، فهم يدورون عكس عقارب الساعة! قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء:44]. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الفرقان [61 - 63]

تفسير سورة الفرقان [61 - 63] من عجيب أمر القرآن أنه دائماً يلفت المسلم إلى النظر في الكون، والتأمل فيه، واستلهام عظمة الله فيه، والعبد حين يفعل ذلك لا يملك إلا التسليم والخضوع، والسير على هدى رب العالمين، متصفاً بجميل الخلال ومحاسن العادات.

تفسير قوله تعالى: (تبارك الذي جعل في السماء بروجا)

تفسير قوله تعالى: (تبارك الذي جعل في السماء بروجاً) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الفرقان: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا * وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:61 - 63]. يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن كمال قدرته وعظيم شأنه فيقول سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} [الفرقان:61]، فبعد أن ذكر أن الكفار إذا قيل لهم: اسجدوا للرحمن، أبوا ونفروا وازدادوا نفوراً وبعداً عن طاعة الله سبحانه، قال سبحانه عن ذلك: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان:60]، قال سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} [الفرقان:61]، فالله سبحانه وتعالى هو العلي المتعالي العظيم الذي خيره عظيم جليل، ومعنى: تبارك، أي: كثرة بركته وكثر خيره سبحانه وتعالى، فقوله: {الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} [الفرقان:61]، البروج: منازل الشمس ومنازل القمر، وقوله: {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} [الفرقان:61]، سراجاً أي: شمساً.

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة)

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة) قال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:62]، إن من آيات الله سبحانه أن جعل الليل لباساً، والنوم سباتاً، وجعل النهار نشوراً، فجعل الليل ساتراً للعباد، وجعله وقتاً للنوم يستريحون فيه، وجعله مع النهار خلفة، أي: يخلف أحدهم الآخر، فيذهب الليل ويأتي النهار، ويذهب النهار ويأتي الليل، قال: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ} [الفرقان:62]، أي: لمن أراد أن يتذكر، وفي قوله سبحانه: {خِلْفَةً} [الفرقان:62] معان: أحدها: يخلف أحدهما الآخر، والثاني: يخالف أحدهما الآخر، فالليل مظلم، والنهار مضيء، والليل يطول، والنهار يقصر، والليل يقصر، والنهار يطول، فأحدهما يختلف مع الآخر زيادة ونقصان، ويتعاقبان دواليك ليلاً فنهاراً وهكذا، وهذه آية من آيات الله سبحانه وتعالى، وحركة الليل والنهار ناتجة عن حركة الأرض التي تدور حول نفسها، فالسطح المقابل للشمس يكون منيراً، وغير المقابل للشمس يكون مظلماً، ولا يزال دوران الأرض حتى يأتي أمر الله سبحانه وتعالى، والأرض كذلك تدور حول الشمس في مسار قدره الله سبحانه وتعالى، وقد تقدم أن كل شيء يتحرك ويدور يحركه الله عز وجل في مسار وبكتاب، فكل شيء عنده بحسبان سبحانه وتعالى، وكل شيء عنده بمقدار. وفي قوله سبحانه: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ} [الفرقان:62] قراءات، فهذه قراءة الجمهور، وقراءة حمزة وخلف ((لمن أراد أن يتذكر))، فيذكر من الذكر، وهو خلاف النسيان، أما التذكر، فهو من العظة، فالإنسان حين يرى ذلك يذكر الله سبحانه وتعالى ويتعظ بهذه الآيات. وتخالف الليل والنهار كما أنه آية من آياته الباهرة فهو كذلك نعمة من نعمه الغامرة، إذ بدون تخالفهما تستحيل الحياة، قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [القصص:71 - 72]، فلو شاء الله لجعل الأرض ثابتة في مكانها لا تدور حول نفسها، فيظل السطح المقابل للشمس مضيئاً على الدوام، ويظل السطح المخالف لها مظلماً على الدوام، ولكن الله قلب الليل والنهار ليريكم قدرته وآياته سبحانه، فالله سبحانه وتعالى جعل لهذا الكون قوانين بحكمة وقدرة منه، منها: أنك تستطيع أن تعيش فوق هذه الأرض الدائرة الجارية المتحركة وأنت لا تشعر بحركتها، بل أنت فوق الأرض تشعر بحركة النجوم وتشعر بحركة الشمس، وتشعر بحركة القمر ولا تشعر بحركة الأرض التي أنت فوقها، كل ذلك جعله الله عز وجل لمن أراد أن يذكر فيتعظ ويعتبر، فما عليه إلا أن ينظر في الكون حوله، ويتأمل في كيفية خلق الله سبحانه له، وكيف أن الله أعطى كل شيء قدره. قوله: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:62]، أي: من أراد أن يتعظ وأراد أن يشكر الله سبحانه وتعالى فليتأمل في الآيات، فإنه كلما تأمل آية من آيات الله كلما ازداد شكراً لله وحمداً له على آلائه ونعمه سبحانه، وإجمال ما تقدم: أن الله جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر، فيتذكر نعم الله سبحانه، ويتعظ فيحمد ويديم شكره، فإن فاتك عمل بالليل أدركته بالنهار، وإن فاتك بالنهار أدركته بالليل، ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من امرئ تكون له صلاة بالليل فغلبه عليها نوم فيصلي ما بين طلوع الشمس إلى صلاة الظهر، إلا كتب الله له أجر صلاته وكان نومه عليه صدقة)، وهذا من رحمة الله سبحانه بعباده ونعمته عليهم. جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن عباس والحسن أن تفسير قوله تعالى: {جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} [الفرقان:62]، أي: يخلف هذا ذاك وذاك هذا، فيخلف الليل النهار والنهار الليل، فمن فاته شيء بالليل استدركه بالنهار، ومن فاته شيء بالنهار استدركه بالليل، ويحتجون بهذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم الدال على أن الذي له قدر من الليل يقومه، ففاته ونام ولم يقم من الليل فأدرك بالنهار في وقت الضحى لله عز وجل فصلى ما فاته أجزأه عن الليل. وجاء في صحيح مسلم أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل)، وفي الحديث: حث على استدراك النوافل، فمن فاته شيء بالليل أدركه بالنهار، ومن فاته عمل بالنهار من أعمال كان يعملها، كصلاة كان يداوم عليها أو غيرها من الطاعات، أدرك بالليل ما فاته من تطوع النهار.

تفسير قوله تعالى: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا)

تفسير قوله تعالى: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً) يذكر الله سبحانه وتعالى بعد ذلك صفات عباد الرحمن فيقول: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]، قوله: عباد الرحمن: الرحمن اسم من أسمائه وصفة عظيمة من صفاته سبحانه وتعالى، وهو من الأسماء العظيمة التي تمتلئ بالرحمة، لما فيه من المبالغة في رحمة رب العالمين بعباده، وقد أضاف لفظ العباد إلى اسمه فسماهم: عباد الرحمن، فهم عباد له سبحانه، ولكن وصفهم بهذا الوصف العظيم الجليل يدل على أنهم قريبون من رحمة رب العالمين سبحانه، وأنهم مستحقون للرحمة، وعباد الرحمن لهم صفات يتميزون بها عن غيرهم، فهم ليسوا كالكفار حين قيل لهم: اسجدوا للرحمن فنفروا، قال الله عن ذلك: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان:60]، بل هم مؤمنون عرفوا الرحمن وأحبوا ربهم سبحانه وتعالى فتقربوا إليه رجاء رحمته، فكانوا على هذه الأخلاق التي يذكرها الله عز وجل في هذه الآيات الأخيرة من هذه السورة الكريمة.

عباد الرحمن يتشرفون بعبوديتهم لله سبحانه

عباد الرحمن يتشرفون بعبوديتهم لله سبحانه بعد أن ذكر جهالات المشركين، وطعنهم في القرآن، وطعنهم في نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، عقب بذكر عباده المؤمنين فقال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان:63]، فأول صفة من صفات عباد الرحمن: أنهم عباد لله سبحانه وتعالى، شرفهم بمقام العبودية، حين حرم غيرهم منه فأصبحوا من الدنائة أضل من الأنعام، قال تعالى: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179]، فحين عبد الله أقوام وتقربوا إليه فاستحقوا أن ينسبوا إليه، نجد من خرج عن طاعته وعن عبادته فما استحق أن يكون متصفاً بعبوديته لله؛ لأنه صار عبداً لهواه وشيطانه، واستحق أن يوصف أنه كالأنعام بل هم أضل سبيلاً.

عباد الرحمن يتواضعون لغيرهم

عباد الرحمن يتواضعون لغيرهم ومن صفات عباد الرحمن: أنهم: {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان:63]، والمشي هنا متضمن لمعنى المعيشة، أي: أن هؤلاء يعيشون فوق الأرض في سلام وتؤده وطمأنينة، فسيرهم في تواضع لله سبحانه وتعالى وتواضع للخلق، فقوله: {يَمْشُونَ} [الفرقان:63]، عبارة عن عيشهم ومدة حياتهم وتصرفاتهم على الأرض، كما يتضمن انتقالهم من مكان إلى مكان، فإنهم حين ينتقلون ينتقلون وفيهم هذا الخلق العظيم. قوله: (هوناً)، الهون: مصدر من هان، تقول: هان الشيء يهون، فيمشي هيناً، والمعنى: هانت عليه نفسه؛ لأنه عبد لله سبحانه وتعالى، وما دام عبداً فعلى أي شيء يستكبر فوق الأرض؟! بل حياته في سكينة ووقار، فعباد الرحمن يمشون على الأرض حلماء متواضعين، يمشون في اقتصاد، وتؤدة، وطمأنينة، وحسن سمتٍ، قدوتهم في ذلك النبي صلوات الله وسلامه عليه. وليس المعنى: أن المشي يكون بتمهل، إذ صفة المشي ليست داخلة في هذا الشيء، وقد تكون داخلة فيه ولكن ليست الأصل؛ لأن ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم على خلاف ذلك، فقد ثبت عنه أنه كان يمشي في قوة صلوات الله وسلامه عليه، وكان يمشي كأنما يتقلع، يعني: يرفع رجله ويضعها في قوة صلى الله عليه وسلم، وكان يسرع في المشي عليه الصلاة والسلام خلقة لا تكلفاً، أي: لم يكن يتكلف الإسراع من أجل أن يتعب من حوله ولكن خلقة. يقولون: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا زال زال تقلعاً ويخطو تكفؤاً، والتكفؤ: هو الإسراع، وكأنه يندفع إلى الأمام صلوات الله وسلامه عليه، قال: ويمشي هوناً، أي: ليس في مشيته صفة الكبر، أو التعاظم على الخلق، ولكن يمشي في تؤدة صلوات الله وسلامه عليه، فالتؤدة والطمأنينة لا تنافي الإسراع في المشي، ثم قال: ذريع المشية: أي أن خطوته صلى الله عليه وسلم واسعة، فهو لا يمشي مشية الشيخ الكبير الضعيف، ولكن مشيته مشية القوي صلوات الله وسلامه عليه، ثم قال: كأنما ينحط من صبب، أي: أن مشية النبي صلى الله عليه وسلم على الأرض، كمشية النازل من فوق جبل، أو من مكان عالٍ. وجاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه كان يسرع في المشي جبلاً لا تكلفاً أيضاً. وهناك فرق بين إنسان طريقته في المشي الإسراع حين يقضي حوائجه، وبين إنسان يتكلف ذلك، إذ الناظر إلى من يتكلف الإسراع يراه كأنه يجري جرياً، والجري يدل على أنه تكلف لا خلقة، وقد كانت هيئة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يمشي هيئة فيها سكون وطمأنينة مع إسراع في قضاء حوائجه صلوات الله وسلامه عليه. قال العلماء في تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان:63]: إنما يمشي هوناً العالم بالله سبحانه، الخائف منه سبحانه، العارف بأحكامه، يخشى عذابه وعقوبته.

عباد الرحمن لا يردون السيئة بالسيئة

عباد الرحمن لا يردون السيئة بالسيئة قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]، الصفة الثانية من صفات عباد الله: أنهم إذا خاطبهم الجاهلون، والجاهل: هو الإنسان الشرس، السيئ الخلق، المتعجرف، المتكبر، إذا خاطب هذا الجاهل المؤمن فإنه يقول: سلاماً، أي: يقول قولاً يستدعي المتاركة، وقيل: معنى سلاماً: كما قال تعالى: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55]، أي: لن نعاملكم بما تقولون. وليس معنى ذلك: أن المؤمن يكون ضعيفاً، يفعل به الناس ما يشاءون، ويستهزئون منه وهو يتركهم، ولكن المعنى: أن فيه قوة، فإذا ترك خصمه فإنما يتركه وهو قادر عليه، وليس لكونه مستضعفاً. ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كلٍ خير) فالإنسان المؤمن يتنازل لغيره، ولكن عن قوة وقدرة، وليس ضعفاً وقلة حيلة، بل خوفه من الله سبحانه وتعالى يجعله لا يبتدئ بالمصاخبة، وإذا بدئ بها فهو يقول: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55]. قال بعض أهل العلم في تفسير قوله: {سَلامًا} [الفرقان:63]: إن سلاماً من التسلم، أي: تسلماً منك، نبرأ من فعلك ولا نفعل بك ما تفعل بنا، فنحن لا نسخط، ولا نجهل، ولا نسب، ولا نشتم، ونتقي الله عز وجل في كل مسلم، فهو مؤمن قوي، ولكن مع ذلك لا يبدأ بالعدوان، ويدفع بالتي هي أحسن، وكم من إنسان يدفع بالحسنى، فليقي الله عز وجل في قلب خصمه الحب له، قال الله سبحانه: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34].

تفسير سورة الفرقان [63 - 67]

تفسير سورة الفرقان [63 - 67] أخبرنا الله عز وجل في كتابه عن صفات عباده وأوليائه في العديد من سور القرآن الكريم، من أجل أن يتخلق بها المسلم الحق، ويطبقها واقعاً في حياته؛ إذ إن الدين ليس شعاراً وكلمات تقال باللسان فقط، بل لابد أن يصحبه العمل، فليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، وقد أخبر الله عز وجل أن المتصف بهذه الصفات هم عباد الرحمن، أي: هذه هي صفاتهم لمن أراد أن يكون منهم.

تفسير تعالى: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا)

تفسير تعالى: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الفرقان: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:63 - 67]. في هذه الآيات من آخر سورة الفرقان يخبرنا الله عز وجل عن عباد من عباده ذوي صفات عظيمة جميلة اختصهم الله عز وجل بها، ووصفهم بأنهم عباد الرحمن، والرحمن من أسمائه الحسنى سبحانه وتعالى، وهو اسم عظيم فيه الرحمة العظيمة، قال سبحانه: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان:63]، والإنسان الهين يعني: السهل الذي فيه سكينة ووقار، فهم يمشون على الأرض مشية هينة، وفيهم تواضع وإخبات لله سبحانه وتعالى، فلا يستكبرون على الخلق، وليس المعنى أنها: مشية بطيئة، ولكن المعنى: أنهم يمشون ولا يضربون بأرجلهم، ولا يغترون ويحركون أذرعاتهم، ويقولون: نحن أقوياء وأعلى من غيرنا، ولكنهم يمشون بوقار وسكينة، وهذا لا يمنع من أن يمشوا بسرعة في حاجاتهم، كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فيخبرنا الله سبحانه: أن من صفاتهم: أنهم حلماء متواضعون، وأن فيهم اقتصاداً وتؤدة وسكينة، قال تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]، وليس معنى الجاهل: أنه الذي لا يعرف القراءة والكتابة، فهذا أمي، ولكن المقصود به هنا: الجاهل في خلقه، فقد يكون متعلماً إلا أن في أخلاقه نفوراً وشراسة وقسوة، وقد يكون فيه غضب، وإذا غضب لا يفهم ولا يعي ما يقول، فهؤلاء أهل الشراسة والنفور والصياح والجلبة والصخب إذا خاطبوا عباد الرحمن بصورة غير طيبة كان ردهم عليهم رداً طيباً، كما قال تعالى: {سَلامًا} [الفرقان:63]، يعني: موادعة ومتاركة وليس بيننا وبينكم شيء، ولكن نبتعد عنكم ونترككم فيما أنتم فيه، أو قالوا: سلاماً، أي: تسليم متاركة، يعني: سلام عليكم، كونوا في حالكم ونكون نحن في حالنا، مع أنهم أقوياء وهم لا يدفعون السيئة بالسيئة، ولكن يدفعون بالحسنة السيئة، ويرجون الخير ممن يدعونه إلى الله سبحانه وتعالى من الله وحده، فهم حلماء في دعوتهم إلى الله، وهم أقوياء لا يستذلهم أهل الفساد، وهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر كما أمر الله سبحانه بقوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:104]. والإنسان القوي يقدر على الانتقام من خصمه ولكنه يتواضع لله سبحانه وتعالى، ويحلم ويصبر، ولكنه لا يهين دين الله أبداً، فإذا وجد من يهينه أمره بالمعروف ونهاه عن المنكر، وغير هذا المنكر بما استطاع من تغيير، وأما في نفسه فإذا تعرض له إنسان أو شتمه فإنه يحلم ما لم يتعرض لدين الله سبحانه وتعالى، فإذا تعرض لدين الله فإنه يغضب لله ويدافع عن دين الله، وفي أثناء دعوته للناس إلى دين الله قد يجد منهم غلظة وقسوة في الجواب، فيصبر على ذلك، ويدعوه مرة وثانية لعله يستجيب له، فإذا لم يجد فائدة قال: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55]، أي: ليس بيننا وبينكم إلا أمر الله سبحانه وتعالى يحكم بيننا، وهو في تواضعه لا يذل نفسه؛ ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه قالوا: كيف يذل نفسه؟ قال: يتعرض من البلاء لما لا يطيق). أي: أن الإنسان يعز نفسه، ولا يعرض نفسه للذل، ولا يتعرض لبلاء لا يطيق دفعه، ولكنه يدافع عن دين الله، ويدعو الناس إلى الخير ويصبر، وليس بمجرد أن يسيء إليه إنسان يرد الإساءة بالإساءة، ولكنه يصبر ويحلم ويدفع بالتي هي أحسن، فإذا لم يجد بداً من المتاركة تاركه، قال تعالى: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55]. فإذا تعرض لدين الله سبحانه بالإساءة، فإنه يدفع ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بما أمر به ربنا وبما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان).

تفسير قوله تعالى: (والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما)

تفسير قوله تعالى: (والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً) ومن صفات عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:64]، والمبيت: قضاء الليل سواء كان الإنسان نائماً أو يقظان، كما نقول: بت البارحة سهران، فهؤلاء يبيتون أي: يمضي عليهم الليل وهم قائمون لله عز وجل، فيقضون ليلهم بين القيام والسجود، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:64]. وليس المعنى: أنهم يصلون الليل كله ولا ينامون فيه، فإن هذا لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم إلا على الندرة، ولم يمض الليل كله قائماً صلى الله عليه وسلم إلا قليلاً، ولكنه كان يقوم كثيراً من الليل، كما أمره الله عز وجل: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} [المزمل:2 - 4]. أي: نصف الليل، أو أقل من نصفه، أو أكثر قليلاً من نصفه، ثم قال تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل:4]. وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم (إن أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله صيام داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان يصلي لله سبحانه، فيقوم نصف الليل، وينام ثلثه، ويقوم سدسه)، أي: أنه كان يقسم الليل بين قيام ونوم؛ حتى يفهم ما يقول، وحتى يواظب على ذلك، فإن أحب العمل إلى الله عز وجل أدومه وإن قل، فالمؤمن يواظب على قيام الليل، فيصلي بالليل ولو ركعتين، أو يصلي أكثر من ذلك، فيصلي كما صلى النبي صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة، بحسب ما ييسر الله عز وجل له من ذلك. فعباد الرحمن لا يصلون ليلة واحدة فقط، ولا يقومون الليل في رمضان فقط ويتركونه في غير ذلك، بل قد مدحهم الله عز وجل بالمداومة على ذلك، وبين أنهم {يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ} [الفرقان:64]، يعني: كل ليلة، فهذا دابهم وعادتهم، إلا ما شاء الله سبحانه، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:64]، أي: يراوحون بين ذلك فإنهم يقومون قياماً طويلاً، ثم يركعون ركوعاً طويلاً، ثم يسجدون سجوداً طويلاً، فالليل راحتهم، وقيام الليل جنتهم، فيقومونه لله سبحانه، ويستعينون به على طاعته سبحانه، ولذلك مدحهم الله عز وجل، وأخبر عن قيام الليل بقوله: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:6]. والناشئة: القيام، يعني: فإذا كنت نائماً مستريحاً ثم قمت لتصلي فإن هذا القيام يكون فيه فهم وتدبر لمعاني آيات كتاب الله عز وجل، كما قال تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:6]، أي: أن ما تقوله بلسانك أشد مواطئة وموافقة لما في قلبك، فتفهم بعقلك وبقلبك ما ينطق به لسانك، فيكون هناك مواطئة بين الاثنين -القلب واللسان- قال تعالى: {وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:6]، أي: أقوم استقامة، وأقوم قولاً، والقيل بمعنى: القول، أي: أن ما ترتله تفهمه وتجيد نطقه؛ لأنك قد استرحت بالليل، ثم قمت في وقت نوم الناس تصلي لله سبحانه وتعالى؛ لتكون من عباد الرحمن. يقول ابن عباس رضي الله عنهما: من صلى ركعتين أو أكثر بعد العشاء فقد بات لله ساجداً وقائماً. وكأنه يقصد من صلى العشاء ثم ذهب إلى بيته فنام، ثم قام فصلى من الليل ولو ركعتين، فهذا يكتب له أجر هذه الليلة.

تفسير قوله تعالى: (والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم)

تفسير قوله تعالى: (والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم) ومن صفات عباد الرحمن: أنهم يدعون ربهم سبحانه بهذا الدعاء الذي يدل على التواضع، فهم يعرفون قدر أنفسهم، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان:65]، والإنسان كلما ازداد عبادة كلما ازداد قرباً من الله سبحانه وتعالى، فهم يتقربون من ربهم سبحانه، ومع ذلك يخافون عذابه، ومن صفات الأنبياء والمرسلين والأولياء: أنهم يدعون ربهم سبحانه خوفاً وطمعا، ورغباً ورهباً، مع أنهم يحبون ربهم سبحانه، ويتقربون إليه، ويرجون ما عنده من خير، ويخافون ما عنده من عذاب. فأهل التقوى يخافون على أنفسهم، وقد علموا قول الله سبحانه: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم:71]، فهذا قسم من الله سبحانه، ووعد ووعيد منه سبحانه، فلا بد من المرور على النار كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ} [مريم:71]، أي: ما منكم، وهذا حصر، والمعنى: أن الجميع يردون النار، والورود على الشيء: المرور إليه، فمن الناس من يمر ويدخل النار، ومنهم من يمر فوقها وينجوا، نسأل الله العفو والعافية، قال سبحانه: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم:71]، أي: قضاءً متحتماً قد فرضه الله سبحانه عليكم، قال تعالى: {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} [مريم:71 - 72]، فكأنهم استشعروا ذلك، وعلموا أنهم واردون على النار فقالوا: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ} [الفرقان:65]، وكأنهم في تواضعهم يستشعر أحدهم أنه لم يتقرب إلى الله بشيء يذكر، وأن عبادته إن لم يقبلها الله عز وجل فسيكون من أهل النار، فيقول: يا رب! اصرف عني عذاب جهنم. قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان:65]، أي: ملازماً، وهي مأخوذة من الغريم، والغريم هو: الإنسان الذي تستلف منه، وتتدين منه، فالعادة أنه يلازمك ولا يفارقك مطالباً بحقه، فكأن النار -والعياذ بالله- عذابها يلازم أهل النار ملازمة الغريم لصاحبه، حتى ينجي الله عز وجل من يشاء بفضله وبرحمته سبحانه، قال تعالى: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان:65].

تفسير قوله تعالى: (إنها ساءت مستقرا ومقاما)

تفسير قوله تعالى: (إنها ساءت مستقراً ومقاماً) قال تعالى: {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان:66]، أي: أنها أسوء ما يلقاه الإنسان في حياته وفي أخراه، فأسوأ شيء يمر عليه أن يرى نار جهنم أو أن يدخلها، قال تعالى: {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان:66]، أي: دار قرار يستقر بها الكفار، فهي دار إقامة يقيم بها العصاة كرهاً، أي: يكرههم الله عز وجل فيدخلهم النار، فيدعون فيها ويسحبون ويلقون جزائهم في نار جهنم، قال تعالى: {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ:26]. فلما عرف عباد الرحمن قدر النار، وما فيها من مصير وعذاب أليم، دعوا: {رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا} [الفرقان:65 - 66]، أي: أنها بئس المستقر وبئس المقام.

تفسير قوله تعالى: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا)

تفسير قوله تعالى: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا) قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:67]، أي: وسطاً، فلا يسرفون أو يبذرون فيكونون من إخوان الشياطين، ولا أنهم يقصرون ويفرطون في الإمساك فيكونون بخلاء مذمومين، وإنما كما قال الله عز وجل: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء:29]، أي: لا تجمع يدك إلى عنقك، -وهذا كناية عن التقتير والبخل- ولا تسرف في كل شيء فتضيع مالك وأهلك، فلا تسرف ولا تقتر، وكن وسطاً بينهما. فكان من صفاتهم: أنهم: {إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا} [الفرقان:67]، أي: لم يعطوا الكثير ويجلسون ولا شيء معهم، {وَلَمْ يَقْتُرُوا} [الفرقان:67]، من التقتير بمعنى: التضييق والبخل، وفيها ثلاث قراءات {وَلَمْ يَقْتُرُوا} [الفرقان:67]، وهذه قراءة الكوفيين: عاصم وحمزة والكسائي وخلف، من الفعل الثلاثي قتر، وقراءة ابن كثير وأبي عمرو ويعقوب: ((وَلَمْ يَقْتِرُوا)). فهاتان قراءتان من الفعل الثلاثي قتر، وقراءة من الفعل الرباعي أقتر، وهي قراءة نافع المدني وأبي جعفر المدني أيضاً، وقراءة ابن عامر الشامي: ((وَلَمْ يُقْتِرُوا))، فهذه ثلاث قراءات، والمعنى واحد وهو: أنهم لا يبخلون، بل ينفقون في ما أحب الله سبحانه وتعالى. يقول المفسرون في ذلك: إن من أنفق في غير طاعة الله سبحانه فهو مسرف. يعني: أن الإنفاق في معصية الله إسراف، والإمساك عن الإنفاق في طاعة الله سبحانه وتعالى بخل، فمن لا يدفع زكاة ماله، ولا ينفق النفقة الواجبة عليه، ولا يحسن إلى من أمر أن يحسن إليه فهذا مقتر، وأما من أنفق في طاعة الله سبحانه وتعالى مهما كثرت فهو محسن، وهذا هو القوام، قال ابن عباس رضي الله عنهما: من أنفق مائة ألف في حقٍ فليس بصدقة. أي: كأن يحسن إلى الناس وإلى ذوي القربى، وينفق المال الكثير في حق، فهذا ليس إسرافاً. ولذلك لما أنفق أبو بكر الصديق ماله كله لم يعتبر ذلك إسرافاً، ولكن كان إحساناً من أبي بكر رضي الله تبارك وتعالى عنه. يقول ابن عباس: ومن أنفق درهماً في غير حقه فهو إسراف. فمن أنفق ولو شيئاً يسيراً في باطل، كأن يشتري به سيجارة أو خمراً، أو شيئاً يعصي به الله سبحانه وتعالى، أو شيئاً حرمه الله عز وجل فهو مسرف، مع أنه قد يكون مالاً قليلاً. يقول ابن عباس رضي الله عنه: ومن منع من حق عليه فقد قتر. أي: الذي يمنع الحق الواجب عليه، كأن يترك عياله من غير طعام ولا شراب ولا كسوة ولا سكن وينفق على الغريب فهذا إنسان مقتر. فعباد الرحمن إذا أعطاهم الله سبحانه مالاً أنفقوه في الحق الذي أراده الله سبحانه، وينفقون النفقة الواجبة، وينفقونه إحساناً منهم، ولا ينفقون في معصية الله سبحانه، ولا يقترون، بل هم قوام أي: وسط بين ذلك. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عباد الرحمن. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الفرقان [63 - 69]

تفسير سورة الفرقان [63 - 69] لعباد الرحمن صفات تجعلهم يرتقون فيكونون أفضل خلق الله بعد رسله، فهم متواضعون خائفون من عذاب الله، قوامون بالليل، لا يشركون بالله، ولا يقتلون النفس بغير حق، ولا يزنون، وقد وعد الله المؤمنين إذا اجتنبوا الكبائر بمغفرة الصغائر، ووعد الذين يفعلون الكبائر بمضاعفة العذاب والذل يوم القيامة.

تفسير قوله تعالى: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا)

تفسير قوله تعالى: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. ذكر الله عز وجل في سورة الفرقان من صفات عباد الرحمن، فقال سبحانه: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان:68 - 69]. ذكر الله سبحانه وتعالى عباد الرحمن وهم من أفضل خلق الله سبحانه، بل أفضل خلق الله سبحانه بعد أنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام، فذكر من صفاتهم أنهم متواضعون، وأنهم مقتصدون، وأنهم على سمت حسن، وأنهم غير متكبرين، قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]، فهم متواضعون، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويعفون عن من ظلمهم، ويحلمون على من أساء إليهم، وردهم حسن ليس قبيحاً، وردهم جميل ليس رديئاً، فإذا خاطبهم الجاهلون بسفاهتهم كان الرد منهم المتاركة، قال تعالى: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55]. يردون بذلك وهم أقوياء ليسوا ضعفاء، وهم لا يخافون من أهل الصخب، ومن أهل النفور، ولكنهم يتقون الله سبحانه، ويؤملون أن يهدي الله عز وجل هؤلاء، ويدفعون بالتي هي أحسن لعل الله عز وجل يهدي بهم هؤلاء.

تفسير قوله تعالى: (والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما)

تفسير قوله تعالى: (والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً) قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:64]، فمن صفاتهم في العبادة: أنهم يكثرون عبادة ربهم سبحانه، فحياتهم كلها عبادة لله سبحانه، ليلهم عبادة، ونهارهم عبادة لله سبحانه، وكل أعمالهم يخلصونها لله سبحانه. ولذلك المؤمن في حياته، وفي نومه، وفي قيامه، وفي صلاته، وفي صيامه، وفي أعماله، وفي كل شيء قد يحوله إلى عبادة لله سبحانه وتعالى، ينام وينوي الاستراحة، وينوي أن يقوم فيصلي من الليل، ولعله يقوم، ولعله لا يقوم، ويؤجر على ذلك. فهم يخلصون أعمالهم لله سبحانه، ويجعلون من عبادتهم، ومن معاملاتهم، ومن عادتهم ما يوافق شرع الله سبحانه، فيكونون عابدين لله ليل نهار، إذا جاء الليل يبيتون النية أن يقضوا ليلهم لربهم سجداً وقياماً، فيراوحون بين القيام والركوع، والسجود والقعود، ويعبدون الله سبحانه وتعالى، وليس معناه: أنهم لا ينامون، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان ينام بالليل عليه الصلاة والسلام، ولكن يقسم ليله صلوات الله وسلامه عليه، ينام ثم يقوم فيصلي، ثم يرجع فينام، ثم يقوم فيصلي، وهكذا. تقول السيدة عائشة رضي الله عنها وقد سئلت عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل: (كان يصلي أربعاً)، تذكر من حسنها ومن طولها، (ثم يصلي أربعاً)، وتذكر من حسنها وطولها صلوات الله وسلامه عليه، (ثم يوتر بثلاث)، صلوات الله وسلامه عليه، فكان يقوم من الليل ويصلي ركعتين، ثم يرجع فينام حتى ينفخ، ينام صلى الله عليه وسلم نوماً متوسطاً، ثم يقوم بعد ذلك عليه الصلاة والسلام، فيصلي مرة ثانية، ثم يرجع فينام بالليل كذا مرة، ويقوم وينام عليه الصلاة والسلام، وفي كل مرة يصلي لله، فعباد الرحمن يأتسون بالنبي صلى الله عليه وسلم، فيقومون بالليل يصلون لله سبحانه سجداً وقياماً، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:64]، أي: ساجدين قائمين، هم يسجدون، ويقومون، وأفضل الأعمال الصلاة، وأفضل الهيئات فيها السجود لله سبحانه، والعبد أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد.

تفسير قوله تعالى: (والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم مستقرا ومقاما)

تفسير قوله تعالى: (والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم مستقراً ومقاماً) كذلك القيام أشرف الذكر، فالمسلم يقوم ويقرأ القرآن، فهم قائمون، قارئون لكتاب الله سبحانه، ساجدون داعون ربهم، ودعاؤهم: {رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان:65 - 66]، فهم متواضعون، ويخافون على أنفسهم، لا غرور أعمالهم، بل تراهم خائفين من دخول النار مع قومهم، وصلاتهم، ومع حسن عبادتهم، ولكن الخوف من النار يغلب عليهم في دعائهم، قال تعالى: {رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان:65]، أي: كان ملازماً لصاحبه كملازمة الغريم، كان عذاباً دائماً شديداً فظيعاً نسأل الله العفو والعافية. قال تعالى: {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان:66]، أي: إنها ساءت منزلة وبئس المستقر الذي يستقر به أهل النار، وبئس المقام الذي يقيم فيه أهل النار والعياذ بالله، فقوله تعالى: {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان:66]، أي: موضع إقامة.

تفسير قوله تعالى: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا)

تفسير قوله تعالى: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا) قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:67]، وهذه من صفاتهم الجميلة أنهم محسنون، وأنهم في الأمر وسط ما بين الإسراف وبين التقتير، وخير الأمور أوسطها. فهم لا يبذرون ولا يسرفون في الإنفاق، وأيضاً: لا يضيقون ولكن بين الاثنين، فإذا جاء وقت الإحسان أنفقوا، وليس في الإحسان إسراف، فالإنسان مهما أحسن وأعطى لله عز وجل لا يقال: مسرف في ذلك، إلا أن يضيع واجباً عليه. فهؤلاء ينفقون لله سبحانه وتعالى ويحسنون، وينفقون على أنفسهم وعلى أولادهم فلا يسرفون، ولا يقترون، وكانوا في نفقتهم بين ذلك قواماً، أو كان إنفاقهم وسطاً بين الإسراف والتقتير.

تفسير قوله تعالى: (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر)

تفسير قوله تعالى: (والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر) ومن صفاتهم أيضاً أنهم: {لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان:68]، فمن أكبر الكبائر، أن يشرك الإنسان بالله سبحانه ويقتل ويزني. ولذلك جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! أي ذنب أكبر عند الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أن تدعو لله نداً وهو خلقك)، فأعظم ذنب يقع فيه العبد أن يشرك بالله، وأن يجعل لله الند والنظير والشبيه والمثيل، فكيف يخلقك وتعبد غيره سبحانه؟ فهذا أعظم ذنب، قال: (قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك)، مثل ما كان أهل الجاهلية يقتلون بناتهم خشية الإنفاق عليهن. فالله عز وجل ذكر ذلك وذكر من صفات عباد الرحمن أنهم لا يفعلون ذلك أبداً، فلا يئدون بنتاً، ولا يقتلون إنساناً غريباً، ولا إنساناً آخر. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن تجعل لله نداً وهو خلقك، قال ثم أي؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قال: قلت: ثم أي؟ قال: أن تزني بحليلة جارك). فمن أعظم الذنوب الزنا فهو حرام، والإنسان حين يزني بزوجة جاره فهذا أفظع ما يكون، والمفترض أن الإنسان مؤتمن على جاره، سواء كان هذا الجار مسلماً أو كان كافراً، فهناك ائتمان بين الجار وجاره، والجار أقرب الناس إلى جاره يعينه في وقت حاجته إليه، في مرض أو في جنازة أو في حاجة، فالجار يسرع إليه قبل أقربائه. فلذلك الجار له حقوق عظيمة، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)، يعني: ظن النبي صلى الله عليه وسلم من كثرة وصية جبريل له بالجار أن الله سينزل في آيات المواريث أن الجار من ضمن الورثة، ظن ذلك صلوات الله وسلامه عليه من كثرة الوصية به، فهنا يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن من أعظم الفواحش والذنوب أن الإنسان يزني بحليلة جاره، والزنا مع أي امرأة كبيرة من الكبائر ويستحق صاحبها أن يقام عليه الحد في الدنيا، ويستحق عقوبة الله في الآخرة. ولكن إذا كان الزنا بحليلة الجار فهو أفظع وأشد والعقوبة فيه أشد، ففي الآية أخبر الله عز وجل عن هؤلاء المؤمنين أنهم لا يدعون مع الله إلهاً آخر، ولا يشركون بالله صنماً ولا وثناً، ولا يشركون حجراً ولا شجراً ولا إنساناً ولا جاناً ولا ملكاً ولا غير ذلك، بل يدعون ربهم وحده لا شريك له. وقوله تعالى: {َلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الفرقان:68]، وهنا استثنى، فقتل النفس قد يكون بباطل وقد يقتل بحق؛ ولذلك استثنى الله سبحانه القتل بالحق، جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام)، وأخبر في الحديث: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)، فهذه ثلاثة أشياء لا يحل دم المرء المسلم إلا بها. فالإنسان يقتل نفساً بغير حق، فيستحق أن يقام عليه القصاص، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (النفس بالنفس)، قال: (الثيب الزاني)، أي: الإنسان المتزوج الذي يقع في الزنا يستحق الرجم، والثالث: (التارك لدينه المفارق للجماعة)، فالإنسان الذي ارتد بعد إسلامه إذا لم يتب ويرجع إلى الإسلام فهذا يستحق القتل. هؤلاء الثلاثة يستحقون ذلك، فالاستثناء عائد على هؤلاء، فعباد الرحمن لا يقتلون نفساً بغير حق إلا أن يكون جهاداً في سبيل الله سبحانه أو قصاصاً أو إقامة حدود الله سبحانه. قوله تعالى: {وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان:68]، أي: لا يقعون في الزنا، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر الزنا وأنه كبيرة من الكبائر، وذكر لنا الحد الذي يكون في الزنا، فالله سبحانه يخبر عن هؤلاء أنهم لا يقعون في الكبائر، وقد وعد الله عز وجل المؤمنين الذين لا يقعون في الكبائر بمغفرة الذنوب ودخول الجنة، والكبائر كثيرة منها: الشرك بالله، السحر، قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، أكل الربا، أكل مال اليتيم، التولي يوم الزحف، قذف المحصنات الغافلات المؤمنات، عقوق الوالدين، السرقة، التولي بعد الإسلام، وارتداد أعرابي بعد الهجرة، الرشوة، أكل السحت. فهذه كبائر إن اجتنبها الإنسان المؤمن حتى يموت، فالله عز وجل يغفر له صغائر ذنوبه، لذلك جاء في القرآن قول الله سبحانه: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31]، فجعل الله اجتناب الكبائر مكفراً لصغائر الذنوب وهذا من رحمة رب العالمين سبحانه. وجعل للعباد مكفرات يكفر بها ذنوبهم، ومن هذه المكفرات أن الإنسان يصلي الصلوات المكتوبة، الصلاة إلى الصلاة، ورمضان إلى رمضان، والجمعة إلى الجمعة، والحج كلها مكفرات تكفر ذنوب العبد. فالإنسان إذا أذنب ذنباً توضأ فأحسن الوضوء وصلى ركعتين، واستغفر الله من هذا الذنب غفر الله له هذا الذنب، وجعل من المكفرات للذنوب اجتناب الكبائر، قال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31]، أي: صغائر ذنوبكم، {وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء:31]، فعباد الرحمن يجتنبون الكبائر فاستحقوا المغفرة، ويصلون ويفعلون الطاعات فاستحقوا الدرجات.

تفسير قوله تعالى: (ومن يفعل ذلك يلق أثاما ويخلد فيه مهانا)

تفسير قوله تعالى: (ومن يفعل ذلك يلق أثاماً ويخلد فيه مهاناً) يقول الله سبحانه: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} [الفرقان:68]، يعني: من الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والزنا {يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان:68]، يعني: يجد العذاب الشديد من الله سبحانه وتعالى، وقوله تعالى: {أَثَامًا} [الفرقان:68]، أي: عقوبة الإثم، وقالوا: هو واد في قعر جهنم جعله الله عز وجل للكفرة وأشباههم. فهؤلاء الذين يقعون في هذه الكبائر يقعون في هذا الوادي في نار جهنم والعياذ بالله، أو يجدون عقوبة إثمهم. قال تعالى: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} [الفرقان:69]، أي: من يفعل ذلك، يعني: كل من يفعل ذلك. قال سبحانه: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان:69]، وقوله: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} [الفرقان:69]، قرئت بالسكون على الجزم عطفاً على: {يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان:68]، الذي هو جواب الشرط، فكلمة (يضاعف) معطوفة عليه فهي مجزومة، وقرئت بالرفع على الحال والاستئناف. وقوله: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} [الفرقان:69]، وقرئت: (يضاعفُ) وقرئت بالتضعيف: ((يضعّفْ لَهُ الْعَذَابُ))، وقرئت أيضاً: ((يُضَعَفْ لَهُ الْعَذَابُ))، فيكون هناك أربع قراءات في هذه الكلمة. فقراءة نافع وأبي عمرو وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان:69]. وقراءة شعبة عن عاصم: (يُضَاعَفُ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا)، بالرفع فيها، وقراءة ابن كثير وقراءة أبي جعفر وقراءة يعقوب: ((يُضَعَّفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا)). والقراءة الباقية وهي قراءة ابن عامر: ((يُضَعَّفُ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا)). أيضاً كلمة: {فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان:69]، فيها قراءتان: قراءة بالوصل والإشباع، {فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان:69]، وهي قراءة حفص عن عاصم وكذلك ابن كثير، كأن فيها ياء في آخرها، {وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان:69]. أما باقي القراء فيقرءونها بالكسر فقط، {وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان:69]، فكلمة: {فِيهِ} [الفرقان:69]، نجد في المصحف أنها مسكورة وبعدها ياء مقلوبة أي في أعلى الهاء، فمعناها: أنك تقرأ بالياء. والمعنى: أن الله عز وجل يضاعف العذاب يوم القيامة على الذين يشركون بالله، ويأتون الكبائر، ويجعلهم خالدين في نار جهنم في هذا العذاب الشديد، فهم يستحقون الهوان، ويستحقون الإهانة في نار جهنم. وإذا استغاثوا بربهم قال لهم: اخلدوا فيها، امكثوا فيها، قال تعالى: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]. فقوله تعالى: {اخْسَئُوا فِيهَا} [المؤمنون:108]، مثل ما يقال للكلب: اخسأ، فيقال لأهل النار والعياذ بالله: اخسئوا، فيعاملون معاملة الكلاب وهم في نار جهنم، نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الفرقان [70 - 71]

تفسير سورة الفرقان [70 - 71] رحمة الله واسعة وحلمه عظيم، فهو يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن كثير، والإنسان إذا تاب إلى الله لابد أن يعمل صالحاً حتى يبدل الله سيئاته حسنات، وأن يقلع عن الذنب فلا يعود إليه أبداً، ويرد الحقوق إلى أصحابها إن كان لهم حقوق.

تفسير قوله تعالى: (إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا)

تفسير قوله تعالى: (إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فإنه يتوب إلى الله متاباً) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الفرقان: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان:70 - 71]. يذكر الله سبحانه وتعالى في آخر هذه السورة الكريمة صفات عباد الرحمن، فمن صفاتهم: وأنهم {يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]، ومن صفاتهم: أن نفقتهم متوسطة، فلا يسرفون ويبذرون ولا يقترون، ولكن: {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:67]، ومن صفاتهم: أنهم لا يقعون في الكبائر، فلا يشركون بالله سبحانه {وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان:68]، والله سبحانه وتعالى يحذر من الوقوع في الكبائر ويقول: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان:68]، فالذي يقع في كبيرة من الكبائر يجد العقوبة من الله سبحانه وتعالى، والآثام هنا: جمع إثم، وقد وضحه ربنا وفسره بأنه: مضاعفة العذاب، فقال تعالى: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان:69]، فمن أشرك بالله سبحانه فالله لا يغفر له شركه إذا مات على الكفر بالله سبحانه، بل هو من أهل النار ويخلد في النار مهاناً، كذلك الذي يأتي كبيرة من الكبائر يستحق العذاب ويخلد في النار، ولكن خلود الموحدين الذي هو دون خلود من أشرك بالله سبحانه وتعالى، فالخلود لمن قتل النفس المؤمنة أو وقع في الزنا أو فعل الكبيرة من الكبائر دون الشرك بالله يخلد في النار إلى ما يشاء الله سبحانه وتعالى، ولكن الكافر لا يخرج أبداً من النار. قال الله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} [الفرقان:70]، فرحمة الله عظيمة وواسعة، قال سبحانه: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156]، فالإنسان الذي يقع في كبيرة من الكبائر دون الشرك، ثم يتوب إلى الله سبحانه، يفتح الله له باب التوبة، فيقول هنا: {إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان:70]، يعني: حتى ولو وقع في هذه الكبائر، ثم تاب إلى الله سبحانه وآمن وعمل عملاً صالحاً، إذاً: إذا كان إنساناً مشركاً ووقع في الذنوب والكبائر ثم تاب من الشرك فدخل في الإسلام، فهذه التوبة بدخوله في الإسلام، تجب ما قبلها، فتوبته في الدخول في الإسلام تجب ما كان عليه من شرك قبل ذلك، وفي الحديث: (الإسلام يجب ما قبله). قال تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} [الفرقان:70]، والتوبة ليست مجرد قول باللسان، يقول: تبت إلى الله وهو ما زال يقع في الذنب أو يقع في الشرك، ولكن التائب من الذنب من يندم ولا يعود إلى فعله أبداً، ففي سنن ابن ماجة عن ابن مسعود قال النبي صلى الله عليه وسلم: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له)، وليس التائب الذي يقع في الذنب ويصر عليه، ولكن التائب الذي ندم على ذنبه وأقلع عنه، واستغفر ربه سبحانه وتعالى وتاب وأناب، وأعاد الحقوق إلى أصحابها إن كانت هناك حقوق أخذها من الناس، فهذا هو التائب إلى الله سبحانه، أقلع عن الذنب، وندم عليه، وعزم ألا يقع فيه مرة أخرى، ورد الحقوق إلى أصحابها، قال الله سبحانه مقيداً هذه التوبة: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ} [الفرقان:70]، أي: إذا كان كافراً فتاب بأن دخل في هذا الدين، قال تعالى: {وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} [الفرقان:70]، إذاً: لا بد من العمل الصالح بعد التوبة. فالذي يعصي ربه ويقول: أستغفر الله، تبت إلى الله، وهو ما زال مواقعاً للذنب هذا لم يتب توبة حقيقية؛ لأن التوبة كما يقول ربنا سبحانه أن يتوب ويؤمن ويعمل عملاً صالحاً حتى يبدل الله سيئاته حسنات، قال سبحانه: {فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:70]، وفضل الله عظيم، وهو الذي يملك أن يحول قلوب عباده من معصية إلى طاعة، ومن كفر إلى إيمان، فقوله تعالى: {فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ} [الفرقان:70]، يعني: التائبين {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70]، وتحتمل معان تحتها، يعني: بعدما تابوا إلى الله وعملوا صالحاً يلهمهم الله عز وجل الحسنات فيعملونها فيبدل ما قد كانوا اقترفوه من إساءة وفواحش وكفر إلى إيمان وإحسان وطاعة، فالله يبدل في الدنيا أعمالهم من أعمال سيئة رديئة إلى أعمال حسنة صالحة، ويقول بعض أهل العلم ومنهم الحسن: قوم يقولون: التبديل في الآخرة وليس كذلك، إنما التبديل في الدنيا يبدلهم الله إيماناً من الشرك، وإخلاصاً من الشك، وإحصاناً من الفجور، والجزء الثاني من كلام الحسن صحيح، وهو أن الله يبدل في الدنيا سيئات هؤلاء حسنات، ولا مانع من أن يبدل في الآخرة أيضاً كما صح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. جاء في حديث للنبي صلى الله عليه وسلم قال: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)، إذاً: الإنسان يتقي الله سبحانه، وإذا وقع في السيئة فليتبعها بالحسنة، فإن الحسنة تمحو هذه السيئة، فإذا تاب العبد إلى الله وعمل صالحاً فالله يمحو العمل السيئ بهذا العمل الصالح الذي عمله، وقد جاء من فضل الله عز وجل ومن رحمته ما هو أعظم من ذلك، ففي صحيح مسلم عن أبي ذر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولاً الجنة وآخر أهل النار خروجاً منها)، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من عصاة الموحدين هو آخر من يخرج من النار ويدخل الجنة، فهو قد دخل النار وعذب فيها، ولكن نفعه توحيده وقوله: لا إله إلا الله، إذ كان يصلي في الدنيا، ولكن وقع في معاص أوبقته، ووقع في كبائر استحق بها أن يدخل النار وأن يخلد فيها إلى ما شاء الله سبحانه، ولكن أخرجه الله عز وجل بعد ذلك، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها)، فالله عز وجل يقول للملائكة بعد أن دخل هذا العبد النار وخرج منها بفضل رب العالمين سبحانه: هاتوا له كتاب أعماله واعرضوا عليه هذه الذنوب. فهذا العبد وقع في كبائر الذنوب، ووقع في صغائر الذنوب، فاستحق النار بسبب ما وقع فيه من الذنوب، ثم أخرجه رب العالمين من النار، قال: (اعرضوا عليه صغار ذنوبه، وارفعوا عنه كبارها، فتعرض عليه صغار ذنوبه فيقال: عملت يوم كذا كذا وكذا وكذا، وعملت يوم كذا كذا وكذا وكذا، فيقول: نعم، لا يستطيع أن ينكر وهو مشفق من كبار ذنوبه)، فهو صاحب كبائر وصغائر، فالله عز وجل لما رحمه وأخرجه من النار وجاز الصراط أراد أن يزيده من فضله سبحانه، فقال للملائكة: (اعرضوا عليه كتاب الأعمال)، أي: اخفوا عنه الكبائر وأروه صغائر الذنوب، فنظر الرجل ولم ينكر أنه فعل هذه الذنوب، يقول: (وهو مشفق من كبار ذنوبه)، أي: خائف ألا يفضح أيضاً بكبار ذنوبه، قال: (وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه، فيقال له: فإن لك مكان كل سيئة حسنة)، يعني: أنت ما كنت تستحق شيئاً من الحسنات بل استحققت النار، فأخرجناك وجاوزنا بك الصراط، والآن سنعطيك، فهذا العبد عرضت عليه صغائر الذنوب، فلما رآها خاف وأشفق أن تعرض عليه الكبائر، فإذا بالله عز وجل يستر الكبائر ويريه هذه الصغائر، ثم يقول: سنبدل مكان كل صغيرة حسنة من الحسنات، فلما رأى الرجل ذلك إذا به يطمع فيقول: يا رب! قد عملت أشياء لا أراها ها هنا، قال: (فضحك النبي صلوات الله وسلامه عليه حتى بدت نواجذه)، فقد كان مشفقاً من كبائر الذنوب، وإذا به يذكرها لما رأى أن الله يبدله. فهذا الحديث الذي في صحيح مسلم فيه: أن الله بفضله وبكرمه يبدل يوم القيامة لبعض الناس، أو للتائبين من الناس، أو لمن يشاء من خلقه سبحانه ذنوبهم إلى حسنات ويعطيهم أجراً، وهذه الآية تدل على أن هذا الذي بدلت سيئاته حسنات قد تاب إلى الله سبحانه، والحديث الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولاً الجنة، وآخر أهل النار خروجاً منها)، إذاً: معناه: هذا دخل النار ومكث فيها ما شاء الله عز وجل، ثم أخرجه الله من النار وأدخله الجنة برحمته، وليدخله الجنة هو فمحتاج لحسنات، فإذا بالله يبدل صغائر ذنوبه إلى حسنات ويدخله الجنة برحمته سبحانه وتعالى. حديث آخر رواه الطبراني بإسناد رجاله ثقات وفيه: أن رجلاً كنيته أبو طويل قال: (يا رسول الله! أرأيت رجلاً عمل الذنوب كلها ولم يترك منها شيئاً، وهو في ذلك لم يترك حاجة ولا داجة إلا اقتطعها فهل له من توبة؟)، فهو رجل يسأل النبي صلى الله عليه وسلم أنه وقع في ذنوب كثيرة وما ترك لا حاجة ولا داجة إلا وقع فيها، والحاجة: الذنوب التي تختص بالحجيج، أي: سرقة الحجيج، وهي مصيبة من المصائب، فهو يقطع على الحجيج طريقهم، ويسرق أموالهم، ثم أدركته التوبة فتاب إلى الله سبحانه وذهب يسأل النبي صلى الله عليه وسلم: (أرأيت رجلاً عمل الذنوب كلها ولم يترك منها شيئاً، وهو في ذلك لم يترك حاجة ولا داجة إلا اقتطعها فهل له من توبة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل أسلمت؟)، يعني: كأن

تفسير سورة الفرقان [71 - 72]

تفسير سورة الفرقان [71 - 72] من صفات عباد الرحمن: أنهم يتوبون إلى الله توبة نصوحاً، ويتبعون هذه التوبة بالعمل الصالح الذي يقربهم إلى الله سبحانه وتعالى، ومن صفاتهم أيضاً: أنهم لا يشهدون الزور، أي: لا يحضرونه، فضلاً عن العمل به، فهم ينزهون أنفسهم عن ذلك، وعن اللهو بسائر أنواعه، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.

تفسير قوله تعالى: (ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا)

تفسير قوله تعالى: (ومن تاب وعمل صالحاً فإنه يتوب إلى الله متاباً) الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين: قال الله عز وجل: {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان:71]. يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآية وما قبلها وما بعدها عن صفات عباد الرحمن، وذكر في خلال الآيات التوبة إلى الله سبحانه وتعالى، وقال: ((وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا))، والتوبة: هي الرجوع عن الذنب، والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى، والإنسان التائب توبة نصوحاً هو الذي يندم على ذنبه الذي وقع فيه، ويعزم ألا يرجع إليه مرة أخرى، ويستغفر ربه سبحانه وتعالى من هذا الذنب، ويعيد الحقوق لأصحابها، ويستحل أصحابها مما عليه لهم، فمن تاب هذه التوبة النصوح التي أمر الله بها بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم:8]، فقد تاب توبة خالصة لله سبحانه وتعالى. قوله: ((وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا)) أي: أن التوبة ليست كلمة يقولها المرء باللسان، ولكن لا بد أن تكون عن اعتقاد في القلب، وعزم على ألا يرجع إلى المعصية، وندم على هذه المعصية التي وقع فيها، ثم يعمل صالحاً حتى يبدل الله عز وجل عمله من عمل سيئ إلى عمل حسن، فيبدل الله السيئات إلى حسنات، فهذه هي التوبة المقبولة التي يستحق بها العبد أن يكفر الله عز وجل عنه سيئاته، قال: {فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان:71]، يعني: يتوب إلى الله توبة حقيقية، توبة خالصة، يرضى الله عز وجل عنه بها. جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه ابن ماجة عن ابن مسعود مرفوعاً: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له)، وهذا من فضل الله العظيم سبحانه، فإذا تاب العبد توبة بشروطها فهذا كأنه لم يأت ذنباً، وكأنه لم يقع في الذنب، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث فقال: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، فالإنسان الذي يقع في المعصية، ولكن يستدرك ذلك ويراجع نفسه، ويرجع إلى ربه سبحانه وتعالى بالتوبة، فهذا يتوب الله عليه، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه أبو داود من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من عبد يذنب ذنباً، ثم يقوم فيحسن الطهور، ثم يقوم فيصلي ركعتين، ثم يستغفر الله إلا غفر الله له، ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران:135]). فالإنسان المؤمن يذكر الله عز وجل، فيستغفر لذنبه الذي وقع فيه، فإذا تاب تاب الله عز وجل عليه، وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح فقال: (من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها، تاب الله عليه)، يعني: أن باب التوبة مفتوح إلى أن تظهر العلامات الكبرى للساعة، فإذا ظهرت العلامات الكبرى، والتي منها: طلوع الشمس من مغربها، وهذه من أكبر العلامات التي تدل على أن الساعة على وشك، فإذا تاب العبد قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عز وجل عليه، أما بعد طلوعها من المغرب فلا تقبل. كذلك إذا تاب المرء قبل أن يغرغر فإن التوبة مقبولة قبل الغرغرة، يعني: قبل أن تصل الروح إلى حلق الإنسان.

تفسير قوله تعالى: (والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما)

تفسير قوله تعالى: (والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراماً) قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان:72]، فهنا شهد الزور بمعنى: أنه أتاه، أو أنه حضره ونظر إليه، ومن حضره فكأنه فعله. فالإنسان المؤمن الذي هو من عباد الرحمن لا يشهد الزور، فإذا كان لا يحضر الزور فمن باب أولى ألا يشهد شهادة زور، فإذاً: على ذلك هنا (لا يشهدون الزور) أعم من كلمة (لا يشهد بالزور). فشهادة الزور بأن يشهد كذباً، وتكون مرة وتكون مرات، ولكن لا يشهدون الزور أي: لا يحضرونه، ولا يسمعونه، ولا يكونون في مكان فيه زور، وأصل الزور: الكذب، أو الشيء المزور المزخرف، يعني: الشيء المايل من الازورار، أو من التزوير، فزور المقالة بمعنى زخرفها وزينها، وازور عن الحق بمعنى مال عن الحق، فهؤلاء لا يشهدون الشيء المائل عن الحق والشيء الباطل، يعني: لا يحضرون باطلاً ولا يشاهدونه، ولا يخوضون فيه، فهم قد نزهوا أنفسهم وأكرموا أنفسهم عن ذلك.

أقوال المفسرين في معنى قوله تعالى: (والذين لا يشهدون الزور)

أقوال المفسرين في معنى قوله تعالى: (والذين لا يشهدون الزور) قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان:72] جاء عن المفسرين في معنى هذه الآية أقوال، ومن ذلك: ما روي عن ابن عباس أنه قال: هو أعياد المشركين. أي: من ضمن شهادة الزور أن الإنسان يشهد ويحضر أعياد المشركين، ويوافقهم في أعيادهم. ويقول عكرمة: لعب كان في الجاهلية. يعني: أياماً كانوا يلعبون فيها في الجاهلية. وقال مجاهد: يعني: الغناء. وذلك بأن يجلس ويغني ويعزف ويسمع الموسيقى والألحان ونحو ذلك. وقال ابن جريج: الكذب. وقال علي بن أبي طلحة ومحمد بن علي: لا يشهدون بالزور. وكأنها من الشهادة، وليس من المشاهدة، وكل هذا صحيح، وكله مراد. والمعنى: أن الإنسان المؤمن ينزه نفسه أن يوجد في مكان يغضب الله عز وجل على أهل هذا المكان، فلا يحضر شهادة زور، ولا يحضر مكاناً فيه زور وفيه لغو وفيه ما ينبغي أن يطرح وأن يلغى، ولا يتكلم بمثل ذلك.

فظاعة شهادة الزور والتحذير منها

فظاعة شهادة الزور والتحذير منها شهادة الزور من أعظم وأفظع المنكرات، فهو هنا لم يقل: لا يشهدون بالزور، وإنما قال: ((لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ)) سواء قل أو كثر، فشهود الزور بأن يحضر مجلساً فيه لغو ولعب، وإن كان لن يعمل معهم ذلك، ولكنه لا ينكر عليهم، فهذا شهد مشهداً باطلاً لا ينبغي له أن يشهده. فالإنسان الذي يتكلم بالكذب مصاب بمصيبة، ولذلك جاء في شهادة الزور في الصحيحين من حديث أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر، قالوا: بلى يا رسول الله! قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس، فقال: ألا وشهادة الزور، ألا وقول الزور، أو قال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، يقول أبو بكرة: فما زال يقولها حتى قلت: لا يسكت)، يعني: كررها عدة مرات لتوعية الناس وتحذيرهم من قول الزور وشهادة الزور، وهناك فرق بين الاثنين، فقول الزور: أن يتكلم الإنسان من غير شهادة عند القاضي أو غيره ويكذب في الكلام، فهذا قول الزور وقول الكذب، أي: ينمق القول ويزخرفه على من معه فيدلس عليه ويكذب عليه. أما شهادة الزور: فهي أن يكذب في الشهادة عند القاضي أو عند الحاكم في الدعاوى أمام الناس، فهنا حذر من الكذب في الكلام، وهذه شهادة الزور، قوله: (وكان متكئاً فجلس، فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور)، فما زال يكررها صلوات الله وسلامه عليه بياناً أن هذا شيء فظيع، وشيء عظيم، والله عز وجل يعاقب عليه أشد العقوبة. فشاهد الزور واقع في أكبر الكبائر؛ لأن الإثم فيها ليس على نفسه فقط، ولكن على هذا الذي شهد عليه زوراً، فقد ضيع حقه، فبدل أن يأخذ الحق بشهادة هذا، يضيع الحق منه إلى غيره. فلذلك الإنسان الذي يحلف كذباً ليقتطع مال المسلم، هذا حلف يميناً غموساً تدخله في النار وتغمسه فيها، وتسمى: يمين الغموس، فكيف بمن يشهد بالزور حتى يضيع حق الإنسان فيأخذه غيره؟ هذا شاهد زور، فله العقوبة الأليمة عند الله سبحانه وتعالى، قال النبي صلى الله عليه وسلم هنا: (ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور). كذلك جاء في حديث آخر في أمر الإنسان الذي يتعبد ويصوم لله سبحانه، ثم مع ذلك يتكلم بالزور، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل؛ فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)، يعني: الإنسان الذي يقول: أنا صائم سواء كان صيام تطوع أو فريضة، وحياته كلها زور وكذب وغش وأكل لأموال الناس، نقول له: صائم عن الطعام والشراب، ومفطر على أعراض الناس، ومفطر على الزور وأكل أموال الناس، فليس لله حاجة في أن تدع طعامك وشرابك. فالإنسان المؤمن يصلي صلاة تمنعه من الفحشاء والمنكر، ويصوم صوماً يمنعه من ذلك، قال تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45]، وكذلك الصوم، فقال هنا: (من لم يدع قول الزور والعمل به، والجهل، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه). أيضاً: جاء عن عمر رضي الله عنه، أنه أتي بشاهد زور، فأوقفه أمام الناس يوماً إلى الليل؛ وقد أوقفه أمام الناس من أجل أن يفضحه أمام الناس؛ لأنه شاهد زور، ثم قال: هذا فلان يشهد بزور، فاعرفوه، ثم حبسه عمر رضي الله تعالى عنه. وفي رواية: أنه ضربه أحد عشر سوطاً، ثم قال: لا تأسروا الناس بشهود الزور. يعني: لا تحبسوا الناس بسبب إنسان يشهد عليهم بالزور، واتقوا الله سبحانه وتعالى في الناس، وذلك بأن تتحروا من الشاهد الحق، فمن زكاه الناس فاقبلوه، أما شاهد لا تعرف عنه شيئاً، ويأتي يشهد بالزور وتحبس الناس من أجله، فلا تفعلوا ذلك، ثم قال: فإنا لا نقبل من الشهود إلا العدل.

معنى اللغو وأقوال المفسرين فيه

معنى اللغو وأقوال المفسرين فيه يقول الله سبحانه في صفات عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان:72]، اللغو: هو الكلام اللغو وأفعال اللغو، فعباد الرحمن إذا حضروا مجالس فيها لغو، نزهوا أنفسهم وأكرموها؛ لأن الله عز وجل أعزهم بالإيمان، وبحب الله سبحانه، فهم ينزهون أسماعهم أن تسمع باطلاً، وينزهون ألسنتهم أن تنطق بباطل، وينزهون أبدانهم أن يحضروا مجالس باطل، فهنا قال: ((وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا)) أي: الإنسان المؤمن يكرم نفسه فلا يهينها بالمعصية، يكرم نفسه بالطاعة، ويكرم نفسه بمصاحبه الأخيار، ولا يهين نفسه بمصاحبة الفجار والأشرار، فالإنسان المؤمن يبتعد عن أهل الزور، وعن أهل الخيانة وأهل الكذب وأهل الباطل، لا يرافقهم ولا يجالسهم، فإذا مر بمكان فوجد هذا الزور وهذا الباطل نزه نفسه وأكرمها وابتعد عن ذلك. يقول المفسرون في ذلك: هو كل ما سقط من قول أو فعل. يعني: الأفعال الساقطة والأقوال الساقطة، فيدخل فيه الغناء، ويدخل فيه اللهو وتدخل فيه الموسيقى ونحو ذلك، ويدخل في ذلك سفه المشركين وأذاهم للمؤمنين، وذكر النساء وغير ذلك من المنكر. قال مجاهد: إذا أوذوا صفحوا، يعني: نزهوا أنفسهم عن رد الكلام السيئ بالكلام السيئ، ولكنهم يعفون ويصفحون، قال: وإذا ذكروا النكاح كنوا عنه. يعني: فألفاظهم ألفاظ رقيقة مهذبة، وليست ألفاظاً فاحشة، فهم لا يتكلمون إلا بالكلام الطيب لا بالكلام البذيء، يكنون عما يستقبح ولا يصرحون به. قال المفسرون في قوله تعالى: ((وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا)) أي: معرضين منكرين لا يرضونه، ولا يمالئون عليه، ولا يجالسون أهله. أي: مروا مرور الكرام، ينزهون أنفسهم أن يخوضوا في باطل هؤلاء، فهذا يكون قد أكرم نفسه أن يهينها بمعصية الله سبحانه وتعالى. وقيل: المعنى: أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إذا وجد منكراً، فمروره بالمنكر بأن ينهى عنه، وأن يأمر بالمعروف، وإذا لم يقدر على ذلك فلا يمر به ولا يجلس معه والله أعلم. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، وأن يجعلنا من عباد الرحمن. أقول قولي هذا, وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الفرقان [73 - 74]

تفسير سورة الفرقان [73 - 74] من صفات عباد الرحمن: أنهم إذا ذكروا بآيات الله تذكروا، ومن صفاتهم: أنهم يدعون لأنفسهم وأهليهم بالخيرات، ويحرصون على صلاح أزواجهم وذرياتهم.

تفسير قوله تعالى: (والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا)

تفسير قوله تعالى: (والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صماً وعمياناً) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الفرقان في ذكر صفات عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:73 - 74]. هذه الآيات الكريمة من سورة الفرقان يذكر الله عز وجل فيها صفاتاً لعباد الرحمن، ومن صفات عباد الرحمن التي ذكر هنا: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الفرقان:73]، ففي هذا بيان لكيفية عبادة عباد الرحمن لربهم سبحانه وتعالى وتقربهم إليه، وكيف يستمعون النصيحة من كتاب الله ومن هدي رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فإذا ذكروا تذكروا ولم ينسوا، إذا ذكروا بآيات الله سبحانه أقبلوا عليها بقلوبهم ووجوههم وعقولهم متفهمين متدبرين واعين متذكرين متعظين منتفعين بها، فمن صفاتهم إقبالهم على كتاب الله سبحانه وتعالى. قال الله: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الفرقان:73]، وكأن الآية فيها تعريض بالذين إذا ذكروا بآيات ربهم خروا عليها صماً وعمياناً، والخرور: السقوط، ولا سقوط حقيقة، فالذين يعرضون عن آيات الله عز وجل كأنهم سقطوا سقوطاً معنوياً، فهؤلاء أعداء الله سبحانه لا يسمعون ولا يستجيبون بل يبتعدون عن سماع كتاب الله سبحانه وتعالى، وخروا عليها صماً وعمياناً، فبدل أن يقبلوا إلى الله عز وجل أعرضوا عنه، أما عباد الرحمن سبحانه فإنهم يخرون لله عز وجل مطيعين له، ساجدين له، وإذا ذكروا تذكروا. وأولئك الذين يعرضون عن آيات الله يخرون عليها صماً وعمياناً، أي: يعرضون عن كتاب الله عز وجل، كقولك: فلان قعد يفعل كذا وكذا وليس ثم قعود، ويقال: قعد فلان يرد على فلان، وقد يرد عليه وهو قائم، وقد يرد عليه وهو ماش، ولكن المعنى: أنه توجه إليه وانتبه إليه بكليته ليرد عليه مثلاً، فهؤلاء عباد الرحمن {لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الفرقان:73]، بل خروا عليها يستمعون كلام الله عز وجل وهم يعون ويفهمون ذلك، فكأنهم خروا على كتاب الله عز وجل وأقبلوا عليه فلم يعرضوا عنه، واستمعوا وانتفعوا بذلك، وذكر في آيات أخر أنهم {يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء:107 - 109]، فهذا إقبال عباد الرحمن على الطاعة، وإذا جاءت آيات من آيات الله عز وجل فيها سجود خروا لله سجداً، فهذا خرور حقيقي، فهم مقبلون على كتاب الله سبحانه، متدبرون لما يقوله الله سبحانه، فإذا جاءت آية السجدة خروا لله عز وجل سجداً له، فخرورهم خرور القلوب وخرور الأبدان، ويخرون بقلوبهم ويقبلون ويتوجهون سجداً لربهم سبحانه، ولا يخرون صماً وعمياناً.

تفسير قوله تعالى: (والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين)

تفسير قوله تعالى: (والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين) قال الله سبحانه: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74]، أي: يدعون {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74]، هذا دعاؤهم يدعون ربهم، وقد دعوا قبل ذلك فتعوذوا بالله من النار فقالوا: {رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان:65]، ودعوا فسألوا ربهم سبحانه من فضله ومن رحمته دعاء ينفعهم في الدنيا وفي الآخرة، وما أجمل هذا الدعاء! {رَبَّنَا هَبْ لَنَا} [الفرقان:74]، أعطنا من فضلك ومن كرمك، وامنحنا وهب لنا أي: اجعل {لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان:74]. وقوله: {وَذُرِّيَّاتِنَا} [الفرقان:74] فيها قراءتان: قراءة نافع وأبي جعفر وابن كثير وابن عامر وحفص ويعقوب، فهؤلاء يقرءون: {وَذُرِّيَّاتِنَا} [الفرقان:74] على الجمع، وقراءة باقي القراء أبي عمرو وشعبة عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف: (وذريتنا قرة أعين) على الإفراد، والذرية: هم الأبناء والأحفاد، وذرية الإنسان: ما خلق الله عز وجل من نفسه، وأصلها: من الذر، والذر: البث والنشر، فما كان من الإنسان من أولاده وأحفاده فيسمون: ذرية، فعباد الرحمن يدعون بالدعاء الذي ينتفعون به في الدنيا وفي الآخرة: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان:74]، وقرة العين من القرور أو من القر، والقر: البرد، والقرور: الاستقرار، فكأنهم أرادوا المعنيين: اجعل لنا من الأزواج ومن الذرية ما تقر به أعيننا، أي: يجعل العين فيها قرة وبرودة، والإنسان الحزين تكون دمعة حزنه حارة، وإذا بكى من الفرح كان بكاؤه بارداً، فكأنهم يقولون: ربنا أفرحنا بطاعتهم لك سبحانك، وطاعة الأزواج، وطاعة الوالدين، واجعلهم مطيعين فنفرح بهم، فنرى أولادنا يحفظون كتاب الله عز وجل، ويحافظون على شرع الله سبحانه، ويقتدون بالنبي صلى الله عليه وسلم، فيفرح المؤمن بزوجته وأولاده ويسر حين ينظر إليهم، فهم يطيعون الوالدين، والزوجة تطيع زوجها طاعة لله سبحانه وتعالى، فتقر أعين عباد الرحمن بهذه الطاعة لله سبحانه وتعالى، فانتفعوا بهم في الدنيا وفي الآخرة ينتفعون بهم أيضاً، فإن حفظ الأولاد كتاب الله سبحانه وتعالى يكسى الوالدان من حلي الجنة بسبب حفظ أولادهم لكتاب الله عز وجل، وقد يكون الأولاد والذرية لهم درجات عالية رفيعة عند الله عز وجل فيشفعون في آبائهم ويرتفعون إلى درجاتهم بهذا الأمر، فالله عز وجل يجعلهم مصدر سرور لهم في الدنيا، ومصدر فرح وحبور في الآخرة. وأيضاً الإنسان المطمئن الفرح عينه قارة، والإنسان الحزين والخائف عينه غير مستقرة ينظر شمالاً ويميناً وهو متحير، فهم يدعون الله عز وجل أن يثبتهم، وأن يقر أعينهم ويجعلها قارة فرحة مستبشرة بذلك، فيقولون: {هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان:74]، يقول الإمام القرطبي رحمه الله: وذلك أن الإنسان إذا بورك له في ماله وولده قرت عينه بأهله وعياله، ولذلك دعا النبي صلى الله عليه وسلم لـ أنس بن مالك خادم النبي صلى الله عليه وسلم بدعوة عظيمة مباركة فقال: (اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه)، فكان أولاده وأحفاده يتجاوزن المائة. والأولاد الكثيرون إن كانوا مطيعين لله عز وجل ينتفع الأب والأم بهم، وهذه من البركة فيهم، يقول العلماء: الإنسان إذا بورك له في ماله وولده قرت عينه بأهله وعياله، وإذا كانت عنده زوجة اجتمعت له فيها أمانيه من جمال وعفة ونظر وحوطة، فالزوجة من صفاتها التي تعجب الإنسان أن تكون مقبولة جميلة عنده، وأن تكون عفيفة، وأن تطيعه إذا أمر، وأن تخاف أن يغضب عليها، فإن غضبه قد يكون منه غضب الله سبحانه وتعالى، وتكون فيها حوطة تحوط أهلها بالخير، تحوطهم بالحنان، وبالرأفة، وبالرحمة، وبالرعاية، وتحوط بيتها فهي راعية في مال زوجها، (وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته). ومن فائدة الذرية الطيبة: أنهم يعينون الوالدين على طاعة الله عز وجل، ويعينونهم في أمر الدنيا وأمر الآخرة، فإذا كان الإنسان على هذا الحال لم يحسد الناس ولم يلتفت إلى زوج أحد ولا إلى ولده، واستقرت عينه، فعباد الرحمن يسألون الله عز وجل أن يجعل في أزواجهم وذريتهم ما يكفيهم وما يغنيهم عن أن ينظروا إلى الناس ويحسدوهم، فالمؤمن تسكن عينه عن الملاحظة، ولا تمتد عينه إلى ما ترى، وذلك حين قرت العين وسكنت النفس. ثم قال: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74]، وهذا من الدعاء العظيم الجميل، وأن يكون الإنسان إماماً لأهل التقوى، وليس إماماً لعموم الناس، ولكن للمتقين، وهذه درجة رفيعة عالية جداً للإنسان، وليس معناها أن يكون إماماً في الصلاة، وكم من المتقين من لم يكن من أئمة الصلاة، كأئمة المسلمين مالك والإمام أحمد والإمام الشافعي والإمام أبي حنيفة وغيرهم من أئمة المسلمين، فلم يكونوا أئمة في الصلاة، فالإمامة هنا إمامة الدين، الإمامة في الزهد، الإمامة في التقوى، الإمامة في التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، فيقولون: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74]. جاء في الموطأ: أن عمر رضي الله عنه قال لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم طلحة بن عبيد الله أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنه: إنكم أيها الرهط! أئمة يقتدى بكم، قال هذا عمر لما رأى طلحة بن عبيد الله محرم في شملة مزخرفة أو حمراء، فأنكر عليه عمر رضي الله عنه ذلك، وقال: يقولون: صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس ذلك، فحرج عليه ألا يلبس ذلك، وقال: إنكم أئمة يقتدى بكم. وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول في دعائه: اللهم اجعلنا من أئمة المتقين. فالإنسان المؤمن يدعو أن يكون إماماً للمتقين، {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74]، ولم يقل: أئمة؛ لأن (إماماً) هنا مصدر، فالمصدر يأتي في الإفراد وفي الجمع على هيئة واحدة، فكأن المعنى: أئمة نؤم المتقين ونكون أمامهم عند الله سبحانه ومقربين ويقتدى بنا في الدنيا ونتقدمهم يوم القيامة. يقول القشيري: الإمامة بالدعاء لا بالدعوة. يعني: أن الإنسان يكثر دعاء ربه سبحانه وتعالى، والتبتل بين يديه، والابتهال لله عز وجل، فيقربه الله عز وجل ويجعله إماماً يقتدى به في الخير. وكم من إمام يؤم الناس في الصلاة ولا يقتدى به ولا يصدق له في الأمر، وكم من إنسان مغمور بين الناس ليس مشهوراً ولكن أهل التقوى ينظرون إليه أنه من أهل الزهد وأنه من أهل العفة، وأنه من أهل الله سبحانه وتعالى، فهؤلاء الأئمة الذين تعرفهم ملائكة الله عز وجل وتصلي عليهم وتدعو لهم. يقول إبراهيم النخعي: لم يطلبوا الرياسة بل دعوا أن يكونوا قدوة في الدين. وقال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية: اجعلنا أئمة هدى. وقال مكحول: اجعلنا أئمة في التقوى يقتدي بنا المتقون. فالإنسان المؤمن يدعو ربه سبحانه أن يجعله صالحاً، وأن يجعل الناس يقتدون به، وإذا اقتدى به الناس فكل عمل طيب يعمله ويعمله الناس يكون له أجر فيه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيء). إذاً: الذي يفعل الفعلة الحسنة ويتقرب بها إلى الله ويقتدي به الناس فيها يكون له أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الفرقان [75 - 77]

تفسير سورة الفرقان [75 - 77] بعد أن ذكر الله صفات عباده في آخر سورة الفرقان، ختم ذلك بذكر جزائهم بسبب صبرهم في هذه الدنيا، وهو جزاء لا يخطر على بال أحد، ولم تسمع به أذن، ولم تر مثله عين.

تفسير قوله تعالى: (أولئك يجزون الغرفة بما صبروا)

تفسير قوله تعالى: (أولئك يجزون الغرفة بما صبروا) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. ذكر الله عز وجل صفات عباد الرحمن في سورة الفرقان، ثم ختم هذه السورة بقوله سبحانه: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} [الفرقان:75 - 77]. في هذه الثلاث الآيات الأخيرة من هذه السورة الكريمة يذكر الله سبحانه وتعالى جزاء عباد الرحمن، بعد أن ذكر صفاتهم قبل ذلك، من حسن الخلق، وحسن المعاملة، والعبادة لله سبحانه، والتخلي عن الشرك بالله سبحانه، وعن كبائر الآثام والذنوب، فذكر الله عز وجل من صفاتهم في هذه السورة إحدى عشرة صفة، فذكر التواضع، وذكر الحلم، وذكر التهجد، وأنهم يقومون من الليل، وذكر خوفهم من الله سبحانه وتعالى، وذكر من تركهم الإسراف والتقتير، وذكر أنهم نزهوا أنفسهم عن أن يشركوا بالله أو أن يقعوا في الزنا، أو أن يقعوا في القتل، وذكر أنهم يتوبون إلى الله سبحانه، وذكر أنهم يجتنبون الكذب وشهود الزور، وأنهم يعفون عن المسيء، وأنهم يقبلون الموعظة، ويطيعون من يعظهم ويذكرهم بالله سبحانه، وأنهم يبتهلون إلى الله داعين راغبين راهبين يرجون من الله عز وجل أن يصرف عنهم عذاب جهنم، وكأنهم يستشعرون الورود فيها، فيطلبون من الله أن يصرفها عنهم، وكذلك يطلبون من الله سبحانه في دعاء جميل: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان:74]، وهذا الدعاء فيه الحكمة وفيه ذكاء هؤلاء في الطلب، فهم يطلبون ما ينفعهم دنيا وأخرى، {هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان:74]، فتقر أعيننا وتستقر قلوبنا بذلك في الدنيا وفي الآخرة، في الدنيا يفرحون بما يكون عليه أزواجهم، وبما تكون عليه ذرياتهم من طاعة الله سبحانه ومن حسن الخلق ومن حسن الصورة، فيطلبون من الله عز وجل أن يرزقهم هذه الذرية الصالحة والزوجات الصالحات، وينتفعون في الدنيا بذلك، وينتفعون يوم القيامة أيضاً بالأعمال الصالحة، فالزوجة الطيبة المطيعة لله سبحانه ينتفع بها زوجها يوم القيامة، وتكون زوجته في الجنة، ومن خير نسائه في الجنة، كذلك أحدهما يشفع في الآخر، وأحدهما يرفع الآخر، كذلك الذرية الطيبة، فينتفع الإنسان المؤمن بذريته الطيبة، فيكون له أجر تلك الذرية ما وجدوا على الأرض حتى تقوم الساعة. ثم ذكر الله عز وجل جزاء هؤلاء فقال: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ} [الفرقان:75]، فيجزيهم الله سبحانه أفضل الجزاء، وهي: الغرفة، والغرفة: الحجرة التي تكون للإنسان وهي عالية، فتطلق الغرفة على المكان العالي، خلافاً لما تعارفنا عليه، فهؤلاء لهم الغرفة عند ربهم، يعني: أعالي الجنة، الفردوس الأعلى من الجنات، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها. قال: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان:75]، يعني: الدرجة الرفيعة، وأعلى منازل الجنة، وأفضل منازل الجنة، كما أن الغرفة أعلى مساكن الدنيا. يقول الله سبحانه: {يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان:75]، أي: بسبب صبرهم، فصبرهم كان سبباً في دخول هذه الغرفة وهذه الجنة، صبرهم على طاعة الله عز وجل وطاعة نبيهم صلوات الله وسلامه عليه، وصبرهم عن المحرمات فلا يقعون فيما حرم الله، وصبرهم على القضاء والقدر، وهذه أنواع الصبر الثلاثة، فصبروا على الطاعة، ففعلوا ما أمر الله سبحانه وتعالى به، فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وجاهدوا في سبيل الله سبحانه، وأدوا العبادات التي أمر الله عز وجل على الوجه الذي يرضي الله سبحانه وتعالى، فصاموا وصلوا وزكوا وحجوا، وفعلوا كل خير طلب منهم، فصبروا على الطاعة، والطاعة تكليف، والتكليف يكون فيه مشقة وكلفة، فهؤلاء صبروا على هذا التكليف فأطاعوا، وصبروا عن المعاصي، فانتهوا عما نهاهم الله سبحانه وتعالى عنه من الشرك والسرقة والزنا والقتل والعقوق والمنكرات، وقالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، وصبروا على ما ابتلاهم الله عز وجل به ليمحصهم، وليظهر إيمانهم، وليظهر تقواهم، ابتلاهم بالمصائب، وبنقص من الأموال والأنفس والثمرات، وإذا بهم يصبرون ويطيعون الله سبحانه وتعالى، فلا يضجرون، ولا يعترضون، ولا يتذمرون، ولكن يصبرون لأمر الله سبحانه وتعالى، ويقولون: إنا لله وإنا إليه راجعون. فهؤلاء بشرهم ربنا سبحانه وتعالى في الدنيا بأن لهم أجراً عند الله سبحانه، فيجزون الغرفة بما صبروا، فبصبرهم وصلوا إلى أعالي الجنات، {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:157]، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم. قال: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا} [الفرقان:75]، (يُلقَّون) هذه قراءة الجمهور، وقراءة شعبة عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف: (ويَلقون فيها تحية وسلاماً) فهم يُلقون ويَلقون، والمعنى متقارب، فإذا دخلوا الجنة لقوا التحية من ملائكة الله عز وجل، بل ويحييهم ربهم بالسلام سبحانه وتعالى، {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58]، يلقون ذلك، وينادون بهذه التحية، فإذا دخلوا الجنة أفواجاً إذا بالملائكة تحييهم فتتلقاهم بالتحية والسلام. وكلمة التحية معناها: الدعاء بالحياة، فتقول: حييت فلاناً، أحيي فلاناً، بمعنى: أدعو له بالحياة الطيبة الكريمة، فمن الذي يدعو لهم بهذه الحياة الطيبة، وبالحياة التي هي أمن وسلام دائم؟ إنهم ملائكة الله عز وجل بأمر الله سبحانه، بل ويحييهم ربنا سبحانه وتعالى، تحية من عنده مباركة طيبة، {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر:73]، يلقون فيها تحية، أي: دعاء بالخلود في الجنة، بالحياة الكريمة الدائمة التي لا يزولون عنها أبداً، تسلم عليهم ملائكة الله، ويسلم عليهم ربهم سبحانه، ويسلم بعضهم على بعض، ويلهمهم ربهم في الجنة التسبيح كما يلهمون في الدنيا النفس. والتحية: هي البقاء الدائم والملك العظيم، ويلقون فيها السلام أيضاً، أن سلمتم وأنكم تسلمون، وأنكم تعيشون في الجنة بسلام، فلا خصام في الجنة، ولا نكد فيها، ولا كدر فيها، ولا حقد ولا غل ولا قاذورات ولا نجاسات، ولا حيض ولا نفاس، ولا تفل ولا مخاط، ولا شيء في الجنة يكدر على أهل الجنة حياتهم ومعيشتهم، يأكلون ما يشاءون ولا يتخمون أبداً، بل إذا أكل الإنسان منهم، أخرج ما أكل رشحاً يرشحه، أي: عرقاً رائحته كرائحة المسك، فلا بول ولا غائط، وهذا من فضل الله ومن كرمه ورحمته سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما)

تفسير قوله تعالى: (خالدين فيها حسنت مستقراً ومقاماً) قال الله: {خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان:76]، هذه الجنة يخلدون فيها، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، لا خوف من المستقبل، ولا حزن على الماضي، فحياتهم آمنة مستقرة، حسنت مستقراً يستقرون فيها، ومكان إقامة ينزلون فيها، ولا يخرجون منها أبداً.

تفسير قوله: (قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم)

تفسير قوله: (قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم) قال سبحانه وتعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} [الفرقان:77]، هذا الإنسان لا يساوي شيئاً وما يعبأ به ربه سبحانه، ويعبأ من العبء: وهو الثقل، يقال: هذا يحمل عبئاً يعني: ثقلاً وكلفة وشدة ومشقة، فما الذي يشق على الله سبحانه وتعالى من هذا الإنسان الضعيف الحقير الذي كان نطفة، وكان علقة، وكان مضغة، وكان لا شيء، كان تراباً ثم صار هذا الإنسان ثم يرجع إلى التراب؟! فما الذي يكون من هذا الإنسان حتى يشق على الله سبحانه وتعالى؟ {مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي) [الفرقان:77]، يعني: لا يعبأ بكم الله سبحانه وتعالى شيئاً، ويحتمل أن يكون المعنى: أي عبء يعبئه بكم ربي وتتعبونه به؟ لا شيء، فهو لا يبالي بكم سبحانه، فإذا أدخلكم الجنة أو أدخلكم النار فلا يبالي، وجنة الله رحمته سبحانه، ونار الله غضبه وعقابه وعذابه، فإن أدخل الخلق كلهم الجنة فلن ينقص شيئاً، ولن يكلف الإنسان ربه شيئاً، ولو أدخلهم كلهم النار فلا يقدرون أن يدفعونها عن أنفسهم، فما الذي يعبئه سبحانه؟ ((قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان:77]، يعني: لا يبالي بكم ربكم سبحانه لولا دعاؤكم إياه، وكأن الخطاب هنا لجميع الخلق، والتخصيص بالدعاء للمؤمنين أو التعميم، فمن رحمة الله سبحانه وتعالى أنه هدى هؤلاء المؤمنين، فإذا بهم يدعون الله، أي: يوحدونه سبحانه، ويطلبون منه وحده لا شريك له الخير ويسألونه، الجنة، فبدعائهم استحقوا أن يكرمهم الله سبحانه. فالمعنى: لا يعبأ الله بالخلق جميعهم لولا دعاء هؤلاء المؤمنين، وتوحيدهم ربهم سبحانه، فاستحقوا أن يكرمهم وأن يدخلهم الجنة، ومن رحمته أنه يدعوكم إليه، وأنه لا يعذب الخلق حتى يبعث رسولاً، قال: {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، فالله عز وجل لا يشق عليه أن يرسل الجميع النار، ومن الذي سيعترض على الله سبحانه وتعالى؟ لكن قد قضى برحمته سبحانه أنه لا يعذب حتى يبعث رسولاً، فأنزل الكتب وبعث الرسل، وجعل من الناس الشقي والسعيد. إذاً: المعنى: قل ما يعبأ بكم ربي -أيها الخلق- لولا أنه كتب على نفسه الرحمة، وكتب على نفسه ألا يعذب أحداً حتى يحذره، وحتى يرسل الرسل، وينذر الخلق، فما يعبأ بكم ربي لولا أنه أرسل إليكم الرسل فتدعونه سبحانه. ومعنىً آخر وهو: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي} [الفرقان:77]، أيها المشركون! لولا أنكم تدعونه في وقت الضراء، فالمشركون كانوا يشركون بالله في السراء، فيدعون بعلاً أو يدعون اللات والعزى، فإذا وقعوا في الضراء وفي الشدة وحدوا الله وأفردوه بالعبادة، فطلبوا منه وسألوه، فالله عز وجل تركهم في الدنيا يعيشون بسبب هذا الدعاء الذي دعوا به ربهم سبحانه وتعالى، ولكن في الآخرة يكون في الجنة المؤمنون الموحدون، وفي النار المشركون العصاة. وقوله سبحانه: {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} [الفرقان:77]، أي: أيها المشركون! قد كذبتم فاستحققتم العذاب، فسوف يكون هذا العذاب لزاماً، أي: ملازماً لكم لا يفارقكم أبداً، وسيكون جزاء تكذيبكم ملازماً لكم. عن ابن مسعود رضي الله عنهما قال: قد مضت البطشة والدخان واللزام. وكأنه يقول: إن اللزام: هو العقوبة في الدنيا، وهو ما كان في يوم بدر لهؤلاء المشركين من أن الله هزمهم فعذبهم في الدنيا فصاروا إلى النار، واللفظ يحتمل أكثر من هذا المعنى، فاللزام العقوبة سواء في الدنيا أم في الآخرة. نسأل الله عز وجل أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يزيدنا علماً نافعاً، وأن يجعلنا من عباد الرحمن. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الشعراء

تفسير سورة الشعراء [1 - 6] لقد أنزل الله عز وجل كتابه على نبيه واضحاً بيناً لا لبس فيه ولا غموض، وقد حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على تبليغه وتعليمه للناس، واهتم لذلك أشد الاهتمام، حتى إنه كان يحزن على إعراضهم حتى يكاد أن يهلك نفسه من شدة الحرص عليهم، ولقد أمره الله عز وجل أن يتحلى بالصبر؛ لأنه ليس عليه إلا البلاغ، وأما الهداية فليست له، وذكر سبحانه أنه لو أراد لجعل الناس مؤمنين، ولكنه لم يرد ذلك لحكمة بالغة.

نبذة عامة عن سورة الشعراء

نبذة عامة عن سورة الشعراء الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الشعراء: بسم الله الرحمن الرحيم: {طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ * وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ * فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:1 - 9]. هذه هي السورة السادسة والعشرون من كتاب الله سبحانه وتعالى، وهي سورة الشعراء، وهي سورة من السور المكية، وفيها خصائص السور المكية، وآياتها مائتان وست وعشرون آية حسب العد المدني الأخير والمكي والبصري، وعند الباقين الكوفيين والشاميين والمدني الأول: مائتان وسبع وعشرين آية. وهذه السورة آياتها قصيرة، وفيها حكم عظيمة جداً، وفيها ذكر الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام كعادة السور المكية، فيذكر الله عز وجل فيها الأنبياء؛ لينبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنهم قد ابتلوا من قبله، وأن ما ابتلي به ليس شيئاً جديداً، وإنما هو سنة أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام. وفي هذه السورة تثبيت الله لنبيه صلوات الله وسلامه عليه، وكأن الله يقول له: كما ابتلي الذين من قبلك ثم نصرهم الله فكذلك أنت، فاطمئن إلى أن نصر الله قريب. وفيها تهديد للكفار والمشركين على ما يفعلونه مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع المؤمنين، وأنهم إما أن يؤمنوا وإما أن ينزل بهم العذاب والعقوبة من عند رب العالمين كما حدث مع الذين من قبلهم.

الكلام على الحروف المقطعة

الكلام على الحروف المقطعة بدأت هذه السورة بالحروف المقطعة، وهي: حرف الطاء والسين والميم، {طسم} [الشعراء:1]، فهذه السورة والتي تليها والتي تليها: الشعراء والنمل والقصص تسمى بسور الطواسم، يعني: التي فيها طسم، أو التي فيها: طس، وتسمى بالطواسين. فقوله تعالى: {طسم} [الشعراء:1] هي مثل غيرها من السور التي بدأها الله عز وجل بحروف مقطعة في أوائل السور، وما قيل في هذه السور فإنه يقال أيضاً في هذه السورة، وهو أن الله عز وجل بدأها بهذه الحروف بياناً للناس أن القرآن من جنس هذه الحروف التي تتكلمون وتنطقون بها، فأتوا بسورة من مثله، فهو تعجيز منه سبحانه لخلقه، فكأنه يقول: إن هذا القرآن ليس كلاماً أعجميعاً، ولا هو بلغة لا تعرفونها، بل هو بغلتكم أنتم، وأنتم الفحول والكبار في النطق باللغة العربية خطابة ونثراً وشعراً، فأتوا بكلام مثله، أو فأتوا بسورة من مثله، أو فأتوا بعشر سور من مثله مفتريات، فلم يقدروا على شيء. وقيل: إن هذه الحروف المقطعة التي في أوائل السور هي مسميات للسور، فتسمى السورة بها، فيقال: سورة طسم الشعراء، والتي تليها سورة طس النمل، والتي تليها سورة طس القصص، وقيل: بل إنها أقسام يقسم الله عز وجل بها. وقيل: بل إنها افتتاح للسور لشد انتباه الكفار؛ لأنهم لم يتعودوا على هذا الشيء، فعندما يقول: الم، فإنهم يسمعون للذي يقول، ويسمعون لهذا الكلام الغريب، فيتلوا عليهم بعد ذلك هذا القرآن العظيم، ولذلك لا يذكر في هذا القرآن العظيم فواتح للسور مثل: ألم، الر، طسم، طس، حم، وغيرها من الفواتح إلا ويذكر بعدها إشارة لهذا القرآن العظيم، كما قال تعالى في سورة البقرة: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1 - 2]، وكما قال في سورة آل عمران: {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [آل عمران:1 - 3]، وقال هنا: {طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الشعراء:1 - 2]، فكأنه يشد انتباه هؤلاء بحروف لا يفهمون معناها؛ من أجل أن يتعرفوا ما هو المقصود، فإذا سمعوا ذكر لهم ما يريده منهم هذا القرآن العظيم. وعلماء العد يقولون: إن كل سورة يبدأها الله عز وجل بفواتح من أحرف معينة فإن هذه الحروف تكون فيها أكثر عدداً من غيرها من الحروف، فلو عددت حروف هذه السورة فستجد أن الطاء والسين والميم أكثر حروف السورة تكراراً فيها. قال تعالى: {طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الشعراء:1 - 2]، وفي هذه السورة كرر الله عز وجل بعض الآيات فيها مرات، فكرر قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:8 - 9]، فقد كررها ثمان مرات في هذه السورة، فلا يذكر نبياً من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلا ويذكر هاتين الآيتين، فقد ذكر قصة موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وذكر بعده ذلك فقال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:8 - 9]. ثم ذكر إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ثم نوحاً، ثم هوداً، ثم صالحاً، ثم لوطاً، ثم شعيباً، وبعد أن يذكر كل قصة يقول: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:8 - 9]، فيكرر ذلك لتقرير هذا الأمر والتأكيد عليه، فإن في هذه آية لمن يعتبر، ففي كل قصة من قصص الأنبياء وما فعل الله عز وجل بأقوامهم آية من الآيات، ومع ذلك لم يكونوا مؤمنين، وكذلك من جاء من بعدهم لم يؤمنوا بما جاء قبل ذلك. وكذلك كرر الله سبحانه قوله: {أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:106] على لسان الرسل عليهم الصلاة والسلام، فقد ذكر ذلك في خمسة مواضع من هذه السورة: في قصة نوح، وفي قصة هود وفي قصة صالح، ولوط، وشعيب. وكذلك كرر قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:108] في قصة نوح وهود وصالح. والمقصد من ذلك التأكيد والتقرير لماذا أرسل الله الرسل، وأنه أرسلهم لبيان شرع رب العالمين، ولهداية الناس للإيمان بربهم، وأن يطاعوا ولا يعصوا.

تفسير قوله تعالى: (طسم تلك آيات الكتاب المبين)

تفسير قوله تعالى: (طسم تلك آيات الكتاب المبين) وقد بدأ سبحانه وتعالى هذه السورة بقوله سبحانه: {طسم} [الشعراء:1]، فقراءها شعبة عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف بالإمالة للطاء، {طِسم} [الشعراء:1]، والطاء لا تمد إلا مداً طبيعياً، وتمد السين مداً طويلاً بمقدار ست حركات، وكذلك الميم. وتدغم السين في الميم عند الجمهور، وحمزة ينطقها بنونها ولا يدغمها. وأما أبو جعفر فكعادته في كل هذه الفواتح التي في أوائل السور فإنها يقرأها حروفاً مفرقة ولا يوصلها ببعضها؛ من أجل أن يبين أنها ليست كلمة، بل هي حروف مقطعة. قوله تعالى: ((تِلْكَ)) إشارة للبعيد، والمقصود منها التعظيم للآيات العظيمة، {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الشعراء:2] يعني: هذه الآيات العظيمة التي نتلوها عليكم هي آيات الكتاب المعهود الذي نزل من عند رب العالمين، وهي القرآن المبين المفصح عما فيه، البين الواضح الذي فيه الحجج، وفيه النور، وكلامه بيِّن ليس غامضاً، ولا يوجد فيه إشكال، بل تفهمون ما يقوله لكم.

تفسير قوله تعالى: (لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين)

تفسير قوله تعالى: (لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين) ثم وجه الخطاب للنبي صلوات الله وسلامه عليه مواسياً له، فقال تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:3]، فقوله: ((بَاخِعٌ)) أي: قاتل ومهلك، فيقول للنبي صلى الله عليه وسلم: أنت ستقتل نفسك من أجلهم وهم لا يستحقون هذا الشيء، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى ربهم سبحانه وتعالى فإذا بهم يعرضون عنه ويكذبونه، فكان يحزن حزناً شديداً صلوات الله وسلامه عليه، فكأنه تعالى يقول له: إذا حزنت حزناً شديداً فإنك في آخر الأمر ستقتل نفسك غماً وكمداً، ولن تبلغ هذه الرسالة، ولكن اصبر وتسلى بما جاءك من عند ربك، وصابر على ذلك، وادعهم مرة ومرتين وثلاثاً، ولا تهلك نفسك من أجلهم. وهذه الآية كقوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6] أي: ستقتل نفسك عليهم؛ لكونهم لم يؤمنوا بهذا الحديث، من شدة أسفك عليهم، فهذا في سورة الكهف، وقال هنا: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:2 - 3] أي: بسبب عدم إيمانهم، {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء:4] أي: لو شئنا أن يؤمنوا قسراً وقهراً لأنزلنا عليهم معجزة حسية من السماء يرونها، فتكون آية من آيات رب العالمين، وعذاباً وهلاكاً عليهم، فنهلك بعضهم حتى يؤمن الباقون، فنريهم الملائكة عياناً تخويفاً لهم، فيؤمنون قهراً، ولكن لا نريد ذلك، بل نريد أن يؤمنوا وقد نظروا إلى آيات الله عز وجل المتلوة، فيعرفون ما يخبرهم به ربهم سبحانه، فيؤمنون على الغيب وليس على الشهادة؛ لأن الإيمان على الشهادة لا ينفعهم؛ لأن هذا ليس هو الإيمان بالغيب الذي يريده الله عز وجل؛ ولذلك قال: لو أردنا لأنزلنا عليهم آية بينة، ولأريناهم الجنة، ولأريناهم النار، ولأريناهم الملائكة، ولأنزلنا عليهم آيات من السماء فآمنوا قهراً وجبراً.

تفسير قوله تعالى: (إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية)

تفسير قوله تعالى: (إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية) فقال تعالى: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ} [الشعراء:4] أي: لو أردنا لفعلنا، ولكن لا نريد ذلك، وقوله تعالى: {نُنَزِّلْ} [الشعراء:4] هذه قراءة الجمهور، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب: ((نُنَزِّلْ)). وقوله تعالى: ((عليهم)) قرأها حمزة ويعقوب: (عليهُم) في كل القرآن وقرأ الباقون: (عليهِم). قال تعالى: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً} [الشعراء:4] أي: هم يكذبون بنزول القرآن من السماء، ولو أردنا وشئنا لنزلنا عليهم آية يرونها نازلة من السماء، وهي إما عذاب نعذب به بعضهم، وإما آيات ومعجزات يرونها حسية أمامهم، فلو أردنا لفعلنا، وإن كان الله قد فعل أشياء من ذلك ولم تكن للجميع، وذلك مثل مسألة انشقاق القمر، قال تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1].

معجزة انشقاق القمر

معجزة انشقاق القمر فقد طلب بعضهم من النبي صلى الله عليه وسلم معجزة حسية يرونها، وقالوا له: إذا كنت رسولاً فاجعل القمر ينشق، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم ربه سبحانه، وأشار صلوات الله وسلامه عليه إلى القمر، فانفلق القمر فلقتين، فكان آية من السماء، ولكن لم تكن لكل الكفار، بل كانت للبعض الذين كانوا مستيقظين في هذه الليلة، ولو كانت للجميع فكفروا لنزل عليهم العذاب من عند رب العالمين، فرأى هؤلاء ذلك ثم قالوا: إنما سحر أبصارنا بهذه الشيء، فقال بعضهم لبعض: إن كان سحر أبصارنا فإنه لم يسحر أبصار الذين يأتون من رواء الجبل، فانتظروا حتى يقدم قادم فنسأله، فجاءت القوافل من رواء الجبل وسألوهم: هل رأيتم القمر في ليلة كذا قد انشق؟ فقالوا: رأيناه انفلق ثم رجع مرة أخرى. فهذه معجزة من معجزات النبي صلوات الله وسلامه عليه، وكان البعض من المسلمين ينكرون ذلك، ويتأولون قوله تعالى في الآية: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1] أنه في يوم القيامة سيكون هذا الشيء، وأما في الدنيا فلا، ويردون الأحاديث التي جاءت في انشقاق القمر إلى أن أثبت الكفار ذلك فرجعوا إلى عقولهم، فقد ذكر الكفار: أنه لما طلعت بهم سفن الفضاء إلى القمر -وهذا نقل زغلول النجار - نظروا فيه وبحثوا فرأوا في القمر شقاً بطول القمر كله، فقالوا: هذا الشق دليل على أنه انفلق في يوم من الأيام، والتحم مرة أخرى. قال الله عز وجل: {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]، والنبي صلى الله عليه وسلم قد ذكر ذلك، فقد جاءت الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم بأنه أشار إلى القمر فانفلق، ومع ذلك لم يؤمن هؤلاء الكفار إلا لما شاء الله عز وجل لهم. فيقول سبحانه هنا: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء:4]، فالإنسان المتكبر يكون رافعاً رأسه إلى أعلى؛ استكباراً على الخلق، وأما الإنسان المذلول فيكون ثانياً رقبته إلى أسفل، فالمقصود هنا بقوله تعالى: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء:4] أي: خضعت الأعناق وذلت بهذه الآية التي جاءت من عند رب العالمين سبحانه، فلو شئنا لفعلنا ذلك فألزمناهم الإيمان قهراً، وجعلناهم خاضعين ذليلين فيدخلون في هذا الدين، ولكن لم نرد ذلك.

تفسير قوله تعالى: (وما يأتيهم من ذكر من ربهم الرحمن محدث)

تفسير قوله تعالى: (وما يأتيهم من ذكر من ربهم الرحمن محدث) قال تعالى: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} [الشعراء:5] أي: وما يأتي هؤلاء الكفار من ذكر من عند الرحمن، ولم يقل: من الله ولكن قال: من الرحمن؛ لبيان فضله ورحمته سبحانه، ولم يقل: من الرحيم؛ لأن الرحمن صيغة مبالغة، وفيها رحمة ربنا بالعالمين كلهم المسلمين والكفار. وأما الرحيم ففيها صيغة المبالغة في رحمة رب العالمين الخاصة بالمؤمنين، كما قال تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43]، فهنا ناسب أن يذكر الرحمن لرحمته للخلق، فقد رحم خلقه، فأنزل الكتب، وأرسل الرسل لجميع الخلق، ولم يميز بعضهم عن بعض، حتى تكون حجة رب العالمين على الخلق جميعهم. {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ} [الشعراء:5]، فالقرآن كلام رب العالمين، وكلام رب العالمين صفة من صفاته ليست محدثة، بل هي صفة قديمة من صفات رب العالمين، فقد أخبر أنه يتكلم سبحانه، وقد تكلم الله عز وجل بالقرآن قبل أن يخلق السموات والأرض، فهذا القرآن كلام رب العالمين سبحانه. وهنا يذكر أنه محدث، أي: محدث النزول، فقد نزل إلى السماء الدنيا، ثم نزل على النبي صلى الله عليه وسلم، إذاً: فتجدد النزول يكون باعتبار الحوادث، وإلا فهو كلام قديم من قبل النبي صلى الله عليه وسلم، ومن قبل الأنبياء من قبله عليهم الصلاة والسلام. قال سبحانه: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ} [الشعراء:5] يعني: نزول هذا القرآن هو المحدث؛ لأن مجيء جبريل عليه السلام به كان بحسب الحوادث، فإذا حدثت حادثة نزل جبريل عليه السلام بآيات من كتاب الله سبحانه. ثم قال تعالى: {إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} [الشعراء:5] أي: أن الكفار يعرضون عما جاء فيه. ثم قال تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُوا} [الشعراء:6] أي: فعلوا ذلك. {فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الشعراء:6] أي: سيأتيهم من عند رب العالمين أخبار ما كانوا به يستهزئون، فقد كانوا يستهزئون بأنك ستنتصر عليهم وسيكون ذلك، وكانوا يستهزئون بأنهم سيغلبون وسيكون ذلك، وكانوا يستهزئون بأنهم سيموتون ويبعثون، وسيكون ذلك، فهذه أنباء ما كانوا به يستهزئون، فإنه آت. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الشعراء [1 - 13]

تفسير سورة الشعراء [1 - 13] يخبر الله سبحانه وتعالى في أول سورة الشعراء عن آيات القرآن العظيم، ويصف القرآن بأنه بين واضح جلي، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ لأنه تنزيل من حكيم حميد، وهذا القرآن هو أكبر وأعظم معجزة أنزلت على نبينا صلى الله عليه وسلم، ثم بين سبحانه حال المشركين المكذبين بهذا القرآن، وما دل عليه من البعث والنشور وتكذيبهم بذلك، فنبههم سبحانه إلى النظر في كيفية إخراج النبات من الأرض الميتة، لعلهم يؤمنون بأن الله قادر على أن يبعثهم مرة أخرى للجزاء والحساب.

تفسير قوله تعالى: (طسم تلك آيات الكتاب أنباء ما كانوا به يستهزئون)

تفسير قوله تعالى: (طسم تلك آيات الكتاب أنباء ما كانوا به يستهزئون) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الشعراء: {طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ * وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ * فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الشعراء:1 - 6]. ذكرنا في الحديث السابق أن هذه السورة من السور المكية، والسور المكية لها خصائص منها: أنها تهتم بأمر العقيدة والتوحيد، وذكر ابتلاء الرسل عليهم الصلاة والسلام، وذكر ما فعل الأقوام مع المرسلين، وما فعل الله عز وجل عقوبة لهؤلاء، فأنزل بهم عذابه وبطشه سبحانه وتعالى. في هذه السورة يقول الله سبحانه وتعالى: ((تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ)) أي: هذه الآيات التي نتلوها عليك هي آيات هذا القرآن العظيم البين الواضح الحجة، الذي يفهمه من يسمعه فلا يحتاج إلى بيان، فهو بين بذاته، وهو نور وبرهان من الله سبحانه وتعالى. قال الله تعالى: ((لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ))، يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: لعلك مهلك نفسك إذا لم يؤمنوا بهذا القرآن العظيم، لا، لا تهلك نفسك على آثارهم، ولا تهتم لكفرهم، ولكن عليك أن تدعوهم، فليس عليك إلا أن تبلغ رسالة رب العالمين سبحانه، أما أن يهتدوا أو لا يهتدوا فليس هذا شأنك، وإنما هو بيد الله سبحانه وتعالى. ((إِنْ نَشَأْ ننزل)) أي: لو أردنا أن نلزمهم هذا الإسلام ونلزمهم بالإيمان لجعلناه قهراً وقسراً أن يؤمنوا، ولو شئنا لنزلنا ((عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ)) أي: خاشعة وذليلة، ولكن الآية التي جاءت من عند رب العالمين إلى هؤلاء هي هذا القرآن العظيم المعجز، وقد تحداهم الله عز وجل به أن يأتوا بكتاب مثله، أو أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات، أو أن يأتوا بسورة من مثله، فما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. قال سبحانه: ((وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ)) أي: ما يأتيهم من آيات ومن قرآن فإنه من عند رب العالمين، قوله: ((مُحْدَثٍ)) أي: جديد في نزوله، وقد نزل به جبريل من عند رب العالمين ليخبرهم بهذه الحادثة وهذه الواقعة، وإلا فالقرآن قديم من قبل ذلك. قال سبحانه: ((فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون)) أي: هؤلاء المشركون قد أعرضوا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كذبوه فيما جاء به من عند ربه، فيهددهم الله سبحانه بقوله: ((فسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون))، فقد كانوا يستهزئون بالموت، وبالبعث وبالنشور، وبالحساب، وبانتقام الله عز وجل منهم، وبوعده للمؤمنين أن يمكن لهم، فسيأتي نبأ هذا كله، ففي يوم من الأيام سيموتون ويرجعون إلى ربهم ويعلمون كيف كانوا يستهزئون بما هو الحق من عند رب العالمين، ولذلك قال لهم: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة:82]. كم ضحك الكفار مستهزئين بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ وكم بكوا بعد ذلك لما لقوا ربهم؟ ولذلك وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قليب بدر في يوم بدر وقد ألقيت فيه جثث الكفار رءوس الكفر، وقف يناديهم: (هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟) أي: هل وجدتم الآن وأنتم في هذا القليب في هذا البئر المطمور عليكم هل رأيتم ما وعد الله عز وجل من نصر الإسلام والمسلمين، ومن خذلانكم، ومن عذابكم؟! (فقال عمر: يا رسول الله! كيف يسمعون وقد بليت أجسادهم؟ فيقول له: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم)، فقد أسمعهم الله عز وجل ما قال النبي صلوات الله وسلامه عليه لهم، فجاءتهم أنباء ما كانوا به يستهزئون. فهذه السورة مكية، وهي تتهدد هؤلاء الذين كذبوا رسوله وكذبوا كتابه، وفعلاً حدث بعد ذلك بهم ما أخبر الله به، وصدق الله العظيم سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا وإن ربك لهو العزيز الرحيم)

تفسير قوله تعالى: (أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا وإن ربك لهو العزيز الرحيم) قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} [الشعراء:7]، فقد كانوا يستدلون على النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم سيصيرون جيفة وسيموتون ولا يبعثون، فقد جاء في الحديث: (أن أحد المشركين ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه عظم من رأس إنسان ميت ففركه أمام النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: تزعم أن ربك يبعث هذا؟ قال: نعم يبعثه ويدخلك النار). فربنا يقول لهؤلاء الحمقى والمغفلين: انظروا إلى النبات الذي نخلقه، فهو يخرج نضراً وفيه الثمار من عند رب العالمين سبحانه وتعالى، وبعد ذلك يصير يابساً جافاً، ثم يموت بعد ذلك، ويخلق الله عز وجل غيره، فهل رأيتم إلى الأرض وهي ميتة حين ينزل عليها الماء من السماء كيف تنبت من كل الثمرات؟ أليس الذي أنبتت ذلك قادراً على أن يعيدكم مرة أخرى؟! لم لا تنظرون! قال سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا} [الشعراء:7]، فكل نبتة تخرج من الأرض وكل حبة يجعلها الله عز وجل آية لكم، وفي كل ثمرة توجد آية للعباد. قوله: ((كم أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ)) أي: من كل صنف من الأصناف. قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} فالله عز وجل هو الذي خلق ورزق، وهو الذي قدر كل شيء، وهو الذي أخرج لكم كل شيء، فهو بهذا ينبهكم على عظمته وقدرته، وأنكم لو نظرتم بعيونكم وتفكرتم بقلوبكم لعلمتم أن الذي يخلق هذا النبات: فتخرج النبتة، ثم تكون الحبة، ثم تأخذ أنت هذه الحبة وتضعها في الأرض فإذا بالله ينبتها مرة ثانية، ويخرج منها ما يشاء من فضله سبحانه قادر على إعادتكم، فهذه آيات ليل نهار يراها الإنسان أمامه، {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:40] فقد أخرج لكم {مِنْ كُلِّ زَوْجٍ} [الشعراء:7]، أي: من كل صنف ونوع من الأنواع متشابه وغير متشابهة، {كَرِيمٍ} [الشعراء:7] أي: حسن شريف. وأصل الكرم في اللغة: الشرف، وبمعنى الفضل، فيقال: هذه نخلة كريمة، يعني: تؤتي ثمرها اللذيذة الطعم، فهي نخلة كريمة فاضلة كثيرة الثمار، ورجل كريم أي: شريف فاضل صفوح يعطي، فهنا أخرج الله لكم من النبات من كل زوج كريم، فأكرمكم الله بذلك، وأعطاكم من وفير ما خلق لكم، ألا تبعدونه سبحانه؟! قال تعالى: ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وما كان أكثرهم مؤمنين))، هذه الآية يكررهما الله عز وجل في القرآن عدة مرات، كلما ذكر قصة قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:8 - 9]، فيكرر ذلك لتتدبروا في كل آية، والله عز وجل في كتابه إذا أراد أن يعظ الخلق كرر لهم ذلك، كما كرر في سورة الرحمن واحداً وثلاثين مرة قوله: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13]، فكان كلما ذكر نعمة للإنس وللجن قال: ((فَبِأَيِّ آلاءِ)) أي: بأي نعمة من نعم الله تكذبون بها؟ وهنا يذكر لنا الآيات ويكرر كذا مرة ويقول: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:8 - 9]. قوله: ((وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ))؛ وذلك لأنهم لا يتفكرون ولا يوقنون ولا يؤمنون بأن الله وحده هو الذي يستحق العبادة، ولذلك قال لنا في الآية الأخرى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116]، وقال سبحانه: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103] أي: أكثر الناس من أهل الباطل، وأهل الحق قليلون، ولذلك في يوم القيامة ينادي ربنا سبحانه آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام ويقول: (يا آدم! أخرج بعث النار، فيقول: وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار، وواحداً إلى الجنة). وقال سبحانه هنا: ((وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ)) أي: الأكثرون هم الذين يعرضون ويكذبون، والأقلون هم المؤمنون، فالحمد لله على نعمة الإسلام والإيمان. يقول سبحانه: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:9] أي: وإن كان أكثرهم كافرين فلا يحتاج إليهم ربهم سبحانه؛ لأنه الغني سبحانه، فهو مستغن عنهم وعن عبادتهم إنه العزيز القوي القاهر الذي لا يغالب أبداً سبحانه. ((وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ)) فبدأ بعزته سبحانه وتعالى واستغنائه عن خلقه، ثم عقب بذكر رحمته، وإن كان الغالب في كتابه أن يبدأ بالرحمة قبل ذكر صفات العزة والقوة، ولكن هنا لما ذكر أن أكثرهم كافرون فالمناسب ذكر عزته وقدرته وقوته سبحانه. قوله: ((الرَّحِيمُ)) فرحمته خاصة بالمؤمنين، فيعذب الكافرين ويرحم المؤمنين.

تفسير قوله تعالى: (وإذ نادى ربك موسى فأرسل إلى هارون)

تفسير قوله تعالى: (وإذْ نادى ربك موسى فأرسل إلى هارون) لقد ذكر سبحانه بعد ذلك قصة موسى صلوات الله وسلامه عليه، وقصة موسى تكررت في القرآن في مواطن كثيرة من القرآن، وموسى عليه الصلاة والسلام كان صاحب شريعة قبل نبينا صلوات الله وسلامه عليه، فذكر موسى وذكر محمد للتشابه، يعني: أن كليهما هذا صاحب شريعة، وهذا يدل على أن عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام جاء مكملاً ومتمماً لما جاء به موسى صلوات الله وسلامه عليه، فقد جاء ليحل لهم بعض الذي حرم عليهم، وليحكمهم بالتوراة التي جاء بها موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وجاء عيسى بالإنجيل وهو كتاب مواعظ وليس شريعة، لكن التوراة هي التي حكم بها المسيح صلوات الله وسلامه عليه، ولذلك لما يذكر ربنا القرآن يقول لنا: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً} [هود:17]، أي فهناك تشابه بين القرآن وكتاب موسى، لكن القرآن أعظم كتب الله سبحانه وتعالى، وهو ناسخ لغيره من الكتب إلى قيام الساعة، وهو الذي يعمل به إلى قيام الساعة، وإذا نزل المسيح حكم بهذا القرآن العظيم. فيقول ربنا سبحانه وتعالى هنا: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الشعراء:10]، قوله: (وإذ) أي: اذكر وقت، قوله: (وإذ نادى ربك موسى) هذه القصة قصة عجيبة جداً بطولها في القرآن، فكلما قرأت في موضع تجد فيها أشياء موجودة في مكان آخر وأشياء غير موجودة، فالإنسان في هذه القصة يجد أنها تكررت في القرآن، في سورة البقرة تجد ذكر موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وفي سورة الأعراف، وهود، ويونس، وطه، والقصص، والشعراء، والنمل، ومع كثرة ذكر قصة موسى فإنك لا تمل من القراءة، فإنك عندما تقرأ القصة في موضع تتبين أشياء وتكتسب معرفة لم تكن تعرفها قبل ذلك، بخلاف لو أنك تقرأ قصة يكتبها إنسان مرة ومرتين وثلاثاً فإنك تمل منها، لكن القرآن لا يمل منه قارئه أبداً، فكلما قرأ يجد شيئاً جديداً لم يكن ينتبه له قبل ذلك. إن قصة موسى ذكرت قبل ذلك مراراً في عدة سور من القرآن، وفي كل سورة يذكرها بما يناسب السورة التي ذكرت فيها، فأنت حين تقرأ القصة في سورة الأعراف تجد القصة متسلسلة معها، وكذلك عندما تقرأ القصة في سورة طه تجد القصة متسلسلة معها، وهنا في هذه السورة كذلك، فسبحان الله! ما أعظم هذا القرآن وما أجمله! فتجد القصة لا تتنافى أبداً مع السياق الكلي للسورة، فهي متسلسلة على نمط معين. فهنا قبل ذكر القصة قال الله سبحانه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ} [الشعراء:8 - 13]، فتجدها منسقة على نفس الوزن الذي عليه السورة جميعها. فيذكر ربنا سبحانه وتعالى هنا أن موسى عليه الصلاة والسلام أمره ربه {أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الشعراء:10] أي: بعدما صار رسولاً عليه الصلاة والسلام، وفي سورة القصص يذكر لنا قصته من ولادته، وكيف كان فرعون يقتل الأولاد من بني إسرائيل، وأما هنا فأراد ذكر شيء معين ألا وهو ذكر الرسالة، فنبه بها واستطرد فيها، وذكر كيف أن موسى عليه السلام أقام الحجة على فرعون، وكيف أنه وقف صلباً أمامه يجادله ويقرعه بالحجة، ولا يخاف منه؛ لأن الله قد ثبته عليه الصلاة والسلام.

الهدف من ذكر الله قصة موسى وغيره للنبي صلى الله عليه وسلم

الهدف من ذكر الله قصة موسى وغيره للنبي صلى الله عليه وسلم إن الغرض من ذكر قصة موسى عليه السلام هو تطمين النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيته، أي: كما ثبتنا موسى فإننا نثبتك، وكما نصرنا موسى فسننصرك، وكما هزمنا فرعون وجنوده فسنهزم هؤلاء، فاطمئن بذلك، واقرأ هذا القرآن تزدد إيماناً ويقيناً. قوله: {إِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الشعراء:10] أي: نادى ربنا موسى وهو راجع من مدين متوجهاً إلى طور سيناء، فالله عز وجل جعله يرى في الظلام شجرة من بعيد فيها نار، فلما ذهب إليها وجد في هذه شجرة ناراً فأراد أن يأخذ منها قبساً، فناداه ربه سبحانه وتعالى هنا: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:12 - 14]، وأمره الله عز وجل بالتوجه إلى فرعون، فطلب موسى من ربه سبحانه أن يجعل معه أخاه هارون وزيراً، وهنا السياق يذكر ذلك. ((َإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)) من هؤلاء؟ قال: {قَوْمَ فِرْعَوْنَ} [الشعراء:11] والظلم الذي كان فيه فرعون هو الكفر بالله سبحانه، وادعاء الربوبية مع الرب العظيم سبحانه وتعالى، بل إنكار ربوبية رب العالمين، وزعمه ذلك لنفسه، قوله: ((قَوْمَ فِرْعَوْنَ)) وهم القبط الذين كانوا في مصر، فأهل مصر كانوا يسمون بالأقباط، فأمر موسى أن يتوجه إلى فرعون وإلى أهل مصر ليدعوهم إلى الله الرب الخالق سبحانه وتعالى؛ ليعبدوه وحده لا شريك له. قوله: ((أَلا يَتَّقُونَ)) ربهم سبحانه، قال موسى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ} [الشعراء:12 - 13]، هنا في هذه القصة اختصر أشياء، وقد ذكرها لنا في سورة طه، فذكر أنه لما جاء إلى هذه الشجرة ناداه ربه سبحانه وتعالى وقال له في خطابه: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:17 - 18]، أما هنا فذكر أن موسى لما أمره ربه أن يتوجه إلى فرعون ليدعوه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} [الشعراء:12] أي: أخاف من فرعون؛ لأنه خرج من مصر بعدما قتل القبطي وهو من أتباع فرعون، قتله موسى وخرج هارباً، وسبب قتْله لأنه كان يختصم ويتشاجر مع رجل من بني إسرائيل، وموسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام لم يقصد قتله، ولم يكن بعد قد نبئ ولا أرسل عليه الصلاة والسلام، بل كان رجلاً من الناس، ولكن الله عز وجل بفضله وبرحمته عفا عنه وغفر له سبحانه، وموسى أراد يخلص الإسرائيلي من القبطي فوكزه بيده وكان قوياً فقتله، فلما قتله استغفر وتاب إلى ربه سبحانه وتعالى، ثم إنه خرج هارباً من فرعون؛ لئلا يقتله بهذا الذي قتله، فقال هنا لربه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} [الشعراء:12]، وهذه قراءة الجمهور، ويقرأها نافع وأبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو: ((إِنِّيَ أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ)) وقوله: (يكذبون) يقرؤها يعقوب: ((أَنْ يُكَذِّبُونِي)). قوله: {وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ} [الشعراء:13]، فطلب من ربه سبحانه أن يجعل معه أخاه هارون نبياً، فمن الله عز وجل عليه وجعل هارون نبياً مع أخيه موسى. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الشعراء [10 - 22]

تفسير سورة الشعراء [10 - 22] يخبر الله تعالى عما أمر به رسوله وكليمه موسى عليه السلام حين ناداه من جانب الطور الأيمن، وكلمه وناجاه، وأرسله واصطفاه، وأمره وأخاه بالذهاب إلى فرعون وقومه، وكيف أنه سبحانه أيده بتحويل العصا إلى حية، ففزع موسى وخاف، وما هذا إلا ليثبته ويجعله قادراً على مواجهة المفزعات، بحيث يذهب إلى فرعون وهو مطمئن، وعنده القدرة على مواجهته ودعوته إلى عبادة الله وحده، وإطلاق بني إسرائيل من أسره وعبوديته.

تفسير قوله تعالى: (وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين)

تفسير قوله تعالى: (وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الشعراء: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ * وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ * قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ * فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ * قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ * فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:10 - 21]. في هذه الآيات من سورة الشعراء يذكر الله سبحانه وتعالى قصة موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وقد ساقها في القرآن في مواضع كثيرة، وفي كل موضع يذكر من القصة الشيء الذي يناسب هذه السورة ويناسب هذا الموضع. فهنا يذكر قصة تكليف الله عز وجل موسى بالرسالة، وأن يتوجه إلى فرعون ليدعوه إلى الله سبحانه وتعالى، فقال عز وجل: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الشعراء:10]، وهنا لم يوضح لنا أين ناداه، لكن في سورة القصص يذكر الله سبحانه وتعالى أين ناداه، حيث يقول: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} [القصص:29] يعني: أن موسى كان عند الطور في جبل سيناء يقال فيه: طور سِيناء وسَيناء وسينين، وهو الجبل المبارك، أو الأرض المباركة، أو المكان المبارك. {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ} [القصص:29] أي: كان راجعاً هو وزوجته، {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} [القصص:29]، وكأنه كان في وقت برد شديد وفي ليل مظلم والمكان مخيف، فاستأنس من وحشته بنار في مكان بعيد، فتوجه إليها؛ ليأتي منها بقبس من نار، {قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا} [القصص:29] أي: ابقوا في هذا المكان وأنا سأتوجه وحدي إلى هذه النار، قال: {إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [القصص:29]. كأنه كان تائهاً لا يعرف، فلعله يأتي من عند هذه النار بخبر عن الطريق، أو يأتي بقبس من نار يستنيرون ويستدفئون به؛ {فَلَمَّا أَتَاهَا} [القصص:30] أي: جاء إلى هذا المكان الذي فيه النار، {نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ} [القصص:30] أي: من جانب الواد الأيمن، {فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} [القصص:30]، فإذا بشجرة فيها نار تضطرم فيها وهي خضراء، فالله عز وجل ناداه لما وصل إليها: {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص:30]. وقال في سورة الشعراء: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الشعراء:10]، وهناك في القصص ناداه الله عز وجل: {أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} [القصص:30 - 31]. يعني: بدأ الابتلاء من الله عز وجل لموسى والاختبار، ثم التثبيت والإخبار أنه رسول رب العالمين عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وكذا حدث مع نبينا صلى الله عليه وسلم، فلم يقل له جبريل مباشرة: أنت رسول، وإنما ألقى في روعه ذلك، ولكن كان الاختبار في البداية والتدريب والتمرين حتى يثبت صلوات الله وسلامه عليه، فهنا موسى ذهب وتوجه وحده وترك أهله خوفاً عليهم، وليكون النداء له وحده ليسمع كلام رب العالمين وحده، فهو الرسول عليه الصلاة والسلام، فلما توجه إلى ذلك المكان جاء النداء من رب العالمين، ففزع موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فطمأنه ربه وقال: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [طه:12 - 13]، فهنا وحي من الله، ولكن قبل ذلك ثبته بأن أراه معجزة أمامه؛ ليعلم أن الذي يناديه هو ربه سبحانه، أو مناد من عند ربه سبحانه وليس شيطاناً وليس جاناً يفزعه في هذا المكان، لذلك قال له ربه سبحانه: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} [القصص:31] أي: ارم العصا التي في يدك، {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ} [القصص:31] أي: كأنها حية ألقى العصا {وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} [القصص:31] أي: ولى فاراً ولم ينظر وراءه من شدة الفزع والخوف، {يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ} [القصص:31]. فلما أراه آية ومعجزة خاف منها موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فأراد الله أن يطمئنه ويثبته، ولو كانت هذه المعجزة حصلت أمام فرعون للمرة الأولى فسيخاف فرعون وموسى أيضاً، ولكن الله عز وجل أرى موسى هذه الآية في ظلمة الليل في مكان موحش وهو وحده عليه الصلاة والسلام، والعصا تتحول إلى ثعبان أمامه؛ حتى لا يفزع حين يذهب إلى فرعون ليريه هذه الآية. ثم قال تعالى: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [القصص:32] أي: ضع يدك في جيب قميصك، والجيب هو مكان دخول الرأس من القميص، فكان يضع يده في جيب قميصه فيخرجها بيضاء لها شعاع كالشمس في الليل، فيعجب موسى لذلك، فيطمئنه ربه سبحانه وتعالى ويقول له: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} [القصص:32] أي: إذا خفت فضم يدك إلى جناحك إلى جنبك يذهب عنك هذا الخوف، فذهب الخوف عن موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام. ثم قال له ربه سبحانه: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ} [القصص:32] ليس لك أنت؛ لأنك قد عرفت، ولكن {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [القصص:32] أي: اذهب بهذه الآيات إلى فرعون وقومه. ففي سورة القصص أطال ذكر القصة، واختصرها هنا في سورة الشعراء.

تفسير قوله تعالى: (قوم فرعون ألا يتقون إني أخاف أن يكذبون)

تفسير قوله تعالى: (قوم فرعون ألا يتقون إني أخاف أن يكذبون) {قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ} [الشعراء:11] أي: أليس يتقون ربهم ويخافونه سبحانه وتعالى؛ لئلا ينزل بهم العذاب والنكال؟ فبعدما اطمأن موسى وعلم أن الذي يخاطبه هو الله عز وجل، ورأى المعجزات البينات، بدأ يطلب من ربه سبحانه الإعانة فقال: {رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} [الشعراء:12] أي: أخاف من فرعون ومن معه أن يكذبوني، فهو كان يعرف أنهم سيكذبونه، فقد ذكر الله لنا في سورة طه وفي سورة القصص أنه تربى في بيت فرعون، وبهذا يكون قد عرف طبيعة فرعون، وما الذي يمكن أن يجابهه به، وكذلك قد عرف الملأ من قوم فرعون وما الذي يمكن أن يواجهونه به، فلذلك بدأ بذلك وقال لربه: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} [الشعراء:12]، وقراءة يعقوب: ((إني أخاف أن يكذبوني)).

تفسير قوله تعالى: (ويضيق صدري ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون)

تفسير قوله تعالى: (ويضيق صدري ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون) قال الله تعالى: {وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ} [الشعراء:13]. كأنه يقول: وإني يضيق صدري، ولذلك رفعت هنا على الاستئناف أو القطع عما قبلها، {وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي} [الشعراء:13]، فقد كان في لسانه لثغة وثقل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وموسى عليه الصلاة والسلام كانت فيه حدة، وكان يغضب بسرعة، ولذلك عندما غضب على القبطي وكزه موسى عليه الصلاة والسلام فقتله. فهنا يقول لربه: أنا أخاف من نفسي وأخاف على نفسي، فأخاف أن يكذبوني، وأيضاً أخاف أن يضيق صدري بسرعة، وأيضاً عندي لثغة في لساني فلا ينطلق لساني، فلا أستطيع الكلام معهم، {فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ} أي: اشدد أزري بأخي هارون يكون معي، وجاء في سورة القصص قال: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا} [القصص:34] أي: يتكلم أحسن مني؛ لأن موسى كانت فيه لثغة في لسانه من صغره عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. وكان سببها: أنه لما كان في بيت فرعون حمله فرعون، فإذا بموسى يشده من لحيته فيغضب فرعون ويريد قتله، فإذا بزوجة فرعون تقول له: إنه صبي لا يفهم، لكن فرعون كان مصراً على أن يقتل الصبي، فقالت له: أعطه جوهرة وأعطه جمرة وانظر أيهما سيأخذ؟ فالله عز وجل جعله يأخذ الجمرة من النار ويضعها على لسانه، فأصيب بلثغة في لسانه، حتى أصبح لا يجيد التعبير، ويثقل النطق على لسانه، ولذلك دعا ربه فكانت معجزة أخرى من معجزاته عليه الصلاة والسلام: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه:25 - 28]، ثم قال له ربه بعد ذلك: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه:36]. فهنا في هذه الآيات يقول لربه سبحانه: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي} [الشعراء:12 - 13]، وهذه قراءة الجمهور. وقراءة يعقوب: (ويضيقَ صدري ولا ينطلقَ لساني) بنصب الفعل، وكأنه عطف على أن خوفي من تكذيبهم وخوفي من أن يضيق صدري، وخوفي من ألا ينطلق لساني فلا أقدر على التبليغ، {فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ} [الشعراء:13]؛ لأنه أفصح مني لساناً، وقال أيضاً: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} [الشعراء:14]. قالوا: كان موسى عليه السلام أنفع أخ لأخيه في الدهر كله؛ لأنه طلب من ربه أن يجعل أخاه نبياً معصوماً؛ لأنه ما من نبي إلا وهو معصوم، وما من نبي إلا وهو في الجنة، فكان أعظم دعاء يدعوه أخ لأخيه هو هذا الذي دعاه موسى، واستجيب له في أخيه هارون عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام. فقوله: ((وَلَهُمْ)) يعني: لفرعون وقومه لهم، ((عَلَيَّ ذَنْبٌ)) أي: لهم علي قصاص، وهو أنه قتل القبطي، قال: ((فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ)) أي: أن يقتصون مني؛ لأني قتلت رجلاً منهم، وقراءة يعقوب: ((فأخاف أن يقتلوني)).

تفسير قوله تعالى: (قال كلا فاذهبا بآياتنا أن أرسل معنا بني إسرائيل)

تفسير قوله تعالى: (قال كلا فاذهبا بآياتنا أن أرسل معنا بني إسرائيل) قال الله تعالى: {قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} [الشعراء:15]، والآيات هي: العصا واليد، فاذهبا بهذه الآيات إلى فرعون وجنوده، قال سبحانه: ((إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ))، وقال في سورة طه: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] أي: أسمع ما تقولان وما يقال لكما، وأرى ما تفعلون. وقال سبحانه: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ} [الشعراء:16]، فأمر الله عز وجل بأن يذهبا أولاً إلى فرعون {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا} [الشعراء:16]، يعني: اذهبا إليه وقولا له: {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:16]، وهناك في طه أمر سبحانه أن يقولا له: {إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ} [طه:47] فهناك ذكر التثنية، وهنا ذكر الإفراد، وقد ذكر المفسرون أن سبب إفراد كلمة رسول: أن الأصل في ذلك هو موسى عليه الصلاة والسلام، فأفرد باعتباره هو الأصل الذي يبلغ، وقيل: لا، ليس هذا المقصود، بل إن الرسول يأتي بمعنى المرسل الذي يرسل، وتأتي بمعنى المصدر يعني: الرسالة، فإذا جاءت كلمة الرسول بمعنى الرسالة فلا تثنى ولا تجمع، فيكون للواحد، وللاثنين وللجمع، قالوا: وهذا مثل قول الله عز وجل عن إبراهيم: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:77] فهنا جاءت أيضاً على معنى المصدر، والمعنى: أعداء لي، فلما قصد المصدر كانت الصورة واحدة، فيقول: هذا عدو لي، وهذان عدو لي، وهؤلاء عدو لي، يعني: أن العداوة بيني وبينهم قائمة، وكذلك الرسالة هنا وكأنه يقول: إنا ذووا رسالة من عند رب العالمين، ((إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ)). وقيل: إنه صيغة فعول وفعيل يستوي فيهما المذكر والمؤنث، والواحد والجمع إذا قصد المصدر. وقال تعالى: {أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:17] يعني: جئناك بأن ترسل معنا بني إسرائيل. إذاً: فالغرض هو دعوة فرعون وجنوده إلى عبادة رب العالمين سبحانه، وأن يترك بني إسرائيل يخرجوا من مصر مع موسى وهارون على نبينا وعليهما الصلاة والسلام.

تفسير قوله تعالى: (قال ألم نربك فينا وليدا قال فعلتها إذا وأنا من الضالين)

تفسير قوله تعالى: (قال ألم نربك فينا وليداً قال فعلتها إذاً وأنا من الضالين) قال تعالى: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} [الشعراء:18]. انظر هنا إلى هذا الانتقال من أمر إلى آخر، فالمشهد الأول: أن موسى ما زال عند الشجرة، وأنه يخاطب ربه، وربه يأمره أنه يذهب إلى فرعون، وموسى يطلب من ربه سبحانه أن يبعث معه أخاه هارون، فأخبره الله عز وجل بأن أخاه سيكون معه، ثم وجه الاثنين: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى * قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى * فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ} [طه:43 - 47]، إذاً فهذا الخطاب كان في الأول مع موسى عند الشجرة، هذا هو المشهد الأول. المشهد الثاني: أن موسى توجه إلى أخيه وطلب من أخيه أن يكون معه؛ لأنه نبي، وجاءت المخاطبة من رب العالمين والتكليف للاثنين: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ} [طه:43] وهذا هو المشهد الثاني. المشهد الثالث: وهما في بيت فرعون، فاختصر هذا كله في الآيات، وانتقل من مشهد إلى آخر، وهذا من حسن التخلص، وهذا من أفصح وأبلغ ما يكون في اللغة، فهذا المشهد الثالث: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} [الشعراء:18]، فانتقل الآن إلى داخل قصر فرعون وفرعون يرد عليهم، فلا يوجد تكرار ممل، بل انتقل مباشرة إلى ذكر رد فرعون: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} [الشعراء:18]، وكأن فرعون يمن على موسى عليه الصلاة والسلام، ويقول: أنت جئت لتدعوني وأنا الذي ربيتك وجلست عندي هنا في بيتي وفي قصري سنوات، {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ} [الشعراء:19] يعني: قتلت القبطي من قومي، {وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الشعراء:19] أي: لنعمتي عليك، ولتربيتي لك، كأنه هنا جاحد لنعمته، فهذا هو معنى الكفر الذي يقصده فرعون، وليس الكفر بالله سبحانه وتعالى. قال موسى: {فَعَلْتُهَا} [الشعراء:20] أي: حصل مني هذا الشيء ولست كافراً، ولم أجحد نعمة، ولم أكفر بالله رب العالمين سبحانه، {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء:20] أي: ما كنت رسولاً من عند رب العالمين سبحانه، وما قصدت أن أقتل هذا الإنسان، ولكني أخطأت، فالضلال يأتي بمعنى الخطأ، ويأتي بمعنى التيه.

تفسير قوله تعالى: (ففررت منكم لما خفتكم أن عبدت بني إسرائيل)

تفسير قوله تعالى: (ففررت منكم لما خفتكم أن عبدت بني إسرائيل) قال الله تعالى: {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ} [الشعراء:21] أي: هربت خوفاً منكم، فموسى كان خائفاً من فرعون من أن يقتله، فالله عز وجل أراه ما يفزعه، ثم بعد ذلك طمأنه سبحانه حتى يعتاد على أنه يرى المواقف المفزعة فلا يفزع ولا يخاف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. قال: {فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا} [الشعراء:21] أي: رسالة من عنده سبحانه، {وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:21] أي: جعلني واحداً من رسله. ثم قال لفرعون: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:22]، وهذه فيها معنيان أحدهما أجمل من الآخر: الأول: ((وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ)) كأنه إقرار بأن لك عليّ نعمة فعلاً؛ لأنك أنت الذي ربيتني عندك في البيت، و ((عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ)) يعني: كان بنو إسرائيل كلهم عبيداً عندك، فأنت مننت علي وأنعمت علي وربيتني ولم تجعلني كغيري. الثاني وهو أجمل من الأول: أنه قال له ذلك تبكيتاً له، يعني: هل هذه نعمة تمنها علي أن عبدت أهلي بني إسرائيل أكثر من ثلاثمائة ألف شخص في البلد فجعلتهم كلهم عبيداً بغير ذنب أساءوه فيه إليك، فسخرتهم وأتعبتهم وشققت عليهم، ثم تمنّ علي؟! فإن كنت مننت علي بأن تركتني حياً، فقتلك لأولاد بني إسرائيل ذنب فظيع ارتكبته في حقهم، فالمنة لله عز وجل حيث نجاني منك، فأنت لم تصنع معي شيئاً إلا أنك تمن علي أن ربيتني، فلو لم تقتل أولاد بني إسرائيل وتركتني لرباني أبواي، ومن الذي رباني عندك أليست أمي التي أرضعتني؟! فكأنه يقول: أنت مننت علي وتركتني حياً، وكنت تقتل أبناء بني إسرائيل، وهل هذه نعمة أن عبدت جميع أهلي من بني إسرائيل؟ إذاً: فهو يبكت فرعون بذلك، والله أعلم. نكتفي بهذا القدر، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الشعراء [18 - 48]

تفسير سورة الشعراء [18 - 48] يذكر الله سبحانه وتعالى لنا قصص الأمم السابقة للعبرة والعظة، فقد ذكر قصة موسى عليه السلام مع فرعون وقومه، وكيف أن فرعون عاند بالباطل، فلم يأت بحجة على قوله، ولم يستمع لحجج موسى عليه السلام، بل دفعها بكلام سامج، وقول بارد، ثم عندما أفحم استخدم منطق القوة، فلم ينفعه ذلك، ثم حشر وجمع السحرة أجمعين؛ لعلهم يغلبون موسى عليه السلام، لكن سرعان ما آمن هؤلاء السحرة وصاروا داعين لفرعون إلى الهدى.

تفسير قوله تعالى: (قال فرعون وما رب العالمين إن كنتم موقنين)

تفسير قوله تعالى: (قال فرعون وما رب العالمين إن كنتم موقنين) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الشعراء: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ * قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء:23 - 31].

ذكر ما جاء من إرسال الله لموسى وهارون إلى فرعون وقومه

ذكر ما جاء من إرسال الله لموسى وهارون إلى فرعون وقومه يذكر لنا ربنا سبحانه وتعالى في هذه الآيات وما بعدها أن موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام وجهه ربه وأمره أن يذهب إلى فرعون هو وأخوه هارون، فيدعوانه إلى رب العالمين، وإلى عبادة الله وحده لا شريك له، قال الله عز وجل لموسى وهارون: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:16] يعني: إنا ذو رسالة من عند رب العالمين سبحانه وتعالى. وهذه الرسالة نأمرك فيها بتوحيد الله سبحانه، وبعبادته، وأن ترسل معنا بني إسرائيل، فما كان جواب فرعون إلا أن قال: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} [الشعراء:18] يعني: أتيت تطلب منا هذا الآن ونحن ربيناك، ولنا عليك نعمة في يوم من الأيام، وقوله تعالى: {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ} [الشعراء:19] يعني: هذه الفعلة الشنيعة من قتلك القبطي في مصر؛ فعلتها وأنت من الكافرين لنعمتنا عليك، ولتربيتنا لك، فقد قتلت رجلاً من جنودنا. قال الله تعالى: {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء:20] يعني: وأنا لا أعرف، فقد أخطأت ولم أقصد أن أقتله، ولم أكن رسولاً بعد ولا نبي، وكنت قد ضللت وما قصدت ذلك، فقد أردت شيئاً فكان غير هذا الشيء. فموسى أراد أن يضرب هذا الرجل فكانت الضربة فيها مقتل هذا الإنسان، قال موسى عليه الصلاة والسلام: {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:21]، إذاً: فقد كنت من الضالين عن أمر هذه الرسالة، وعن الحكم الشرعي في ذلك، ففررت منكم. فالله عز وجل وهب لي بعد ذلك حكماً وجعلني رسولاً من رسله، {وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:21]. قال تعالى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:22] يعني: أنت تمن علي بالتربية، وهل هذه نعمة أن مننت علي وعبدت باقي أهلي وجعلتهم عبيداً عندك؟! {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:22]، فتمن علي أن ربيتني، وما ربيتني إلا لما ألقتني أمي في البحر بسببك أنت، فقد كنت تقتل جميع الأطفال من بني إسرائيل من الذكور، فاضطرت أمي أن تلقيني في اليم بسببك أنت، فكنت عندك في البيت بسببك أنت، ولو تركتني لرباني أبي وأمي وما احتجت إليك في شيء، فهل هذه نعمة أن مننت علي بهذا الشيء؟! فقد تركتني حياً وقتلت غيري من بني إسرائيل، فأي نعمة في ذلك؟! فقال فرعون لموسى عليه الصلاة والسلام: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23]؟ هذا السؤال من فرعون كأنه يستفهم فيه عن الأجناس فيقول: وما هذا الشيء؟ وهذا مثل فعل بعض أهل الجاهلية الذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه: من أي شيء ربك أمن در أم ياقوت أم ذهب أم فضة؟ والأجناس خلقها الله عز وجل فهي مخلوقة، والله عز وجل تعالى وتنزه عن مشابهة خلق من خلقه سبحانه وتعالى. فقال فرعون: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23] يعني: هل هو بشر مثلنا؟ أم هو شيء آخر من حجارة أم من ذهب؟ ما هو هذا الجنس الذي تكلمنا عنه؟ فقال موسى مجيباً عليه: {قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء:24]، والجواب من موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام جواب رزين وحكيم، ففرعون يسأل عن شيء على وجه التهكم، فهو الذي ادعى أمام قومه الألوهية، قال: {فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:23 - 24]، فلم يقل: أنا إلهكم فقط؛ بل قال: أنا ربكم أيضاً، فالإله هو الذي يستحق العبادة، ففرعون لم يقل: اعبدوني فقط، بل قال أيضاً: واعلموا أنني أنا صانع الأشياء، وأنا الرب، وأنا الذي أفعل ما أشاء. والربوبية مقتضاها: الخلق، والرزق، والإحياء، والإماتة، والنفع، والضر، والرفع، والوضع، فالله سبحانه وتعالى يخلق ويرزق، فإذا بفرعون لعنة الله عليه وعلى أمثاله يدعي الربوبية مع الألوهية، ويصل استخفافه بقومه إلى أن يقول لهم: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51]. ويسأل فرعون موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام ويقول: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23]، فقال موسى مجيباً عليه: {قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء:24]. فقوله تعالى: {رَبُّ السَّمَوَاتِ} [الشعراء:24] يعني: الذي خلق هذه السموات التي لا تملك أنت أن تصنع مثلها ولا أدنى منها، ورب الأرض التي لم تخلق أنت شيئاً فيها، وأنت تزعم للناس أنك ملك مصر، وأن هذه الأنهار تجري من تحتك. وقوله تعالى: {وَمَا بَيْنَهُمَا} [الشعراء:24] أي: ما بين السموات والأرض، فخالق هذا كله هو الله سبحانه وتعالى. وقوله تعالى: {إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء:24] أي: إن كان عندكم يقين ولم يكن في قلوبكم شك، إذ أن الله هو الذي فطر هذا كله وأبدعه وأوجده، ولا تقدرون على أن تفعلوا شيئاً من ذلك، فهذا هو الرب العظيم الذي يستحق العبادة.

تفسير قوله تعالى: (قال لمن حوله ألا تستمعون قال ربكم ورب آبائكم الأولين)

تفسير قوله تعالى: (قال لمن حوله ألا تستمعون قال ربكم ورب آبائكم الأولين) يقول الله عز وجل: {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ} [الشعراء:25]. ولو كان عنده حجة لنطق بها ولكنه ليست عنده حجة، بل هو إنسان غبي، فيستغل جهل من معه ويقول هذا الأمر، فيجادل موسى أمام الملأ ولا يرد على موسى حجته، فإن موسى يقول: {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الشعراء:24] أي: خلق الشمس والقمر، وخلق كذا، وخلق كذا، ولكن فرعون لا يملك ولا يقدر أن يقول: وأنا خلقت كذا وكذا، لذلك ما كان منه إلا أنه قال لهم: {أَلا تَسْتَمِعُونَ} [الشعراء:25] أي: اسمعوا ما يقول، وهذا على وجه التهكم منه، ولو كان يملك حجة لقالها، ولو كان عنده جواب لرد على موسى، ولكن كان جوابه: {أَلا تَسْتَمِعُونَ} [الشعراء:25]. أي: أنا ربكم الذي تعبدونني وهذا يقول لي: هناك رب ثان غيري! فقال موسى مجيباً عليه الصلاة والسلام: {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:26]، فهذا الرد كلام رزين وحكيم لمن يتأمل ويفهم إن كان عنده قلب، ففرعون هذا أبوه كان فرعوناً قبله، وجده كان فرعوناً قبله، وآباؤه وأجداده ذهبوا جميعاً، ولو كانوا أرباباً كما يزعمون لعاشوا وما ماتوا، فلذلك يقول له: إن هذا الرب هو الخالق لا يموت، وآباؤك كلهم قد ماتوا قبل ذلك، فأين ذهب هؤلاء الآباء؟ فربي هو الذي خلقك وآباءك السابقين ثم أفناهم، وأنت تكون كذلك. فقال فرعون رداً على موسى: {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء:27]. وهذه سفاهات علية القوم، وسفاهات الطبقة العالية التي لا تفهم شيئاً، ففرعون وجنده ووزراؤه عجزوا عن الرد على موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فهو يسفه كلام موسى، ويقول لمن حوله من القوم: هذا رجل مجنون، قال تعالى: {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء:27]، والمجنون لا أحد يتبعه، فينبغي لكم ألا تتبعوا هذا المجنون بزعم فرعون اللعين، فقال موسى مجيباً له: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء:28] أي: لو كان عندكم عقول لفهمتم ذلك، فربي وربكم هو الذي خلق المشرق، وخلق المغرب، وخلق ما بينهما، وأنت تقول لقومك: أنا ملك مصر، لكن بقية بلاد العالم أنت لا تملكها، ولو كنت خالقاً لملكت الدنيا كله، ولكن أنت ملك هنا في مصر فقط، وأما ربي فهو الذي خلق مصر وغيرها، وهو رب المشرق ورب المغرب وما بينهما سبحانه وتعالى، ورب كل شيء لو كنتم تعقلون ذلك، ولم يكن مع فرعون من حجة إلا أنه بدأ بالتسفيه، وتعجيب القوم من موسى، وبادعاء أنه مجنون، ولما لم يستفد من ذلك لجأ إلى القوة والبطش.

تفسير قوله تعالى: (قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين)

تفسير قوله تعالى: (قال لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين) قال تعالى حاكياً عن فرعون: {قَاَلَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء:29]، وذكروا عن فرعون أنه كان إذا سجن أحداً فإنه يجعله في غيابة السجون إلى أن يموت، فكان الموت أرحم عندهم من السجن، ففرعون يجعله في مكان مظلم في قعر الأرض ويتركه حتى يموت في هذا السجن، فقال لموسى متوعداً له: {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ} [الشعراء:29] أي: أقسم {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء:29]، سنسجنك ونعذبك، وحجة ضعيف الرأي أن يهدد بالبطش.

تفسير قوله تعالى: (قال أولو جئتك بشيء مبين فإذا هي بيضاء للناظرين)

تفسير قوله تعالى: (قال أولو جئتك بشيء مبين فإذا هي بيضاء للناظرين) قال موسى لفرعون: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ} [الشعراء:30] يعني: بما أنك لا تعرف كيف تجيب فهل تتبعني إذا جئتك ببينة ومعجزة تدل على أني رسول من عند رب العالمين سبحانه؟ ولا يستطيع فرعون أن يمنع موسى من إتيانه بالبينة؛ لأن خلفه حاشية وملأ، قال تعالى: {قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء:31] أي: لو أنت صادق هات هذه البينة التي تدعيها. فقوله تعالى: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ} [الشعراء:30] أي: بحجة بينة واضحة فيها البرهان، وفيها الإعجاز والتعجيز لك ولمن معك، قوله تعالى: {قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء:31]، وهو يعلم يقيناً أنه صادق عليه الصلاة والسلام، ولكن يريد أن يحقر من أمره أمام الناس، فقال: إن كنت صادقاً فهات الذي تقوله، قال تعالى: {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ} [الشعراء:45]، وقال سبحانه في سورة الأعراف: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} [الأعراف:107]، وقد أمر الله سبحانه وتعالى موسى قبل ذلك أن يلقي عصاه فإذا هي ثعبان أمامه، ويفر موسى فزعاً منها. ولم يرسل الله موسى إلى فرعون حتى طمأنه ودربه على ذلك، قال تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:17 - 18]، فلما: {قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} [طه:19 - 20]، ففر موسى وفزع منها، فناداه ربه: تعال يا موسى! وخذ هذه العصا ولا تخف، وطمأنه ربه سبحانه حتى أخذ هذه العصا. والوقت الذي ألقى فيه موسى العصا وصارت ثعباناً كان في ليل مظلم، وفي مكان موحش، وموسى خائف أيضاً، وهذا أشد ما يكون من الفزع، فإذا بالله يطمئنه في ذلك تدريباً لموسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، حتى إذا كان أمام فرعون فإنه سيلقيها وهو مطمئن؛ لأنه جرب قبل ذلك. فهنا ألقى عصاه وهو مطمئن بربه سبحانه، {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} [الأعراف:107]، وذكر هنا أنها: {ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} [الشعراء:45]، وفي سورة طه قال: {فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} [طه:20]. فقد دبت فيها الحياة وصارت ثعباناً بيناً عظيماً فظيع المنظر يسعى بين الناس، فقوله تعالى: {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} [الشعراء:32] أي: بيِّن أمامهم ليس سحراً وليس كذباً وليست تخيلاً لهم، ولكن صارت ثعباناً حقيقياً أمامهم. وقوله تعالى: {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} [الشعراء:33]، وقبل ذلك قال الله له: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [النمل:12]، وقال هنا في سورة الشعراء: {فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} [الشعراء:33]، فكان لها شعاع كشعاع الشمس، فأدخلها في جيبه وأخرجها بيضاء والجميع يرون ذلك، فهي معجزة أمامهم.

تفسير قوله تعالى: (قال للملأ حوله فماذا تأمرون)

تفسير قوله تعالى: (قال للملأ حوله فماذا تأمرون) قال الله تعالى حاكياً عن فرعون حين رأى هذه الآية: {قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} [الشعراء:34]، فليس هناك شيء نافع مع فرعون، فقد جادله موسى بالحجة العقلية فلم يرض بذلك، ثم بالحجة البينة المنطقية فلم يفهم، ثم بهذه الآية الحسية التي أمامه فيقول: هذا ساحر مبين، قال تعالى: {قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} [الشعراء:34]، وصدقوه، كما قال تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} [الأعراف:109]. ففرعون قال ذلك، والملأ قالوا ذلك مجاملة لفرعون، فقالوا: هذا ساحر يضحك علينا ويسحرنا، قال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الشعراء:34 - 35]، فكان فرعون يقول لقومه: إن هذا ساحر قد علم السحر ووصل فيه إلى درجة عالية جداً، وهو يريد أن يخرجكم من أرضكم؛ لكي يثوروا على موسى عليه الصلاة والسلام. وقوله تعالى: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الأعراف:110]، فيجعل بقوله هذا نفسه عاملاً بالشورى، فهو يطلب منهم المشورة بعد أن استبد برأيه في الرد على موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ولم يترك أحداً يرد، وفي النهاية قال: ساحر، ثم أخذ يتواضع للناس فقال: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الأعراف:110].

تفسير قوله تعالى: (قالوا أرجه وأخاه يأتوك بكل سحار عليم)

تفسير قوله تعالى: (قالوا أرجه وأخاه يأتوك بكل سحار عليم) {قَالُوا أَرْجِهِ} [الشعراء:36]، أي: أخره، من الإرجاء، وفيها قراءات: (قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ) وهذه قراءة عاصم، وقراءة حمزة، ويقرؤها قالون وابن وردان بخلف عن أبي جعفر (أَرْجِهِ وَأَخَاه)، بالكسر وعدم الهمز فيها، ويقرأها ورش وابن جماز والكسائي وخلف (أَرْجِهِي وَأَخَاهُ)، بالإشباع أيضاً من غير همز. إذاً: فالقراءات التي فيها: (أَرْجِهْ وَأَخَاه)، وهي قراءة عاصم وقراءة حمزة. الثانية: (أَرْجِهِ وَأَخَاهُ)، وهي قراءة قالون وبخلف عن أبي جعفر. والقراءة الثالثة: (أَرْجِهِي وَأَخَاهُ)، وهي قراءة ورش والكسائي، وابن جماز، وخلف. وهناك قراءة رابعة: بالهمز فيها، وأيضاً سيكون فيها التسكين والكسر والإشباع، فيقرأ ابن كثير وهشام (أَرْجِئهُو وَأَخَاهُ)، من الإرجاء وهو التأخير، وهذه قراءة ابن كثير وهشام عن ابن عامر بالإشباع. ويقرؤها البصريان: أبو عمرو ويعقوب: (أَرْجِئْهُ وَأَخَاهُ)، من غير إشباع فيها، وبالهمز مع الضم للهاء. ويقرؤها ابن ذكوان: (أَرْجِئْهِ وَأَخَاهُ)، فهذه ست قراءات في هذه الكلمة. قال: {أَرْجِهِ وَأَخَاهُ} [الشعراء:36]، وكل المعاني في الإرجاء أي: التأخير، أي: اصبر قليلاً حتى يأتي الذين يعرفون كيف يردون عليه. وقوله تعالى: {فِي الْمَدَائِنِ} [الأعراف:111] أي: في مدائن مصر، فابعث إلى الجنوب وإلى الشمال وهات السحرة الموجودين عندك في البلد جميعهم. وقوله تعالى: {حَاشِرِينَ} [الشعراء:36] يعني: جامعين، يجمعون هؤلاء السحرة، ويجمعون الناس. قال تعالى: {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ} [الشعراء:37]، فهذا ساحر وسنأتي نحن له بكل سحار، والسحار: صيغة مبالغة في ذلك.

تفسير قوله تعالى: (فجمع السحرة لميقات يوم إن كانوا هم الغالبين)

تفسير قوله تعالى: (فجمع السحرة لميقات يوم إن كانوا هم الغالبين) وجاء السحرة من كل أنحاء مصر، قال تعالى: {فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء:38] أي: في اليوم المحدد لحضور ذلك. قال تعالى: {وَقِيلَ لِلنَّاسِ} [الشعراء:39] يعني: ففرعون هو الذي جمع السحرة وجمع الناس؛ لكي يشاهدوا هزيمة موسى بزعمهم وظنهم، ولو كان هذا إنساناً عاقلاً ما فعل ذلك؛ لأن موسى سيريه آيات لا يقدر عليها أحد من البشر، وبسبب عناده أعماه الله عز وجل عن الحجج، فقيض الله له من يشهد عليه أنه على الباطل. قال تعالى: {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء:40]، وانظر إلى منطق الجهلة والحمقى والمغفلين، فهم لا يقولون: لعلنا نتبع الحق، أو لعلنا نتبع من يغلب، فمنطقهم مثل منطق أهل الجاهلية الذين قالوا: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32]، والمفترض أن الإنسان العاقل يقول: يا رب إذا كان هذا حقاً فاهدني إليه وأدخلني فيه، وكذلك هؤلاء الجهلة من المفترض أن يقولوا: لعلنا نتبع الغالب، ولعلنا نتبع من ظهر الحق معه، لكنهم قالوا: {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ} [الشعراء:40] أي: نحن مع هؤلاء السحرة: {إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء:40].

تفسير قوله تعالى: (فلما جاء السحرة إذا لمن المقربين)

تفسير قوله تعالى: (فلما جاء السحرة إذاً لمن المقربين) {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ} [الشعراء:41] طمعوا في عطاء فرعون؛ لأنهم لا إيمان في قلوبهم، بل هم من أكفر الناس، فقد طمعوا في القرب من فرعون، وأن يعطيهم من الأموال ومن المناصب، قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء:41] يعني: لقد أتيت بنا من البلدان كلها فهل ستدفع لنا أجرة على هذا الشيء؟ وانظروا كيف يقلب الله عز وجل القلوب، فقد أتوا أول النهار يطلبون الغنيمة والأموال فكانوا في آخر النهار من المؤمنين. فقال فرعون لهؤلاء: نعم سأعطيكم الذي تريدون، {وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الشعراء:42]، فقد جئتم من بلدان بعيدة لتنصروني على هذا، فستكونون قريبين مني. قوله تعالى: {وَإِنَّكُمْ إِذًا} [الشعراء:42] يعني: حين تغلبون {لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الشعراء:42].

تفسير قوله تعالى: (قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون رب موسى وهارون)

تفسير قوله تعالى: (قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون رب موسى وهارون) لما اجتمع السحرة مع موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام قالوا له متأدبين معه كما في سورة الأعراف أيضاً: {يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ * قَالَ أَلْقُوا} [الأعراف:115 - 116]، فاختصر ربنا سبحانه كلام موسى، بينما هنا يقول: {قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} [الشعراء:43]، وقد أتوا ومعهم الحبال والعصي لكي يرموها أمام الناس، فتظهر أمامهم أنها قد صارت حيات تسعى في الأرض، وكذلك عصيهم، قال تعالى: {فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ} [الشعراء:44]، ودعوا بعزة فرعون فقالوا: {بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء:44]؛ لأنه ربهم بزعمهم. {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ} [الأعراف:116] وأتوا بسحر ليس هيناً، بل هو سحر عظيم، فإن الإنسان يخدع حين يرى هذا الكم الهائل من العصيان ومن الحبال وهي تتلوى على الأرض أمام أعين الناس، قال تعالى: {فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء:44] أي: يقسمون بعزة فرعون أنهم هم الغالبون؛ لأنهم رأوا العصيان كثيرة أمامهم وصارت حيات كثيرة، وموسى معه عصا واحدة. فيأتي الأمر من الله عز وجل لموسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام أن لا تخف، قال تعالى: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:69]، فلما جاء الأمر من الله ألقى موسى عصاه، قال تعالى: {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الشعراء:45]. واختصر القصة هنا ربنا سبحانه وتعالى، فذكر أنهم ألقوا فألقى موسى، وبأمر الله سبحانه صارت عصاه حية تسعى وهي عصا واحدة، قال تعالى: {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ} [الشعراء:45] أي: تبتلع وتلتقط كل العصي والحبال الموجودة على الأرض، وتأكلها جميعها، قال تعالى: {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الشعراء:45]. فقوله تعالى: {تَلْقَفُ} [الشعراء:45]، هذه قراءة حفص عن عاصم، وأما قراءة البزي عن ابن كثير: (فَإِذَا هِيَ تَّلَقَّفُ مَا يَأْفِكُونَ)، بالإدغام، وقراءة باقي القراء: (فَإِذَا هِيَ تَلَقَّفُ مَا يَأْفِكُونَ)، يعني: تبتلع كل ما أمامها من هذه العصي وهذه الحبال، وغُلب هنالك السحرة، وعلموا أن هذا لا يكون إلا من الرب سبحانه، فخروا لله ساجدين؛ لأنهم عرفوا الحق. فقد كانوا في أول النهار من أكفر الناس، وصاروا في آخر النهار عباداً لله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {فَأُلْقِيَ} [الشعراء:46] أي: خروا وألقوا بأنفسهم ساجدين لله رب العالمين، {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:47]، سبحانه وتعالى، {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الشعراء:48]، على نبينا وعليهما الصلاة والسلام. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الشعراء [46 - 56]

تفسير سورة الشعراء [46 - 56] إن الله سبحانه يهدي من يشاء ويضل من يشاء، فقد هدى الله سحرة فرعون بعد أن كانوا سحرة ضالين، فأصبحوا مؤمنين بالله عز وجل، وقد بين الله تعالى في سورة الشعراء طغيان فرعون وتجبره على بني إسرائيل، وكيف قام بتعذيبهم، ولنا في هذه القصة عبرة وآية.

تفسير قوله تعالى: (فألقي السحرة ساجدين)

تفسير قوله تعالى: (فألقي السحرة ساجدين) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الشعراء: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ * قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ * قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:46 - 51]. يذكر لنا ربنا سبحانه فضله على من يشاء من عباده سبحانه، فيهدي من يشاء ويضل من يشاء، فالله عز وجل أضل فرعون وقد رأى من الآيات الكثير، وقد جاءه موسى بتسع آيات بينات من عند الله سبحانه وتعالى، فيده فيها آية، والعصا فيها آية، قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ} [الأعراف:133]، وأخذهم الله بالسنين ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، فكان ذلك من الله عز وجل آيات بينات لم يؤمن بها فرعون وقومه، مع أنه كلما جاءت آية قالوا متوسلين لموسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام: {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف:134]، وكل مرة يدعو موسى ربه ويكشف الله عنهم الرجس والعذاب، فيرجعون مرة أخرى إلى كفرهم وتكذبيهم، فالله يضل من يشاء حتى ولو رأوا أمامهم الآيات مفصلات بينات، ويهدي من يشاء ولو بآية واحدة من عنده سبحانه، فهؤلاء السحرة جاءوا مكذبين معترضين على موسى مناصرين لفرعون، ومع ذلك رأوا آية واحدة حين ألقى عصاه، فجعلت تلقف ما ألقوه من حبال وعصي، فخروا لله ساجدين، فهداهم الله جميعاً في ساعة واحدة.

تفسير قوله تعالى: (قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون)

تفسير قوله تعالى: (قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون) قال تعالى: {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:121 - 122]، لما قالوا ذلك إذا بفرعون تأخذه العزة ويقول: {آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} [طه:71]، فانظروا إلى الاستكبار، فهو يريد أن يكون أمر الإيمان بالله سبحانه بإذنه هو، وهو الذي يقول: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] أي: أنه يأمرهم أن يعبدوه من دون الله سبحانه وتعالى، يقول لهم: آمنتهم من غير إذني ودخلتم في دينه؟ فهو قد رأى الآيات وامتنع من الإيمان، وأي إذن ينتظرونه منه وقد دخل قلوبهم الإيمان فآمنوا بالله رب العالمين سبحانه ولا يحتاج إلى إذن من أحد؟!

تفسير قوله تعالى: (قال آمنتم له قبل أن آذن لكم)

تفسير قوله تعالى: (قال آمنتم له قبل أن آذن لكم) قال تعالى: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} [الشعراء:49]، قال فرعون: (آمَنْتُمْ لَهُ) أي: لموسى، {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الشعراء:49]، فالإنسان الذي لا حجة عنده يلقي بالكلام جزافاً، ويلقي بالكلام الذي لا معنى له، ففرعون يقول ذلك لهؤلاء السحرة الذين جمعهم هو، ولم يعرفوا موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ولم يجالسوه قبل ذلك، بل جمعهم فرعون من أدنى الأرض ومن أقصاها، فاجتمعوا وقالوا: ننصر فرعون، قال تعالى: {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء:40]، وقال السحرة لفرعون: {أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء:41]، فهم لم يعرفوا موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ولم يجالسوه إلا في هذه المرة، فلما رأوا الحق معه اتبعوا الحق الذي جاء من عند ربهم سبحانه وتعالى. فقال لهم فرعون: (آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ)، وهذا كلام كذب يعرف فرعون أنه كاذب فيه، فيقول: أنتم عملتم حيلة من ورائي، فهو يريد أن يداري أمام الناس، فقد جمع الناس ليعلموا أنه كذاب، فإذا به يقول: هذا كبيرهم؛ لأنه لم يستطع أن يقول شيئاً يرد به على موسى إلا الكذب. قال تعالى: (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) فمتى كان كبيرهم؟! ومتى علمهم السحر وقد أتى من بلاد الشام إلى مصر في هذه الأيام؟! يقول فرعون مهدداً لهم: (فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) أي: سنفعل بكم ما ترون. قال: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} [الشعراء:50] أي: سأقطع يد ورجل كل واحد منكم، وأصلبكم على جذوع النخل؛ لأجعلكم آية للناس. فهذا فرعون الذي وصفه الله بأنه فرعون ذو الأوتاد، وهذه الكلمة تكررت في القرآن مرتين، فذكر الله عز وجل فرعون بهذه الصفة، وفرعون لقب لملوك مصر، واسم فرعون هذا عرفناه من كلام الذين يبحثون في التواريخ، فكل ملك من ملوك مصر يلقب بهذا اللقب: فرعون، وأما اسمه فقد ذكرنا قبل ذلك أنهم ذكروا أن اسمه: منبتاح بن رمسيس الثاني أو خليفة رمسيس الثاني، وعلماء التاريخ يبحثون في أشياء عجيبة جداً، فيصلون إلى شيء قد أثبته القرآن قبلهم، فعندما جاءت الحملة الفرنسية إلى مصر وبحثوا في الآثار المصرية استخرجوا جثث القدماء المصريين والملوك، وبعد ذلك أخرجوا اللغة الهيروغليفية التي هي لغة الفراعنة، وبدءوا يدرسونها لكي يعرفوا معانيها، وتعبوا في ذلك كثيراً. وصعد علماء الفلك إلى القمر فاكتشفوا أن القمر قد انشق يوماً من الأيام، والله عز وجل قال في كتابه: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]، وهم يبحثون لكي يعرفوا اسم فرعون وصفة فرعون وكيف مات فرعون، فأتوا بتصديق لما قاله الله عز وجل في كتابه سبحانه وتعالى، والمسلمون لم يكونوا يعرفون أن فرعون هذا لقبه وله اسم آخر غير ذلك، وله وصف آخر غير ذلك إلا ما جاء في القرآن، وأنه فرعون، وأنه ذو الأوتاد، فإذا بعلماء الغرب الذين يبحثون يقولون: من ملوك الفراعنة من كان اسمه كذا، وبعد ذلك بحثوا في هذا الاسم، وقالوا: هذا فرعون موسى، واسمه بي نو خيو، وكانوا يتساءلون: هل هذا اسم للفرعون أم وصف للفرعون؟ فبحثوا عن معنى الكلمة حتى وصلوا إلى أن: كلمة (بي) تعني: ذو، و (إن) أو (نو) بمعنى: أل، و (خيو) أو (إخ) أو (خي) بمعنى: أوتاد، وهذه هي الكلمة التي ذكرها ربنا سبحانه وتعالى في كتابه، وهذا الكلام ليس كلامنا، ولكنه كلام موجود على الإنترنت ذكره البعض من المسلمين عن دكتور من الذين تخصصوا في اللغة الهيروغليفية اسمه الدكتور علي فهمي خشيم، وذكر يحثاً طويلاً في هذا الشيء مؤداه في النهاية أنه فرعون ذو الأوتاد الذي ذكره الله عز وجل في كتابه. وسمي ذا الأوتاد لأنه كان يضع لخصومه أوتاداً على الأرض ويكتفهم في هذه الأوتاد، أو أنه يربطهم على فروع الأشجار، ويدق لهم مسامير ويعلقهم فيها، فهذا هو فرعون ذو الأوتاد، فاسمه الذي وصلوا إليه هو منبتاح، وأنه كان خليفة رمسيس الثاني، ووصفه ذو الأوتاد، وربنا يذكر لنا فرعون ذا الأوتاد، وذكر لنا هنا أنه كان يصلب هؤلاء السحرة على جذوع النخل أو في جذوع النخل. إن فرعون هذا ذكر الله سبحانه أنه غرق، وقد نجى الله بدنه وألقاه على نجوى من الأرض بحيث ينظرون إليه ويعرفون أن هذا فرعون الذي أغرقه الله سبحانه، وأصحاب العلوم الحديثة يكتشفون ويقولون: إن هذه فعلاً هي جثة منبتاح، وهي جثة فرعون الذي آذى موسى، والذي خرج وراء موسى وأغرقه الله، وفعلاً غرق في البحر ولم يمكث في البحر فترة طويلة حتى خرج من البحر، وهذا بناء على تحليل جثته، ونحن لا نحتاج إلى ذلك، فالقرآن يغنينا، فقد أراهم الله الآيات التي يعلم بها من يكذبه، فقد جاء القرآن بالصدق والخبر الذي لم يصلوا إليه إلا بعد 1400 عام من نزول هذا القرآن المعجز العظيم.

تفسير قوله تعالى: (قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون أن كنا أول المؤمنين)

تفسير قوله تعالى: (قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون أن كنا أول المؤمنين) عندما أقسم فرعون أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ويصلبهم أجمعين، نرى دخول هؤلاء في الإيمان الذي لم يتعد الساعة أو الساعات القليلة، ولكن الإيمان قد استقر في القلوب، حتى إنهم ليردون على فرعون بهذا الكلام العظيم: (لا ضَيْرَ) أي: لا يضرنا، ونتخيل هنا أن هذه الكلمة تصدر من إنسان مؤمن منذ زمن بعيد قام لله وصام لله وصلى لله واستقر الإيمان في قلبه، فيقول: ليس مهماً أن أؤذى في الله سبحانه، وقد يكون الإنسان له في الإسلام فترة طويلة وبمجرد أن يؤذى يفتن، ولكن هؤلاء يتهددهم فرعون فيقولون: (لا ضير) أي: لا يهمنا هذا الشيء، لا ضرر علينا في ذلك طالما آمنا بالله سبحانه، مع أنهم لم يؤمنوا إلا قريباً. قال الله تعالى: (إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ) يعني: أن النهاية أننا راجعون إلى الله سبحانه وتعالى، فمتى تعلموا هذه العقيدة؟ لقد ألقى الله سبحانه في قلوبهم ذلك، فعرفوا الحق من موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام. قال تعالى: ((إِنَّا نَطْمَعُ))، في أول النهار كان يطمعون في جزاء فرعون ويقولون: (أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا)، وفي آخر النهار يطمعون في ربهم سبحانه وتعالى وفي فضله الكريم. قال تعالى: (أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) أي: سابقنا وسبقنا إلى الدخول في هذا الدين قبلك وقبل غيرك، فطمعنا الآن في أن يغفر لنا ربنا خطايانا ولست أنت يا فرعون، ففرعون قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، ولكنهم الآن عرفوا من ربهم سبحانه وتعالى، فطمعوا في فضله سبحانه. قوله: (أَنْ) يعني: لأننا. وقوله: (كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) أي: أول المؤمنين بربنا سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون)

تفسير قوله تعالى: (وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون) قال ربنا سبحانه: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [الشعراء:52] جاء الوحي من الله سبحانه وتعالى لموسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام (أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي)، والإسراء: هو الخروج بالليل، وهنا كأن فرعون غفل أو نسي فأذن لموسى، أو أنه أراد أن يتخلص منه ومن معه بدلاً من أن يجعل الناس يؤمنون به، وتجربته مع السحرة معروفة، فأذن لهم بالخروج مع موسى، فإذا بموسى ومن معه يخرجون، وفكر فرعون من سيخدمه بعد ذلك، ومن سيسخره في العمل بعد ذلك، وربما خرج هؤلاء ورجعوا له بجيش مرة أخرى، فلابد إذن أن نلحقهم ونردهم إلى مصر مرة ثانية. قال تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى) أي: جاء الوحي من الله سبحانه لموسى: (أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي)، فطلب من فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل، فوافق فرعون، وخرج موسى ببني إسرائيل، وكانوا قبل ذلك قد استعاروا من قوم من أقباط مصر حليهم، فأخذوا هذه الحلي وخرجوا بها، فإذا بأهل مصر يقولون: خرجوا وأخذوا ذهبنا فلن يرجع إلينا ذهبنا، وفي هذه الليلة كما يذكر المفسرون ألقى الله عز وجل الموت على من بمصر من رجالهم أو البعض من رجالهم، فإذا بهم ينشغلون في الليل ولا ينتبهون إلا عند الإشراق، والله سبحانه وتعالى يشغل من يشاء بما يشاء، ويدبر أمر من يشاء، ولكي يهرب موسى ومن معه ولا يلحقهم فرعون يريهم الله الآيات، فإذا ببعض من القوم يموتون، قالوا: ألقي الموت على أبكارهم، وعلى البعض من شبابهم، وألقي الضياع على البعض من أموالهم، والموت على البعض من حيوانهم، فإذا بهم ينشغلون في ليلتهم عن موسى ومن معه بذلك، وينتبهون في وقت الإشراق، فقال الله سبحانه: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [الشعراء:52]، هذه قراءة الجمهور، وقراءة نافع وأبي جعفر وابن كثير: (أن اسرِ بعبادي)، فأسرى بهمزة قطع في القراءة الأولى، وفي الأخرى بهمزة وصل في أولها. قوله تعالى: (بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) قراءة نافع وأبي جعفر: (بعباديَ إنكم متبعون)، والباقون بالسكون: (بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ). وفيها البشارة من الله سبحانه وتعالى لموسى بالنجاة من فرعون، أي: وفرعون سيجري وراءكم ولكن نحن سننجيكم من فرعون ومن معه.

قوله تعالى: (فأرسل فرعون في المدائن حاشرين وإنا لجميع حاذرون)

قوله تعالى: (فأرسل فرعون في المدائن حاشرين وإنا لجميع حاذرون) {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الشعراء:53]، لما انتبه فرعون أن موسى خرج بمن معه إذا به يرسل ويجمع من جنوده من يحشر الناس ويجمعهم إلى فرعون قائلاً لهم: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} [الشعراء:54]، يعني: موسى ومن معه شرذمة قليلون، والعدد الذي ذكر عن موسى ومن معه أنهم كانوا ثلاثمائة ألف أو ستمائة ألف والله أعلم كم كان العدد، فثلث مليون شخص أو نصف مليون شخص عدد كبير، وعندما يقول فرعون: (إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) فمعنى ذلك أن فرعون أتى بأضعاف مضاعفة أكثر من هؤلاء الذين خرجوا؛ لذلك حقرهم أمام من معه، وقال: (إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ). قال الله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} [الشعراء:55] أي: أن هؤلاء القوم غاظونا. قال تعالى: {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:56]. قوله: (وَإِنَّا) أي: مجموعة كبيرة. قوله: (حَاذِرُونَ) قرأها ابن ذكوان والكوفيون: (وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ)، وقرأها باقي القراء: (وإنا لجميع حذرون)، فـ (حاذرون) بمعنى مستعدون. و (حذرون) معناها: متيقظون منتبهون، أي: أننا منتبهون لهؤلاء وسنعرف كيف نأتي بهم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الشعراء [52 - 59]

تفسير سورة الشعراء [52 - 59] ذكر الله عز وجل من طغيان فرعون شيئاً لم يفعله أحد من المجرمين، فقد طغى وتكبر، وقتل وشرد، ودعا إلى الرذيلة، ثم ادعى الربوبية والعياذ بالله، فأرسل الله إليه موسى بالحجج والبراهين، فلم يزده ذلك إلا علواً وتكبراً في الأرض، فأذن الله لموسى أن يخرج ببني إسرائيل هروباً من ظلم فرعون وبطشه، فخرج فرعون بجيشه وجنوده، وقوته وعتاده، فأهلكه الله هلاكاً عجيباً، وجعل جسده آية لمن بعده، فأخرجه الله من أرض الخير والبركة والجنان.

حوار موسى مع فرعون صاحب الحجج الواهية

حوار موسى مع فرعون صاحب الحجج الواهية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الشعراء: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ * فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ * فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ * فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ} [الشعراء:52 - 66]. يذكر الله سبحانه في هذه الآيات وما قبلها قصة موسى النبي على نبينا وعليه الصلاة والسلام مع فرعون، وكيف أنه دعاه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فأعرض فرعون وأبى إلا أن يجادل ويكذب موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ورأينا كيف أنه تناقش مع موسى من منطق القوه وليس من منطق الحجة، فناقش موسى بالقوة والغلبة وبكثرة أتباعه، وصار يستهزئ بموسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام. فذكر هنا وفي غيرها من سور القرآن أن فرعون ناقشه موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام فقال لموسى: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23]؟ فقال مجيباً له: {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء:24] قال لقومه: ألا تسمعون؟ قال: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء:26 - 28]. فالكلام الذي يقوله فرعون لا حجج فيه ولا منطق، وهو كلام يفهم منه أصحاب العقول أنه لا حجة عند صاحبه، وأنه يقول كلاماً جزافاً، حيث سأل: وما رب العالمين؟! ثم قال لمن حوله يعجبهم من جواب موسى: ألا تستمعون؟! والإنسان الذي يتعجب من غير عجب يسمى بالإنسان الأحمق الذي لا يفهم، وأما الإنسان العاقل فهو الذي يفهم الكلام ويزنه فيعرف أنه حق أو باطل، وأما الأحمق الذي لا يدري ما الحجة ولا يعرف كيف يجادل فهو الذي يتعجب من حجة لا يعرف كيف يرد عليها، فهذا هو حال فرعون عندما قال لمن حوله: ألا تستمعون إلى هذا الذي يقوله هذا؟! فلما أخبرهم بأن الله هو رب السماوات ورب الأرض وما بينهما، وأنه رب المشرق والمغرب، وأن فرعون لا يملك شيئاً، وليس كما يزعم أنه ربهم الأعلى، فإذا بفرعون يقول لمن حوله في السورة الأخرى: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51]، فكأنه يقول: أنا ملك وأنا أملك، فموسى يقول: ربي ((رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا))، وأنت تقول: لك ملك مصر التي لم تخلقها ولا تقدر أن تدبر شيئاً فيها! وإنما الذي يدبر أمر ملكه هو الله الخالق وحده لا شريك له. قال الله عن فرعون: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:51 - 52]، فبدلاً من أن يلقي الكلام مدعوماً بالحجة ابتدأه بالسخرية من العيب الذي في الإنسان، وهذا هو الذي يدل على جهل صاحبه، فالإنسان الجاهل الغبي الأحمق هو الذي يترك حجة من يناظره ويبتدئ اتهامه بالعيوب الخلقية، مع أن هذا العيب قد أزاحه الله عز وجل عن موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ولكن عندما لم يكن بيده شيء قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} [الزخرف:52] أي: هذا الحقير الذي أمامكم الذي لا يكاد يبين حجته، لأن موسى قبل ذلك كان في لسانه لثغة لا يقدر على الكلام، فقال لربه: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه:25 - 28] إذاً: حتى أفصح الكلام داوي ما بلساني من عقدة، فكان قبل ذلك فيه لثغة، ففرعون يذكره بالماضي من أنه كان لا يعرف كيف يتكلم ولا ينطق بفصاحة، فيقول لقومه: أنا خير من هذا الذي لا يعرف يتكلم، ولا يجيد التعبير ولا الحديث. فكل الذي رآه فرعون أمامه من الآيات كذبها، فالله عز وجل أخذهم {بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف:130]، قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ} [الأعراف:133]، فكل هذه الآيات ما أعجبت فرعون، وإنما يريد أسورة من ذهب تنزل عليه من السماء، {فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ * فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف:53 - 54] يعني: في هذا، فقد كانوا خفاف العقول فلم تعجبهم تلك الآيات مجاملة لفرعون، فأصحاب القوة يجعلون لهم من المنافقين من يجاملونهم بمثل ذلك، حتى ولو رأوا أمامهم الآيات بينات فلا يأخذون بها. وانظر إلى الفرق بين هؤلاء وبين السحرة الذين أنعم الله عز وجل عليهم فآمنوا لما رأوا آية واحدة من الآيات، فقد رأوا العصا بيد موسى يقلبها ربها سبحانه حية تلقف ما يأفكون.

تفسير قوله تعالى: (وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي وإنا لجميع حاذرون)

تفسير قوله تعالى: (وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي وإنا لجميع حاذرون) عندما خرج موسى ببني إسرائيل من مصر وذلك عندما أذن له فرعون بالخروج كان عدد بني إسرائيل ثلاثمائة ألف أو ستمائة ألف، فخرجوا من مصر فإذا بفرعون يتنبه بعد ذلك ويريد أن يعيدهم مرة أخرى إلى الذل والتسخير في مصر. قال الله عز وجل: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [الشعراء:52] فلما خرجوا إذا بفرعون يرسل وراءه {فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الشعراء:53] يعني: منادين جامعين يجمعون الناس وجنود فرعون قائلين: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} [الشعراء:54] وهذا يعني: أن فرعون ومن معه كانوا أكثر من ذلك بكثير، فيخبر الله عز وجل عنهم ويرينا آية من آياته العظيمة أن النصر من عنده وحده لا شريك له، قال فرعون: {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:55 - 56] يعني: نحن في أهبة الاستعداد حذرون متيقظون ومستعدون.

تفسير قوله تعالى: (فأخرجناهم من جنات وعيون كذلك وأورثناها بني إسرائيل)

تفسير قوله تعالى: (فأخرجناهم من جنات وعيون كذلك وأورثناها بني إسرائيل) قال الله سبحانه: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:57 - 59]. وانظر إلى جمال القرآن حيث يقول الله: فأخرجنا فرعون ومن معه ((مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ)) * ((وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ)) * ((كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ))، فالنتيجة: نصرة بني إسرائيل، ولكن الذي حدث أنه فصل هذا النص بعد ذلك سبحانه، فقال: ((فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ)) قراءة نافع وأبي جعفر وأبي عمرو وهشام وحفص عن عاصم وقراءة يعقوب وخلف (وعُيون) بضم العين، وباقي القراء يقرءونها (وعِيون) مثل (بُيوت) و (بِيوت). قال: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ} يعني: مصر، فقد كانت مليئة بالبساتين، والله عز وجل جعل فيها هذا النيل العظيم من فضله سبحانه، ونهر النيل ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديثه، وقد جاء في ذلك عدة أحاديث للنبي صلى الله عليه وسلم منها ما رواه البخاري ومسلم من حديث مالك بن صعصعه أن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة المعراج قال: (ورفعت لي سدرة المنتهى نبقها كأنه قلال هجر، وورقها كأنه آذان الفيلة) وهذه شجرة يخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن حجمها فقال: بنبقها، أي: الثمرة كأنه قلال هجر، وهو مكان وموضع كان مشهوراً بصنع القلال العظيمة التي لا يقدر الرجل على حملها إلا بالكاد لثقلها. ثم يقول لنا هنا النبي صلى الله عليه وسلم: (في أصلها أربعة أنهار -في أصل سدرة المنتهى أربعة أنهار- نهران باطنان ونهران ظاهران، فسأل جبريل فقال: أما الباطنان ففي الجنة) نهران يمدان هذه الشجرة من الجنة (وأما الظاهران فالنيل والفرات) فيها نهر عظيم قدر نهر النيل ونهر الفرات، واليهود يحاولون أن يأخذوا النهرين: النيل والفرات، فيقولون: دولة اليهود من النيل إلى الفرات، فهم يعرفون أنها أنهار مباركة من عند رب العالمين سبحانه، وذكْر القصة في حديث صلى الله عليه وسلم. فالله عز وجل قال: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ} [الشعراء:57] أي: بساتين عظيمة {وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الشعراء:58] فهذه البلاد فيها الخيرات دائماً، ولكنها من أيام الفراعنة ينهبها الفراعنة ويأخذون الذهب، ويسرقون ما فيها من الخيرات، وما زال فيها خير حتى الآن، وانظر في سورة يوسف لما قال لملك مصر: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ} [يوسف:55] فهو جعل مصر خزائن الدنيا. فهنا ربنا سبحانه يذكرنا بأن فيها الجنات والعيون والكنوز والزروع والمقام الكريم، وأهل التاريخ يذكرون عن هذه البلدة أنها كانت طوال عمرها فيها الجنات العظيمة، وعمرو بن العاص لما جاء إلى مصر ومعه ابنه عبد الله بن عمرو، يذكر أن الجنات كانت بحافتي النيل في الشقتين جميعاً من أسوان إلى الرشيد، ويذكر القرطبي أن بين هذه الجنات زروعاً فيها، قال: والنيل سبعة خلجان: خليج الإسكندرية -وهذا من أيام القرطبي - وخليج سخا، وخليج دمياط، وخليج سردوس، وخليج منف، وخليج الفيوم، وخليج المنهى، وهي متصلة لا ينقطع منها شيء عن شيء، أي: أنها جنات حول نهر النيل من أقصى البلاد إلى أدنى البلاد قال وكانت أرض مصر كلها تروى من ستة عشر ذراعاً بما دبروا وقدروا من قناطرها وجسورها وخلجانها، ولذلك سمي النيل إذا غلق ستة عشرة ذراعاً نيل السلطان، يعني: فإنهم يحسبون ارتفاع النيل بالذراع دائماً، فإذا وصل ارتفاع النيل إلى ستة عشر ذراعاً قالوا: إن السلطان سيفرض جباية؛ لأن الخير سيأتي كثيراً، هذا كلام القرطبي رحمه الله، وقال: وكانت أرض مصر جميعاً تروى من إصبع واحدة من سبعة عشر ذراعاً، يعني هذه الإصبع تروي أرض مصر كلها، هذا كلام القرطبي، وكان إذا غلق النيل سبعة عشر ذراعاً وزيد عليه أصبع واحد من ثمانية عشرة ذراعاً، ازداد في خراجها ألف ألف دينار، فهذا الذي يذهب إلى السلطان، فهذه من خيرات مصر وبركاتها، هذا كلام الإمام القرطبي، وذكر نحو هذا بعض العلماء. فنهر النيل من عجائب الدنيا، وذلك أنه يزيد إذا انصبت الأمطار في جميع الأرض حتى يسيح إلى جميع أرض مصر، وتبقى البلاد كالأعلام لا يوصل إليها إلا بالمراكب، وهذا كان يحدث في الماضي، فكان نهر النيل يفيض فيملأ البلاد كلها، وكل خيراته توزع على البلاد، وكان الناس أحياناً من ارتفاع النهر يتواصلون من مكان إلى مكان عن طريق القوارب ونحوها. يقول عبد الله بن عمرو بن العاص: نيل مصر سيد الأنهار. أي: أفضل أنهار الدنيا، وهذا النهر العظيم قال عنه قيس بن الحجاج: لما افتتحت مصر أتى أهلها إلى عمرو بن العاص حين دخل بئونة من أشهر القبط فقالوا له: يا أيها الأمير! إن لنيلنا هذا سنة لا يجري إلا بها، قال: وما هي؟ قالوا: إذا خلت اثنتي عشرة ليلة من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر وأرضينا أبويها، وحملنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون، وتسمى عروس النيل، ثم نرمي بها في النيل. وهذا من جهلهم عندما يفعلون ذلك، قال: فقال لهم عمرو رضي الله عنه: هذا لا يحل في الإسلام، فتركوا العادة فإذا بالنهر لا يجري لا كثير ولا قليل، حتى هموا بالهجرة من هذا المكان، واستمر على هذا مدة ثلاثة شهور، فلما رأى ذلك عمرو بن العاص وأن الناس سيهاجرون ويتركوا المكان أرسل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسأله عن ذلك، فكتب إليه عمر: إنك قد أصبت بالذي فعلت، إن هذا حرام لا يحل، وإن الإسلام يهدم ما قبله، ولا يكون هذا، وبعث إليه ببطاقة في داخلها كتابة منه وأمرهم أن يرموها في نهر النيل، وكان عمر محدثاً ملهماً رضي الله تبارك وتعالى عنه، فلما جاءت البطاقة إلى عمرو إذا فيها مكتوب: من عبد الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى نيل مصر، أما بعد: فإن كنت إنما تجري من قبلك فلا تجري، وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك، فألقى البطاقة في النيل قبل عيد الصليب بيوم، وفيها بيان كرامة من الكرامات وآية من الآيات، فالله الواحد سبحانه هو القادر على ذلك، وليس لأحد من الخلق أن يفعل ذلك، قال: وقد تهيأ أهل مصر للجلاء، أي: كانوا جاهزين للارتحال من البلد والخروج منها؛ لأنهم لا تقوم مصلحتهم فيها إلا بالنيل، فلما ألقى البطاقة في النيل أصبح يوم الصليب وقد أجراه الله في ليلة واحدة ستة عشرة ذراعاً، يعني: أصبحوا في يوم عيدهم وقد جاءت آية من الآيات تبين أن الله سبحانه وحده لا شريك له هو الذي يجري النهر، فأجراه الله آية من الآيات سبحانه، وقطع الله تلك العادة عن أهل مصر من تلك السنة، قطعها بسيدنا عمر رضي الله عنه، فالله عز وجل أزال هذا الشرك، ودخل أقباط مصر في دين الإسلام لما رأوا من آيات توحيد رب العالمين سبحانه، والآن أصبحوا يعملون بعض الأشياء الموروثة من الفراعنة، فيصنعون قلادة وحروز وتمائم ويكتبون عليها شركيات ثم يرمونها في النهر ويقولون: هذا فيه بركة، فبعدما نجى الله هذا البلد من هذا الشرك، ومن هذه البلادة والغباوة التي كانوا يعتمدون فيها على الخلق دون الخالق سبحانه فإنهم يريدون أن يرجعوا إليها مرة ثانية. نسأل الله عز وجل أن يحفظ على المسلمين دينهم، وأن يعيدهم إلى سنة نبيهم صلوات الله وسلامه عليه، وإلى توحيد ربهم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الشعراء [52 - 68]

تفسير سورة الشعراء [52 - 68] بين الله عز وجل في هذه الآيات الكريمات قصة إنجاء موسى عليه السلام وقومه من بطش الطاغية فرعون، فلما أن أذن فرعون لموسى بالخروج من مصر خرج ليلاً في قومه وبادر بالخروج؛ لأن الوحي قد جاءه بأن فرعون سينكث عهده، وفعلاً أرسل من يجمع الناس ويؤلبهم عليهم ثم اتبعوهم، وكان قدر الله تعالى أن أخرج فرعون وجنده إلى مصيرهم وهو الهلاك والغرق في البحر، فلما كادوا أن يدركوا موسى وقومه جاء الفرج وتجلت قدرة الله سبحانه عندما ضرب موسى البحر فانغلق، وصارت فيه الطرق التي سلكها مع قومه فنجوا، ثم أهلك الله تعالى فرعون وجنده.

تفسير قوله تعالى: (وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي وكنوز ومقام كريم)

تفسير قوله تعالى: (وأوحينا إلى موسى أن أسرِ بعبادي وكنوز ومقام كريم) الحمد لله رب العالمين، وأشهد إلا إله الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ * فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ * فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الشعراء:52 - 58]. ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات قصة خروج موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام مع بني إسرائيل من مصر، وكيف أهلك الله عز وجل فرعون وجنوده شر هلاك، فآتاهم العذاب من حيث لا يتوقعونه، فأمر الله عز وجل موسى أن يسير بعباده في الليل فقال: {أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [الشعراء:52]. وأخبره أن فرعون سيتبعهم، وكان موسى قد ظن أن فرعون لا يتبعه؛ لكونه أذن لهم في الخروج من مصر، فخرج ومن معه، فأوحى الله إليه بذلك؛ حتى لا يخاف، وليطمئن أن ربه سبحانه معه. قال تعالى: {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الشعراء:53]. أي: من يجمعون الناس بعد أن تنبه فرعون لخروجهم، ويقول الجامعون: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} [الشعراء:54 - 55]. فجمع الناس بهذه المقولة: إن بني إسرائيل عدد قليل قد خرجوا {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:55 - 56]. يعني: عددهم وقوتهم لا تقارن بعددنا وقوتنا؛ فلذلك سنذهب إليهم ونرجعهم إلى هنا بقوتنا وعددنا. قال الله عز وجل، {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الشعراء:57] أي: خرج فرعون وجنوده فتركوا أرضهم وديارهم، وتوجهوا إلى البحر الأحمر متبعين لموسى عليه السلام ومن معه. قال سبحانه: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ} [الشعراء:57 - 58]. يعني: كانت لهم في هذه الديار الجنات والبساتين، وعيون الماء فضلاً عن أن لهم من الله عز وجل هذا النهر العظيم نهر النيل، والكنوز والمقام الكريم الذين كانوا يعيشون فيه، فأخرجهم الله عز وجل من هذا كله، وكنوز الأرض كثيرة موجودة في مصر، وكان الفراعنة يستغلونها، ويستخرجون الذهب ثم يصنعون منه الحلي، ويجعلونه مع الموتى في قبورهم، ويصنعون أشياء كثيرة من ذلك. فأخبر الله عز وجل أنه أخرجهم من هذه الكنوز، ومن مقامهم الكريم الذي كانوا يقومونه في أرض مصر. والمقام الكريم: هي المجالس، أو الأرض نفسها، أو المنابر التي كانوا يتكلمون فيها أمام الناس، والناس تذعن لهم في ذلك. فأخرجهم الله عز وجل مما أعطاهم من نعم، وخرجوا متجبرين متكبرين جاحدين لربهم سبحانه مطاردين نبي ربهم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. قال الله سبحانه: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:59]. وقال الله سبحانه وتعالى في سورة القصص: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ} [القصص:5 - 6]. فكان بنو إسرائيل مستضعفين، وكانوا يتبعون موسى عليه الصلاة والسلام، فأراد الله عز وجل أن يري خلقه قدرته وقوته في أن يضع المستكبرين ويذلهم ويرفع المستضعفين ويعزهم بإيمانهم، وبنصرتهم لدين ربهم سبحانه. فإذا به يورث هذا الذي تركه فرعون من أموال وكنوز لبني إسرائيل، فمكن لهم وأورثهم ذلك، قال: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:59]. ثم رجع لتفصيل هلاك فرعون فقال: {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} [الشعراء:60]. يعني: فرعون اتبع موسى ومن معه في وقت شروق الشمس عند الضحى، وكان من المفترض أن أصحاب موسى قد خرجوا بالليل أن يسبقوهم ويفوتهم، لكن فرعون بما معه من خيل سريعة أدركوهم أو كادوا، فقال: {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى} [الشعراء:61] وهم فزعون خائفون، {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61]. وأما موسى عليه السلام فهو مطمئن بربه سبحانه وتعالى؛ لأن الله تعالى يطمْئِن قلوب أنبيائه وأوليائه. قالوا: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61]. يعني: أوشكوا على أن يلحقوا بنا، فكل فريق يرى خصمه أمامه. قال تعالى حكاية عن موسى: {قَالَ كَلَّا} [الشعراء:62] وهي أداة ردع وتسكيت، أي: اسكتوا ولا تتكلموا في ذلك؛ فإن الله عز وجل هو الذي ينصرنا. {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62]، فمن شدة الفزع كأنهم نسوا ربهم سبحانه، ولذلك لم يقل موسى: إن معنا ربنا سيهدينا، وإنما قال: إن معي، فأنا مطمئن بربي، وواثق به حتى وإن تزلزتم وتزعزعتم وشككتم، فربي سيهديني إلى الطريق. فالله عز وجل يهدي موسى عليه السلام على ما يشاء.

تفسير قوله تعالى: (فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك الحجر)

تفسير قوله تعالى: (فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك الحجر) قال تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} [الشعراء:63]. ذكروا أن موسى عليه الصلاة والسلام لما خرج من مصر متوجهاً إلى الشام هو ومن معه تاهوا عن الطريق، فتعجب موسى من ذلك، فسأل من معه لماذا يحدث ذلك؟ فقال علماء بني إسرائيل: إن يوسف عليه السلام لما حضره الموت أخذ علينا موثقاً من الله ألا نخرج من مصر حتى ننقل عظامه معنا. فقال موسى: فأيكم يدري مكان قبره؟ -وهذا الحديث ذكره أبو يعلى والحاكم وصححه، وصححه أيضاً الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة- فقالوا: ما يعلمه إلا عجوز لبني إسرائيل، فأرسل إليها موسى عليه الصلاة والسلام فقال: دليني على قبر يوسف. قالت: لا والله لا أفعل حتى تعطيني حكمي، تعني: إذا أعطيتني ما أريد دللتك على مكان القبر. فقال: وما حكمك؟ قالت: حكمي أن أكون معك في الجنة. فكأن موسى عليه الصلاة والسلام ثقل عليه ذلك، فالجنة ليست بيده حتى يوافق على ذلك، فلما تحير موسى عليه الصلاة والسلام قال له ربه: أعطها حكمها. فلما أعطاها ما أرادت دلتهم على المكان وكان قد غطته المياه، فاحتفروا واستخرجوا عظامه، فلما أقلوها إذا بالطريق مثل ضوء النهار. والمقصود بالعظام جسد يوسف الصديق؛ لأن الله عز وجل حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، ولذلك جاء: (أن تميماً الداري قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا أتخذ لك منبراً يا رسول الله يحمل عظامك؟!)، والمنبر لن يحمل العظام بل سيحمل الجسد كله، فالعظام تطلق على الجسد. قال: فأوحى الله إلى موسى أن أعطها حكمها ففعل، فأتت بهم إلى بحيرة فقالت: انضبوا هذا الماء، فأنضبوه واستخرجوا عظام يوسف عليه السلام، فتبينت لهم الطريق مثل ضوء الشمس، أو مثل ضوء النهار. وجاء في سبب ذكر هذه القصة التي ساقها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي موسى (أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل بأعرابي، فطلب منه أن يأتي إليه إلى المدينة؛ حتى يكافئه على معروفه، فنزل الأعرابي ضيفاً على النبي صلى الله عليه وسلم فأكرمه، ثم قال له: حاجتك؟! يعني: سلني ما تريد. فقال: ناقة أركبها، وأعنزاً أحلبها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أعجزت أن تكون مثل عجوز بني إسرائيل؟!)، يعني: أعجزت أن تطلب مثل ما طلبت! فقال الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم: وما عجوز بني إسرائيل، فقص عليهم هذه القصة. فبدلاً من أن يطلب الأعرابي الآخرة طلب حاجته في الدنيا، ولكن غيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين كانوا يخدمونه كان يقول لأحدهم: سلني، فيقول: أسألك مرافقتك في الجنة. فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أعني على نفسك بكثرة السجود، يعني: أكثر من السجود، وأكثر من القيام حتى أدعو لك فتكون معي في الجنة. والغرض أن الله سبحانه أخبر أنه أخرج بني إسرائيل من مصر وأهلك فرعون، فلما كاد فرعون أن يصل إلى موسى ومن معه إذا بالله عز وجل يوحي إلى موسى {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} [الشعراء:63]. وكان بنو إسرائيل وقتها في غاية القلق، فيسألون: أين أمرك ربك أن نسير؟ فكان يشير إلى البحر، فيأتي أحدهم يريد أن يقتحم البحر فلا يقدر، فيرجع إلى موسى، وهنا جاء الأمر من الله عز وجل أن اضرب البحر بعصاك. وعصا موسى عصا عجيبة، كانت فيها آيات عظيمة، قال: {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} [طه:18] يعني: حال سيرى، {وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} [طه:18]، أي: أضرب الشجر فتسقط الأوراق لتأكلها الأغنام، {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:18] أي: لي فيها منافع أخرى. وهذه العصا صارت حية بعد ذلك، وكانت آية لموسى وعلامة على نبوته عليه الصلاة والسلام ومعجزة له من عند ربه سبحانه، ثم كانت آية لفرعون وجنوده فلم يتعظوا ولم يعتبروا. ثم كانت آية في مرة أخرى عندما كان موسى عليه الصلاة والسلام يغتسل وحده، وكان بنو إسرائيل يغتسلون عراة وكأن ذلك كان جائزاً في شرعهم، وكانوا يقولون: إن موسى لا يغتسل معنا لأنه آدر، أي: فيه عيب في خلقته فيستحي أنه يكون معنا. فإذا بموسى يغتسل مرة ويريد الله عز وجل أن يبرئ موسى مما يقولون فوضع ثوبه على حجر، ففر الحجر بها، فإذا بموسى يجري وراء الحجر ويقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر. فنظر إليه بنو إسرائيل فوجدوا أنه سليم ومن أصح الناس، فلما أخذ الحجر ضربه بعصاه فجرح الحجر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن بالحجر لندباً من أثر الضرب) فكأن الحجر حين جرى صارت له الطبيعة الإنسانية، فعوقب كما يعاقب الآدمي، فكانت العصا في يد موسى يضرب بها هذا الحجر. وهنا مرة أخرى يضرب بها جماداً وهو البحر، فهذا من عجيب آيات الله سبحانه وتعالى فلما ضرب البحر قال الله عز وجل: {فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:63]. وقال له سبحانه: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ} [الدخان:24]. يعني: وقفت الأمواج في مكانها، وشقت الضربة البحر وفلقته، فإذا في البحر اثنا عشر طريقاً، لك سبط من أسباط بني إسرائيل طريق يسيرون فيه وذلك بضربة عصاه عليه الصلاة والسلام. والله عز وجل يخبر أن البحر أصبح رهواً، أي: جامداً كأنه ثلج، وأمواج البحر كما هي ماء ولكنها واقفة في مكانها، وينضب البحر في الأماكن التي يسير فيها موسى ومن معه من بني إسرائيل: {فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:63]. ويذكر الله لنا أن موسى عليه الصلاة والسلام قال: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى} [الشعراء:62 - 63]. فجاء الوحي وهو قوله: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ} [الشعراء:63]، أي: جزء من البحر: {كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:63]، أي: كالجبل العظيم.

تفسير قوله تعالى: (وأزلفنا ثم الآخرين ثم أغرقنا الآخرين)

تفسير قوله تعالى: (وأزلفنا ثم الآخرين ثم أغرقنا الآخرين) قال تعالى: {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ} [الشعراء:64]. يعني: قربنا فرعون ومن معه، فحين بدأ موسى وقومه الدخول في الطرق التي فتحها الله لهم في البحر أقبل فرعون وراءهم، وإذا به ينظر إلى البحر فاحتار: هل يدخل ورائهم أم يقف؟ فأخذته العزة فاقتحم وراءهم كأنه يريد أن يريهم أنه هو الذي شق البحر، قال سبحانه {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ} [الشعراء:64]، يعني: قربناهم وأدخلناهم داخل البحر. قال تعالى: {وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ} [الشعراء:65]. فكانت النجاة من رب العالمين سبحانه، فلما خرج آخر رجل من بني إسرائيل كان فرعون ومن معه قد تكاملوا في وسط البحر، وهنا جاء أمر الله سبحانه للبحر كما أمره في البداية أن ينفلق أمره أن يلتئم، فالتأم عليهم، فأغرقهم أجمعين، قال سبحانه: {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ} [الشعراء:66]. أي: أغرقنا هؤلاء الأبعدين: فرعون ومن معه.

تفسير قوله تعالى: (إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين)

تفسير قوله تعالى: (إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين) قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} [الشعراء:67]، أي: في ذلك آية عظيمة وعجيبة ما كان يظن بنو إسرائيل وقوعها، فلما رأوا الآيات أمامهم كان من المفترض أن يكونوا أكثر الخلق إيماناً، فقد رأوا كيف أهلك الله عز وجل فرعون، ولكن في قلوبهم شيء؛ ولذلك قال موسى عليه السلام: {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي} [الشعراء:62]. يعني: أنكم في شك، وأما أنا فمعي ربي سيهديني، فهداه الله عز وجل وأنجاه وأنجى من معه. وكذلك لما كانوا في طريقهم في البحر تشككوا أيضاً؛ لأن في البحر اثني عشر طريقاً، فكانوا يطلبون من موسى أن يروا إخوانهم، ويتساءلون: هل أخذهم فرعون أم غرقوا في البحر؟ فإذا به يتعجب من أمرهم هذا، فيضرب في كل مكان من هذه الطرق فيفتح لهم كالشبابيك، فينظر بعضهم إلى بعض. ثم لما خرجوا بعد ذلك قالوا: إن فرعون لم يهلك مع أنهم يرون الماء يلتطم على فرعون وجنوده، وكأنه قد بقي في أذهانهم قول فرعون: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وهذا من إجرام فرعون وعتوه وعلوه. فإذا بالله تعالى يريهم آية أخرى من الآيات فقال: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:92]. فأنجى بدنه ولم يجعله يغرق أو تأكله أسمالك البحر مثلاً، ولكن قذفته الأمواج بعد ذلك على البر، فنظر بنو إسرائيل إليه. والقرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي يذكر فيه الله سبحانه وتعالى أنه أخرج فرعون بجسده من البحر، وأما التوراة التي فيها ذكر موسى وذكر الخروج فلا تذكر إلا أن الله أغرقه فقط وأما إخراجه فلا؛ ولذلك كان هذا سبباً لإسلام أناس من الكفار منهم الطبيب الفرنسي الجراح، موريس بوكاي الذي درس التوراة والإنجيل والقرآن وعمل مقارنة بينها وبين العلم الحديث، ثم أسلم وقال: هذا الكتاب كتاب رب العالمين سبحانه، ثم ذكر قصة فرعون ومن معه، فقال: إن الجثة لما أخذت إلى فرنسا لتحليلها أو لترميمها كشفوا عليها فوجدوا فيها آثار الموت غرقاً، وأن هيئة الجثة تدل على أن هذا ميت مات غرقاً، فقد وجدت أنسجة الجثة مليئة بالملح، وأثبتت التحاليل أيضاً: أنه قعد في البحر فترة وجيزة. فيقول الدكتور: أظهرت أشعة إكس تكسير العظام دون تمزق الجلد واللحم. يعني: أن عظمه من الداخل متكسر، وجلده ولحمه من الخارج غير منزوعين ولا متقطعين. فقال أهل الطب: وهذا دليل على أن الماء ضغط عليه حتى كسر العظام الداخلية، وأما الجسد والأنسجة الخارجية فلم تتأثر، وهذا لا يكون إلا من ضغط الماء فقط. فقالوا: إن هذا الفرعون الذي جثته عندهم هو فرعون موسى الذي أغرقه الله سبحانه وتعالى، هو الذي يسمونه منبتاح. وقد ذكره الله تعالى في سورة يونس فقال: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} [يونس:92]، وكأن المعنى أن نخرج البدن سليماً، وفعلاً خرجت الجثة سليمة لينظر لها بنو إسرائيل. فلعله لو نهشته أسماك البحر أو نزلت عليه صخور من البحر لم يعرفوا هيئته، ولكن الله عز وجل أخرج الجثة أمامهم ليروا أن هذا هو فرعون. قال سبحانه: {لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس:92].

تفسير قوله تعالى: (إن في ذلك لآية وإن ربك لهو العزيز الرحيم)

تفسير قوله تعالى: (إن في ذلك لآية وإن ربك لهو العزيز الرحيم) ثم ذكر الله عز وجل لنا في هذه الآيات: أنه أنجى موسى ومن معه أجمعين، وأغرق الآخرين، وعقب بالتعقيب الذي سيتكرر ثمان مرات في هذه السورة: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:8] أي: إن في ذلك الذي سمعتم ورآه بنو إسرائيل قبل ذلك لآية عظيمة من الله سبحانه وتعالى، وحجة وبرهان عظيم على ما نقول: من قدرتنا على إهلاك الظالمين، وإنجاء المؤمنين، ولكن لم يكن أكثرهم مؤمنين، بل أكثر من في الأرض ضالون عن سبيل الله، قال سبحانه: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116]. قال تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:9]. أي: العزيز الغالب القوي الذي لا يقهر، فأهلك فرعون وجنوده، والرحيم بالمؤمنين فأنجى بني إسرائيل، وكأن في ذلك إشارة لهذه الأمة أن الله عز وجل ينجي المؤمنين، ويهلك الكافرين. وهذه السورة من السور المكية كما ذكرنا قبل ذلك، وقد نزلت في وقت كان المسلون في ضعف، وفي قلة وذلة، وكانوا يؤذون من الكفار ويعذبون، فنزلت هذه الآيات تطمئنهم أنه لن يعمل فيكم أكثر مما عمل في بني إسرائيل، وقد أنجاهم الله عز وجل، وأورثهم الأرض واستخلفهم وكذلك أنتم، فجاء وعد الله ومكن الإسلام والمسلمين. نسأل الله عز وجل أن يعز الإسلام وأهله، وأن يذل الكفر وأهله. أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمين.

تفسير سورة الشعراء [69 - 86]

تفسير سورة الشعراء [69 - 86] لقد ذكر الله عز وجل نبيه إبراهيم عليه السلام في مواطن من القرآن ومدحه مدحاً عظيماً، وفي قصته مع قومه عبرة لمن أراد الاستقامة على دين الله وترك الشرك به سبحانه، ويتجلى أدب إبراهيم مع ربه في دعائه له، والتوجه إليه لا إلى غيره، وكذلك كان أدب الأنبياء جميعاً عليهم السلام.

ذكر ما ورد من قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه

ذكر ما ورد من قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه قال الله تعالى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:70 - 82]. لقد ذكر الله تعالى قصة إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام في عدة سور من كتابه العزيز، ومن هذه السور سورة الشعراء. وسورة الشعراء من السور المكية، فهي تتميز بخصائص السور المكية، وتهتم بمحاجة الكافرين لتربية المسلمين، وتهتم بالإخبار عن صفات الله سبحانه وقدرته وقوته وعظمته، فيخبر الله سبحانه عن نفسه، ويخبر عن أنبيائه عليهم الصلاة والسلام كيف عاداهم الكفار، وأن أنبياءه دعوا إلى عبادة الله الواحد القهار، فنصرهم أن الله عز وجل بعدما كاد لهم الكفار، وأرادوا إيذاءهم، فجاء النصر من عند رب العالمين سبحانه وتعالى، وقد كان الكفار يكيدون للنبي صلى الله عليه وسلم في مكة كيداً عظيماً، ويمكرون به صلى الله عليه وسلم، كما قال الله عز وجل: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]. فالكفار مكروا بالنبي صلى الله عليه وسلم وأرادوا أن يوثقوه ويكتفوه ويحبسوه عليه الصلاة والسلام، أو يقتلوه، أو يخرجوه ويطردوه من مكة، قال تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]، ويخبر الله في هذه الآيات وفي مثل هذه السورة المكية كيف أن الكفار تحرشوا بأنبياء الله عليهم الصلاة والسلام وكادوا لهم كيداً عظيماً، وكيف نصر الله عز وجل أنبياءه عليهم الصلاة والسلام، ونصر المؤمنين، وفي ذلك تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين وتصبير لهم، أي: اصبروا فإن الله ناصركم كما نصر الأنبياء من قبلكم. يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ} [الشعراء:69] أي: اتل عليهم الخبر والقصص التي قصها الله عز وجل عليك في كتابه، قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ} [الشعراء:69] أي: اقرأ عليهم هذه الآيات التي فيها خبر النبي إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام.

فضل إبراهيم عليه السلام

فضل إبراهيم عليه السلام إن إبراهيم هو أبو الأنبياء عليه الصلاة والسلام، وهو خليل الرحمن، والخليل: القريب والحبيب، فإبراهيم عليه الصلاة والسلام اتخذه الله خليلاً، كما قال في كتابه: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء:125]، وقال سبحانه: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:120]، وقال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:114]، وقال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود:75]، وما أعظم صفات إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فهي صفات يذكرها الله عز وجل لنا في القرآن؛ حتى نأتسي ونقتدي بهذا النبي العظيم عليه الصلاة والسلام فيها. فقد اتخذ الله إبراهيم خليلاً، ولا يحتاج الله لخليل من البشر، فاختاره واصطفاه خليلاً، أي: أحب الأحبة وأقرب المقربين، فإبراهيم كان خليلاً لله سبحانه وتعالى، فـ (خليل) مأخوذ من الخلة، يقال: فلان خليل لفلان، كأنه تخللت محبته إلى قلبه، أي: دخلت المحبة في القلب واخترقته وتخللته. فإبراهيم خليل الرحمن، وكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم وصل إلى هذه الدرجة العظيمة فهو خليل الرحمن، كما قال عن نفسه صلى الله عليه وسلم: (لو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكني خليل الله أو خليل الرحمن)، سبحانه وتعالى. والخليل أعظم من الحبيب، فهو أقرب الأحبة، وقد كان إبراهيم خليلاً للرحمن بصبره، ولذلك قال الله عز وجل عنه: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّة} [النحل:120] أي: وحده، على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فقد اجتمعت في إبراهيم من الصفات ما لا تجتمع إلا في أمة كاملة، واستطاع وحده أن يقوم بهذه الصفات، فقد ابتلاه الله عز وجل فصبر على هذا البلاء، فابتلاه في القريب، وابتلاه في أبيه، وابتلاه في ابنه، وابتلاه في زوجه، وابتلاه في بلده أن يهاجر من بلده إلى بلد أخرى، وفي كل ذلك يصبر راضياً محتسباً على نبينا وعليه الصلاة والسلام. يقول الحافظ في الفتح: إبراهيم بالسريانية معناها: أبٌ راحم أو أب رحيم، إذاً: فإبراهيم هو الأب الرحيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، قال: والخليل: فعيل من فاعل، بمعنى: فاعل، وهو من الخلة بالضم، وهي الصداقة والمحبة التي تخللت القلب فصارت خلالاً، وهذا صحيح بالنسبة إلى ما في قلب إبراهيم من حب الله سبحانه وتعالى، أما إطلاقه على الله عز وجل فهو من باب المقابلة، إذاً: كأن إبراهيم الخليل تخلل حب الله عز وجل في قلبه، وامتلأ قلبه بحب الله؛ فأحبه الله سبحانه وتعالى. وقالوا الخلة: أصلها الاستصفاء، أي: ينقيه ويختاره، وسمي بذلك لأنه يوالي ويعادي في الله سبحانه وتعالى، يقول: قصر حاجته على ربه وانقطع لله سبحانه وتعالى، فهي من الخلة وهي بمعنى الحاجة أيضاً، أو بمعنى: انقطاع الحاجة إلى الله سبحانه، أو قصر الحاجة إلى الله، ولذلك مما روي: أنه لما أراد الكفار إلقاءه في النار وجاءه جبريل يسأله: ألك إلي حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، حاجتي إلى الله سبحانه وتعالى، فكان قضاء الله أسرع بإبراهيم، حيث قال الله للنار: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69]، فكانت برداً وسلاماً عليه، عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. وكذلك قال الله فيه: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل:120]، يعني: وحده جمع خصالاً من خصال الخير لا تجتمع إلا في أمة، فكانت في إبراهيم وحده عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:120]، والقانت: هو الخاشع والمذعن والمطيع والمتواضع لله رب العالمين، والعابد لله قوله تعالى: {حَنِيفًا} [النحل:120] أي: ترك كل الملل الباطلة وحنف عنها، أي: مال عنها إلى دين رب العالمين، فصارت الكلمة تطلق على الاستقامة، أي: المستقيم على دين رب العالمين، وأصل كلمة الحنف: الميل، يقال: فلان حنيف بقدمه أو برجله، فكلمة حنف بمعنى: اعوجّ، ولكن إبراهيم لكونه مال عن ملل الكفار واستقام على دين الله وصف بأنه حنيف عليه الصلاة والسلام. ومن صفاته الحسنة في القرآن قول الله عز وجل: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:114] أي: يحلم ولا يتهور ولا يتعجل عليه الصلاة والسلام، وأواه أي: كثير التأوه والخوف والبكاء من خشية الله، فكأن أصلها من (أوه) (يتأوه) أي: يبكي بصوت من خوف الله سبحانه وتعالى. إن هذه الصفات الكثيرة التي يذكرها الله لإبراهيم دليل على عظمة شأن إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام.

قصة إبراهيم مع قومه ودعوته لهم إلى ترك عبادة الأصنام

قصة إبراهيم مع قومه ودعوته لهم إلى ترك عبادة الأصنام في هذه الآيات من سورة الشعراء يذكر لنا ربنا سبحانه وتعالى قصة إبراهيم، فيقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ} [الشعراء:69 - 70]، لقد ولد إبراهيم بالعراق على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وكان أبوه هناك، وكان أهل العراق يعبدون الأصنام من دون الله سبحانه، فهاجر بعد ذلك إلى الشام، وكان أهل الشام يعبدون الكواكب من دون الله سبحانه وتعالى، فابتلي في البلدين: في العراق وفي الشام عليه الصلاة والسلام، فقام بأمر الله أحسن قيام، قال الله عز وجل: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ} [الشعراء:69 - 70]، فإبراهيم ينكر عليهم أن يعبدوا أصناماً من دون الله سبحانه وتعالى، وقد كان أبوه فتنة عظيمة له، فقد كان يصنع الأصنام لقومه، فأي بلاء أشد من هذا الابتلاء، وكيف يذهب إلى الناس فيقول لهم: لا تعبدوا الأصنام، فيقولون: أبوك الذي صنعها!! فهذه فتنة شديدة جداً، ومع ذلك صبر عليها إبراهيم، فقال لأبيه وقومه: {مَا تَعْبُدُونَ} [الشعراء:70] أي: أي شيء هذا الذي تعبدونه من دون الله؟ وهذا سؤال استفهام إنكاري، فهو ينكر عليهم هذا الذي يعبدونه من دون الله. قال تعالى: {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} [الشعراء:71] أي: كأنهم ظنوا أن إبراهيم يسألهم سؤال المستفهم الذي لا يعرف حقيقة الأمر فهم يوضحون له الصورة، بينما هو في الحقيقة يعرف أنها حجارة لا تنفع ولا تضر، وهو ينكر عليهم عبادتهم هذه الحجارة، ويقول: ما الذي يجعلكم تعبدون هذه الأشياء؟ هل تنفعكم هذه الأشياء؟ وكأنه يقررهم من أجل أن يعترفوا أن هذه الأصنام إنما هي حجارة وأنها أخشاب؛ إذاً: هذه الأصنام لا تنفع ولا تضر بمقتضى ردهم، حيث إنه قال لقومه: {مَا تَعْبُدُونَ} [الشعراء:70]، قال تعالى: {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا} [الشعراء:71] أي: أوثاناً وأحجاراً كانوا يصنعونها من ذهب ومن فضة ومن حجارة ومن خشب، وقولهم: أصناماً أي: جمادات نعبدها من دون الله سبحانه، وقد صوروها على هيئة صور، قال تعالى: {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} [الشعراء:71]، وكلمة نظل تأتي في العمل بالنهار، وأحياناً عمل الليل والنهار، فكأنهم كانوا يعبدونها جهاراً بالنهار، ولا يستحيون من عبادتهم لها، فعبادتهم لها ليس هو في الخفاء؛ لأنهم قالوا: {نَظَلُّ لَهَا} [الشعراء:71]، أي: في الظل في النهار نعبدها، وكأن المعنى: إذا كانوا بالنهار لا يستحيون، فهم بالليل والنهار يعبدون هذه الأوثان والأصنام. وقوله تعالى: {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} [الشعراء:71] أي: ملازمين لعبادتها، والعكوف على الشيء هو اللزوم للشيء سواء كان هذا الأمر طاعة أو معصية، فهنا عكف على الشيء بمعنى: لازم هذا الشيء، واستمر عليه. فقال الله تعالى على لسان إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ} [الشعراء:72]، أي: هذه باعترافكم أصنام وجمادات، فهل تسمعكم؟

جمال السياق وحسن التصوير في سور القرآن الكريم

جمال السياق وحسن التصوير في سور القرآن الكريم انظر إلى السياق والوقف في الآيات فكله في آخره الختام بهذا الوزن، فهذه القصة ساقها الله عز وجل بسياق موافق للسورة نفسها في الوزن وفي فواصل الآيات، فيقول تعالى هنا: {مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} [الشعراء:70 - 71]، فالسورة تتميز بالآيات والفواصل القصيرة، وتتميز بالوزن في النهاية، أي: يكون في آخرها الياء والنون، أو الواو والنون وإن كانت تأتي الياء والميم في بعضها، لكن الغالب على هذا الفاصل أن يذكر فيه ياء ونون أو واو ونون في آخرها. فما أجمل تعبير القرآن وما أجمل تصويره! حيث إنك تجد أنه يكرر السورة في مواضع أخرى ليست بنفس المتن ونفس الفواصل، فإذا نظرنا في سورة الأنعام لوجدنا أن الله عز وجل يذكر قصة إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام مع عباد الكواكب حين جاء إلى الشام ووجدهم يعبدون الكواكب من دون الله سبحانه وتعالى. فقد قال إبراهيم لهؤلاء: هذا ربي الذي تزعمون، وكأنهم ينتظرون الرد من إبراهيم حين قالوا له: نحن نعبد هذا الكوكب من دون الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:76 - 78] أي: أنا بريء من هذا الشرك ومن هذه العبادات التي تعبدونها، قال تعالى على لسان إبراهيم: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:79]. إن سورة الأنعام فواصلها طويلة؛ فجاءت القصة بنفس الفواصل الطويلة مثلها مثل باقي السور، وكذلك يذكر الله في سورة الأنبياء قصة إبراهيم مع أبيه ومع قومه، وهي تأتي على فواصل معينة، والقصة معها على هذه الفواصل، وهذا هو تفنن القرآن العظيم، حيث إنه يذكر قصة في سورة هي نفس القصة في السورة الأخرى، لكن ليست بنفس الصيغة ونفس العبارة، فالقصة قد تكون واحدة لكنه يصيغها بصيغة تناسب سياق السورة التي هي فيها؛ لذلك فأنت عندما تقرأ القصة في كل موضع فإنك لا تمل من ذكرها، ومثل ذلك تجده في قصة موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام وغيرها من قصص الأنبياء، حيث إنها ذكرت في عدة سور. يقول الله عز وجل على لسان إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ} [الشعراء:72]، والأصل: أن يقول: إذ تدعونهم، ولكن مراعاة لفواصل الآيات يقول: إذ تدعون، فأنت حين تسمع صوت الآية، وتسمع وزنها فكأن لها موسيقى، قال تعالى: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء:72 - 74]. إذاً: فهذه الأصنام لا تسمع، وإبراهيم يقررهم بذلك، وهو يعلم أنها لا تسمع، إذاً: فالسؤال ليس سؤالاً للاستفهام، وإنما هو سؤال للإنكار على هؤلاء، أي: هل تعترفون أنها لا تسمع؟ كما قال تعالى: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ} [الشعراء:72]، فإذا ناديت الصنم فإنه لا يرد عليك. وقوله تعالى: {أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} [الشعراء:73] أي: هل يقدر أن ينفعك بشيء هذا الصنم؟ وهل يقدر أن يضرك بشيء لو فعلت به شيئاً؟ A لا يقدر أن يفعل شيئاً قال تعالى: {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء:74] أي: أن عادة الكفار أن يقولوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22]، فبما أن آباءنا كانوا على شيء فنحن سنمشي على آثارهم، وسنهتدي بهديهم، ونقتدي بسنتهم، لذلك فالله سبحانه وتعالى هنا يعير الكفار بذلك، فأين عقول هؤلاء الذين يعلمون أن الأصنام لا تنفع ولا تضر حين يقولون: {وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء:74]. قال الله تعالى على لسان إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ} [الشعراء:75 - 76] أي: كلكم على نفس العبادة أنتم والآباء، {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:77] أي: أنّ هذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله سبحانه أنتم وآباؤكم وكل معبوداتكم الباطلة أعداء لي إلا رب العالمين، فكلمة عدو هنا: بمعنى: أعداء، فكلمة (عدو) هنا اسم جنس بمعنى أعداء، والأصل أن يقول: إنهم أعداء لي إلا رب العالمين، فالكلمة تؤدي معنى الجماعة، فتأتي أحياناً للمفرد وللمثنى وللجمع، وللمذكر وللمؤنث، فتقول: عدو، وتقصد بها الواحد، وتقصد الاثنين، وتقصد الجمع، وتقصد الرجل، وتقصد المرأة، كما هو في اللغة العربية. وأحياناً يفرقون بين عدو وعدوة، فيقال: الرجل عدو، والمرأة عدوة، وذلك إذا كانت معادية، فقد تقول: فلان عدو لي، أي: أنا أعاديه وهو قد لا ينتبه لهذا الشيء، مثل الأصنام في قوله: {إِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} [الشعراء:77]، فهي أصنام وجمادات لا تشعر بشيء، ولكن أنا أعاديها؛ لأنكم عبدتموها من دون الله، فتأتي كلمة عدوة بالتاء في آخرها بمعنى: أعاديها وتعاديني. قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:77] الاستثناء هنا استثناء منقطع، فكأنه قال: أنتم تعبدون غير الله، فكل الذي تعبدونه من دون الله أعداء لي، والوحيد الذي أعبده هو الله سبحانه وتعالى، فقوله تعالى: {إِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} [الشعراء:77] أي: هذه الأصنام أعداء لي، وقوله تعالى: {إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:77] أي: أعبده وأحبه وحده لا شريك له. وقبل ذلك ذكر في قصة موسى في هذه السورة نفسها أنّ فرعون قال لموسى عليه الصلاة والسلام: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23] فقال تعال حاكياً عن موسى: {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء:24]، فقال تعالى حاكياً عن فرعون: {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ} [الشعراء:25]، فقال الله تعالى حاكياً عن موسى: {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:26]، فقال الله تعالى حاكياً عن فرعون: {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء:27]، فقال الله تعالى حاكياً عن موسى: {قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء:28]. لذلك فإن عادة الكفار أن يسألوا: من ربك؟ ومن عادتهم أن يعبدوا أشياء أمامهم، وأن يعبدوا أبداناً وجمادات أمامهم، فإذا قيل لهم: من ربكم؟ قالوا: هذا الصنم أو هذا الحجر أو هذا الخشب أو هذا التمثال، وهي أشياء ماثلة أمامهم؛ لذلك قال فرعون لموسى عليه الصلاة والسلام: {مَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23]، أي: مصنوع من ماذا هذا الرب؟ أمن ذهب أو من فضة؟ فقال له موسى: {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء:24] أي: ربي الذي خلق كل هذه الأشياء سبحانه وتعالى. وكذلك في قصة إبراهيم لما قال إبراهيم لقومه: {إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:77]، فذكر لهم الرب سبحانه وتعالى، وكلمة الرب بمعنى: الذي يفعل ما لا يقدر غيره على فعله، الرب: هو المربي والفعال والصانع والخالق سبحانه وتعالى، إذاً: ربي الخالق، قال: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء:78]، أي: خلقني وبناء على ذلك فهو أعلم بي ولذلك {فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء:78]، فهل هذه الأصنام خلقتكم حتى تهديكم؟ فتعبدونها لأن آباءكم عبدوها فاتبعتم هدي آبائكم في ذلك، فمن الذي هدى آباءكم إلى ذلك؟ لقد عبدوا أصناماً من دون الله لا تنفع ولا تضر، ولكني أنا عبدت الله الذي ينفعني والذي يضر سبحانه وتعالى. وقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء:78]، تمشي على نفس الوزن الذي قبله الياء والنون، وإن كان الأصل أن يقول: (الذي خلقني فهو يهديني)، بزيادة ياء بعد النون، وهذه قراءة يعقوب، ومثلها قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:78 - 80]، أما باقي القراء فيقرءونها بغير الياء سواء وقفاً أو وصلاً. وقوله تعالى: ((الْعَالَمِينَ)) هي جمع عوالم، أي: كل العوالم العالم العلوي والسفلي وما بينه وكل خلق الله، والرب هو يربه ويدبر أمره، فالله صانعه وخالقه ورازقه ومعطيه سبحانه وتعالى وقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَنِي} [الشعراء:78] أي: أنا الذي اهتديت وليس أنتم، فأنا عبدت من خلقني، فهو الذي يستحق العبادة قوله تعالى: {فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء:78] أي: يهديني لصراطه المستقيم، أو يهديني لعبادته ويعلمني. قال تعالى: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء:79] أي: أن الذي يطعم هو الله، وأما أصنامكم فلا تط

أمثلة من أدب الأنبياء مع رب العالمين

أمثلة من أدب الأنبياء مع رب العالمين إن في القرآن مواضع تذكر أدب الأنبياء مع رب العالمين، كما في سورة الكهف في قصة موسى والخضر عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، وذلك أن الخضر لما سار مع موسى وأراه ثلاث آيات عجيبات قال بعد ذلك: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} [الكهف:78]، فذكر منها قوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79]، مع أن الخضر نبي من أنبياء الله عليه الصلاة والسلام ولا يفعل شيئاً إلا بوحي من الله سبحانه وتعالى، فالله هو الذي أوحى إليه أن يخرق هذه السفينة؛ لأن هناك ملكاً يأخذ السفية من أهلها غصباً، والخرق شيء من العيب؛ لأنه يخربها ويفسدها؛ ولذلك قال: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79]، مع أن موسى يعرف أن هذا وحي من الله، لكن الأدب في الكلام عن الله سبحانه أن ينسب فعل العيب إلى نفسه، قال تعالى: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف:79]. وأما في أمر الغلام الذي قتل فقد قال له موسى: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} [الكهف:74]، فقال: {فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} [الكهف:80] أي: كان والداه صالحين، قال: {فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف:80 - 81]، أي: أردنا نحن، مع أن المريد أصلاً لذلك والذي أمر بذلك هو الله سبحانه وتعالى، ولكن أدب الخضر جعله ينسب إلى نفسه ذلك، فقال: فأردنا، وكأنه يقول: نحن وافَقْنَا ربنا سبحانه وتعالى في ذلك، فالله أخبرنا بالحكمة فكان هذا الصواب فأردنا ذلك؛ لأن الله يريد، فلم يقل أراد الله قتله، وإن كانت هذه هي الحقيقة، ولكنه نسب ما ظاهره قد يوهم العيب إلى نفسه، فقال: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79]، وفي أمر الغلام قال: {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف:81]. وقوله تعالى: {وَأَمَّا الْجِدَارُ} [الكهف:82]، فهو عمل نافع، لأنه رأى أن الجدار سيقع فقام وعدله وهذا فيه منفعة، قال تعالى: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ} [الكهف:82]، فلما كان خيراً محضاً في الظاهر والباطن نسبه إلى الله سبحانه وتعالى؛ تأدباً مع رب العالمين سبحانه. إذاً: فالأنبياء لما يتكلمون عن رب العالمين فإنهم يكونون في غاية الأدب مع الله سبحانه وتعالى، وانظر إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (والشر ليس إليك)، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يخبرنا عن ربه سبحانه في القرآن، فيقول: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16]، فما كان من شيء إلا والله خالقه من خير وغيره، ولكن خلق الله للأشياء هو خير من الله سبحانه، فخلق المؤمن وخلق الكافر كله خير من الله عز وجل، فالله خلق المؤمن ليدخله الجنة، وخلق الكافر ليجاهده المؤمن؛ فيدخل المؤمن الجنة، فكأن الله لو لم يخلق هذا الكافر فإن المؤمن لن يصل إلى الدرجات العالية، فكان في الخلق خيراً للمؤمنين، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (والشر ليس إليك)، فكل ما خلقته فورائه خير سواء لنفسه أو لغيره. وكذلك في سورة الكهف ذكر الله فتى موسى واسمه يوشع بن نون، فعندما نسي الحوت قال: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف:63]، فالذي يقدر للإنسان أن يتذكر والذي يحجب عنه ذلك هو الله سبحانه وتعالى، ولكن يوشع بن نون يقصد أنه نسي على وجه من الشر، فالشيطان تسبب في ذلك، ولم ينسب ذلك إلى الله عز وجل، وأما من حيث الخلق فالله خالق كل شيء سبحانه وتعالى. نعود إلى الآية قال تعالى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء:80 - 81]، أي: الذي هو قادر على الإماتة وقادر على الإحياء وحده لا شريك له، هل أصنامكم تفعل ذلك؟ فربي يفعل هذا كله. وقوله تعالى: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82]، والكلام هنا عن يوم الجزاء ويوم الحساب، فهذا إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام يطمع في رحمة ربه يوم الدين، فكيف لا يطمع غيره في ذلك؟! قال: {الَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي} [الشعراء:82]، وما كانت خطيئة إبراهيم؟ لم يذكر لنا ذنبٌ أذنبه إبراهيم إلا أنه كذب ثلاث كذبات، وهو مضطر لذلك على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فالنبي صلى الله عليه وسلم يذكر في الحديث أن إبراهيم لم يكذب إلا ثلاث كذبات، والظاهر أن هذه الكذبات كانت من باب التعريض، أي: أنه يعرض فيقول كلاماً ليوهم غيره، وهذا أمرٌ واضح.

كذبات إبراهيم عليه السلام

كذبات إبراهيم عليه السلام قوله تعالى: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي} [الشعراء:82]، الخطيئة: هي الذنب، وقد يطلق على الكبيرة من الذنب، فإبراهيم كأنه يستعظم الذنب في حق رب العالمين سبحانه، والنبي صلى الله عليه وسلم يخبر عنه أنه كذب ثلاث كذبات في حياته كلها مع كثرة البلاء الذي ابتلي به، وهذا شيء يسير جداً على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ومع ذلك فإن إبراهيم كان يعرض في الكلام فهو معذور كما أن غيره يعذر في مثل ذلك، فالكذبة الأولى: كما قال الله عز وجل عن إبراهيم: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:63]، فإن إبراهيم لما حطم الأصنام قالوا: {مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:59]، فسألوا إبراهيم: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:62]، قال الله تعالى على لسان إبراهيم: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:63] أي: إن كانوا يردون ويتكلمون، فإن كبيرهم هو الذي فعل ذلك، وكأنه تقييد للشيء فقال: {إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:63]، فإذا كانوا لا ينطقون إذاً فكبيرهم لا يفعل ذلك، إذاً فكأنه علق ذلك على شرط ليس موجوداً وهو {إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:63]، فقد فعله كبيرهم، ولكن أنتم تعلمون أنهم لا ينطقون إذاً لا يفعل كبيرهم ذلك. والكذبة الثانية: كما في قوله تعالى: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89]، وذلك لما خرج قوم إبراهيم إلى عيد لهم أرادوا أخذ إبراهيم معهم، فقال إبراهيم: {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89]، فأظهر أنه مريض وأبطن أن يكيد كيداً في هذه الأصنام، فهو يريد أن يكسر هذه الأصنام، والإنسان قد يكون سقيماً في بدنه وقد يكون سقيماً في قلبه أو في باطنه، وهذا شيء معنوي، وكأنه مثقل بالهموم، فيقول: إني مريض من كثرة ما أرى من المنكرات، وكأن إبراهيم يقصد هذا المعنى، فيوهمهم أنه مريض مرضاً بدنياً فلا يخرج، وحقيقة هو يريد: أني مرضت معنوياً من عبادتكم لهذه الأصنام. وأما الكذبة الثالثة: لما جاء الجبار وأخذ منه سارة سأله عنها: من هذه؟ فلو قال: زوجتي لقتله، فقال: أختي، فهذه الكذبة الثالثة التي كذبها إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وقال لـ سارة: ما على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك، إذاً: فنحن إخوة في الله سبحانه وتعالى، فإبراهيم يقصد الإخوة الإيمانية لا النسب؛ لأنها زوجته. قال تعالى: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي} [الشعراء:82]، فسمى هذه الكذبات خطيئة ولم يسمها خطأً، وكأنها ذنوبٌ كبيرة وقع فيها فأرجو من الله {أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82] وسواء كانت هذه الكذبات شيئاً قد وجد أو أنها لم توجد فإنه قال ذلك على سبيل رجاء رحمة رب العالمين سبحانه: {َالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82]، وكأن الإنسان المؤمن الذي يقول ذلك يستحق أن يغفر الله عز وجل له، فالذي هو مستيقن أن هناك يوماً يسمى يوم الدين ويوم الجزاء ويوم الحساب، فيطمع من ربه أن يغفر له في هذا اليوم، فيعمل لذلك؛ يستحق المغفرة منه. ولذلك جاء في الحديث في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (قلت: يا رسول الله! ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، فهل ذلك نافعه؟)، وابن جدعان من أقرباء السيدة عائشة رضي الله عنها فهو قريب أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقد كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، فهل ذلك نافعه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ينفعه؛ إنه لم يقل يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين). إذاً: فلا ينفعه ذلك الذي كان يفعله، وابن جدعان كان رجلاً كريماً جداً، ولذلك يذكرون عنه أنه كان يطعم الناس كما في الحديث، وكانت له جفنة عظيمة جداً يرقى إليها بسلم، أي: يصعدون إليها ليملئوها طعاماً. يقول الإمام النووي في شرح صحيح مسلم: قال العلماء: وكان ابن جدعان -واسمه عبد الله بن جدعان - كثير الإطعام، وكان قد اتخذ للضيفان جفنة يرقى إليها بسلم. ولاحظ وجه المناسبة بين إبراهيم وبين ابن جدعان، فإبراهيم عليه السلام كان أبا الضيفان، فكان يلقب ويكنى بذلك عليه الصلاة والسلام، فكان الضيوف يأتونه فيطعمهم، وقد أتى إليه ثلاثة من الملائكة في هيئة ثلاثة من البشر، فأطعمهم عجلاً حنيذاً، وكان ابن جدعان رجلاً كريماً يطعم الضيفان، ويحضر لهم الجفنة الضخمة التي لا يرقون إليها إلا بسلم من أجل أن ينالوها، إلا إن إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام قال: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82]، وأما ابن جدعان فلم يقل ذلك؛ لذلك لم يستحق أن يغفر الله عز وجل له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ينفعه؛ إنه لم يقل يوماً من الدهر رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين)، فلو قال ذلك لنفعته هذه الكلمة، فلو أقر بربوبية الله سبحانه، وأنه وحده القادر على المغفرة، ولو أنه أقر بألوهية الله سبحانه وتعالى فعبده ودعاه -فإن الدعاء عبادة لله عز وجل- بدلاً من أن يتوجه إلى الأصنام، لنفعه ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لم يقل يوماً من الدهر: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين)، وأما إبراهيم فقد قالها ودعا ربه: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء:83]. فهو حين قال: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82] توجه إلى ربه سبحانه وسأله من فضله، فقال: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا} [الشعراء:83]، والحكم: هو معرفة الله سبحانه، ومعرفة حدوده وأحكامه تعالى، وأيضاً معناه: هب لي فهماً وهب لي علماً من لدنك، فهذا هو السؤال النافع، فالإنسان يسأل ربه ما ينتفع به كما سأل إبراهيم ربه، وأيضاً قالوا: من معانيها النبوة والرسالة إلى الخلق، فاستجاب له ربه سبحانه وتعالى. قوله تعالى: {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء:83] أي: اجعلني عندك مع عبادك الصالحين، وألحقني بالنبيين من قبلي في درجتهم، وليس معناه: توفني الآن وإنما معناه: إذا توفيتني فاجعلني في درجة النبيين الذين من قبلي عليه وعليهم الصلاة والسلام. ثم قال: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء:84] أي: اجعل لي ذكرى جميلة عند الآخرين، فاستجاب الله عز وجل له، فكل من جاء من الأنبياء بعده فهم من ولد إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وكلهم يذكرون إبراهيم ويدعون له على نبينا وعليه الصلاة والسلام. وقد تنازع عليه اليهود والنصارى، فاليهود يقولون: كان إبراهيم يهودياً، والنصارى يقولون: كان إبراهيم نصرانياً، والمسلمون يقولون: بل كان حنيفاً مسلماً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. فهذا الثناء الجميل كله لإبراهيم عليه السلام، وكل من جاء بعد إبراهيم يذكره بخير عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فقوله تعالى: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ} [الشعراء:84] أي: اجعل كل من يأتي بعدي يذكرني بالثناء الحسن، لا يدعو أحد علي بشر، ولا أحد يتكلم عني بكلام لا يليق، فكان من جاء بعد إبراهيم يذكرونه بالثناء الحسن؛ استجابة لدعوته ربه سبحانه. ثم قال: {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} [الشعراء:85] أي: مع المؤمنين الذين يرثون الجنة، فهو لم يقل: اجعلني وارث جنة النعيم، بل أنا وغيري نرث جنة النعيم، فتكون لنا بعد ذلك ولا نخرج منها أبداً. ثم قال: {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء:86]، فسأل ربه أن يغفر لأبيه؛ لأنه كان من الضالين، وهذا كان قبل أن يعلم إبراهيم أن أباه عدو لله، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه، قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود:75]. أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الشعراء [69 - 104]

تفسير سورة الشعراء [69 - 104] ذكر الله في هذه الآيات من سورة الشعراء مكانة إبراهيم عليه السلام وعلو منزلته، فلقد أنكر على أبيه وقومه عبادة الأصنام التي لا تنفع ولا تضر، وقد تبرأ إبراهيم عليه السلام من أبيه وقومه ومما يعبدون من دون الله تعالى، وسأل إبراهيم ربه جل شأنه أن يعطيه علم النبوة، وأن يلحقه وذريته بالصالحين، وأن يجعل من يأتون بعده من الأقوام والأمم يثنون عليه ثناءً حسناً.

تفسير قوله تعالى: (واتل عليهم نبأ إبراهيم إلا من أتى الله بقلب سليم)

تفسير قوله تعالى: (واتل عليهم نبأ إبراهيم إلا من أتى الله بقلب سليم)

تلبية المشركين عند طوافهم بالبيت الحرام

تلبية المشركين عند طوافهم بالبيت الحرام لقد كان المشركون يلبون عندما يطوفون بالبيت، ويسمعهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم يقولون: لبيك لا شريك لك لبيك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلبي معهم، فلما يذكرون الشرك بالله سبحانه ويقولون: إلا شريكاً هو لك، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: قط قط، أي: حسبكم ما قلتم من توحيد، ولا داعي لهذا الشرك الذي تقولونه، فكانوا يلبون بالتوحيد ثم يقرنون هذا التوحيد بالشرك بالله سبحانه، فيقولون: لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك، فكان النبي صلى الله عليه وسلم ينكر عليهم ذلك، ويأمرهم أن يوحدوا الله وحده لا شريك له.

مناظرة إبراهيم لقومه في عبادة الأصنام

مناظرة إبراهيم لقومه في عبادة الأصنام ذكر الله عز وجل أن إبراهيم إمام الموحدين وأبا الأنبياء دعا الخلق إلى حج هذا البيت؛ لإقامة التوحيد، وألا يجعلوا لله شريكاً في ملكه وخلقه وأمره، فوجد إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام أباه يصنع الأصنام لقومه، وقومه يعبدونها، فقال لقومه: {مَا تَعْبُدُونَ} [الشعراء:70]؛ حتى يقروا بألسنتهم أن هذه الأصنام لا تنفع ولا تضر، {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} [الشعراء:71] يعني: حجارة صورناها على هيئة الآدمي، أو هيئة ما فيه الروح، فقال: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} [الشعراء:72 - 73] أي: هل هذه الأصنام تسمع من يناديها؟ وهل هي تنفع أو تضر؟ {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء:74] يعني: نحن نفعل كما فعل آباؤنا، {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:75 - 77]. يعني: هؤلاء أعداء لي، فكل ما عبد من دون الله فأنا أتبرأ منه، وأعاديه وأظهر العداوة له، إلا الله وحده لا شريك له الذي أعبده ولا أشرك به شيئاً، {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء:78] أي: الذي يملك الخلق هو الذي يملك الأمر، فيأمر ويهدي سبحانه، {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:79 - 82]. فهذا الرب هو الذي يملك الدنيا والآخرة، {رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:77] أي: العالم العلوي والعالم السفلي، فرب كل شيء هو الله سبحانه وهو الذي أعبده ولا أشرك به شيئاً.

مكانة إبراهيم عليه الصلاة والسلام وعلو منزلته

مكانة إبراهيم عليه الصلاة والسلام وعلو منزلته الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الشعراء: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ * رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ * وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ * وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ * وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ * وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ * فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ * قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ * فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ * فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:69 - 104]. ذكر الله عز وجل في سورة الشعراء قصص الأنبياء على نبينا وعليهم الصلاة والسلام، ومنها قصة إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ} [الشعراء:69]. أي: اتل على الذين تدعوهم إلى الله عز وجل، وهم يعرفون جيداً من إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فهو الذي بنى الكعبة التي هي شرف لهم، فيحج الناس إليها من كل مكان، ويطوفون بهذا البيت، ويعرفون أن الذي بناه هو إبراهيم ورفعه معه إسماعيل على نبينا وعليه الصلاة والسلام. وإبراهيم عليه الصلاة والسلام كان إمام الموحدين، فقد دعا الناس إلى توحيد الله سبحانه، فليتعظوا بذلك، وليتبعوا إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام الذي دعا الخلق إلى توحيد الله، ودعاهم إلى أن يحجوا هذا البيت.

تفسير قوله تعالى: (رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين)

تفسير قوله تعالى: (رب هب لي حكماً وألحقني بالصالحين) قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام داعياً ربه: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا} [الشعراء:83] أي: علماً ونبوة، فهو يسأل الله عز وجل الشيء الذي ينفعه في الدنيا والآخرة، إذاً: فالحكم هو النبوة والعلم والمعرفة بالله سبحانه، وبحدوده وأحكامه سبحانه. قوله تعالى: {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء:83] يعني: اجعلني في درجة السابقين من الأنبياء وكذلك من يلي الأنبياء والمرسلين، فاجعلني معهم يوم القيامة في درجتهم العالية. قال ابن عباس: أي: اجعلني في أهل الجنة.

تفسير قوله تعالى: (واجعل لي لسان صدق في الآخرين)

تفسير قوله تعالى: (واجعل لي لسان صدق في الآخرين) قال: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء:84] يعني: اجعل من يأتون من بعدي يذكرونني بخير، وكأنه يقصد: ثبتني على هذا الدين ولا تضلني، واجعلني إماماً للخلق، فإذا اقتدوا بي دعوا لي، فاجعلهم يدعون لي بألسنتهم، ويصدقون ما قلت ولا يكذبونني، ويثنون علي ولا يقبحوني. ثم قال: {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} [الشعراء:85] يعني: اجعلني مع ورثة الجنة الذين يدخلونها.

تفسير قوله تعالى: (واغفر لأبي إنه كان من الضالين إلا من أتى الله بقلب سليم)

تفسير قوله تعالى: (واغفر لأبي إنه كان من الضالين إلا من أتى الله بقلب سليم) إذاً: فكل هذه الأدعية جميلة من إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ومنها: دعاؤه لأبيه، وأبوه كان من الضالين، وإبراهيم نفسه يقر بذلك: {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء:86] فإذا كان أبوه من الضالين وهو مصرّ على ذلك حتى يتوفاه الله على هذا الضلال، فكيف يغفر له كفره؟ فالله لا يغفر الشرك أو الكفر، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء. {وَاغْفِرْ لِأَبِي} [الشعراء:86] هذه قراءة الجمهور، وقراءة نافع وأبي جعفر وأبي عمرو: ((وَاغْفِرْ لِأَبِيَ)) بفتح الياء؛ ((إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ)) أي: من التائهين المتحيرين الذين تاهوا عن الهدى وذهبوا إلى الضلال.

المنافق خب لئيم

المنافق خب لئيم والمنافق خب لئيم، أي: أنه يفتش وراء كل شيء، والأصل عند المنافق وعند الكافر إساءة الظن في الجميع، فجميع الناس عنده مخيفين، لذلك فهو يفتش وراء كل إنسان من أجل أن يعرف ما وراءه. وطبيعة الإنسان تنضح على عينه، فيرى كل إنسان بما في قلبه هو، فالإنسان الذي عنده إساءة الظن في الناس، وأنهم مخيفون، فهذا لأنه هو في نفسه مخيف وليس قلبه مطمئناً، فنظرته نضحت على عينه هذا الشيء فيرى الناس أمامه كلهم على هذه الهيئة، وفي هذا خطر على الإنسان، ولذلك جاء في حديث النبي صلى أنه قال: (من قال: هلك الناس فهو أهلكهم)، أي: أنه ينظر أن كل الناس قبيحون، وأنهم هلكى، فهو أشدهم هلاكاً؛ لأنه اغتر وظن أنه هو الناجي الوحيد. والإنسان المؤمن يحب الخير لنفسه ولجيرانه وللناس أيضاً، ويحب لهم أن يكونوا مؤمنين، وأن يكونوا مصلين، وأن يكونوا من أهل الطاعات، ولذلك فإن إبراهيم دعا أباه ودعا قومه إلى الخير، ودعاهم إلى الله عز وجل وتلطف في دعوتهم إلى ذلك، فدعا أباه فقال: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم:43 - 45]. فانظر الكلام الطيب من إبراهيم لأبيه صانع الأصنام وعابد الأوثان، فيجيب أبوه بقوله: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ} [مريم:46] أي: ألا تعجبك الآلهة التي أعبدها، أراغب عنها؟ {لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم:46] أي: لأرجمنك بالحجارة وأشتمك أمام الناس، وامش بعيداً عني، فهذا الجواب السفيه يصدر من أهل السفاهة، وذلك لائق بهم، وأما إبراهيم فالذي يليق به أنه حليم أواب منيب عليه الصلاة والسلام، فيحلم عن أبيه، فقال: {سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم:47] أي: مهما عملت فأنا سأستغفر لك ربي؛ {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:47] أيْ: إنه كريم ورءوف بي عطوف علي، وحنانه عظيم بي. وقوله صلى الله عليه وسلم: (يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير) يعني: قلوبهم طيبة ونقية، فلا غل فيها، وفيها التوكل على الله وتوحيد الله سبحانه كقلوب الطير. يقول العلماء: هذه الأفئدة مثل قلوب الطير في كونها خالية من كل ذنب، سليمة من كل عيب، لا خبرة لها بأمور الدنيا، فصاحب هذا القلب لا يفتش عن أحوال الناس، فهو يتعامل مع الناس بكرم ورأفة ورحمة، فصاحب هذا القلب السليم من أهل الجنة، كما قال الله عز وجل: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89]. وكلام إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام فيه جمال في السياق وحسن انصراف وتخلص من شيء والدخول في شيء ثانيٍ، ألا وهو الكلام عن الجنة وعن النار، فالكلام هنا ليس كلام إبراهيم، إنما هو كلام رب العالمين سبحانه.

ما هو القلب السليم

ما هو القلب السليم والقلب السليم هو القلب الذي ليس فيه غل ولا ضغينة ولا حقد ولا شك ولا شرك بالله سبحانه، وإذا اقترف ذنوباً فإنه لا يظل مقيماً عليها، بل سرعان ما يتوب إلى الله سبحانه، والقلب السليم هو قلب المؤمن؛ فإنه سليم من الشرك والشك. وأما قلب الكافر أو المنافق فإنه مريض؛ لأنه لا يعرف الحق، ولا يعرف الله سبحانه وتعالى، ولا يعبده حق العبادة، فعلى ذلك فإن المؤمن قلبه مطمئن بذكر الله، فهو قلب سليم وصحيح.

الفرق بين القلب المريض والقلب السليم

الفرق بين القلب المريض والقلب السليم وفرق بين القلب المريض والقلب السليم، فصاحب القلب السليم يعرف أن هذا حق وأن هذا باطل، لذلك يقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (استفت قلبك، وإن أفتاك الناس وأفتوك)؛ لأن القلب إذا كان سليماً مال إلى الحق وعرفه ولم يتبع الهوى، وهو القلب الخالي عن البدع؛ لأن الإنسان المبتدع إذا وقع في بدعة فإنه يخرج منها إلى بدعة أخرى، إلا أن يتوب الله عز وجل عليه، فالمؤمن قلبه سليم؛ لأنه بعيد عن الشرك والنفاق والرياء والبدع والضلالات، وهو سليم من الميل إلى حظوظ الدنيا، إذاً: فالقلب السليم قلب خالص لله سبحانه وتعالى.

تعريف ابن سيرين للقلب السليم

تعريف ابن سيرين للقلب السليم يقول ابن سيرين: القلب السليم: أن يعلم أن الله حق، وأن الساعة حق، وأن الله يبعث من في القبور، والمسلم قلبه سليم إذا لم تطمس أنواره الظلمات والمعاصي. وجاء في الحديث في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير)، فالطير يخدع سريعاً، فإذا وضعت الشبكة فإنه يقع فيها، لأنه ليست له خبرة كبيرة، فكأن هؤلاء الذين أفئدتهم مثل أفئدة الطير لا خبرة لهم في الحياة، ولا يهمهم أن يأخذوا خبرة في الحياة، فهم يتعاملون مع الناس بسلامة الصدور، ويستغل الناس منهم ذلك فيخدعونهم ويضحكون عليهم، ويغبنونهم ويدلسون عليهم، وهم يتعاملون مع الله، فيعفون عمن ظلمهم، ويجعلون أمرهم لله سبحانه وتعالى، فالمؤمن غر كريم، والكافر خب لئيم. فالمؤمن غر بمعنى: أنه قد يُضحَك عليه، ولا يحاول أنه في كل حاجة يقوم يبحث وراءها ويدقق فيها، فوقته أغلى وزمنه أغلى، فهو خائف أن الموت يدركه وهو على غير عبادة، فلا يذهب وراء الناس ووراء كل عمل يعملونه، وقد يشتمه إنسان فيقول: ما يقصدني، وكانوا يعتبرون ذلك في الجاهلية من مكارم الأخلاق، ولعل بعضهم يقول: ولقد أمر على اللئيم يسبني فأمر ثم أقول لا يعنيني أي: ولقد أمر على إنسان لئيم فيشتمني، فأتجاوز هذا اللئيم وأقول لنفسي: ما يقصدني، مع أنه يراه وهو يشتمه، فهو لا يريد أن يضيع وقتاً في عراك مع هذا الإنسان. وكذلك الإنسان المؤمن، فهو يعلم أن الدنيا زمنها محدود، فهو من ساعة ما ولد وعمره محدود، وهو آخذ في النقصان، فهو ينقص ولا يزيد، وإذا كان الإنسان مقدر له أن يعيش ستين سنة فإنه كلما مر عام نقص من عمره، فلا يزال في التناقص لغاية النهاية.

المؤمن غر كريم

المؤمن غر كريم إن المؤمن يخاف أن يضيع هذا العمر الذي قيمته عظيمة جداً ولا يتكرر، فإذا تشاجر مع هذا، ويدقق في الأمور مع هذا، ويبحث وراء هذا، فإن ذلك سيضيع عليه جزءاً من عمره، إذاً فالمؤمن لا وقت عنده لهذه الأمور، فالمؤمن غر كريم، يعني: أنه ليس له خبرة كبيرة في أمور الدنيا، وليس معناه: أنه غبي، فالمؤمن ليس غبياً، المؤمن فيه نور الإيمان، ولكنه لا يضيع وقته ويفتش وراء كل حاجة من أجل أن يحصل عليها، فهو سليم الصدر، ويتعامل مع الناس بمنطلق حسن النية وحسن الظن. وانظروا إلى سيرة عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فإنه كان يحب أن يعتق العبيد، فالعبد الذي يجده صالحاً مصلياً فإنه يعتقه، فكان العبيد فيهم لؤم فعندما يرون عبد الله بن عمر فإنهم يذهبون إلى المسجد للصلاة ويخشعون في الصلاة، فيعتقهم ابن عمر ويقول لمن يفعل ذلك: أنت حر لوجه الله، فلما تكرر منه ذلك قال له الناس: إنهم يخدعونك، فهم ما كانوا يعملون هذا من ورائك بل أمامك فقط، فقال ابن عمر قولته الجميلة: من خدعنا بالله انخدعنا. ومعنى مقالة ابن عمر: إذا كان قد خدعني فإني أحب عبادته وربنا لا يخدعني، فربنا يعاملني على ما في قلبي وعلى سلامة صدري، فإذا كان هذا العبد قد خدعني فهو لم يخدع الله، فالله يعطيني أجري، وهو عليه إثمه. فالمؤمن غر كريم يعطي، والإنسان الكريم هو الذي يسامح ويعفو ويتعامل مع الناس بكرم الخلق، وكذلك المؤمن.

سبب استغفار إبراهيم لأبيه وهو كافر

سبب استغفار إبراهيم لأبيه وهو كافر وقال سبحانه في سورة أخرى ليبين سبب استغفار إبراهيم لأبيه وهو لا يزال على الكفر، فقال: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} [التوبة:113 - 114] يعني: لما زجره أبوه قال له: لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، قال تعالى: {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} [مريم:47 - 48]. فوعد إبراهيم أباه أن يستغفر له، {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم:47]، فبناء على هذا الوعد قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ} [التوبة:114] أي: عن وعده إياه، فلما بين له ربه أن أباه عدو لله، تبرأ من أبيه ومن المشركين، وعبد الله وحده لا شريك له، فاستحق أن يكون خليل الله سبحانه. قال تعالى: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:114]. ثم دعا ربه فقال: {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:87 - 89]. فقوله تعالى: {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} [الشعراء:87]، فالخزي العظيم هو خزي يوم القيامة، وقد يصيب الإنسان في الدنيا شيء من الإهانة أو الإذلال لكن ليس هو الذل ولا الخزي العظيم، فالخزي العظيم ما يكون يوم القيامة، فتكون فضيحة أمام الخلائق جميعهم ثم المصير إلى نار جهنم -والعياذ بالله- فإبراهيم عليه الصلاة والسلام سأل ربه ألا يخزيه في هذا اليوم العظيم، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أن إبراهيم -على نبينا وعليه الصلاة والسلام- يرى أباه يوم القيامة وعليه الغبرة والقترة) أي: يرى أباه يوم القيامة وعليه الذل، ووجهه منكدر مخسوف من شدة حيائه مما فعل في الدنيا من عبادته غير الله سبحانه. وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يلقى إبراهيم أباه يوم القيامة فيقول: يا رب إنك وعدتني ألا تخزني يوم يبعثون، فيقول الله عز وجل: إني حرمت الجنة على الكافرين)، فإبراهيم يذكر لربه: أنت وعدتني أنك لا تخزني، وأي خزي أشد من أبي الأبعد وهو يدخل النار، ولذلك رحم الله عز وجل إبراهيم يوم القيامة ولم يخزه، فلما نظر إلى أبيه في صورته حن لأبيه، فقال الله عز وجل: (يا إبراهيم! انظر ما وراءك، فنظر إبراهيم وراءه فلما التفت إذا بأبيه يتحول إلى صورة ضبع -أي: هيئة هذا الحيوان الذي على هذه الصورة -فإبراهيم لا يخطر بباله أن هذا أبوه ملطخ بطين ودم- ثم يؤخذ بقوائمه ويلقى في النار). فالذي أشرك بالله سبحانه لا ينفعه أن ابنه كان أباً للأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، وقد حذره الله سبحانه وتعالى وقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فأبى الرجل إلا الكفر، وقال لإبراهيم: إما أن تكون معي فيما أنا فيه وإلا اعتزلني، وإلا لأرجمنك، أي: أسبك أو أخذفك بالحجارة، فهذا كان جوابه في الدنيا، فلم يستحق يوم القيامة إلا النار، يقول الله عز وجل: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ} [الشعراء:88] أي: لا ينتفع الإنسان بالمال ولا بالبنين يوم القيامة، إلا أن يكون هذا المال أنفقه في الدنيا في طاعة الله، أو أن يكون ربى الأبناء تربية صالحة على عبادة الله، فينفع الأبناء آباءهم يوم القيامة بشفاعة ونحوها، ولكن في البداية في الموقف العظيم الكل يفر بعضهم من بعض، وكل إنسان يقول: نفسي نفسي، وحتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يقولون: نفسي نفسي نفسي. ويوم القيامة لا ينفع المال، وقدِّم المال على البنين في الذكر؛ لأن نفع المال في الدنيا للإنسان لعله أكثر من نفع البنين، وكل الناس يكون معهم المال، وليس كل الناس معهم البنون، فعلى ذلك فإن الإنسان بماله يفعل ما يريد فيأكل ويشرب، ولكن ليس كل إنسان له أولاد وبنون. فيقول هنا: هذا المال الذي كنت تتمتع به في الدنيا لا ينفعك يوم القيامة، فليس هناك رشوة، أو أخذ مال، وإنما ينفع في هذا اليوم {مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:89].

تفسير قوله تعالى: (وأزلفت الجنة للمتقين وإن ربك لهو العزيز الرحيم)

تفسير قوله تعالى: (وأزلفت الجنة للمتقين وإن ربك لهو العزيز الرحيم) يقول تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ * وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ} [الشعراء:90 - 93]. ففي هذه الآيات انتقل الله تعالى من كلامه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ} [الشعراء:69 - 70] وذكر مقالته، ثم أخبرهم عن رب العالمين، وانتقل لبيان من هو رب العالمين، فدعا إبراهيم قومه إلى ربه سبحانه، ثم دعا لأبيه، ثم جاء بعد ذلك ذكر النار والجنة، فالله عز وجل الآن يخاطبنا نحن، فهنا حصل التفات وخروج من خطاب إلى خطاب آخر، ومع ذلك تقرأ كل هذه الآيات في سياق واحد ولا تلاحظ الالتفات والخروج من موضوع إلى آخر، وفي هذا دلالة على عظمة القرآن كلام رب العالمين سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (وأزلفت الجنة للمتقين)

تفسير قوله تعالى: (وأزلفت الجنة للمتقين) يقول ربنا سبحانه: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الشعراء:90] أي: صارت لهم قريبة منهم، وأدنيت حتى يدخلوها، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها. فأهل التقوى هم الذين اتقوا المعاصي، واتقوا غضب الله سبحانه، واتقوا الذنوب والشرك بالله فصاروا من أهل الجنة، فهم أتقياء أنقياء أثرياء، قلوبهم مصابيح الدجى، نجاهم الله في الدنيا من كل غبراء مظلمة، ونجاهم يوم القيامة يوم الموقف العظيم من أن يكونوا من أهل النار، فقربهم من الجنة وقربها لهم، وأدنيت {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الشعراء:90].

تفسير قوله تعالى: (وبرزت الجحيم للغاوين)

تفسير قوله تعالى: (وبرزت الجحيم للغاوين) وقوله تعالى: {وَبُرِّزَتِ} [الشعراء:91] أي: أظهرت، وبرز الشيء ظهر وارتفع. وانظر إلى التعبير الجميل في تقريب الجنة من المتقين، فما قال: إنهم قربوا منها، فالإكرام العظيم لأهل التقوى أن الجنة تقرّب منهم، فقد جاءت إليكم فادخلوها، قال تعالى: {وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ * وَبُرِّزَتْ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ} [الشعراء:90 - 91]. وأما الكفار فقبل أن يدخلوا النار فإن الله يريهم النار؛ من أجل أن يخافوا منها، وبعد ذلك يلقون في نار جهنم والعياذ بالله. وقوله تعالى: {وَبُرِّزَتِ} [الشعراء:91] أيْ: أُبرزت لهم، فجعلت بارزة يراها كل من ظهرت له، وسميت الجحيم؛ لأنها متقدة مستعرة وفيها اشتعال، يقال لعين الأسد: إنها جحمة؛ لأنها عين براقة مشتعلة، وعين الأسد فيها احمرار، فهي تخوف فسميت جحمة، وكذلك هذه النار -والعياذ بالله- فإنها مشتعلة. إذاً فالجحيم هي: النار المستعرة المشتعلة. {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ} [الشعراء:91]، غوى الإنسان أي: ضل واتبع العوى، وإنسان غاوٍ أي: إنسان ضال ترك طريق الهدى وانحاز إلى الضلال، فهو إنسان غاوٍ. إذاً فالكفار والغاوون من أهل الكبائر وأهل المعاصي أظهرت لهم جهنم قبل أن يدخلوها، {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [يس:63]، فينظرون إلى النار فيخافون ويفزعون من منظرها، وبعد ذلك يدخلونها، وانظروا إلى السياق القرآني يقول الله عز وجل: {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ * وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الشعراء:91 - 93]، أين الأصنام؟ وأين الأوثان؟ وأين كبراؤكم؟ وأين الجان؟ وأين من كنتم تعبدونه من دون الله؟ والسؤال هنا ليس سؤال استفهام، وإنما هو سؤال توبيخ وتبكيت لهؤلاء، {أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ} [الشعراء:92 - 93] الآن {أَوْ يَنْتَصِرُونَ} [الشعراء:93] أي: إن كانوا لا يستطيعون أن ينصروكم، فلينصروا أنفسهم {هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ} [الشعراء:93] أي: عندما رأوا النار ورأوا عذاب رب العالمين سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (فكبكبوا فيها هم والغاوون)

تفسير قوله تعالى: (فكبكبوا فيها هم والغاوون) قال تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} [الشعراء:94]. فقد قلنا: إن الله عز وجل أراهم النار -والعياذ بالله- كي يخافوا ويذعروا منها، وإذا بهم يؤخذون ويكبكبون، وهذا التعبير غليظ وفيه شدة. وتفسير كبكبوا: أي جمعوا على بعض ودحروا في نار جهنم، فوقعوا فيها، {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور:13]، ويضربون على أقفائهم؛ من أجل أن يكبوا في نار جهنم بعضهم فوق بعض، فكل إنسان غاوٍ، أو ضال، أو بعيد عن الله سبحانه، أو استكبر عن عبادة الله، وترك طاعة الله فإنهم ينطبق عليهم، {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} [الشعراء:94]، ومعهم {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} [الشعراء:95]، وجنود إبليس في الدنيا كانوا لا يرون إبليس ولا جنوده، وفي يوم القيامة يرونهم على أبشع الصور، فالإنسان يخاف من المناظر القبيحة التي أمامه، فكيف بمن سيكون صاحبه في النار من مثل هذه المناظر؟! فيجعلون جميعاً في نار جهنم: هؤلاء الغاوون {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} [الشعراء:95]، فلما دخلوا النار {قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ} [الشعراء:96] أي: يتخاصمون ويتشاجرون مع بعض في النار، فيكون هناك نار وعذاب وعراك وخصام.

تفسير قوله تعالى: (تالله إن كنا لفي ضلال مبين)

تفسير قوله تعالى: (تالله إن كنا لفي ضلال مبين) قال تعالى: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الشعراء:97] أي: لقد كنا ضالين؛ لأنكم عتمتم علينا وجعلتمونا نضل ونبتعد عن رب العالمين. وقوله تعالى: {تَاللَّهِ} [الشعراء:97] هذا قسم بالتاء، ولا يكون إلا في لفظ الجلالة فقط ولا يجيء لغير لفظ الله. وقوله تعالى: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الشعراء:97] أي: يا خسارة! فنحن كنا في ضلال مبين واضح في أيام الدنيا، فكيف عمينا عن الحق؟ {إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الشعراء:97] أي: لقد كنا في ضلال مبين.

تفسير قوله تعالى: (إذ نسويكم برب العالمين)

تفسير قوله تعالى: (إذ نسويكم برب العالمين) {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:98]، فقد نظروا إلى إبليس وجنوده، ونظروا إلى من عبدوا من دون الله فقالوا: لقد كنا في ضلال: أأنتم آلهة؟! فأين ذهبت عقولنا؟ وكيف كنا نعبدكم من دون الله؟ {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:97 - 98] أي: أأنتم مثل رب العالمين؟!

تفسير قوله تعالى: (وما أضلنا إلا المجرمون)

تفسير قوله تعالى: (وما أضلنا إلا المجرمون) قال تعالى: {وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ} [الشعراء:99] أي: ما أضلنا إلا أهل الجرم والفجور والمعاصي، وكذلك الشياطين الذين زينوا لنا عبادة غير الله سبحانه، وزينوا لنا الشرك والكفر والمعاصي.

تفسير قوله تعالى: (فما لنا من شافعين)

تفسير قوله تعالى: (فما لنا من شافعين) قال الله تعالى: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} [الشعراء:100]، فهم يندبون حظوظهم، ويبكون على أنفسهم، ويقولون: لا يوجد من يشفع لنا، وذلك لما رأوا أهل الإيمان وأهل التوحيد يشفع بعضهم لبعض، فأهل الطاعة نفعتهم الشفاعة. فقد دخل أناس من الموحدين النار، ونفعهم من شفع فيهم كالنبي صلى الله عليه وسلم، وأهل الدين، ومن أحبهم من المؤمنين، فأخرجهم الله عز وجل من النار، فلما رأى الكفار ذلك قالوا: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} [الشعراء:100] أي: نحن ما لنا أحد يشفع لنا.

تفسير قوله تعالى: (ولا صديق حميم)

تفسير قوله تعالى: (ولا صديق حميم) قال تعالى: {وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء:101] أي لا يوجد رجل بيننا وبينه صداقة دافئة؛ لأن الحميم: هو الماء الساخن الدافئ، يعني: رجل بيننا وبينه صلة وصداقة في الدنيا تنفع الآن، فلا تنفع صداقة كلام فقط، فقد كانوا في الدنيا أصدقاء، فأهل المعاصي يصادق بعضهم بعضاً، ويقولون له في الدنيا: نحن نفديك بأرواحنا ونفديك بكذا، وهذا كلام فارغ، فلما يأتي يوم القيامة لا يجد من يقول له: أفديك بكذا، فكلهم في النار والعياذ بالله، فقالوا: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء:100 - 101].

معنى الشفيع

معنى الشفيع والشافعون: هم الشفعاء، وسمي الشفيع شفيعاً؛ لأنه لا يترك صاحبه وحده، وإنما يشفعه فيكون معه اثنين بدلاً من أن يكون وحده، فتقول: تعال يا فلان اشفع لي عند فلان، يعني: كن بجانبي فنصير اثنين، ولا تتركني وحدي.

معنى الصديق

معنى الصديق والصديق: مأخوذ من الصدق، فهو صديقك الذي يصدقك، والذي يكون معك، وفي قلبه محبة ومودة لك فيصدقك في النصيحة، ويأمرك بالمعروف وينهاك عن المنكر، ويكون معك في سرائك وفي ضرائك، وهو الصادق في ودادك الذي يهمه أمرك، فهذا هو الأخ في الله سبحانه.

منافع الصديق لصديقة

منافع الصديق لصديقة والأخ في الله ينفعك في الدنيا، وينفعك في قبرك، وينفعك يوم القيامة، ففي الدنيا ينصحك ويأمرك بالمعروف وينهاك عن المنكر، وما سألته شيئاً إلا وأجابك في هذا الشيء، فإذا طلبت منه إعانة أو شيئاً آخر فهو يكون معك، فإن لم يكن معك بماله أو ببدنه فهو معك على الأقل بكلامه فيواسيك. فإذا مت فهو الذي يشيعك إلى قبرك، ويقف على قبرك يدعو لك، ويصلي عليك، فتنتفع به وأنت في قبرك. وإذا مت فهو يبحث عن حال عيالك وأهلك هل هم محتاجون لشيء، ففي الدنيا كانت صداقة حقيقية فنفعت، وأنت في قبرك فهو يبحث عن دينك ليقضي عنك دينك؛ حتى لا تعذب عند الله سبحانه. فإذا كنت يوم القيامة وأدخلت النار فإن هذا الصديق الحميم الذي كان من الأتقياء ينفعك عند رب العالمين، ولا يزال يدعو ربه حتى يخرجك الله عز وجل من النار بفضله وبكرمه سبحانه، وبدعاء هذا الصديق الحميم. ولعل هذا الأخ في الله يكون أخوه في منزلة دنيا في الجنة، وهو في منزلة عليا، فيشفع عند رب العالمين فيرفع أخاه في منزلته، وانظر لحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: (المرء مع من أحب)، فهذا الصديق الحميم وهذا الأخ في الله ينفع أخاه في الدنيا وفي الآخرة، فلذلك فالكفار عندما يرون ذلك إذا بهم يتحسرون في وقت قد فاتهم ذلك، فلا ينفعهم البكاء، ولا تنفعهم الحسرة، ولا ينفعهم الندم، ولا ينفعهم إيمانهم فقد رأوا ما كان غيباً رأوه شهادة، فقالوا: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء:100 - 101].

تفسير قوله تعالى: (فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين)

تفسير قوله تعالى: (فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين) ثم قالوا: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} [الشعراء:102] أي: مرة ثانية نرجع إلى الدنيا، وقد قضى الله ألا يرجع إليها لا المؤمن ولا الكافر، فالدنيا هي مرة واحدة فقط، وقال الكفار: نرجع إلى الدنيا، وقد قالها المؤمنون الشهداء لما وجدوا عظيم الثواب عند رب العالمين، فسألوا ربهم سبحانه أن يعيدهم إلى الدنيا؛ حتى يقتلوا مرات ومرات في سبيل الله سبحانه لما رأوا من عظيم الأجر عند الله سبحانه، قال تعالى على لسان الكفار: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:102 - 103]. أي: إن في هذا الذي تلوناه عليكم، والذي ذكرناه لكم في هذه الآيات وغيرها موعظة وعبرة لمن كان مؤمناً، ولكن أكثر الناس ليسوا مؤمنين، فلا ينتفعون بهذه المواعظ.

تفسير قوله تعالى: (إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين)

تفسير قوله تعالى: (إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين) قال تعالى: {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:103 - 104]، وتتكرر في نهاية الآيات في كل قصة من القصص القرآنية هذه الآية، فقد تكررت ثمان مرات، قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:103 - 104]؛ ليبين لك عقب كل قصة من القصص أن هنا آية، فاعتبر إن كنت ممن يعتبر، وأكثر الناس لا يعتبرون، فكن أنت من الأقل الذين يعتبرون {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:103]، فإن لم تعتبر أنت ولا غيرك فـ {إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:104]، فالله لا يحتاج إلى أحد، وهو الرب سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (وإن ربك لهو العزيز الرحيم)

تفسير قوله تعالى: (وإن ربك لهو العزيز الرحيم) قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ} [الشعراء:104] التأكيد باللام، والتأكيد بـ (هو) {الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:104] سبحانه، فهو عزيز غالب لا يغالب سبحانه، وإذا أمر بالشيء لا يقدر أحد أن يمنعه، قال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:2]، فهو عزيز قوي قاهر غالب سبحانه، وهو بالمؤمنين رءوف رحيم، ومن تاب إلى الله تاب الله عز وجل عليه. نسأل الله عز وجل أن يتوب علينا، وأن يجعلنا من عباده المرحومين. أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الشعراء [105 - 122]

تفسير سورة الشعراء [105 - 122] في قصة سيدنا نوح عليه السلام من العظمة وبعث الثقة بوعد الله ما يتجلى لكل متأمل، فقد أمره الله أن يصنع سفينة في حين أن معطيات العقل قد تجعل ذلك ضرباً من الخيال؛ بسبب جهل العقل عن معرفة الغيب، فصنَع نوح السفينة، وأمر الله الأرض أن تخرج ماءها، وأمر السماء أن تنهمر بالماء، فصعد نوح على السفينة ومعه من أمره الله بحمله، وأغرق الكفار والمكذبون، وقيل الحمد لله رب العالمين.

كيفية نشوء الشرك في قوم نوح

كيفية نشوء الشرك في قوم نوح الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الشعراء: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ * قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ * وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ * إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ * قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ * قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَأَنجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:105 - 122]. هذه هي القصة الثالثة في هذه السورة العظيمة سورة الشعراء، يذكر الله سبحانه وتعالى فيها نبياً من الأنبياء، بل هو أبو الأنبياء قبل إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وهو نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فنوح أرسله الله عز وجل إلى قومه؛ ليدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وكان آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام وهو أبو البشر قد تعلم أولاده منه توحيد الله سبحانه وتعالى، واستقاموا على التوحيد قروناً وأزمنة طويلة، حتى جاء قوم نوح فعبدوا غير الله سبحانه وتعالى، وكان السبب في ذلك تصوير التماثيل، وصنعوا التماثيل وجعلوا ينظرون إليها ظناً منهم أنها تذكرهم السابقين، وقد كان الناس من قبلهم على التوحيد الخالص عشرة قرون أو أكثر من ذلك، وإن كان هناك معاص قبلهم لكن الشرك لم يوجد إلا في هؤلاء، وأما القرون من قبلهم فقد كانوا على التوحيد حتى جاء هؤلاء فأشركوا بالله سبحانه.

طروء الشرك على قوم نوح وسببه

طروء الشرك على قوم نوح وسببه قال الله في سورة نوح: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} [نوح:23 - 24]. فقد كان سبب شركهم أن هؤلاء القوم الذين سماهم الله عز وجل كانوا أناساً صالحين، فأعجب الناس صلاحهم، فلما مات هؤلاء الصالحون قال الشيطان لهؤلاء، أو ألقى في قلوبهم أن صوروا لهم الصور، واصنعوا لهم التماثيل حتى تذكروهم، فصنعوا لهم صوراً، وصنعوا لهم تماثيل، وكانوا يأتون إلى أماكن صورهم وتماثيلهم ويقولون: هؤلاء كانوا من الصالحين، ولم يزالوا على ذلك فترة من الزمن، ثم مات هؤلاء وجاء أولادهم بعد ذلك، فقال أولادهم: إن آباءنا كانوا يتبركون بهؤلاء ويأخذون البركة منهم، ونحن نتبرك بهم كما كان يفعل آباؤنا، فذهبوا إلى هذه الصور والتماثيل يلتمسون منها البركات، ويلتمسون منها الإحسان وأشياء يزعمونها، فمضت السنون وجاء أقوام بعد ذلك فقالوا: كان آباؤنا يعبدون هؤلاء، فعبدوهم من دون الله سبحانه، فلذلك لما قالوا: {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:23] يذكر ابن عباس رضي الله عنه: أن هذه أسماء أناس صالحين، فما كانوا كفرة ولا مشركين، فأحب الناس أن يتذكروهم، فجعل الشيطان لهم هذه الحيلة التي وصلوا بها في النهاية إلى أن يعبدوا الصور والتماثيل؛ ولذلك حرمت صناعة التماثيل والصور في ديننا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من صور صورة كلف أن ينفخ فيها الروح يوم القيامة وليس بنافخ) سواء كانت الصورة تمثالاً يصنعه الإنسان أو ينحته فإنه سيأتي يوم القيامة ويقال له: انفخ فيه الروح، أو أنه يرسم ما فيه الروح بيده، فيقال له يوم القيامة: انفخ فيه الروح، فينبغي للمسلم أن يبتعد عن أن يصور صوراً أو يرسم بيده صور أشياء فيها الروح، فإن ذلك لا يجوز، وكذلك نحت التماثيل فإنه حرام في شرعنا.

تفسير قوله تعالى: (كذبت قوم نوح المرسلين)

تفسير قوله تعالى: (كذبت قوم نوح المرسلين) ذكر الله عز وجل قصة نوح هنا فقال: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:105]، وسرد الآية على نفس السياق الذي وردت فيه كل القصص في هذه السورة، {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:105]، {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:123]، {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:141]، {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:176]، وفي كل الآيات يذكر: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ} [الشعراء:106] إلا في أصحاب الأيكة فقال: {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:177]؛ لأن هؤلاء الذين ذكر الله عز وجل في قصصهم: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ} [الشعراء:106] كانوا إخوة لذلك النبي في النسب، أو كانوا من القوم، فيقال: فلان أخو فلان يعني: من النسب، وقد يقال: فلان أخو فلان أي: من نفس القبيلة، ولا يشترط أن يكون أخاً لواحد منهم من النسب، فقد يكون من القبيلة وهو بعيد في نسبه منها، فيقال: يا أخا بني تميم، يعني: أنت من بني تميم، أو أهلك كانوا من بني تميم، فذكر الله عز وجل هنا السياق المناسب لسياق السورة، فبدأه بالقصص، وختمه أيضاً بما تختم به القصص: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:8 - 9]. قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:105]، فذكر المرسلين بالجمع مع أنه أرسل إلى قوم نوح عليه الصلاة والسلام رسولاً واحداً وهو نوح، ولكنه ذكر الجمع هنا؛ لأن من كذب رسولاً واحداً فقد كذب جميع المرسلين، فدعوة المرسلين دعوة واحدة، فالرسل كلهم يدعون أقوامهم أن {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، فمن كذب هذا الرسول الذي يأمرهم بقوله: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، فقد كذب كل من دعا إلى ذلك.

تفسير قوله تعالى: (إذ قال لهم أخوهم نوح فاتقوا الله وأطيعون)

تفسير قوله تعالى: (إذ قال لهم أخوهم نوح فاتقوا الله وأطيعون) قال تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:106]، فهنا يعظهم نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وهو منهم وهم قومه، فدعا قومه ليلاً ونهاراً كما ذكر الله عز وجل ذلك في سورة نوح، فقال: {رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} [نوح:5 - 9]، وكل هذا الدعاء من نوح لقومه ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً كان لغاية واحدة وهي: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، ولكن لم يزدهم دعاؤه هذا إلا فراراً وعناداً وإصراراً على الكفر، كما قال: {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ} [نوح:6 - 7] أي: يا قوم تعالوا إلى الله ليغفر لكم ذنوبكم، فيدعوهم إلى الله مخبراً لهم أن الله سيغفر لهم، ولكن كان الرد منهم ما قاله تعالى: {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} [نوح:7]، وهذه مبالغة في عدم السمع وعدم الاستماع وعدم التنبه لما يقوله نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، مع أن الأصل أن الإنسان لا يدخل أصبعه كاملاً في أذنه، وإنما يدخل الأنملة وهي طرف الأصبع، ولكن هذا على وجه المبالغة في عدم تقبلهم سماع دعوة نوح عليه السلام، وإضافة إلى عدم سماعهم للحق كانوا إذا رأوا نوحاً عليه السلام وضعوا ثيابهم على وجوههم؛ حتى لا ينظروا إليه على نبينا وعليه الصلاة والسلام، كما قال تعالى: {وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} [نوح:7]، وقال تعالى: {وَأَصَرُّوا} [نوح:7] يعني: على كفرهم، {وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} [نوح:7] أي: استكباراً فضيعاً وشنيعاً، فإذا بهم لا يسمعون ولا يعقلون ولا يتنبهون لما يقوله نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام. قال الله عز وجل: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:106] يعني: ألا تتقون الله سبحانه وتعالى، {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الشعراء:107]، وكل رسول من رب العالمين فهو أمين، أي: مؤتمن على شرع رب العالمين سبحانه، فقد ائتمنني ربي على هذه الشريعة حتى أبلغكم وأدعوكم وأهديكم إلى صراط الله المستقيم، {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ} [الشعراء:107] يعني: صاحب رسالة من الله عز وجل، قد جئت لكم بشريعة وبرسالة من الله سبحانه، وأنا مؤتمن من لدن ربي سبحانه، {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الشعراء:107]. وقوله: {أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:106] مفتوحة الآخرة، أي: ألا تتقون الله سبحانه وتعالى. قال بعدها: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:108]، فطاعة الرسول من طاعة الله سبحانه وتعالى، أي: أطيعوني فيما جئت به تكن طاعتكم هذه طاعة لله رب العالمين، وقراءة الجمهور: {وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:108]، وقراءة يعقوب: ((وَأَطِيعُونِي)).

تفسير قوله تعالى: (وما أسألكم عليه من أجر واتبعك الأرذلون)

تفسير قوله تعالى: (وما أسألكم عليه من أجر واتبعك الأرذلون) قال تعالى حاكياً كلام نوح عليه السلام: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:109]. فقد كان كل الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام يقولون لأقوامهم: إننا لم نأت لنطلب أجراً على هذا الشيء، إنما الذي يأجرنا ويعطينا الأجر هو الله سبحانه، وكذلك فإن نبينا صلى الله عليه وسلم قد أمره ربه أن يقول: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23] أي: لا أسألكم عليه أجرة تدفعونها إلي، ولكني أطلب منكم أن تبروني في الرحم التي بيني وبينكم، فإن بيني وبينكم نسباً فراعوا ذلك النسب والقربى. فالأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام أجرهم على الله سبحانه، ولا يسألون أحداً أجراً على شيء، ولا يقبلون صدقة من أحد أبداً، والذي يأخذونه هو ما يأخذونه بجهادهم في سبيل الله سبحانه أو بكسب أيديهم، فيعلمهم الله عز وجل صنعة يعملون بها، فيكون عيشهم إما من غنائم الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى كما كان حال نبينا عليه الصلاة والسلام، وإما أن تكون حرفة يعلمهم الله سبحانه وتعالى إياها كما علم داود وغيره عليهم الصلاة والسلام. وقوله: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:109] اختلف فيها القراء، وهذه هي قراءة الجمهور، وأما قراءة ابن كثير وشعبة عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف ويعقوب: ((إِنْ أَجْرِيْ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ))، والذي يمد فيهم يقرأ: (إن أجري~ إلا على رب العالمين) على حسب اختلافهم في المد والقصر. {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:109] وهنا ناسب أن يذكر الرب سبحانه ولا يناسب أن يذكر الإله؛ لأن مقتضى أنه إلهي أن أعبده، ومقتضى أنه ربي أنه هو الذي يعطي ويرزق؛ ولذلك قال: ((إِنْ أَجْرِيْ إِلَّا عَلَى رَبِّي))، وما قال: على إلهي، وإن كان الإله هو الرب سبحانه، لكن مقتضى ربوبية الله سبحانه أنه هو الذي يشرع، ويرسل الرسل، وأنه الذي يرزق الرسل وغيرهم من الخلق. قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} [الشعراء:110 - 111]. قوله: (أَنُؤْمِنُ) كأنهم يستنكرون ذلك، ويقولون: أنؤمن ونكون مثل هؤلاء؟ وهذا هو كلام الكفرة في كل عصر، فالمشركون قالوا للنبي محمد صلى الله عليه وسلم: إننا لا نجلس مع هؤلاء فتعيرنا القبائل، وقوم نوح قالوا: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} [الشعراء:111] يعني: وقد اتبعك أراذل القوم، أي: السفلة من القوم، والناس الفقراء الضعفاء الذين ليسوا بسادة ولا كبراء ولا وزراء في القوم، فهؤلاء هم الذين كانوا يتبعونه، ونفس الكلام قاله المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم لما رأوا صهيباً وعماراً ورأوا غيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الفقراء والمساكين فقالوا: لا نجلس مع هؤلاء، فاجعل لنا يوماً وحدنا إذا أردت أن نسمع لك، فإذا بالنبي يكاد أن يستجيب لهم طمعاً في إيمانهم، ولكن الله حذر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام:52] أي: لا تطرد هؤلاء الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي مخلصين له، ويريدون وجهه، {وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:28]، وقال تعالى: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:52] أي: اجلس مع هؤلاء ولا تتركهم فإن حسابهم على الله، وحسابك على الله، وحساب هؤلاء الكفار على الله سبحانه، فلا أحد يحمل عن أحد من حسابه شيء. ثم أخبر الله نبيه وخليله صلوات الله وسلامه عليه أنه إذا طرد هؤلاء فإنه يكون ظالماً، وحاشا له أن يظلم، فما كان ليطردهم، ولكنه أراد أن يجعل لهؤلاء يوماً ولهؤلاء يوماً، فإذا بالله يصف ذلك بأنه طرد لهم، مع أنهم آتون ليلاً ونهاراً يتعلمون الدين فكيف يطردهم ويقدم هؤلاء ويجعل لهم يوماً بدلاً من هؤلاء، مع أن هؤلاء لعلهم لا يؤمنون؟! وكذلك قوم نوح لما قالوا لنوح عليه الصلاة والسلام: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} [الشعراء:111] يعني: وقد اتبعك الأرذلون والضعفاء والذين ليس لهم من الأمر شيء، فنحن لن نجلس معهم ولن نؤمن، {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} [الشعراء:111] يعني: هؤلاء الأتباع الذين من حولك ضعفاء، وليس معك جيش ولا قوة، فلن نؤمن لك ما دام معك هؤلاء.

تفسير قوله تعالى: (قال وما علمي بما كانوا يعملون ونجني ومن معي من المؤمنين)

تفسير قوله تعالى: (قال وما علمي بما كانوا يعملون ونجني ومن معي من المؤمنين) لقد أجاب سيدنا نوح على قومه: {قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الشعراء:112] أي: لا تنظروا إلى الظاهر فقط، فلعل هؤلاء الضعفاء كما تزعمون لهم أعمال باطنة عظيمة يعلمها الله ويؤجرهم عليها، فلا تنظروا إلى الظاهر وتحكموا على السرائر حكمكم على الظاهر، فإن لهم أعمالاً عظيمة، ويكفي إيمانهم، فالله أعلم بما كانوا يعملون، فلم أكلف العلم بأعمال هؤلاء، وإنما كلفت أن أدعوهم إلى الإيمان بالله سبحانه وتعالى. ثم يقول نوح عليه الصلاة والسلام: {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ} [الشعراء:113] أي: حساب هؤلاء بأعمالهم إنما هو على الرب سبحانه، وكأنه يقول: إذا كان ربنا سيحاسب الضعفاء فإنه سيحاسب الأقوياء كذلك، ولكن نوحاً كان يتلطف معهم في القول: {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ} [الشعراء:113] أي: بذلك وتفهمونه. {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:114] أي: لا أطرد المؤمنين، وهذا هو الذي حذر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم منه، فسمى عدم مجالستهم طرداً لهم، فقال: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الأنعام:52]، وهنا نوح عليه الصلاة والسلام قال: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ * إِنْ أَنَا} [الشعراء:114 - 115] يعني: ما أنا {إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الشعراء:115] أي: ليس عملي أن أقرب أناساً وأبعد أناساً، أو أرفع أقواماً وأجعل أقواماً في منزلة وآخرين، ولكن عملي أن أنذر الجميع، فمن استجاب كانت له المنزلة العظيمة يوم القيامة عند رب العالمين، ومن أعرض نال العذاب في الآخرة، وكذلك كل الرسل فإنما هم منذرون لأقوامهم، فالنبي هو البشير والنذير، فالبشير من يخبرك بما تفرح به ويسرك؛ وكذلك كان الأنبياء صلى الله عليهم وسلم أجمعين يبشرون المؤمنين بالجنة وما لهم في دار الحبور والسرور، وإما أن يكون النبي منذراً يخبرهم ويخوفهم بما ينتظر من كفر وفجر من عذاب عند رب العالمين، وهنا قال نوح: {إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الشعراء:115]، وما قال بشير؛ لأنهم لا يستحقون بشارة، فإنهم كفار جميعهم أجداداً وآباء وأحفاداً، فقد كان يلقن بعضهم بعضاً الكفر، ويحذر بعضهم بعضاً من الإيمان بنوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام.

تهديد قوم نوح له وموقفه من ذلك

تهديد قوم نوح له وموقفه من ذلك قال سيدنا نوح لربه سبحانه: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:27]، وذلك عندما مكث يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، إذ كان عمره طويلاً، وأما هم فكان منهم صاحب العمر الطويل ومنهم صاحب العمر القصير، فقد مات الأجداد، فجاء الآباء وماتوا، فجاء الأبناء وماتوا، فجاء الأحفاد والرسول هو نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فقد بذل نوح عليه الصلاة والسلام في دعاء هؤلاء الأقوام إلى ربهم سبحانه الكثير من العمر والجهد، وعندما يذكر الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم هذه القصة فكأنه يقول له: ستأتي البشارة والنصر من الله كما نصر نوحاً، وقد صبر نوح ألف سنة إلا خمسين عاماً، فاصبر كما صبر الذين من قبلك من الرسل، {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف:35]. قال نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام: {إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ} [الشعراء:115] أي: أخوفكم عذاب الله بسبب كفركم وشرككم، ((مُبِينٌ)) أي: بين واضح، وعندي الحجج والبراهين من الله. {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} [الشعراء:116]، وهنا التخويف بمقتضى قوتهم، إذ قالوا: نحن أقوياء وأنت ضعيف، فقالوا: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ} [الشعراء:116] يعني: عن سب آلهتنا وعن دعوتنا إلى التوحيد الذي تدعو إليه {لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} [الشعراء:116]، والرجم يأتي في القرآن بمعان مختلفة: فقد يأتي بمعنى الرجم بالحجارة، وقد يأتي بمعنى: السب والشتم، وكل ذلك فعله الكفار مع نوح ومع غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فهددوا نوحاً بالرجم بالحجارة، أي: القتل، والمرجوم هو القتيل رمياً بالحجارة، أو هددوه بأن يكون من المشتومين. وعند ذلك قال نوح سائلاً ربه سبحانه: {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا} [الشعراء:117 - 118] أي: ائتني بالفتح من عندك، والفتح هو النصر، فانصرني عليهم، وقوِّ حجتي، وأظهر دعوتي، وذلك بعد أن شكا إلى ربه تكذيب قومه فقال: {رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا} [الشعراء:117 - 118]، ونكر كلمة الفتح، يعني: فتحاً عظيماً، {وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:118]، فسأل ربه أن ينجيه، وأن ينجي من معه من المؤمنين، وقد كان المؤمنون قلة مع نوح، فما آمن معه إلا قليل من قومه، بل إن امرأة نوح لم تكن على دينه وكانت كافرة، وابن نوح أيضاً كان كافراً، وامرأة نوح قد ضرب الله عز وجل بها المثل في القرآن، فقال: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [التحريم:10] أي: خانتاهما في كونهما على الكفر ولم يؤمنا بدين الله عز وجل، أو في كونهما يدلان القوم على مواضع الضعف عندهما، وليس المقصود من ذلك الخيانة في العشرة الزوجية، فالله يعصم أنبياءه من أن يكون في بيوتهم مثل ذلك.

تفسير قوله تعالى: (فافتح بيني وبينهم فتحا أغرقنا الباقين)

تفسير قوله تعالى: (فافتح بيني وبينهم فتحاً أغرقنا الباقين) بعد أن دعا نوح ربه: {فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:118]. قال سبحانه: {فَأَنجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الشعراء:119] أي: فأنجاه الله سبحانه، والفاء هنا تفيد الترتيب والتعقيب، وكأن نوحاً لما دعا الله نصره، ولكن بعد أن أمره بأخذ أسباب النصر وأسباب النجاة، فأوحى إلى نوح أن يصنع الفلك بقوله: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود:37]، وقال الله محذراً له: {وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [هود:37]، فإذا بنوح يستجيب لأمر الله، فعلمه الله كيف يصنع السفينة، فإذا بنوح يصنعها في الصحراء بعيداً عن الناس، وعندما يمر عليه الكفار وهو يصنع سفينة في أرض لا ماء فيها يتعجبون ويسخرون منه، قال تعالى: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود:38] أي: لم تضحكون علينا، اضحكوا على أنفسكم مما سيحدث بعد ذلك، ولكنهم لم ينتهوا، بل كلما مر عليه ملأ منهم قالوا: ماذا تصنع يا نوح؟! وأين الماء الذي ستحمل عليه هذه السفينة؟ فيضحكون ويسخرون منه، ولا يتوقعون أن الماء سيأتي من بطن الأرض، وليست السفينة هي التي سيذهب بها إلى الماء، فسبحان الله الخلاق العظيم تبارك وتعالى. قال تعالى: {قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [هود:38 - 39].

علامة بدء الغرق التي جعلها الله لنوح

علامة بدء الغرق التي جعلها الله لنوح لقد أمر الله سبحانه نوحاً فقال: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40]. وقد جعل الله علامة منه عز وجل لنوح، وهي أن هذا التنور الذي تشتعل فيه النار سينبعث الماء من داخله، فإذا وقع ذلك فاركب السفينة أنت ومن معك، {إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا} [هود:40] أي: وعدنا الذي وعدناك به، {وَفَارَ التَّنُّورُ} [هود:40] أي: إذا رأيت النار تنطفئ في التنور، ويخرج منه الماء فهذه العلامة إشارة لنزول العذاب، ولكن سننجيك أنت وأهلك المؤمنين، ونهلك هؤلاء الظالمين، فلما جاء أمر الله وفار التنور بالماء ركب نوح السفينة هو والمؤمنون معه، ونادى على ابنه: {يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} [هود:42]، فأبى هذا الابن الكافر إلا أن يكون مع قومه، ورفض نصيحة أبيه عندما رأى الأرض تخرج كل المياه الجوفية منها، ومياه الأنهار تفيض وتلتقي مع مياه الأرض جميعها، وإذا بهؤلاء القوم يهربون إلى الجبال، وإذا الأمواج تعلو فوق الجبال وابن نوح معهم {قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} [هود:43]، فلم يسمع كلام أبيه ولم يستجب لكلام ربه سبحانه، وإذا به كما قال تعالى: {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود:43] أي: أحاط به الماء فصار من المغرقين، وارتفعت السفينة وعلت، وأهلك الله عز وجل الكفار. قال تعالى: {فَأَنجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الشعراء:119] أي: الموقر الممتلئ، وهو السفينة، فرجل واحد صنع سفينة وسعت هؤلاء المؤمنين معه، فسبحان الله! قال الله عز وجل لنوح: {احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} [هود:40] أي: احمل أهلك، واحمل المؤمنين معك، واحمل من الدواب من كل زوجين اثنين ذكراً وأنثى، ولا قدرة لإنسان أن يصنع ذلك إلا بأن يقدره الله سبحانه وتعالى على ذلك، فهو الذي علمه، وهو الذي أعانه سبحانه وتعالى، فصنع هذه السفينة فصارت موقرة مشحونة مملوءة بالخلق وبالدواب وغيرهم. قال تعالى: {فَأَنجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ} [الشعراء:119 - 120] يعني: بعدما أنجيناه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أغرقنا هؤلاء الباقين، فطفت السفينة فوق الماء، وأهلك الله عز وجل الكفار غرقاً، فكانوا أول الخلق على الأرض يعاقبون بمثل هذه العقوبة الصعبة الشديدة، وهي أن تنفجر المياه من تحتهم، وتنزل عليهم المياه من أبواب السماء {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} [القمر:11 - 13] أي: حملنا نوحاً على سفينة مصنوعة من ألواح ومسامير، فالألواح هي الخشب، والدسر: المسامير. والسياق في كل قصة يناسب السورة التي هو فيها، والفواصل التي هو فيها، فهنا قال: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} [القمر:13]، فما قال: على فلك ولا على سفينة؛ لأن الوزن والسياق والخاتمة هنا لكل آية هو حرف الراء، فذكر فيها الفاصلة المنتهية بالراء، فلما ذكر السفينة عبر عنها بـ {ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} [القمر:13]؛ لتناسب باقي السياق الذي في الآيات. ثم قال الله سبحانه: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر:13 - 14] يعني: أن العادة عندما تكون هناك سفينة والأرض تنفجر تحتها ماء، ويوجد طوفان عظيم جداً فإنها تُغرق هذه السفينة، إضافة إلى أن الأمطار التي تنزل {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ} [القمر:11]، فلابد أن تغرق السفينة، ولكن الله عز وجل يخبر هنا أنه هو لذي حملها فلن تغرق هذه السفينة {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:13 - 14] أي: بحفظنا وبحراستنا وبرعايتنا، فنحن الذين حملناها، ونحن الذين حفظناها، وهذا الجزاء جزاء لمن كان كفر، أي: من كفر بنوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فإنهم كفرو به وجحدوا بما جاء به، وهناك فرق بين كَفَر وكُفر، فكفر مبني للمجهول، فنوح عليه الصلاة والسلام قد كفروا به وكذبوه وجحدوه، فهذا الجزاء هو جزاء لهذا النبي الذي كفره قومه، وأبوا أن يستمعوا له وأن يستجيبوا لدعوته.

تفسير قوله تعالى: (إن في ذلك لآية وإن ربك لهو العزيز الرحيم)

تفسير قوله تعالى: (إن في ذلك لآية وإن ربك لهو العزيز الرحيم) قال ربنا سبحانه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:121]، وهذه آية عظيمة، فلو أن عندكم أفهاماً تفهم، وعقولاً تستجيب، وقلوباً تطيع رب العالمين سبحانه لكفتكم، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:121 - 122]. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:121]، وهذه التذكرة هي للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين معه، وهي أن الأكثرين من أهل الأرض على ضلال، وأن الأقلين هم المؤمنون، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:121]. وهذه السورة سورة مكية، حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مكة والذين استجابوا له مائة من الناس تقريباً، وما زادوا على ذلك، فعندما ينظر إلى الكفار وهم ألوف والذين استجابوا له ليسوا إلا عشرات قد يحزن عليه الصلاة والسلام، فيقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:121] أي: بل كان أكثرهم من الكفار، فلا تنظر إلى الكثرة ولكن انظر إلى نصر الله سبحانه العظيم، فهو الذي نصر الضعفاء، وهو الذي مكن لهم بعد ذلك، {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:122]. فذكر كلمة (ربك) التي تعني: الربوبية؛ لأن المقام مقام ربوبية، فالفعال لما يريد هو الرب سبحانه وتعالى، والمعز لمن يشاء والمذل لمن يشاء من العبيد هو الرب سبحانه وتعالى، فيذكر تعالى أن جنابه ممتنع، ولا يقدر أحد أن يمانع أو أن يرفض ما يأمر الله عز وجل به، فيأتي أمر الله على هؤلاء كما يريد الله، فقد أمر الأرض أن تنفجر عيوناً فانفجرت عيوناً، وأمر السماء أن تنزل أمطاراً فانفتحت أبواب السماء بماء منهمر، فأغرق الكفار وأنجى المؤمنين الأبرار. ثم قال سبحانه وتعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود:44]. وأمر الله سبحانه للشيء إنما هو كن فيكون، {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} [هود:44] فنسب الماء إلى الأرض؛ لأن الأرض في باطنها ماء خلقه الله عز وجل، ففيها المياه الجوفية التي كان الناس لا يعرفون عنها شيئاً، فإذا بهم يعرفون الآن أن المياه الجوفية عظيمة جداً، وأن الأرض ممتلئة بالمياه الجوفية، فيأتي رزق الله عز وجل للعباد من الأرض ومن السماء، إذ ينزل لهم ماء من السماء، ويخرج لهم عيوناً من باطن الأرض. قال تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} [هود:44] يعني: ما خرج منك من ماء فابلعيه، {وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي} [هود:44] أي: لا تنزلي ماء بعد ذلك، {وَقُضِيَ الأَمْرُ} [هود:44]، فاستوت السفينة على جبل الجودي، وهو كما قالوا: جبل في تركيا اسمه جبل الجودي، وهم الآن يبحثون حول هذا الجبل عن سفينة نوح على نبينا وعليه الصلاة السلام، وجعلوا هذا المكان مزاراً للآثار، فالله أعلم. فالله سبحانه ذكر أنها استوت على هذا الجبل، واسمه جبل الجودي {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود:44] أي: هلاكاً وسحقاً لكل قوم يكذبون رسل الله سبحانه، وفي هذه الآيات العظيمة كان قبلها الآيات في إنجاء موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وإغراق فرعون وجنوده ما يبهر الألباب من عظمة قدرة الله تعالى، وفي قصة إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام وأن الله أنجاه من النار فخرج وترك قومه وهاجر إلى بلاد الشام يدعو إلى ربه، فنصره ربه سبحانه بالحجة والبيان، كل ذلك يجعل المؤمن يثق بوعد الله ونصره، وهنا ذكر نوحاً وقومه، ثم يذكر بعد ذلك قصة عاد وقصة هود مع قومه. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الشعراء [123 - 140]

تفسير سورة الشعراء [123 - 140] يذكر القرآن الكريم قصص الأمم السابقة للعبرة والعظة، وما من أمة إلا وقد جاءها نذير من الله عز وجل يذكرهم بنعم الله سبحانه، ويدعوهم إلى عبادته وحده، وكم من أمم بطرت معيشتها وكفرت بأنعم الله فأذاقها الله العذاب من حيث لا يشعرون، ومن هؤلاء قوم عاد.

تفسير قوله تعالى: (كذبت عاد المرسلين فاتقوا الله وأطيعون)

تفسير قوله تعالى: (كذبت عاد المرسلين فاتقوا الله وأطيعون) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الشعراء: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ * إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الأَوَّلِينَ * وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:123 - 140].

تكذيب رسول واحد تكذيب لجميع المرسلين

تكذيب رسول واحد تكذيبٌ لجميع المرسلين هذه قصة أخرى من القصص العظيمة التي يذكرها لنا ربنا سبحانه وتعالى في سورة الشعراء بالسياق نفسه الذي ساقه قبل ذلك، {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:105]، فذكر أن قوم عاد كذبوا المرسلين، مع أن رسولهم كان رسولاً واحداً، فقال الله عز وجل: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:123]؛ لأن من كذب رسولاً واحداً فقد كذب جميع المرسلين، فكل رسل الله عليهم الصلاة والسلام دعوتهم واحدة، فهم يدعون إلى عبادة الله، قال تعالى: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [هود:61]، فهم يدعون أقوامهم إلى توحيد الله، وإلى دين رب العالمين، فمن كذب واحداً منهم فيما يأمر من توحيد الله فقد كذب جميع رسل الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ} [الشعراء:123]، ذكر الله سبحانه هذه القبيلة، وذكر ثمود وذكر قبل ذلك قوم نوح، وذكر إبراهيم، والعرب يعرفون تماماً من هؤلاء، وذكر موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام وكرر ذلك في القرآن في مواطن كثيرة، وأهل الكتاب يعرفون ذلك تماماً، فالله سبحانه خاطب الجميع بأنه أرسل رسلاً يعرفهم العرب ويعرفهم أهل الكتاب، فموسى عرفه أهل الكتاب، وأخبر الله عز وجل عن أشياء تفصيلية في قصة موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لا يعرفها إلا من قرأ التوراة، واطلع على كتب أهل الكتاب، وكانوا يعرفون أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقرأ التوراة ولا الإنجيل، ولم يقرأ كتاباً قط، ولم يكتب صلوات الله وسلامه عليه، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم لم يخرج خارج مكة ليتعلم من أحد وإنما خروجه كان في تجارات ورحلات معلومة معدودة، فإن بعض أهل مكة خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وفي بعض الرحلات كان معه عمه أبو طالب، والكل يعرفون أين يتوجه النبي صلى الله عليه وسلم في تجارته، وكيف يرجع، وهو لم يقابل أهل الكتاب ويجلس معهم ليستمع منهم مثلاً، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، فحين يجدون تفصيلات عجيبة في هذا القرآن عن ذكر الأنبياء السابقين لا يعرفها إلا من اطلع على الكتب السابقة فإن ذلك يدل على أنه يوحى إليه صلوات الله وسلامه عليه من عند رب العالمين. فقوم عاد كانوا في جنوب الحجاز بين الحجاز واليمن، وقوم ثمود كانوا في شمال الحجاز بين الحجاز وبين الشام، فقد كان لقريش رحلتان، قال تعالى: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} [قريش:1 - 2]، فكانت لهم رحلة في الشتاء ورحلة في الصيف، فيتوجهون إلى الشام ويتوجهون إلى اليمن في رحلتين تتكرران دائماً، فإذا ذهبوا إلى الشام مروا على ديار ثمود، وكانوا يعرفون وعرفوا أن قوم ثمود كانوا هنا، وهنا أهلكهم الله، وحجر ثمود معروف، وإذا ذهبوا إلى اليمن مروا على ديار عاد، وعرفوا أن ديار عاد كانت هنا، وأهلكهم الله عز وجل في هذا الموطن، ويعرفون أن في هذا البلد الأمين الذي هم فيه كان إبراهيم أبو الأنبياء على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وكان ابنه إسماعيل كذلك، وقد دعاهم إبراهيم ودعاهم ابنه إسماعيل إلى توحيد الله سبحانه فإذا بهم يعبدون أصناماً من دون الله، وقد رأوا ما حاق بالأمم من قبلهم، فهؤلاء قوم عاد أهلهكم الله في هذا المكان الذي عرفتم، وهؤلاء قوم ثمود أهلكهم الله عز وجل في هذا المكان الذي عرفتم. يقول سبحانه: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ} [الشعراء:123 - 124] أي: كذبوا لما قال لهم أخوهم ورسولهم هود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:124]، فيخاطب قومه: ألا تتقون الله سبحانه وتعالى فتوحدونه وتؤمنون به وتعبدونه وتطيعونني فيما جئتكم به من وحي من عند رب العالمين؟ {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الشعراء:125]، فهو رسول يدعوهم إلى الله، ويدعوهم إلى التوحيد وإلى شرع رب العالمين سبحانه، فقال: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الشعراء:125] يعني: مؤتمن من عند رب العالمين على هذه الرسالة، وقد عرفتم أنتم أمانتي، فما من رسول يبعثه الله عز وجل إلى قومه إلا وهم يعرفون سلفاً أنه أمين، وأنه لا يكذب، وأنه لا يقع في الفواحش ولا في الذنوب، فالرسل عليهم الصلاة والسلام يذكرون أقوامهم بقوله تعالى: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الشعراء:125] أي: قد عرفتم أمانتي، فإذا لم أكن قد خنتكم قط قبل ذلك فكيف أخون الله رب العالمين سبحانه وأبلغ شيئاً لم يقله؟ وإذا لم أكن كذبت عليكم يوماً من الأيام فكيف أكذب على الله سبحانه؟! قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:126]، دعاهم ليتقوا الله، وحثهم على ذلك، وأمرهم بذلك: اتقوا الله وأطيعون، وهذه كسابقتها قراءة الجمهور: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:126]، وقراءة يعقوب وصلاً ووقفاً: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِي).

تفسير قوله تعالى: (وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين)

تفسير قوله تعالى: (وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين) قال تعالى: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:127] أي: لا أسأل أحداً من الناس أجراً ولكن: {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:127]، و (إن) هنا بمعنى: (ما)، و (ما) و (إلا) من أدوات القصر، فإذا قيل: ما في الدار إلا فلان فمعناه: ليس في الدار أحدٌ إلا فلان، فإذا قال: {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:127] يعني: لا أنتظر أبداً أجراً من أحد من الخلق، وإنما أنتظر الأجر من الخالق سبحانه وحده لا شريك له، {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:127]، وهذه كسابقتها أيضاً فيها قراءتان، فهذه القراءة {إِنْ أَجْرِيْ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:127] هي قراءة نافع وقراءة أبي جعفر وأبي عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم، وأما باقي القراء: شعبة عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف ويعقوب فيقرءون: (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ)، إذاً: تقرأ بالفتح وبالسكون.

تفسير قوله تعالى: (أتبنون بكل ريع آية تعبثون)

تفسير قوله تعالى: (أتبنون بكل ريع آية تعبثون) لقد ذكر الله عز وجل عاداً فقال: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} [الفجر:6 - 8]، فقوله تعالى: {إِرَمَ} [الفجر:7] هو جدهم، فعاد إرم هم أحفاد إرم، فالقبيلة أبوهم عاد وأبو عاد إرم وأبوه سام وأبوه نوح، فهو عاد بن إرم بن سام بن نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فهؤلاء القوم يذكرهم نبيهم على نبينا وعليه الصلاة والسلام وهو أخوهم هود، وليس شرطاً أن يكون له أخوات من هؤلاء، ولكنه ابن من أبناء القبيلة يشترك مع هذه القبيلة في جدهم الذي هو سام بن نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام. فيخبر ربنا سبحانه هنا أن هوداً قال لقومه: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} [الشعراء:128]، الريع: هو المنطقة المرتفعة أو الطريق الممتد، فهؤلاء كأنهم لفراغ أوقاتهم يلعبون ويبنون آية، والآية: هي البرج العالي الذي يكون للملك، فيطلع منه على الناس، أو أبراج يربي فيها الحمام ويلعب به، أو أبراج لمراقبة الناس حتى إذا مروا من عندها أخذوا من المارين خراجاً أو مالاً، فقال لهم نبيهم عليه الصلاة والسلام: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ} [الشعراء:128] الريع: هو المكان المرتفع من الأرض هذا قول، أو الطريق الواسع وهذا قول آخر، أو أنه الفج الذي بين الجبلين، أو الثنية، يعني: المرتفع الصغير من الأرض، أو المنظرة. وذكر الله سبحانه تعالى أن هؤلاء القوم كانوا جبارين، وكانوا يبطشون بطشاً شديداً بلا رحمة، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ} [الفجر:6] أي: الرؤية البصرية، والرؤية هنا: هي الاطلاع عن طريق ما أخبر الله عز وجل في كتابه، يعني: ألم تعلم مستيقناً كأنك ترى ذلك، {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} [الفجر:6] إشارة إلى قوتهم والتعجب مما فُعِلَ بهم، وقوله تعالى: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} [الفجر:7] أي: أولاد إرم ذات العماد، فقد كانت بيوتهم عالية جداً، ولها أعمدة عالية؛ لأن أجسامهم كانت عظيمة، وكانوا طوالاً وعراضاً، فاغتروا بقوتهم وأجسامهم حتى إنهم كانوا يبطشون بغيرهم من الخلق بتجبر وعتو، فالواحد منهم يضرب ويقتل غيره من غير سبب ومن غير ذنب، فيقول لهم نبيهم عليه الصلاة والسلام: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} [الشعراء:128] يعني: ليس لكم حاجة في بنائها، إنما هي زيادة في اللعب والعبث في ذلك، فإذا مر قوم من غير البلاد يضربونهم ويقتلونهم، ويأخذون أموالهم ويخيفون من حولهم.

تفسير قوله تعالى: (وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون)

تفسير قوله تعالى: (وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون) قال الله تعالى: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء:129]، إذاً: بناؤهم ليسوا هم في حاجة إليه، وإنما للفخر وإظهار الجبروت على غيرهم، فالله يملي لهم ويقول: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183]، فأملى لعاد، وذهب إليهم رسولهم عليه الصلاة والسلام هود يدعوهم إلى الله سبحانه ويقول لهم: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء:129]، والمصانع لها معانٍ وكلها مقصودة هنا، فمن معاني المصانع: الحصون المشيدة، أي: يبنون حصوناً ويشيدونها، ظناً منهم أنهم سيخلدون بهذه المصانع، ومن معاني المصانع أيضاً: القصور المشيدة، أي: تتخذون حصوناً وقصوراً، وقالوا أيضاً: من معاني المصانع: أماكن جمع الماء، أي: يحفرون في الأرض آباراً عظيمة للمياه، فالله عز وجل يخبر أنهم يفعلون هذه الأشياء وكأنهم سيخلدون إلى الأبد. فقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء:129] أي: ترجون بذلك الخلود والعيش دهوراً طويلة، ومن الحماقة التي نسمع عنها في هذا العصر الحديث هو محاولة بعض الجهلة المغفلين إطالة عمر الإنسان، ويجرون في ذلك أبحاثاً ويزعمون أنهم قد وصلوا في بحثهم إلى الشيء الذي يطيل عمر الإنسان أو يقصره، ونسوا أن الله هو الذي كتب على العباد أن آجال الأمة من كذا إلى كذا، ومستحيل أن تزيد هذه الآجال التي حددها الله عز وجل، ففي العصور القديمة مد الله لهم في أعمارهم، وجاءت هذه الأمة فجعل الله أعمارها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين) يعني: غالب أعمار هذه الأمة على ذلك ما بين الستين إلى السبعين، والقليلون من يجاوزن ذلك إلى المائة أو إلى المائة والعشرين، وقوم عاد اتخذوا هذه المصانع يرجون بها الخلود، فيقول لهم نبيهم: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ} [الشعراء:129] مؤملين أن تخلدوا ولا تموتوا أبداً، وقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء:129] أي: كأنكم تخلدون، وهذا استفهام توبيخي، يعني: تريدون أن تخلدوا، ولن يكون ذلك.

تفسير قوله تعالى: (وإذا بطشتم بطشتم جبارين)

تفسير قوله تعالى: (وإذا بطشتم بطشتم جبارين) قال تعالى: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء:130]، هذه مصيبة أخرى من مصائبهم، فقد كانوا كفاراً فدعاهم هود إلى الله سبحانه وتعالى، وكانوا أهل لهو وعبث فدعاهم إلى ربهم سبحانه أن يتوبوا ويتركوا هذا اللهو والعبث، ويأتوا لعبادة رب العالمين سبحانه وتعالى، ومن مصائبهم أن بطشهم كان شديداً، وأصل البطش: الإمساك، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الصعقة التي تكون يوم القيامة يقول: (يصعق الناس فأكون أول من يفيق -صلوات الله وسلامه عليه- فإذا بموسى عليه الصلاة والسلام باطش بساق العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم لم تصبه هذه الصاعقة)، فلا يدري النبي صلى الله عليه وسلم هل موسى قام قبله صلى الله عليه وسلم أم هو ليس ممن صعقوا في هذه الصاعقة، ومعنى باطش: أي بساق العرش. ومنه حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن رب العزة سبحانه في عبده المؤمن: (لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها -أي: يمسك بها-، ورجله التي يمشي بها). فالله عز وجل إذا أحب العبد كان له سمعه الذي يسمع به، يعني: لا يسمع إلا ما يرضي ربه سبحانه، وكان الله عز وجل معيناً لهذا الإنسان في بصره، فهو يراقب الله سبحانه وتعالى، ولا ينظر إلا إلى ما أحل الله، ولا ينظر إلى ما حرم الله سبحانه، (ويده التي يبطش بها) كقوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]. فالإنسان يمسك بعدوه والله يعينه ويمكنه منه سبحانه وتعالى، فهذا هو البطش. يقول تعالى: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ} [الشعراء:130] أي: أخذتم عدوكم، {بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء:130] أي: أمسكتم إمساكاً فيه الموت، يضرب الضربة يقتل بها غيره، فقوله تعالى: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء:130] أي: سطوتم بعنف على غيركم من الناس فبطشتم بهم وقتلتموهم، فالبطش من معانيه: القتل، فيقتلون غيرهم من غير جريمة، أو على شيء لا يستحق معه أن يقتل، فقالوا: هو القتل على الغضب من غير تثبت، بل بمجرد أن يغيظه يضربه ويقتله، فهذا بطش الجبارين الذين نهانا ربنا سبحانه وتعالى عن مثله، وأمر عباده أن يزينوا أمرهم بالحلم، فلا يكونون متسرعين مندفعين متهورين، ولذلك قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] ولكن الله أعطاه الرقة صلوات الله وسلامه عليه، فلم يكن فظاً ولا غليظاً ولا صخاباً في الأسواق عليه الصلاة والسلام. وقوله تعالى: {جَبَّارِينَ} [الشعراء:130] الجبار يأتي بمعانٍ، فالله الجبار القوي سبحانه وتعالى، فأخذه شديد، والجبار يأتي من الجبر، والجبر: الإصلاح، فالله يجبر ما يفسد وينكسر من خلقه، فهو يجبر خلقه سبحانه وتعالى، فإذا انكسر إنسان أقامه الله سبحانه ورأف ولطف به سبحانه وتعالى. وأما هؤلاء فجبارون بمعنى: أنهم قساة عتاة يضربون فيقتلون، فقالوا: الجبار من الناس هو القتّال في غير حق، يعني: يقتل من غير وجه حق، قالوا: وكذلك قوله سبحانه: {إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ} [القصص:19]، يقولها لموسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام لما أراد أن يبطش بالذي هو عدو له، فموسى أراد أن يمسك هذا العدو ويضربه فقال: {أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا} [القصص:19] أي: تريد أن تقتل الناس من غير وجه حق. ومن معانيها أيضاً: الجبار: المتسلط العاتي على غيره، ومنها قول الله عز وجل: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق:45]، فليس جبار صلوات الله وسلامه عليه ولكنه {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].

تفسير قوله تعالى: (فاتقوا الله وأطيعون وجنات وعيون)

تفسير قوله تعالى: (فاتقوا الله وأطيعون وجنات وعيون) قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:131]، فكررها مرة ثانية، فقد ذكرها في البداية وكررها مرة ثانية هنا، فانظروا إلى قوله: {أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:124]، فحثهم على تقوى الله سبحانه وتعالى بأسلوب فيه لطف، ثم أمر: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:131]، ثم بين أنه لا يطلب منهم أجرة في الدنيا وإنما الأجر على رب العالمين، ثم بين لهم الذنوب التي يستحقون بها عقوبة رب العالمين، ثم أمرهم مرة ثالثة بتقوى الله سبحانه، فقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:131]، ثم أمرهم مرة رابعة: {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ} [الشعراء:132]. فهذه أربع مرات يحثهم ويأمرهم بتقوى الله سبحانه وتعالى. وتقوى الله: أن تجعل حجاباً بينك وبين عقوبة رب العالمين سبحانه، فلا تقع في المعاصي، بل تجعل الطاعات لك رحمة يوم القيامة تنجيك من غضب الله سبحانه، فأمرهم وحثهم على أن يتقوا غضب الله عليهم، فهم جبارون ولكن الله إذا أخذهم فأخذه شديد أليم. وأمرهم هود عليه السلام فقال: {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ} [الشعراء:132]، ففي الأمر الأول ذكرهم بذنوبهم، ثم ذكرهم بنعم الله سبحانه، فهل هذه هي المكافأة التي تكافئون بها ربكم سبحانه أن أعطاكم هذه النعم فتكونون جبارين مع الخلق، ولا تراعون في الناس إلاً ولا ذمة؟! فقوله تعالى: {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ} [الشعراء:132] أي: اتقوا الله الذي أعطاكم ما تعرفونه أكثر من غيركم. ثم قال تعالى: {أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ} [الشعراء:133] عطاء من الله سبحانه، و {وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الشعراء:134]، إذاً: فقد أعطاكم الأنعام من الإبل والبقر والغنم، وسخرها لكم، وأعطاكم البنين. والجنات: هي البساتين العظيمة والكثيرة الممتلئة بالثمار، والعرب يمرون على هذه الأماكن فلا يجدون فيها بساتين ولا ثماراً، فقد كانت في يوم من الأيام فيها البساتين وفيها الثمار كما ذكر الله عز وجل لنا هنا، وسترجع مرة أخرى هذه البساتين والثمار في هذه الأماكن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ستعود بلاد العرب مروجاً وأنهاراً)، فقوله صلى الله عليه وسلم: (ستعود) معناها: كانت موجودة قبل ذلك وسترجع مرة ثانية، والعلماء الذين نظروا إلى كتاب الله قالوا: فعلاً في يوم من الأيام كانت هذه الأرض فيها البساتين وفيها الأنهار وفيها الثمار، وقد عرف ذلك خبراء الجيولوجيا وعلم الأرض عن طريق الحفريات، وهؤلاء العلماء أنفسهم يقولون: إنها سترجع مرة ثانية في هذه الأماكن، فستجري العيون والأنهار وسترجع فيها الثمار. وقال تعالى: {وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الشعراء:134] كلمة عيون في القرآن كله تقرأ بضم العين وبكسر العين: عُيون وعِيون، مثل جُيوب وجِيوب، بُيوت وبِيوت، فـ ابن كثير وابن ذكوان عن ابن عامر وشعبة عن عاصم وحمزة والكسائي يقرءون: ((وَعِيُونٍ))، وباقي القراء ومنهم حفص عن عاصم يقرءون: {وَعُيُونٍ} [الشعراء:134]. قال تعالى: {وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الشعراء:134] أي: عيون مياه، والجنات: البساتين.

تفسير قوله تعالى: (إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم وما نحن بمعذبين)

تفسير قوله تعالى: (إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم وما نحن بمعذبين) قال تعالى: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء:135]، أي: إذا قابلتم هذه النعمة بكفركم بربكم سبحانه، فإذا كان قد أعطاكم النعم فإذا بكم تتفرغون للهو وللعبث، فانتظروا عقوبة رب العالمين سبحانه، وهذا الكلام ليس لهم وحدهم، بل هو لكل إنسان يعتبر بذلك، فالقرآن تذكرة، والله يقول: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9]، ويقول: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]، فالمؤمن حين يقرأ مثل هذه القصة بقيس نفسه على هؤلاء، فهؤلاء أنعم الله عز وجل عليهم، وأعطاهم النعم وجعلهم متفرغين، ففي فراغك أنت اعبد رب العالمين سبحانه، ولا تضع وقتك في اللهو والفراغ والعبث، فإن من جرائم قوم عادٍ كما قال تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء:128 - 130]، فهذه من جرائم هؤلاء القوم، فاحذر أن يكون فيك مثل جرائم هؤلاء من اللهو، والعبث، وتضييع الوقت، والبعد عن عبادة الله سبحانه، والبطش بالخلق بغير سبب أو بأتفه الأسباب، احذر من ذلك فإن الله يؤاخذ على ذلك، ويفضح صاحبه كما صنع بهؤلاء القوم. فقوله تعالى: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء:135] أي: بسبب ذنوبكم ومعاصيكم، وهذه قراءة الجمهور، وقراءة نافع وأبي جعفر وابن كثير وأبي عمرو: (إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)، أي: إني أخاف عليكم عذاب يوم القيامة، أو عذاب يوم ترون فيه من الله عز وجل الآيات عليكم، فكان جوابهم: {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ} [الشعراء:136] لن نستمع لك، فقوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا} [الشعراء:136] يعني: يستوي عندنا أن تنصح أو أن تسكت، {أَوَعَظْتَ} [الشعراء:136] أي: ذكرتنا {أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ} [الشعراء:136]، وفي كلا الحالتين لن نستجيب لما تقول، والإنسان قد يغتر بنفسه حين يجد نفسه في صحة في عافية، ويغتر بماله ويستكبر حتى على خالقه سبحانه وتعالى، وينسى أن الذي خلقه من تراب وخلقه من نطفة مذرة، وأخرجه ضعيفاً إلى هذه الحياة وصيره قوياً، سيرده مرة ثانية إلى الضعف وإلى التراب، قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم:54]. فلا تغتر بقوتك فإن بعد القوة ضعفاً، ولا تغتر بغناك فإن بعد الغنى فقراً، ولا تغتر بأن الله مكنك فإنه سيسلب منك ما أعطاك، فقد أبى الله أن يرفع شيئاً إلا وضعه، فهؤلاء القوم ل تنفعهم النصيحة ولم تردعهم الموعظة. وقالوا: {إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:137] أي: أن هذه الأخلاق التي أنت عليها هي نفس الأكاذيب في الزمان الماضي، فقوله تعالى: {خُلُقُ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:137] أي: أن الناس السابقين من قبلك قالوا كذا وماتوا كلهم، ولم يبعث أحد منهم، {إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:137]، فقراءة نافع وابن عامر وعاصم وحمزة وخلف: {إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:137]، وباقي القراء يقرءونها: (إِنْ هَذَا إِلَّا خَلْقُ الأَوَّلِينَ). ويحتمل في قوله تعالى: {إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:137] أنه من كلام رب العالمين سبحانه فكأنه يعقب على ما قالوه، أي: هذه عادة الأولين، فالأقوام المكذبون من قبل عادتهم أنهم يكذبون الرسل ويقولون مثل هذا الكلام، فتكون كلمة {خُلُقُ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:137] بمعنى: عادة الأولين، ويكون هذا من كلام رب العالمين، أو أنه من كلامهم هم يقولون: {إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:137] أي: أن أخلاقك والكلام الذي أنت تقوله هو مثل حال الذين من قبلك، فلم يُنْتفع بكلامهم، فأنت مثلهم. فقوله تعالى: {إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:137] الخلق: من الاختلاق وهو الكذب، أي: إن هذا إلا افتراء الأولين، فأنت مثل الكذابين الذين من قبلك، فتأتي كلمة خلق بمعنى: افتراء وكذب، فيكون من كلام هؤلاء، إذ يكذبون رسولهم الكريم عليه الصلاة والسلام ويقولون: أنت كذاب مفتر كما افترى الذين من قبلك. قال تعالى: {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [الشعراء:138] فقد جزموا بذلك فقالوا: ليس هناك عذاب، وهذا افتراء على الله الكذب، فالكافر يكذب ولا يهتم لكذبه، فيقولون: {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [الشعراء:138] فالكافر بطبيعته يكذب على الله ويكذب على الخلق.

تفسير قوله تعالى: (فكذبوه فأهلكناهم لهو العزيز الرحيم)

تفسير قوله تعالى: (فكذبوه فأهلكناهم لهو العزيز الرحيم) قال الله سبحانه: {فَكَذَّبُوهُ} [الشعراء:139]، والنتيجة: {فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} [الشعراء:139]. فقوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ} [الشعراء:139] أي: أهلكناهم هلاكاً عظيماً صعباً شديداً ما كانوا يتوقعون مثله أبداً، إذْ منع الله عنهم المطر سنين، فإذا بهم لا يجدون ماء وهم على كفرهم هذا، فأرسلوا وافد عاد الذي يضرب به المثل في الشؤم إلى الحرم؛ كي يدعو لهم ويستغيث لهم، فليس هناك أحدٌ يدعو في هذا المكان إلا أعطاه الله، فذهب وافد عاد إلى هذا المكان، وقبل أن يصل إلى الحرم مرّ على ملك من الملوك فدعاه فجلس عنده ووجد طعاماً وشراباً، فنسي قومه، فذكره هذا الملك عن طريق جاريتين تغنيان بما جاء من أجله، فذهب حتى وصل إلى الحرم، فدعا وقال: اللهم اسق عاداً. فكل الكفار يعرفون أن الله هو الخالق، وأنه هو الرازق، فعندما يحتاجون شيئاً فإنهم يقولون: يا رب أعطنا، وأما العبادة فلا يعبدون الله سبحانه وتعالى، فهذا دعا ربه سبحانه وتعالى وقال: اللهم اسق عاداً، فأراه الله عز وجل ثلاث سحابات في السماء: سحابة بيضاء، وسحابة سوداء، وسحابة حمراء، فاختار السحابة السوداء، فنزلت على عاد فلما رأوها قالوا: {قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ} [الأحقاف:24] سموم وريح شديدة من عند رب العالمين، بل هو عذاب أليم من عند رب العالمين، يمطر عليهم من الجحيم، فأهلكهم الله سبحانه وتعالى بما ظنوه، {قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:24 - 25]. فقوله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف:25] فقد دمرت البلد على من فيها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم، وكانت أجسامهم طويلة كالنخيل فجاءتهم ريح شديدة فاقتلعتهم من الأرض كأنهم أعجاز نخل، قال تعالى: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر:20]، فأصبح الواحد منهم كالنخلة تقتلع من الأرض وترمى فتنزل على رأسها. قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} [الشعراء:139]، فقد جاءهم العذاب من حيث كانوا يتوقعون الرحمة، وجاءتهم النيران من حيث كانوا يتوقعون الماء، وجاءهم بطش الله سبحانه وهم كانوا يزعمون أنهم جبارون. قال تعالى: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج:12]. وقال سبحانه: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]. {فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ} [الشعراء:139] فهما كلمتان فقط، فكأنهم ليس لهم قيمة، فقد كذبوا فجاءهم العذاب سريعاً من عند رب العالمين. قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} [الشعراء:139] والآية وموطن العبرة هنا ألا تغتر ولا تعجب بنفسك، ولا تطلب ما لا تقدر عليه، وتقرب إلى الله سبحانه وتعالى تنفعك طاعتك، ولا تبتعد عن الله فإنك لا تدري متى يأتي بطشه سبحانه وتعالى. وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:139] أي: أن الأغلبية من الناس ليسوا على الإيمان {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:140]، ختم هنا بهذا الختام الجميل الذي ختم به كل قصة من هذه القصص، فيذكر الله سبحانه أنه الرب العزيز الحكيم، وأنه الرب الفعال لما يريد سبحانه وتعالى، الخالق، الرازق، الذي يرفع والذي يضع سبحانه وتعالى، الرب الذي يشرع فيأمر وينهى سبحانه وتعالى، قال: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ} [الشعراء:140] وحده لا شريك له {الْعَزِيزُ} [الشعراء:140] أي: الغالب القوي القهار الذي لا يغالب سبحانه، المنيع الجانب، فهو يقدر عليكم ولا تقدرون له على شيء، {الرَّحِيمُ} [الشعراء:140] مع قوته وجبروته سبحانه وتعالى فهو العزيز الرحيم، {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:140] فيخوف عباده ثم يرجيهم ويجعلهم يؤملون فضله ورحمته سبحانه. نسأل الله من فضله ورحمته، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الشعراء [141 - 159]

تفسير سورة الشعراء [141 - 159] لقد ذكر الله عز وجل في كتابه الكريم قصص أنبيائه ورسله للعبرة والعظة، وتسلية وتثبيتاً لرسوله وللمؤمنين، ولذلك نوع الله عز وجل القصة الواحدة من سورة إلى سورة في أسلوب عرضها، وفي أسلوب سياقها، حيث كان يهدف في كل موضع إلى إبراز بعض الحكم والعبر التي لم يذكرها في غيرها، وقصة نبي الله صالح عليه السلام مع قومه إحدى هذه القصص التي كرر الله عز وجل ذكرها في بعض السور، ونوّع في أسلوب عرضها وسياقها من سورة إلى أخرى؛ لإبراز ما اشتملت عليه من حكم وعبر، لتكون زاداً للمسلم في مواجهة ما يعترض طريق دعوته إلى الله سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (كذبت ثمود المرسلين إن أجري إلا على رب العالمين)

تفسير قوله تعالى: (كذبت ثمود المرسلين إن أجري إلا على رب العالمين) الحمد لله رب العالمين، وأشهد لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الشعراء: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ * قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ * فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ * فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:141 - 159]. يذكر الله عز وجل هنا في سورة الشعراء قصة ثمود التي كذبت رسولها، وأعرضت عنه وعاندته، وطلبت منه آية من الآيات، فلما حقق الله عز وجل لهم ما طلبوا كفروا وجحدوا، فانقلبت النعمة عليهم نقمة، وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون، ثم ختم سبحانه القصة بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:158 - 159]. وثمود هم أصحاب الحجْر، وكانت مساكنهم بين الحجاز والشام، وقد كان العرب يعرفون هذا المكان جيداً، وكانوا كثيراً ما يمرون عليه في تجارتهم مع أهل الشام في رحلتهم. فهنا يقول تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:141]. وقد ذكر قبلهم عاداً بقوله: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:123]. وعاد هم قوم هود، وثمود هم قوم صالح على نبينا وعليهم الصلاة والسلام، وقوم عاد كانوا في جنوب الجزيرة، وهؤلاء في شمال الجزيرة. فقال هنا: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:141]، ومن قبل ذكرنا أن من كذب رسولاً واحداً فكأنما كذب كل رسل الله عليهم صلوات الله وسلامه؛ لأنهم جميعاً يدعون الخلق إلى التوحيد، {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون:32]، فالذي يكذب هذا الرسول فقد كذب كل من دعا إلى عبادة الله الواحد سبحانه وتعالى. ولذلك استحقوا هنا أن يوصفوا بأنهم المكذبون للمرسلين جميعهم. إي: أنه لو أرسل الله عز وجل إليهم جميع الرسل لكذبوهم؛ لأنهم يكذبون بتوحيد الله سبحانه، ويعرضون عن ذكر الله. وهذه القصة هي القصة الخامسة في هذه السورة، فقد ذكر لنا سبحانه قبل ذلك قصة موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وذكر إبراهيم، ونوحاً، وذكر قصة عاد مع نبيهم هود، ثم ذكر بعدهم قصة ثمود مع نبيهم صالح عليه السلام.

معنى كلمة لا إله إلا الله

معنى كلمة لا إله إلا الله وهذه الكلمة هي نفس كلمة لا إله إلا الله، وهي متضمنة للنفي والإثبات إثبات أن الله هو المستحق للألوهية؛ فهو المستحق للعبادة سبحانه وتعالى، ونفي لاستحقاق هذه العبادة عن كل الآلهة سوى الله، فالمستحق للعبادة هو الإله الواحد، وأما غيره فليسوا آلهة ولا يستحقون العبادة. فيقول هنا: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:73]، وذلك بقول: لا إله إلا الله التي هي نفي للألوهية الحقه عن غير الله سبحانه، وإثباتها لله عز وجل وحده لا شريك له، فقول: المؤمن: لا إله، أي: لا أعترف بأي إله إلا إله واحد، هو الله الرب سبحانه وتعالى، المستحق للعبادة. وقال سبحانه في الأعراف: {وَإِلَى ثَمُودَ} [الأعراف:73] يعني: أرسلنا إلى ثمود. {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} [الأعراف:73].

بيان أن التقوى سبب فلاح الإنسان

بيان أن التقوى سبب فلاح الإنسان قال تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:141 - 142]، أي: هلا اتقيتم الله سبحانه وتعالى؟ فهو يعظهم ويذكرهم ويدعوهم إلى ربهم بأن يتقوا غضب الله سبحانه، والتعبير بقوله: {أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:142]، وبقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:144] كرر في هذه السورة مراراً، والمقصود من ذلك البيان لجميع الخلق أن من لم يتق الله فسيأتيه العذاب كما جاء هؤلاء المكذبين، وأن من يتق الله فإن الله سبحانه سينجيه كما نجا المرسلين، فقد نجا سبحانه موسى وبني إسرائيل معه، ونجا سبحانه إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ونجا سبحانه نوحاً ومن كان معه من المؤمنين، ونجا هوداً من قومه المكذبين، وهنا يرينا كيف نجا صالحاً من هؤلاء المجرمين. فقال: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ} [الشعراء:142]، وهو أخ لهم في النسب، {أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:142] أي: الله سبحانه، {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الشعراء:143] أي: جئتكم برسالة من عند رب العالمين، وأنا مؤتمن على هذه الرسالة، وأنا أمين أمامكم تعرفون صفاتي، وتعرفون أنني لم أكذب قبل ذلك، ولم أخن شيئاً، فكيف أخون الآن في هذه الرسالة، وأكذب على الله سبحانه وتعالى؟! {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:144] أي: اتقوا الله فيما تأتون من شرك وكفر ومعاصٍ لله سبحانه وتعالى.

تنزه الأنبياء عن سؤال الأجر على تبليغ الرسالة

تنزه الأنبياء عن سؤال الأجر على تبليغ الرسالة قال تعالى: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الشعراء:145] وهذا هو نفس كلام المرسلين عليهم الصلاة والسلام فكلهم يقولون ذلك، ولا يطلب أحد منهم أجراً، ولو أن رسولاً من رسل الله عز وجل طلب من الناس أجراً لكان هذا أدعى لتكذيبه؛ لأن من فعل شيئاً يتعبد الله به فلا يصح له أن يطلب أجرة من الخلق عليه، لأن من طلب الأجرة من الناس تحكم فيه الناس، فقالوا له: نقبل هذا ولا نقبل ذاك، ولذلك كرم الله عز وجل المرسلين وشرفهم وجعل أجرهم عليه وحده لا شريك له، وعلمهم الصناعة والحرفة، ليكفوا أنفسهم، فكان منهم من يصنع الحديد، ومنهم من كان نجاراً، ومنهم من كان يرعى الغنم، وما من رسول بعثه الله عز وجل إلا ورعى الغنم؛ ليصبر على الناس، كما رعاها نبينا صلوات الله وسلامه عليه. فهنا يقول صالح لقومه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:144 - 145]، وقوله: {إِنْ أَجْرِيَ} [الشعراء:145] فيها قراءتان: (إن أجرِيْ)، و (إن أجريَ إلا على رب العالمين)، فأجره على الرب سبحانه، ومن صفات ربوبيته سبحانه أنه الذي يعطي، وأنه الذي يمنع سبحانه، وأنه الرازق الذي يرزق سبحانه، فهنا يقول صالح: أجري ورزقي على الرب سبحانه الذي يملك ذلك: {إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:145].

تناسب آيات وقصص القرآن مع السور المذكورة فيها

تناسب آيات وقصص القرآن مع السور المذكورة فيها وسياق هذه الآيات في هذه القصة مناسب ومتوافق مع السورة جميعها، فإن آيات السورة كلها مئتان وسبع وعشرون آية، وهي آيات قصيرة، وهذه الآيات تختم بهذه الفاصلة الياء والنون، أو الواو والنون في الغالب فيها. وقد كرر القرآن هذه القصة في مواضع، وفي كل موضع يذكر شيئاً تستفيد منه حكماً من الأحكام وعلماً من العلوم، وتجد في كل موضع المجانسة بين القصة وبين السياق القرآني واضحاً، فتجد هنا آيات قصيرة مناسبة لسياق القرآن في هذه السورة، وتجد في سورة الأعراف القصة نفسها يذكرها الله سبحانه وتعالى بآيات طويلة، وهي مناسبة لسورة الأعراف، وكذلك في سورة هود تجد نفس الشيء، فقد تكررت هذه القصة فيها بلون آخر مناسب لسياق الآيات، وفيها أشياء زائدة، وفي الإسراء أشار إليها إشارة.

بيان الغاية من دعوة الرسل

بيان الغاية من دعوة الرسل وفي هذه السورة ذكر الله عز وجل أن نبيهم قال لهم: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:143 - 144]، وفي الأعراف ذكر الله عز وجل عنه أنه قال: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:73]. فهذه دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام، كل منهم يقول لقومه: ((اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)).

تفسير قوله تعالى: (أتتركون في ما هاهنا آمنين بيوتا فارهين)

تفسير قوله تعالى: (أتتركون في ما هاهنا آمنين بيوتاً فارهين) ثم قال: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ} [الشعراء:146] أي: أأعطاكم الله عز وجل هذه النعم الكثيرة العظيمة ويترككم آمنين حتى تكفروا؟! فهل أعطاكم كل هذه النعم حتى تكفروا به، وحتى تعصوه سبحانه وتعالى؟ فقال: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ} [الشعراء:146] أي: تنتظرون الأمن والأمان وقد أعطاكم نعمه فإذا بكم تجحدون هذه النعم، وقد أرسل إليكم رسوله عليه الصلاة والسلام فإذا بكم تكذبون رسالته، وتكفرون بربكم وتشركون به؟ فهل يترككم آمنين وأنتم تصنعون ذلك؟

معنى قوله (بيوتا فارهين)

معنى قوله (بيوتاً فارهين) يقال: ناقة فارهة بمعنى: عظيمة طويلة، وإنسان فره بمعنى: حاذق نشط، فكأنه يقول لهم: أنتم تنشطون في صناعة النحت في الجبال، وتنحتون البيوت العظيمة، ولا تتوجهون للعبادة، وإنما تعبثون وتلعبون، وعن عبادة ربكم تغفلون وتتلهون. فهو هنا يذكر بأنهم فارهون بذلك، أي: حاذقون لهذه المهنة في لعبهم وعبثهم، وأنهم فرهين بمعنى: بطرين أو عابثين متجبرين. وقد جاء عن ابن عباس وغيره قال: فارهين أي: حاذقين للصناعة. وقال: فرهين بمعنى: متجبرين جبارين أيضاً. ويأتي الفره بمعنى: الشديد الشره، أو: الأشِر، أو: البطِر المغرور، يعني: أنهم مغرورون، فهم حاذقون لصناعتهم، مغترون بها.

ذكر نحت ثمود للبيوت في الجبال

ذكر نحت ثمود للبيوت في الجبال قال تعالى: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} [الشعراء:149]، وهذه من نعم الله عز وجل عليكم، فالمفترض أن تعبدوا ربكم سبحانه وتعالى. فإذا بهم بدلاً من أن يعبدوا ربهم يتفرغوا للعب واللهو ولفعل ما لا يلزمهم أن يفعلوه، فكانوا يعبثون كما كانت عاد تعبث بالبنيان العظيم الذي لا يحتاجون إليه، كما قال تعالى عنهم: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} [الشعراء:128]. وكذلك هؤلاء كانوا ينحتون من الجبال بيوتاً فارهين. كما قال تعالى عنهم: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} [الشعراء:149]، فقد كانت أعمارهم طويلة، وفراغهم كثيراً، فكانوا ينحتون في الجبال بيوتاً للزينة والزخرفة، حتى تبقى ذكرى لمن بعدهم بأنهم كانوا صناعاً، وأما أن يتركوا ذكرى للآخرة فلم يكن في حسابهم شيء من هذا؛ ولذلك قال لهم نبيهم عليه الصلاة والسلام: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} [الشعراء:149]، وهذه قراءة الجمهور، وقرأها نافع وأبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب: (فرهين).

معنى الهضيم الوارد في الآية

معنى الهضيم الوارد في الآية قال تعالى: {وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} [الشعراء:148] أي: ما يطلع منها كأنه وعاء. والطلع هو: الكم الذي يخرج من النخلة، ويخرج منه الطلع في جوار النخلة، ثم يخرج من هذا الطلع الشماريخ والعذوق والقنو، وهو الذي يكون البلح والتمر والرطب وغيرها معلقاً فيه. فيقول: إن هذا الطلع في النخل هضيم، وهضيم فعيل بمعنى: مفعول، أي: أنه غاية في الجمال واللطافة، حتى كأنه يهضم لوحده ولا يحتاج لمن يهضمه، أي: أنه لطيف في أكله، فطعمه جميل ولا يتعب المعدة، فهو يهضم بسهولة عند أكله. قالوا: ومن معاني الهضيم: أنه الرطب، أو أنه نوع من أنواع الرطب، أو المتهشم المتفتت. أي: أنه سهل في مضغه، وسهل في نزوله على المعدة، فهو ينزل بلطافه وبسهولة. وأيضاً من معانيه أنه: الذي ضم بركوب بعضه بعضاً، فهو كثير، أي: متراكب بعضه على بعض. أي: أن النخلة ممتلئة بالبلح وبالرطب وبنعم الله سبحانه وتعالى. وقالوا من معانيه: اليانع النظيف. وقالوا: إنه الرخص اللطيف، أو الرخو. وكل هذه المعاني التي ذكرناها عبر الله عز وجل عنها بكلمة واحدة، وهي كلمة (هضيم)، وقد فسرها العلماء بأكثر من اثني عشر تفسيراً، وهذا من بلاغة القرآن الكريم، حيث إنه يعبر باللفظ الوجيز الذي يعطي المعاني الكثيرة.

نعم الله عز وجل على ثمود

نعم الله عز وجل على ثمود وهنا في هذه السورة يذكر الله سبحانه وتعالى أن صالحاً عليه الصلاة والسلام ذكر قومه بالنعم كما ذكر هود عاداً بنعم الله سبحانه عندما قال لهم: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء:128 - 135]، فذكرهم بالنعم. وهنا أيضاً يذكر الله عز وجل ما قاله صالح لقومه من تذكيرهم بنعم الله عز وجل عليهم، وهذا التذكير لم يذكره سبحانه إلا في هذه السورة فقط، وقد ذكرت قصة ثمود في حوالي عشرة مواضع من كتاب الله سبحانه وتعالى، فذكرها الله عز وجل في الأعراف كما قدمنا، وفي سورة هود أيضاً، وفي سورة الإسراء إشارة، وذكرها ههنا في سورة الشعراء، وذكرها في سورة النمل، وفي سورة الذاريات، وفي سورة القمر، وفي سورة الشمس وضحاها، وقد ذكر سبحانه في كل سورة من هذه السور بعض الأشياء التي ليست في غيرها. وقد ذكر هنا تذكير صالح لقومه بنعم الله عز وجل، فقال: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الشعراء:146 - 147]، فقد أعطاهم الله جنات وبساتين عظيمة وعيون كما أعطى لقوم هود من قبلهم. وقوله: ((فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ)) فيها قراءتان: فيقرؤها ابن كثير وشعبة عن عاصم وحمزة والكسائي: (وعِيون)، وباقي القراء يقرءون ((وَعُيُونٍ)) بالضم فيها. وقوله تعالى: {وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} [الشعراء:148] أي: أعطاكم الحقول التي فيها الزروع والحبوب، وأعطاكم النخيل، كما قال: {وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} [الشعراء:148] أي: أكثر أموالكم من هذه النخيل، فتأكلون من ثمارها، وتبيعون وتتاجرون فيها، والطلع الذي فيها ليس كمثله شيء من الطلوع التي عند الناس، فعندكم أعظم الأشياء.

تفسير قوله تعالى: (فاتقوا الله وأطيعون ولا يصلحون)

تفسير قوله تعالى: (فاتقوا الله وأطيعون ولا يصلحون) ثم قال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:150]. فهو هنا يذكرهم بالله عز وجل، ويكرر عليهم قوله: اتقوا الله سبحانه وتعالى، وأطيعوني فيما جئتكم به من عند رب العالمين.

طاعة الكبراء تؤدي إلى الضلال والزيغ

طاعة الكبراء تؤدي إلى الضلال والزيغ ثم قال: {وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ} [الشعراء:151]؛ لأن العادة أن من الناس من يقبل دعوة رب العالمين سبحانه وتعالى، ولكن يغلب عليهم طاعة السادة والكبراء الذين يوجهونهم إلى ترك عبادة الله سبحانه، فهؤلاء القوم لما تأتيهم آية من عند رب العالمين المفروض عليهم أن يؤمنوا بها، وقد كادوا يؤمنون بما جاء به رسولهم عليه الصلاة والسلام، ولكن الكبراء منهم منعوهم وصدوهم، وقالوا لهم: لقد سحركم هذا الرسول، عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. فهنا لما قال {وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ} [الشعراء:151] بين أنهم: {الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} [الشعراء:152]، فالمفسرون: يفسدون في الأرض، ولا يؤدون الصلاة، ولكن يعبثون ويلعبون ويفسدون، فلا يصلحون حالهم ولا حال غيرهم.

تفسير قوله تعالى: (قالوا إنما أنت من المسحرين إن كنت من الصادقين)

تفسير قوله تعالى: (قالوا إنما أنت من المسحرين إن كنت من الصادقين) فلما قال ذلك قالوا له: {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} [الشعراء:153] يعني: لك سحر، وسحر الإنسان هي الرئة. يعني: أنك مخلوق مثلنا، فتلبس كما نلبس، ولك معدة وتأكل وتشرب مثلنا، بل نحن أحسن منك، فلا نسمع كلامك. {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [الشعراء:153 - 154] يعني: إنما أنت من المسحرين، ولست إلا بشر مثلنا، {فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء:154]، فهنا طلبوا الآية الحسية، ولم يكفهم أنه رسول من عند رب العالمين جاء برسالة من الله يدعوهم إليه، وإنما طلبوا آية يرونها بأعينهم.

وقوف الكبراء في وجه الدعوة

وقوف الكبراء في وجه الدعوة قال تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} [الأعراف:75]، والمستكبرون هم الكبار من القوم، وأما من آمن مع صالح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فكانوا ضعفاء، ولم يكن كل الضعفاء مؤمنين فقال المستكبرون لهؤلاء الضعفاء المؤمنين: {أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ} [الأعراف:75] يعني: أحق هو مرسل من ربه؟! {قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الأعراف:75 - 76]، أي: إنا بالذي أرسل به هذا الرسول عليه الصلاة والسلام والذي آمنتم أنتم به كافرون.

مجادلة قوم صالح لنبيهم عليه الصلاة والسلام

مجادلة قوم صالح لنبيهم عليه الصلاة والسلام وقد ذكر الله عز وجل هذه الآيات في سورة هود، وذكر فيها نعمه سبحانه بسياق آخر مناسب لهذه السورة، فقال: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود:61]. فهذه دعوة هادئة جميلة من هذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، فقد قال لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ} [هود:61] أي: هو خلقكم سبحانه من هذه الأرض، فقد كنتم تراباً فأنشأكم منها وفوقها، {وَاسْتَعْمَرَكُمْ} [هود:61] أي: جعلكم تعمرون هذه الديار، {فَاسْتَغْفِرُوهُ} [هود:61] أي: عاملوا ربكم بما أنعم عليكم بأن تحسنوا عبادته، وأن تستغفروه سبحانه، كما قال: {فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود:61] أي: إن ربنا العظيم سبحانه قريب منا، فإذا استغفرناه غفر لنا، وهو مجيب يستجيب الدعاء، فادعوا ربكم يستجب لكم. فكان جوابهم كما قال الله عز وجل في سورة هود: {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [هود:62]، فكان جوابهم جواباً لائقاً بهم وبسفاهتهم. {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا} [هود:62] يعني: لقد كنا نظنك عاقلاً، فإذا بك تقول هذا الكلام، {قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [هود:62] أي: أنهم كانوا قبل ذلك يصدقونه، وكان عندهم صادقاً، حتى إذا جاء بالرسالة قالوا له: ((إِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ)). قال: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} [هود:63].

تمكين الله عز وجل لثمود واستخلافهم من بعد عاد

تمكين الله عز وجل لثمود واستخلافهم من بعد عاد وقد جاء في سورة الأعراف أنه لما ذكرهم بنعم الله سبحانه قال لهم: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ} [الأعراف:74] يعني: أن عاداً أعطاهم الله عز وجل النعم فجحدوا وكفروا، فجاءهم العذاب، وأنتم جئتم من بعدهم، فتفكروا فيهم، فإنكم إذا كفرتم كان مالهم كمالهم، وجزاءكم كجزاءهم، فلذلك قال لهم رسولهم عليه الصلاة والسلام: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ} [الأعراف:74]، بوأكم يعني: جعل لكم مبوءاً، أي: منزلاً تنزلون فيه، فقد فسح لكم في دياركم، وبوأ لكم في الأرض فتنزلون في أي مكان فيها، وهذه من نعم الله سبحانه عليكم. قال تعالى: {تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا} [الأعراف:74] يعني: أعطاهم الله السهل والجبل، فلهم في السهول بيوت وقصور عظيمة، وأما الجبال فكانوا ينحتون فيها البيوت العظيمة. ولذلك قال لهم نبيهم: {فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [الأعراف:74] أي: لا تفسدوا هذا الفساد الشديد الذي تفعلونه.

تفسير قوله تعالى: (قال هذه ناقة لها شرب وإن ربك لهو العزيز الرحيم)

تفسير قوله تعالى: (قال هذه ناقة لها شرب وإن ربك لهو العزيز الرحيم) ثم طلبوا منه الآية، فقالوا {فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء:154]، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء:155]. وكانوا قد تعنتوا في طلب الآية كنوع من التشديد عليه، فقالوا له: إن أردت أن نؤمن بك فافلق لنا هذا الجبل أمام أعيننا، واخرج لنا منه ناقة ومعها ابنها بجوارها، فإذا فعلت ذلك آمنا بك. فلما قالوا ذلك حذرهم عليه الصلاة والسلام من عقوبة رب العالمين سبحانه، وسألهم: أإذا جاءتكم هذه الآية أتؤمنون؟ فقالوا: نؤمن. فأخذ عليهم الميثاق على أن يؤمنوا، وحذرهم بأنهم لو كفروا بالله فسيأتهم من عند الله عذاب يوم عظيم. فانتظروا الآية، ففلق الله الجبل أمام أعينهم، وخرجت منه ناقة ومعها فصيلها، فكانت آية عظيمة، فكادوا يؤمنون به، ويدخلون في دينه جميعاً، فخاف الكبراء أن يؤمن الضعفاء؛ لأنهم لن يجدوا من يتبعهم ويخدمهم ويكون معهم، فمنعوهم وصدوهم عن الإيمان برب العالمين سبحانه وتعالى. قال تعالى على لسان صالح عليه الصلاة والسلام مخبراً بخروج الناقة: {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء:155]. وقد كان عندهم بئر من الآبار يشربون منها، فقال لهم: ومن آيات الله أن يريكم آية في هذه الناقة، وهي: أنها ستشرب من هذا البئر يوماً جميع الماء ولا تقدروا أن تشربوا منه شيئاً، وتتركه لكم اليوم الثاني، فيوم لكم ويوم لها، فلها شرب، أي: لها حظ ووِرْد في البئر يوماً كاملاً، ولكم يوم آخر فلا أحد منكم يشرب معها في هذا اليوم، فكانت تشرب الماء الذي في البئر كله في يومها، وهم يأخذون من لبنها في هذا اليوم. فاستقاموا على ذلك وإن لم يؤمنوا معه، ولم يؤمن معه إلا القلة من هؤلاء، قال تعالى مخبراً عن هذه القسمة: {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء:155 - 156] أي: احذروا أن تؤذوا هذه الناقة؛ لأنها آية من آيات الله سبحانه، فإذا كنتم لم تؤمنوا فاحذروا من تعجيل العقوبة بسبب منكم، فلا تؤذوا هذه الناقة فيأخذكم عذاب يوم عظيم. لكنهم اعتقدوا أنه ما دامت هذه الناقة موجودة فهي دليل على أنها آية من عند رب العالمين، ودليل على صدق هذا الرسول، فبدأ يحرض بعضهم بعضاً على عقر هذه الناقة؛ بدعوى أنها تحرمهم من الماء يوماً، فاتفقوا على قتلها، قال تعالى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} [النمل:48]. وهنا هذه القصة مذكورة في سورة النمل، وقد فصل فيها سبحانه وتعالى ما الذي حدث، فقال سبحانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ * قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النمل:45 - 46] أي: هلا استغفرتم الله سبحانه لعله يرحمكم، {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ} [النمل:47] أي: تشاءمنا منك فأنت شؤم علينا، فكانوا ينظرون إلى أهل الدين على أنهم شؤم عليهم، ويقولون كلاماً كذباً، وهم أول من يعرف أنه كذب، ولكنهم يهرفون بما لا يعرفون، فقال لهم صالح: {قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} [النمل:47] أي: كتاب أعمالكم عند الله يحصيه عليكم، وتشاؤكم هذا من عملكم، يبتليكم الله عز وجل به يوماً من الأيام، بل أنتم قوم تفتنون. وقوله تعالى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ} [النمل:48] أي: تسعة من الناس يفسدون في الأرض ولا يصلحون، فكان عملهم الفساد في الأرض، وذكروا أن سبب فسادهم حنقهم على صالح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فقال بعضهم لبعض: {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [النمل:49]، فهم إضافة على كفرهم بالله سبحانه وفعلهم المعاصي الشنيعة عقروا الناقة، وأرادوا قتل نبيهم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فاتفقوا فيما بينهم على عقر الناقة، فعقرها منهم أحيمر ثمود الذي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه أشقى القوم. قال الله عز وجل: {إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا} [الشمس:12]، فكان أشقى القوم هذا الرجل: أحيمر ثمود، فقال للقوم: إني عاقر هذه الناقة، فصوبوه على ما يقول، ومنوه بأن يزوجوه امرأة من جميلاتهم، ومنته أم الفتاة بأن تزوجه بنتها إذا عقر الناقة، فرماها بسهم فعقرها، فصرخت الناقة، وهرب طفلها، ثم رجع القاتل إلى قومه بعد أن عقر الناقة.

نزول العذاب على قوم صالح

نزول العذاب على قوم صالح فلما أرادوا أن يصنعوا ذلك حذر الله عز وجل نبيه، وأمره أن يحذر القوم فإن العقاب سينزل بهم، قال تعالى: {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ} [الشعراء:157]، وذلك أن نبيهم عليه الصلاة والسلام قال لهم: انتظروا ثلاثة أيام، وترقبوا عذاب الله سبحانه وتعالى في دياركم ثلاثة أيام، وهذه آية من الله عز وجل أخرى لهؤلاء القوم، قال تعالى في سورة هود: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود:65] أي: آية من آيات الله أن يمهلكم ثلاثة أيام، وبعد اليوم الثالث يأتيكم العذاب من عند رب العالمين. وقد ذكر البعض من المفسرين أنه قال لهم: الآية فيكم أن تجدوا ألوانكم تتغير، فتصغر وجوهكم في اليوم الأول، وتحمر في اليوم الثاني، وفي اليوم الثالث تسود وجوهكم، ويأتيكم العذاب من عند رب العالمين، فقالوا له: إن لم يأت ذلك لنقتلنك، فأصبحوا على ما ذكر لهم من العلامة، فأصبحوا نادمين في وقت لا ينفع فيه الندم، وقد ذكر لنا الله عز وجل على لسان النبي صلى الله عليه وسلم أن الندم توبة، وأن الإنسان إذا تاب إلى الله عز وجل فإن الله يتوب عليه، وهؤلاء ندموا ولم ينفعهم ذلك؛ لأنهم رأوا آية من آيات الله سبحانه، وقد كانوا قبل ذلك يكذبون بها. فأصابهم الرعب عندما تغيرت وجوههم، وجلسوا ينتظرون العذاب وهم في غاية الرعب من الله عز وجل، وفي اليوم الثالث جاءتهم الرجفة والصحية، وأهلك الله عز وجل الجميع، وجعلهم آية من الآيات، قال سبحانه في سورة هود: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا} [هود:66]، فجاءت الرحمة من عند رب العالمين لصالح وللمؤمنين، كما قال تعالى: {بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} [هود:66] أي: لم نخزهم ولكن نجيناهم، {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِثَمُودَ} [هود:67 - 68]. فجاءتهم صيحة من السماء، ورجفت بهم الأرض، فخروا كلهم ميتين، كما قال الله سبحانه: {فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [هود:67]، وهو مأخوذ من قولهم: جثم الطائر على الأرض، أي: سقط على الأرض. قال تعالى: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} [هود:68] من قولهم: غنى بالمكان، أي: أقام بالمكان. فكأنهم لم يقيموا بها، فأين ذهبت أعماركم الطويلة؟ وأين ذهبت أفعالكم التي ظننتم أنها عظيمة وجليلة؟ وأين الحصون والقصور؟ وأين الجبال؟ أين ذهب ذلك كله؟ فكأنهم لم يغنوا فيها ولم يعيشوا أبداً، فقد جاءتهم الصيحة من عند رب العالمين فهلكوا كلهم، قال الله سبحانه: {أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِثَمُودَ} [هود:68]. وهنا في سورة الشعراء يقول سبحانه: {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ * فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} [الشعراء:157 - 158] أي: بعد ثلاثة أيام من الرعب، فقد عاملهم بالتخويف الشديد الذي لا ينفع معه الندم، ثم جاءت الصيحة والرجفة فأخذهم سبحانه، قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} [الشعراء:158] أي: آية عظيمة من آيات رب العالمين يعتبر بها كل إنسان مؤمن يخاف من الله سبحانه، ويعلم عقوبته، ويعلم كيف ينتقم ممن عصاه، {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:158]. {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:159] أي: إن الله هو العزيز الغالب القاهر الذي لا يمانع أبداً سبحانه، ومهما استطال الإنسان وأملى له ربه فإنه آخذه أخذ عزيز مقتدر، ومع ذلك فهو الرحيم لمن تاب وأناب قبل أن يأتي العذاب. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تآمر ثمود على قتل صالح

تآمر ثمود على قتل صالح ثم إن هؤلاء التسعة النفر تقاسموا فيما بينهم أن يقتلوا أيضاً صالحاً مثلما قتلوا الناقة، فتقاسموا بالله أن يبيتوه، أي: يقتلوه بالليل كما قال تعالى: {لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [النمل:49] أي: سنقتله بالليل، وإذا سئلنا عنه في الصباح قلنا: لم نره ولم نشاهده، فيصدقنا أهله.

تفسير سورة الشعراء [160 - 175]

تفسير سورة الشعراء [160 - 175] يذكر الله سبحانه في سورة الشعراء قصة قوم لوط عليه السلام، وكيف أن الله أهلكهم لارتكابهم أفحش الفواحش، والله سبحانه يبتلي الأقوام إذا استمروا على ارتكاب الذنوب والمعاصي بأمراض وأوبئة لم تكن في أسلافهم.

تفسير قوله تعالى: (كذبت قوم لوط المرسلين إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون)

تفسير قوله تعالى: (كذبت قوم لوط المرسلين إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الشعراء: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ * قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ * قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ * رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ * فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ * ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:160 - 175]. هذه قصة أخرى من قصص سورة الشعراء يذكر الله عز وجل فيها قوماً ممن كذبوا وأعرضوا عن ربهم سبحانه، وبدلوا نعمة الله كفراً، وأتوا الفواحش، وأفسدوا في الأرض وخانوا، فابتلاهم الله سبحانه وتعالى، ثم جاءهم العذاب، وختم هذه القصة بقوله سبحانه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:174 - 175]. إنَّ قصة قوم لوط وما صنعوه عبرة من العبر، وما فعل بهم عبرة من العبر، وينبغي على كل إنسان مؤمن أن يتأمل في هذه القصص القرآنية، فإن الله عز وجل لم يسقها كنوع من التسلية يتسلى بها الإنسان مثلاً، وإنما ساقها الله عز وجل حتى يعتبر الإنسان، قال سبحانه: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:2] أي: قيسوا أنفسكم على هؤلاء السابقين، فإذا فعلتم مثل فعالهم فانتظروا عقوبةً كعقوبتهم، قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:174 - 175]. ذكر الله عز وجل قبل ذلك قصة موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وقصة إبراهيم، وقصة هود مع قوم عاد، وقصة صالح مع ثمود، وهذه قصة لوط على نبينا وعليه الصلاة والسلام مع قومه، قال سبحانه وتعالى هنا: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:160] وهذه كبداية كل قصة، فقد كرر ذلك مرات، قال الله تعالى في قوم عاد: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:123 - 127]، وبنفس الافتتاح افتتح به هذه القصة، كما كرر ذلك في قوم عاد وقوم ثمود وأصحاب الأيكة. قال الله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:160 - 161]. فقوم لوط كذبوا لوطاً وهو رسول واحد، ولكن من كذب رسولاً فقد كذب كل الرسل عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام؛ لأن دعوة الرسل دعوة واحدة، ولوط رسول رأوه أمامهم، ونشأ بينهم، فقوم عاد أخوهم هود، وقوم ثمود أخوهم صالح، وأما لوطٌ فغريب عنهم، ولكنه جاء فعاش بينهم، فعلموا صدقه، وعرفوا حاله عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. فالغرض: إذا كان هذا الرسول بينهم وهم يرونه ويسمعونه، ويعرفون أنه أمين لا يخون، وأنه صادق لا يكذب، وقد دعاهم إلى الله فأعرضوا، فكيف بغيره من الرسل الذين لم يروهم، فلو أن الله عز وجل أخبرهم على ألسنة هؤلاء أن صدقوا وآمنوا فإنهم لا يؤمنون، ومن كذب رسولاً واحداً فهو حري أن يكذب الباقين، ومعلومٌ أن دعوة جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:73]. ولذلك قال الله سبحانه: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:160 - 161] ومن المناسب أن يقول الله عز وجل: المرسلين، ولا يذكر الرسل مثلاً، أو يقول: كذبت قوم لوط رسولهم؛ لأن الفواصل مختومة بالياء والنون أو بالواو والنون، فختم كل آية مناسب لذلك، فتكون هذه الفاصلة كالتي قبلها والتي بعدها. قال الله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ} [الشعراء:161] أي: نبيهم لوط على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ولم يكن منهم، بل هاجر إليهم، وهو ابن أخي إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وإبراهيم الخليل أخوه اسمه هاران، وابن أخيه لوط بن هاران بن تارخ، وتارخ أبو إبراهيم ويدعى آزر، وكان إبراهيم ولوط في العراق، وهاجر لوط مع إبراهيم من العراق إلى الشام، فذهب إبراهيم إلى مكان، واستأذن لوط عمه وذهب إلى هؤلاء القوم في قرية اسمها سدوم يدعوهم إلى دين الله سبحانه وتعالى، وعاش معهم فترة؛ ولذلك قال الله سبحانه: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ} [الشعراء:161]. وإن كان ليس أخاً لهم في نسبهم، ولكن في الأخوة البشرية، أو يقال: فلان أخو القبيلة، يعني: من هذه القبيلة، فهو هاجر إليهم ومكث عندهم فكأنه أخ لهم.

تفسير قوله تعالى: (إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطعيون)

تفسير قوله تعالى: (إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطعيون) قال الله تعالى: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الشعراء:162] أي: مؤتمن، فقد ائتمنني الله عز وجل على هذه الرسالة، وأنا عندكم لست خائناً، بل تعرفون صدقي وتعرفون أمانتي. قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:163] أي: احذروا من غضب الله، واحذروا من عقوبته، واجعلوا بينكم وبين نار الله عز وجل وقاية بعمل الخير، فاعملوا أعمال الخير التي تقيكم من عذاب الله سبحانه وتعالى. وقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:163] هذه قراءة الجمهور، وقراءة يعقوب: (فاتقوا الله وأطيعوني) وقفاً ووصلاً.

تفسير قوله تعالى: (وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين)

تفسير قوله تعالى: (وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين) قال الله تعالى: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:164] أي: لست أسألكم أجراً، فما أجري إلا على رب العالمين، وفيها قراءتان: (إن أجريَ) و (إن أجريْ)، فقوله تعالى: ((إِنْ أَجْرِيَ)) هذه قراءة نافع وأبي جعفر وأبي عمرو، وابن عامر، وحفص عن عاصم، وقراءة باقي القراء: (إن أجريْ إلا على رب العالمين) ومنهم من يمدها: (إن أجري إلا على رب العالمين) ومنهم من يقصر: (إن أجري إلا على رب العالمين). فالأجر على الرب سبحانه، فهو الرزاق الكريم الذي يثيب، والذي يعطي الأرزاق لعباده، وهو الرب الخالق سبحانه المدبر لأمر الكون، والمربي لخلقه وهو رب العالمين، أي: العالم العلوي والعالم السفلي، فالله عز وجل رب كل شيء سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (أتأتون الذكران من العالمين بل أنتم قوم عادون)

تفسير قوله تعالى: (أتأتون الذكران من العالمين بل أنتم قوم عادون) قال الله تعالى: {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:164 - 165]، فهو يبكتهم على مصائبهم وعلى ذنوبهم فيقول: ما الذي تصنعونه؟ ولم يفعل هذه الفاحشة قبل قوم لوط أحد، فأول من فعلها هم هؤلاء المعلونون، وسنوها لمن بعدهم، فكانت سنتهم القبيحة لعنة الله عليهم وعلى أشباههم، قال لهم رسولهم عليه الصلاة والسلام: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء:165 - 166] فكانوا لا يتزوجون النساء، بل كانوا يسافحون الرجال، وينكحون الذكران من العالمين، فقوله تعالى: {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ} [الشعراء:166] أي: خلق ذكوراً وخلق إناثاً، وجعل الذكر يتزوج الأنثى، فكيف قلبتم الوضع؟ وكيف بدلتم نعمة الله عز وجل عليكم بهذا الكفران المبين الذي تصنعونه؟ فهل يعقل هذا الذي تفعلونه؟ وهل أنتم قوم تعقلون؟ قال تعالى: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء:166] أي: بل أنتم قوم تتعدون الحلال إلى الحرام، ومن تعدى الحلال إلى الحرام فلا ينتظر من الله عز وجل إلا العذاب الأليم، قال لهم نبيهم عليه الصلاة والسلام: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء:166] أي: متجاوزون للحد، واقعون فيما حرم الله، فانتظروا العقوبة من الله.

تفسير قوله تعالى: (قالوا لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين)

تفسير قوله تعالى: (قالوا لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين) قال الله سبحانه: {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ} [الشعراء:167] وهذا تهديد منهم، فهم كثرة وهو واحد وليس له أبناء من الذكور عليه الصلاة والسلام، فليس معه إلا امرأته وكانت كافرة، وليس معه إلا ابنتان فقط، فهنا يظهر منطق القوة، فإما أن تسكت وإلا سنخرجك من المدينة، وهذا دائماً منطق كلام أهل السفاهة، لا ينظرون إلى العقل، ولا ينظرون إلى الدين، ولا يخافون رب العالمين، إنما جوابهم: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ} [الشعراء:167] أي: سنطردك خارج هذه البلدة.

تفسير قوله تعالى: (قال إني لعملكم من القالين)

تفسير قوله تعالى: (قال إني لعملكم من القالين) قال لوط عليه الصلاة والسلام: {إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ} [الشعراء:168]، قلى الشيء بمعنى: كره الشيء، فقوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:3] يعني: ما كرهك وما أبغضك، فهنا: إني لعملكم من المبغضين، وإني أكره أعمالكم هذه التي تصنعونها. فقوله: {إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ} [الشعراء:168] لم يجاملهم فيما هم فيه، ولكن تهددهم بعقوبة رب العالمين سبحانه وتعالى، وأظهر لهم البغضاء للعمل الذي هم عليه.

تفسير قوله تعالى: (رب نجني وأهلي مما يعلمون إلا عجوزا في الغابرين)

تفسير قوله تعالى: (رب نجني وأهلي مما يعلمون إلا عجوزاً في الغابرين) ثم دعا ربه سبحانه: {رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ} [الشعراء:169] فذكر الله عز وجل هنا اختصاراً: {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ} [الشعراء:170] ولم يذكر كيف أنجاه الله عز وجل؟ وقد فصل الله ذلك في غيرها من السور، فقد تكررت قصة لوط بتفصيل في حوالي تسع سور من كتاب رب العالمين سبحانه، فيذكر فيها لوطاً ودعوته قومه إليه سبحانه وتعالى، وأنهم كذبوه، فذكر في الأعراف شيئاً، وذكر في سورة هود أيضاً شيئاً من ذلك، وفي الشعراء، وفي العنكبوت، وغيرها من السور. فهنا لما دعا ربه سبحانه قال الله عز وجل: {فَنَجَّيْنَاهُ} الفاء: تفيد الترتيب والتعقيب، يعني: مباشرة نجيناه من ذلك، وجاءت عقوبة الله سريعة حتى وإن كانت في نظر أنها بطيئة؛ لأنها بمجرد ما نزلت وحدثت يقول الإنسان: أين هؤلاء؟ أين ذهبوا؟ فقد أخذهم الله سبحانه أخذاً سريعاً، وقد يكون هو المستبطئ للعقوبة قبل ذلك، فلوط على نبينا وعليه الصلاة والسلام كأنه قد استبطأ العقوبة، فقال له الرسل عليهم السلام: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود:81] فقد كان لوط في غاية الحزن والضيق، وكان يريد أن يقع عليهم العذاب بسرعة فإذا بالرسل يطمئنونه ويقولون: ((إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ)) أي: اصبر حتى الصبح وسيأتي العذاب من عند رب العالمين سبحانه. وفي سورة هود يقول الله سبحانه وتعالى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود:77] فهنا ذكر التفصيل للإهلاك، وأما في الشعراء، فقال الله عز وجل: {رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ * فَنَجَّيْنَاهُ} [الشعراء:169 - 170] ولكن كيف نجاه الله عز وجل؟ اختصر ذلك في هذه السورة، والفواصل في هذه السورة قصيرة، والآيات كثيرة وعددها مائتان وسبع وعشرون آية على عد، أو مائتان وست وعشرون آية على عد آخر، فالسورة طويلة، لكن فواصلها قصيرة، فالمناسب هنا أن يختصر فيها، وخاصة مع تكرار ذكر الأنبياء على وجه الاختصار، وكيف أن الله عز وجل أهلك أممهم لما كذبوا وأعرضوا. فهنا دعا ربه سبحانه: {رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ * فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ} [الشعراء:169 - 171]. وفي سورة هود يقول الله سبحانه: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود:77]. وفي سورة الحجر يقول الله سبحانه: {فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ * قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ * وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الحجر:61 - 64]. إذاً: ذكر الله عز وجل أن هناك رسلاً قد جاءوا إلى لوط على نبينا وعليه الصلاة والسلام وهم ملائكة من عند رب العالمين سبحانه، وقبل أن يذهبوا إلى لوط عليه الصلاة والسلام ذهبوا إلى إبراهيم الخليل، فقد كان إبراهيم في الشام ولوط في مكان آخر، وكان الرسل ثلاثة ملائكة في هيئة البشر حسان الوجوه، فلما رآهم إبراهيم دعاهم فهو أبو الضيفان عليه الصلاة والسلام، وسبق إلى بيته وجاء بعجل حنيذ، أي: مشوي بالحجارة، فهذا لثلاثة من الضيفان، وقدم إليهم الطعام وقال لهم: {أَلا تَأْكُلُونَ} [الذاريات:27]. قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [هود:70] فكونك تدعو إنساناً إلى طعام وتحط الطعام أمامه وهو غريب ثم بعد ذلك لا يرضى أن يمد يده، فإنك تتوجس خوفاً منه؛ لأنه قد يكون عدواً أو ينوي شراً، وكان العرب إذا صادقوا أحداً أكلوا معه، وإذا عادوا إنساناً لا يأكلون معه؛ ليظهروا أنه ليس هناك بينهم وبينه مودة. فالرسل أبوا أن يأكلوا، فإذا بإبراهيم يتوجس في نفسه خيفة، فطمأنوه، قال تعالى: {قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} [هود:70] أي: نحن ذاهبون إلى قوم لوط، فاستبان له الأمر أنهم رسل من عند رب العالمين في هيئة بشر. قال تعالى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ} [هود:71] أي: امرأة إبراهيم الخليل على نبينا وعليه الصلاة والسلام سارة قائمة، وقد جاوزت الثمانين من عمرها، وقد بشرها الرسل بإسحاق، وذلك حين علمت أن معهم البشارة من عند رب العالمين لها بأن الله سيرزقها الولد، قال تعالى: {فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71] أي: بعد إسحاق سيأتي يعقوب من إسحاق، وهذا دليل على كذب أهل الكتاب حين قالوا: إن الذبيح هو إسحاق حتى لا ينسبوا للعرب فضلاً. وذكر الله في القرآن أن الملائكة بشرت سارة قبل أن تلد وكانت عقيماً، {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71] يعني: إسحاق سيكبر، وسيتزوج وسينجب ولداً اسمه يعقوب، فكيف تأتي البشارة من الله سبحانه بذلك ثم يأمر إبراهيم بذبحه قبل أن يتحقق الوعد، وقبل أن يأتي يعقوب على نبينا وعليه الصلاة والسلام؟! فذلك ينفي أن يكون الذبيح هو إسحاق، فالذبيح هو إسماعيل، والغرض: أنهم بشروها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، فقالت: مندهشة: {قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} [هود:72]، فهي عجوز وزوجها شيخ كبير، فهي قد جاوزت الثمانين من عمرها، قال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} [هود:72]. قال تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى} [هود:74] أي: هدأ إبراهيم عليه الصلاة والسلام بعد خوفه من الضيوف الذين دخلوا بيته وأبوا أن يأكلوا، وبعد أن اطمأن إبراهيم جاءته البشارة من الله بأنه سيولد له مولوداً وكان قد ولد له قبل ذلك إسماعيل على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ولكنه كان يتمنى أن يكون له ولدٌ من سارة، حتى تفرح سارة كما فرح إبراهيم بإسماعيل، فالله عز وجل بشر سارة، فلما ذهب عن إبراهيم الورع جاءته البشرى، ثم سأل المرسلين عن وجهتهم فقالوا: {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} [الذاريات:32 - 34]. وقد كان إبراهيم حليماً رحيماً، فهو أب لأبنائه وأب لمن أرسل إليهم ليدعوهم إلى الله عز وجل، ولذلك أخذ يجادلهم في قوم لوط، فقالوا: قوم مسرفون، قال تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود:74]. وقال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود:75] عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فإبراهيم حليم، ولذلك كان يطلب منهم أن يصبروا عليهم قليلاً. فقوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ} [هود:75] أي: رجاع إلى الله سبحانه وتعالى، إذاً: الرحمة التي في قلبه هي التي جعلته يقول لهم: اصبروا على هؤلاء القوم، فقال له ربه سبحانه: {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [هود:76] أي: لا شأن لك بذلك، قال تعالى: {إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} [هود:76] أي: قد جاء أمر الله عز وجل، وقضاء الله وقدره نافذ لا رجعة فيه، فقد قال إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام يجادلهم: أتهلكون قريةً فيها ثلاثمائة مؤمن؟ يعني: إذا كانت هذه القرية فيها ثلاثمائة يعبدون الله سبحانه وتعالى أتهلكونها فتهلكون هؤلاء المؤمنين معهم؟! قالوا: لا، فجادلهم أكثر وانتظر الخير من وراء ذلك، فقال: فمائة مؤمن؟ قالوا: لا، قال: فأربعون مؤمناً؟ قالوا: لا، فما زال يجادلهم حتى قال: فيها ثلاثة من المؤمنين؟ قالوا: لا، قال: فإن فيها لوطاً، فكيف تهلكونها وفيها لوط على نبينا وعليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [العنكبوت:32] فقد كان للوط على نبينا وعليه الصلاة والسلام امرأة كافرة وبنتان مؤمنتان، فسننجيه والبنتين فقط، وأما الآخرون فسنهلكهم، وكذلك امرأته سيأتيها العذاب من عند رب العالمين سبحانه وتعالى، وخرجت الرسل من عند إبراهيم، وتوجهوا إلى قرية سدوم، ولما جاءوا القرية أتوا بالليل؛ فتنة وابتلاء من الله عز وجل، فقوم لوط قوم شواذ يأتون الذكران من العالمين، فيبتليهم الله بشبان حسان يأتون إلى هذه القرية في غاية من الجمال، ولما رأت بنت لوط على نبينا وعليه الصلاة والسلام الشبان -وهي مؤمنة- خافت عليهم، فقد أرادوا دخول هذه القرية وطلبوا الضيافة في هذه القرية؟ فقالت لهم: اصبروا مكانكم ولا تدخلوا؛ فإن القوم قوم سوء، وهرعت إلى أبيها لوط على نبينا وعليه الصلاة والسلام وقالت: جاء إلى القرية شبان ما رأيت مثل وجوههم أدركهم لا يفضحهم قومك، فخرج لوط فلما رآهم (قال هذا يوم عصيب)، أي: يوم صعب شديد، إذ إنه لا يستطيع حمايتهم لوحده؛ ولذلك قال لوط عليه السلام: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80]، وكأنه نظر أن إبراهيم كان له من يحميه ومن ي

تفسير قوله تعالى: (ثم دمرنا الآخرين وإن ربك لهو العزيز الرحيم)

تفسير قوله تعالى: (ثم دمرنا الآخرين وإن ربك لهو العزيز الرحيم) قال تعالى: {ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ} [الشعراء:172] أي: جاء الدمار من عند رب العالمين، فالقرية قلبت رأساً على عقب، وأتبعهم الله عز وجل بحجارة من سجيل، وهي حجارة صلبة محماة في نار جهنم. قوله تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا} [الشعراء:173] أي: نزلت الحجارة كالمطر من السماء، قال تعالى: {فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ} [الشعراء:173] فإن أسوأ ما يكون من مطر أن ينزل على هذه الصورة لمن أنذروا، فلم يستجيبوا لمن حذروا، ولم يأخذوا حذرهم، فجاء العذاب من عند رب العالمين فساء مطر المنذرين. وفي سورة العنكبوت يذكر الله سبحانه وتعالى قصة لوط على نبينا وعليه الصلاة والسلام وكيف حذر قومه، قال الله عز وجل: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ} [العنكبوت:28 - 29]. فهذه جملة من ذنوب هؤلاء الكفار، فهم قوم يكفرون برب العالمين سبحانه، فيدعوهم لوط إلى توحيد الله سبحانه، ولكنهم شواذ يأتون الذكران من العالمين، ويقطعون السبيل، فهم لصوص يقطعون الطريق على الناس، ليسلبوا أموالهم ويأخذوها. قوله تعالى: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمْ الْمُنكَرَ} [العنكبوت:29] يعني: في المجالس التي يجلسون فيها لفعل الفاحشة، ولا ينكر بعضهم على بعض شيئاً، فهم يرفعون أصواتهم، ويتظارطون في مجالسهم، ويأتون هذه الفاحشة والعياذ بالله في مجالسهم ولا أحد ينكر على أحد شيئاً. قال الله تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [العنكبوت:29]، فأهل الجريمة وأهل الفساد هذا جوابهم. قال تعالى: {قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} [العنكبوت:30]، ثم ذكر الله عز وجل كيف أنجاه. وفي سورة الصافات يقول الله عز وجل: {وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ * ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ * وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الصافات:133 - 138] أي: تمرون على هذه القرى قرى سدوم، فقد صارت أرضهم بحراً مراً في هذا المكان، من يمر عليه يعرف أن هنا كان قوم لوط يأتون الفاحشة، فأهلكهم الله سبحانه وتعالى. قال الله تعالى هنا في هذه السورة الكريمة: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:8 - 9]، ويختم الله كل قصة بهذا الختام الجميل، فقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} [الشعراء:8] أي: الذي حدث من هؤلاء وحدث لهم وحدث فيهم آية وموعظة لمن يعتبر، وعبرة لمن يتذكر. قوله تعالى: {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:8] أي: الذين سمعوا هذه المواعظ لم يتعظوا بها، {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:9] عزيز منيع الجانب سبحانه وتعالى، قوي غالب قادر قاهر سبحانه، جبار قهار فعال لما يريد، وهو رحيم سبحانه، فإذا تاب إليه العبد تاب الله عز وجل عليه. روى ابن ماجة عن ابن عمر قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا معشر المهاجرين! خصال خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا) فالفاحشة فعلها قوم لوط وغيرهم، فجاءت العقوبة من السماء من عند رب العالمين، وغيرهم قد يقعون فيها، والله عز وجل قد يستر أقواماً، وقد يفضح أقواماً، وقد يهلك أقواماً سبحانه وتعالى، والهلاك يقيناً يأتي لمن يجاهر بالمعصية ولمن يجاهر بالفاحشة. فقوله صلى الله عليه وسلم: (لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها) أي: حتى يفعلوا الفاحشة ويستهينوا ويستهزئوا ويجهروا بها، فيقعون في الزنا، ويقعون في اللواط، ويأتون الفاحشة جهاراً، فيأتي العذاب من عند الله، قال: (إلا فشا فيهم الطاعون) أي: يرسل عليهم الوباء العظيم الذي لا قبل لهم به، يرسل عليهم الطاعون ويرسل عليهم الكوليرا والزهري والسيلان والإيدز، ويرسل عليهم الكبد الوبائي، ويرسل عليهم ما لا طاقة لهم به، وكلما قالوا: تغلبنا على شيء فتح لهم غيره ولا يقدرون عليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فإن هذه الفاحشة إذا ظهرت في القوم ولم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا المنكر، جاءت العقوبة من عند الله، يقول سبحانه: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25] فإذا جاء الوباء انتشر وعم المفسد وغيْر المفسد، وتجد المريض يقول: الإيدز انتشر في الناس عن طريق الدم، فهذا بلاء من الله عز وجل. وكذلك الكبد الوبائي ينتقل عن طريق نقل الدم من إنسان لإنسان فيبتلى به، قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25]، يبتلى بها الجميع، فهذا يبتلى لكونه مفسداً، وهذا يبتلى لكونه ساكتاً عن الفساد، فلم يأمر بمعروف ولم ينه عن المنكر، فتأتي العقوبة على الجميع. فالله يحذرنا من أن نقع في الفواحش، وأن نجاهر بها، وأن نستهين بعقوبة الله، وقال: {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الشعراء [176 - 191]

تفسير سورة الشعراء [176 - 191] في قصة شعيب مع قومه عبرة لمن يعتبر، فعلى المرء ألا يطمع في الدنيا، وليعلم أن الرزق الحلال وإن كان قليلاً خير من الحرام وإن كان كثيراً، وليحذر المرء من الحرام؛ فإنه يمحق الرزق كله، وتكون عاقبته الهلاك في الدنيا، والعذاب في الآخرة، وهذا ما حل بقوم شعيب، فقد كانوا يطففون في المكيال والميزان، وقبل ذلك كله كفروا بربهم وكذبوا رسولهم، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.

تفسير قوله تعالى: (كذب أصحاب الأيكة المرسلين إن أجري إلا على رب العالمين)

تفسير قوله تعالى: (كذب أصحاب الأيكة المرسلين إن أجري إلا على رب العالمين) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الشعراء: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:176 - 180]. قصة شعيب مع قومه هي القصة السابعة في هذه السورة الكريمة سورة الشعراء، فيذكر الله سبحانه وتعالى فيها قصة شعيب النبي عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام مع قومه، وقومه هم أهل مدين وذكر هنا أنهم أصحاب الأيكة، وقد كان أهل مدين وهم أصحاب الأيكة عرباً يسكنون قرية اسمها مدين من أطراف الشام، وكانت ذات غيضات وذات حدائق وبساتين، والأيكة هي الشجر الشجر العظيم الأغصان الملتفة بعضها على بعض من كثرة الري، وكانوا قريبين من قرى قوم لوط، وكانوا بعدهم بزمان ليس بالبعيد. ومدين من أبناء إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، قالوا هو: مدين مديان بن إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ولوط هو ابن أخي إبراهيم الخليل، إذاً: فالمدة الزمنية قريبة بين مدين وقوم لوط، ولذلك حذرهم نبيهم أنه قد يلحقهم ما أصاب الذين من قبلهم كقوم عاد وقوم ثمود وقوم لوط. يقول الله سبحانه: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:176]، قراءة الجمهور (الأيكةِ) بالكسر، وقراءة نافع وأبي جعفر وابن كثير وابن عامر:) كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ)، وكأنها هنا ممنوعة من الصرف فجرت بالفتحة على هذه القراءة، فقيل: إنها اسم للبلد، وكأن (ليكة) اسم لهذه البلد، و (الأيكة) بمعنى الأغصان الملتفة في هذه الأشجار العظيمة التي في حدائقهم، فهم أصحاب الأيكة وأصحاب ليكة. قوله {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} أي: كذبوا رسولهم شعيباً على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وكان شعيب يلقب بخطيب الأنبياء لفصاحته، وكان شعيب من العرب عليه الصلاة والسلام، وكان فصيحاً، ونرى فصاحته وبلاغته في الكلام الذي يسوقه الله عز وجل لنا في هذه القصة، سواءٌ في سورة الشعراء أو في سورة الأعراف أو في سورة هود أو في سورة الحجر، فقد ذكر سبحانه القصة طويلة في هذه السور الأربع. فذكر الله سبحانه وتعالى أنه قال لهم: {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:177]، فأمرهم بتقوى الله سبحانه وتعالى، {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الشعراء:178] أي: هو كغيره من رسل الله عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، فكلهم أمناء على تبليغ رسالة رب العالمين، وكلهم معهود منهم في أقوامهم الصدق والأمانة، وأنهم لم يكذبوا ولم يفسدوا أبداً قبل ذلك، فقال: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:178 - 179]، وهذه المقدمة في جميع القصص التي قبلها في عاد وثمود وقوم لوط، وكذلك أصحاب الأيكة كرر الله عز وجل هذا الذي قاله الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. (وأطيعون) فيها القراءتان كما تقدم في مثيلتها، قال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:179 - 180].

تفسير قوله تعالى: (أوفوا الكيل ولا تعثوا في الأرض مفسدين)

تفسير قوله تعالى: (أوفوا الكيل ولا تعثوا في الأرض مفسدين) قال الله تعالى حاكياً قول شعيب لقومه: {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ * وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [الشعراء:181 - 183]، فهذه هي جرائم هؤلاء الأقوام، وهذا هو الذي كانوا يصنعونه، فيقول الله سبحانه وتعالى على لسان نبيهم عليه الصلاة والسلام: ((أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ))، فهذا يدل على أن عندهم الثمار وعندهم الزروع، فهم يبيعون هذه الزروع والثمار إما عن طريق الكيل وإما عن طريق الوزن، وكانوا يخسرون ويطففون المكيال والميزان، فكأنهم أول من صنعوا ذلك، فحذرهم نبيهم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام من هذا الصنيع الفظيع الذي وقعوا فيه، فقال لهم: ((أَوْفُوا الْكَيْلَ)) أي: احذروا من عدم الوفاء بالكيل، ((وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ))، فهذه جريمة يستحق الناس عليها عذاب رب العالمين سبحانه وتعالى، {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} [الشعراء:182] أي: زنوا بالعدل، و (القسطاس) فيه قراءتان: قراءة حفص عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف (بالقِسطاس) بكسر القاف، وقراءة باقي القراء: (وَزِنُوا بِالْقُِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ) أي: بميزان العدل، والمعنى: وزنوا بالعدل حين تعطون وتبيعون للناس. قال: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الشعراء:183] أي: لا تنقصوا الناس أشياءهم، بخس الإنسان قدره ونصيبه، أعطاه الحظ غير الوافي، وأعطاه الشيء الناقص، فهو بخسه واستنقص مما يعطيه ظلماً وعدواناً، فهؤلاء كانوا يظلمون الخلق، فإذا كالوا للناس بخسوا الناس أشياءهم، ويأخذون الشيء الجيد ويعطون الشيء الرديء، ويوهمون من يعطونهم أنهم أعطوا أفضل الأشياء، فقال: ((وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ)) أي: لا تظلموا الناس، والإنسان من طبيعته الطمع والشح، قال تعالى: {وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ} [النساء:128]، فمن طمع الإنسان أنه إذا اكتال لنفسه أخذ من الناس الشيء الكثير وأخذ وافياً، فإذا أعطى لغيره أعطى الأقل. وقد حذرنا الله عز وجل في القرآن من ذلك فقال: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} [المطففين:1 - 2] أي: إذا طلبوا من الناس الكيل واشتروا منهم فإنهم يستوفون حقهم ويأخذونه وافياً، لكن لو كانوا هم الذين يبيعون للناس بخسوهم حقهم، {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين:3]. فهنا قال لهم نبيهم عليه الصلاة والسلام: ((وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ)) أي: لا تظلموا الناس أشياءهم، ((وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ)) قوله: (ولا تعثوا) عثا يعثوا عثواً أي: اشتد فساده، وليس فساداً عادياً، بل أشد الفساد.

تفسير قوله تعالى: (واتقوا الذي خلقكم وإن نظنك من الكاذبين)

تفسير قوله تعالى: (واتقوا الذي خلقكم وإن نظنك من الكاذبين) قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:184] أي: الخلق السابقين، فيكون المعنى: اتقوا الذي خلقكم كما خلق الجبلة الأولين السابقين قبلكم، فكان جواب هؤلاء الأقوام كجواب الذين من قبلهم: {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [الشعراء:185 - 186]، فهذا هو نفس الكلام الذي قالته ثمود لنبيهم صالح على نبيهم وعليه الصلاة والسلام، {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} [الشعراء:153] يعني: قد سحرت فأنت تتكلم كلاماً ليس جيداً، أو أنه لك سَحَراً والسحر هو الرئة، وقالوا: الصالح: {مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء:154]. وهنا قوم شعيب لما انبسط شعيب معهم زادوه في A { قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء:185 - 187]. وأما قوم ثمود فقالوا لنبيهم: {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * مَا أَنْتَ} [الشعراء:153 - 154] يعني: أنت لك سحر، وأنت بشر مثلنا، فكأنه جواب واحد وأكد الأول بالثاني، وكأن هؤلاء يقولون: {مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [الشعراء:186] يعني: لن تكون أفصح منا، فكلما تقول لنا كلاماً كثيراً فسنرد عليك بجواب كثير، فهنا زادوه في الكلام على ما قال الذين من قبلهم، فقالوا: {وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [الشعراء:186] أي: ويغلب على ظننا أنك تكذب علينا وأنك لا تصدقنا، وهو لم يكذب عليهم قبل ذلك، لكن الكاذب يرى الناس كذابين مثله، فهم أهل كفر وأهل كذب وأهل مكر وخديعة فيرمونه بدائهم هم.

قصة شعيب وقومه في سورة الأعراف

قصة شعيب وقومه في سورة الأعراف في هذه السورة ذكر الله عز وجل ما دار بينه وبينهم مختصراً، وفي سورة الأعراف قال الله سبحانه: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} [الأعراف:85]، وهنا قال: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:176] وأهل مدين هم أصحاب الأيكة، وذكر بعض المفسرين أن مدين قوم وأصحاب الأيكة قوم آخرون، وقد أرسل شعيب إلى الفريقين، واستدلوا على ذلك بأنواع العذاب، فقالوا: هؤلاء أصابهم عذاب يوم الظلة، وأولئك أصابتهم الصيحة والرجفة من الله عز وجل، فيكون هؤلاء قوم وهؤلاء قوم. ونقول: هذا ليس بصواب، وإنما الصواب أن شعيباً أرسل إلى مدين الذين هم أنفسهم أصحاب الأيكة كما ذكر ربنا سبحانه وتعالى. فهنا في هذه السورة قال: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ} [الشعراء:176 - 177]، مع أن العادة قبل أن يذكر ثموداً ويذكر عاداً يذكر الأنبياء فيقول: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ} [الشعراء:124]، ويقول: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ} [الشعراء:142] ويقول: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ} [الشعراء:161]، وهنا لم يقل: أخوهم مع أنه أخ لهم في النسب، فهو من القبيلة نفسها، وعبر عن ذلك في قوله سبحانه: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} [الأعراف:85]، وهذه هي التي أحدثت إشكالاً عند بعض أهل العلم، فقالوا: هؤلاء قبيلة وهؤلاء قبيلة، فهو أخ لمدين وليس أخاً لأصحاب الأيكة، والصواب: أنهم هم هم، ولكن هنا لطيفة أشار إليها الحافظ ابن كثير رحمه الله في ذلك فقال: هؤلاء -يعني أصحاب الأيكة- هم أهل مدين على الصحيح، وكان نبي الله شعيب من أنفسهم، وإنما لم يقل هاهنا: أخوهم شعيب؛ لأنهم نسبوا إلى عبادة الأيكة، وهي شجر ملتف كالغيضة كانوا يعبدونها، فلهذا لما قال: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:176]، لم يقل: إذ قال لهم أخوهم شعيب، وإنما قال: {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ} [الشعراء:177]، فقطع نسب الأخوة بينهم للمعنى الذي نسبوا إليه، وإن كان أخاهم نسباً، ومن الناس من لم يفظن لهذه النكتة فظن أن أصحاب الأيكة غير أهل مدين، فزعم أن شعيباً بعثه الله إلى أمتين. وقال تعالى في سورة الأعراف: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:85]، فدعاهم إلى عبادة رب العالمين، وحذرهم من الشرك وعبادة الجمادات، قال: {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف:85] يعني: هو جاءهم بآية من عند رب العالمين، ولم يذكر لنا ربنا سبحانه ما هي هذه الآية، كما لم يذكر لنا في قصة عاد مع نبيهم هود عليه السلام ما الآية التي جاء بها إليهم، ولكن كل نبي قد جاء لقومه بآية من الآيات. فهنا جاءهم نبيهم بآية من عند ربهم سبحانه، وقال: {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف:85]، وكل هذا من أجل أن تصدقوا بربكم سبحانه، ومن أجل أن تستجيبوا لما أدعوكم إليه وتتركوا المعاصي والفواحش التي تقعون فيها، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأعراف:85] أي: إن كنتم تؤمنون بالله سبحانه وتعالى فصدقوا ما أقوله لكم ولا تصنعوا هذه الأفعال القبيحة الشنيعة. فكلام شعيب عليه الصلاة والسلام مع قومه كلام فصيح، وقد ذكره الله عز وجل وساقه في سورة الأعراف، وفي سورة هود، وهنا في الشعراء، ففي سورة الأعراف يقول الله سبحانه على لسان شعيب عليه السلام: {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ * وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [الأعراف:86 - 87]، فهذا كلام عظيم بليغ فصيح من نبيهم عليه الصلاة والسلام، ولذلك لقب بخطيب الأنبياء عليه الصلاة والسلام، وكان ضريراً عليه الصلاة والسلام، فيذكر هنا من ضمن الأشياء أو الجرائم التي يقعون فيها أنهم لا يوفون في الكيل ولا في الميزان، وأنهم يظلمون الناس ولا يدفعون لهم حقوقهم بل يبخسونهم، وكانوا يقعدون للناس في الطريق ويأخذون منهم الضرائب والعشور من أموالهم، فقال: {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ} [الأعراف:86] أي: تتهددون الناس على كل طريق لتأخذوا منهم المال {وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} [الأعراف:86] يعني: تؤذون المؤمنين الذي اتبعوني ودخلوا في ديني، فتقعدون لهم في الطرق وتخيفونهم، ولم يكتفوا بإخافة المؤمنين بل أخافوا نبيهم عليه الصلاة والسلام بالتهديد والوعيد، حتى استفتح ربه عليهم، وسأل الله أن يفتح بينه وبينهم بالحق. إن سياق الآيات غاية في الجمال والمناسبة التي تجدها فيها، فانظر هنا في سورة الأعراف لما ذكر الله سبحانه أن هؤلاء خوفوا نبيهم دعا ربه سبحانه، فجاءهم العذاب الذي يخيفهم من عند رب العالمين سبحانه، وستلاقي في سورة هود أنهم صاحوا بنبيهم وكأنهم ينكرون عليه ما يقول، فجاءهم العذاب بصيحة من السماء يبتليهم الله عز وجل بها ويأخذهم سبحانه، ففيها مناسبة بين تعذيبهم وبين صنيعهم، ففي كل سورة يقص شيئاً من صنيعهم يناسبه العذاب الذي حاق بهم، فالله عز وجل عذبهم بثلاثة أنواع من العذاب: الأول: أرسل عليهم رجفة زلزلت بهم الأرض. الثاني: أرسل عليهم صيحة من السماء. الثالث: أرسل عليهم ظلة تكويهم وتحرقهم بنار؛ لأنهم طلبوا ذلك. فكأنه أشار في كل سورة إلى المناسبة بين ما طلبوه وما فعلوه وما حاق بهم من العذاب من عند رب العالمين سبحانه. ثم قال في سورة الأعراف: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا} [الأعراف:86] يعني: لا تنسوا أنفسكم، ولا تغتروا بعشيرتكم ولا بقوتكم ولا بأموالكم. فقال هنا نبيهم عليه الصلاة والسلام: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف:86] أي: أن الذي كثركم قادر على أن يقللكم ويعيدكم إلى الذل مرة ثانية، {وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف:86] كقوم عاد وقوم ثمود وقوم لوط. ثم قال: {وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [الأعراف:87]. فما كان جواب هؤلاء الأقوام؟ يقول الله عز وجل {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف:88]، فهم لم ينظروا إلى الحجج التي جاء بها، ولا إلى الآية البينة التي جاء بها، وإنما نظروا إلى أنهم أقوياء وهو ضعيف، فما دام الأمر كذلك فما نقوله هو الحق، فإما أن ترجع في ديننا أنت ومن معك وإما أن نفعل بكم ونفعل، وهذا التخويف لنبيهم ولمن معه. فكان جوابه: {قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} [الأعراف:88] أي: هل تعيدوننا إلى الكفر غصباً عنا وتكرهوننا على ذلك؟ ثم قال لهم: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا} [الأعراف:89] أي: كيف نرجع ونعود في ملتكم؟! مع أنه لم يعبد الشجرة، وما كان لنبي من أنبياء الله أن يعبد غير الله سبحانه؛ لأن الله يحفظهم قبل الرسالة التي تنزل عليهم وبعد الرسالة، ولكن كأنه يتكلم عن نفسه ومن معه، فالذين معه كانوا قبل ذلك كفاراً، ثم بعد ذلك دخلوا في دين نبيهم شعيب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فلذلك {قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ * قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} [الأعراف:88 - 89] أي: لن نرجع في دينكم أبداً، ولكن إن أراد الله تعالى أن يفتن بعضاً منا فالأمر ليس لنا؛ لأن قدر الله سبحانه غالب على كل شيء. ثم قال: {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف:89] أي: اقض وافصل بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين، هذه قصة شعيب مع قومه في سورة الأعراف.

قصة شعيب وقومه في سورة هود

قصة شعيب وقومه في سورة هود كذلك في سورة هود يذكر الله عز وجل: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} [هود:84]، فيذكر أن شعيباً أخوهم، وهنا في الشعراء ذكر أصحاب الأيكة، وفي سورة الحجر أيضاً ذكر أصحاب الأيكة فلم يقل: أخاهم لا في الحجر ولا في الشعراء، ولكن قال: شعيبٌ عليه الصلاة والسلام. ثم قال في سورة هود: {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} [هود:84]، هذا كلام جديد لم يذكره الله عز وجل في سورة الأعراف، فكأنه تلطف معهم في الكلام في البداية، فقال لهم: ((إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ)) يعني: أنتم في نعم عظيمة، قد أعطاكم الله من الزروع والثمار، وأعطاكم من النعم الكثيرة، فاعبدوا هذا الإله العظيم الذي خلقكم ورزقكم، ((وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ))، ثم قال: {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [هود:85 - 86] يعني: ما يبقى لكم من أموال حلال وإن كان قليلاً هذا خير لكم مما تأخذونه من أموال محرمة وإن كان كثيراً، فالمال الذي تأخذونه بالإنقاص في الكيل وفي الميزان وغير ذلك من الحرام. وهذه النصيحة لهم ولغيرهم، فينبغي للإنسان ألا يطمع، ولينظر إلى هؤلاء الذين طمعوا ولم يرضوا بالحلال -وهو كثير عندهم- وإنما أرادوا الكثرة، وطبيعة الإنسان أن فيه نهماً وفيه شرها، ولو كان لابن آدم واد من ذهب لتمنى أن له ثانياً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب. فهؤلاء عندهم الخير الكثير من عند الله ومع ذلك يطففون في الكيل والميزان، فقال نبيهم عليه الصلاة والسلام: {بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ} [هود:86] يعني: إذا بعتم واشتريتم فما بقي لكم من ربح حلال يكفيكم، وهذا أخير لكم وأفضل من أن تزيدوا عليه من أموال محرمة، فيمحق الله الجميع بسبب طمعكم. فكان جوابهم أن قالوا: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ} [هود:87] فكأنهم صاحوا عليه: ما الذي تقوله؟ {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [هود:87] أي: هل صلاتك تأمرك بذلك؟ {أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود:87] يعني: أنت تظن أنك حليم رشيد مع أنك لا تفهم شيئاً، وكأنهم يعرضون في الكلام، والحليم هو الإنسان الذي فيه تؤدة صبر وليس عنده اندفاع، فهم قالوا له ذلك على وجه الشتم، فكأنهم يقولون: أنت مندفع وأنت متهور وأنت لست كما تزعم وإنما تمثل علينا بهذا الشيء، {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود:87]، والرشيد هو إنسان راشد يجيد التدبير فيما أعطاه الله عز وجل من أموال، فكأنهم يقولون له: هل أنت الذي ستدبر لنا أموالنا وتجمع لنا أموالنا؟ وهم بقولهم: (الرشيد) يقصدون بأنه هو السفيه الذي لا يفهم شيئاً في إدارة الأموال، فكأنهم يشتمونه بذلك. قوله: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا} [هود:87]، وهذه عادة السفهاء والجهلاء لما يقولون لأهل الدين: هي الصلاة التي تقول لكم: اعملوا كذا، وهو نفس الكلام الذي قاله الكفرة من قبل: (أصلاتك تأمرك)، وهذه فيها قراءتان: (أصلاتك) و (أصلواتك) تأمرك. قال لهم: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا} [هود:88]، إن طريقته وأسلوبه في المخاطبة دليل على حلمه وعلى صبره على هؤلاء، فهؤلاء يستحقون أن يدعو عليهم، ومع ذلك يجادلهم ويناظرهم ويزيد الحجة وراء الحجة، فيقول: (يا قوم) وهذا فيه تحبب وتودد، يعني: أنا منكم ولست غريباً عنكم، فأنتم قومي وأنتم أولى الناس أن أدعوكم، (يا قوم أرأيتم) أي: أخبروني عن الأمر إن كنت على بينة من ربي وآتاني الله عز وجل هذا الدين وجئتكم بهذه البينة، ((وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا)) أي: رزقاً حلالاً، {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود:88]، وهم يقولون له: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود:87] يعنون: أنك من ورائنا تعمل مثلنا، فيقول لهم: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود:88] أي: كيف أصنع شيئاً غير ما آمركم به؟ ما أريد أن أخالف فأفعل هذا الحرام الذي تفعلونه، {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود:88] أي: ما أريد إلا أن أصلح حالكم قدر المستطاع، وأصلح ما أنتم فيه، {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88]. ثم قال: محذراً لهم: {وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} [هود:89] قوله: (يا قوم لا يجرمنكم) أي: لا يستهوينكم ولا يدفعنكم في الشر شقاقي أو خصومة بيني وبينكم إلى أن تكذبوا فيصيبكم عذاب الله الذي أصاب الأقوام من قبلكم: (قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) فهؤلاء جميعهم قد عرفتم ما نزل بهم من عذاب رب العالمين سبحانه، وقد كانوا سابقين عليكم بمدد، لكن قوم لوط كانوا قريبين منكم ليسوا ببعيد عنكم. ثم قال لهم: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود:90] فلما قال لهم ذلك إذا بهم يأبون إلا أن يصرخوا ويصيحوا عليه: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [هود:91] أي: لسنا فاهمين منك شيئاً، وإنما أنت تخرف في الكلام، وهذه عادة هؤلاء فلا عقول لهم، ولا يفهمون إلا أن من كان ذا قوة فرأيه هو الرأي السديد، فقالوا لشعيب على نبينا وعليه الصلاة والسلام: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا} [هود:91]، فانظر إلى سوء الأدب مع الأنبياء فهم يعيرونه بأنه ضعيف، ثم يقولون: {وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} [هود:91] يعني: كان له قوم وعشيرة، فهم لا يقصدون ضعف العشيرة لا، وإنما ضعيف لأنه كان ضريراً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فالكلام هنا ليس فيه مجابهة حجة بحجة، ولا مناظرة وإنما هذه سفاهة وسوء أدب. {وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود:91] يعني: نحن نسكت عنك فقط مراعاة لأهلك، أما لو كنت وحدك لرجمناك بالحجارة وقتلناك، ولست العزيز عندنا الذي نهتم لأمرك ولشأنك. قال شعيب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا} [هود:92] أي: هل من العقلاء من يقول ذلك؟ أرهطي هؤلاء أعز عليكم من الله؟ أفلا تتوبون إلى الله سبحانه؟! أفلا تتفكرون ما الذي تهرفون به من كلام لا تفهمون معناه؟! أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتم الله سبحانه وتعالى وراء ظهوركم. {إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ * وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ} [هود:92 - 93] وهنا جاء التهديد، فهو بعدما تلطف معهم وبعدما نصحهم ووعظهم ورأى أنه لا فائدة فيهم، قال: اعملوا الذي أنتم تريدونه، {اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ} [هود:93] أي: تتهمونني بالكذب فستعلمون من هو كاذب {وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ} [هود:93]، فجاء أمر الله سبحانه وتعالى فأخذهم وأهلكهم.

تفسير قوله تعالى: (فأسقط علينا كسفا وإن ربك لهو العزيز الرحيم)

تفسير قوله تعالى: (فأسقط علينا كسفاً وإن ربك لهو العزيز الرحيم) يذكر الله سبحانه أنهم قالوا له: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ} [الشعراء:187] أي: ظللاً من السماء، {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ} [الشعراء:187] أي: ارمنا بقطع من حجارة السماء أو قطعة من السماء إذا كنت صادقاً. قوله: (كسفاً) هذه قراءة حفص عن عاصم وحده فقط بفتح السين، وأما بقية القراء فيقرءونها بالتسكين فيها: ((فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسْفًا)). قال تعالى: {قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الشعراء:188] أي: الله أعلم بأعمالكم، فهو يعلم ما الذي تستحقون على ذلك فانتظروا منه الجزاء، فأصروا على استكبارهم وتكذيبهم، قال تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء:189]، ولاحظ المناسبة هنا، فقد طلبوا العذاب فقالوا: أسقط علينا كسفاً، أي: ائتنا بقطع من السماء، فأتاهم عذاب يوم الظلة، وما كانوا يحسبون أنه عذاب عليهم، فهم لما طلبوا الظلة من السماء وقالوا: أسقط علينا كسفاً من السماء إن كنت من الصادقين، فكروا أنه عندما ينزل عليهم كسف من السماء سيهربون في الجبال ويفرون من العذاب، ولكن الله سبحانه وتعالى يملي لهم، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]، فسلط عليهم الحر الشديد سبعة أيام، فصاروا يبحثون عن شيء يستظلون به، فأرسل عليهم سحابة من السماء، فذهبوا جميعهم تحت هذه السحابة يستظلون بظلها، ويسترطبون برطوبتها، فلما اجتمعوا تحتها أرسل عليهم سبحانه صيحة ورجفة وناراً فأحرقتهم جميعهم، فجاءهم العذاب، قال في هذه السورة سبحانه وتعالى: {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء:189]. وأما في السور الأخرى فذكر الله عز وجل في الأعراف أنه أهلكهم برجفة، فقال سبحانه: {وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} [الأعراف:90]، وأخافوا نبيهم وقالوا: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف:88]، فلما أخافوهم جاءت الزلزلة من تحت أرجلهم تخيفهم وترعبهم، قال سبحانه: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف:91]. وفي سورة هود يذكر الله أنهم صاحوا على نبيهم وشتموه: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود:87]، وقالوا لنبيهم عليه الصلاة والسلام: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [هود:91]، فلما رفعوا أصواتهم على نبيهم جاءتهم صيحة تصمهم وتعميهم من الله عز وجل؛ جزاءً وفاقاً. فذكر في كل سورة ما يناسب صنيعهم من عذاب من عند ربهم سبحانه وتعالى، قال الله عز وجل في سورة الأعراف: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:92]، فكأنهم قالوا لشعيب ومن آمن معه: إنكم في خسران مبين، فالله عز وجل بين أنهم هم في خسران عظيم، فقال الله عز وجل فيها: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} [الأعراف:92] أي: كأنهم لم يقيموا بهذا البلد، وكأنهم لم يكن لهم عَدد ولا عُدد ولا قوة ولا أفراد كأنهم لم يكن لهم شيء من ذلك، {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:92]. فأنجى الله نبيه عليه الصلاة والسلام فتولى عنهم وتركهم وانصرف عنهم، قال: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} [الأعراف:93] يعني: اذهبوا أينما ذهبتم فلن أحزن عليكم، وكيف أحزن على قوم كفروا برب العالمين سبحانه وقد قدمت النصيحة لهم؟! وفي سورة هود يختم الله عز وجل القصة بقوله: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} [هود:95] أي: سحقاً وعذاباً. وفي سورة الحجر يقول سبحانه: {وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ * فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} [الحجر:78 - 79]، (وإنهما) أي: أصحاب الأيكة وأصحاب حجر ثمود، (لبإمام مبين) يعني: ترونهم في طريق واضح حين تذهبون إلى الشام. وختم هذه القصة في سورة الشعراء بقوله سبحانه الذي تكرر مراراً: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:190 - 191] أي: الغالب القاهر الذي لا يقدر أحد أن يمتنع من شيء أراده سبحانه وتعالى، فهو العزيز وهو الرحيم بالمؤمنين سبحانه وتعالى. إن هذه القصة فيها عبراً لمن يعتبر، وعلى الإنسان ألا يطمع في هذه الدنيا، وليعلم أن الرزق الحلال وإن كان قليلاً خير من أن يستكثر من الحرام فيمحق الله عز وجل الجميع، فالإنسان مهما أخذ من المال فإن الله عز وجل سيسأله عن ماله: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ فليعد للسؤال جواباً، وليحذر من الحرام؛ فإن الحرام يدعو بعضه إلى بعض، فمن أخذ قليلاً من الحرام استكثر منه، فإذا كان يطفف الكيل في جرامات فسيطفف في كيلوات، ثم يطفف في أطنان، ثم يموت ويترك هذا كله ويأتيه عذاب الله كما أتى السابقين. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الشعراء [192 - 209]

تفسير سورة الشعراء [192 - 209] من سنن الله عز وجل في خلقه أنه إذا أرسل إليهم رسولاً يدعوهم إلى توحيده فكذبوه أن يهلكلهم، ويجعلهم عبرة لمن يأتي خلفهم، ولما كذب مشركو قريش وأهل الكتاب بالنبي صلى الله عليه وسلم حاجهم الله بأن جعل من علمائهم من يعترف بحقيقة النبي صلى الله عليه وسلم، ويدل على ذكره في الكتب السابقة، فلا عذر لهم إن نزل بهم العذاب وأتاهم ما يوعدون.

سنة الله في إرسال الرسل وإهلاك من كذبهم

سنة الله في إرسال الرسل وإهلاك من كذبهم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين: قال الله عز وجل في سورة الشعراء: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ * وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ * أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ * وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ * كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ * فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ * أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} [الشعراء:192 - 204]. ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه السورة قصص السابقين ممن أرسل إليهم رسله، وهداهم بدعوته سبحانه إلى الحق، فأبى أكثرهم إلا الإعراض عن رسل الله، والتكذيب بدعوتهم، فإذا به سبحانه يرينا فيهم الآيات، ويختم كل قصة من هذه القصص بقوله سبحانه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:8].

موسى وقومه مع فرعون وملئه

موسى وقومه مع فرعون وملئه لقد أرانا الله سبحانه وتعالى في هذا القرآن المنزل من عنده آياته، وعظيم صفاته وقدراته، فأنجا موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام ومن معه -وكانوا مستضعفين في الأرض -من فرعون وجنوده- وكانوا مستكبرين في الأرض- قال الله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ} [القصص:5 - 6]. فأرانا الله سبحانه كيف أهلك المتكبرين، وكيف مكن للمستضعفين، فهذا موسى وبنو إسرائيل يتصدى لهم فرعون وملؤه وجنوده، وإذا بالله سبحانه ينصر الحق ويحقه ويخذل الباطل ويبطله، ويرينا فيهم آياته، ويقول: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:8 - 9].

إبراهيم مع قومه

إبراهيم مع قومه لقد أخبرنا الله سبحانه عن إبراهيم ومناظرته مع قومه الذين كانوا يعبدون الأصنام من دون الله سبحانه وتعالى، فقد ناظرهم في هذه المعبودات الباطلة، ثم حطم أصنامهم، فأرادوا حرقه وقالوا: {ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ} [الصافات:97 - 98]، {فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} [الأنبياء:70]. وقد ذكر الله قصة إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام باختصار، وفصل في غير هذه السورة ما اختصره هنا، وختم هنا بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:8 - 9].

نوح مع قومه

نوح مع قومه إن قوم نوح كانوا قبل إبراهيم وكذلك قبل هؤلاء الذين ذكرهم الله سبحانه في هذه السورة، وقد ذكر الله لنا أنهم استكبروا استكباراً، وتولوا وأعرضوا عن رسولهم، وأرادوا به الضر، وأوصى بعضهم بعضاً بعدم تصديقه وعدم الإيمان به، فاستمروا على ذلك وهو يدعوهم إلى الله سنين طويلة جاوزت التسعمائة: ألف إلا خمسين عاماً. فلما أصروا على ما هم فيه، واستهانوا بعذاب الله، واستهزئوا برسول الله، جاءهم العذاب من حيث لا يشعرون. فقد كانوا يسخرون من نبيهم كيف يصنع سفينة في الصحراء، ومن أين يأتيها الماء، فإذا بالله يفجر الأرض عيوناً، وينزل من السماء ماءً فيغرق جميع من على الأرض، وينجي المؤمنين مع نبيهم نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ويختم بالختام الجميل: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:8 - 9].

قوم عاد وثمود

قوم عادٍ وثمود يذكر لنا الله عز وجل قوم عاد وكيف أنه أعطاهم ومكن لهم وجعل لهم نعماً كثيرة من عنده، وقد ذكرهم بها نبيهم عليه الصلاة والسلام، كما قال تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:128 - 131]. فأبوا وأصروا على ما هم فيه حتى جاءهم العذاب من عند رب العالمين. ويختم ربنا بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:8 - 9]. ثم ذكر من بعدهم ثمود الذين جاءوا وصنعوا صنيعهم، فعذبهم الله عز وجل بعذاب كعذابهم، وقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:8 - 9].

إهلاك قوم لوط وقوم شعيب

إهلاك قوم لوط وقوم شعيب لقد ذكر الله عز وجل قوم لوط الذين أتوا الفواحش العظيمة، واستهانوا برسولهم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وأرادوا طرده ورجمه، فابتلاهم الله سبحانه بأن عذبهم وأهلكهم، قال الله تعالى: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} [النجم:53 - 55]، وختم هنا في هذه السورة بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:8 - 9]. ثم ذكر قوم شعيب على نبينا وعليه الصلاة والسلام وهم أهل مدين الذين طلبوا من نبيهم أن يرسل عليهم كسفاً من السماء، أي: قطعاً من السماء، فإذا بالله ينزل عليهم عذابه من حيث لا يحتسبون ولا يشعرون، فجاءتهم ظلة من فوقهم أظلتهم فظنوا أن فيها الرياح الطيبة والبرودة، وقد قاسوا من الحر سبعة أيام، فاستظلوا بهذا الظل جميعهم، فلما تتاموا تحته إذا بصيحة من السماء ورجفة من الأرض، وإذا بالظلة تمطر عليهم عذاباً وناراً وسموماً، فأهلكهم الله سبحانه، وختم في المرة الأخيرة بقوله سبحانه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:8 - 9]. وقد كرر الله عز وجل وراء كل آية من آيات هذه السورة قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:8 - 9]، فكان مجموع تكرارها ثمان مرات، والمعنى: أن الله عزيز غالب، وعزته وجبروته سبحانه وتعالى على الكافرين، حيث دمرهم أجمعين، ورحمته ورأفته وحنانه على المؤمنين، فجمع سبحانه بين الصفتين: عزيز وبهذه العزة أهلك الكافرين، ورحيم وبهذه الرحمة أنجى المؤمنين، وقد جمع لنا هذا كله في هذا الكتاب العزيز المنزل من عنده.

القرآن منزل من عند الله على رسوله بواسطة جبريل

القرآن منزل من عند الله على رسوله بواسطة جبريل حسن الختام لهذه السورة الكريمة العظيمة هو قول الله عز وجل لنا: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:192]، فبعد أن قص علينا هذه القصص العظيمة، وأرانا هذه الآيات، عرفنا أن هذا ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو كلام رب العالمين سبحانه. وقد عرف أهل الكتاب ذلك؛ لأن هذه القصص ما كان يعرفها النبي صلى الله عليه وسلم من قبل، وقد كانوا يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويسمعون منه بعض هذه القصص فيتعجبون؛ بسبب إحاطته بتفاصيلها على الرغم من أنه لم يخرج خارج مكة صلى الله عليه وسلم ليتعلم علماً، ولم يجالس أحداً من أهل الكتاب، وقد يذكر تفصيلات دقيقة لا يعرفها الكثيرون من أهل الكتاب، فيقول الله عز وجل لهؤلاء ليسكتهم: لا تعجبوا: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:192] أي: إن هذا القرآن جاء من عند رب العالمين سبحانه، فقد نزله تنزيلاً، ولم يأت من عند أحد غيره. قال الله عز وجل: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء:193] أي: أن هذا القرآن نزله ربنا سبحانه على نبينا صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل الروح الأمين، ووصفه الله عز وجل بهذه الصفة؛ لأنه روح خلقها الله سبحانه وتعالى، وهو أمين كما أن الرسل من أهل الأرض أمناء، فكل رسول منهم يقول لقومه: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الشعراء:107]، فكذلك هذا الروح الأمين رسول من رب العالمين إلى رسل الله عليهم الصلاة والسلام، وهو أمين بشهادة رب العالمين سبحانه هذه. وهذا القرآن نزله الله تنزيلاً، وتنزيلاً: مصدر من نزل، فهو تنزيل من عند رب العالمين، وهذا فيه إثبات لعلو الله تعالى. وفي هذه الآية قراءات: قراءة نافع وأبي جعفر وابن كثير وأبي عمرو وحفص عن عاصم وهم يقرءونها: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء:193]، وباقي القراء يقرءونها بالتضعيف: (نَزَّلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ) أي: نزل الله عز وجل بهذا القرآن من السماء، أما {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء:193] على القراءة الأولى فهو جبريل عليه السلام. وقد أنزل الله القرآن كله إلى بيت العزة في السماء في ليلة القدر، ثم نزل من بيت العزة إلى الأرض بأمر الله سبحانه لجبريل أن ينزل بآية كذا في الوقت الفلاني، وسورة كذا في الوقت الفلاني، وبكلمة من سورة كذا في الوقت الفلاني، فينزل القرآن بحسب ما يحتاج إليه الناس، فهم يحتاجون إلى أحكام ومواعظ، فينزل الله سبحانه جبريل بما يحتاجونه. قال الله تعالى: {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ} [الشعراء:194] أي: نزل هذا القرآن على قلب النبي صلى الله عليه وسلم وليس على أحد سواه، فوعاه قلبه صلوات الله وسلامه عليه وحفظه، فلما كان صلى الله عليه وسلم يطلب من جبريل أن يزوره أكثر مما يزوره، وينزل عليه بالقرآن أكثر مما ينزل عليه من قبل أخبره الله سبحانه وتعالى في القرآن عن ضابط نزول جبريل عليه فقال: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64] أي: أن ربك لم ينسك، و {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:3]، ولكن ينزل بقدر، وكل شيء عنده بمقدار، فيعلم سبحانه متى ينزل هذه السورة، ومتى ينزل هذا الحكم، ومتى ينزل هذه الآية، فكل شيء بقدر عند رب العالمين سبحانه. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ مع جبريل عندما يأتيه بالقرآن؛ حتى لا ينسى، فإذا بالله يعلمه أدب السماع، وذلك بأن ينصت ولا يتكلم، قال سبحانه: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة:16 - 17] أي: نحن الذين نحفِّظك، ونحن الذين ننسيك ما نريد من ذلك، قال الله عز وجل: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة:106]، فالله هو الذي يحفظ نبيه صلى الله عليه وسلم، فلا يحتاج إلى معالجة الحفظ، بل يستمع لما يقوله جبريل ولا يحرك به لسانه: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:15 - 18] أي: إذا قرأه جبريل عليه السلام عليك، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:19] أي: نحن نبين لك هذا العلم العظيم، وما عليك إلا أن تصغي وتعطينا قلبك وأذنك، ونحن نملؤهما من علمنا. قال الله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ} [الشعراء:193 - 194] فهو منذر، وهو بشير أيضاً، كما قال سبحانه: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [فاطر:24]، والنذارة والبشارة إخبار، ولكن البشارة إخبار بما يسر، وقد يكون فيها ما يسوء، ولكن الغالب أنها إخبار بما يسر. والنذارة: الإخبار بما يخيف، وهو التوعد والوعيد، فهنا جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالاثنين: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24]، فأرسلناك بهذا الحق الذي نزل من السماء بشيراً لمن آمن أن له الجنة، ونذيراً لمن كفر بالله أن عليه العذاب يوم القيامة. قوله: {لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ} [الشعراء:194] أي: تخوف وتتوعد هؤلاء المشركين الكفار الذين أبوا إلا العصيان تتوعدهم بالنار في الآخرة، وبالقتل في الدنيا، ولذلك لما كان أهل مكة يؤذنون النبي صلى الله عليه وسلم ويسخروا منه كان يقف لهم عند الكعبة صلوات الله وسلامه عليه ويقول: (ألا تسمعون: والله لقد جئتكم بالذبح)، فيقومون من أماكنهم خوفاً من النبي صلى الله عليه وسلم، فبعد أن استهانوا واستهزءوا به وهو يطوف بالبيت إذا بهم يلينون له، ومنه يخافون، ويقولون: (انصرف أبا القاسم فلست بالسفيه). فجاء صلى الله عليه وسلم ليبشر المؤمنين، وينذر العصاة والمشركين بهذا القرآن العظيم {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195]. وقوله: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:192] أي: هذا الكتاب من عند رب العالمين: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء:193] أي: جاء به جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم، فألقاه عليه فحفظه النبي صلى الله عليه وسلم، فأدخله الله قلبه عليه الصلاة والسلام.

القرآن نزل باللسان العربي

القرآن نزل باللسان العربي قال الله تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195] أي: أن هذا الإنذار بلسان عربي مبين؛ لأن لسان النبي صلى الله عليه وسلم لسان عربي، فالقرآن نزل بلسان العرب، فلو أن القرآن نزل بلسان أعجمي، أو جاء الرسول أعجمي والقرآن عربي لقالوا: {أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت:44]، فسوف يتحيرون في هذا الأمر، وينكرون كون الكلام عربياً ولسان رسولنا أعجمياً، أو العكس من ذلك، فالله سبحانه وتعالى أخبر أن الرسول عربي، وأن القرآن عربي: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195] والمنطوق به هنا هو أن هذا القرآن بلسان عربي مبين، وفيه إشارة إلى أن هناك كتباً أخرى لم تكن باللسان العربي، فالكتب التي كانت قبل ذلك كانت بألسنة قومها من سريانية وغيرها، لكن القرآن نزل باللسان العربي الذي ينطق به هؤلاء، ويعجزهم الله عز وجل به.

ذكر النبي الكريم والقرآن العظيم في الكتب السابقة

ذكر النبي الكريم والقرآن العظيم في الكتب السابقة قال الله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:196]، فالضمير في (إنه) قد يعود إلى القرآن الذي ذكر قبل ذلك، أو إلى النبي صلوات الله وسلامه عليه، وهذا حق وذاك حق. والزبر: جمع زبور، وهي الكتب، والمزبور بمعنى المكتوب، والزبْر الكتابة والتنقيش، فزبر الأولين: هي كتب الأولين السابقة كالتوراة والإنجيل، وقد أخبر الله عز وجل فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الكتاب الذي يأتي به. وقد عرف أهل الكتاب صفة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه عبد الله ورسوله، وأنه سماه المتوكل، وأنه ليس بفظ ولا غليظ، فقول الله عز وجل لرسوله في كتابه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:45 - 46] قد ورد مثله عند أهل التوراة، كما قال ابن سلام وكعب الأحبار: نجد ذلك عندنا في التوراة: (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، وحرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق. أرسلناك لنهدي بك قلوباً غلفاً، وأعيناً عمياً، وآذاناً صماً)، فهذا كله عند أهل التوراة، وقد أخبر بذلك من أسلم منهم بعد ذلك كـ عبد الله بن سلام وكعب الأحبار رضي الله عنهما. فهنا ربنا يخبرنا أن ذكر محمد صلى الله عليه وسلم موجود عند أهل التوراة وعند أهل الإنجيل: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:196]. كما أخبر الله عز وجل أنهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، فقال: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} [الأعراف:157]، فالرسول صلى الله عليه وسلم مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل، ولكن أهل التوراة والإنجيل يأتون بالتوراة والإنجيل ويقولون: لا يوجد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن التوراة والإنجيل لم تكن بلسان العرب، فقد نزلت باللغة القديمة التي كانت شائعة عندهم وهي اللغة السريانية، ثم ترجموها بعد ذلك وحرفوها فألغوا منها ما أرادوا، فألغوا ذكر محمد صلوات الله وسلامه عليه، ولذلك من يطلع على الكتب القديمة بلغتها يجد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيها. وقد أخبرني أحد إخواننا الدكاترة الذين كانوا يحضرون رسالة الدكتوراة في اللغات القديمة أنه ذهب إلى الفاتيكان لإتمام دراسة الدكتوراة، وهنالك اطلع على مخطوطة للتوراة، فوجد فيها ذكر النبي صلوات الله وسلامه عليه بلغتهم، ولكن المترجم منها إلى الإنجليزية أو العربية أو الإسبانية أو الفرنسية ليس فيها ذكر النبي صلى الله عليه وسلم. ونحن لا يعنينا أن نجد هذا في كتبهم أو لا نجده؛ لأننا نصدق كلام رب العالمين، فربنا يقول: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} [الأعراف:157]، فأخبرنا بأن النبي صلى الله عليه وسلم مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل، وأنه {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ} [الأعراف:157].

علماء بني إسرائيل يعرفون النبي الكريم

علماء بني إسرائيل يعرفون النبي الكريم يقول الله عز وجل: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:197] أي: أولم يكن الأمر آية لهؤلاء أن يعلمه علماء بني إسرائيل؟ وهنا: (أن يعلمه) مصدر مؤول، وهم اسم (يكن)، فيقول: أولم يكن علم علماء بني إسرائيل آية لهؤلاء؟ ولذلك فالجمهور على القراءة بالنصب في (آية): {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:197]. وقرأ ابن عامر: (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةٌ أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ) أي: هذه آية، وهي ما يعلمه علماء بني إسرائيل عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن هذا القرآن العظيم، وقد عرفوا ذلك، فأرسل أهل مكة إلى اليهود في المدينة يسألونهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: بعث أهل مكة إلى اليهود وهم بالمدينة يسألونهم عن محمد صلى الله عليه وسلم، فقال اليهود: هذا هو زمن النبي، وإنا لنجد في التوراة نعته وصفته. فعرفت يهود أن زمن النبي صلى الله عليه وسلم قد أظلهم، وكان اليهود مستذلين من الأوس والخزرج من أهل المدينة، وكانوا موالين للأوس أو للخزرج، وذلك حتى لا يكونوا وحدهم في المدينة، فإما أن يتولوا الأوس أو يتولوا الخزرج، بحيث إن هؤلاء يدافعون عنهم أو هؤلاء يدافعون عنهم، وكان إذا اشتد أهل الشرك بالمدينة من الأوس والخزرج أو غيرهم من كفار أهل المدينة، على اليهود فإنهم آنافهم ويذلونهم، فكان اليهود يقولون لهم: لقد أظلكم زمان يبعث فيه نبي، ونحن سنتبع هذا النبي ونقاتلكم معه، فمن كثرة ما قال ذلك اليهود في المدينة أصبح أهل المدينة ينتظرون ذلك النبي، وكلٌ منهم يريد السباق إليه صلوات الله وسلامه عليه، والعجب أن اليهود الذين كانوا يهددون الأوس والخزرج بهذا النبي لم يدخلوا في دينه صلى الله عليه وسلم، ولم يؤمن به إلا القليل منهم كـ عبد الله بن سلام، ثم بعد ذلك كعب الأحبار.

رهبان النصارى يدلون سلمان الفارسي على الدين الحق

رهبان النصارى يدلون سلمان الفارسي على الدين الحق وممن أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم وقد عرف اليهود والنصارى وعاش معهم طويلاً: سلمان الفارسي رضي الله عنه، فقد كان أبوه من المجوس، وكان صاحب نيرانهم، وكان ذا رتبة كبيرة فيهم، وكان يحب ابنه سلمان رضي الله عنه، ومن شدة خوفه عليه كان يحبسه في البيت، فشب رضي الله عنه وهو لا يعرف شيئاً عن الدنيا، وكل ما يعرفه هي النيران التي كان أبوه يصنعها ويوقدها لقومه، والمكان الذي هو فيه، وفي مرة من المرات أرسله أبوه لشيء، فخرج فمر على ناس يتعبدون، فسأل عن هؤلاء فقالوا: نصارى، فرجع إلى أبيه وأخبره عن هؤلاء، فقال له: إنهم على باطل، وأمره أن يدعهم ولا يأتيهم مرة أخرى، فذهب إليهم من وراء أبيه، فحبسه أبوه لما علم بذلك، ثم هرب من أبيه وذهب إلى راهب من رهبان النصارى وأعجبه توحيده، فقد كان على الحق قبل بعثة النبي صلوات الله وسلامه عليه، وكان من النصارى الموحدين، فلما أتاه مكث معه فترة، ولما جاءته الوفاة دله أن يذهب إلى فلان فيعبد الله معه، فتوجه سلمان إلى ذلك الراهب من النصارى الذين كانوا على التوحيد، وتعبد لله عز وجل معه إلى أن قربت وفاته، فقال له سلمان: إلى من أذهب؟ قال: اذهب إلى فلان فاعبد الله معه، وهكذا حتى مر على ثمانية عشر من النصارى أو نحو ذلك، فيمر عليهم واحداً واحداً، وكل واحد إذا جاءته الوفاة قال له: اذهب إلى فلان واعبد الله معه، وهكذا ظل رضي الله عنه يبحث عن الدين الحق، وهؤلاء النصارى كانوا على التوحيد قبل النبي صلى الله عليه وسلم على خلاف غيرهم ممن كانوا يثلثون، وفي النهاية عندما كان آخر راهب قال له: والله لا أعرف أحداً على وجه الأرض على ما نحن عليه من التوحيد، -وقد كانت الأرض مليئة بالنصارى، ولكنه يقصد من كانوا على التوحيد-، وقد أضلك زمن يبعث فيه نبي، ففرح سلمان رضي الله عنه، وقال: أين هذا النبي؟ قال: في المدينة. فأحب سلمان الفارسي أن يتوجه إلى المدينة، فانتظر إلى أن جاءت سفينة وفيها بعض العرب، وكان العرب في جاهليتهم أشراراً ليس عندهم وفاء ولا عهد إلا من رحم الله سبحانه وتعالى، فأخذوا منه أجرة من أجل يوصلوه إلى المدينة، وبعد أن ركب معهم صيروه عبداً عندهم، وهذا من نذالتهم وخيانتهم للوعود، ولذلك مقتهم الله عز وجل، وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (أن الله نظر إلى أهل الأرض عربهم وعجمهم فمقتهم جميعهم إلا بقايا من أهل الكتاب). أي: إن الله مقت العرب والعجم من أهل الأرض، وقعت كفار أهل الكتاب الذين ثلثوا وعبدوا غير الله سبحانه وتعالى، وزعموا أنهم يعرفون الله، قال الله سبحانه: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30]. وقد كان العرب في جاهليتهم شر خلق على وجه الأرض، فكان يأكل بعضهم بعضاً، ويغتصب بعضهم بعضاً، ويخون بعضهم بعضاً، وليس فيهم أمن ولا أمان، وتغير القبيلة على القبيلة الأخرى والثانية عليها، فمقت الله أهل الأرض جميعهم قبل مجيء نبينا صلى الله عليه وسلم إلا بقايا من أهل الكتاب، فذهب سلمان معهم إلى المدينة وباعوه لليهود وأخذوا ثمنه، وهو في كل ذلك صابر ينتظر النبي صلى الله عليه وسلم، وقد عرف من هؤلاء الرهبان صفة النبي صلى الله عليه وسلم. إذاً فـ سلمان كان من المجوس ولم يكن من النصارى، ثم تنصر بعد ذلك مع هؤلاء الذين كانوا على التوحيد، وانتظر النبي صلى الله عليه وسلم فمكث في المدينة ولم يشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم بدراً؛ لأنه كان ما زال عبداً رضي الله تبارك وتعالى عنه. ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة إذا بـ سلمان يتشوق إليه، فسمع اليهودي مع قريبه يقول: لقد جاء محمد، فسمع ذلك وهو فوق النخلة، فكاد يسقط منها لما سمع ذكر النبي صلى الله عليه وسلم؛ من شدة فرحه، وذهب يسأل اليهودي عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا باليهودي يلطمه ويقول: مالك وله، اذهب إلى عملك. فرجع إلى عمله رضي الله عنه، وذهب ذات مرة إليه عليه الصلاة والسلام وقد ادخر من طعامه شيئاً، فأعطاه إياه وقال مختبراً له: هذه صدقة، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم وأعطاها لأصحابه، فأكلها أصحابه ولم يأكل منها، فتبين لـ سلمان أنه نبي؛ لأن النبي لا يأكل الصدقة، وقد عرف من أهل الكتاب أن النبي يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، فجاءه مرة أخرى بتمر وقال: هذه هدية، فقبله النبي صلى الله عليه وسلم وأكله، ثم جاء سلمان يدور حول النبي صلى الله عليه وسلم، فانتبه النبي صلى الله عليه وسلم للذي يريده سلمان، وأنه يريد أن يرى خاتم النبوة كالبيضة على كتف النبي صلى الله عليه وسلم، فألقى النبي صلى الله عليه وسلم ما عليه من رداء، فنظر إلى خاتم النبوة، وعرف النبي صلى الله عليه وسلم وصدق وآمن رضي الله تعالى عنه. فهذا واحد ممن كان من أهل الكتاب، وقد عرف النبي صلى الله عليه وسلم بعلامته.

إسلام عبد الله بن سلام

إسلام عبد الله بن سلام لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يذهب إلى أهل الكتاب وإلى مكان تلاوتهم للتوراة في مدراسهم، ويجلس معهم وهم يكرهون منه ذلك؛ لأنه لم يأت من أجل أن يجاملهم صلى الله عليه وسلم أو يصلي معهم، بل جاء من أجل أن يدعوهم إلى الله، لذلك كانوا يكرهون أن يأتي إليهم صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ما جاء إلا ليأمرهم أن يدخلوا في هذا الدين العظيم، فيقول لهم: ألا تجدون صفتي عندكم في التوراة؟ فيقولون: لا نجدها، فيظل يستحلفهم صلى الله عليه وسلم حتى يخرج إليه عبد الله بن سلام رضي الله عنه ويقول: والله إنك لرسول رب العالمين، وإنهم ليعرفون ذلك، فيخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم ويسلم، ويكون ممن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم في رؤيا رآها أحد الصحابة أو رآها هو أنه أمسك بعروة، فشهد له النبي صلى الله عليه وسلم أنه يتمسك بالإسلام حتى يتوفاه الله سبحانه وتعالى. وكأنه كان مع بعض اليهود لما قال ذلك، وكأن الكثيرين لم يكونوا يعرفون أنه أسلم، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: اكتم إسلامي عن هؤلاء حتى يأتوا وسلهم عني، فسألهم عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه، فكان جوابهم: أنه سيدنا وابن سيدنا، وأنه حبرنا وابن حبرنا، ومدحوه وأباه مدحاً عظيماً. فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (أرأيتم لو أسلم؟ قالوا: معاذ الله)، أي: حاشا لله لا يمكن أن يسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أرأيتم إن أسلم؟ فكرروا)، فخرج ابن سلام يأمرهم أن يتابعوا النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم يعرفون أنه على الحق، فقالوا: (شرنا وابن شرنا)، ورجعوا عن كلامهم الذي قالوا.

حيل اليهود في إخفاء الحق الذي يعرفونه

حيل اليهود في إخفاء الحق الذي يعرفونه إن الله عز وجل يخبرنا هنا بقوله: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:197] أي: دعك من هؤلاء الجهلة الذين لا يقرءون ولا يكتبون، ولذلك لما أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم مرة في مدراسهم وهم جالسون في كنيستهم سألهم عن الرجم -وقد أتوه برجل وامرأة قد زنيا-: (أما تجدون الرجم عندكم؟ قالوا: لا)، فأما أهل العلم منهم فيعرفون، وأما الأغلبية منهم فجهلة لا يقرءون؛ لأن كتابهم بلغة غير لغتهم، وهم لا يقرءون لا بلغتهم ولا بلغة غيرهم، وإنما يعتمدون على من يقرأ في التوراة، وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أن حكم الرجم مما لم يحرفوه في التوراة، فإنهم قد حرفوا أشياء لكن حكم الرجم هذا لم يحرفوه، قال تعالى: {فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:93] أي: هاتوا التوراة واتلوها إن كنتم صادقين، فأتوا بالتوراة، وإذا بالقارئ يضع يده على الآية التي فيها الرجم ويقرأ ما قبلها وما بعدها؛ حتى لا يراها النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا برجل ممن معه يقول: ارفع يدك واقرأ الذي تحت يدك، فرفع يده فقرأها، فبهت القوم لما سمعوا ذلك. وهذا من إفكهم وكذبهم على الله سبحانه، فقارئهم يضع يده على آية في كتاب الله وهو من كبرائهم، فإذا كان قارئ التوراة يفعل ذلك فكيف بباقي هؤلاء أولاد القردة والخنازير لعنة الله عليهم؟! فالله عز وجل يخبرنا أن علماءهم يعرفون ذلك تماماً فيقول: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:197] أي: أن يعلموا أن هذا القرآن كلام رب العالمين، وأن هذا النبي صلى الله عليه وسلم مرسل من عند الله. قال سبحانه: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ} [الشعراء:198] أي: هذا الوحي وهذا القرآن العظيم، {عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ} [الشعراء:198] كما يدعون، فقد كانوا يدعون أن غلاماً أعجمياً هو الذي يعلم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يقولون: إن رجلاً اسمه رحمن موجود في اليمامة هو الذي يعلم النبي صلى الله عليه وسلم، وهم يعرفون أنهم كذابون في ذلك، وأن ما ادعوه غير موجود، فيقول الله سبحانه -يخاطب عقولهم لو كانوا يفهمون-: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:198 - 199] أي: إذا كان بالغة العربية فلا يريدون أن يؤمنوا، أو باللغة الأعجمية فسيقولون: نحن لا نفهم ماذا يقول، فلا يؤمنون به.

طبع الله على قلوب المجرمين فلا يؤمنون حتى يروا العذاب

طبع الله على قلوب المجرمين فلا يؤمنون حتى يروا العذاب قال الله عز وجل: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} [الشعراء:200] أي: كأمثال هؤلاء المجرمين سلكنا في قلوبهم الكفر والتكذيب والجدل بالباطل، كما تقول: سلكت الخيط في الخرز، أي: أدخلته بداخلها، فأنت عندما تخرز السبحة والعقد فإنك تدخل الخيط في الثقوب الموجودة فيها، وكأن هذا الكفر انسلك بداخل قلوب هؤلاء، فلا يخرج من قلوبهم. قال الله تعالى: {لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [الشعراء:201] أي: لا يؤمنون ولا يصدقون إلا أن يروا عذاباً كعذاب الأمم السابقة، وفي هذه الحالة يندمون حين لا ينفع الندم، ويطلبون الاستدراك في وقت العدم، فلا ينفعهم شيء إذا آمنوا حين يأتيهم العذاب. قال سبحانه: {فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [الشعراء:202] أي: فإذا جاءهم العذاب فإنه يأتيهم فجأة فينزل عليهم وهم لا يشعرون، فإذا جاء العذاب يقولون: {هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ} [الشعراء:203] أي: يطلبون النظرة، وطالما أنهم يطلبون الانتظار فلماذا لم يسلموا ويتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم؟!

استعجال الكافرين للعذاب

استعجال الكافرين للعذاب يقول الله تعالى: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} [الشعراء:204] أي: إنهم يطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم العذاب، وليس عذاب البشر إنما هو عذاب رب العالمين سبحانه، فقد كانوا جهلة، ومن جهلهم: أنهم يقولون: {رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص:16] أي: يا الله! نريد العذاب الآن قبل يوم القيامة، وهذا دليل على جهل هؤلاء، فالعاقل لا يطلب من ربه هذا الشيء، وقد أعمى الله أبصارهم بل بصائرهم فلم يفقهوا ولم يفهموا حتى ما يقولون، فالدعاء الذين يدعونه لم يفهموه، ولعلنا سمعنا أن دعاءهم في يوم بدر هو: اللهم أهلك أقطعنا للرحم، أي: الذي يقطع الرحم، يقصدون النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23] أي: أنا أريد أن أصل الرحم الذي بيني وبينكم، وهم يقولون: هو أقطعنا للرحم، صلوات الله وسلامه عليه. ومن دعائهم كذلك قولهم -كما حكى الله عنهم-: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32]، فيدعون بدعاء لا يقوله إلا إنسان غافل غبي لا يفهم ما يقول، فبدلاً من أن يقولوا: أرشدنا إلى الحق واهدنا إليه، يقولون: إذا كان هذا حق فأنزل علينا عذاباً من عندك. قال الله سبحانه عن هؤلاء: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ} [الشعراء:204 - 206] أي: لو تركناهم يتمتعون ويأكلون ويشربون ويلبسون ويتزوجون سنين طويلة، وفي النهاية جاءهم الموت: {ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ} [الشعراء:206]، فهل أغنى عنهم هذا المتاع الذي تمتعوه؟ وهل أغنى عنهم طعامهم وشرابهم وقصورهم وبيوتهم؟ فلو كانت تغني لأغنت عن السابقين، ولكن: {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:207].

الهلاك يكون بعد الإنذار

الهلاك يكون بعد الإنذار {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ} [الشعراء:208] أي: إننا أنذرنا السابقين فلما لم يستجيبوا جاءهم العذاب، وكذلك ننذر هؤلاء، وهذه ذكرى من الله رب العالمين: {وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الشعراء:209]، وقد أعذر من أنذر، وما قصر من بصر، فقد أنذرهم الله وأعطى لهم الإعذار، فأرسل إليهم رسوله صلوات الله وسلامه عليه. فإن يؤمنوا فهو خيرٌ لهم، وإن يكفروا فإن لله ما في السموات وما في الأرض. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الشعراء [198 - 227]

تفسير سورة الشعراء [198 - 227] ذكر الله تعالى في آخر سورة الشعراء أن الكفار لا يؤمنون بهذا القرآن العظيم، ولا بما فيه من الوعد والوعيد، وذكر الله تعالى أن هذا القرآن الكريم تنزيل من رب العالمين وليس من تنزيل الشياطين، فإن الله قد منعهم من استراق السمع عند نزول القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، وذكر أن الشياطين تتنزل على أوليائهم من الكهان والشعراء الذين هم في كل واحد يهيمون، وأمر الله تعالى في هذه الآيات نبيه صلى الله عليه وسلم أن ينذر عشيرته الأقربين، وأن يخفض جناحه لأتباعه المؤمنين.

تفسير قوله تعالى: (ولو نزلناه على بعض الأعجمين ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون)

تفسير قوله تعالى: (ولو نزلناه على بعض الأعجمين ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في آخر سورة الشعراء: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ * كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ * فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ * أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ * وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ * ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ * وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} [الشعراء:198 - 211]. في هذه الآيات من آخر هذه السورة يخبرنا ربنا سبحانه عن هذا القرآن العظيم أنه {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195]، ولو أن الله سبحانه نزل هذا القرآن على رجل أعجمي لكذب العرب، ولقالوا: {أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت:44] أي: أقرآن عربي على لسان إنسان أعجمي؟!! قال تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت:44]، فهم معترضون على كلام رب العالمين في جعل قرآن أعجمياً ينزل على رجل عربي، فالله سبحانه جعل القرآن العظيم بلغة العرب، قال تعالى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [يوسف:2]، وقال تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195]. وقال سبحانه هنا: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ * كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} [الشعراء:198 - 200]. يعني: كذلك التكذيب أو الكفر بالقرآن العظيم الذي وقع فيه هؤلاء المشركون سلكناه في قلوب المجرمين.

معنى قوله تعالى: (لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم)

معنى قوله تعالى: (لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم) قال تعالى: {لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [الشعراء:201] أي: لا يؤمنون إلا مجبرون حين يرون العذاب أمامهم، ولا ينفعهم إيمانهم في ذلك الحين. قال تعالى: {فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [الشعراء:202]، فإذا جاءهم العذاب من عند رب العالمين فإنه يأتيهم بغتة وهم لا يشعرون. قال تعالى: {فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ} [الشعراء:203] أي: يطلبون الانتظار من الله قليلاً حتى يؤمنوا ويدخلوا في هذا الدين؟ وكذلك سلك الله عز وجل التكذيب في قلوب هؤلاء كما كان من قبل في قلوب سابقيهم فلم يؤمنوا، كقوم نوح وعاد وثمود ولوط وأصحاب الأيكة وقوم إبراهيم حتى رأوا أمامهم عذاب رب العالمين سبحانه، فإذا جاء العذاب بغتة فلا ينفعهم إيمانهم إن أرادوا أن يدخلوا في هذا الدين؛ لأن الإيمان ينفع من آمن بالغيب، وصدق به من غير أن يرى ملائكة الله وعذاب الله سبحانه. قال تعالى: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} [الشعراء:204] أي: أفبعذاب رب العالمين يستعجلون؟! وهل عرفوا مدى عذاب رب العالمين؟! وهل عرفوا قوة الله سبحانه تبارك وتعالى وبطشه وأخذه للظالمين؟! قال سبحانه: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91]، فلو عرفوا قدر الله سبحانه وقوته وجبروته وملكوته لاستجابوا، ولما استعجلوا العذاب، ولما قالوا: {رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص:16]. قال سبحانه: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ} [الشعراء:205]، يقول الله للنبي صلى الله عليه وسلم: أخبرني عن هذا الأمر، فلو أننا متعناهم سنين، {ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ} [الشعراء:206] وفي النهاية يأتيهم أجلهم وهو موتهم، {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:207]، وهذه عبرة لهؤلاء وعبرة لكل إنسان، فالإنسان الذي يطلب المتعة في الدنيا ولا يفرق أهي من حلال أو من حرام، فربنا يقول لهذا الذي يطلب من نعيم الدنيا: لو متعناه سنين فسيأتيه موته في النهاية، فإذا لم يأت الموت هذه السنة، فسيأتي في السنة القادمة، وإذا لم يأت اليوم فسيأتي غداً، فإذا جاء الموت هل يغني عنك هذا الذي تمتعت به، وهذا الذي كسبته من حرام وأكلته؟! فالإنسان يتفكر ويعتبر بمصير هؤلاء السابقين، واحذر الحرام واحذر التسويف، فمهما سوفت ففي النهاية سيأتي الموت. وقد يأتي الموت للإنسان وهو على غير توبة، فيرجع إلى ربه فيحاسبه حساباً شديداً، فليتب الإنسان من الآن إلى الله عز وجل، وليحذر الانكباب على الدنيا، وليحذر طلب الدنيا المحرمة؛ حيث إنها تغطي عليه، وتعمي عينيه، وفي النهاية يأتي الموت كما جاء للسابقين عليه.

معنى قوله تعالى (ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون)

معنى قوله تعالى (ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون) ومعنى قوله تعالى: {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:207] أي: لم يغن عنهم لا القصور ولا الحصون ولا الأتباع، ولا يغني عنهم شيء أمام عذاب رب العالمين سبحانه. وقوله تعالى: (أفرأيت) هذه قراءة الجمهور، وقراءة نافع وأبي جعفر بتسهيل الهمزة بين الهمزة والياء. ويقرأها ورش بالمد فيقول: (أفرآيت إن متعناهم سنين). ويقرأها الكسائي: (أفريت إن متعناهم سنين) فهذه أربعة قراءات لهذه الكلمة.

تفسير قوله تعالى: (وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون)

تفسير قوله تعالى: (وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون) يقول سبحانه: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ} [الشعراء:208] يعني: ما من قرية أهلكناها إلا وقد أزلنا أعذارهم: بأن أرسلنا إليها رسلاً، وبأن أنذرناهم وحذرناهم، فأصروا على طغيانهم، وبعدهم عن ربهم، فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر.

معنى القرية وأصل هذه الكلمة

معنى القرية وأصل هذه الكلمة والقرية: هي المدينة، وأصلها من القري: وهو الاجتماع؛ لأن الناس يجتمعون فيها جموعاً كثيرة، فسميت (قرية) لذلك، فالقرية تطلق على المدينة وهي البلدة العظيمة، ورسل الله دائماً يكونون من أهل القرى، ولا يكونون من الريف ولا من البدو، قال الله سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف:109]، فالرسل دائماً من القرى، وليسوا من الأرياف ولا من البدو، والسبب في كونهم من القرى أن أهل القرى -يعني: المدن- أرق طباعاً، لأن كثرة الناس تؤدي إلى احتكاك إنسان بإنسان آخر فيتولد عندهم أخلاقيات وذوقيات معينة، وأما أهل البدو فقليل، وكل إنسان يكون في حاله، فالبداوة تعطيهم جفاء وغلظة. فالأنبياء لم تكن طبيعتهم الجفاء ولا الغلظة، فهم من أهل القرى الذين يختلطون بالناس ويعيشون مع الناس، فيألفون ويُألفون؛ فالله عز وجل يمرنهم ثم بعد ذلك يرسلهم إلى قومهم حتى يدعوهم إلى رب العالمين سبحانه. وقوله تعالى: {إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ} [الشعراء:208] أرسلنا فيهم رسولاً ينذرهم ويخوفهم، فربنا قد أعذر للقوم وأزال عذرهم، وليس لهم عند الله عذر ولا حجة، قال تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165].

تفسير قوله تعالى: (ذكرى وما كنا ظالمين)

تفسير قوله تعالى: (ذكرى وما كنا ظالمين) يقول سبحانه: {ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الشعراء:209]. يعني: إرسالنا وإخبارنا ذكرى للأقوام وتذكرة لكم، وذكرى هنا في موضع نصب، أي: ذكرناكم ذكرى. وقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الشعراء:209] كقوله تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49] أي: فيستحيل أن يظلم الله سبحانه.

تعريف الظلم

تعريف الظلم والظلم: هو وضع الشيء في غير موضعه، وهو: أخْذ حق الغير، وكيف يظلم الله سبحانه وكل شيء ملك له سبحانه؟ فالله الخالق وكل ما سواه مخلوق، فكل شيء عبد له سبحانه، ويملكه وما ملك. إذاً: فالإنسان مخلوق لرب العالمين، والله عز وجل يصرف الأمور بحكمته وبقدرته وبعلمه سبحانه وربحمته، فعلى ذلك كيف يظلم؟ قال تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46].

تفسير قوله تعالى: (وما تنزلت به الشياطين)

تفسير قوله تعالى: (وما تنزلت به الشياطين) قال الله تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} [الشعراء:210]. فهؤلاء الكفار الذين يتهمون النبي صلى الله عليه وسلم أن له رئياً من الجن، أي: له صاحب، مثلما كان يقال للشعراء وأن كل شاعر له جني يلقنه ما يقوله من شعر، فقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم له جني يأتيه، وقالوا له صلى الله عليه وسلم: إذا كنت قد جئتنا بهذا الشيء تريد أن تكون ملكاً ملكناك علينا، يعني: اترك الذي أتيت به، وكن ملكاً ويكفي. وإذا كان بك طب جمعنا لك الأطباء وجمعنا أموالنا وعالجناك، أي: إن كان ما بك رئي من الجن ذهبنا بك فطببناك. وإذا كنت تحتاج مال جمعنا أموالنا وأعطيناك، فقال عليه الصلاة والسلام: كل هذا لا أريده؛ لأنه رسول رب العالمين سبحانه. وقوله تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} [الشعراء:210] كما يزعم هؤلاء البشر أن شيطانه يأتيه بهذا القرآن.

تفسير قوله تعالى: (وما ينبغي لهم وما يستطيعون)

تفسير قوله تعالى: (وما ينبغي لهم وما يستطيعون) يقول سبحانه: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} [الشعراء:211] أي: يستحيل أن الشيطان يتكلم بهذا القرآن العظيم؛ فالقرآن يحرق الشياطين، فكيف يتكلم الشيطان بهذا القرآن؟! ولو كان لهم أن يتكلمون به فإنهم لا يقدرون أبداً أن يتكلموا به.

تفسير قوله تعالى: (إنهم عن السمع لمعزولون)

تفسير قوله تعالى: (إنهم عن السمع لمعزولون) قال الله تعالى: {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء:212]، لقد عزل الله الشياطين عن استراق السمع من السماء، وكانت الشياطين يرتقي بعضهم فوق بعض إلى السماء حتى يسترقوا السمع، وهذا ابتلاء من الله عز وجل، فإذا أراد الله شيئاً سبب أسبابه وقدر مقاديره، فشاء أن ينزل الخبر من السماء إلى أهل الأرض. وكان الكهان في الجاهلية كثيرون، وهذه فتنة يفتن الله عز وجل بها خلقه، وكانوا يصادقون ويصاحبون الجان، فكل كاهن له من الجن من يأتيه بخبر من الأخبار، والجان والشياطين يرقى بعضهم بعضاً إلى السماء، وأشار النبي صلى الله عليه وسلم بالكفين واحدة فوق الأخرى، أي: بعضهم فوق بعض، فكل جان يركب على الآخر حتى يصعدوا إلى السماء، ثم يسترقوا السمع، والله عز وجل يشاء أن الملائكة تتكلم بخبر السماء، فملك من الملائكة يكلم ملكاً آخر بأنه سيحدث كذا، وأمرنا بكذا، فهذه الكلمة يسمعها هذا الشيطان أو الجني الذي في السماء، ويلقيها إلى من تحته، وهكذا إلى أن تصل إلى الكاهن. فإذا شاء الله ألا تنزل هذه الكلمة إلى الأرض أرسل عليهم شهاباً يحرق جميعهم، أو يحرق من سمع ذلك، فلا ينزل هذا الخبر إلى الأرض، وإذا شاء أن يفتن عباده فينزل خبر السماء إلى الأرض تركهم، فينزل الخبر، وقد يحرق هذا الشيطان الذي سمعه وغيره لا يحرقه، وينزل الخبر إلى الأرض، فيأتي الجني إلى صاحبه الكاهن فيقر في أذنه هذا الشيء كما تقر الدجاجة، أي: مثلما تقرقر الدجاجة، ويزيد مع الخبر مائة كذبة، ويأتي هذا الكاهن يخبر الناس أنه سوف يحصل كذا، فيحصل هذا الشيء الذي أخبر به الكاهن ويفتتن الناس، فإذا بالناس يصدقون الكهان ويعتقدون فيهم. ولو أن أخبار الكهان كلها كاذبة فسيقول الرسول صلى الله عليه وسلم أن أخبار الكهان كاذبة، فكانوا سيقولون له: نحن نعلم هذا، ولا نصدقهم لأنهم كاذبون، ولكن لا بد وأن يكون من أخبار الكهان ما فيه صدق، وبعد ذلك يأتي التشريع بعدم تصديق الكهان لا في صدق ولا في كذب، فيبتلي الله عز وجل العباد هل يصدقون الله سبحانه ويستجيبون لما يقول، أو يكذبون ويستجيبون للكهان وللشياطين؟ فهذه فتنة أراد الله سبحانه أن يختبر عباده بها، فالشياطين يقول الله سبحانه فيهم: {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء:212]، فهم يكذبون عليكم، فإنهم قد يسمعون خبراً واحداً فيزيدون فيه كذبات كثيرة. ومعنى قوله تعالى: {لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء:212] أي: عن أخبار السماء، فقد عزلهم الله ومنعهم من ذلك إلا بشيء يريد فتنة الخلق به.

تفسير قوله تعالى: (فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين)

تفسير قوله تعالى: (فلا تدع مع الله إلهاً آخر فتكون من المعذبين) قال سبحانه: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} [الشعراء:213]، وحاشا له صلى الله عليه وسلم أن يدعو غير الله سبحانه، وهذا من باب: إياكِ أعني واسمعي يا جارة، ويقال للنبي صلى الله عليه وسلم الذي هو خليل رب العالمين، وأقرب الخلق إلى ربه سبحانه: إياك أن تعبد غير الله، قال تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66]، وإذا قيل هذا للنبي صلى الله عليه وسلم فغيره من باب أولى، وكل إنسان يخاف على نفسه، وربنا يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم هذا الخطاب وهو عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، فيخاطبه ربه بأن يحذر من الشرك، فغيره أولى بهذا الخطاب فمن أشرك فهو من الخاسرين، فلذلك يتقي الإنسان ربه ويخاف من الوقوع في الشرك بهذا التحذير وأمثاله. فمن دعا مع الله إلهاً آخر، فالنتيجة أن يكون من المعذبين.

تفسير قوله تعالى: (وأنذر عشيرتك الأقربين)

تفسير قوله تعالى: (وأنذر عشيرتك الأقربين) قال الله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214]، أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم بالإنذار، وأول من ينذر هم أهله القريبون منه، وبعد ذلك يتوسع إلى غيرهم.

إنذار النبي لقومه من عذاب الله

إنذار النبي لقومه من عذاب الله لما نزلت هذه الآية قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً على قومه يدعوهم وينذرهم، وفي الحديث الصحيح عند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لما نزلت هذه الآية {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً فاجتمعوا، فعم وخص) وقريش هي قبيلة النبي صلى الله عليه وسلم، فناداهم ودعاهم النبي صلى الله عليه وسلم، فأنذر الجميع وخصص البعض منهم، فقال: (يا بني كعب بن لؤي! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم! أنقذوا أنفسكم من النار! يا بني عبد المطلب! أنقذوا أنفسكم من النار! يا فاطمة أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئاً، غير أن لكم رحماً سأبلها ببلالها) يعني: في الدنيا، فسأصل هذه الرحم، فتكون هناك نداوة بيني وبينكم، ولا يوجد بُعد ولا جفاء بيني وبينكم، وأما في الآخرة فلا أملك لكم من الله شيئاً. فالداعية أولى من يعظهم هم الأقربون منه، فيعظ نفسه وأهله وهم: زوجه وأولاده وأبيه وأمه ثم جيرانه ثم أصدقائه، فالأقربون أولى بالمعروف، فيبدأ بهؤلاء كما أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن ينذر عشيرته الأقربين.

تفسير قوله تعالى: (واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين)

تفسير قوله تعالى: (واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين) قال الله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:215]، حتى يستجيب الناس لمن يدعوهم إلى الله عز وجل لا بد من أن يتواضع الداعي إلى الله سبحانه، قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125]، فالدعوة بالحكمة أن تكون مع الناس في غاية الهدوء، فادعهم إلى الله ولا تنفرهم، قال تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]. والموعظة نوعان: موعظة شديدة وموعظة حسنة، فادع الناس الموعظة الحسنة؛ لعلهم يستجيبون، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس).

تفسير قوله تعالى: (فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون)

تفسير قوله تعالى: (فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون) قال الله تعالى: {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [الشعراء:216]، فإذا رفضوا أن يستجيبوا لك فتبرأ من أعمالهم كالشرك بالله سبحانه، أو ترك التوحيد وعصيان الله سبحانه. ومعنى قوله تعالى: {بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [الشعراء:216] أي: متبرئ من أعمالكم.

تفسير قوله تعالى: (وتوكل على العزيز الرحيم)

تفسير قوله تعالى: (وتوكل على العزيز الرحيم) قال الله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} [الشعراء:217]، هذان الاسمان تكررا في هذه السورة كثيراً وهما: العزيز الرحيم، مع أن الغالب أن الرحيم يأتي مع الغفور، والعزيز يأتي مع الحكيم، قال الله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:158]، وقال تعالى: {عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:11]، وقال تعالى: {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:6]، وأما في هذه السورة فقال: {الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} [الشعراء:217]؛ لأن في هذه الآيات يخبر الله عز وجل عن الفريقين المؤمنين والكفار، فالكفار يأخذهم ويرينا فيهم عزته وقدرته سبحانه، فأرانا كيف صنع بقوم نوح ومن بعدهم، وأما المؤمنون فيرحمهم سبحانه. أخذ بها الكفار وأدخلهم النار، ورحمته كانت في المؤمنين، فقد رحمهم وأدخلهم جنته ونصرهم في الدنيا، ويوم القيامة يجعلهم من أهل رحمته، فهو العزيز الرحيم. فكما خذل الكفار من قبل وهزمهم فكذلك هؤلاء الكفار فإنه سيخذلهم ويهزمهم سبحانه، وكما رحم المؤمنين السابقين فكذلك سيرحم هؤلاء المؤمنين اللاحقين. ويأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخفض جناحه لمن اتبعه من المؤمنين، وخفض الجناح هو اللين، وهو نفس المعنى الذي يقوله الله عز وجل للإنسان تجاه أبيه وأمه: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء:24]، والجناح هنا بمعنى الجانب، وكأن الإنسان فيه جانب شدة وجانب لين، فيقول: اخفض جانبك اللين للوالدين وللمؤمنين وتواضع لهم، فإذا عصوك فقد قال تعالى: {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} [الشعراء:216 - 217].

القراءات في قوله تعالى (وتوكل)

القراءات في قوله تعالى (وتوكل) وقوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ} [الشعراء:217] فيها قراءتان: قراءة الجمهور: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} [الشعراء:217]. وقراءة نافع وأبي جعفر وابن عامر: (فتوكل على العزيز الرحيم).

معنى حسبي الله ونعم الوكيل

معنى حسبي الله ونعم الوكيل والتوكل أن تكل أمرك إلى الله خالقك ومدبر أمرك، ثقة به سبحانه، وتقول: حسبي الله ونعم الوكيل، ومعنى حسبي الله أي: الله كافيني، وهو نعم الوكيل، أي: نعم من أَكِل إليه عملي. والإنسان في الدنيا قد يوكل إنساناً يقوم له بشيء لا يقدر عليه، فيقول له: يا فلان! اعمل لي كذا، فيقول: أنا لا أستطيع أن أعمله، وفلان يستطيع أن يعمل لك هذا الأمر، فهذا في الدنيا، فوكيل الإنسان ونائبه يقوم مقامه، ويكون أميناً على أعماله. فالوكالة مبناها على النيابة والأمانة، أي: أمينك ونائبك في العمل، فتوكله أن يقوم بالعمل مكانك، فهو وكيلك ونائب عنك في بعض الأمور دون بعض، وأما الله عز وجل فهو وكيلك في جميع أمورك، فتتوكل عليه سبحانه، وتثق به، وترجع الأمر كله إليه؛ ثقة أنه يدبر الأمر كله، وأنت إذا عجزت عن الشيء ولم تقدر عليه فقل: حسبي الله ونعم الوكيل، أي: الله كافيني، ويدبر لي أمري كله، وينجيني وينصرني وهو معي، فالله يدبر أمرك وينصرك، ويقف معك، فهو وكيلك سبحانه، فتكل أمرك كله إلى الله، وهذا معنى قولك: لا حول ولا قوة إلا بالله، أي: لا حيلة لا تحول ولا قوة لأحد على شيء إلا بمعونة ربه سبحانه، فهو مدبر الكون كله سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (الذي يراك حين تقوم)

تفسير قوله تعالى: (الذي يراك حين تقوم) قال الله تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} [الشعراء:218]، فلا تغيب عنه، فهو يرعاك ويحرسك ويكلؤك سبحانه، ويراك في كل أحوالك: حين تقوم لله عز وجل مصلياً بالليل أو بالنهار، وحين تقوم داعياً إلى الله، قال تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:19]، ولما تدعو الإنس فيكيدون لك فإن ربك سبحانه يكيد بهم لك، فلا يقدرون على شيء، فالله وكيلك وهو يحرسك، وقد قال لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]، فقد عصمه سبحانه من الناس فما استطاعوا أن يفعلوا به شيئاً إلا أن يحرشوا أو يؤذوا، والله يرد كيدهم في نحورهم.

بعض المواقف التي تبين عصمة الله تعالى لنبيه

بعض المواقف التي تبين عصمة الله تعالى لنبيه عندما كان صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة كان المشركون جلوساً يستهزئون به، وكلما طاف ومر عليهم شتموه مرة بعد أخرى، وفي النهاية وقف لهم وقال: (ألا تسمعون؟! والله! لقد جئتكم بالذبح)، فلما سمعوا أرعبهم الله سبحانه وأخافهم، فقالوا: انصرف أبا القاسم! فوالله ما علمناك جهولاً. ويأتي رجل من خارج قبيلة قريش إلى قبيلة قريش يستجير بهم على أبي جهل، فإنه قد أخذ ماله ولم يعطه إياه، وينادي في الناس: من ينصرني على أبي جهل؟! فرأوها فرصة ليضحكوا ويستهزئوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فأخبروه أن يذهب إلى محمد ليأتيه بماله، وذهبوا وراء الرجل لكي يضحكوا ويقضوا ليلهم بالضحك على النبي صلى الله عليه وسلم، فطرق الرجل باب النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: ظلمني أبو جهل وأخذ مالي، فالنبي صلى الله عليه وسلم خرج معه وذهب إلى دار أبي جهل وطرق الباب، فخرج أبو جهل ونظر للنبي صلى الله عليه وسلم، وما يكون منه صلى الله عليه وسلم إلا أن يقول: ادفع للرجل ماله، والناس وراءه منتظرين أن يضحكوا ويقهقهوا على النبي صلى الله عليه وسلم ماذا سيحصل؟! وإذا بالأمر ينعكس، وإذا بـ أبي جهل يرعب ويصفر وجهه ويتقهقر ويقول: نعم يا أبا القاسم! فيدخل إلى البيت ويأتي بالمال ويدفعه للرجل، فينقلب الأمر ويضحك الناس على أبي جهل، وبعد ذلك سألوه عن ذلك، فقال: والله! لقد رأيت وراءه فحلاً من الإبل، ولو لم أستجب له لقضمني. وهذا مصداق لقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]. فالنبي صلى الله عليه وسلم يبلغ الناس ويتوكل على العزيز الرحيم، فالله هو الغالب القوي على هؤلاء الكفار، فلن يضيعك، فاعمل لله عز وجل والله معك، وهو يعصمك من الناس، فإنه يراك في كل أحوالك.

تفسير قوله تعالى: (وتقلبك في الساجدين)

تفسير قوله تعالى: (وتقلبك في الساجدين) قال الله تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:219] أي: فالله يراك قائماً وراكعاً وساجداً وفي كل أحوالك.

تفسير قوله تعالى: (إنه هو السميع العليم)

تفسير قوله تعالى: (إنه هو السميع العليم) قال الله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الشعراء:220]، فالله هو العزيز الغالب سبحانه، والله هو الرحيم، فيرحمك ويرحم المؤمنين، والله سميع بما يقول هؤلاء لك، وما تقوله أنت لهم. والله عليم يعلم أحوال الجميع، ويفعل بهم ما يشاء سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (هل أنبئكم على من تنزل الشياطين)

تفسير قوله تعالى: (هل أنبئكم على من تنزل الشياطين) قال سبحانه: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} [الشعراء:221]. والنزول يكون من الأعلى إلى الأسفل، فكأن الشياطين تقدر على المشي وعلى الطيران أيضاً، وتنزل من أعلى إلى أسفل، فهي تطير وتصل إلى المكان الذي يشاء الله عز وجل، وتنزل على صاحبها.

تفسير قوله تعالى: (تنزل على كل أفاك أثيم)

تفسير قوله تعالى: (تنزل على كل أفاك أثيم) قال الله سبحانه: {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء:222]، والرسول صلى الله عليه وسلم يتنزل عليه الوحي من السماء مع ملك كريم، {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:20 - 21]، وأما هؤلاء فتتنزل عليهم الشياطين وتوسوس لهم وتكلمهم بكلام باطل وبأكاذيب. والإفك هو الحديث الكذب، ورجل أفاك: كثير الكذب شنيعه، فهو الذي يكذب أكاذيب مفضوحة وشنيعة وكبيرة، فالشياطين تنزل على كل إنسان كذاب، و (أَثِيمٍ): هو كثير الإثم.

تفسير قوله تعالى: (يلقون السمع وأكثرهم كاذبون)

تفسير قوله تعالى: (يلقون السمع وأكثرهم كاذبون) قال سبحانه: {يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} [الشعراء:223]. قوله تعالى: {يُلْقُونَ السَّمْعَ} [الشعراء:223] صفة لهؤلاء الشياطين أنهم يسترقون السمع من السماء، فيلقونه إلى أصحابهم من الكهان من أهل الأرض. وقوله تعالى: {وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} [الشعراء:223] يعني: كلام الشياطين أكثره كذب، وقد يكون فيه شيء من الصدق، ولم يجعل الله كل كلامهم كذباً؛ لكي يبتلي العباد. ولو أن الله عز وجل أمر العباد بألا يسرقوا وبغض في قلوبهم السرقة، ولا يوجد في قلب الإنسان حب للمال، فالإنسان لن يسرق. ولو أنه قال: لا تزنوا، ولم يجعل عند الإنسان شهوة، فلن يزني؛ لأنه لا يوجد عنده شهوة أصلاً، ولكن يخلق بداخله الشهوة ثم يهذبها له، ثم يأمره بفعل الحلال ويحذره من الوقوع في الحرام، فهذا هو محل الاختبار: هل سيطيع الإنسان ربه أو سيعصيه سبحانه؟ وكذلك الشياطين أكثرهم كاذبون، ولكن بعض الأخبار قد تكون أخباراً صادقة على النحو الذي ذكرناه من أنهم يسمعون خبراً من الملائكة وينزلون به إلى الأرض، فيشاء الله أن يحرقهم قبل أن ينزلوا بهذا الخبر، وقد ينزل الخبر قبل إحراق هؤلاء الشياطين، فينزل الخبر الصدق، ويزيدون عليه أكاذيب كثيرة، فأكثرهم كاذبون.

تفسير قوله تعالى: (والشعراء يتبعهم الغاوون)

تفسير قوله تعالى: (والشعراء يتبعهم الغاوون)

سبب تسمية سورة الشعراء بهذا الاسم

سبب تسمية سورة الشعراء بهذا الاسم قال سبحانه وتعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء:224]، وسبب تسمية سورة الشعراء بهذه التسمية أن الله عز وجل ذكر فيها الشعراء.

عدم معرفة النبي صلى الله عليه وسلم بقول الشعر

عدم معرفة النبي صلى الله عليه وسلم بقول الشعر وكان المشركون يكذبون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون عنه: شاعر، وساحر، وكاهن، ومجنون، ويدعون أنه يكذب صلوات الله وسلامه عليه وحاشا له، والله عز وجل يخبر أن الشياطين تتنزل على أوليائهم الكهان وعلى الشعراء، وحاشا للنبي صلى الله عليه وسلم أن يكون شاعراً مثلهم، وما كان يعرف الشعر ولا يجيده عليه الصلاة والسلام، ولعله يسمع بيت الشعر فإذا نطقه صلى الله عليه وسلم غيره فانعكس البيت ولم ينفع فيه الوزن، وفي هذا آية من آيات الله سبحانه، ولو أن إنساناً عربياً لا يتكلم شعراً فإنهم يعدون هذا عيباً فيه، لأنه عربي ولا يفهم الشعر، ولا يتكلم به، لكن هذا في النبي صلى الله عليه وسلم معجزة فيه صلوات الله وسلامه عليه، وأهل بيته يتكلمون بالشعر كبارهم وصغارهم، وما من أحد من قبيلته إلا ويتكلم بالشعر ويفهمه، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فلا يقول الشعر، ولو كان شاعراً لادعوا أن هذا القرآن شعر، لكنهم كانوا يفهمون الشعر جيداً، ويفهمون أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس شاعراً، فالقرآن هذا ليس من الشعر، وليس من كلام الشعراء. والنبي صلى الله عليه وسلم لا يقرأ ولا يكتب، وفي غيره صلوات الله وسلامه عليه قد يعد هذا عيباً من العيوب، لكن هذا معجزة له عليه الصلاة والسلام، ولو كان يقرأ ويكتب لادعوا عليه أنه ذهب وقرأ عند أهل الكتاب، ثم ترجمها إلى العربية وقالها لنا، ولكنه لم يكن يقرأ، ولا يكتب، ولا يفهم الشعر صلوات الله وسلامه عليه، ولا ينطق بالشعر عليه الصلاة والسلام. ولما أتى رجل وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: أتجعل نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع. يعني: أتعطيني أنا وفرسي خمسين جملاً وأعطيت عيينة والأقرع كل واحد منهما مائة من الإبل، فلا يستقيم هذا، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول له: أنت الذي تقول: (أتجعل نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة) فهذا ليس شعراً؛ لأنه لا وزن فيه، فيقول الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم: أشهد أنك رسول رب العالمين. فالنبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق الشعر، قال تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} [يس:69]. والله عز وجل يخبر عن الأغلب من الشعراء أن الشياطين تنزل عليهم وتوسوس لهم بالشتم والقدح والسب والمدح؛ لكي يعطوا مالاً، فأكثر أغراض الشعراء طلب الدنيا، فالشاعر يمدح الملوك لكي يعطوه مالاً، ويذم إنساناً لأنه مقهور منه، ولذلك لما جاء شاعر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (يا محمد! إن مدحي زين وإن قدحي شين، قال: ذاك الله) أي: الذي مدحه زين هو الله سبحانه، والذي ذمه شين هو الله سبحانه، وأما أنت فلا شيء، ومن تكون أنت؟! فهذه صفة الله عز وجل الذي إن مدح شيئاً سبحانه فقد زانه، وإن ذم شيئاً فقد شانه. فالشياطين تنزل بالكذب على هؤلاء الشعراء بخلاف ملائكة رب العالمين، فإنهم ينزلون بالصدق على النبي صلوات الله وسلامه عليه، فالقرآن وحي من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم أنزله عليه ولم تتنزل به الشياطين، وإنما تتنزل الشياطين على أمثال هؤلاء الذين ذكرهم الله عز وجل. وقوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء:224] أي: يجري ورائهم أهل الغواية، والشياطين تتبع الشعراء فتوسوس لهم أن اعملوا كذا وكذا، فيسمعون كلامهم ويفعلون هذا الشيء إلا من رحم الله، ولذلك استثنى في آخر الآيات فقال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} [الشعراء:227].

القراءات في قوله تعالى (يتبعهم)

القراءات في قوله تعالى (يتبعهم) وقوله تعالى: {يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء:224] فيها قراءتان: قراءة الجمهور: (يَتَّبِعُهُمُ). وقراءة نافع: (يَتْبَعُهُمُ). والغاوي: هو الإنسان الذي حاد عن الحق، قال تعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:2] أي: لا تاه عن الحق ولا وقع في المعاصي، والغواية عكس الرشد. فإنسان راشد: أي عقله ثابت وحاضر، فهو يفهم ويعي ويعقل. وإنسان غاوي: أي: عقله ضائع، فهو يفعل المعاصي ويقع فيما يغضب الله سبحانه. فهؤلاء الغاوون من الإنس والجن يتبعون الشعراء، ويعجبهم أنَّ الشاعر يمدحهم أو يذم خصومهم.

تفسير قوله تعالى: (ألم تر أنهم في كل واد يهيمون)

تفسير قوله تعالى: (ألم تر أنهم في كل واد يهيمون) قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} [الشعراء:225] أي: أن هؤلاء الشعراء يهيمون في كل واد، ولا يتركون شيئاً إلا وتكلموا فيه، فهم يتكلمون في الأرض وفي السماء، وفي المشرق وفي المغرب، وفي الرجال وفي النساء، وفي الصغار وفي الكبار، وفي كل شيء، ويصفون أي شيء، وأكثر الشعراء على ذلك، ولا يوجد شيء يمنعهم أو يردعهم فيقولون أي كلام، فيمدحون الخمر أو غيرها من المحرمات، ثم يعتذرون بعد ذلك. فهنا معنى قوله تعالى: {فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} [الشعراء:225] أي: في أي شيء: من إثم أو ذنب أو معصية أو طاعة. والذي يهيم هو الذي يمشي تائهاً ولا يشعر أين هو، ولذلك لا تسم ابنتك هيام، فهذه التسمية غلط، والناس يسمون أبناءهم بأسماء لا يفهمون معناها، فالهائم هو الذي يهيم، يقال: فلان في الظلام يهيم، أو إني أراك في الظلال تهيم، يعني: تمشي ولا تعرف هل أنت مشرِّق أم مغرب؟ وتمشي في الضلال وفي التيه وعقلك ليس حاضراً. فالهيام هو طيش العقل فترى الإنسان يمشي ولا يدري إلى أين يذهب؟ قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} [الشعراء:225]، فالشعراء أهل الغواية هم الذين يمدحون بحق أو بباطل، وكذلك يذمون بحق أو بباطل، فهم في كل واد يهيمون.

تفسير قوله تعالى: (وأنهم يقولون ما لا يفعلون أي منقلب ينقلبون)

تفسير قوله تعالى: (وأنهم يقولون ما لا يفعلون أي منقلب ينقلبون) قال سبحانه: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} [الشعراء:226]، فالأغلب منهم يقولون الشعر فيظهرون أنفسهم أنهم الأبطال الجسورون، وأنهم فعلوا كذا وكذا، وهم لم يفعلوا شيئاً مما قالوه، ولذلك استثنى الله عز وجل فقال: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الشعراء:227]، فالمؤمنون تربط ألسنتهم طاعة الله، والخوف من الله سبحانه، فقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم شعراء مجيدين، مثل عبد الله بن رواحة، وحسان بن ثابت، وكعب بن زهير، وغيرهم من الشعراء الذين كانوا يذمون الكفر وأهله، وينتصرون لدين رب العالمين سبحانه. والنبي صلى الله عليه وسلم سمع الشعر لكنه لم يقل شعراً عليه الصلاة والسلام، إلا ما يكون محفوظاً عند الناس، كشعر الصحابة وهم يحفرون الخندق مثلاً: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فارحم الأنصار والمهاجرة فيقوله النبي صلى الله عليه وسلم داعياً ربه بذلك عليه الصلاة والسلام، فقد يكون كلاماً يخرج من اللسان وهو على أوزان الشعر المعروفة لكنه غير مقصود أن يكون شعراً، فمثلاً قول الأنصار: نحن الذين بايعوا محمداً على الجهاد ما بقينا أبداً فيرد عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة. أو فارحم الأنصار والمهاجرة.

سماع النبي صلى الله عليه وسلم للشعر الحسن

سماع النبي صلى الله عليه وسلم للشعر الحسن وفي صحيح مسلم عن عمرو بن الشريد عن أبيه أنه قال: (ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: هل معك من شعر أمية بن الصلت؟ فقال: قلت: نعم، فقال: هيه) و (هيه) بمعنى: قل وأسمعني. وأمية بن الصلت كان في الجاهلية، وكان كافراً وكاد شعره أن يسلم، وقد قال أشعاراً فيها توحيد لله عز وجل، وكاد أن يسلم الرجل ولكنه كان جاهلياً، فالنبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن شعر أمية بن الصلت الذي فيه ذكر الله وفيه التوحيد، فالرجل قال: نعم. (قال: هيه، فأنشده بيتاً، ثم قال: هيه، فأنشده آخر، قال: حتى أنشدته مائة بيت) فالنبي صلى الله عليه وسلم يسمع الشعر ويفهمه عليه الصلاة والسلام، وأما أنه يفهم أوزانه ويقوله فلم يعلمه الله سبحانه وتعالى ذلك. وفي هذا دليل على أنه يجوز حفظ الأشعار المفيدة التي يستفيد منها الإنسان سواء في حفظ العلم، أو حفظ اللغة العربية، أو غير ذلك كما سنبين ذلك فيما بعد. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الشعراء [221 - 227]

تفسير سورة الشعراء [221 - 227] كان كفار قريش يتهمون النبي عليه الصلاة والسلام بأنه يأتيه شيطان بالوحي، فرد الله عليهم هذا الافتراء، وبين لهم من الذي تتنزل عليه الشياطين، وأنها تنزل على الأفاكين، وذم الشعراء الذين هم في كل واد يهيمون، واستثنى من هذا الذم الشعراء المؤمنين الصالحين.

تفسير قوله تعالى: (هل أنبئكم على من تنزل الشياطين وأكثرهم كاذبون)

تفسير قوله تعالى: (هل أنبئكم على من تنزل الشياطين وأكثرهم كاذبون) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في آخر سورة الشعراء: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ * وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:1221 - 227]. في ختام هذه السورة الكريمة سورة الشعراء يخبر ربنا سبحانه وتعالى أن الشياطين تنزل على أهلها وأصحابها وأوليائها، وكان الكفار يتهمون النبي صلى الله عليه وسلم أن شيطانه يأتيه بهذا الوحي من السماء، فقال ربنا مجيباً لهؤلاء الكذابين: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ} [الشعراء:221]، و (تنزل) مدغمة وأصلها تتنزل الشياطين، أي: أن الشياطين تطير في الهواء وتنزل على أصحابها وأوليائها. {تَنَزَّلُ} [الشعراء:222] أي: تتنزل: {عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء:222] أي: على الكذابين، والأفاك هو الإنسان الكثير الكذب، فهم يعرفون أن النبي صلى الله عليه وسلم صادق لا يكذب، وقد شهد الله عز وجل عليهم بذلك فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33] يعني: أنهم لا يدعون أنك تكذب، فهم كانوا يلقبون النبي صلى الله عليه وسلم بالصادق الأمين عليه الصلاة والسلام، فلا يجتمع أن يكون صادقاً وأميناً ثم تنزل عليه الشياطين، وهذا لا يكون حتى عندهم، ولكنهم يجحدون بآيات الله رب العالمين، فربنا يطمئن النبي صلى الله عليه وسلم أنك لست كذاباً، وهم لا يعتقدون أنك كذاب، بل هم يجحدون -والجحد: إخفاء الحقيقة مع اليقين والعلم بها- آيات الله، مع أنهم يعرفون أنه الحق من ربهم سبحانه، ولكن ينكرون ذلك مع أن قلوبهم متيقنة أن هذا الحق من عند رب العالمين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم صادق، ومع ذلك يكذبون ويقولون: كذاب، ويقولون: مجنون، ويقولون: ساحر، فربنا يقول لهم: لا، الأولى أن تعرفوا من هم هؤلاء الذين تتنزل عليهم الشياطين، فليس محمد صلى الله عليه وسلم ممن تنزل عليه الشياطين، وإنما تتنزل الشياطين على شعرائكم الكذابين، فكان كل شاعر منهم يزعم أن له شيطاناً يأتيه بالسحر، فالشياطين تنزل على كهنتهم وكذابيهم. قال الله تعالى: {تَنَزَّلُ} [الشعراء:222] أي: هذه الشياطين، {عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء:222] أي: على كل كذاب، بل من كان فاحش الكذب، فهؤلاء هم الذين تواليهم الشياطين، {أَثِيمٍ} [الشعراء:222] أي: كثير الإثم، يفعل الآثام والذنوب. {يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} [الشعراء:223] يعني الشياطين تلقي السمع إلى أخبار السماء وتنزل بهذه الأخبار -إذا شاء الله- إلى الأرض، فتخبر بها الكهنة والعرافين ونحوهم، فيخبرون بما أخبروا به. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الشيطانين يركب بعضهم بعضاً حتى يصلوا إلى السماء فيسترقوا السمع، ويشاء الله عز وجل فتنة عباده بأن تتحدث الملائكة بخبر من خبر السماء، فتخطفه الشياطين وتنزل به إلى الأرض، فيرمى الشيطان بالشهاب، فقد يدركه قبل أن ينزل بهذا الخبر، وقد يدركه بعد أن ينزل بهذا الخبر، فيصل الخبر إلى الكاهن في الأرض، والشيطان يقرقره في أذن الكاهن، والكاهن يخبر الناس بهذا الخبر ويكذب مائة كذبة مع ما أخبره الشيطان به، وعندما يتحقق هذا الخبر الصدق يصدق الناس الكهان، ويقولون: صدق في اليوم الفلاني، فيصدقون باقي كلامه الكذب. وقد حذرنا ربنا على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم من تصديق الكهان وقال لنا: (من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد)، فلا يجوز لأحد أن يأتي كاهناً أو عرافاً ليسمع منه، أو ليسأله عن شيء. والكاهن هو الذي يتكهن للناس، فيقول: سيحصل كذا، وفي آخر السنة هذه سيكون كذا، وفي أول السنة سيكون كذا، ويكذب على الناس بأكاذيب، كما ترى في الجرائد من يقول: العرافون يقولون: كذا وكذا، وصاحب علم النجوم يقول: هذه السنة سيحصل كوارث وكذا وكذا، فهذا من الكهانة التي حرمها ربنا سبحانه، ومن صدق ذلك فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم. والعراف مثل الكاهن، ولكنه يستدل ببعض الأشياء على أشياء مغيبة، فيقول لهم: عند فلان كذا، وعند فلان كذا، فتخبره الشياطين عن ذلك، وغاية الشيطان الوقيعة بين الناس، فالشيطان يخبره أن فلاناً هو الذي سرق، فتتقاطع الأرحام بفعل ذلك الكاهن والعراف.

تفسير قوله تعالى: (والشعراء يتبعهم الغاوون)

تفسير قوله تعالى: (والشعراء يتبعهم الغاوون) لما ذكر الله عز وجل هؤلاء الذين تتنزل عليهم الشياطين من الأفاكين والعرافين والسحرة والكهنة قال سبحانه: {يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ * وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء:223 - 224] (يتبعهم) يعني: يسير وراءهم، وقراءة الجمهور: {يَتَّبِعُهُمُ} [الشعراء:224] بتشديد التاء، وقرأها نافع: (يتَبْعهم) بغير تشديد، والمعنى أنه يمشي وراءهم كل غاوٍ، والغاوي هو الإنسان الذي يمشي في هواه، ولذلك قال ربنا سبحانه مقسماً بالنجم: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:1 - 2]، فمن غوى كأنه حصل له شيء في هواه فاتبعه بعيداً عن الصواب. فهؤلاء الغاوون الذين يتبعون الشاعر فكيف يكون حال الشاعر؟! فإذا قيل: إن فلاناً يتبعه كل آثم، فكيف بالمتبوع؟! فأشد الغواة الشعراء. {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء:224]، لماذا؟ قال سبحان معجِّباً من حال أكثرهم: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} [الشعراء:225]، ألم تر أن هؤلاء الشعراء يسيرون هائمين، فالشاعر يسير ولا يدري أين يسير، يقال: فلان هائم على وجهه في الأرض، أي: يمشي مثل الأعمى، فكذلك الشعراء يهيمون في كل واد، فأي فكرة تخطر في باله فإنه يتكلم فيها بأي شيء. وهذا العموم مخصوص، ولذلك قال الله بعد هذا: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الشعراء:227]، فالله عز وجل خص من هؤلاء الغاوين أهل الإيمان، فهم ليسوا غاوين، بل هم أهل تقوى كما سيذكر صفاتهم بعد ذلك.

الشعر بمنزلة الكلام

الشعر بمنزلة الكلام روى البخاري في الأدب والدارقطني عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الشعر بمنزلة الكلام: حسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام). فالشعر موهبة من الله عز وجل للإنسان، وهذا الشعر يكون حكمه بحسب الموضوع الذي قيل فيه هذا الشعر، فإن كان الموضوع موضوعاً جيداً ومن المواضيع النافعة فالشعر حسن فيها، وأن كان الموضوع موضوعاً تافهاً فالشعر فيه مثله، فالشعر بمنزلة الكلام: حسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام. والنبي صلى الله عليه وسلم قد استمع للشعر، قال أحد الصحابة -وهو الشريد السلمي -: ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: (هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء؟)، وأمية بن أبي الصلت شاعر جاهلي، وكان يقول شعراً في غاية الجودة والجمال، ويكاد شعره ينطق بالتوحيد، ومع ذلك لم يؤمن، فكفر قلبه وآمن شعره، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يسمع هذا الشعر الذي فيه التوحيد، قال: (هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء؟ قال: قلت: نعم، قال: هيه) (هيه) يعني: قل وأسمعني، قال: (فأنشدته بيتاً، فقال: هيه، ثم أنشدته بيتاً، فقال: هيه، حتى أنشدته مائة بيت)، فهذا الصحابي كان يحفظ الشعر، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، بل استمع هذا الشعر منه. وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم) أي: كاد ولم يسلم، فشعره مليء بالتوحيد ولكنه لم يسلم. وكثير من الصحابة كانوا يحفظون الشعر، وكان كثير منهم يقول الشعر، ولم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، بل بعضهم قال الشعر بحضرته صلى الله عليه وسلم، وما من أحد من آل بيته صلى الله عليه وسلم إلا وقال الشعر كعمه العباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما وغيرهما من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، بل ومن نساء آل البيت من قالت الشعر، فالشعر ليس قبيحاً إلا أن يكون الموضوع الذي يتكلم فيه الشاعر موضوعاً قبيحاً. وقد ورد أن العباس مدح النبي صلى الله عليه وسلم بأبيات شعر، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: لقد قلت فيك شعراً، ويريد أن يسمع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: من قبلها طبت في الظلال وفي مستودع حيث يخصف الورق ثم هبطت البلاد لا بشر أنت ولا مضغة ولا علق بل نطفة تركب السفين وقد ألجم نسراً وأهله الغرق تنقل من صالب إلى رحم إذا مضى عالم بدا طبق فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يفضض الله فاك). وهذا الشعر قاله العباس في النبي صلى الله عليه وسلم، ومعناه: (من قبلها) أي: من قبل ما تجيء في هذه الدنيا (طبت في الظلال) يعني: طبت في الجنة. (وفي مستودع حيث يخصف الورق) يقصد قصة آدم وحواء لما طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، والمعنى أنت كنت في صلب آدم وهو في الجنة. قال: (ثم هبطت البلاد)، إلى آخر ما ذكره للنبي صلى الله عليه وسلم. وأيضاً جاء عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال شعراً، فمن قوله رضي الله عنه لما مات النبي صلى الله عليه وسلم: فقدنا الوحي إذ ولّيت عنا وودعنا من الله الكلام سوى ما قد تركت لنا رهيناً توارثه القراطيس الكرام فقد أورثتنا ميراث صدق عليك به التحية والسلام وكان للنبي صلوات الله وسلامه عليه شعراء مثل حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن زهير وغيرهم ممن كانوا يقولون الشعر، ويمدحون النبي صلى الله عليه وسلم، ويمدحون دين الله سبحانه، ويدافعون عن الدين، ويهجون الكفار المجرمين. وكان حسان يدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم لما طلب منه أن يرد عليهم حذره أن يسب الأنساب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم له نسب فيهم، فإذا سب آباءهم فكأنه يسب النبي صلى الله عليه وسلم، فحذره فقال: لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين، وهذه من البراعة التي كان عليها حسان رضي الله عنه، حيث يدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم ويهجو المشركين، ويسل النبي صلى الله عليه وسلم منهم من غير أن يتعرض لنسبه بشيء صلى الله عليه وسلم. وجاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه حسان وكعب بن مالك وابن رواحة لما سمعوا هذه الآيات المكية، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا نبي الله! أنزل الله تعالى هذه الآية وهو تعالى يعلم أنا شعراء، فقال: (اقرؤوا ما بعدها: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الشعراء:227] حتى بلغ: {وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} [الشعراء:227])، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهم: (انتصروا ولا تقولوا إلا حقاً، ولا تذكروا الآباء والأمهات) يعني: انتصروا لهذا الدين واهجوا المشركين ولكن لا تسبوا الآباء والأمهات. ومن شعر حسان رضي الله عنه أنه هجا أبا سفيان قبل إسلامه عندما هجا أبو سفيان النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له حسان: هجوت محمداً فأجبت عنه وعند الله في ذاك الجزاء فإن أبي ووالدتي وعرضي لعرض محمد منكم وقاء أتشتمه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء لساني صارم لا عيب فيه وبحري لا تكدره الدلاء فـ حسان رضي الله تبارك وتعالى عنه يهجو هؤلاء ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: أفديك أنا وأبي وأمي، وكلنا نفدي النبي صلوات الله وسلامه عليه.

ذم الشعراء الغاوين

ذم الشعراء الغاوين قوله سبحانه: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} [الشعراء:224 - 225]، فالشاعر الذي يترك لنفسه الحبل على الغارب يقع في المزالق وفي الخطأ، ولذلك بعض الشعراء كانوا مؤمنين وعلى صلاح ولما تمادوا في الشعر وقعوا في أشياء خطيرة جداً، كما قال ربنا سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} [الشعراء:225 - 226]. وقد روى مسلم عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه خير من أن يمتلئ شعراً)، جوف الإنسان أي صدره، لأن يمتلئ صديداً أفضل له من أن يمتلئ شعراً، والمقصود الشعر الذي فيه أكاذيب. وفي حديث آخر في الصحيح عن أبي سعيد قال: (بينا نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عرض شاعر ينشد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسكوا الشيطان؛ لأن يمتلئ جوف رجل قيحاً خير له من أن يمتلئ شعراً)، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم ومنعه، ولعله من الشعراء الذين يمدحون الناس، فإن أعطوه مالاً مدحهم، وإن لم يعطوه مالاً هجاهم، فلذلك سماه النبي صلى الله عليه وسلم شيطاناً. قال العلماء: إنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا مع هذا الشاعر لما علم من حاله، فلعله كان ممن اتخذ الشعر طريقاً للتكسب، ولذلك أحد هؤلاء الشعراء قال للنبي صلى الله عليه وسلم يخوفه: يا محمد! إن مدحي زين، وإن ذمي شين، فقال له: (ذاك الله سبحانه وتعالى) يعني: الذي يمدح فيرفع والذي يقدح فيضع هو الله سبحانه ولست أنت، فعرف الرجل قدر نفسه. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه)، (حتى يريه) يعني: حتى يمزق جوفه، والمقصود الشعر القبيح.

مدح الشعراء الصالحين

مدح الشعراء الصالحين قال النبي صلى الله عليه وسلم في شعر حسان: (إنه لأسرع فيهم من رشق النبل)، وجاء في حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء أو عمرة القضية، وكان عبد الله بن رواحة يمشي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول للكفار: خلوا بني الكفار عن سبيله اليوم نضربكم على تنزيله ضرباً يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله فأنكر عليه عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عمر: (خل عنه يا عمر، فلهو أشد عليهم من نضح النبل)، وكان ذلك في عمرة القضية سنة سبع من الهجرة قبل فتح مكة بعام، فكانوا داخلين مكة للعمرة، وكانوا ألفاً وخمسمائة، فـ عبد الله بن رواحة كان يقول ذلك والنبي صلى الله عليه وسلم يشجعه؛ لأن هذا الشعر الذي يقوله أشد على الكفار من رمي النبال.

تفسير قوله تعالى: (ألم تر أنهم في كل واد يهيمون)

تفسير قوله تعالى: (ألم تر أنهم في كل واد يهيمون) قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} [الشعراء:225] أي: في كل لغو يخوضون ولا يتبعون سنن الحق، وقد ذكر الإمام القرطبي أن النعمان بن عدي بن نضلة كان عاملاً لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يعني: كان والياً على بلد من بلاد الشام، فقال شعراً، وهو من المؤمنين الصالحين، ولكن حصلت له هفوة فقال هذا الشعر: من مبلغ الحسناء أن حليلها بميسان يُسقى في زجاج وحنتم إذا شئت غنتني دهاقين قرية ورقاصة تجذو على كل منسم فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني ولا تسقني بالأصغر المتثلم لعل أمير المؤمنين يسوءه تنادمنا في الجوسق المتهدم فبلغ هذا الشعر عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، فأرسل إليه، فلما أقبل على عمر قال له: إي والله! إني ليسوءني ذلك، لأنه قال في شعره: لعل أمير المؤمنين يسوءه تنادمنا بالجوسق المتهدم وهو يقول: (من مبلغ الحسناء) يعني: امرأته، من يبلغها؟ (أن حليلها) أي زوجها، (بميسان يسقى في زجاج وحنتم)، يعني: أنه يشرب الخمر، في بلدة ميسان، وهو لم يشرب، ولكن كما قال الله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} [الشعراء:224 - 225]، فلما قال له عمر ذلك استشعر من عمر أنه سيقيم عليه الحد باعترافه أنه شرب الخمر، فقال: يا أمير المؤمنين! ما فعلت شيئاً مما قلت، وإنما كان فضلة من القول، وقد قال الله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} [الشعراء:224 - 226]. فقال عمر رضي الله عنه: أما عذرك فقد درأ عنك الحد، ولكن لا تعمل لي عملاً أبداً. فالشعراء عادتهم الكذب، ويقولون: أجود الشعر أكذبه. وشعراء أهل الجاهلية كان أحدهم يبتدئ القصيدة بالغزل، ويتكلم في الفخر، ثم يهجو الخصم ويتكلم في الشجاعة، ويأتي بأشياء عجيبة، كالمعلقات التي كانت تعلق في الكعبة، وقد قالها فحول الشعراء مثل عنترة وعمرو بن كلثوم وطرفة بن العبد وامرؤ القيس، وقد كتبت بماء الذهب، وعلقت على الكعبة، ومن أجمل هذه المعلقات معلقة عمرو بن كلثوم وهو رجل تغلبي، وكان في عهده ملك اسمه عمرو بن هند، وكانوا يلقبونه بمضرط الحجارة، أي: أن الحجارة تضرط؛ خوفاً منه، فقد كان جباراً، ومن جبروته أنه سأل الناس: هل يوجد أحد ترفض أمه أن تخدم أمي؟ فقالوا له: نعم، عمرو بن كلثوم، وكان عُمْر عمرو خمس عشرة سنة، فبعث إليه أن يأتيه مع أمه، فذهب إليه هو وأمه مع عشرين رجلاً من القبيلة، فلما وصلوا إلى الملك دخلت المرأة عند أم الملك، فأم الملك أرادت منها أن تخدمها، فصرخت أم عمرو، فلما سمع عمرو ذلك أخذ السيف وضرب رقبة الملك، وهرب ومن معه، وقال قصيدته المشهورة: وقد علم القبائل من معد إذا قبب بأبطحها بنينا بأنا المنعمون إذا قدرنا وأنا المهلكون إذا أتينا وأنا الحاكمون بما أردنا وأنا النازلون بحيث شينا وأنا التاركون لما سخطنا وأنا الآخذون لما رضينا وأنا العاصمون إذا أطعنا وأنا الغارمون إذا عصينا ونشرب إن وردنا الماء صفواً ويشرب غيرنا كدراً وطيناً ألا أبلغ بني الطماح عنا ودعميّاً فكيف وجدتمونا إذا ما الملك سام الناس خسفاً أبينا أن نقر الذل فينا ملأنا البر حتى ضاق عنا كذلك البحر نملؤه سفينا إذا بلغ الفطام لنا وليد تخر له الجبابر ساجدينا فاسمعوا إلى هذا الكذب، وكانت هذه القصيدة معلقة في الكعبة أيام الجاهلية، وهو شعر رائع جداً لكنه مليء بالكذب، فإنه قال: ملئنا البر حتى ضاق عنا! فهل قبيلة تغلب تملأ البر؟! وهل ملئوا البحر بالسفن؟! صدق الله: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} [الشعراء:224 - 225]. ومن هؤلاء الشعراء جرول الملقب بـ الحطيئة، فقد كان شاعراً كثير الهجاء، وكان يهجو أي إنسان، حتى كاد عمر رضي الله عنه أن يقطع لسانه، حتى إنه هجا أباه فقال: لحاك الله ثم لحاك حقاً أباً ولحاك من عم وخال فنعم الشيخ أنت على المخازي وبئس الشيخ أنت لدى المعالي وقال لأمه: جزاك الله شراً من عجوز ولقّاك العقوق من البنينا تنحي فاجلسي عني بعيداً أراح الله منك العالمينا أغربالاً إذا استودعت سراً وكانوناً على المتحدثينا بل إنه هجا نفسه فقال: أبت شفتاي اليوم إلا تكلما بشر فما أدري لمن أنا قائل أرى لي وجهاً قبح الله خلقه فقبح من وجه وقبح حامله فصدق الله إذ يقول: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} [الشعراء:224 - 226].

تفسير قوله تعالى: (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات)

تفسير قوله تعالى: (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) قال الله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} [الشعراء:227]، فالمؤمن يقول الشعر النافع، فيذكر ويعظ به الناس، ويحثهم على العمل الصالح، وذكْر الله سبحانه وتعالى، والانتصار لدين رب العالمين سبحانه، كـ حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة وغيرهما رضي الله عنهم؛ فهؤلاء لا يذمون على شعرهم. قال الله: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227] أي: سيعلم الظلمة والكفرة والكذابين والأفاكين {أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227] أي: أي مرجع سيرجعون إلى الله سبحانه، فسيعرفون شؤم ما صنعوا بجزائهم السيئة يوم القيامة، فنسأل الله سبحانه حسن النهاية، وحسن المنقلب. أقول قولي هذا وأستغفر الله، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

النمل

تفسير سورة النمل [1 - 14] الحروف المقطعة في القرآن تشير إلى تحدي الله عباده بأن يأتوا بكلام مثل كلامه سبحانه، وقد ذكر سبحانه في مطلع سورة النمل هذا المعنى، ثم ذكر قصة الرسل مع أنبيائهم، وكيف كانت عاقبة المفسدين المكذبين للرسل المعرضين عن دعوتهم.

تفسير قوله تعالى: (طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين)

تفسير قوله تعالى: (طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة النمل: {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ * هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ * وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ * إِذْ قَالَ مُوسَى لأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ * إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ * فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل:1 - 14]. هذه السورة السابعة والعشرون من كتاب الله رب العالمين المسماه بسورة النمل، وهي من السور المكية كسابقاتها، وآياتها ثلاث وتسعون آية، ونزلت بعد سورة الشعراء، وسميت بذلك لأن الله عز وجل ذكر فيها النمل، فكل سورة تسمى بما هو موجود بداخلها، مثل سورة البقرة، وسورة آل عمران، وسورة الشعراء، فالله عز وجل يذكر في ثنايا السورة ما يدل على ذلك. ففي سورة النمل قال الله تعالى: {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:18]، والنمل خلق من خلق الله سبحانه وتعالى يسبح ربه، وقد جعل الله فيها أفهاماً تفهم وتعي بها، وتدبر لنفسها بأمر ربها سبحانه أمر قوتها وأمر مساكنها وحماية نفسها كما سيأتي في هذه السورة.

الخصائص المكية لسورة النمل

الخصائص المكية لسورة النمل تتميز هذه السورة المكية بخصائص السور المكية، وذكرنا قبل ذلك أن من خصائص السور المكية: الاهتمام بأمر التربية، وأمر العقيدة، وأمر التوحيد، وإقرار هذا الأمر. فتجد هذه السور المكية تعنى بأمر العقيدة، والإيمان بالله، والإيمان باليوم الآخر، وذكر صفات الله سبحانه، وأسمائه الحسنى، وكذلك ذكر قصص الأنبياء، وما ابتلاهم الله عز وجل به، ثم نصر الله عز وجل لهؤلاء الأنبياء. وفي هذه السورة العظيمة يبين الله سبحانه وتعالى لنا كيف أنه قد يعطي لبعض عباده الرسالة، وقد يعطي البعض الآخر الرسالة والملك، كما أعطى داود وأعطى سليمان، وسنرى في هذه السورة شأن الاثنين. وفي هذه السورة: ذكر قصة موسى عليه الصلاة والسلام بشيء من التفصيل، وقد تقدمت هذه القصة مراراً، فقد كان موسى عليه الصلاة والسلام صاحب شريعة قبل نبينا صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك أكد الله عز وجل ذكر أمره في هذا القرآن العظيم مرات ومرات؛ حتى يأتسي النبي صلى الله عليه وسلم ويقتدي به. ولذلك كان هو النبي الوحيد الذي نصح النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة المعراج أن يرجع إلى ربه، وقال: إني بليت بني إسرائيل قبلك، وإن أمتك ضعيفة لا تطيق، فهو صاحب تجربة عليه الصلاة والسلام، فأشار للنبي صلى الله عليه وسلم بمحصلة هذه التجربة، فكانت النتيجة أن وضعت الصلوات من خمسين صلاة في اليوم والليلة إلى خمس صلوات في اليوم والليلة. وقد ابتدأ ربنا سبحانه سورة النمل بالحرفين المقطعين: الطاء والسين، وقد قلنا: إن هذه السورة ثلاث وتسعون آية على العد الكوفي، وأربع وتسعون آية على العد البصري، وخمس وتسعون آية على العد الحجازي، فالبعض عد هذه الآية في مكان وقف النبي صلى الله عليه وسلم، والبعض أدخل وقفين على أن هذا وقف جائز وبعده رأس الآية. إذاً: فالبعض عدهما فاصلة ورأس آية، والبعض لم يعدهما كذلك، فاختلف الترقيم. قال الله تعالى: {طس} [النمل:1]، حرفان مقطعان في أول هذه السورة، وقد تميزت السور الثلاث من سور الطواسين أو الطواسيم بهذه الحروف: الطاء والسين، وزادت الميم في سورتي الشعراء والقصص. فالسور: الشعراء، والنمل، والقصص تسمى بسور: الطواسيم أو الطواسين، هذا جمع على غير قياس، وأيضاً يقال: هي ذوات الطاسن، يعني: في أولها طاء وسين، والقراءة فيها: {طس} [النمل:1]، قراءة الجمهور، وأما قراءة أبي جعفر فبالقطع لبيان أنها حروف وليست كلمة. ولذلك كل الحروف التي في فواتح السور يقرؤها أبو جعفر يزيد بن القعقاع مفرقة، أي: يقطعها، فيقطع في قوله تعالى: {طس} [النمل:1]، حتى يبين أن هذا حرف، وهذا حرف، مثل قوله تعالى: {طه} [طه:1] فهو يبين أن ليست كلمة، ولكن هذا حرف وهذا حرف، أي: حرفان. وهنا بدأ الله عز وجل بهذين الحرفين، وقراءة الجمهور: مد الطاء حركتين، ومد السين مداً طويلاً، والطاء في قراءة شعبة عن عاصم، وقراءة حمزة، والكسائي، وخلف ممالة، يعني: أن غيرهم يقرأ الطاء مفتوحة، أما شعبة عن عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف فيميلونها، إذاً: القراءة إما بالفتح، وإما بالإمالة فيها، وأما السين فالكل يقرؤها ممدودة مداً طويلاً. قال الله تعالى: {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل:1]، وستجد دائماً في القرآن أ، الله عندما يبدأ السورة بحروف مقطعة فلا بد أن يشير إلى القرآن بعدها، كقوله تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة:1 - 2]، وقوله تعالى: {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [آل عمران:1 - 3]، وقوله تعالى: {طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الشعراء:1 - 2]، وقوله تعالى: {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل:1]، وقوله تعالى: {طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [القصص:1 - 2]. فالله سبحانه وتعالى عندما يذكر الحروف المقطعة فإنه يذكر بعدها مباشرة الإشارة إلى هذا القرآن، وكأنه يقول لنا: إن هذا القرآن من هذه الحروف نفسها، أي: من الحروف التي تتكلمون بها، وتصنعون منها خطبكم ونثركم وشعركم، ويتحداكم الله عز وجل أن تأتوا بمثل هذا القرآن لو استطعتم إلى ذلك سبيلاً. فالمقصود بها هنا: التحدي، والكثرة، أي: هاتوا مثل هذا القرآن الذي جاءكم من مثل هذه الحروف، والذي يعد حروف هذه السورة يجد أن أكثر الحروف التي تكررت في هذه السورة حرف الطاء وحرف السين، وكذلك كل سورة يبدؤها الله عز وجل بأحرف مقطعة، فإن المتأمل إذا عد الحروف التي في السورة يجد أكثر حروف السورة تكراراً هي هذه الحروف المقطعة في أوائل السور. إذاً: فالله يبين أن هذا القرآن من لغتكم العربية، ومن حروفكم التي تتكلمون بها، فاتوا بمثل هذا القرآن، قال تعالى: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود:13]، أو فأتوا بسورة من أقصر السور مثل هذا الذي جئناكم به ولن تستطيعوا إلى ذلك سبيلاً، فقوله تعالى: {طس} [النمل:1]، حرفان في أولها، والبعض يسمي هذه السورة: بطس، فهذان الحرفان دلالة على تسميتها، مثل أن تقول: صلينا يوم الجمعة بألم السجدة، يعني: السورة التي فيها ألم وفيها السجدة، فقيل: هذه الحروف دلالة على تسمية السورة، وقيل: إن هذه الحروف من الأقسام التي يقسم الله عز وجل بها، وقيل: بل هي حروف من أسماء الله سبحانه وتعالى افتتح بها هذه السور والله أعلم. قال تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل:1]، واسم الإشارة القريب للمؤنث: هذه، وإذا كان للبعيد في المكان أو في الرتبة قال: تلك، ففيها إشارة للبعد في الرتبة، يعني: أنه عالٍ وعظيم، فالله يشير إلى القرآن العظيم، فلم يقل: هذه آيات القرآن، أو كان هذا القرآن قريباً منا، ولكن لما يشير بقوله: (تِلْكَ)، فإن الإشارة للبعيد معناها التعظيم؛ يعني: هذه الآيات العظيمة هي آيات كتاب رب العالمين سبحانه وتعالى، قال تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل:1]، وقد تكرر هذا الجزء في سورة الحجر، لكن بخلاف بسيط، ففي سورة الحجر قال تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} [الحجر:1]، وهنا قال: {تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل:1]. إذاً: فهذه الآيات التي تتلى علينا هي آيات الذكر الحكيم، وآيات القرآن الكريم، قال تعالى: {وَكِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل:1]، أي: من عند رب العالمين سبحانه، وكأنه يقول: القرآن هو الكتاب المبين، ومبين بمعنى: واضح لا خفاء فيه، ولا إشكال فيه، بل يفهمه كل من يقرؤه، ويعي ما يقصده ربنا سبحانه وتعالى في هذا القرآن، وقراءة الجمهور: {الْقُرْآنِ} [النمل:1]، وقراءة ابن كثير المكي: (الْقُرْانِ) فيحذف الهمزة ويقرؤها ألفاً، وهي قراءة حمزة إذا وقف عليها: {تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْانِ} [النمل:1]، فإذا وصل قال: {تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل:1].

تفسير قوله تعالى: (هدى وبشرى للمؤمنين)

تفسير قوله تعالى: (هدى وبشرى للمؤمنين) قال الله تعالى: {هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [النمل:2]، أي: هذا القرآن هدى، وهذا القرآن بشارة للمؤمنين، وإن كان يحوي النذارة أيضاً، ولكن بين الله عز وجل هنا شيئاً من خصائص هذا القرآن، قال تعالى: {هُدًى} [النمل:2]، منصوبة على أنها حال، وآيات القرآن هداية يهدي بها الله عز وجل من يشاء من خلقه، وبشارة لمن شاء الله عز وجل أن يهديه. وكذلك يجوز أن تكون مرفوعة، فيكون التقدير: هو هدى، وهو بشرى، أو: هي هدى، وهي بشرى للمؤمنين، فقوله تعالى: {هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [النمل:2]، أي: يبشر الله عز وجل المؤمنين، والبشرى: الإعلام بالخبر السار، والبشارة قد تكون إعلاماً بخبر سار وهذا الغالب، وقد يكون إعلاماً بخبر غير سار وهذا قليل، بخلاف النذارة، فقولك: تنذر، يعني: تهدد بخبر فيه العقوبة من ورائه.

تفسير قوله تعالى: (الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون)

تفسير قوله تعالى: (الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون) القرآن فيه الهداية وفيه النور، وفيه البشارة للمؤمنين، والمؤمنون هم الذين آمنوا وصدقوا، وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، وأيقنوا بالآخرة، قال تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [النمل:3]، وأما صفات المؤمنين في سورة البقرة فقد ذكر الله أن من أهم صفاتهم: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3]، يعني: يصدقون بما أخبر الله عز وجل به وهو لم ير هذا الشيء، ولم ير الله، ولم ير الجنة، ولم ير النار، ولكنه استيقن من ذلك وأيقن وصدق، فهم: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:3]، فتلك آيات القرآن وكتاب مبين فيها الهداية وفيها البشارة للمؤمنين، قال تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [النمل:3]، إذاً: فهم مؤمنون، وهم يقيمون الصلاة، والفرق بين من يصلون وبين من يقيمون الصلاة: أن الذي يقيم الصلاة يعدلها ويحسنها، ويؤديها بخشوع وركوع وسجود وخضوع وتواضع لله رب العالمين وإكثار من ذكر الله، فهو يقيم صلاته، قال تعالى: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [النمل:3]، أي: يؤدون الزكاة كما أمر الله سبحانه وتعالى، ودائماً الزكاة تأتي بهذه اللفظة: (آتوا الزكاة)، فالإيتاء: إعطاء لا خصم فيه، ولذلك اتفق الفقهاء على عدم جواز الخصم في الزكاة، كأن يكون للرجل دينٌ على آخر فيعفو عنه ويخصم هذا الدين من الزكاة، أي: يعتبر ما خصمه زكاة، وهذا لا يجوز، وقد يصلح ذلك في الصدقة، أي: تتصدق على الإنسان بأنك تتنازل عن المال الذي تريده منه، أما الزكاة فلا يجوز ذلك؛ لأن الزكاة يقصد بها حصول الانتفاع للذي أعطيته، فيأخذها ويأكل بها، ويشرب بها، ويلبس بها. إذاً: تعطي شيئاً ينتفع هذا الإنسان به، أما كونك تخصم من الذي عليك فهو لم ينتفع بشيء؛ لأن هذا الدين الذي على الإنسان إما أن يكون موجوداً وجب عليه أن يرده، وإما أن يكون معدوماً مفقوداً يسقط عنه في يوم من الأيام، فإذا كانت المحصلة أنه سيسقط فأنت لم تؤتِ زكاة في يوم من الأيام، إذاً: فالزكاة: إيتاؤها دون مقاصة أو خصم، قال الله تعالى: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [النمل:3]، انظر التوكيد هنا، وكان من الممكن أن يقول: وهم بالآخرة يوقنون، ولكن أكد أن من أهم صفات المؤمن أن يكون مصدقاً بالغيب، ومستيقناً بأمر هذا الغيب، وبأمر الآخرة غاية اليقين، فقوله تعالى: {وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [النمل:3]، أي: مستيقنون بأنهم راجعون إلى الله رب العالمين سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون) قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ} [النمل:4]، فالمؤمنون بالآخرة: هم الذين يعملون الصالحات، فيقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، {وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [النمل:3]، والكفرة كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} [النمل:4]، هذا حالهم، وسبب عدم كونهم كهؤلاء المؤمنين يؤمنون بالآخرة، ويصدقون، ويوقنون قوله تعالى: {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ} [النمل:4]، وهذا من مكر الله عز وجل، ومن استدراجه لهؤلاء الكفار، قال تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183]. والإنسان الذي يريد الله عز وجل به الخير دائماً يذكره بالله سبحانه، ويبتليه بشيء حتى يرجع إلى الله سبحانه، والإنسان الذي يكون في غفلة وبعد عن رب العالمين، ولا يريد الله به الخير يجعله في عمى، بل في عمه، قال تعالى: {فَهُمْ يَعْمَهُونَ} [النمل:4]، والعمى والعمه متقاربان، ولكن العمى عمى البصر، وقد يكون عمى القلب، والعمه لا يكون إلا في قلب الإنسان، يعني: في بصيرة الإنسان، فقوله تعالى: {فَهُمْ يَعْمَهُونَ} [النمل:4] يعني: في غاية العمى والضلالة، فهم بعيدون عن ربهم سبحانه، بعيدون عن طاعة الله رب العالمين سبحانه، فقوله تعالى: {فَهُمْ يَعْمَهُونَ} [النمل:4]، أي: يتحيرون ويتشككون، لا يعرفون طريقاً يهتدون إليه، قال تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:7] وقال الله سبحانه في سورة الكهف: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:103 - 104] فهو إنسان ضال مستمر في ضلاله حتى يقع وهو يظن أنه على الطريق الصحيح. فهؤلاء زين لهم ربهم أعمالهم، قال تعالى: {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} [النمل:4]. وقد خلق الله عز وجل الأشياء فإذا بهؤلاء ينظرون إلى ما أمامهم فتزينت الدنيا لهم فأحبوها، وتكالبوا عليها، ونسوا ربهم سبحانه وتعالى، والإنسان الذي يريد الله عز وجل به الخير يذكره ولا يفتنه مهما تزينت له الدنيا، فيجعل الله له بصيرة ينتبه بها، فيرجع إلى الله يوماً من الأيام، والإنسان البعيد عن ربه إذا تزينت له الدنيا ظن أن الدنيا هي الآخرة، قال تعالى حاكياً عن الكفار: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [الجاثية:24]، أي: أن الدنيا هي الحياة الأبدية، قال تعالى: {نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24]، أي: مرور الأعوام والدهور تهلكنا كما أهلكت الذين من قبلنا، فنحن نأخذ من الدنيا ما نقدر عليه، فتتزين لهم الدنيا {فَهُمْ يَعْمَهُونَ} [النمل:4]، أي: يتحيرون، ويترددون، ويتشككون، ويتكالبون على الدنيا، وينسون ربهم سبحانه وتعالى. فقوله تعالى: {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} [النمل:4]، أي: أعمالهم القبيحة وكفرهم، ويظنون أنهم على الطريقة الصحيحة، فتتزين لهم الدنيا ويتزين لهم هذا العمل، فيفرحون بما هم فيه، فإذا ما عقلوا يوماً من الأيام وهداهم الله تبينت لهم الأشياء على حقيقتها، وعرفوا أنهم كانوا في ضلال، فقد كان أهل الجاهلية يعبدون غير الله، ويظنون أنهم على الصواب، ويتعجبون من النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]، فقد زين لهم الشيطان هذا العمل الذي يعملونه. فالله سبحانه خلق الدنيا على جمال معين، وخلق فيها الفتن، وخلق الشيطان والشهوات، وهذه المخلوقات تفتن من فيها إلا أن يعصم الله عز وجل من يشاء من خلقه. فقوله تعالى: {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} [النمل:4]، أي: خلقنا في قلوبهم ما يفرحون بهذه الأشياء التي يرونها أمامهم، فخلقنا الشيطان والكفار يفتنون هؤلاء؛ فتزينت لهم الدنيا، وخلقنا لهم أموالاً ففتنوا بهذه الأموال، فجمعوها وفرحوا بها فنسوا ربهم سبحانه وتعالى، وظنوا أنهم على الصواب. كذلك تزينت لهم هذه الدنيا فتكالبوا عليها، وقيل: رأوا أعمالهم السيئة حسنة ككفرهم بالله، واستحسنوا هذا الشيء كظلمهم لغيرهم، وقيل: إنهم قالوا أيضاً: زين الله لهم أعمالهم الحسنة فلم يعملوها، يعني: بين لهم أن هذه الأعمال حسنة، ومع ذلك لم يعملوا بهذه الأعمال الحسنة.

تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم الأخسرون)

تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم الأخسرون) قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ} [النمل:5]، يعني: جهنم والعياذ بالله، {وَهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ} [النمل:5]، وهم في الآخرة أخسر الخلق، فهناك إنسان خاسر، وإنسان أخسر، فالخاسر قد يدخل النار فترة ثم ينجيه الله بعد ذلك ويدخله الجنة، فهذا خاسر، ولكن قد يعذبه الله عز وجل ثم يخرجه من النار، وهذا من عصاة الموحدين، أما الأخسرون فلا نجاة لهم أبداً، ولن يخرجوا من النار، وهؤلاء هم الكفار نسأل الله العفو والعافية.

تفسير قوله تعالى: (وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم)

تفسير قوله تعالى: (وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم) قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [النمل:6] أي: وإنك يا محمد صلوات الله وسلامه عليه تلقى هذا القرآن من الله، فقد آتاك الله عز وجل به عن طريق ملك كريم، فقوله تعالى: (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ) يعني: ينزل عليك هذا القرآن فتتلقاه وتتعلمه وتأخذه، (مِنْ لَدُنْ)، أي: من عند، (حَكِيمٍ عَلِيمٍ)). فقد جاءك القرآن من عند الله سبحانه، ووصف نفسه بهذين الوصفين وبهذين الاسمين: الحكيم العليم، والقرآن لم ينزل مرة واحدة، فهو قد جاء من عند الحكيم سبحانه، والله أعلم بالذي يصلح لك يا محمد! وما يصلح لهؤلاء، ولو جاء القرآن مرة واحدة ما أطاقوا ذلك، فلحكمة الله سبحانه جعله منجماً ومفرقاً على ثلاث وعشرين سنة، مع أنه نزل مرة واحدة إلى السماء الدنيا، ثم نجم فنزل عليك في أيام وشهور وأعوام على حسب ما تجد من أحداث، وما ينزل الله سبحانه بخصوصها، فالله العليم الذي يعلم ما يصلح لك وما يصلح لهؤلاء، ويعلم من يصدقك ومن يكذبك.

تفسير قوله تعالى: (إذ قال موسى لأهله إني آنست نارا)

تفسير قوله تعالى: (إذ قال موسى لأهله إني آنست ناراً) وقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [النمل:6]، ختامٌ جميلٌ للمقدمة، وتمهيد لما يسوقه بعد ذلك فيدخل في قصة من القصص، يقول تعالى: {إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ} [النمل:7]، وإذ: منصوبة بفعل محذوف تقديره: اذكر، أي: اذكر وقت قول موسى ذلك لأهله، فقد قتل موسى القبطي وفر إلى الشام خوفاً من فرعون، وهنالك دبر الله عز وجل له أمره، وأغناه من فقره عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ثم بعد ذلك أمره فخرج من الشام وجاء إلى طور سينين، أي: جاء إلى مصر ثانية. قال تعالى: {إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ} [النمل:7]، أي: زوجته عليه الصلاة والسلام، إذاً: فموسى كان خارجاً من بلاد الشام فجاء إلى مصر، ولما وصل إلى جبل الطور وهو في المكان المبارك قال لأهله: {إِنِّي آنَسْتُ} [النمل:7]، وآنس بمعنى: أبصر وأحس بشيء أمامه، وقوله تعالى: {إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} [النمل:7]، هذه قراءة الجمهور، وقراءة نافع، وأبي جعفر، وابن كثير، وأبي عمرو {إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} [النمل:7]. وقوله: {سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [النمل:7]، يعني: جزم بذلك ثقة في الله سبحانه وتعالى، فإن موسى تاه في الطريق عليه الصلاة والسلام، وهو قادم من الشام إلى مصر، ولما وصل إلى طور سينين تاه، وكانت ليلة باردة شديدة البرد، مظلمة شديدة الظلام. فاحتار أين يذهب، وكان لم ينبأ بعد ولم يرسل عليه الصلاة والسلام، فأراه الله عز وجل ناراً من بعيد، فنظر وقال لأهله: (إِنِّي آنَسْتُ نَارًا) يعني: يطمئنهم (سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ)، أي: سأذهب متوجهاً إليها وآتيكم منها بخبر يدلني على الطريق، أو إذا لم يكن هناك خبر فعلى الأقل: (آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ)، يعني: شعلة من النار، وقراءة الكوفيين عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف، ويعقوب: {بِشِهَابٍ قَبَسٍ} [النمل:7]، على التنوين في الاثنين، والشهاب: الخشبة التي في آخرها شعلة من النار، والشهاب القبس: المقتبس من هذه النار، فهي جزء من النار مقتبس، وباقي القراء يقرءونها: (بشهاب قبسٍ) على الإضافة، فقوله تعالى: (سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ)، يعني: بشعلة من النار مقتبسة من هذه النار التي أراها، ثم قال تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ)، الاصطلاء بمعنى: الاستدفاء أي: تستدفئون من شدة البرد.

تفسير قوله تعالى: (فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها)

تفسير قوله تعالى: (فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها) {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل:8]. أي: لما وصل موسى إلى هذه النار التي ظنها وجد شجرة أمامه خضراء غاية في النضارة، ومع ذلك مشتعلة نارها، فلا ماء الشجرة يطفئ النار، ولا النار تحرق الشجرة، فوقف متعجباً عليه الصلاة والسلام، وهو في غاية العجب ناداه الله عز وجل: {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل:8]، فالله عز وجل نادى موسى بصوت من داخل النار. فالله تبارك وتعالى يتكلم بما شاء، ويسمع من شاء من خلقه سبحانه، فقد سمع موسى ربه من النار، فمنها تأتي البركة، قال تعالى: {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} [النمل:8]، أي: من الملائكة، وأنت أيضاً تأتيك البركة من عند رب العالمين، والفعل بارك يتعدى بنفسه، ويتعدى بحرف الجر، وهذا من كلام العرب، يقول: باركك الله، وبارك الله فيك، وبارك الله عليك، وبارك الله لك، فهي تتعدى بذاتها وتقول: باركك الله، يعني: جعل فيك البركة. فقوله تعالى: {بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} [النمل:8]، يعني: جاءت البركة من داخل هذه النار أو النور الذي تراه، والبركة لما حولها، ولذلك فإن طور سيناء معناه: الجبل المبارك، وكذلك طور سينين، طور بمعنى: الجبل، وسيناء وسينين بمعنى: المبارك. فهو الوادي المبارك، أو الجبل المبارك، أو الأرض المباركة التي بارك الله عز وجل فيها، قال تعالى: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل:8]، تنزيه لرب العالمين سبحانه حتى لا يظن أحدٌ أن الله يحل بذاته في مكان مثلاً، أو أن الله هو هذا النور الذي أمامه أو هذه النار التي أمامه، فسبح ربك يا موسى! فليس كمثله شيء سبحانه وتعالى. فالله عز وجل أسمعك الصوت من ههنا، والله فوق سمواته بائن من خلقه، قال تعالى: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل:8]، تقدس الله تبارك وتعالى وجل وعز وعلا أن يشبهه شيء سبحانه؛ لذلك عقب هنا بالتسبيح لله سبحانه والتقديس، فالله لا يشبهه شيء سبحانه. قوله تعالى: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل:8]، أي: الرب الخالق، الرب المربي، الرب المدبر للكون وللعالم كله، بل للعالمين كلها.

تفسير قوله تعالى: (يا موسى إنه أنا الله إني لا يخاف لدي المرسلون)

تفسير قوله تعالى: (يا موسى إنه أنا الله إني لا يخاف لدي المرسلون) قال الله تعالى: {يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النمل:9]. هنا ذكر الله في سورة القصص: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ} [القصص:30]، وفي طه: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه:12]، وفي هذه السورة قال: {يَا مُوسَى إِنَّهُ} [النمل:9]، والضمير ضمير الشأن يعني: إن الأمر أنا الله رب العالمين، والشأن أنني أخاطبك، وقال الله سبحانه في سورة طه: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [طه:12]، حتى تنال من بركة هذا الوادي المقدس، وحتى تؤدي حق الاحترام في هذا المكان، فاخلع نعليك، وفي هذه السورة قال: {يَا مُوسَى إِنَّهُ} [النمل:9]، وكأنه يقول: {يَا مُوسَى} [النمل:9]، إن الأمر: {أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النمل:9]، سبحانه وتعالى، أي: أنا العزيز، أنا الغالب، أنا الذي إذا أردت شيئاً فلا بد أن يكون، فالله عز وجل أمره في قوله: {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة:117]، فهو الحكيم، أي: له الحكمة العظيمة البالغة سبحانه وتعالى. {وَأَلْقِ عَصَاكَ} [النمل:10]، فحتى يخبره بأنه نبي رسول فلا بد أن يريه آيةً من قدرة الله رب العالمين، فكانت أول آية: هي النار في هذه الشجرة. والآية الثانية: {وَأَلْقِ عَصَاكَ} [النمل:10]، وفي سورة القصص قال تعالى: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} [القصص:31]، فخاف موسى عليه الصلاة والسلام في هذا المكان، فهو لوحده في زعمه أو في ظنه، قال سبحانه في سورة النمل: {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ} [النمل:10]، وفي سورة طه قال: {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} [طه:20]، وفي سورة الأعراف قال: {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} [الأعراف:107] فخاف موسى عليه الصلاة والسلام، قال تعالى في سورة النمل: {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ} [النمل:10]، والجان والجنان يعني: الحيات، أي: {تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا} [النمل:10]، حية من الحيات، قال تعالى: {وَلَّى مُدْبِرًا} [النمل:10]، أي: خاف موسى وأخذ يجري خوفاً من الحية. {وَلَمْ يُعَقِّبْ} [النمل:10] أي: لم ينظر وراءه من شدة الخوف والرعب. ومقصود رب العالمين سبحانه وتعالى الامتحان بالتخويف، فإذا رأى في هذا المكان الموحش مثل هذه النار في هذه الشجرة، ورأى في هذا المكان ظلمة ثم حية، فجرى فاراً من الخوف الشديد، فإن الله سبحانه يعلمه الثبات ويمرنه على ذلك، فيرجع موسى إلى شجاعته ورباطة جأشه، حتى يعرف كيف يواجه فرعون بعد ذلك. فكأن المقصود من الله عز وجل التخويف لنبيه عليه الصلاة والسلام حتى يعتاد الشجاعة بعد ذلك، فإن موسى عليه الصلاة والسلام: {وَلَّى مُدْبِرًا} [النمل:10]، أي: هرب، {وَلَمْ يُعَقِّبْ} [النمل:10]، يعني: لم ير وراءه ولم يرجع، فناداه ربه سبحانه: {يَا مُوسَى لا تَخَفْ} [النمل:10]، وفي سورة القصص قال: {يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ} [القصص:31]، وقال هنا في سورة النمل: {إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} [النمل:10]، وفي سورة القصص قال: {إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ} [القصص:31]، أي: ارجع يا موسى! {إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ} [القصص:31]، وهذه بداية تفهيم لموسى أنه سيكون رسولاً، والرسل لا يخافون عند الله سبحانه، قال تعالى: {إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} [النمل:10].

تفسير قوله تعالى: (إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء إني غفور رحيم)

تفسير قوله تعالى: (إلا من ظلم ثم بدل حسناً بعد سوء إني غفور رحيم) ثم يشير الله سبحانه إلى أنه لا يخاف إلا من عمل عملاً سيئاً، قال تعالى: {إِلَّا مَنْ ظَلَمَ} [النمل:11]، واستثنى: {إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ} [النمل:11]، وقد يقع النبي من الأنبياء عليه الصلاة والسلام قبل البعثة وقبل الرسالة في خطأ من الأخطاء، وموسى عليه الصلاة والسلام خرج من مصر وقد وكز قبطياً فقتله، ثم قال تائباً إلى ربه: {إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ} [القصص:16]. فموسى قتل قبطياً، وهنا ذكر الله عز وجل أنه من المرسلين، فلو أنهم أخطئوا قبل الرسالة وتابوا فالله يتوب عليهم، فقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ} [النمل:11]، أي: فمن ظلم كما فعلت أنت، وقتل نفساً بغير جرم، وبغير إذن من الله سبحانه، {ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا} [النمل:11]، وتاب إلى الله من بعد هذه الإساءة، قال سبحانه: {فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النمل:11].

تفسير قوله تعالى: (وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء)

تفسير قوله تعالى: (وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء) ثم أعطاه آية أخرى، قال تعالى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [النمل:12]، فهذه آيات: النور أو النار في هذه الشجرة، ثم العصا التي انقلبت ثعباناً أو حية، ثم اليد، قال تعالى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} [النمل:12] وقال في سورة القصص: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} [القصص:32]. وجيب الإنسان: المكان الذي يدخل منه رأسه في القميص، أي: ضع يدك داخل جيب القميص وأخرجها مرة أخرى، {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ} [النمل:12]، في هذه الظلمة مثل نور الشمس، {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [النمل:12] أي: لها شعاع لا يؤذي هذه اليد ولا يحرقها، وليس فيها أذى، فليس فيها برص ولا بهق ولا مرض من الأمراض، ولكن نور من الله عز وجل في يده، قال تعالى: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} [النمل:12]، ذكر هنا قومه، وفي سورة القصص قال: وملأه، الملأ من القوم: هم الأشراف والعلية من القوم، والقوم: كل الناس الذين حول الملك، فقال هنا: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ} [النمل:12]، يعني: سنؤتيك هذه الآيات من ضمن آيات أخرى سنؤتيكها بعد ذلك. فالله سبحانه وتعالى أعطاه اليد، وأعطاه العصا، فهاتان آيتان، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف:130]، وقال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} [الأعراف:133]، فهذه تسع آيات من رب العالمين سبحانه. فكأنه قال: هذه آيات من ضمن تسع آيات سنؤتيكها: {إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [النمل:12]، أي: خارجين عن طاعة رب العالمين سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (فلما جاءتهم آياتنا مبصرة)

تفسير قوله تعالى: (فلما جاءتهم آياتنا مبصرة) قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً} [النمل:13]، وانظر إلى الاختصار لهذه القصة، فهو يذكرها في مكان آخر فيطيل فيها إطالة محببة جميلة، فنفهم منها ما يريد الله سبحانه، وهنا يختصر اختصاراً كإشارات ورموز معينة. فقوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً} [النمل:13]، أي: بينة عظيمة مشاهدة أمام الأعين من شدة وضوحها، والإنسان هو الذي يبصر ويصدق، ولكن من شدة وضوح الآيات كأنها هي نفسها ترى هؤلاء القوم. قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً} [النمل:13]، أي: بينة واضحة، {قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [النمل:13]. وعرفنا أن السحرة: هم الذين آمنوا بالآيات، وأن فرعون أصر على ما هو فيه، وجحد فرعون أي: كذب وعاند مع معرفته بالحق، قال تعالى: {وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل:14]، أي: فهم في أنفسهم مصدقون أن موسى صادق عليه الصلاة والسلام، ولكن ملك فرعون يمنعه من أن يترك الدنيا، وذلك قول الله سبحانه: {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} [النمل:4]، فالملك وما هو فيه يمنعه من أن يؤمن مع موسى؛ لأنه يعتقد أنه إذا آمن فسيضيع عليه ملكه، قال تعالى: {وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14]، أي: ظلموا أنفسهم، وظلموا غيرهم، والعلو: هو التعالي والتجبر والاستكبار، قال تعالى: {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل:14]، أي: فانظر ماذا فعلنا بفرعون، وكيف أغرقناه، وأهلكناه، ودمرناه ومن معه، وكأنه يقول لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: وكذلك تكون عاقبة كل إنسان مفسد كعاقبة هؤلاء المفسدين. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة النمل [15 - 19]

تفسير سورة النمل [15 - 19] يخبر الله سبحانه في هذه الآيات أنه أعطى أنبياءه ملكاً عظيماً فشكروه وعبدوه، ولم يجحدوه ويكفروه كما فعل غيرهم كفرعون والنمرود.

تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين)

تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا داود وسليمان علماً وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة النمل: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ * وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ * وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل:15 - 19]. هذه قصة ثانية في هذه السورة الكريمة سورة النمل، يذكر الله عز وجل فيها سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام وما حدث له. يقول سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا} [النمل:15] وداود وسليمان من أنبياء بني إسرائيل عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، آتاهما الله عز وجل علماً، وداود هو الأب وسليمان الابن، قال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا} [النمل:15]، فبعد أن ذكر الله قصة موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام مع فرعون، وكيف أنه دعاه إلى الله عز وجل فأبى فرعون وغره ملكه الذي هو فيه، وبلغ به التطاول أن قال لقومه: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، فالملك قد يدفع الإنسان إلى الجحود، وإلى الكبر، وإلى عدم قبول الحق، حتى ولو رآه أمام عينيه. ففرعون دفعه ملكه إلى الكفر بالله حتى قال لقومه: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51]، ولكن أنبياء لله عليهم الصلاة والسلام أعطاهم الله عز وجل الملك والنبوة والعلم، فما زادهم ذلك إلا تواضعاً لرب العالمين سبحانه. ومن هؤلاء: داود وسليمان، ولكن ملك داود لم يكن عظيماً كبيراً كملك سليمان، فقد كان ملكه أعظم بكثير من ملك أبيه، وعبادة أبيه كانت أعظم بكثير من عبادة سليمان. فقد أعطى الله لداود العبادة فقال: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ:10]، وهذا ملك من الملوك، ومع ذلك كان لا يأكل إلا من صنعة يده: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سبأ:10 - 11]. فعلمه الله عز وجل مهنة صناعة السوابغ من الدروع، وأن يقدر في السرد بتعليم الله عز وجل له، فيعمل الحلقة على حجم المسمار بحيث لا تنفصم الحلقة ولا تنشق عن زميلتها، فلا يزال يصنع هكذا شيئاً فشيئاً حتى يصنع درعاً سابغاً. وسليمان عليه الصلاة والسلام هو أحد الملوك الذين ملكوا الدنيا، وقد سخر الله عز وجل له الريح يصل بها إلى المكان الذي يريده، وجعل له من الجن والإنس والشياطين جنوداً، بل ومن الطير والدواب كما سيأتي. وقد كان داود أيضاً يسبح بين الجبال، ومن جمال تسبيحه وصوته، ومن شدة خشوعه تسبح الجبال معه وتردد تسبيحه، وتقف الطير عن الطيران حتى تستمع تأويبه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ:10]. والتأويب: مأخوذ من الأوبة وهي: الرجوع إلى الله، ومعناها هنا أي: رجعي الذي يقوله، وسبحي معه لله سبحانه تائبة إليه، قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا} [النمل:15] أي: نحن، فالفضل من الله، وقد عبر هنا بنون العظمة لأن هذا الإيتاء عظيم جداً يليق بأن يؤتيه الله سبحانه وتعالى، ويليق بأن ينسب إليه، فنسبه إليه بنون العظمة. ومع أن الله آتاهما الملك إلا أن العلم أعظم إذا ما قورن بالملك؛ ولأن العلم عظيم فلم يحتج هنا إلى ذكر الملك. قال: {وَقَالا} [النمل:15] أي: الاثنين: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} [النمل:15]. فقد عرفا نعمة الله عز وجل وأنه صاحب الحق سبحانه، والمتفضل عليهم بالنعمة، فقال الأب والابن: الحمد لله، أي: نثني على الله الثناء الجميل الذي يليق به سبحانه وتعالى، فهو المحمود على النعم العظيمة، فالحمد كل الحمد لله الذي فضلنا على كثير، وهنا يبدو التواضع في الكلام: {الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} [النمل:15] ولم يكن يوجد في عصرهما من هو أفضل منهما، فقد فضلهم الله على كل من في عصرهما، ومع ذلك قالا لتواضعهما: على كثير، ولم يقولا: على كل عباده. وموسى عليه الصلاة والسلام لما سئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا أعلم، عتب عليه ربه سبحانه وتعالى، وقال: لا، بل عبدنا خضر أعلم منك؛ وداود وسليمان كانا من قوم موسى عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام. قال تعالى: {وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ} [النمل:15]، يعني: فضلنا الله عز وجل على الكثير من خلقه، ولعل هناك من لا نعلم فمن فضله الله عز وجل علينا، فيسن للإنسان المؤمن أن يحمد الله سبحانه وتعالى، وأن يقول مثل ذلك، وخاصة إذا رأى مبتلى، فإذا رأى إنساناً مريضاً ابتلاه الله فليقل في نفسه: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني عليك وعلى كثير ممن خلق من عباده تفضيلاً. والإنسان إذا ذكر نعمة الله كان جزاؤه من الله أنه يمنع عنه هذا المرض إن شاء سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (وورث سليمان داود)

تفسير قوله تعالى: (وورث سليمان داود) قال الله عز وجل: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} [النمل:16]، والميراث هنا: ميراث العلم، أما ميراث الملك فقد جعل الله عز وجل لهذا ملكاً ولهذا ملكاً. وقد كان لداود أولاد غير سليمان عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، فقد قالوا: كان له تسعة عشر ولداً، ولكن الذي ورث العلم وورث النبوة وصار ملكاً بعد أبيه هو سليمان عليه الصلاة والسلام. فقد ورثه الله عز وجل العلم والنبوة وهذا أعظم الميراث، وإلا لو كان المقصود الميراث المالي لكان الإرث في التسعة عشر، وليس لسليمان فقط، إذاً: الإرث هنا: هو إرث النبوة، وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنا معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا صدقة). فالأنبياء لا يورثون معهم من الأموال؛ بل يكون بعد وفاتهم صدقة، وإنما الميراث الذي يورثه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هو العلم؛ ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر). أي: من أخذ العلم أخذ بحظ وافر فهو أعظم الميراث، فأعظم النعم التي أعطاها الله عز وجل لسليمان ولأبيه هي العلم، وهذا هو الذي ورثه داود لابنه، العلم والنبوة، كما أنه صار ملكاً من بعده. وقد قال الله سبحانه وتعالى لداود في سورة (ص): {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:26]، مع أن داود نبي عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك فإنه يحتاج للنصيحة، فغيره من باب أولى، فهو ينصح داود ويقول: لا تتبع الهوى يا داود! وأنت ملك من الملوك، فإذا اتبعت الهوى وأنت نبي ملك أضلك عن سبيل الله، قال: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ} [ص:26] أي: يتيهون، {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص:26]. وذكر داود وسليمان في سورة الأنبياء فقال: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:78 - 79]. فالله عز وجل منّ على داود بأن جعله ملكاً حاكماً، فآتاه حكماً وآتاه علماً من عنده سبحانه، وعلم سليمان أيضاً، والعلم من أعظم ما يؤتاه الإنسان، فآتى الله سليمان وآتى أباه داود علماً وحكمة ونبوة وملكاً. فذكر في سورة الأنبياء أنه فهم أحدهما أكثر من الآخر، قال: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [الأنبياء:78] والحرث: الزرع، {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} [الأنبياء:78]، قوم لهم أغنام يدعونها بجوار المزرعة، فإذا بالأغنام تدخل المزرعة، قال صلى الله عليه وسلم: (كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه). قال تعالى: {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} [الأنبياء:78] أي: أكلت وخربت الزرع وقلعته، {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ} [الأنبياء:78]، والذي يحكم هو داود وسليمان، ومع ذلك لم يقل: لحكمهما، بل قال: (لحكمهم)؛ لأنهما يحكمان في الناس، فالخصوم هم أصحاب الأرض وأصحاب الغنم، والحاكم سليمان وداود، فهم أربعة، فكنا لحكم هؤلاء الأربعة شاهدين. ثم قال تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:79]، وسليمان آتاه الله عز وجل فهماً، وآتى أباه عبادة عظيمة جداً، ولكنه ميز سليمان بفهم عظيم، وقال: {وَكُلًّا آتَيْنَا} [الأنبياء:79]، يعني: أعطينا للأب العلم والملك والحكمة والحكم، وآتينا سليمان حكمة أعظم مما آتينا أباه، فقال: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:79]، وقد كان صغيراً عليه الصلاة والسلام، وكان داود قد حكم أن قيمة ما أفسدته أغنامهم من الزرع يساوي قيمة الغنم، إذاً: تعطى الغنم لأصحاب المزرعة. وهذا الحكم فيه صواب، لكن غيره أحسن منه، فقد حكم بالقيمة عليه السلام، لكن نظرة سليمان كانت بتفهيم الله عز وجل أعظم، فلو أنهم أخذوا الأغنام لافتقر أصحابها، ولو أخذ هؤلاء الأغنام لما اعتنوا بها؛ لأنهم أصحاب زرع وحرث وليسوا أصحاب غنم، فلذلك حكم بحكم آخر وهو: أن يأخذ أصحاب الزرع الأغنام فينتفعون بها حتى يصلح أصحاب الأغنام الزرع كما كان، ثم يعيد أصحاب الحرث الغنم لأصحابها، ويعيد أصحاب الغنم الحرث لأصحابه كما كان، ففهم الله عز وجل سليمان أعظم من داود، مع ذلك لم يخطئ الله عز وجل داود، وإنما قال: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79]، وكثيرة هي الحوادث التي فهمها الله عز وجل سليمان عليه السلام، وغيبها عن أبيه عليه السلام، ومن ذلك: ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كانت امرأتان معهما ابناهما، فجاء الذئب فذهب بابن إحداهما) فالمرأة التي أكل الذئب ولدها أخذت ابن الأخرى خوفاً من زوجها فاختصمتا في الولد، فقالت الكبرى للأخرى: إنما ذهب بابنك، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فقضى به للكبرى للشواهد والأمارات التي أمامه، وظن أن الكبرى هي الصادقة. فأخذت الكبرى الغلام، فخرجتا من عند داود إلى سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فقال: ائتوني بالسكين، حتى أشق الولد بينكما نصفين، فلما قال ذلك قالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله هو ابنها. فعلم أنها هي الصادقة وأنها أمه، فالأم لا تريد قتل ابنها، وعلم أن الأخرى كاذبة، وإنما أرادت أن تتساويا في المصيبة، فيكون ابنها أكله الذئب، ويكون قد ذبح ابنها فتتساويا في المصيبة، فعلم صدق إحداهما وكذب الأخرى، فقضى به للصغرى، وهذا مما علمه الله عز وجل سليمان عليه السلام. قال تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ} [النمل:16]، وهل علموا منطق الطير فقط؟ لا، ولكن هذا الشيء من الغرائب. فقد علم علم الشريعة، وعلم ألسن الناس والجن وغيرهم، لكن أعظم من ذلك مما لا يعرفه الناس علم منطق الطير، وكيف تتكلم الطيور، إذاً: الطير لها لغة تتكلم بها، وكذلك الحشرات وغيرها من مخلوقات الله، فقد جعلها الله أمماً، وكل أمة لها لسان وطريقة تتخاطب بها مع بعضها. وهذا الذي يبحثه علم الحيوان، فإنه يبحث في لغات الطيور وكيفية كلامها، وكيف أن بعضها يرشد إلى الطريق؟ وكيف تسير النحل؟ وما هي الرقصات التي ترقصها في الهواء، والتي تدل على أنها ستذهب للخلية التي وجدت عندها العسل مثلاً. فهنا الله عز وجل علم أنبياءه منطق الطير، وأثبت في القرآن أنه جعل لها لغة، قال سليمان: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ} [النمل:16]، أي: لغة الطير: {وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل:16] وهذا من ألفاظ العموم التي يراد بها الخصوص، فالله عز وجل هو وحده الذي له كل شيء، أما غيره من خلقه فقد يؤتيه من الأشياء الكثير، فحين يقول: {وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل:16]، فإنه يعني: مما ينبغي لأمثالنا، فهو مقيد بالحسن. والعموم قد يقيد بالعقل، وقد يقيد بالخصوص وغير ذلك، فهذا من العموم الذي يراد به الخصوص، أو الذي قد خصص بالحس وبالعقل، فإن الله أعطى سليمان كل شيء يليق بمثله في ملكه. وكذلك في قوله سبحانه: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:25]، فإن الحس يدل على أن هناك مساكن موجودة، فيكون قوله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف:25] من العموم الذي يراد به الخصوص، فهي تدمر كل شيء أراد الله عز وجل تدميره. ثم قال: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} [النمل:16] أي: أنه فضل واسع عظيم بين من فضله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس)

تفسير قوله تعالى: (وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس) قال سبحانه: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ} [النمل:17]، أي: الجيش والملك العظيم، {مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل:17] فبدأ بأقوى الأشياء وهي الجن، فهي أقوى من الإنس. {فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل:17]، أي: فهم يكفون، والمعنى: وعليهم قادة لهم، والقائد يوزع الجنود ويكفهم فلا أحد يتقدم على سليمان، ولا أحد يتقدم على صفه. فهم لا يتقدمون ولا يسيرون إلا بأمر سليمان عليه الصلاة والسلام، فكان جنداً عظيماً جداً لا يعلم قدره إلا سبحانه، وقد ذكر المفسرون: أن معسكر سليمان كان مائة فرسخ طولاً، والفرسخ: حوالي خمسة كيلو، يعني: خمسمائة كيلو مليئة بالجنود. وهنا لم يذكر الله عز وجل أنهم مائة أو أقل أو أكثر، ولكن من الواضح أن أعدادهم جسيمة عظيمة، إذ لو كان عددهم قليلاً لما احتاجوا إلى من يوقفهم ويكفهم، ولكن الأعداد الكثيرة هي التي تتبعثر وتحتاج إلى من يكفها ويمنعها.

تفسير قوله تعالى: (حتى إذا أتوا على واد النمل)

تفسير قوله تعالى: (حتى إذا أتوا على واد النمل) قال سبحانه: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:18]. لقد أعطاه الله عز وجل ملكاً عظيماً جداً فهو يسير إلى أي مكان يريد أن يصل إليه، يريد أن يصل للشام أو للعراق أو إلى أدنى الأماكن أو إلى أبعد الأماكن فكلها سواء، ففي مرة من المرات أتى على وادي النمل، ولم يذكر لنا الله سبحانه مكان وادي النمل؛ لأنها من العلم الذي لا يفيد، فلا يفيدنا أن نعرف مكان وادي النمل، أو حجم هذه النملة التي كلمت سليمان، بل المهم أنها نملة من النمل الذي نعرفه كبرت أم صغرت، ولو كانت شيئاً آخر لذكر الله لنا هذا الشيء، فكونه نكر وذكر أنهم أتوا على وادي النمل وتكلمت نملة، فيكون المقصود النمل المعهود المعروف. والله عز وجل جعل للنمل لغة أيضاً تتكلم بها، ومما يثبت ذلك أن النملة تكلمت، والوادي: هو المكان المنبسط الواسع الفسيح، وقد كان فيه نمل كثير: {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:18] وسميت: النملة نملة من التنميل، وهو الحركة الكثيرة، والنملة لا تقعد أبداً فهي دائماً تعمل، فسمي النمل نملاً لكثرة حركته ولقلة قراره. والنمل له مساكن يختبئ بداخلها، قال: {لا يَحْطِمَنَّكُمْ} [النمل:18]، يعني: لئلا يحطمنكم، وهذه قراءة الجمهور، وقرأها رويس عن يعقوب {لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:18]. وتحذير النملة فيه دليل على أن النمل له عقل وفهم، فقد أعطاها الله عز وجل ما تفهم به، وفيه الحب للغير، فهي ما خافت على نفسها وهربت وحدها، ولكن أمرت باقي النمل أن تدخل المساكن حتى لا يحطمهم سليمان عليه السلام، وأيضاً فهي تفهم ما تقول، قالت: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:18]، فقد عرفت أنه نبي من أنبياء الله عليه الصلاة والسلام، وأن الأنبياء لا يظلمون؛ ولذلك التمست له العذر فقالت: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:18]. وبينت الآية كذلك: أن النمل يفهم ويعيش في جماعات، وأن له مساكن، وأنه يحذر بعضه بعضاً من ضرر يقع عليه، وعلماء الحشرات يقولون: النمل له فهم عجيب جداً، ويقولون: إن النملة من النوع الذي يدخر طعامه من الصيف للشتاء. فهو فطن وقوي وشمام جداً، ويتخذ القرى، ويشق الحب قطعتين، لأن الحبة لو ظلت على حالها لنزل عليها الماء ونبتت، فحبة الكزبرة لو شقت نصفين ونزل عليها الماء نبتت، فتقطعها النملة أربعة قطع، وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى. والحشرة هذه عاقلة، وتخاف على أخواتها فتقول: {ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:18] قالوا: النمل يأكل في عامه نصف ما يجمعه فقط، كأنه يدخر للزمن. إذاً: فقد حافظت على من معها، وتبسم وسليمان عليه الصلاة والسلام ضاحكاً من ذلك.

تفسير قوله تعالى: (فتبسم ضاحكا من قولها)

تفسير قوله تعالى: (فتبسم ضاحكاً من قولها) قال الله عز وجل: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا} [النمل:19]، وكأنه بدأ بالبسمة، ثم ضحك من عجبه. والبسمة: فتح الشفة شيئاً يسيراً، فإذا فتح فمه فقد ضحك، فإذا أخرج صوتاً فقد قهقه، فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا يتبسمون؛ ولذلك عائشة رضي الله عنها تقول عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعاً ضاحكاً قط حتى أرى لهواته، وإنما كان يتبسم)، عليه الصلاة والسلام. فنادراً ما كان يضحك صلى الله عليه وسلم حتى تبدو نواجذه، وكأن سليمان أيضاً في هذه المرة أعجبه هذا الذي قالته فضحك، وعادة الأنبياء التبسم عليهم الصلاة والسلام. قال تعالى: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل:19] ودعاء الأنبياء دعاء عظيم. وقد علم الله عز وجل المؤمنين دعاءً نحوه في سورة الأحقاف فقال: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف:15]. فينبغي على المسلم أن يدعو بمثل هذا الدعاء الكريم الطيب الموجود في سورة النمل وسورة الأحقاف، فهنا قال سليمان عليه الصلاة والسلام: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [النمل:19]، وهي جنس النعم، وإن كانت واحدة والمعنى: نعم، فتأتي النعمة في الإفراد والتثنية والجمع. إذاً: فنعمة تطلق على الواحد، والاثنين، والجمع، وعلى المذكر، والمؤنث، فعلى ذلك هنا: {وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ} [النمل:19] أي: جنس نعمك العظيمة التي أنعمت علي، فنسب الفضل لصاحبه، وكرر ذلك استلذاذاً بذكر النعمة، فقال: {نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ} [النمل:19]، ولم يقل: التي أعطيتنيها مثلاً، ولكن أنت المنعم صاحب النعم العظيمة قال: {رَبِّ أَوْزِعْنِي} [النمل:19]، أي: ادفعني لأن أشكر النعم، وأصل الوزع: الكف، وكأنه يقصد هنا: كفني عن أي شيء إلا أنني أشكر نعمك العظيمة التي أنعمت علي. وهذه قراءة الجمهور، أما قراءة ورش وقراءة البزي عن ابن كثير: (أوزعنيَ أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي)، فيذكر الإنسان النعمة عليه وعلى والديه أيضاً، ولولا أنه أنعم علينا بالوالدين لما كنا نحن. فهذه من نعم الله عز وجل على الولدين وعلينا، ولذلك قال: {أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} [النمل:19]، أي: ادفعني للعمل الصالح {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} [النمل:19]، فقيده برضا الله سبحانه؛ فقد يرى الإنسان الشيء على خلاف حقيقته، فهو يريد العمل الصالح الذي يرضي الله سبحانه وتعالى قال: {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل:19]، فطلب نفع الدنيا ونفع الآخرة، الصلاح في الدنيا، وإدخاله منهم في الآخرة، قال: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ} [النمل:19] أي: بفضل رحمتك، واجعلني مع عبادك الصالحين. فطلب أن يكون من الصالحين في الدنيا وفي الآخرة. وفي آية الأحقاف: ذكر الله عز وجل فيها الإنسان المؤمن الذي يبلغ أشد العمر فقال: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} [الأحقاف:15]، وهو وقت اكتمال كل شيء عند الإنسان، وهو سن الأربعين: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف:15]، فيستحب للمؤمن أن يقول ذلك. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن قتل النمل، فعن ابن عباس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل أربع من الدواب: الهدهد، والصرد، والنملة، والنحلة)، فلا تتعرض لها، طالما أنها ليست مؤذية، فإذا صارت مؤذية تقرص الإنسان وتؤذيه جاز له أن يدافع عن نفسه ولو بقتلها، وقد نهى عن قتل هذه الأشياء، لأنها أمم خلقها الله عز وجل تسبح ربها سبحانه، فلا معنى لقتلها من غير ذنب أذنبته، ولكن إذا آذت الإنسان جاز له أن يتخلص منها وأن يقتلها. وجاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة: (أن نملة قرصت نبياً من الأنبياء عليه الصلاة والسلام فأمر بقرية النمل فأحرقت)، وقد كان نزل تحت شجرة، فلما نام جاءت نملة وقرصته، فقام من تحت الشجرة وأخرج متاعه ثم أمر بحرق النمل، فأوحى الله عز وجل إليه: (أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبح؟ فهلا نملة واحدة؟). وكأن الله عز وجل يعاتب هذا النبي أن قتل الأمة كلها، فهي نزلت تحت شجرة وستذهب، فلا معنى أن تقتل كل هذا النمل وتحرقه، بل اقتل النملة التي قرصتك فقط، فالغرض: أن هذه أمم خلقها الله سبحانه، فإذا لم تؤذ الإنسان لم يجز التعرض لها، فإن كانت تؤذيه بالسقوط على بيته وأكل طعامه جاز له أن يقتلها، ولكن يجتنب في ذلك الحرق؛ لأن الذي يحرق هو الله سبحانه وتعالى، فما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن قتل النمل فهو محمول على غير المؤذي والله أعلم. وللحديث بقية إن شاء الله، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة النمل [20 - 31]

تفسير سورة النمل [20 - 31] لقد كان سليمان يتفقد جنوده مع كثرتهم الكاثرة، حتى إنه كان يتفقد جنوده من الحيوانات كذلك، ومنهم الطير، وكان يعاقب من يغيب بغير علمه حتى يرتدع عن ذلك هو وغيره، وفي هذا دليل على أنه ينبغي على الملك أو الأمير أن يتفقد من تحت يده.

وراثة سليمان للنبوة والملك من داود

وراثة سليمان للنبوة والملك من داود الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ * قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:20 - 31]. لقد ذكر الله عز وجل في هذه السورة قصة داود وسليمان، وكيف أن الله سبحانه من عليهما، وآتهما علماً، قال سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا} [النمل:15]، وحمدا الله سبحانه وتعالى أن فضلهما على كثير ممن خلق من عباده، قال تعالى: {وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} [النمل:15]. ثم قال: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} [النمل:16]، وداود هو الأب عليه الصلاة والسلام، فورث سليمان منه النبوة والملك دون باقي إخوته، فكان نبياً وملكاً، بل من أعظم ملوك الأرض ملكاً. فملك الأرض جميعها، فكان يتوجه حيث يريد بأمر الله سبحانه وتعالى، فقد سخر له الريح، والطير، والإنس والجن، وأعطاه ملكاً عظيماً لم يعطه أحداً من العالمين. وكان سليمان قد دعا ربه سبحانه: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص:35]، فاستجاب له ربه، وأعطاه ملكاً لم يكن لأحد من بعده. ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم في مرة من المرات وهو يصلي تفلت عليه شيطان، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يمسكه، ويخنقه حتى كاد أن يربطه في سارية من سواري المسجد ليلعب به الصبيان في الصباح، ثم تذكر دعوة سليمان: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص:35] فتركه النبي صلى الله عليه وسلم. إذاً: دعوة سليمان هي أن الله عز وجل يسخر له أشياء لا تكون لأحد من بعده. قال الله عز وجل: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ} [النمل:17]، فلقد ملك سليمان الدنيا عليه الصلاة والسلام، وآتاه الله عز وجل هؤلاء الجنود، من الجن والإنس والطير: {فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل:17] يعني: لكثرتهم العظيمة جداً، يحتاجون لمن يقودهم، ومن يكفهم، ومن يرتبهم، ومن ينظمهم، ومن يسيرهم، ومن يوقفهم، فيحتاجون لمن يوزع هؤلاء، فقال سبحانه: {فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل:17] يعني: يوجد لهم من قوادهم من يزعونهم.

تفسير قوله تعالى: (وتفقد الطير فقال مالي لا أرى الهدهد)

تفسير قوله تعالى: (وتفقد الطير فقال مالي لا أرى الهدهد) قال سبحانه: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ} [النمل:20] أي: تفقد سليمان في يوم من الأيام الطير، {فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} [النمل:20]، وكأنها سنة يعلمها الله عز وجل لولاة الأمور، فلابد أن يتدبروا وأن ينظروا في ملكهم، وفي أحوالهم، وفي شعبهم، ويتفقدوا الغائب من جندهم، فالهدهد من ضمن جند سليمان عليه الصلاة والسلام. وتفقد الشيء أي: طلب ما غاب منه، وأصله: من الفقدان، وفقد الشيء أي: غاب عنه الشيء فلم يجده. وتفقده: بحث عن هذا الشيء الغائب. فنظر في الطير ليعلم أن كلهم موجودون، مع أن الطير من أصغر جنود سليمان، ومع ذلك كان يتفقد الطير، ومعناه: أنه لن يترك الإنس والجن، إذاً: فهو يتفقد جميع جنوده. قال سبحانه: {فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ} [النمل:20]، والأصل: أن يقول: ((ما له؟)) أين هو؟ فكأنه يعجب من نفسه، ويقول: كيف ضاع مني الهدهد؟ كيف أفلت هذا الهدهد؟ {مَا لِيَ} [النمل:20] أي: عجباً لأمري، {مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} [النمل:20]، أي: هل هرب الهدهد أم لم أتنبه له؟ فإذا كان قد هرب من حراسة سليمان فسنأخذ عقوبته. وقراءة ابن كثير وابن هشام وعاصم والكسائي: {مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ} [النمل:20]، وباقي القراء يقرءونها: ((ما لِيْ لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين))، على اختلاف بينهم في (أرى) عند الوقف والوصل. فـ ورش إذا وقف عليها يقول: ((أرى)) بالتقليل، وأما حمزة والكسائي وأبو عمرو فيقرءون (أرى) بالإمالة عند الوقف عليها.

تفسير قوله تعالى: (لأعذبنه عذابا شديدا)

تفسير قوله تعالى: (لأعذبنه عذاباً شديداً) قال الله سبحانه: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل:21]، هنا الحزم، فالملك لابد أن يكون حازماً، ولو أنه ترك الصغار وشأنهم لاستهانوا به، واستهان به الكبار. ولذلك سليمان عليه الصلاة والسلام لم يفوت للهدهد غيابه عن مجلسه. قال: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا} [النمل:21]، فبدأ بالعقوبة الشديدة، {أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ} [النمل:21]، أو يعتذر، {لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل:21]، يعني: بعذر بين، وحجة تنفعه فينجو بها من العذاب والعقوبة. قال: {أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل:21]، وهذه قراءة الجمهور. وقراءة ابن كثير: ((ليأتينني بسلطان مبين)) أي: بحجة بينة واضحة نعذره بها.

تفسير قوله تعالى: (فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به)

تفسير قوله تعالى: (فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به) قال تعالى: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [النمل:22]، قوله: ((فَمَكَثَ))، إما أن سليمان مكث فترة ثم بعد ذلك ظهر له الهدهد، أو أن الهدهد طالت غيبته فترة ثم ظهر بعد ذلك. وقراءة عاصم والكسائي وخلف: ((مَكَثَ)). وقراءة باقي القراء: ((فمَكُثَ غير بعيد)) قال الله تعالى: {فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل:22]، لقد ظهر الهدهد وجاء إلى سليمان وقال مفتخراً على سليمان: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل:22]، يعني: إذا كنت تبحث عني فإني قد اطلعت على شيء لا تعلمه أنت، والعلم فخر لصاحبه، وهذا هو عذره الذي أفلت بسببه من الذبح ومن التعذيب. {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل:22]، يعني: دريت وعلمت علم إحاطة بأمر لا تعرف عنه شيئاً، مع أنك في الشام واليمن قريبة منك، وهو يحصل في اليمن، وهو أنهم يعبدون غير الله سبحانه. {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل:22]، وسبأ: بلدة في اليمن، وهي إما أنها: اسم رجل فتكون على ذلك مصروفة، كما هي قراءة الجمهور: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل:22]. وإما أنها: اسم بلدة فتمنع من الصرف للعلمية والتأنيث الذي فيها؛ ولذلك يقرأها البزي وأبو عمرو: ((وجئتك من سبأَ بنبإٍ يقين)) على المنع من الصرف، ويقرأها قنبل عن ابن كثير: ((وجئتك من سبأْ بنبإٍ يقين))، ففيها ثلاث قراءات.

تفسير قوله تعالى: (إني وجدت امرأة تملكهم)

تفسير قوله تعالى: (إني وجدت امرأة تملكهم) قال الله تعالى: {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل:23]، وانظر هنا! فهو لم يأته بخبر ظن، ولم يسمع من أحد، وإنما رأى بنفسه هذا الشيء، فما الذي رآه الهدهد؟ قال: {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} [النمل:23] أي: أنت رجل تحكم البلد، وهم تحكمهم امرأة، وتملكهم أي: هي ملكة عليهم. قال: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل:23]، يعني: أن الله عز وجل أعطاها من كل شيء، وهذا من العام المخصوص بالحس، أو من العام الذي لا يراد عمومه، وإنما يراد الخصوص الذي فيه، يعني: أن الله آتى هذه المرأة من كل شيء يجوز لمثلها أن تمتلكه وأن تكون ملكة عليه، لكن ليس كل شيء أعطاها، فهو لم يعطها شيئاً من الجنة مثلاً، ولكن أعطاها من الدنيا ما يليق بمثلها، إذاً: فكل من ألفاظ العموم، يقول: {كُلِّ شَيْءٍ} [النمل:23]، ولكن هنا لا يراد بها العموم، وإنما يراد بها العموم المخصوص بالحس. والحس: هو أن الإنسان يرى ببصره، ويسمع بأذنه عن أشياء لم تؤتها هذه المرأة، قال: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل:23]، وقد كانت هذه المرأة أمرت بصنع سرير لملكها، وسرير الملك يسمى بالعرش، وهو الكرسي الذي يجلس عليه الملك، ولكنها بالغت فيه مبالغة فخمة عظيمة، وقد ذكروا من الفخامة التي كان عليها هذا الكرسي: أن كثيراً منه مصنوع من الذهب والياقوت، والله عز وجل ذكر أنه: {عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل:23]، يعني: عرش كبير وفخم وغال جداً.

تفسير قوله تعالى: (وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله)

تفسير قوله تعالى: (وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله) قال الله تعالى: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} [النمل:24]، أي: مع أن الله عز وجل أعطاهم هذه النعم، وقد رأى ذلك بنفسه. قال: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} [النمل:24]، فقد عبدوا الشمس من دون الله سبحانه، والذي زين لهم عبادة غير الله سبحانه: هو الشيطان، {فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} [النمل:24]، أي: صدهم عن الهدى، وصدهم عن طريق الله سبحانه بأن زين لهم أن يعبدوا مخلوقاً خلقه الله سبحانه، فعبدوا الشمس من دون الله، {فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} [النمل:24]، يعني: لا يفهمون ولا يعقلون، ولا يهتدون إلى سبيل الحق حتى يتبعوه.

تفسير قوله تعالى: (ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض)

تفسير قوله تعالى: (ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض) قال الله تعالى: {أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النمل:25] أي: فبدلاً من أن يسجدوا للشمس من دون الله، يسجدوا لله سبحانه وتعالى. قوله: {أَلَّا يَسْجُدُوا} [النمل:25]، إما تعقيب من الرب سبحانه وتعالى، وكأنه يقول: هلا سجدوا للرب الذي خلقهم سبحانه؟ فيكون اعتراضاً في ثنايا الكلام من الله سبحانه وتعالى على عبادة هؤلاء، أو أن هذا جواب من سليمان عليه الصلاة والسلام لما قال له الهدهد: {يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ} [النمل:24] قال: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ} [النمل:25] أي: فبدلاً من أن يسجدوا للشمس من دون الله، يسجدوا لله، أو أنه من كلام الهدهد نفسه، فهو يقول: فهلا سجدوا لله بدلاً من هذه الشمس؟ قال: {أَلَّا يَسْجُدُوا} [النمل:25]، وهذه قراءة الجمهور. وقراءة أبي جعفر وقراءة الكسائي وقراءة رويس عن يعقوب: ((ألا)) بالتخفيف، فهما قراءتان: قراءة بالتشديد: {أَلَّا يَسْجُدُوا} [النمل:25]، ومعناها: هلا سجدوا، فهو أسلوب تحضيض وحث، أي: اسجدوا لله سبحانه ولا تسجدوا لهذه الشمس ولا للقمر. وعلى القراءة الأخرى التي هي قراءة أبي جعفر والكسائي ورويس عن يعقوب: ((ألا يسجدوا)) فيكون معناها: هلا سجدوا لله سبحانه؟ وكأنها للنداء، فيكون: ألا يا قوم! اسجدوا لله، فكأن هناك شيء محذوف تقديره: يا قوم! ألا يا قوم! اسجدوا لله، فحذفت فصارت: ((ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء))، والله سبحانه الذي يعلم السر والعلن، ويعلم ما هو أخفى من ذلك. والله هو الذي يخرج الخبء، يعني: الشيء المخبوء المستتر في السموات وفي الأرض، فلا يخفى عليه شيء سبحانه وتعالى، فبدلاً من أن يسجدوا للشمس التي لا تعلم شيئاً إلا ما يأمرها به ربها سبحانه، فهلا سجدوا لله الذي يعلم كل شيء، ويخرج ما اختبأ في السموات وداخل الأرض؟ قال: {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ} [النمل:25] أي: فكما أنه علم بما اختبأ في السموات وفي الأرض، فإنه يعلم ما تخفيه أنت في نفسك، ويعلم السر والجهر، ويعلم ما هو أخفى من السر. و ((تُخْفُونَ)) بالخطاب، قراءة حفص عن عاصم، وقراءة الكسائي. وباقي القراء يقرءونها: ((ويعلم ما يخفون وما يعلنون)) للغائب، يعني: ما يخفي الخلق وما يعلنون.

تفسير قوله تعالى: (الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم)

تفسير قوله تعالى: (الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم) قال الله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل:26]، وهذا من كلام الهدهد يخبر عن ربه سبحانه، فكأنه يقول: هذه المرأة لها عرش عظيم، ولكن أي عرش هذا؟! الله هو صاحب أعظم عرش، الله هو رب العرش العظيم سبحانه الذي ليس مثله عروش البشر. {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [النمل:26]، يعني: الله المعبود الذي يستحق وحده العبادة. فلا معبود بحق سواه، لا شمس ولا قمر ولا غيرها. قال: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل:26] أي: خالق العرش العظيم هو الرب سبحانه الذي يدبر أمر الكون. وقد وصف عرشها بأنه عرش عظيم، عظمة تليق بحقارتها هي، وحقارة الإنسان، إذاً: الإنسان قد يرى الشيء من الذهب والفضة عظيماً! أما عند الله فلا يساوي شيئاً، فكل الدنيا مهما تعاظمت عند الخلق فلا تساوي عند الله جناح بعوضة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء) فهذه هي الدنيا. أما الآخرة فهي الأعظم، وعرش الله سبحانه هو الذي يستحق أن يقال عنه: إنه هو العرش العظيم، والله عز وجل خلق العرش، واستوى عليه كما قال سبحانه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، استواء يليق به سبحانه وتعالى، وهو مستغن عن العرش وما تحته. والسموات عظيمة عالية، وكرسي الله عز وجل فوق سمواته سبحانه، ولو جمعت السموات كلها والأرضون بجانب الكرسي لم تكن إلا كحلقة في فلاة، والكرسي العظيم لو قورن بعرش رب العالمين سبحانه كان كحلقة في فلاة، وهذه نسبة الكرسي إلى العرش، فكيف يكون هذا العرش الذي استغنى عنه ربنا سبحانه؟ والعرش يمسكه الرحمن سبحانه وتعالى أن يزول، قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:41]، فمن يمسك السموات والأرض من بعد الله سبحانه وتعالى؟ لا أحد، فالكل يحتاج إلى الله عز وجل، العرش فما دونه، والله مستغن عن الجميع، وهو فوق عرشه، وعرشه فوق سماواته سبحانه. إذاً: الهدهد قال لسليمان عليه الصلاة والسلام: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل:22] أي: عندي الذي ليس عندك، أنا عرفت ما لا تعرفه، أنا صغير ولكن أعرف أشياء لا تعرفها أنت، قال الله عز وجل: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76]، إذاً: الإنسان لا يفتخر بعلمه، ولا يتعالى على الناس بأن علمه الله عز وجل شيئاً، فهو لا يدري لعله علم غيره ما لا يعلمه هو، ولم يقدره له. فهنا لما قال الهدهد ذلك لسليمان عرفنا أن الصغير قد يعلم أشياء لا يعلمها الكبير، وقد جاء مثل ذلك عن أصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه، فقد علم البعض منهم أشياء لم يعلمها البعض الآخر. فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع جلالته وإمامته رضي الله تعالى عنه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: إنه أحد العشرة المبشرين بالجنة، وقال فيه: (لو كان من أمتي محدث لكان عمر) إلا أن هناك أشياء لم يعرفها عمر رضي الله عنه، وعرفها غيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. من ذلك: الاستئذان الذي يعلمه الكثيرون من الصحابة، كان لا يعرفه عمر رضي الله تعالى عنه، فذهب إليه أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الأفاضل وهو: أبو موسى الأشعري فاستأذن على عمر الأولى والثانية والثالثة فلم يأذن له عمر رضي الله عنه، فانصرف أبو موسى فإذا بـ عمر يقول: إلي به، أحضروه، فيأتي أبو موسى فيقول: عمر ما الذي صرفك؟ قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فلينصرف) فانصرفت، فقال: إما أن تأتي ببينة على هذا أو أوجعك ضرباً؛ لأنك تكذب على النبي صلى الله عليه وسلم. فذهب أبو موسى مذعوراً رضي الله تعالى عنه، فجاء إلى مجلس من الأنصار فيهم: أبي بن كعب وفيهم: أبو سعيد الخدري وهو مذعور، فقالوا: ما لك؟! فأخبرهم بالخبر، فضحك الجميع من أن عمر لا يعرف هذا! وقالوا: والله لا يقوم معك إلا أصغرنا، أي: أن أصغر شخص فينا هو الذي سيعلم عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه. فكان أصغرهم أبا سعيد الخدري رضي الله عنه، فقام لـ عمر رضي الله عنه وشهد بصدق كلام أبي موسى، ثم جاء خلفه مباشرة أبي بن كعب وهو سيد من سادات الأنصار، بل سيد القراء، كما لقبه بذلك عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، وقال له: يا عمر! لا تكن حرباً على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: أنه علم ما لم تعمله أنت، فقال: إنما أردت أن أتثبت، يعني: هل هذا الخبر قاله النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟ فهنا عمر مع جلالته لم يعرف هذا الأدب من آداب الاستئذان، وأن للإنسان أن يستأذن ثلاث مرات فقط فإن أذن له وإلا انصرف. كذلك: التيمم، فقد خفي على عمر رضي الله عنه، مع أنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، فكان عمار قد علم ذلك وحدث به، فأرسل إليه عمر يحذره من التحديث بأمر التيمم، فقال: إن شئت لم أحدث به، وتول ما تولاه، يعني: إذا أردت ألا أتكلم وألا أحدث به الناس فسأفعل، فقال عمر: لا، فـ عمار يذكره: أما تذكر إذ بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأنت إلى مكان كذا، فأجنبنا فلم نجد ماء، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمرغت في التراب، فلما أتينا النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما يكفيك هكذا) وعلمه التيمم، ضربة باليدين على الأرض ثم مسح الوجه والكفين، فلم يتذكر عمر رضي الله عنه الحادثة التي حصلت له هو رضي الله تبارك وتعالى عنه، قال تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76]. أيضاً: جاء في أمر المرأة الحائض: أنها إذا طافت طواف الإفاضة ثم حاضت قبل طواف الوداع فلتنفر طالما أنها طافت طواف الإفاضة، فهذا الحكم لم يعرفه البعض من كبار الصحابة منهم: عمر ومنهم: زيد بن ثابت رضي الله عنهما، وعرفه من صغار الصحابة عبد الله بن عباس رضي الله عنه، والذي توفي عنه النبي صلى الله عليه وسلم وعمره ثلاثة عشر عاماً رضي الله تبارك وتعالى عنه. كذلك: غسل رأس المحرم، فالإنسان إذا كان محرماً جاز له أن يغسل رأسه، عرفه ابن عباس ولم يعرفه المسور بن مخرمة رضي الله تبارك وتعالى عنه، وأحكام كثيرة من هذا الباب عرفها البعض من الصحابة ولم يعرفها البعض الآخر، وليس هذا عيباً، فالله عز وجل يخبرنا أن فوق كل ذي علم عليم، والعيب: هو أن يزعم الإنسان أنه يعرف كل شيء، والله عز وجل قد أخبر عن الإنسان أنه جهول، قال سبحانه: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72]، فالإنسان فيه جهل في نفسه، فهو يجهل قدر نفسه، ويجهل حقارة نفسه، ويجهل قدر خالقه العظيم سبحانه، ولذلك يقول الله عز وجل: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر:67]، أي: لو عرفوا الله عز وجل حق المعرفة وعرفوا قدره حق المعرفة، لعبدوه العبادة التي تليق به سبحانه وتعالى. وهنا في هذه الآيات لما قال الهدهد: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل:22]، لم يجب عليه سليمان في هذا الأمر؛ لأنه تعالى عليه بالعلم، فكان الجواب من سليمان اللائق بذلك هو ما ذكره الله في الآية التي تليها.

تفسير قوله تعالى: (قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين)

تفسير قوله تعالى: (قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين) قال الله تعالى: {سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} [النمل:27 - 28]، فإما أن يكون عندك ما ليس عندنا، أو أنك تكذب، فسنفتش في حالك وننظر ونتحرى في الأمر، {أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النمل:27]. ثم قال سبحانه: {اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} [النمل:28]، ولاحظ أن سليمان لما قال له الهدهد: {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} [النمل:23]، لم يقل شيئاً، ولما أخبره: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل:23]، لم يقل شيئاً، فلما قال له: {يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [النمل:24]، كان لا بد أن يتكلم، ولا بد أن يدعو إلى الله سبحانه، لذلك قال: {اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} [النمل:28]، يعني: اذهب بهذا الكتاب وهو عبارة عن رسالة يدعوهم فيها إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وينظر {مَاذَا يَرْجِعُونَ} [النمل:28]، فكتب له كتاباً وأمره أن يذهب إلى هذه المرأة وإلى قومها. وقوله: {اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ} [النمل:28]، فيها ثلاث قراءات: القراءة الأولى: قراءة أبي جعفر وقراءة أبي عمرو وقراءة عاصم وقراءة حمزة أيضاً: {فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} [النمل:28] بالسكون! ويقرؤها قالون وهشام بخلفه ويعقوب: ((فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ)) باختلاس الكسرة. وباقي القراء يقرءونها بالإشباع وكأنها ياء: ((فألقهِ إليهم)). إذاً: في هذه الآية دليل على إرسال الكتب إلى المشركين وتبلغيهم دعوة رب العالمين سبحانه، وقد فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كتب الكتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى غيرهم من الملوك، يدعوهم إلى الله سبحانه، فيقول: أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى دين رب العالمين. وفي قصة سليمان مع الهدهد لما أمره أن يذهب بالكتاب تعليم للأدب في ذلك، فقد أمره أن يضع الكتاب عندهم، ثم يتولى عنهم، أي: أعطهم فرصة يقرءون فيها الكتاب، وراقبهم ماذا سيفعلون؟ وانظر ماذا يرجعون؟ أي: في ردهم فيما بينهم. والملكة كانت تسمى: بلقيساً، فقد كانت ملكة سبأ وذكر الله عنها أن لها عرشاً عظيماً، فملكت قومها وساستهم، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) فلا ينبغي في دين الإسلام أن تكون المرأة حاكمة، أو تكون خليفة، أو تكون أميرة على الناس، فهذا ليس من وظيفة النساء، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا وصل الأمر إلى ذلك، وأصبحت المرأة رئيسة على الناس، وأميرة عليهم فإن هؤلاء قوم لا يستحقون الفلاح، (لن يفلح قوم) أي: لا في الدنيا ولا في الآخرة إذا ولوا أمرهم امرأة، وقد أخبرنا الله سبحانه على لسان النبي صلى الله عليه وسلم: أن النساء ناقصات عقل ودين، فإذا جاء الرجال وجعلوا الناقصات فوقهم فعلى ذلك لن يفلح الجميع، قال: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) إذاً: النساء ليس لهن من أمر ولاية المسلمين أو إمارة المسلمين شيء. أما الكفار فكان عندهم ذلك، فهؤلاء ولوا عليهم هذه المرأة، وكذلك لما قتل كسرى ولوا بعده ابنته عليهم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) فدمر الله عز وجل ملكها، وتمزق ملكهم بعد ذلك. قال سليمان هنا: {ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ} [النمل:28]: وفيه حسن الأدب بالتنحي مع من تعطيه كتاباً، فإذا فتح إنسان رسالة أو كتاباً من أحد فلا تنظر معه ولا تقرأ الكتاب، ولا تظل واقفاً بجواره، ولكن الأدب أن تبتعد عنه قليلاً حتى يقرأ الكتاب ثم يعطي الرد بعد ذلك، قال: {فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} [النمل:28]. وذهب الهدهد إلى هنالك، ولم يذكر لنا ربنا سبحانه وتعالى كيف رجع إلى هذه الململكة، وانظر الفرق بين القصص القرآني وبين الحكايات التي يذكرها البشر، إذ لو كانت حكاية يذكرها البشر لقالوا: الهدهد أخذ الكتاب وطار به، ووصل إلى هنالك، وجلس ينتظر فرصة من أجل أن ينزل عليهم الكتاب، وألقى عليهم الكتاب، وهذه كلها أشياء لا تفيدنا في شيء، ولذلك يعرض عنها القرآن.

تفسير قوله تعالى: (قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري)

تفسير قوله تعالى: (قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري) قال الله تعالى: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل:29]، إذاً: الكتاب وصل على الصورة التي أرادها سليمان، وقرأت الكتاب وهذا هو الذي يريده سليمان، {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ} [النمل:29]، وفيها: احترام الملك للوزراء الذين عنده، والملأ: الأشراف، يعني: يا أكابر القوم! فهي تحترم من معها حتى يحترموها، ففيها كيف يتعامل الملك، وكيف يتعامل الكبير مع من حوله، فلا يتعامل معهم بالاحتقار، أو أن رأيي فوق رأي الجميع، وأنا أفهم وغيري لا يفهم شيئاً، وكلام هذه المرأة يدل على أنها كانت امرأة عاقلة. {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل:29] وكسرى عندما وصل إليه خطاب النبي صلى الله عليه وسلم مزقه فوراً، فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (مزق الله ملكه)، فمزق الله سبحانه ملكه. لكن المرأة تأدبت، وهي لا تعرف كيف هي قوة سليمان؟ والذي استطاع أن يوصل إلي هذه الرسالة، ماذا يستطيع أن يفعل معي؟ لذلك احتاطت في كلامها، وكبرت القوم بقولها: {يَا أَيُّهَا المَلَأُ} [النمل:29]، أي: علية القوم وأشرافهم. {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ} [النمل:29] أي: لم يأت بهذا الكتاب رسول وإنما إلقي إلي، ونزل إلي من السماء. {كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل:29]، فوصفت الكتاب بأنه كتاب كريم؛ لأدب سليمان عليه الصلاة والسلام، فأدبه في الخطاب الذي أرسله إليها، هو الذي دفعها إلى أن تقول بأنه: {كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل:29]. وقد قالوا: وصفته بذلك لما تضمن من لين القول، فإن سليمان عليه الصلاة والسلام أرسل إليها بقول لين، وليس بقول شديد، يعظها فيه، ويأمرهم بعبادة الله سبحانه وتعالى، قالوا: كان فيه الموعظة في الدعاء إلى عبادة الله سبحانه، وفيه حسن الاستلطاف من غير أن يتضمن سباً ولا لعناً، ولا شيئاً يغير النفوس، فكان الكتاب كتاباً كريماً من سليمان. وهذه عادة الرسل، فإن الله سبحانه وتعالى لما أرسل موسى وهارون إلى فرعون قال: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] مع أن فرعون قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وقال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} [الزخرف:51] {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف:54] وقال: {فَأوْقِد لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [القصص:38]، فكان كذاباً سفيهاً، متعالياً جباراً، ومع ذلك أمر الله عز وجل موسى عليه الصلاة والسلام وأخاه أن يقولا له قولاً ليناً، وهكذا يجب أن يكون الخطاب مع من تدعوهم إلى الله عز وجل، خطاباً ليناً، فقالت المرأة لما وجدت الخطاب ليناً: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل:29].

تفسير قوله تعالى: (إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم)

تفسير قوله تعالى: (إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم) قال الله تعالى: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل:30]، أي: هذا الكتاب مختوم من رجل اسمه سليمان، ولعلها سمعت عنه ولكنه لم يسمع عنها. قال: {وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل:30]، وهذه البسملة الوحيدة في القرآن كله، والتي اتفق على أنها بعض آية من هذه السورة الكريمة واختلف في غيرها، وإن كان الجمهور على أنها آية كاملة في أول الفاتحة، وهذا هو الصحيح، والبعض على أنها آية منفصلة في كل سورة. والصواب: أنها آية منفصلة في أول كل سورة، إلا الفاتحة فهي أول آية فيها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها). فبدأ خطابه ببسم الله الرحمن الرحيم، ومن السنة: أنك عندما تبدأ الكتاب تبدأه ببسم الله الرحمن الرحيم. فقوله: {بِسْمِ اللَّهِ} [النمل:30] أي: ابتدائي مستعيناً ببسم الله سبحانه وتعالى، فأستعين بالله سبحانه، ذاكراً اسمه مبتدأً به، باسم الله المعبود {الرَّحْمَنِ} [النمل:30]، العظيم الرحمة لجميع خلقه في الدنيا وفي الآخرة. {الرَّحِيمِ} [النمل:30]، بالمؤمنين سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (ألا تعلوا علي واتوني مسلمين)

تفسير قوله تعالى: (ألا تعلوا علي واتوني مسلمين) قال تعالى: {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:31]. أي: احذروا من الكبر، واحذروا من ترك عبادة الله سبحانه. {وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:31] أي: تعالوا إلي مستسلمين لله رب العالمين، عابدين الله، تاركين هذه الشمس التي تعبدونها من دون الله، فالكتاب فيه الاختصار، وفيه الحزم. فقد حذرهم فيه من الكبر، ومن عدم تأمل العواقب، وبدأ بذكر اسمه، فقال: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل:30] ثم بدأ بذكر الله المعبود الذي يستحق وحده العبادة، وذكر اسمين من أسمائه اللطيفة الكريمة، وهي أنه رحمن ورحيم. فكأنه قال لها: إنك إذا عبدت الله فهو الذي سيرحمك سبحانه وتعالى. قالوا: وفيه من السنن: أنك عندما تكتب لإنسان فتبدأ بذكر نفسك فتقول: من فلان إلى فلان. وكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكتب إلى الملوك وإلى غيرهم، فيقول: من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فلان بن فلان، ففيه: أنك تبدأ بالإخبار عن نفسك. وبعض أهل اللغة فرقوا بين من يكتب إلى كبير من القوم، ومن يكتب إلى غيره. فقالوا: إذا كتب إلى كبير كالذي يكتب إلى والده، أو إلى إنسان كبير في الرتبة وغيرها، فليبدأ به يقول: إلى فلان من فلان. ولكن هنا في القرآن ذكر لنا ربنا سبحانه وتعالى: أنه بدأ باسمه هو فقال: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:30 - 31] فبدأت تتشاور مع قومها في الذي ستفعله في ذلك؟ أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة النمل [29 - 38]

تفسير سورة النمل [29 - 38] ذكر الله تعالى في هذه الآيات بعضاً من قصة بلقيس ملكة سبأ مع سليمان عليه السلام، فلما أن أرسل سليمان الهدهد بالرسالة إليها فقرأتها ثم مدحتها ووصفتها بالكرم، وأنه خطاب لا على عادة أهل التكبر والطيش، بل هو كلام محكم موزون، قليل المبنى، كثير المعنى، ابتدأ بذكر المرسل، ثم الاستعانة بالله، ثم الأمر لها بعدم العلو والتكبر على دين الله ونبيه، وأن تأتي إليه مع قومها مسلمين، وكانت عاقلة ذكية، فاستشارت قومها واستقر الرأي على إرسال هدية إلى سليمان؛ لتعرف بها حاله أهو نبي فيتبع أم ملك فيقاتل؟ وكان مآل هذه الملكة وقومها إلى الإسلام واتباع نبي الله سليمان عليه السلام.

دعوة سليمان لبلقيس وقومها إلى التوحيد

دعوة سليمان لبلقيس وقومها إلى التوحيد الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:29 - 31]. يخبرنا الله سبحانه وتعالى عن قصة بلقيس لما جاءها الهدهد برسالة سليمان عليه الصلاة والسلام، وكيف أنه أرسل الهدهد بهذه الرسالة إليها. وقد ابتدأ هذه الرسالة بقوله: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل:30]. وهذا الخطاب الذي أرسله سليمان عليه السلام لـ بلقيس كان فيه دعوتها إلى توحيد رب العالمين سبحانه، وأن تأتي مذعنة خاضعة لرسول رب العالمين عليه الصلاة والسلام، فأرسل إليها: {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:31]، أي: مستسلمين للرب سبحانه وتعالى، وألا تعبدوا غيره من المعبودات الباطلة. وقدمنا: أن سليمان عليه الصلاة والسلام كان قد افتقد الهدهد مرة، فلما سأل عن الهدهد ولم يجده، توعده وقال: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل:21] قال تعالى: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [النمل:22]، يعني: وظهر الهدهد وجاء إلى سليمان عليه السلام وقال: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل:22] يعني: علمت علماً لا تعلمه أنت، وأحطت بخبر في بلاد قريبة منك وأنت لا تعلم عنها شيئاً، وكان سليمان بالشام وهؤلاء باليمن. فقال: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل:22]، أي: نبأ ليس كذباً، وليس عن طريق أحد غيري، بل أنا الذي رأيت بنفسي، وليس المخبر كالمعاين، فالذي يعاين الخبر ويراه يكون منه على يقين، أما الذي يخبر عنه فليس على مثل يقين المشاهد. والنبأ معناه: الخبر الذي غاب عن الإنسان، ومنه النبي والنبيء، يعني: الذي ينبأ بأخبار من الغيب لم يكن يعرفها، ولا يعرفها أحد من البشر سواه، فيخبره الله عز وجل بالنبوءة بأخبار الغيب. والخبر هو: أني وجدت امرأة ملكة على بلاد اليمن، وهي ملكة سبأ، وهذه المرأة لها عرش عظيم، غير أنها تعبد هي وقومها الشمس من دون الله. وهذه المرأة كانت غنية جداً؛ ولذلك الهدهد يقول لسليمان عليه السلام: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل:23]، يعني: مما يؤتاه البشر، فقد أوتيت أشياء كثيرة مما يؤتاه البشر، وأوتيت غنى عظيماً، ولها عرش عظيم يدل على قدرة من معها على البناء وعلى الصنع وعلى التجميل، وهذا العرش قد انبهر منه الهدهد ووصفه بأنه عرش عظيم. فلما قال ذلك لسليمان، وأنهم يعبدون غير الله سبحانه قال: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} [النمل:24]، قال الله عز وجل: أو قال سليمان تعقيباً على كلام الهدهد: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النمل:25]، أو قالها الهدهد. وفي هذه قراءتان: الأولى: (ألَا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء). بتخفيف اللام في (ألا) والثانية: (ألَّا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء). بالتشديد. والمعنى: التحضيض والحسم، هلا سجدوا لله بدلاً من هذه الأشياء الباطلة التي يعبدونها من دون الله سبحانه؟ فلما سمع سليمان عليه الصلاة والسلام من الهدهد ذلك: {قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النمل:27] يعني: هل هو يتعلل لأنه غاب وسليمان هدده بأن يذبحه أو يعذبه عذاباً عظيماً، أم هو صادق في كلامه؟ {قَالَ سَنَنظُرُ} [النمل:27]، يعني: نتحرى، وكأن القرآن هنا يشير إلينا أن الإنسان لا يندفع، وليأتس بهؤلاء الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام، فسليمان عليه السلام تهدد وتوعد الهدهد وقال: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل:21]. فإذاً: يجب على الإنسان إذا غضب من شيء أن ينتظر حتى يهدأ وحتى ينظر في الذي عند هذا الآخر من العذر، فإذا أخبره بعذره قبل هذا العذر. ولذلك قال سليمان عليه الصلاة والسلام: {أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل:21] يعني: بعذر بين أو بحجة قاطعة، فجاء الهدهد بهذا الخبر فقال سليمان: {قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النمل:27]. ثم قال له: {اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} [النمل:28]، فأخذ الهدهد كتاب سليمان، وذهب إليهم، وألقاه إلى هذه الملكة. فلما رأت الكتاب، وقد علمت أنه لم يأتها به أحد من البشر، أدركت أن هذا الخطاب أتى من فوق، ثم فتحت الخطاب، فقالت: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل:30]، فهذا الخطاب الكريم من سليمان. ثم قال تعالى: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كريم} [النمل:29]، وكتاب معناه: مكتوب، يعني: رسالة مكتوبة، ومكتوب فيه: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل:30]، فكأنه قدم نفسه، بحيث لو كانت غبية أو متطاولة فشتمت أو سبت كان شتمها وسبها لأول من ذكر، ولا تسب الله تعالى، فلذلك بدأ باسمه هو فقال: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:30 - 31]. فذكر كلمات قليلة يسيره فيها البدء بالمرسل، ثم ذكر الله الخالق سبحانه ببعض صفاته العظيمة، وفيه التلطف مع هذه المرأة لعلها تستجيب وتدخل في هذا الدين. ولذلك لما وجدت هذه الصيغة قالت: {كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل:29] يعني: لم يبدأ بالشتم والتهديد، ولكن بدأ ببسم الله الرحمن الرحيم. وقوله: {وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل:30]، دال على أن الله هو المعبود سبحانه وتعالى، وكأنه يقول: أنا أكتب كتابي هذا مستعيناً بالله وحده سبحانه الذي هو الإله المألوه الذي يستحق العبادة وحده، كذلك هو الرحمن الذي يرحم عباده في الدنيا وفي الآخرة، وهو الرحيم سبحانه. فالرحمن صاحب الرحمة التي تعم الخلق جميعهم، والرحيم صاحب الرحمة العظيمة الخاصة بالمؤمنين. قال سليمان: {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ} [النمل:31]، وهذا هو مضمون الخطاب: لا تعلوا علي، ولا تستكبروا، ثم قال: {وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:31]، أي: مستسلمين لله رب العالمين، طائعين عابدين له لا تعبدون غيره سبحانه. فلما قرأت على قومها الكتاب، أو أخبرتهم بمضمونه، أظهرت هنا حكمتها، وأنها ليست مندفعة، فلم تندفع في التهديد والوعيد، مع أنه ذكر عنها أنها تملك جيشاً عظيماً جداً، ويكفي في قوتهم ما صرح الله عز وجل به هنا من كلام جنودها وقادتهم لما قالوا: {نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ} [النمل:33]، فأثبت الله سبحانه وتعالى ذلك، ولم يكذب ما قالوه، فهم أصحاب قوة عظيمة في أبدانهم، وأصحاب قوة عند القتال.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون) ثم قالت مستشيرة لهؤلاء الأقوام: {يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ} [النمل:32]. قَالَتْ: (يَا أَيُّهَا المَلَأُ)، ولم تقل: يا أيها الناس! فهي لم تخاطب الجميع، بل خاطبت القواد والوزراء، إذاً: فقد كان لها مجلس شورى مكون من أكابر القوم، وفي استشارتهم دليل على حلمها وعلمها وحكمتها. فالإنسان الذي لا يستشير إنسان أحمق، وفيه غباء واندفاع وطيش، وهذا يرى أنه وحده الذي يفهم الأمر وغيره لا يستحق أن يفكر، ولا يستحق أن يؤخذ برأيه، أما الإنسان الحكيم فهو الذي يستشير. ثم قالت: {مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا} [النمل:32]، يعني: لم أكن منفذة أمراً، ولا سأقضي في هذه القضية بشيء، ولا أفصل برأي من الآراء حتى تشهدوا مجلسي وتسمعوا مني وأسمع منكم، ثم نخرج برأي يتفق عليه الجميع. وفي قوله تعالى عنها: (حتى تشهدون) قراءتان: قراءة الجمهور: (حتى تشهدون)، فإذا وصلوا فسيكون النون مكسوراً. أما قراءة يعقوب فبالياء في آخرها: (حتى تشهدوني)، سواء وصل أم وقف.

تفسير قوله تعالى: (قالوا نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد)

تفسير قوله تعالى: (قالوا نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد) قال تعالى عن قومها: {قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ} [النمل:33]، يعني: في أبداننا، وعدة الحرب موجودة عندنا. ونحن {وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ} [النمل:33]، أي: ومجربون في القتال، ولدينا صلابة وقوة عند القتال. ثم أظهروا أيضاً التواضع معها فقالوا: {وَالأَمْرُ إِلَيْكِ} [النمل:33]، يعني: اصنعي ما ترينه مناسباً. فهي تواضعت وسألت، وهم تواضعوا وقالوا: {وَالأَمْرُ إِلَيْكِ} [النمل:33]، فردوا الأمر إليها. قالوا: {فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} [النمل:33]، يعني: نحن طوع أمرك.

تفسير قوله تعالى: (قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها)

تفسير قوله تعالى: (قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها) وهنا أيضاً ظهرت حكمتها وحنكتها وسياستها، وأنها كانت عاقلة، فلم تقل: أنتم عددكم كبير وألوف، فنبعث له جيشاً لتدميره، ولكن قالت لهم حتى تريهم رأيها: افرضوا أننا انهزمنا؟ فسيدخل هذا الملك بمن معه بلادنا فيدمرها ويذل سادة القوم؛ ولذلك قالت: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} [النمل:34]. وهذا حاصل في غير جند الإسلام، فإنهم يدخلون القرى ليعمروها، وهم ممنوعون من التخريب والإفساد، وإنما يدعونهم إلى توحيد رب العالمين سبحانه وتعالى. فجهاد المسلمين ليس لتخريب الديار، بل لإعمار البلاد، ولإعمار قلوب العباد، ولإدخال العباد في عبادة الله بدلاً من عبادة العباد من دون الله رب العالمين. فالإسلام يأمر المقاتلين أن إذا أتيتم قرية فلا تبدأوا بالقتال، ولكن ابدأوا بدعوة هؤلاء إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فإن أطاعوا لذلك فكفوا عنهم، واجعلوا حاكمهم منهم، بشرط أن يحكمهم بشرع الله سبحانه وتعالى. فهذا الدين جاء ليحكم العباد لا بشريعة العباد، أو شريعة الغاب، ولكن بشرع رب العالمين سبحانه. وفي هذا الدين: أن الناس سواسية كأسنان المشط، فخيرهم عند الله أتقاهم، وأقربهم إلى الله المؤمن التقي، إذاً: فإذا فتح الإسلام أرضاً حكمها بالعدل. وقد عرفت اليهود ذلك، فلما ذهب إليهم عبد الله بن رواحه رضي الله عنه يخرص أرض خيبر، أرادوا أن يدفعوا له رشوة من أجل أن يخرص بالظلم، فقال: والله إنكم لأبغض الخلق إلي، ولا يمنعني ذلك من أن أعدل بينكم فيما أرسلني فيه النبي صلى الله عليه وسلم. فقال اليهود: بهذا قامت السموات والأرض، يعني: بالعدل الذي أنتم عليه قامت السموات والأرض. فدين الإسلام دين العدالة، فإذا فتح البلاد عدل بين أهلها، لكن أي ملك من الملوك إذا فتح أرضاً خرب فيها، فسجن أهلها، وجعل أعزة الناس فيها أذل الناس وأحطهم. والناظر في أحوال البلاد يرى كيف يصنع الكفار مع الناس إذا أخذوا بلادهم، وكيف يذلون أهلها، وكيف يخرجون أوضع الناس فيجعلونه الرفيع فيهم، والرئيس عليهم، ويأخذون أعلى الناس فيجعلونهم تحت التراب، ولا يهمهم ما الذي يصنعونه، فيبيحون البلاد، ويغتصبون النساء، ويدمرون البلاد، ويقولون: إن الوقت وقت حرب نفعل فيه ما نشاء لأننا الغالبون، فلا حساب علينا، ولا محاكمة لنا، فالقانون قانون الغاب، القوي الغالب يفعل ما يشاء بالضعفاء، ولا يقدر أحد أن ينكر، وهذه شريعة الغاب المعروفة منذ القدم. ولذلك أرسل الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الدين العظيم، فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل:90]، أي: يأمرك أن تعدل، وأن تحسن، وأن تؤتي ذوي القربى حقهم، ثم قال: {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل:90]، أي: وينهى عن المنكر، والظلم، وأن يبغي بعضكم على بعض. وقد سمع هذه الآية الوليد بن المغيرة، فقال: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر. قالت الملكة هنا: وهذا إما أن يكون قولاً لها، وإما أنه تعقيب من رب العزة سبحانه، وفعلاً يحدث هذا الشيء، وكذلك يفعل الملوك، إلا من رحم الله وجعله على شريعة الإسلام يحكم بين الناس بالعدل. وقد رأينا النبي صلى الله عليه وسلم كيف دخل مكة حين فتحها، ومعه جيش جرار أرعب أهل مكة، فلما فتحها ولاذ الناس ببيوتهم أرسل منادياً ينادي: (من دخل الحرم فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل بيته فهو آمن)، فأمن الناس صلوات الله وسلامه عليه، ولما قال بعض من معه في جيشه: اليوم يوم الملحمة -يعني: يوم القتال- فأرسل ينفي ذلك، ويقول: (بل اليوم يوم المرحمة) أي: يوم الرحمة. ثم جمع أهل مكة وقال لهم: (ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم، وابن أخ كريم)، وهم الذين قتلوا عمه حمزة رضي الله تبارك وتعالى عنه، ومثلوا بجثته، وقتلوا مصعباً وغيره من المسلمين، وهم الذين شجوا وجه النبي صلى الله عليه وسلم، وكسروا المغفر أو البيضة على رأسه، وأرادوا قتله، ومع ذلك يقول لهم صلى الله عليه وسلم: ما تظنون أني فاعل بكم؟)، قالوا: (أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء). ولما قال بعض أصحابه: (اليوم يستباح الحرم، قال: لا، اليوم يعظم الحرم). وبدأت بلقيس بهذا القول: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} [النمل:34]؛ من أجل ألا يشهد عليها الملأ بالقتال، فاستحثت عقولهم: أن فكروا قبل أن تفعلوا شيئاً، فلو دخل الملوك عليكم وهزموكم دمروا قراكم وبلدكم. وفي هذه الآية مبدأ الشورى الذي أمرنا الله عز وجل به، حين قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159]، فأمره سبحانه أن يشاور المؤمنين، ومن هذا الذي من المؤمنين رأيه أرجح من رأي النبي صلى الله عليه وسلم، وهو المؤيد بالوحي من السماء. ولكن مهما كان الأمر فسنة رب العالمين في خلقه الشورى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159]. فالإنسان الذي يحكم هو واحد، ورأيه رأي واحد، ولكن إذا استمع إلى مجموعة أضاف عقولهم إلى عقله، ولذلك كان العاقل هو الذي يستشير، وقد قال الله عز وجل يمدح المؤمنين بما فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38]، فهو يشاور المؤمنين ويعمل بما نتج عن الشورى من رأي، وقد يخطئون، ومع ذلك يأخذ برأيهم صلوات الله وسلامه عليه. ففي يوم أحد كان رأي النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لا يخرج من المدينة، وقد رأى رؤيا تؤيد ما قاله صلى الله عليه وسلم، فقد رأى أن المدينة حصن عظيم، ولكن أكثر المؤمنين كان رأيهم أن يخرجوا لقتال المشركين، فنزل على رأيهم صلوات الله وسلامه عليه، واستجاب لهم، ولبس لأمة القتال، فلما وجدوا أنهم فرضوا عليه شيئاً خلاف رأيه تراجعوا، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ننزل عن رأيك، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمة القتال أن ينزعها حتى يقاتل)، فلما خرجوا إلى ساحة الحرب نزل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه منازلهم، وأمر الرماة ألا يفارقوا موضعهم، ولكنهم لما عصوا النبي صلى الله عليه وسلم حاقت بهم الهزيمة بعد ذلك. وقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بمشورة القوم في مواطن كثيرة، وكان يقول يوم بدر: (أشيروا علي أيها الناس!)، فقال سعد بن معاذ رضي الله عنه: (يا رسول الله! لعلك تعنينا - أي: الأنصار-؟ قال: نعم، قالوا: يا رسول الله! سر أينما شئت، ووال من شئت، وعاد من شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، فوالله لو خضت بنا برك الغماد لخضناه معك). يعني: نخوض هذا البحر حتى نصل إلى المكان الذي تريده. واستشارهم في يوم أحد، واستشارهم في غير ذلك. بل استشارهم في أمر يخصه صلى الله عليه وسلم حين تكلم الملعون عبد الله بن أبي بن سلول بحديث الإفك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أشيروا علي يا قوم!) أي: في هذا الأمر، فلما استشارهم صلوات الله وسلامه عليه حدث بين الناس كلام، وكاد أن يقوم بعضهم إلى بعض، فأسكتهم النبي صلى الله عليه وسلم ورجع إلى بيته. والغرض مما ذكر: أن يعلم أن مبدأ الشورى مبدأ عظيم، فلا يخيب أبداً إنسان يستشير، بل الذي يتهور ويندفع هو الأحرى بالخسران والخيبة. فالمرأة كانت عاقلة وذكية؛ ولذلك استشارت من معها؛ حتى يعرفوا منزلتهم عندها، ثم بعد ذلك ألقت بالنصيحة: أن الحرب سجال، فقد ننتصر، ولكن الهزيمة واردة، فلو حصلت الهزيمة فسيدخلون بلادنا، وهذا الذي أرسل هدهداً برسالة، معناه: أن معه جنوداً كثيرين، فاحتمال الهزيمة كبير.

تفسير قوله تعالى: (وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون)

تفسير قوله تعالى: (وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون) ثم قالت بعد ذلك: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ} [النمل:35]، أي: سنختبر هذا الذي أرسل الرسالة، هل هو نبي من الأنبياء أم أنه ملك ملك من الملوك؟ فلو كان ملكاً فسيقبل الهدية، ونتعامل معه بناءً على ذلك، أما لو كان نبياً فلن يقبل هذه الهدية، وهذا الذي حدث. ثم قالت: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل:35] أي: بالذي سيرجع به المرسلون الذين سنبعثهم. فإذاً: ستبعث هدية ليس مع واحد؛ لأنها تقول: (بم يرجع المرسلون)، وهنا لم تقل: الرسل، ولكن قالت: {الْمُرْسَلُونَ} [النمل:35]، فكأن العدد ضخم؛ ولذلك ذكرت جمع المذكر السالم هنا. فإذاً: هي اختارت هدية عظيمة جداً، وأرسلتها لسليمان عليه السلام مع مجموعة كبيرة من الناس. أما تفصيل ما في الهدية فلم يهتم القرآن بذلك، وما الذي أرسلته إليه، هل أرسلت إليه غلمان، أم أرسلت إليه وصائف، أم أرسلت إليه ذهباً وفضة؟ أياً كان ذلك فقد أغناه الله عز وجل وأعطاه فوق ذلك، ويكفي أنه نبي، فالنبي لا طمع له في الدنيا أصلاً. فعلى ذلك لا يعنينا ما هي هذه الهدية التي أرسلتها إليه، ولكن من الواضح أنها هدية عظيمة. ثم ذهبوا بهذه الهدية إلى سليمان عليه الصلاة والسلام، وهي قالت: {فَنَاظِرَةٌ} [النمل:35] يعني: سأنظر ما الذي سيعمل بها، وبناء على ذلك سنتعامل معه، فإن كان طماعاً فليس برسول، فسنتعامل معه بمنطق القوة، ونرسل إليه جنودنا الأقوياء. لكن لو رد الهدية، فهذا يعني أنه رجل عظيم قوي، وأنه يحتقر هذه الهدية، فالغالب سيكون نبياً من الأنبياء، ولا طاقة لنا به.

تفسير قوله تعالى: (فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال)

تفسير قوله تعالى: (فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال) قال الله عز وجل: {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ} [النمل:36]، أي: لما أتوا إلى سليمان بهذه الهدية، أو جاءه رسول هذه الملكة، وقال: قد جئت ومعي هدية من هؤلاء. فقال سليمان مباشرة يرد عليهم: {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ} [النمل:36]، يعني: تدفعون لي رشوة على أمر الله عز وجل، وما أرسلت إليكم إلا لتسلموا لله رب العالمين، فتدفعون لي مالاً حتى أترككم على كفركم وشرككم، قال: {فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} [النمل:36].

القراءات في قوله تعالى: أتمدونن بمال

القراءات في قوله تعالى: أتمدونن بمال وفي قوله تعالى: (أتمدوننِ بمال) ثلاث قراءات: قراءة الجمهور: بكسر النون (أتمدوننِ). وقراءة نافع وأبي جعفر وأبي عمرو: (أتمدونني بمال)، فإذا وصلوا نطقوا بالياء، وإذا وقفوا حذفوا الياء، فالوقف: (أتمدوننِ) كالجمهور، والوصل (أتمدونني بمال). وقراءة ابن كثير بالياء في الحالين: (أتمدونني بمال)، سواء وقف أو واصل.

القراءات في قوله تعالى: (فما آتاني الله)

القراءات في قوله تعالى: (فما آتاني الله) وفي قوله تعالى: {فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ} [النمل:36] ثلاث قراءات: قراءة يعقوب وحمزة: (أتمدو~نِّي بمال) بمد طويل فيها وإدغام. وقراءة نافع وأبي جعفر وأبي عمرو وحفص أيضاً ورويس (فما آتانيَ الله خير مما آتاكم)، فإذا وقفوا فسيكون الوقف بالنون فقط. ويقرأها أبو جعفر وورش في روايته عن نافع (فما آتان) في الوقف كما ذكرنا، والباقون يقرءون: (فما آتانِ الله خير مما آتاكم) وصلاً ووقفاً. ثم قال تعالى: {خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ} [النمل:36]، أي: الذي أعطاني الله تعالى من النبوة ومن الملك خير من هذا المال الذي أتيتم به. قال تعالى: {بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} [النمل:36]، يعني: أنتم تظنون أن هذه الهدية لها قيمة عظيمة، فمثلكم يفرح بها، أما أنا فلا أفرح بمثل هذه الهدية، فقد آتاني الله عز وجل النبوة، وآتاني الملك، والمال العظيم. والعادة في بني البشر: أن الإنسان كلما كان غنياً كلما كانت له مطامع، وازداد نهماً وحرصاً على المال، وخاصة لماذا كانت هدية عظيمة من ذهب أو فضة ونحوهما، ولكن هذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام قد عصمه الله من ذلك. ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب مال أو وطالب دنيا) فطالب العلم لا يشبع من طلب العلم، وطالب الدنيا لا يشبع من طلب المال وطلب الدنيا. فلما رد هذه الهدية علمت أنه نبي، فهي امرأة كافرة، وهو لا يقبل هدية الكفار. وجاء عن نبينا صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، أنه لم يقبل هدايا المشركين، وجاء عنه أنه قبلها. ففي الحديث الذي رواه أبو داود ورواه الترمذي عن عياض بن حمار: (أنه أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم هدية، أو ناقة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: أسلمت؟ فقال: لا، قال: فإني نهيت عن زبد المشركين)، والزبد: العطاء والرفد والمنحة والهدية، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهي عن ذلك. وفي حديث آخر: (أن عامر بن مالك -الذي يوصف أو يلقب بملاعب الأسنة- قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مشرك، فأهدى للنبي صلى الله عليه وسلم هدية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لا أقبل هدية المشركين). وفي حديث آخر: أن أم أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، واسمها: قتيلة بنت عبد العزى قدمت على ابنتها أسماء بهدايا، وهي عبارة عن ضباب وأقط وسمن، وكانت أسماء مسلمة وأمها كافرة، وأم أسماء التي هي قتيلة كانت كافرة وهي غير أم عائشة رضي الله عنها التي هي أم رومان فقد كانت مسلمة، فقدمت عليها في وقت الهدنة التي بين الحديبية وبين فتح مكة بذلك، فسألت أسماء النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أمي قدمت وهي راغبة)، يعني: راغبة في الصلة، فتوصلني وأصلها. فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلي أمك، وأمرها أن تقبل هدية أمها). وبناء على ذلك اختلف العلماء في هدية المشرك: فبعض العلماء منعوا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إني نهيت عن زبد المشركين)، ولرده صلى الله عليه وسلم هدايا المشركين. والبعض الآخر أجازوا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أسماء أن تقبل هدية أمها، وأيضاً قد طلب من سهيل بن عمرو أن يرسل إليه هدية من ماء زمزم. فأرسل إليه سهيل هدية من ماء زمزم، وأرسل له هدايا معها، فقبلها منه النبي صلى الله عليه وسلم. وبعض العلماء فصل فقال: إذا كانت هذه الهدايا كنوع من جعل الإنسان المسلم يوافقهم على ما هم فيه ويواطئهم، فتكون مداهنة، فلا تقبل هذه الهدية. أما إذا كان قبول الهدية فيه تأليف لصاحبها، رجاء أن يسلم بعد ذلك، فيجوز عندها قبول هدية المشرك. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تهادوا تحابوا) فالهدية تجلب المحبة؛ لذلك أمر المؤمنين أن يتهادوا فيما بينهم، ورفض هدية المشركين للعلة نفسها. إذاً: إذا أهدى المشرك هدية للمسلم ووجد نوع من أنواع المودة، بحيث تنقلب المودة إلى محبة بين المسلمين والمشركين، ثم تنقلب موالاة بعد ذلك، بحيث إذا فصل القتال بين المسلمين والمشركين لا يرضى المسلم أن يقاتله؛ لأنه أهدى له هدية قبل ذلك؛ فهذا لا يجوز بحال من الأحوال؛ وذلك ولذلك رفض النبي صلى الله عليه وسلم هدايا المشركين إلا أن يتألفهم بقبولها حتى يدخلوا في دين الله تبارك وتعالى. ولذلك لما جاءت الهدية لسليمان، قال: {فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} [النمل:36]، يعني: تفرحون من أجل أن تقولوا: نحن بعثنا لسليمان هدية قوامها كذا وكذا، فتفرحون بذلك، ثم تفتخرون.

تفسير قوله تعالى: (ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها)

تفسير قوله تعالى: (ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها) قال: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا} [النمل:37] أي: من بلدهم، {أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل:37]. فإذاً: ما قالته الملكة صحيح وهو قولها: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} [النمل:34]، فهي بنظرها أن هذا إفساد، ولكن في نظر سليمان ليس إفساداً؛ لكونهم كفاراً يعبدون الشمس من دون الله، فيستحقون أن يقاتلوا حتى يسلموا أو يقتلوا. فقال: {وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل:37]، فالجواب كان حاسماً شديداً، ولذلك المرأة فهمت ذلك، وقالت: سأذهب إليه بنفسي، خوفاً منه صلوات الله وسلامه عليه. فقال سليمان عليه الصلاة والسلام: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها} [النمل:37]، أي: لا طاقة لهم بها، وجنود سيلمان من الجن ومن الإنس ومن الطير، فلا أحد يقدر على هؤلاء إلا رب العالمين سبحانه، فلذلك قال ببرود: {لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ} [النمل:37]، وهذا أسلوب قسم، أي: أقسم أننا سنخرجكم من هذه الديار طالما أنتم على شرككم أذلة وأنتم صاغرون. ولذلك كانت المرأة ذكية، فطالما أن سليمان عليه السلام قد حلف أنه سيخرجنا، فسنخرج نحن باختيارنا، ونذهب إليه بدلاً من أن يأتي إلينا فيدمر علينا هذه البلدة. قال سليمان عليه الصلاة والسلام: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل:37]، أي: مهانون أذلة.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الملا أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الملا أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين) ثم قال لجنوده: {يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:38]، فكأن سليمان عليه الصلاة والسلام جاءه من يخبره بمجيئهم، إما عن طريق الوحي أو عن طريق جنوده من الجن أو من الطير، فكأنه قال: ما داموا جاءوا إلينا فسنريهم ما نحن فيه من ملك حتى يحتقروا ملكهم الذي أطمعهم في الدنيا، ودفعهم أن يعبدوا غير الله سبحانه. وكذلك ليحتقروا هذه الهدية التي أرسلوها، ثم يرجعوا إلى صوابهم، فيعبدوا الله سبحانه وتعالى، فدبر تدبيراً عظيماً حتى يريهم ملكاً لم يروا مثله قبل ذلك أبداً، ولن يروا مثله بعد ذلك أبداً، وهو ما ذكر الله عز وجل هنا من الصرح الممرد من قوارير. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة النمل [36 - 44]

تفسير سورة النمل [36 - 44] لقد أرسل الله سبحانه وتعالى رسله وجعل معهم من الدلائل والمعجزات ما يفوق ما أعطاه الله لملوك الأرض وأهلها الذين يرسل إليهم هؤلاء الأنبياء، وقد آتى الله سيدنا سليمان ملكاً ومعجزات جعلت ملكة سبأ تعلم أن ذلك ليس من شأن الملوك، بل من شأن الأنبياء المؤيدين بالوحي، وقليل أولئك الملوك الذين يتغلبون على أهوائهم ويتبعون رسالات الله تعالى، ويؤمنون برسله.

تفسير قوله تعالى: (فلما جاء سليمان فإن ربي غني كريم)

تفسير قوله تعالى: (فلما جاء سليمان فإن ربي غني كريم) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين: قال الله عز وجل في سورة النمل: {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ * قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ * قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنْ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ * فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ * وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ * قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل:36 - 44].

الحكمة التي اتصفت بها الملكة بلقيس

الحكمة التي اتصفت بها الملكة بلقيس يذكر لنا ربنا سبحانه وتعالى قصة سليمان عليه الصلاة والسلام مع ملكة سبأ وهي بلقيس، لما أرادت أن تختبر سليمان وتعرف هل هو نبي من الأنبياء أم هو ملك من الملوك؟ وقد أرسل إليها خطاباً يأمرها بالإسلام، وأن تأتي إليه ولا تتكبر عليه. فلما قرأت الرسالة وكانت امرأة حكيمة استشارت من معها، فلم تكن متهورة مندفعة بحيث ترد عليه جواباً على رسالته، فأبدو أنهم أقوياء: {قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} [النمل:33]. ولكنها ذكرت من حولها أن أمر القوة وأمر الحرب يحتمل أن ننتصر أو أن ننهزم، فإذا انهزمنا أمامه دخلت جنوده إلى أرضنا، ودخل هذا الملك إلى أرضنا فأفسد فيها وقالت: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل:34]. ثم تروت ووجدت فكرة أخرى فقالت: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ} [النمل:35]، يعني: إلى هؤلاء القوم وليس لسليمان وحده، ولكن لأهل هذه البلد أو لكبارها بما فيهم ملكهم، قالت: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل:35]. وعندما يرجع إلينا هؤلاء الذين نرسلهم إليه بهذه الهدية نعرف أمره، فإذا كان ملكاً قبل هذه الهدية فنتعامل معه على أنه ملك من الملوك وأنه طماع، فإما أن نرضيه بمال، وإما أن نغزوه ونحاربه، وأما إذا كان غير ذلك فهذا نبي من الأنبياء ولا يسعنا إلا أن نأتي إليه.

موقف سيدنا سليمان من هدية بلقيس

موقف سيدنا سليمان من هدية بلقيس فلما ذهبت الهدية إلى سليمان رد عليهم رداً سريعاً ولم يستشر أحداً، بل قال: {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} [النمل:36]. أي: أنتم الذين تفرحون بمثل هذه الهدايا، فأنتم تهدون إلى الإنسان لتفخروا عليه بهديتكم، ارجعوا بهذا الشيء فإننا لا نقبله منكم، ولنخرجنكم من أرضكم أذلة وأنتم صاغرون، فكأنه قال للرسول أو لكبير القوم الذي جاءه: {فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل:37]، فقوله: {وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ} [النمل:37]، فيه قسم من سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، إذ قال: {فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ} [النمل:37]، وهذا دليل على القسم؛ لوجود اللام في أول الفعل المضارع، والنون المثقلة في آخره، وكأنه يقول: والله لنخرجنهم منها أذلة، أو {فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً} [النمل:37]. فإننا دعوناهم في الخطاب فلم يلبوا، أما الآن فسنخرجهم من هذه الأرض: {أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل:37]. فلما بلغ الأمر إليها إذا بها تتجهز للذهاب إليه، فلم ترد أن يأتي سليمان إليهم فيطردهم من أرضهم، فقالت: نحن نذهب إليه في البداية مستسلمين فيعاملنا معاملة كريمة.

عظيم تسخير الله لسليمان

عظيم تسخير الله لسليمان فلما بلغ سليمان أنهم خارجون إليه، وعلم سليمان بذلك إما عن طريق الوحي وإما عن طريق جنوده من الجن وغيرهم أحب أن يريها آية من آيات قدرة الله سبحانه الذي أقدر سليمان عليها، فقال لمن معه: {قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:38]، وإلا فماذا يعمل بعرشها؟ لكنه يريد أن يريها آية من الآيات، ولا مطمع له في عرشها. لكن هذا العرش هو الذي جعلها تتعالى وتستكبر على الخلق، وجعلها تعبد غير الله سبحانه، فينقل من اليمن إلى الشام وهي مسافة طويلة جداً في وقت يسير، وهي تخرج من بلدها تاركة عرشها هنالك فتأتي إلى الشام فتجد عرشها هناك، وهذا شيء عجيب جداً، فأراد سليمان أن يريها أنه رسول كريم مؤيد بالمعجزات. وهذا يدفعها إلى أن تؤمن بالله سبحانه، وكأن الهدف من إتيانه بعرشها أن يريها معجزة من المعجزات الحسية لعلها تسلم وتدخل في دين رب العالمين، فلما سأل من حوله لم يقل: يا أيها الناس؛ لأن الناس لا يقدرون على هذا الشيء، ولكن قال: يا أيها الملأ! فهم أعلى الناس الذي يدخلون عند سليمان، ويكون أكرمهم عليه أتقاهم لربه سبحانه وتعالى، فربنا فضل بعض الناس عنده كما قال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، وكذلك هو التفضيل عند أنبياء الله سبحانه وتعالى، فهم يفضلون ويقربون ويدنون منهم الأتقى من الخلق. فسأل هؤلاء الملأ الذين حوله وفيهم الإنس وفيهم الجن، فقال: {يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} [النمل:38]، وهو يعلم من قدرة الله سبحانه أنه سيأتيه بهذا العرش من هذا المكان إلى هذا المكان. فكان الإتيان بالعرش مقدور لسليمان عليه الصلاة والسلام؛ لأن الله سخر الجان والشياطين والريح له، ولكن هو يريد شيئاً سريعاً قبل أن يأتوا. فهذه المرأة في الطريق وستأخذ ثلاثة أيام أو يومين، وهو يريد أن يأتي العرش الآن قبل أن تدخل هذه المرأة، فلما قال ذلك إذا بجنوده يجيبون: {قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ} [النمل:39]، والعفريت: هو المارد القوي، فالمردة من الجان مسخرون لسليمان عليه الصلاة والسلام، فقال هذا: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} [النمل:39]، أي: قبل أن تكمل هذه الجلسة الذي أنت فيها، وهذه قدرة عظيمة جداً، فلا تقدر أي طائرة ولا أي صاروخ أن يأتي له بهذا قبل أن ينفض المجلس.

فضل أهل العلم على أهل القوة

فضل أهل العلم على أهل القوة ولكن سليمان علم أن لله قدرة أكبر من ذلك، فطلب الأسرع من ذلك: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل:40]، وكأن التفضيل هنا لأهل الكتاب، ولحملة دين رب العالمين سبحانه. وهذا أحد جنود سليمان عليه الصلاة والسلام، فقد تعلم الكتاب من سليمان عليه الصلاة والسلام، وكأنه اختبار لقدرة هؤلاء الجنود الذين أعطاهم الله ما أعطاهم من قدرة، وهذا الذي عنده علم من الكتاب لو أراد الله سبحانه أن نعرفه لأخبرنا عنه سبحانه وتعالى، ولكن لم يرد ذلك فلم يخبرنا عنه، لكن المفسرون خاضوا في ذلك وذكروا أسماء فقالوا: هذا رجل اسمه آصف بن برخيا، ولكن لا يعنينا كثيراً اسم هذا الرجل، فهو أحد المؤمنين الذين مع سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام. فما علم الله عز وجل آصف هو جزء مما علم سليمان عليه الصلاة والسلام، فهو رجل من عباد الله سبحانه فضله الله عز وجل، وأراد أن يرينا فضل أهل العلم على أهل القوة، فالعفريت من الجن هو من أهل القوة، وقد قال: أنا آتيك به قبل أن تقوم من مجلسك، فسيكون في مدة ساعتين أو ثلاث ساعات، ولكن الذي عنده علم من الكتاب لن ينتقل من مكانه، ولكن سيدعو الله سبحانه وتعالى، والله على كل شيء قدير، فكأنه عرف كيف يدعو الله سبحانه وتعالى فيستجيب له ربه سبحانه وتعالى. وقد قالوا: إنه كان يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب، واسم الله الأعظم ليس شيئاً مخفياً أو مستحيلاً أن يعرف، بل قد جاء في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى.

الثقة بالله سبب لإجابة الدعاء

الثقة بالله سبب لإجابة الدعاء واسم الله الأعظم ليس كل إنسان سيدعو به يصل إلى مراده الذي يطلبه، وإنما الأمر أمر قلبي، فالإنسان إذا وصل قلبه بالله سبحانه وتعالى، وكان على ثقة بالله سبحانه حصل على ما يريد. فكلكم تعرفون كيف تدعون الله سبحانه، وكيف تلحون على الله في الدعاء، ولكن من الذي سيكون كهذا الرجل الذي يدعو فيستجيب الله سبحانه وتعالى له؟ فنحن ندعو كثيراً: يا رب! أنزل علينا المطر، فأحياناً ينزل وأحياناً لا ينزل، أو يتأخر المطر. ولكن لما قام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، وسأل ربه سبحانه وتعالى أن ينزل المطر غيثاً مغيثاً عاجلاً، وذلك عندما جاء إلى النبي رجل وقال: (يا رسول الله! هلكت الأموال، وهلكت العيال، وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا). وكان واقفاً يخطب على المنبر صلى الله عليه وسلم فقطع الخطبة وسأل الله سبحانه وتعالى، وكان لا يوجد في السماء سحاب، فإذا بسحابة تنشأ من وراء الجبل فتتوسط السماء فتمطر على الجميع أسبوعاً كاملاً بدعوة النبي صلوات الله وسلامه عليه. وقد قام كفار قريش قبل هجرته فقالوا له: (لن نؤمن لك حتى تفلق لنا هذا القمر فلقتين ونراه، فقال: إذا فعلت آمنتم؟ قالوا: نعم، فقام صلى الله عليه وسلم وسأل ربه وأشار بيده إلى القمر فانفلق فلقتين، فلقة وراء الجبل، والأخرى أمام الجبل فلم يؤمنوا، بل قالوا: سحرتنا). وهذه آية من الآيات الحسية التي رأوها أمامهم، والتي يؤيد الله عز وجل أنبياءه بها حتى يؤمن بهم الخلق، فهنا سليمان عليه الصلاة والسلام أيده الله عز وجل بمعجزات وبآيات، ومن ذلك هذه المعجزة: أن رجلاً من أتباعه يدعو ربه أن يأتي بالعرش إلى سليمان عليه الصلاة والسلام، فيستجيب الله دعاءه. وهذا الرجل ليس عنده كل علم الكتاب، بل عنده علم من الكتاب، فقد عرف ربه سبحانه وتعالى، واستيقن به، وسأله فأعطاه.

اسم الله الأعظم

اسم الله الأعظم ما هو اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب؟ لقد جاءت ثلاثة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يبين لنا فيها الجواب، وقد علم الله رجلاً من خلقه المؤمنين أن يدعو بدعاء، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب). وهذا الرجل دعا فقال: (اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحداً)، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب). ورجل آخر أيضاً دعا ربه سبحانه، وسمعه النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ويقول: (اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت الحنان المنان، بديع السماوات والأرض، يا حي! يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام!)، فقال رسول الله: (لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب). وأيضاً يقول عليه الصلاة والسلام: (اسم الله الأعظم في هاتين السورتين، في سورة آل عمران، وفي سورة طه، وهو الحي القيوم، والرحمن الرحيم). وإذا سألت الله عز وجل أعطاك مع إخلاصك، مع معرفة الله أنك تستحق ذلك، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام!)، ومما ينبغي الدعاء به: اسم الله الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، وتدعوا بيا ذا الجلال والإكرام، أو يا حي يا قيوم، أو يا رحمن يا رحيم، أو تدعو باسم الله الحنان المنان، بديع السماوات والأرض ذي الجلال والإكرام، فإذا سألته بهذا أعطاك واستجاب لك. وكلنا نسأل ربنا سبحانه، ولكن هل يحقق لكل منا ما يريده عاجلاً كما حقق لهذا الرجل؟ هذا يرجع إلى أمرين: الأمر الأول: راجع إلى الله سبحانه الذي قضاه، ومن قضائه أنه ينفذ ذلك الشيء ويعطي هذا الشيء لهذا الإنسان، وهذا مبني على علمه وحكمته وقدرته سبحانه. الأمر الآخر: راجع إلى قلب العبد، هل هو مخلص واثق في الله سبحانه وتعالى أم لا؟

ما عند سليمان من الأعوان هو من فضل الله

ما عند سليمان من الأعوان هو من فضل الله إن العفريت الذي قال: إنه سيأتي بالعرش قبل قيام سليمان من مجلسه قال: إنه قوي على هذا الشيء، وأنا أمين لست بخائن فآتيك بهذا الشيء ليس بغيره، وأما الآخر فقال: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} [النمل:40]، أي: علم بكتاب الله الذي أنزله على موسى عليه الصلاة والسلام، وبالصحف التي أوتيها داود قال: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل:40]، يعني: أغمض عينيك وافتحها وستجده أمامك. وهذه السرعة ليست في قدرة إنس ولا جن أن يفعلوا ذلك، وإنما هي قدرة الله سبحانه وتعالى، فهذا العبد سأل ربه فاستجاب له وأتى بهذا العرش إليه. وكان سليمان عليه الصلاة والسلام واثقاً من ذلك، فهذا عنده علم من الكتاب. قال تعالى: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ} [النمل:40]، أي: رأى العرش حالاً أمامه: {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي} [النمل:40]. أي: فليس بقوتك ولا بقوته، ولكن من فضل الله سبحانه وتعالى أن علمنا الكتاب، وسخر لنا الإنس والجن والدواب، وسخر لنا هذا من فضله سبحانه، فهذا تفضل الله علي وما عطاءه ذلك لي إلا ابتلاءً وامتحاناً منه سبحانه، وما قال بفضلي وقدرتي لأنني ملك أو نبي، بل قال: هذا اختبار من الله عز وجل هل سأشكر أم سأكفر؟ ليعلم الناس أنه مهما أعطاكم الله من نعم فاشكروا الله سبحانه وتعالى، ومهما أعطاكم الله من نعم فاعلموا أن الذي يعطي قادر على أن يسلب ويأخذ. فإذا أعطاك الله فإنما يبتليك هل تشكر أم تكفر؟ فقال سليمان عليه الصلاة والسلام: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل:40]، وهذه قراءة الجمهور، ومنهم من يمد ومنهم من يقصر، وقراءة نافع وأبي جعفر: {لِيَبْلُوَنِيَ أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} [النمل:40]. وعاقبة الشكر منفعة، فإنما أشكر الله عز وجل لأنتفع أنا، فلن ينتفع الله عز وجل بشكري شيئاً، ولن يزداد بحمدي ولا بشكري ولا بعبادتي شيئاً، فأنا أحمد الله لنفسي لأنتفع أنا. وانتفاعي هو كما قال الله سبحانه: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7] أي: إن تشكر الله عز وجل يزدك من هذه النعمة ومن هذا الفضل، ولذلك سليمان عليه الصلاة والسلام يقول: {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} [النمل:40]، ومن كفر وجحد نعمة الله ونسب الفضل لنفسه كما قال قارون: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78]، يقول الله سبحانه: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل:40]. وأصل الكَفر: الستر، وكفر الشيء بمعنى: ستره وغطاه، فالذي يكفر بالله كأنه يغطي النعم ويحجبها ويقول: ليست من عند الله، بل هي مني أنا، فأنا الذي أتيت بها، وأنا أستحق ذلك، وينسى ربه ويكفر، قال سبحانه: {وَمَنْ كَفَرَ} [النمل:40]، قال سليمان: {فَإِنَّ رَبِّي} [النمل:40] أي: الله الذي أعبده والذي خلقني: {غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل:40]. أي: غني عن العباد وعن عبادتهم، كريم سبحانه يعطي من شكر ومن كفر سبحانه وتعالى، ولذلك لما دعا سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام قال: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} [البقرة:126]، وهذا من أدبه عليه الصلاة والسلام، فلم يقل: ارزق المؤمنين الذين يعبدونك، وارزق الكفار الذي يجحدونك ويسبونك، بل كان الأدب من إبراهيم أن قال: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ} [البقرة:126]، ثم توقف عند مقام الأدب عليه الصلاة والسلام، فأجاب الله بكرمه سبحانه قال: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [البقرة:126]، فالمؤمن يتأدب في دعائه لربه سبحانه وتعالى، والله يفعل ما يشاء، قال سليمان: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل:40]، فهو سبحانه تبارك وتعالى يكرم خلقه بما يشاء، فيكرم بالإيمان فيهدي من يشاء من خلقه سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (قال نكروا لها عرشها وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين)

تفسير قوله تعالى: (قال نكروا لها عرشها وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين)

مراد نبي الله سليمان من تنكير عرش بلقيس

مراد نبي الله سليمان من تنكير عرش بلقيس عندما جاء العرش إلى سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، {قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ} [النمل:41]، أي: غيروا من هذا العرش لونه، وغيروا الذهب فانقلوه من مكان لمكان، والنكر: هو عكس المعروف، وهذا شيء نكر أي: منكر، فأمرهم أن يغيروه لكي يعرف هل هي ذكية فطنة حكيمة تفهم أم لا؟ فلعلها إذا فهمت ذلك عرفت قدرة الله سبحانه، فرجعت إلى ربها سبحانه. فإذا فهمت أن الله يؤيد المؤمنين بهذه المعجزة، وهي: إتيانهم بهذا العرش من هذا المكان إلى هذا المكان فستؤمن، وإذا كانت مكابرة فستنظر إلى العرش وهي تعلم أنه عرشها ثم تقول: ليس لي؛ لتنكر هذه الآية وهذه المعجزة، وإذا كان فيها خير فستصدق وستؤمن أنه نبي مؤيد بالمعجزات، وستدخل في دين رب العالمين سبحانه. فأراد أن ينظر إلى عقلها وإلى حكمة هذه المرأة وذكائها، فقال: {نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ} [النمل:41] وكأنه يريد أن يقيس شيئاً على شيء، فإذا اهتدت لهذا العرش فسنأمل أن تهتدي إلى ربها، وأن تسلم، وأن تدخل في دين رب العالمين سبحانه، فاختبرها بشيء ليدله على شيء آخر وراء ذلك. قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْ} [النمل:42]، عرض عليها هذا العرش وقال أحد الجنود: {أَهَكَذَا عَرْشُكِ} [النمل:42]، فنظرت إليه وقالت: {كَأَنَّهُ هُوَ} [النمل:42]، أي: كأنه عرشي جاء إلى هذا المكان، وكانت عاقلة، فإنها لو قالت: هذا عرشي فمن المؤكد أنها لم تنتبه للتغير الظاهر فيه، ولو قالت: ليس هو لكانت لم تسمع عن عرش آخر كعرشها بهذه الفخامة والزخرف الذي فيه، فلما تغير ما عليه والمنظر منظر عرشها، توسطت في الجواب بذكاء وقالت: {كَأَنَّهُ هُوَ} [النمل:42].

سبق الأنبياء للعلم بالوحي

سبق الأنبياء للعلم بالوحي قال تعالى: {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} [النمل:42]، ويحتمل أنه من قول سليمان عليه الصلاة والسلام، ويحتمل أنه من قولها هي، فالهاء في (قبلها) عائد على معجزة الإتيان بالعرش من هذا المكان إلى هذا المكان في لمح البصر وطرف العين، فكأن سليمان يقول: من قبل هذه المعجزة قد أوتينا العلم برب العالمين سبحانه وبقدرته العظيمة سبحانه، فقد آتانا الكتاب وعلمنا الصواب وأرشدنا، وسخر هذه الجنود تحت أيدينا. فالعلم بالله عز وجل سابق عندنا، وهذه المعجزة شيء من فضل الله سبحانه وتعالى، فمن قبل هذه المعجزة نحن نعلم ربنا سبحانه وتعالى، هذا إذا كان من قول سليمان. وأما إذا كان من قول المرأة، فكأنها لما رأت هذه المعجزة قالت: هذه آية فعلاً، ونحن قد أوتينا العلم من قبل ذلك بأنك نبي، فمن ساعة أن قرأنا رسالتك وأسلوبك في الكلام عرفنا أنك نبي قبل هذه الآية التي رأيناها أمامك. فعلى هذا قال لها: ما هو الذي يمنعك أن تسلمي من ساعتها، فقال سبحانه: {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [النمل:43]، يعني: إن الذي صدها قبل ذلك عن أن تؤمن مع سليمان عليه الصلاة والسلام هواها، وما كانت فيه من ملك، وما كان عليه قومها من عبادة غير الله سبحانه، والإنسان عندما يجد في قومه شيئاً معيناً يخاف أن يخالفهم فيضيع منه ملكه، فلا يعمل ذلك الملوك إلا ما كان من النجاشي رضي الله عنه.

إسلام النجاشي

إسلام النجاشي وهذا النجاشي هو أصحمة ملك الحبشة، وهو من الملوك الذي عرف أن النبي صلى الله عليه وسلم حق، فأسلم هو وقومه، وأظهر إسلامه للنصارى من قومه، وإن كرهوا ذلك منه، وأخبر أن جعفراً رضي الله عنه ومن معه قالوا في المسيح عليه الصلاة والسلام القول الحق، وقد أراد كفار قريش الوقيعة بين النجاشي وبين جعفر بن أبي طالب ومن معه من المهاجرين من المؤمنين في الحبشة ففشلوا. فقالوا للنجاشي: إنه يقول قولاً سيئاً في المسيح عليه الصلاة والسلام، فأرسل إليهم: ماذا تقولون في المسيح؟ فجاء جعفر بن أبي طالب ومن معه من المؤمنين إلى النجاشي وقال: نقول في المسيح عليه الصلاة والسلام -وكان هو وجمع معه من الرهبان والأحبار والكبار في مملكته، وقد اجتمعوا ليسمعوا ما يقول هؤلاء- فقالوا: المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وهو عبد الله ورسوله. فلما قال ذلك نخرت الرهبان، فقام النجاشي وقال: والله ما زاد المسيح على ما قلتم، وأخذ حصاة أو شعرة من الأرض وقال: ما زاد المسيح على ما قلتم، ثم قال: وإن استكبرتم وإن أنفتم يا مشركون! وإن أنفتم يا نصارى! فالمسيح كما قالوا، فلا أعبد إلا الله، ولا أحمد إلا الله الذي رد علي ملكي، وقد كان بعض النصارى خرجوا عليه بملك آخر فأخذ منه ملكه وتركه الناس، وكاد أن يضيع منه ملكه، ثم رده الله سبحانه وتعالى عليه. فقال: لا أحمد أحداً إلا الله، ولا أقول في المسيح أكثر مما قاله هؤلاء، ولو كنت أقدر أن أذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأغسل عن قدميه لفعلت ذلك، ولو كنت أقدر أن أسافر إليه صلى الله عليه وسلم لفعلت، ولكن الأمر صعب ويكفيه ذلك رضي الله تبارك وتعالى عنه. وقد آوى هذا الحبشي المسلمين، وجعله النبي صلى الله عليه وسلم وكيله في أن تزويجه أم حبيبة بنت أبي سفيان، وكانت مهاجرة عنده في الحبشة، فهو الذي دفع مهر النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي زوج النبي صلى الله عليه وسلم من أم المؤمنين أم حبيبة رضي الله تبارك وتعالى عنها. أما غيره من الملوك فلا يوجد فيهم أحد أتاه خطاب من النبي صلى الله عليه وسلم إلا ورده رداً جميلاً دون أن يسلم، وبعضهم مزق الرسالة التي جاءته من النبي صلى الله عليه وسلم.

حوار هرقل لأبي سفيان

حوار هرقل لأبي سفيان من أذكى هؤلاء الملوك الذين أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم هرقل عظيم الروم، فقد كان رجلاً ذكياً جداً، وكان منجماً ذا عقل عجيب جداً. فسأل من عنده عن النبي صلوات الله وسلامه عليه، وكان عنده أبو سفيان، فسأله عن النبي صلى الله عليه وسلم حوالي عشرة أسئلة يعرف بها صدق ادعائه للنبوة من عدلها، فسأل أسئلة تدل على فطنته وعلى عقله، فقال: هل كذب هذا الرجل عليكم قبل ذلك؟ قال: لا ما كذب قبل ذلك. قال: لو كان كذب قبل ذلك لقلنا يكذب، فكيف يدع الكذب على الناس ويكذب على الله سبحانه وتعالى؟ ثم قال: هل كان من آبائه ملك؟ قال: لا، ما كان في آبائه ملك، قال: لو كان من آبائه ملك لقلنا: يطلب ملك أبيه. ثم قال: هل قال هذه المقالة أحد من قبله؟ قال: لا، لم يقلها أحد من قبله، قال: لو قالها أحد من قبله لقلنا: يستن بهذا الذي من قبله. وظل يسأله حتى قال: هو رسول رب العالمين، وهذا الرجل كاد أن يسلم، فقد جمع كبار القوم بداخل القصر، وأمر أن يغلقوا عليهم أبواب القصر لكي لا يخرج أو يهرب أحد، وقال لهم: إني أدلكم على أمر رشد فهل لكم في طاعتي؟ قالوا: فبماذا تأمر؟ قال: أطيعوا هذا الرجل، إنه رسول رب العالمين. فصاحوا ونخروا وجروا إلى الأبواب، وقد كان أقفل عليهم الأبواب فناداهم وقال: تعالوا تعالوا إنما كنت أمتحنكم فقط، ولما وصل الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم قال: (ظن بملكه) يعني: عرف الحق، ولكن ظن بملكه عن أن يسلم، أي: أنه إذا أسلم ضاع عليه ملكه. وهذا مع عقله ولكنه طمع في الدنيا، فالإنسان قد يدفعه ملكه وماله ومنصبه إلى البعد عن الله سبحانه وتعالى؛ خوفاً من أن يضيع منه ذلك، فكأن بلقيس كانت كذلك، فعبدت الشمس من دون الله مع قومها، وكأنها عرفت الحق، لكن صدها الذي كانت تعبده من دون الله وقومها أيضاً، فخافت وظلت على ما هي فيه، فصدها هذا عن عبادة رب العالمين. قال تعالى: {إِنَّهَا كَانَتْ} [النمل:43]، وكأن (إنها) هنا تعليلية؛ أي: لأنها كانت من قوم كافرين. فقومها كانوا كافرين، فكان الصد لها أكبر، ولعلها إن تركت هؤلاء القوم يخرجونها ويأخذون منها ملكها، فقال لها سليمان عليه الصلاة والسلام، أو قيل لها: {ادْخُلِي الصَّرْحَ} [النمل:44]، وهذا الصرح صنعه الجن لسليمان عليه الصلاة والسلام بأمره، وكان يبدو وكأنه قصر على الماء فيه صحن واسع يدخل منه من يدخل على هذا المكان فوق الماء، والصرح الممرد يعني: المصنوع من شيء رقيق، بحيث يظهر ما بداخله، وكأنه قوارير. فهذا صرح ممرد من قوارير يعني: مصنوع من زجاج في غاية الصفاء، قال تعالى: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ} [النمل:44]، ولما قيل لها ذلك نظرت وتحيرت أهل تدخل في الماء؟ فنظرت إلى الماء وكشفت عن ساقيها لتدخل، فمن شدة صفائه ظنت أنه يأمرها أن تغوص في الماء، فكشفت عن ساقيها، فقال لها: {إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ} [النمل:44]، وسليمان عمل ذلك لترى آية من آيات قدرة الله سبحانه وتعالى، فقد رأت كيف أتي بالعرش من مكان إلى مكان، وآية أخرى وهي أنه بنى صرحاً فوق الماء بحيث أنها ترى الماء تحته، فهي الآن أمام معجزة أكبر، فكشفت عن ساقيها ولم تصدق أن هذا شيء غير الماء. فلما قال لها ذلك قالت: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} [النمل:44]، أي: أعلنت أنها مؤمنة واعترفت بأنها ظلمت نفسها، فعرفت الحق ووحدت الله سبحانه، وعرفت الآن أنه الرب الذي لا إله إلا هو، وأنها ستعبده مع سليمان ومع قومه المؤمنين. وعندما قالت: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} [النمل:44]، فكأنها اعترفت بكفرها وبظلمها لنفسها بعبادة غير الله سبحانه، ثم قالت: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ} [النمل:44]، أي: أسلمت لله مع سليمان، ولم تقل: أسلمت لسليمان، فالطاعة إنما هي لرب العالمين سبحانه، وأعلنت أنها أسلمت للإله المعبود الذي يستحق العبادة، الخالق لكل شيء. وقد ذكر المفسرون عدة أسباب لكشفها ساقيها، وقد ذكر الله سبحانه أنها رأت لجة من الماء فكشفت عن ساقيها، فنحن نقف مع نص القرآن ولا نزيد على ذلك، فلسنا بحاجة لأكثر من ذلك من خرافات يذكرها البعض، أو إسرائيليات نحن في غنىً عنها. فالذي جاء في القرآن: أنه صرح ممرد في غاية النقاء والصفاء، فكأنها لم تر أمامها إلا الماء، فلما وضعت قدمها عرفت أنه زجاج وليس من ماء، وتلك قدرة ربانية وآية من الآيات، وليس السبب من كشفها لساقيها: أن يرى هل في ساقها شيء أم لا؟ فإن هذا نبي معصوم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وعظمة ذلك الصرح تظهر في أنه خفي عليها ذلك، ولم يخف عليها العرش. فقيل لها: {إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ} [النمل:44]، فدخلت الصرح واعترفت بأن الرب الخالق سبحانه هو الذي يستحق العبادة، وأما هل تزوجها سليمان أو زوجها لأحد جنوده، أو أرجعها إلى قومها؟ ف A أن القرآن لم يهتم بهذا الشيء، وكونه لم يذكره فإنه دليل أنه لا أهمية له، فلا حاجة لنا إلى أن نتتبع ما ذكره المفسرون في ذلك، ولا نذكر إلا ما صح من حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ونكتفي بهذا القدر، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة النمل [45 - 49]

تفسير سورة النمل [45 - 49] ما أرسل الله من نبي إلا وأمره بإرشاد قومه إلى عبادة الله وحده ونبذ ما سواه، وما قام نبي من أنبيائه جل وعلا بهذه المهمة إلا وكان الناس معه على طائفتين: طائفة آمنت وصدقت وناصرت نبيها، فنالت من ربها الخير والرضوان، وطائفة عتت وتجبرت، وكفرت وحاربت، فجوزيت بالنيران جزاء وفاقاً، وما كان ربك بظلام للعبيد.

فوائد تكرار القصة في أكثر من موضع

فوائد تكرار القصة في أكثر من موضع الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة النمل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ * قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ * وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ * قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [النمل:45 - 49]. هذه قصة يذكرها الله سبحانه وتعالى في سورة النمل بعد أن ذكر قصة موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام في أول هذه السورة، ثم قصة سليمان مع ملكة اليمن بلقيس، ثم ذكر قصة ثمود مع نبيهم صالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. وهذه القصة تكررت في القرآن في مواطن مع غيرها من القصص، وإن كانت هنا أفردت بالذكر عن غيرها مما يذكر معها عادة، كقصة لو مع قومه مثلاً، وقصة عاد مع نبيهم هود عليه السلام، فذكر هنا قصة ثمود فقط، ثم ذكر بعدها قصة قوم لوط. وقصة ثمود تكررت إما مطولة كما يذكر الله عز وجل في سورتي الأعراف وهود وغيرهما، أو أنها كهذه السورة وسط، وفيها شيء لم يذكر في غيرها من السور، أو يختصرها كما يشير إليها في سورة القمر مثلاً أو في سورة الحاقة. فهنا في هذه السورة يذكر جزءاً زائداً على ما في غيرها من قصص القرآن وهو قوله سبحانه: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} [النمل:48]، حيث يريد أن يرينا سبحانه وتعالى عاقبة المفسدين، وكيف أن الإنسان المفسد يحيق به مكره، كما قال تعالى: {ولا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر:43]، والإنسان الذي يتعزز ويتقوى بنفسه ورهطه، وبمكره وكيده وقوته، يأتيه الله عز وجل من حيث لا يحتسب، فإذا ظن أنه قد أمن أتاه مكر الله وعذابه سبحانه، وحيث يظن أنه قوي أتاه من قوة الله ما لا طاقة له بها، فعلى الإنسان أن يحترز من أن يستضعف إنساناً مؤمناً، أو يفعل بقوته ومكره شيئاً يغضب الله سبحانه، أو أن يكله إلى نفسه سبحانه وتعالى. وقوم ثمود كانوا بين الحجاز والشام، في منطقة تسمى حجر ثمود، يمر بهم الذاهبون إلى بلاد الشام حال كونهم خارجين من الحجاز، ولقد أرسل الله إليهم نبيهم صالحاً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، حيث قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} [النمل:45]، فدعاهم إلى الله سبحانه، وتقدم في سورة الشعراء كيف أنه قال لهم: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} [الشعراء:146 - 152]. فكان الجواب من هؤلاء الكفار لنبيهم أن قالوا له: {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} [الشعراء:153]، يعني: فإما إنك بشر مثلنا، لك صدر ورئة مثلنا، أو أنك رجل مسحور لا تدري ما تقول، فالله عز وجل ذكر هناك شيئاً، وذكر هنا شيئاً آخر، والقصة واحدة، ولكن أسلوب القرآن البديع أنه إذا كرر القصة في مواطن أتى بشيء جديد في كل موضع من المواضع؛ لأجل أن يشدك إلى سماع هذه القصة التي يسوقها ربنا سبحانه.

دعوة نبي الله صالح لقومه وشفقته عليهم

دعوة نبي الله صالح لقومه وشفقته عليهم قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا} [النمل:45]، النون نون العظمة هنا، والرسول ما جاء إلا من عند الله الواحد سبحانه، لكنه عبر بنون الجمع؛ ليدل على عظمة رب العالمين سبحانه، وفيه إشارة إلى أن الرسول ليس وحده، بل معه قوة رب العالمين سبحانه، يؤيده بملائكة وجند من عنده، والناس استضعفوه عليه الصلاة والسلام، وظنوا أنه ضعيف فأرادوا أن يكيدوا له، فانظروا كيف صنع بهم ربنا. قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} [النمل:45]، أي: يدعوهم إلى عبادة الله سبحانه وتعالى، و (أن) هنا: تفسيرية للفعل أرسلناه، وكأن المعنى: أرسلناه بأن {اعْبُدُوا اللَّهَ} [النمل:45]. و (أن) أكثر من قراءة، حيث يقرؤها أبو عمرو ويعقوب وحمزة وعاصم بالكسر، وباقي القراء يقرءونها بالضم (أنُ اعبدوا الله). فالنتيجة: إذا هم فريقان يختصمون، فريق المؤمنين وهم الأقل حيث كانوا أربعة آلاف، أما الكفار فكانوا كثيرين جداً، ولذلك قال الله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} [الأعراف:75]، فإذاً الناس فريقان: فريق المستكبرين وهم الكفار، وفريق المستضعفين وهم من الكفار ومن المؤمنين، فالذين آمنوا هم الضعفاء وليسوا الأقوياء، فهؤلاء القلة المؤمنة قال لهم الكفار: {أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ} [الأعراف:75]، قال هؤلاء المؤمنون: {إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الأعراف:75 - 76]، يعني: أنتم آمنتم بهذا الرسول وآمنتم بربه، أما نحن فنكفر بما قلتموه. وهنا يقول الله سبحانه: {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} [النمل:45]، أي: فريق المؤمنين وهم الأقل، وفريق الكفار الذين يجادلون بالباطل، والذين يملكون أسباب القوة في الظاهر، وقوله: {يَخْتَصِمُونَ} [النمل:45]، أي: يتجادلون، فالكفار يقولون: أنتم تؤمنون بهذا؟ والمؤمنون يقولون: آمنا به إنه الحق من ربنا. قال تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ} [النمل:46]، والقائل هنا: هو النبي صالح عليه الصلاة والسلام، وفي قوله: ((يَا قَوْمِ)) شيء من تليين القلوب، يعني: أنا منكم وأدعوكم للخير، قال تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} [النمل:46]، ولم: للاستفهام، وليست موضع وقف، لكن إذا وقف عليها جمهور القراء يقولون: لم، وإذا وقف عليها البزي، وابن كثير ويعقوب قالوا: لمه، استفهامية بهاء، وقوله: {لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} [النمل:46]، كأنه يقول لهم: لم تستعجلون عذاب ربكم قبل رحمته سبحانه؟ بل آمنوا بالله سبحانه وتعالى تدرككم رحمة الله سبحانه وتعالى. فقال: {لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ} [النمل:46]، أي: بجلب عذاب رب العالمين أي: بكفركم، دون أن تتفكروا في هذا الدين العظيم الذي جئتكم به، قال: {لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} [النمل:46]، أي: باستعجال ما يسوؤكم قبل أن تأتيكم رحمة رب العالمين، ولم تذنبون وتكفرون ثم تنتظرون منه الرحمة؟ وقوله تعالى: {لَوْلا} [النمل:46]، بمعنى: هلا، وهي للتحضيض والحث، والمعنى: هلا استغفرتم الله بدلاً من ذلك؟

أحوال الكفار مع أنبيائهم

أحوال الكفار مع أنبيائهم قال تعالى: {لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النمل:46]، أي: لعل الله يرحمكم ويغفر لكم هذا الذي أنتم فيه، فكان الجواب منهم كعادة الكفار حيث قالوا: تطيرنا بك وبمن معك، بمعنى: تشاءمنا منك، وأنت شؤم علينا، وهذه عادة الكفار؛ إذ التشاؤم ليس من طبيعة المسلم. وأصل التطير: التطيير، حيث كان الشخص منهم إذا أراد أن يعمل عملاً أخذ طائراً فأطلقه في الهواء، فإن طار شمالاً تشاءم منه، وإن طار يميناً تفاءل، واعتقد أن هذا يوم يمن وبركة، فحرم ربنا علينا ذلك، وما يصنع طير الطائر بأمر قضاه الله وقدره سبحانه؟ وما أدرى الطائر أن هذا الأمر خير أو شر؟ ومن الناس من يتشاءم بأمور أخرى، فبعضهم إذا سمع نهيق الحمار تشاءم، والبعض يتشاءم بصوت البوم، وآخرون بنقيق الضفادع، مع أن هذه الأشياء لا تملك لنفسها شيئاً فضلاً عن أن تملك لغيرها، ولا تعلم غيباً عن نفسها فضلاً عن أن تعلم لغيرها غيباً، فلا يحل لإنسان مؤمن أن يتشاءم من ذلك إذا سمعه. وكثير من الناس عندهم عادة سيئة، فالشخص منهم إذا سمع صوت عصفور بالليل على بيته أو غراب يصيح تشاءم، والبعض منهم يقول: هذا خير؛ من أجل أن يمنع التشاؤم عن نفسه، فهذا غير جائز؛ إذ لا يملك هذا خيراً ولا شراً، وما يصيح هذا إلا لأمر من أمر الله عز وجل، أما أنه يملك خيراً أو شراً فلا يملك ذلك، إلا ما جاء في نهيق الحمار بالليل، أو نباح الكلاب (إنها ترى ما لا ترون)، حيث أنها ترى شيطاناً، أما أنها تملك لكم شيئاً في القدر، وأن من وراء ذلك خيراً أو شراً فلا. فهؤلاء القوم {قَالُوا اطَّيَّرْنَا} [النمل:47]، بمعنى: تشاءمنا، فهم مع جهلهم وغبائهم يستدلون على بطلان دينه عليه الصلاة والسلام بزعمهم باتباع الضعفاء له، إذ لو كان دينه حقاً لاتبعه الأقوياء، قال تعالى: {قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ} [النمل:47]، أي: إذا كنتم تقولون بالشؤم في الدنيا فشؤمكم الحقيقي نار جهنم عند رب العالمين سبحانه وتعالى. فقد قال لهم: {طَائِرُكُمْ} [النمل:47]، أي: ينتظركم عند الله. وقوله: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} [النمل:47]، أي: قد أهلككم الله سبحانه وأصابتكم فتنة فلا تفهمون، وفتنة الإنسان قد تكون في دينه، وقد تكون في اعتقاده صواب رأيه، فهم يفتنون حيث مالوا عن الحق إلى الباطل في آرائهم، وطمست قلوبهم فهم لا يعقلون ولا يفهمون، قال لهم: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} [النمل:47]، وسوف يأتيكم الامتحان من رب العالمين سبحانه فيعذبكم بذنوبكم.

ذكر قصة رهط قوم ثمود مع نبيهم

ذكر قصة رهط قوم ثمود مع نبيهم قال تعالى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} [النمل:48]، وهذه هي الزيادة المذكورة في هذه السورة الكريمة، حيث كان في هذه البلدة تسعة رهط، والرهط يطلق على ما دون العشرة من الرجال، فكانوا تسعة من كبار القوم وأشرافهم، وقيل: بل أدنى، وكبار القوم أناس متعززون بآبائهم، والدين عندهم هو المال، فكانوا مفسدين كعادة أبناء أكابر القوم، فكان هؤلاء يفسدون في الأرض ولا يصلحون، بل لم يكن عندهم شيء من الصلاح، بل فيهم تهور واندفاع، والناس يتبعونهم على ذلك. قال تعالى: {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [النمل:49]، يعني: كأنهم يحلفون وقد عرفوا الله سبحانه وتعالى، وعرفوا أنه الرب سبحانه وتعالى، فحلفوا به وأشركوا به سبحانه، وأهل الجاهلية كانوا يحلفون باللات محرفة عن الله، ويحلفون بالعزى محرفة عن العزيز، فعرفوا أنه سبحانه هو الذي يخلق، ولكن عبدوا معه غيره، فهؤلاء كذلك، عرفوا الله سبحانه، ولكنهم أشركوا به وعبدوا غيره سبحانه وتعالى، فلما حلفوا بالله تقاسموا فيما بينهم على صنع عمل ما، ثم ينكرون أنه من صنيعهم، قال تعالى: {تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ} [النمل:49]، وهذه قراءة الجمهور. أما قراءة حمزة والكسائي وخلف فهي: (لتبيتنه وأهله ثم لتقولن لوليه ما شهدنا) والتبييت: القتل بالليل. والمعنى: أنهم اتفقوا على قتل نبي الله صالح وأهل بيته بالليل؛ حتى لا يفشو سرهم، والذي جعلهم يقولون هذا الشيء هو أن نبيهم عليه الصلاة والسلام توعدهم بالعذاب إن لم يؤمنوا بعد إخراج الناقة من الجبل، وكانوا قد طلبوا منه هذه المعجزة تعنتاً، ووعدوه بالإيمان به إن حصلت هذه المعجزة، فلما حصلت المعجزة كاد القوم أن يؤمنوا، إلا أن كبراءهم كانوا يمرون عليهم ويقولون: تتركون دينكم وتتبعون هذا الرجل! فما آمن معه إلا قليل من ضعفاء القوم، أما بقيتهم فظلوا على كفرهم، إذ منعهم طغيانهم ومنعهم هؤلاء المفسدون، فلما جاءت هذه الناقة قال لهم نبيهم: {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء:155]، يعني: البئر الذي عندكم تشرب منه يوماً وتعطيكم لبناً يكفيكم، واليوم الثاني تشربون أنتم، فظلوا على ذلك خائفين أن يعملوا بالناقة شيئاً ينزل عليهم العذاب من السماء، فلما طال عليهم الزمن إذا بهم يرجعون عن ذلك الخوف، ثم يتشاور بعضهم على قتل الناقة، فقام أشقى القوم واسمه قدار بن سالف، وذهب إلى الناقة فرماها بسهمه فقتلها، وأراد قتل ابنها فلم يقدر على ذلك، ففرحوا بهذا الشيء فكأنهم اشتركوا جميعاً في قتلها، وقد قال لهم نبيهم: {وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء:156]، فعقروا الناقة فإذا به يقول: انتظروا العذاب بعد ثلاثة أيام، فاجتمع هؤلاء النفر التسعة وقالوا: سيأتينا العذاب بعد ثلاثة أيام، فلم لا نقتله قبل هذا الوقت فنكون قد أخذنا بنصيبنا منه؟ فتقاسموا على أن يصنعوا ذلك، وذهبوا إليه في بيته ليقتلوه، فكان ما أخبر الله عز وجل عنهم في الآيات التي تليها. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة النمل [48 - 53]

تفسير سورة النمل [48 - 53] يخبر تعالى عن ثمود وما كان من أمرها مع نبيها صالح عليه السلام حين بعثه الله إليهم فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فافترقوا إلى قريقين: فريق المؤمنين وهم القلة، وفريق الكافرين وهم الأكثر، وأخبر عن طغاة ثمود ورءوسهم الذين كانوا دعاة قومهم إلى الكفر والضلال، والذين آل بهم الأمر إلى أن عقروا الناقة، وهموا بقتل صالح أيضاً، بأن يبينوه في أهله ليلاً فيقتلوه غيلة، فعاجلهم الله عز وجل بالعقوبة فأهلكهم، ثم أهلك قومهم بعدهم أجمعين.

قصة صالح عليه السلام مع قومه

قصة صالح عليه السلام مع قومه الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ * قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [النمل:48 - 53]. ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات وما قبلها قصة صالح النبي عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام مع قومه ثمود، وكيف أن الله سبحانه وتعالى أرسل صالحاً إلى ثمود ليدعوهم إلى عبادة الله سبحانه، وكانوا قوماً كفاراً يفعلون المعاصي ويخربون ويفسدون، فلما أرسل الله سبحانه وتعالى صالحاً إليهم ليدعوهم لعبادة الله سبحانه وطاعته قال لهم: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} [النمل:45]، يعني: فريق المؤمنين الذين مع صالح وكانوا الأقلية والضعفاء من القوم، وفريق الأكثرية والأغلبية وهم الكفار: (فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ)، كما عبر الله عز وجل في موضع آخر: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} [الأعراف:75]، أي: الذين كفروا هم المستكبرون، والذين آمنوا هم المستضعفون، فقال الكفار الذين استكبروا للمؤمنين المستضعفين: {أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ} [الأعراف:75] أي: أتستيقنون من ذلك أم أتظنون ذلك؟ فقال المؤمنون: {إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [الأعراف:75]، فقال الكافرون: {إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الأعراف:76]، {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ} [الأعراف:77]، وكانوا قد طلبوا من صالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أن يأتيهم بآية يشاهدونها، وبمعجزة يستيقنون منها أنه نبي، فلما أتاهم بهذه الآية من عند الله سبحانه كادوا أن يؤمنوا بصالح النبي عليه الصلاة والسلام، فلم يزل المستكبرون وكبار القوم يصدونهم عن الإيمان حتى كان الأقل هم المؤمنين، والأكثرية هم الكافرين. فيقول الله سبحانه وتعالى: {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} [النمل:45]، يعني: يتجادلون في أمر صالح، الفريق الضعيف وهم المؤمنون والفريق القوي الغالب وهم الكافرون، فقال صالح لقومه يحذرهم من كفرهم وطغيانهم وعصيانهم، وقد أعطاهم الله عز وجل جنات، وأعطاهم عيوناً وزروعاً وثماراً، وأعطاهم نخيلاً طلعها هضيم، وأشياء عظيمة من الله عز وجل بها عليهم، فإذا بهم يصرون على كفرهم، فقال: {يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} [النمل:46]، أي: لِمَ تستعجلون بفعل المعاصي نقمة الله وعذاب الله، بدلاً من أن توحدوا الله فتستعجلون بالحسنة جنته والنعم التي تنزل عليكم؟ لم تستعجلون عذاب الله سبحانه ولا تستعجلون رحمته؟ ثم قال لهم: {لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ} [النمل:46]، فدعاهم للتوبة والاستغفار، لعل الله أن يرحمهم، فإذا بهم يتشاءمون منه، ويعلنون له ذلك: {(قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ} [النمل:47]، قال: شؤمكم عند ربكم، يعني: ما تظنونه شؤماً في الدنيا وهو توحيد الله والدعوة إلى الله عز وجل، فشؤمكم الحقيقي ما يكون بعذابكم يوم القيامة من أعمالكم السيئة؛ لأنكم تستحقون أن توصفوا بذلك فأنتم أهل شؤم وأهل فساد، فتستحقون العقوبة من الله سبحانه وتعالى، فطائركم نتيجة كلامكم ومعصيتكم وإفسادكم العذاب عند الله، هذا هو الطائر وهذا هو الشؤم الحقيقي لكم، {قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} [النمل:47]، أي: أن الله يمتحنكم بأن أعطاكم القوة والغنى، وجعل المؤمنين هم الضعفاء.

تفسير قوله تعالى: (وكان في المدينة تسعة رهط ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون)

تفسير قوله تعالى: (وكان في المدينة تسعة رهط ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون) قال الله تعالى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} [النمل:48]، يذكر الله سبحانه قصص الأنبياء في مواطن من كتابه، في كل موضع يذكر ما يليق بقصة النبي في هذا الموضع، فهنا في قصة ثمود مع نبيهم صالح ذكر هذه الزيادة التي لم تذكر في هذا الموضع من مواضع القرآن، وهي: أنه كان في هؤلاء القوم تسعة رهط يمشون في الأرض بالفساد، واستكبروا غاية الاستكبار، وتبعهم الناس على ذلك فكانوا مفسدين. فقوله: ((يفسدون في الأرض)) أي: يأمرون بالفساد، (ولا يصلحون) أي: ليس عندهم إصلاح، ولكن يفعلون الفساد ويأمرون به أيضاً، فأخبر الله سبحانه وتعالى عن هؤلاء أنهم عملوا خطة مع بعضهم، فقال بعضهم لبعض: اكتموا وأسروا ذلك حتى لا يعلم أحد بالذي اتفقنا عليه، واحلفوا على ذلك، واقسموا بالله ألا يقوم أحد منكم فيخبر القوم بما اتفقنا عليه، قال تعالى: {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [النمل:49]، يعني: لنقتله بالليل في الظلماء هو ومن معه في الدار، بحيث لا يدري أحد أننا فعلنا هذا الشيء: ((لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ)) يعني: نذهب نحن التسعة فنقتله، مثل ما قام قدار وعقر الناقة قبل ذلك، فنبيكم هذا قال: إننا سنعذب بعد ثلاثة أيام فقبل أن يأتينا العذاب نقتله هو وأهله ثم نقول: ما رأينا ولا عرفنا شيئاً، وإذا كان صادقاً وجاء العذاب فيكون قد استرحنا منه في البداية وتشفينا منه، وإذا لم يأتنا العذاب يكون قد انتهينا من أمر هذا النبي، ((ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ)) أي: لولي دمه ولأقربائه الذين سيطالبون بدمه: ((مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ)). وقوله: ((لَنُبَيِّتَنَّهُ)) هذه قراءة الجمهور، وقراءة حمزة والكسائي وخلف: (لَتُبَيِّتُنَّهُ) يعني: قال بعضهم للبعض الآخر: (لَتُبَيِّتُنَّهُ)، كأنهم يقسمون على ذلك: والله لتفعلن ذلك: (لَتُبَيِّتُنَّهُ وأهله ثم لتقولُّن لوليه ما شهدنا مهلك أهله). وقوله: ((مَهْلِكَ)) هذه قراءة حفص عن عاصم فقط، ويقرأ شعبة عن عاصم: ((ما شهدنا مَهلَكَ أهله)) وباقي القراء يقرءونها: ((ما شهدنا مُهلك أهله))، وكأن قراءة عاصم من الفعل الثلاثي من هلك، وقراءة الجمهور من الفعل الرباعي: أهلك، يأتي منها: ((مُهلك أهله)). وعلى قراءة حفص عن عاصم: ((مَهْلِكَ أَهْلِهِ)) يكون بمعنى المكان الذي هلك فيه الأهل، وعلى القراءة الأخرى: كأنه موضع، يعني: لا نظرنا مكاناً، ولا حضرنا طريقة هلاكهم. قوله: ((وَإِنَّا لَصَادِقُونَ)) يعني: سيحلفون لهم أنهم صادقون في دعواهم عدم رؤية شيء، مع أنهم هم القتلة لو فعلوا.

تفسير قوله تعالى: (ومكروا مكرا أنا دمرناهم وقومهم أجمعين)

تفسير قوله تعالى: (ومكروا مكراً أنا دمرناهم وقومهم أجمعين) قال الله تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا} [النمل:50] أي: الذين دبروا الكيد هم تسعة وهو واحد عليه الصلاة والسلام، قالوا: نذهب إليه في بيته فنقتله هو وأهله من نساء وأولاد، {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:50]، المكر: هو الكيد الذي دبر في الخفاء، وهذا الإنسان الذي خطط في الخفاء يأتي بمن ينفذ له هذا الشيء، فهؤلاء دبروا في الخفاء وخططوا فذهبوا إلى بيت صالح عليه الصلاة والسلام فأرادوا قتله، {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا} [النمل:50]، فعبر بنون العظمة، فالله عز وجل العظيم سبحانه، فإذا كاد إنسان لأولياء الله سبحانه فالله يكيد له، والله عز وجل يقول: (من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، فكيف يصنع الله عز وجل بمن يؤذي الأنبياء؟! فذهب هؤلاء إلى بيت صالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فلما وصلوا كانت الملائكة أسبق إلى بيت صالح عليه الصلاة والسلام، فقتلوا التسعة النفر، وقد ظنوا أنهم مجموعة وهو وحده، فذهبوا إليه فإذا بالملائكة تقتلهم جميعهم، قال تعالى: {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ} [النمل:51]، أي: انظر وتأمل وتدبر في هذه الآية العظيمة من آيات رب العالمين سبحانه، {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} [النمل:51]، فعبر بنون العظمة عن نفسه سبحانه وتعالى، أي: دمرنا هؤلاء ((وَقَوْمَهُمْ)) فجاء الدمار على هؤلاء، وبعد نهاية الثلاثة الأيام جاء الدمار على القوم جميعهم بصيحة أرسلها الله عز وجل عليهم، فقال هنا سبحانه: ((فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ))، والعاقبة: هي النتيجة، فالإنسان قد يخطط ويظن نفسه قادراً وينسى قدرة الله سبحانه وتعالى، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر أصحابه بذلك، فقد ورد في قصة أبي مسعود البدري رضي الله عنه: (أنه كان يضرب عبداً له، والنبي صلى الله عليه وسلم من ورائه، ويقول: اعلم أبا مسعود، وأبو مسعود لم يسمع الصوت وما زال يضرب الغلام والنبي صلى الله عليه وسلم يقول له: اعلم أبا مسعود - أي: انتبه أبا مسعود - فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم كف عن الضرب، فقال: اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك عليه)، يعني: إذا كنت قادراً عليه؛ لأنه ضعيف، فالله أقدر عليك منك عليه. إذاً: فالإنسان يتذكر وهو في وقت غضبه وفي وقت تهوره، أنه إذا فعل شيئاً فإنه سيفعل به يوماً من الأيام، إن لم يكن في الدنيا فعذاب الآخرة أشد وأبقى. فقوله: {أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ} [النمل:51]: هذه قراءة الكوفيين: عاصم وحمزة والكسائي وخلف، وكذلك يعقوب، وقراءة باقي القراء: نافع وأبي جعفر وقراءة أبي عمرو وقراءة ابن عامر وابن كثير: ((إنا دمرناهم وقومهم أجمعين)).

تفسير قوله تعالى: (فتلك بيوتهم خاوية وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون)

تفسير قوله تعالى: (فتلك بيوتهم خاوية وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون) قال الله تعالى: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً} [النمل:52]، أي: فانظروا إلى بيوت هؤلاء الأقوام كيف حاق بها الدمار، ونزل بهم عذاب ربهم سبحانه، {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ} [النمل:52]، وكما ذكرنا في هذه الكلمة وتكررت في مواطن كثيرة من القرآن أن فيها قراءتين: قراءة: (بُيوتُهم) وقراءة (بيِوتهم)، فقراءة (بُيُوتهم) يقرؤها ورش عن نافع ويقرؤها أبو جعفر ويقرؤها أبو عمرو ويعقوب وحفص عن عاصم: ((فتلك بُيُوتهم)). وباقي القراء يقرءونها بكسر الباء (بِيوتِهم)، وهذا يتكرر فيها وفي غيرها من أمثالها، كبيوت، وشيوخ، وعيون، وجيوب، وأشياء من هذا القبيل ففيها الوجهان: الضم والكسر، وإن كان لفظ جيوب ليس في القرآن. يقول: ((فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا))، (خاوية) منصوبة على الحال، أي: حالها أن تلك البيوت صارت خاوية؛ بسبب ظلمهم. ثم قال: ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ))، أي: كل من عنده فهم يفهم، وكل من يمر على الديار فيرى آثار ثمود، فقد كانوا موجودين بين الشام وبين الحجاز، فعلوا كذا وكذا فجاءهم العذاب وأهلك الأقوام وبقيت البيوت شاهدة على من كان فيها في زمن من الأزمان، فكل من يعلم ذلك ليس عليه أن يؤمن فقط، بل لابد أن يعقل ويتفكر، ويعلم وعنده عقل يتفكر، يعلم أن هنا كانت ديار ثمود فأهلكهم الله بكفرهم. قال الله تعالى: {وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [النمل:53] أي: أهلك الله الكافرين وأنجى المؤمنين الأتقياء، وهذه سنة الله عز وجل في خلقه، فمهما تمكن الكفار أياماً وشهوراً ودهوراً فإنه في النهاية يمكن الله عز وجل للمؤمنين، حتى ولو كانوا مستضعفين، قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5]. نسأل الله عز وجل أن يمكن للإسلام والمسلمين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة النمل [54 - 59]

تفسير سورة النمل [54 - 59] قص الله عز وجل في كتابه الكريم قصص الأنبياء مع أقوامهم، ودعوتهم لهم، وكيف أنهم أوذوا وطوردوا صلوات الله وسلامه عليهم، فلم يهنوا ولم يتراجعوا، بل صبروا وثبتوا حتى أتاهم نصر الله. ولقد أكثر الله عز وجل من هذه القصص ليتدبرها المؤمن، ويستلهم منها الأسوة والقدوة والنموذج الذي يحتذي به في الدعوة، وقد حث الله عز وجل على ذكر القصص لما لها من قوة في شحذ الهمم، وتوجيه الإرادة، وهنا يقص الله عز وجل قصة لوط عليه السلام، وكيف دعا قومه، وصبر على أذاهم، وكيف آذوه حتى نصره الله عز وجل عليهم، وأهلك قومه.

قصة لوط عليه السلام مع قومه

قصة لوط عليه السلام مع قومه الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة النمل: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ * فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ} [النمل:54 - 58]. هذه هي القصة الرابعة في هذه السورة الكريمة سورة النمل، يذكر الله سبحانه وتعالى فيها باختصار قصة لوط على نبينا الصلاة والسلام مع قومه إشارة، فقال تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} [النمل:54]، فلوط أرسله الله عز وجل إلى قومه يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى: أنه أتى قومه ودعاهم إلى عبادة الله، وذكرهم به، وذكرهم أنهم يقعون في الفاحشة التي لم يسبقوا بها قبل ذلك قط، ولم تكن تعرف هذه الفاحشة قبل هؤلاء الملاعين، لعنة الله عليهم، فقال لهم هنا: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} [النمل:54]، وذكر الله عز وجل في سورة الشعراء أنه جاءهم يدعوهم إلى الله سبحانه، وأن يعبدوا الله ويتقوه سبحانه، وقال لقومه عن هذه الفاحشة {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [الأعراف:81]، أي: يأتون الرجال ويتركون النساء، فذكر أنهم قوم يجهلون، وأنهم قوم يفتنون، وأنهم يفعلون ذلك وهم يبصرون، فقال تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ} [النمل:54]، الهمزة للاستفهام والإنكار على هؤلاء، {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} [النمل:54]، الفعلة القبيحة والشنيعة والعظيمة {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} [النمل:54]، وكان لوط عليه الصلاة والسلام، وهو ابن أخ إبراهيم عليه الصلاة والسلام قد هاجر من العراق إلى الشام، فسكن إبراهيم في الشام، وتوجه لوط إلى قرية من قراها وهي سدوم في فلسطين؛ ليدعو الناس إلى عبادة الله سبحانه وتعالى، فوجدهم يأتون الفاحشة مع كفرهم بالله سبحانه وتعالى، فقال لهم: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} [النمل:54]، يعني: طريق الحق، أي: وأنتم تعرفون الحق من الباطل، وتعرفون أن هذا ليس محل النسل وليس محل الولد، وإنما تفعلون ذلك مكابرين مجاهرين بمعصيتكم لربكم، وأنتم تعلمون ذلك يقيناً؛ لأن الإنسان الذي يعلم قد يعلم مشاهدة، وقد يعلم غيباً، وهو لما قال لهم: {وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} [النمل:54]، يعني: تعلمون يقيناً كما أنكم ترون بأعينكم، فتعرفون أن هذا حرام، وتعرفون أن هذه فعلة شنيعة قبيحة لا يحل لكم أن تأتوها، قال: {وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} [النمل:54]، أنها فاحشة، وأنها من أعظم ذنوبكم.

جرائم قوم لوط عليه السلام

جرائم قوم لوط عليه السلام قال تعالى: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ} [النمل:55]، الهمزة للاستنكار والاستفهام، يقول: أتفعلون ذلك الفعل القبيح الشنيع، فتأتون الرجال دون النساء؟! وقوله: {أَئِنَّكُمْ} [النمل:55]، هذه قراءة الجمهور، وقرأها أبو جعفر وأبو عمرو: (آئِنكم) بالمد فيها، وقرأها ورش وابن كثير ورويس عن يعقوب {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ} [النمل:55]، بهمز ثم تسهيل بعدها. وقرأها هشام بالوجهين، (آئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء)، و {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ} [النمل:55]، وهذه الأخيرة قراءة الجمهور. {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً} [النمل:55]، أي: تضعون شهوتكم في رجال مثلكم دون النساء اللاتي خلقهن الله عز وجل من أجلكم، {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل:55]، فهو قد دعاهم إلى الله عز وجل وإلى عبادة الله وحده لا شريك له، ولم تكن هذه المعصية هي معصيتهم الوحيدة، ولكنها كانت أشنعها، فذكرهم بها، ومنعهم منها، ونهاهم عنها. ولم يكونوا يكتفون بفعل هذه الفاحشة مع أهل بلدهم، ولكن كانوا ينتظرون الغرباء أن يأتوا، فيستولون عليهم ويفعلون معهم هذه الفاحشة، لعنة الله عليهم وعلى أمثالهم، فقال لهم: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل:55]. أي: أهل جهل، كما يقال عن إنسان: فلان جاهل، يعني: أخلاقه سيئة، أي: فحشت أخلاقه، وكذلك هؤلاء، فعندما قال لهم: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل:55]، فإن الجهالة بمعنى: الفحش، وبمعنى: الوقوع في السيئات من الأعمال، وإلا فهم يعرفون أنها حرام؛ ولذلك ذكر الله عز وجل أن من صفات عباد الرحمن: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]، فالمؤمنون عباد الرحمن إذا مروا بجاهل ابتعدوا عنه، فإذا خاطبهم الجاهلون بلسان الأذى ردوا عليهم: سلاماً، أي: مسالمة ومتاركة بيننا وبينكم، فما لكم عندنا من شيء، فيتركونهم ولا يجيبونهم بمثل فحشهم وجهلهم وصخبهم واعتدائهم، وإنما يقولون: ((سَلامًا)). إذاً: فهنا الجهل الذي هم فيه ليس هو عدم المعرفة، فهم يعرفون أنها حرام، ولكنها عدم معرفة من نوع آخر، وهو عدم معرفة الله سبحانه وتعالى، وعدم تقدير الله حق قدره كما قال الله سبحانه: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91]، أي: أنهم عرفوا الله ولكن لم يعبدوه سبحانه حق العبادة، ولم يخافوا منه سبحانه وتعالى الخوف الحقيقي الذي يبعدهم عن معصيته سبحانه، وهذا من الجهل، وذلك مثل بني إسرائيل عندما مروا على قوم يعكفون على أصنام لهم فقالوا لموسى عليه الصلاة والسلام: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف:138]، فـ ((تَجْهَلُونَ)) هنا ليس معناها: لم تعرفوا ربكم؛ فهم عرفوا ربهم، وهم يدعونه. ولكن وصل الأمر بهم إلى أنهم لم يقدروا الله حق قدره، فأرادوا شيئاً مجسداً أمامهم حتى يعبدوه من دون الله سبحانه. إذاً: فقوله تعالى: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل:55]، من جنس هذه الجهالة، أي: أنهم لم يقدروا الله حق قدره سبحانه وتعالى، ففعلوا هذه الفاحشة، وجهلوا ما وراء ذلك من عقوبة، أو تناسوا هذه العقوبة، فكأنهم كالجاهلين {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل:55].

تآمر قوم لوط على نبيهم لوط عليه السلام

تآمر قوم لوط على نبيهم لوط عليه السلام ثم قال تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} [النمل:56]، أي: ما كان جواب هؤلاء الكفار الواقعين في هذه الفاحشة العظيمة إلا أن قالوا، وكأن هذا الذي قالوه هو جواب واحد فقط، وهو الجواب الذي ظل على لسانهم قالوا: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل:56]، أي: أخرجوهم واطردوهم من البلد، فهذا هو الجواب الوحيد الذي ردوا به على لوط، وعلى من دعاهم إلى توحيد الله سبحانه، وإلى البعد عن هذه الفاحشة، وهو أن يطردوه خارج قريتهم، قال: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل:56]، وكأنهم يظنون أنهم بطردهم للوط عليه الصلاة والسلام سيخلو لهم الجو، وسيبقى لهم الأمر يفعلون ما يشاءون ولا يعاقبون، وهنا تأتي العقوبة من حيث لا يحتسبون، ومن حيث يظنون أنهم في مأمن.

انقلاب الموازين عند قوم لوط وأشباههم

انقلاب الموازين عند قوم لوط وأشباههم قالوا: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ} [النمل:56]، وإن هنا: تعليلية، فكأن المعنى: بسبب أنهم ينهونكم عن المنكر، {إِنَّهُمْ} [النمل:56]، أي: لأنهم أناس يتطهرون، فإذاً: الجريمة التي فعلها لوط بزعمهم هي: أنه يتطهر عن هذه الفاحشة، وهنا كنظر الكثير من أهل الكفر والكثير من العصاة إلى الموحدين وإلى أهل الطاعة على أنهم على خطأ، فينظرون إلى الإنسان المتدين على أنه متزمت، ويقولون عن الإنسان الذي يعبد الله سبحانه ويتبع الكتاب والسنة: أصولي، مع أنها كلمة جيدة طيبة وليست سباً له؛ لأن كلمة أصول تعني: أنه يرجع إلى أصله من الكتاب ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن هؤلاء بغبائهم وجهلهم يزعمون أن هذا الإنسان هو صاحب الأشياء القديمة من الزمان، ويتناسون ويتغافلون أن هذه الأشياء القديمة ما هي إلا الكتاب والسنة، كتاب الله عز وجل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنهم ينفروا الناس عن هؤلاء ويقولون: هذا إنسان أصولي، وهذا إنسان رجعي، ويريد أن يرجعكم إلى القرون الوسطى. والكتاب والسنة ليسا من القرون الوسطى، وإنما كان في القرون الوسطى محاكم التفتيش، التي كانت في أوروبا، والتي كانت تحاسب الناس على ما في ضمائرهم، ولو لم تبدو هذه الأشياء، فالعصاة يقلدون هؤلاء؛ لأنهم استوردوا منهم ذلك، فيقولون عن المسلمين المتمسكين بدينهم: إنهم يريدون أن يرجعوا إلى قرون الظلام، وقد أنزل الله إلينا نوراً من عنده سبحانه وتعالى.

مجيء الملائكة إلى لوط عليه السلام

مجيء الملائكة إلى لوط عليه السلام التشبه بالكفار عادة الكفار في كل زمان، فقوم لوط قالوا عن لوط ومن معه: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل:56]، ولم يكن مع لوط إلا ابنتاه، أما امرأته فكانت كافرة، وكانت تدل هؤلاء القوم على أضياف لوط عليه السلام، قال تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ} [النمل:56]، يعني: بسبب {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل:56]، أي: يتطهرون عما نحن فيه، وصاحب المعصية لا يحب أن ينظر إليه صاحب الطاعة في وقت معصيته، وإنما يريد إبعاده، كهؤلاء يريدون أن يطردوا لوطاً، مع أن وجود لوط في قريتهم كان رحمة من رب العالمين سبحانه بهم، فلم ينزل عليهم العذاب ولوط موجود بينهم، فأرادوا طرده، وفعل الله سبحانه وتعالى لهم ما أرادوا من إخراجه، فليسوا هم من أخرجه، وإنما أخرجه ربه سبحانه وتعالى؛ حتى يكون أصحاب هذه القرية كلهم عصاة، فتنزل العقوبة على الجميع من السماء. ففتنهم الله عز وجل فتنة عجيبة، وذلك بأن أرسل ملائكة في صورة شباب حسان الوجوه؛ ليفتن بهم هؤلاء القوم، وكانوا ثلاثة فمروا على إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فلما علم أنهم ملائكة جادلهم قائلاً: أتهلكون قرية فيها أربعمائة مؤمن؟ قالوا: لا، فما زال ينزل معهم إلى أن قال: أتهلكون قرية فيها مؤمن واحد؟ قالوا: ل،. {قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا} [العنكبوت:32]، فلما أتوا إلى لوط نظر إليهم وقال: {هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود:77]، أي: ماذا سأعمل لهم وأنا وحدي، وليس معي جيش يدافع عني، وليس معي إلا بنتان؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رحم الله أخي لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد)، فكأنه نسي ذلك، أو كأنه يقصد جيشاً من البشر المؤمنين؛ ليجاهد بهم هؤلاء القوم.

مدافعة لوط لقومه دفاعا عن أضيافه

مدافعة لوط لقومه دفاعاً عن أضيافه ثم إن لوطاً لما آوى عنده الملائكة رآهم شباباً ولم يعرف أنهم ملائكة، فخرجت امرأته إلى القوم وخانت، فذهبت إليهم وقالت: إن شباناً حساناً مع لوط في البيت، فجاءه قومه يهرعون ويتدافعون ويركضون نحو بيت لوط عليه الصلاة والسلام، فلما وصلوا إلى بيته أرادوا دفع الباب حتى يدخلوا عليه، وقالوا: {أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ} [الحجر:70]، أي: أولسنا نهيناك أن تنزل عندك أحداً من غير أن تقول لنا؟ {أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ} [الحجر:70]، قال: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي} [هود:78] يعني: بنات القوم؛ لأن كل نبي أب لقومه، فقال: ((هَؤُلاءِ بَنَاتِي))، يعني: النساء اللاتي عندكم. {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود:78]، أي: مما تقعون فيه من هذه الفاحشة المنكرة. فلما أبوا إلا الدخول عليه قال من غضبه ومن ضعفه في هذه الحالة: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80]، فلما ضاق به الأمر أظهر له الملائكة أنفسهم بأنهم رسل الله، فلا داعي للخوف من هؤلاء، فقالوا: {إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} [هود:81]، أي: هم يطرقون عليك الباب من أجل أن يدخلوا، دعهم يدخلون، فلما فتح الباب ألقوا في وجوههم شيئاً، فعميت أبصارهم، فرجعوا متقهقرين وهم يتوعدون لوطاً. ولو كان عندهم عقل، أو شيء من البصر لعلموا أن هذا مؤيد من ربه، ولآمنوا وانتهوا، ولكن أبوا إلا أن يتوعدوا لوطاً بأنهم سيرجعون له مرة ثانية، فلما خرجوا خاف لوط عليه الصلاة والسلام، فطلبت منه الملائكة أن يخرج، فكأنه تعجل الانتقام من هؤلاء، فقالوا: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود:81]، أي: نحن الآن بالليل، وفي الصبح سيأتي عذابهم، {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود:81]. وأمروه بالخروج هو وأهله، {إِلَّا امْرَأَتَكَ} [هود:81]، والمعنى: أنها لا تخرج معك، أو ستخرج معك، ثم سترجع للعذاب مع قومها.

عذاب قوم لوط عليه السلام

عذاب قوم لوط عليه السلام فلما خرج لوط عليه الصلاة والسلام ومن معه قال الله سبحانه وتعالى: {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ} [النمل:57]، والله سبحانه إذا قدر شيئاً فلا بد أن يكون هذا الشيء كما قدر، والتقدير عند الإنسان أو عند الناس بمعنى: القياس الدقيق للشيء، فعندما يريد أن يفصل قماشاً فإنه يقيسه بالسنتيمتر، ويرسم على المقاس، ويقص عليه، فإذاً: التقدير هنا: من قدر، أي: قاس وأتى على الوجه الذي قدره، والله سبحانه وتعالى قدر الشيء وقضى أن يكون هكذا، فإنه يقع ما شاءه وأراده سبحانه وتعالى، فقال سبحانه عن امرأة لوط: {قَدَّرْنَاهَا} [النمل:57]، أي: جعلنا قدرها أن تكون مع الغابرين، أي: مع الباقين في عذاب رب العالمين. و ((قدَّرناها)) هذه قراءة الجمهور، وقرأها شعبة عن عاصم: ((قَدَرْنَاها من الغابرين))، فخرج لوط ومعه ابنتاه وامرأته، وخدرت الملائكة لوطاً: {وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ} [هود:81]، أي: أنها هي التي ستلتفت، فالتفتت فرأت العذاب ينزل من السماء، فصرخت على قومها، فأتاها عذابها من عند ربها، {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:82 - 83]، أي: حجارة من نار نزلت على هؤلاء فأهلكهم الله سبحانه، {مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} [هود:82] إلى قال: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83]، يعني: لا أحد سينجو من عذاب الله سبحانه، فإن هؤلاء ظلموا فجاءهم العذاب، ومن يظلم بعد ذلك فليس عذاب الله سبحانه بعيداً منه، قال: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا} [الأعراف:84]، أي: نزلت عليهم حجارة من نار جهنم كالمطر من السماء، وكان كل إنسان تأتيه حجارته فيهلكه الله سبحانه، كما قال تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ} [الشعراء:173]، أي: بئس مطر المنذرين، فكان المطر بئيساً سيئاً على هؤلاء الذين أنذروا فلم يعتبروا، وذكروا فلم يتذكروا، فأهلكهم الله، ثم عقب ذلك بقوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} [النمل:59]، أي: احمد ربك سبحانه على أن أهلك الظالمين، ومكن للمؤمنين. نسأل الله عز وجل أن يهلك الظالمين، وأن يمكن للمؤمنين، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة النمل [59 - 60]

تفسير سورة النمل [59 - 60] لقد أنعم الله عز وجل على عباده بنعم كثيرة لا تعد ولا تحصى، تحار فيها العقول والألباب، ومن نعمه سبحانه وتعالى أن سخر لهم هذا الكون بما فيه من خلق السماوات والأرض وما فيهن من آيات بينات تدل على خالقها سبحانه، ومع ذلك فقد أبى المشركون إلا عبادة غيره سبحانه وتعالى، وهذه الآيات فيها مناقشة مفحمة وملجمة لهم، بما فيها من دلائل حياتية تقنع من له أدنى مسكة من عقل.

نعم الله على عباده

نعم الله على عباده الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة النمل: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل:59 - 64]. في هذه الآيات العظيمة الكريمة الجليلة من هذه السورة سورة النمل يذكر الله سبحانه وتعالى آيات من آيات قدرته سبحانه وتعالى، ويبين لنا عظيم ما فعله بعباده سبحانه، فهو القدير، وهو العليم، وهو الرءوف الرحيم سبحانه، فيرينا هذا الذي يصنعه من هذه الأفعال العظيمة، والتي تدل على كرمه وقدرته، وإكرامه لعباده، فهل الذي يصنع ذلك هو الله الذي يستحق العبادة، أم هو إله غيره يصنع ذلك فيستحق أن يعبد مع الله سبحانه وتعالى؟! والجواب عن كل سؤال من هذه الأسئلة: أن الذي يصنع ذلك هو الله وحده لا شريك له، وليس أحد غيره يقدر على ذلك. فإذاً: لا يستحق أن يعبد إلا الإله الخالق وحده لا شريك له.

المناسبة بين قوله تعالى (قل الحمد لله) والآيات السابقة

المناسبة بين قوله تعالى (قل الحمد لله) والآيات السابقة قال تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} [النمل:59]، وهنا مناسبة عظيمة جميلة بين هذه الآية وبين ما قبلها، فقد ذكر لنا سبحانه وتعالى أربع قصص في هذه السورة، فذكر قصة موسى عليه الصلاة والسلام مع فرعون، وكيف أنجى الله موسى، وكيف أهلك فرعون. ثم ذكر قصة ثانية، وهي قصة سليمان عليه الصلاة والسلام، وكيف أن الهدهد دله على أن هناك ملكة تعبد الشمس من دون الله سبحانه، وقد ولاها القوم، وقلدوها في عبادة غير الله سبحانه وتعالى. ومع أن سليمان النبي عليه الصلاة والسلام قد جعله الله ملكاً، فإنه مع ملكه العظيم لم يطلع على شيء، وهو قريب منهم، فقد كان في الشام وهي في اليمن، ومع ذلك لم يعرف شيئاً مع كثرة جنوده من الإنس والجن والطير، ومع ما عنده من تسخير للرياح وغيرها، إلا أنه لم يطلع على ذلك، ولم يعرف أن هؤلاء الأقوام يسجدون للشمس من دون الله. فلما عرف ذلك بعد أن عرفه الهدهد إذا به يرسل إليهم من يدعوهم إلى توحيد الله سبحانه وتعالى، ويهددهم بما أعطاه الله عز وجل من قوة، فإما أن يأتوا إليه مسلمين، وإما أن يخرجهم من أرضهم أذلة وهم صاغرون، وإذا بالله سبحانه وتعالى ينصر سليمان عليه الصلاة والسلام، وتستجيب الملكة وتؤمن بالله في النهاية؛ فأخرجهم الله سبحانه من ظلمات ظلمهم، ومن ظلمات شركهم إلى عبادة الله سبحانه وتعالى وحده لا شريك له. ثم ذكر لنا قصة ثمود مع نبيهم صالح عليه الصلاة والسلام، وكيف أنهم عتوا وتكبروا وتجبروا وأفسدوا في الأرض، فدعاهم نبيهم إلى عبادة الله وحده، فأبوا إلا التكذيب والإعراض؛ فأهلكهم الله سبحانه بما شاء من صيحة وريح أرسلها عليهم، فأهلكهم جميعهم وجعلهم خامدين، فكانت آية من آيات قدرة الله سبحانه وتعالى. ثم ذكر لنا قصة أخيرة وهي قصة لوط عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام مع قومه أهل سدوم الذين أشركوا بالله سبحانه، ووقعوا في الفاحشة، وهي إتيان الذكران من العالمين بدلاً من أن يتزوجوا النساء، فدعاهم نبيهم إلى توحيد الله سبحانه، وإلى ترك ما هم فيه والتوبة إلى الله، فأبوا إلا أن يطردوه ويخرجوه، فأخرجه الله سبحانه تبارك وتعالى من بين أظهرهم، وأهلكهم سبحانه بعذاب من نار جهنم، فأرسل عليهم حجارة من سجيل كالمطر؛ فأخذهم سبحانه وجعلهم آية. ففي هذه القصص الأربع التي ساقها الله سبحانه يبين لنا كيف أنه ينجي المؤمنين، وكيف ينصرهم سبحانه، وكيف يهلك الظالمين، فلا يسعك وأنت تسمع ذلك إلا أن تقول: الحمد لله. فقد ذكر الأنبياء والمرسلين وبين أنهم دعوا إلى الله سبحانه، وأنهم أهينوا، وأنهم أوذوا في الله سبحانه وتعالى، فإذا بالله ينصرهم، فلا يسعك إلا أن تقول: الحمد لله رب العالمين! فأمرك الله عز وجل بها: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} [النمل:59]، فقال هذا لنبيه صلى الله عليه وسلم وهو يقولها ولا شك، فمن باب: (إياك أعني واسمعي يا جارة)؛ ولأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمر لمن تبع النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أمر عباده أن يحمدوا الله إذا قرءوا كتابه العظيم، حيث أنه أرشدهم إلى أن يطلعوا على ذلك، وهداهم إلى هذا الدين العظيم، وجعلهم مسلمين، وجعلهم يتعظون بمصير هؤلاء فلا يقلدونهم، ولا يكونون من الظالمين أمثالهم، وبأنه جعلهم يتأسون بالأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام في صبرهم، وفي حكمتهم، وفي دعوتهم أقوامهم إلى الله سبحانه وتعالى، فيقولون: الحمد لله، ويصلون ويسلمون على أنبياء الله ورسله، بأمر الله سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (قل الحمد لله وسلام على عباده الذي اصطفى)

تفسير قوله تعالى: (قل الحمد لله وسلام على عباده الذي اصطفى) قوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل:59]، أي: احمدوا الله سبحانه، وصلوا وسلموا على أنبيائه ورسله الذين اصطفاهم واختارهم واجتباهم ورفعهم فوق غيرهم، وجعلهم يدعون إليه وحده لا شريك له. فهي آية عظيمة، وختام جميل لهذه القصص التي ذكرها الله سبحانه وتعالى. ولما ذكر لنا أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد دعوا أقوامهم إلى التوحيد، فإنه يدلنا على أنه يستحق العبادة؛ لأنه وحده لا شريك له وكل إنسان مؤمن يعرف ذلك، ولكن الكافر يحتاج إلى أن يبين له حتى يرجع إلى عقله، ويعود إلى صوابه، ويبين له بما قاله الله سبحانه وتعالى: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل:59]، فهذا الكافر الذي يشرك بالله يعترف بأنه الخالق ثم يعبد غيره سبحانه وتعالى، أو ينكر ألوهية الله سبحانه وتعالى، فيقول له سبحانه: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل:59]، أي: هل الله سبحانه خير أم هؤلاء الذين تدعونهم من دون الله سبحانه وتعالى؟! فهناك خير وهناك شر، فإذا تبصر الإنسان علم أن الخير كله عند الله، فالله خير، وما يشركون به من دون الله لا ينفعون أنفسهم فضلاً عن غيرهم، ولا يملكون أن يدفعوا ضراً عن أنفسهم ولا عن غيرهم، فهم شر لأنفسهم ولغيرهم فكيف يعبدونهم من دون الله؟! وكل إنسان له عقل سليم يقول: الله سبحانه خير، وهؤلاء كلهم شر، لا ينفعون ولا ينتفعون. وقوله تعالى: ((أَاللَّهُ خَيْرٌ))، عند جميع القراء يجوز أن تمد مداً طويلاً: آلله خير، ويجوز أن تسهل الهمزة الثانية فتقول: ((أَاللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ))، ولا يجوز فيها أن تقرأ بهمزة ثانية عند أي أحد من القراء، فلا يجوز أن تقول: أألله خير. وقوله تعالى: ((أَمَّا يُشْرِكُونَ))، هذه قراءة أبي عمرو ويعقوب وعاصم، وقرأ السبعة الباقون: (أما تشركون)، بالخطاب.

حسن الافتتاح في الخطب والمواعظ

حسن الافتتاح في الخطب والمواعظ وقد علمنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات حسن الافتتاح، أي: أن تفتتح كلامك بحمد الله سبحانه، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح كلامه وخطبه بحمد الله سبحانه، سواء كانت خطبة للعيد أو للجمعة أو غيرها، حتى في خطبة النكاح كان يبدأ بحمد الله سبحانه وتعالى. يقول الإمام القرطبي رحمه الله: فيه تعليم حسن، وتوقيف على أدب جميل، وبعث على التيمن بالذكرين والتبرك بهما، بذكر الله سبحانه، والصلاة والسلام على أنبيائه عليهم الصلاة والسلام. يقول هنا: وفيه الاستظهار بمكانهما على قبول ما يلقى إلى السامعين، يعني: أن الإنسان عندما يريد الكلام في موضوع ويدخل فيه من غير ذكر الله سبحانه وتعالى، فإن هذا يكون قبيحاً، فما ذكر الله في شيء إلا وكان فيه البركة، وما ذكر أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام فصلي وسلم عليهم إلا كان فيه الخير والبركة. وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من مجلس لا يذكر فيه الله ولا يصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم إلا كان على أصحابه ترة يوم القيامة). وذكر: (ما من قوم يجلسون مجلساً فلا يذكرون الله ولا يصلون على نبيه صلى الله عليه وسلم ثم قاموا إلا قاموا عن مثل جيفة حمار). فمن الأدب: أنه إذا بدأ الإنسان في مجلسه أو درسه أو حديثه أو خطبته فليبدأ بذكر الله سبحانه، وبالصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول الإمام القرطبي رحمه الله: وفيه الاستظهار بمكانهما على قبول ما يلقى إلى السامعين، والإصغاء إلى من يتكلم، وإنزال ذلك في قلوبهم المنزلة التي يبتغيها المستمع إذا حدثهم، فبدأ بذكر الله سبحانه. قال: ولقد توارث العلماء والخطباء والوعاظ كابراً عن كابر هذا الأدب، فحمدوا الله، وصلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام كل علم مفاد، وقبل كل عظة، وفي مفتتح كل خطبة، وتبعهم المترسلون - يعني: الكُتَّاب - فجروا عليه في أوائل كتبهم. فهذا هو الأدب: أن يبدأ الإنسان -سواء كتب كتاباً أو كتب صحيفة- بذكر الله عز وجل في الخطبة وغيرها، فليبدأ بذكر الله كما قال هنا: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل:59].

عظمة الله وقربه من عباده

عظمة الله وقربه من عباده قال تعالى: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل:59] قرأ أبو عمرو ويعقوب وعاصم: أما يشركون، على الغيب. وقرأ باقي القراء على الخطاب: ((أَمَّا تُشْرِكُونَ))، فكأنه يوجه الخطاب للمشركين أن يتفكروا: آلله صاحب النعم العظيمة أحق بالعبادة أم هذه الأصنام التي لا تنفع ولا تضر والتي تعبدونها؟ وهل إله مع الله يفعل ذلك؟! وقد جاء في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد عن رجل من بلهجيم قال: قلت: يا رسول الله! إلام تدعو؟ فهذا رجل كان كعادة الأعراب فيه جفاء، ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان لابساً ثوباً يجره، فقال: (إلام تدعو؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أدعو إلى الله وحده الذي إن مسك ضر فدعوته كشف عنك، والذي إن ضللت بأرض قفر دعوته رد عليك، والذي إن أصابتك سنة فدعوته أنبت عليك). فبين له من الذي يدعو إليه، أي: أدعو إلى الله صاحب النعم العظيمة الذي أنعم عليك، والذي تدعوه متوسلاً إليه سبحانه حين تقع أو تنزل بك مصيبة من المصائب. وقوله: (إن مسك ضر فدعوته كشف عنك)، وهو سبحانه يفعل ذلك بالمسلمين والكافرين، فالذي يصاب بالضر من مسلم أو كافر ويجأر إلى الله قائلاً: يا رب! فإن الله عز وجل يعطيه ويفرج عنه بفضله وكرمه سبحانه. قال: (والذي إن ضللت بأرض قفر دعوته فرد عليك)، أي: إذا ضاع منك جملك، أو ضاعت منك ماشيتك في صحراء فدعوت ربك رد عليك ذلك، فهذا الإله العظيم هو الذي أدعو إليه. قال: (والذي إن أصابتك سنة)، والمعنى: إن أصابتك سنة شديدة فيها قحط ومجاعة وشدة، فيعبر عن شدة الزمان والوقت بالسنة. قال: (دعوته أنبت عليك)، أي: إن كان هناك جدب ولا يوجد مطر فدعوت الله أنزل عليك المطر، فأنبت لك فأكلت، فهذا الإله هو الذي أدعو إليه، فسلم الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم، وقال: (قلت: أوصني فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تسبن أحداً، ولا تزهدن في المعروف ولو أن تلقى أخاك وأنت منبسط إليه وجهك). فنصحه النبي صلى الله عليه وسلم بألا يشتم أو يسب أحداً، ولا يزهد في معروف، مهما كان هذا المعروف قليلاً؛ لأنه ينفعه يوم القيامة، وأقل المعروف: أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط، يعني: تلقى أخاك وأنت غير مكشر. قال: (ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي (. يعني: أن من أقل المعروف: أنه إذا طلب أحد منك قليل ماءٍ فأفرغ له. قال: (ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، واتزر إلى نصف الساق)؛ وذلك لما رأى أنه يجد إزار على الأرض، فقال له: ارفع إزارك إلى نصف الساق، يعني: ما بين الركبة والكعب وليس كل الناس يفعل ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: (فإن أبيت فإلى الكعبين)، أي: إن لم تحب ذلك ولم ترده فأنزله إلى العظم الذي في آخر الساق، ولا تزد على ذلك. ثم قال: (وإياك وإسبال الإزار، فإن إسبال الإزار من المخيلة)، أي: إن الإنسان المعجب بنفسه هو الذي يفعل ذلك، حتى وإن قال: إنه لا يفعله خيلاء، يقول: فعلك ذلك دليل على أنك من أهل الخيلاء. ثم قال: (وإن الله تبارك وتعالى لا يحب المخيلة).

تذكير الله لعباده بخلق السماوات والأرض وما فيهما من نعم

تذكير الله لعباده بخلق السماوات والأرض وما فيهما من نعم يقول الله سبحانه وتعالى هنا: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا} [النمل:60]، يذكر الله سبحانه أنه خلق السماوات والأرض بما في السماوات من نجوم وأقمار ومجرات، فهي آيات عظيمة. وأنزل من السماء ماء شربتم منه وادخرتموه، حتى وإن لم تدخروه فإن الله قد جعل له أماكن في الأرض يخزن فيها، فتنتفعون به وتشربونه. ثم أنبت لكم به الحدائق العظيمة، فقال: {فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} [النمل:60]، والحديقة: البستان الذي يحدق به الحائط، يعني: البستان المسور؛ ولهذا يسمى بالحديقة، وأما إذا كان من غير سور ولا حائط فيسمى: بستاناً، أو يسمى: حائطاً إذا كان عليه حائط، وقد وصف الحديقة هنا بأنها: ذات بهجة، أي: تبهجك وتسرك إذا نظرت إليها، والبهجة: المنظر الحسن الذي يريح الناظر، فيتمتع ويتفكه بما فيها، فيفرح بها ويسر، ومن الذي صنع لكم ذلك وأنتم: {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} [النمل:60]؟! فإن الإنسان لا يقدر أن يأخذ نواة ويضعها في الأرض وينبتها، بل إنه ينتظر فضل الله سبحانه أن ينزل الماء من السماء، وأن يأمرها أن تنبت بفضل الله وبرحمته، فكم من نواة يلقيها الإنسان ولا تنبت شيئاً! وكم من نواه يلقيها الإنسان لا يلقي لها بالاً وينبتها الله عز وجل بغير إرادة من أحد! فإن الله على كل شيء قدير، فمن الذي صنع ذلك؟ {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل:60]؟! و A إنه لا إله غير الله يستحق أن يعبد مع الله سبحانه، فالله هو الذي صنع ذلك، وهو الذي يستحق العبادة، ولكن هؤلاء قوم يعدلون، فكأنهم جعلوا الله معادلاً، وجعلوا له شريكاً، فهم قوم يشركون بالله. نسأل الله عز وجل أن يحيينا على التوحيد، وأن يتوفانا عليه، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة النمل [59 - 61]

تفسير سورة النمل [59 - 61] بين الله سبحانه وتعالى عظمته وقدرته في خلق السماوات والأرض وما فيهما من مخلوقات وأنهار ونبات، كل ذلك ليدلل على بديع صنعه، وأنه الرب الخالق المستحق للعبادة من خلقه، ويا للعجب! كيف يعرف كثير من المشركين مخلوقات الله وينسبون صنعها إلى الله وفي نفس الوقت يعبدون غيره، ويشكرون آلهة باطلة من دونه سبحانه!

بيان عظمة الله عز وجل

بيان عظمة الله عز وجل الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: فيقول الله عز وجل: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل:59 - 63].

اعتراف المشركين بربوبية الله في الآيات

اعتراف المشركين بربوبية الله في الآيات ذكر الله سبحانه وتعالى بعض أنبيائه في هذه السورة الكريمة في الآيات السابقة، وذكر كيف أنه نصرهم على أعدائهم من الكفار، وأنهم بلغوا رسالة رب العالمين سبحانه -والسورة سورة مكية أي: أنها نزلت في زمن كان يؤذى فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه- فكأن الله سبحانه يصبرهم بذلك، ويعلمهم بأن النهاية أن يكون النصر لأولياء الله سبحانه وتعالى، فختم بقوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل:59]. فقوله سبحانه: ((آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ))، الاستفهام في الآية لهؤلاء: أن أجيبوا عن ذلك، ومعناه التقرير بأن حقيقة الأمر: أن الله سبحانه وتعالى خير من كل شيء، فالجواب معروف منه، وكذلك كان يجيب المشركون، وقد أثبت سبحانه عليهم ذلح، حيث يقول: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87]، فهم يجزمون بأن الله هو الخالق، وأن الله يقدر على كل شيء، وأن غيره لا يقدر على شيء، ولذلك إذا مسهم الضر في البحر {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65]، فقد اعتادوا إذا نزل بهم الضر أن يجأروا إلى الله فيقولون: يا رب! يا الله! فإذا كشف الله عز وجل عنهم ذلك رجعوا مرة أخرى إلى شركهم، فمع أنهم موقنون أن الذي ينفع ويكشف عنهم ضرهم وقت الضر هو الله سبحانه، فلذلك إذا سئلوا: آلله خير أم هؤلاء الذين تشركون؟ أجابوا: بل الله خير! فإن سئلوا لماذا تعبدون هؤلاء؟ قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، وهم بهذا الجواب يخدعون أنفسهم، حيث يقولون ذلك وهم يعتقدون خلافه. يقول الله مبيناً نعمه سبحانه: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [النمل:60]، أي: هل تستطيع هذه الآلهة الباطلة من الإنس والجن ومخلوقات أخر لو اجتمعوا أن يخلقوا السموات والأرضين؟ قال سبحانه: {وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} [النمل:60]، ومن أنزل من السماء ماءً؟ جوابهم المعروف: الله الذي فعل ذلك، فكأن الله يذكرهم بالنعم التي يتقلبون فيها ليل نهار، فيقول: هذه السموات التي تظلكم، وهذه الأرضون التي تقلكم، وهذه الشمس والقمر اللذان ينيران لكم، من الذي خلق ذلك كله؟ ولما كان جوابهم: الله سبحانه وتعالى، لم يقل لهم: أرب مع الله، وهنا نلحظ الفرق بين أن يقول: أرب مع الله، وهو مقتضى الاستفهام، أو يقول: {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:60]، لأنه إن قال: أرب مع الله، فهم لم ينكروا الرب سبحانه وتعالى، فلا يحتاجون إلى مثل هذا السؤال، فقد أقروا أن الرب الذي يخلق ويدبر ذلك الكون هو الله، ولكن Q إذا كنتم تعترفون بأن الرب هو الذي فعل ذلك فهل من إله يعبد مع هذا الرب سبحانه وتعالى؟! هل يستحق من لا يخلق أن يعبد مع من يخلقه؟! لذلك كان الاستفهام إنكاراً لأفعالهم وبعدهم عن الله سبحانه وإفكهم وافترائهم على الله الكذب، فقال: {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:60]، أي: هل هناك إله يستحق العبادة مع هذا الإله العظيم الذي خلق وفعل هذا كله؟ وإن كان المفترض أن يكون جوابهم: لا، ولكنهم يعبدون غير الله ويشركون معه سبحانه وحالهم يفيد ذلك؛ لذلك كرر عليهم في كل آية من الآيات بعد أن يذكر النعم هذا Q هل إله غير الله يستحق أن يعبد، مع أن الله الذي فعل لكم ذلك، وغيره لم يفعلوا ذلك؟! لو أن إنساناً يقول: إن غير الله ممن لا يصنع ولا يخلق يستحق العبادة، فهذا لا يستحق أن يعيش في هذه الدنيا؛ لأنه لا عقل له ليفهم، فهو كالبهائم بل هو أضل سبيلاً.

حكمة الجمع والإفراد في الآيات

حكمة الجمع والإفراد في الآيات يقول الله سبحانه وتعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [النمل:60]، (من السماء) أي: من السحاب الذي في السماء نزل الماء على الأرض، وقوله سبحانه: {أَمَّنْ خَلَقَ} [النمل:60]، أفرد فكان المعنى: من الذي خلق؟ الله سبحانه، {وَأَنزَلَ لَكُمْ} [النمل:60]، وأفرد هنا أيضاً، فالضمير في الفعلين عائد على مفرد: {وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا} [النمل:60]، قوله: (فأنبتنا) أما هنا فعبر بنون الجمع، إذ أنه في الأشياء التي لا يدعيها الإنسان لا يحتاج إلى أن يذكر له ضمير الجمع والعظمة، فالإنسان مقر ومعترف. أما لو أن الإنسان يقول: أنا أفعل، فيقول الله سبحانه: نحن نفعل، فيعبر بنون العظمة حتى يعرف الإنسان حقارة نفسه، وأنه لا شيء، وقد يدعي الإنسان فيقول: أنا الذي آتي بالبذرة وأضعها في الأرض، وأصب عليها الماء، وأنا الذي أسمد الأرض وأرعى الحب، وأنا أراعي هذا إلى أن ينبت، فالله عز وجل يقول: {فَأَنْبَتْنَا} [النمل:60]، نحن الذين نفعل ذلك، ولست أنت الذي تقدر على ذلك. فنحن ألهمناك الصواب، وعلمناك كيف تصنع ذلك، وسواء بذرت أم لم تبذر فما شاءه الله عز وجل كان، أو فعلت أنت أو فعل غيرك، فالله سبحانه وتعالى هو وحده الذي يخلق ويرزق، فعبر بنون الجمع هنا لبيان عظمته سبحانه وتعالى، وحقارة خلقه: {فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} [النمل:60] والحديقة: البستان المحدق بحائط، أي: الذي عليه سور، وقوله سبحانه: {ذَاتَ بَهْجَةٍ} [النمل:60]، أي: ذات منظر حسن، إذ أن الإنسان حين ينظر إلى الحديقة تعجبه فيسر بمنظرها الجميل الذي جعله الله عز وجل للإنسان كما جعل فيها طعامه وشرابه، وجعله ينظر إليها فيبتهج بمنظرها، قال: {حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} [النمل:60].

القراءات الواردة في قوله وذات بهجة

القراءات الواردة في قوله وذات بهجة قوله سبحانه: {ذَاتَ بَهْجَةٍ} [النمل:60]، الجمهور إذا وقفوا على (ذات) ينطقون التاء، وهي مكتوبة: تاء مفتوحة، أما الكسائي فانفرد بأنه إذا وقف عليها يقول: (ذاه) بالهاء، فيقرؤها خلافاً للجمهور، أما في الوصل فينطقونها جميعهم بالتاء، إلا أن الكسائي إذا وقف على (بهجة) قرأها بالإمالة فيقول: (بَهجِه)، بالإمالة، أما الباقون فيقفون عليها. وقوله سبحانه: {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} [النمل:60]، هنا يؤكد الله الخالق العظيم عليهم، فقوله: {فَأَنْبَتْنَا} [النمل:60]، حين عبر بنون العظمة ونفى عنهم الإثبات، والمعنى: لستم أنتم الذين تفعلون ذلك، فأنتم تأخذون بالأسباب فقط، والله سبحانه وتعالى هو الذي يقدر ويخلق ويفعل ذلك. ثم يردف قوله سبحانه: {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} [النمل:60]، بسؤال فيقول: {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:60]، أي: هل هناك إله يستحق أن يعبد مع الله سبحانه الذي فعل ذلك؟! وهل آلهتكم فعلت ذلك فتستحق العبادة؟ A لا.

القراءات الواردة في قوله (أئله مع الله)

القراءات الواردة في قوله (أئله مع الله) وفي قوله سبحانه: {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:60] قراءات، الأولى: قراءة الجمهور بالقطع كما هو الرسم في المصحف، ويقرؤها البعض بالمد والتسهيل، ومنهم قالون، وأبو عمرو ويعقوب، (آيله مع الله)، ويقرؤها ورش وابن كثير: (أيله مع الله) بالتسهيل بغير مد. ويقرؤها هشام بوجهين، فيقرأ: (آئله مع الله)، بالمد فيها، ويقرأ كغيره من القراء: (أئله مع الله)، فأصبح فيها أربعة أوجه: (آئله مع الله)، (أئله مع الله)، (أئله مع الله)، (آيله مع الله)، رد عليهم سبحانه وتعالى؛ لأن فعلهم يبين أنهم يعبدون غير الله، فقال: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل:60]، ويعدلون: من عدل أي: جعل مع الله عديلاً له سبحانه، كما يضع الإنسان العدل على الجمل، في إحدى الجهتين عدل وفي الأخرى عدل، فهم يعدلون مع الله، أي: يجعلون معه آلهة أخرى سبحانه، يساوونها به سبحانه وتعالى، {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل:60]، والمعنى: يشركون.

عظمة الله في الأرض

عظمة الله في الأرض ثم قال سبحانه: {أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا} [النمل:61]، أي: من الذي جعل الأرض قراراً تستقرون فوقها، مع أنها تدور حول نفسها بسرعة عظيمة جداً في هذا الكون الواسع، وجعلكم لا تشعرون بسرعة سيرها؟ معلوم أن الإنسان عندما يركب وسائل النقل من سيارات وغيرها، أو يركب شيئاً يتحرك عموماً إن لم يكن يمسك نفسه يقع منها، والأرض تتحرك بأسرع من ذلك بكثير، وهي تدور حول نفسها في الكون، ومع ذلك لا يقع الإنسان ولا يستشعر ذلك، فمن الذي جعلها قراراً لهذا الإنسان ليستقر فوقها؟! يقول سبحانه: {أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً} [النمل:61]، أي: شق في جوفها أنهاراً تجري فأجراها، وجعل فيها الماء العذب، وجعل في محيطاتها الماء المالح، وكل ذلك بحكمة من الله سبحانه وتعالى، من الذي صنع ذلك؟ وجعل لهذه الأرض رواسي كما قال سبحانه: {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا} [النمل:61]؛ يرى المتأمل فيها قدرة عظيمة لله الخالق سبحانه وتعالى، فالله جعل الأرض قراراً، وجعل خلالها، أي: شق في جوف هذه الأرض، فجعل خلالها أي: بين خللها وشقوقها أنهاراً، {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ} [النمل:61]، ترسيها وتثبتها، ومعلوم أن للأرض قشرة سطحية رقيقة، وتوجد سوائل في داخل الأرض منصهرة من المعادن المذابة، فلو تركت بلا جبال لاهتزت قشرة الأرض كالمركب أو السفينة فوق هذه السوائل، ولكن الله سبحانه جعل الجبال فيها كالوتد يثبت القشرة الأرضية في باطن الأرض فلا تهتز ولا تتحرك إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى. قال سبحانه: {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ} [النمل:61]، ترسيها فلا تميد بالناس: {وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا} [النمل:61]، أي: البحر العذب والبحر المالح، فقد جعل الله بينهما حواجزاً من قدرته سبحانه وتعالى، {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان:53]. وسبق في سورة الفرقان أن الله سبحانه وتعالى جعل الأنهار تصب في البحار، فإذا صب النهر في البحر لم يختلط ماء البحر بالنهر، ولا ماء النهر بالبحر، لجعله برزخاً بين الاثنين في مصب النهر. قال سبحانه: {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا} [الفرقان:53]، من قدرة الله سبحانه فلا يطغى ملح البحر فيدخل في النهر فيفسده، ولا ماء النهر يدخل في البحر فيحليه، ولكن جعل بين الاثنين برزخاً بقدرته سبحانه وتعالى. قال: {وَحِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان:53]، مانعاً ممنوعاً، فهذا لا يغير هذا، وهذا لا يغير هذا، حتى الكائنات الموجودة في البحر لا تختلط بكائنات النهر، فلا تذهب التي في النهر إلى البحر لتكون كائنات ملحية، والأخرى كذلك، بل من عجيب قدرة الله سبحانه: أن البرزخ بين الاثنين له كائنات مخصوصة، فقد وجد الباحثون أسماكاً في هذا البرزخ لو خرجت منه إلى غيره لماتت، قال سبحانه: (برزخاً)، فهذا البرزخ الواقع في المكان الوسط بين الاثنين حجر محجور أي: يحرم على هذا أن يغير هذا، وعلى هذا أن يغير هذا، ويحرم كذلك على الكائنات، فلا هذه تذهب إلى هذه ولا الأخرى تفعل ذلك، فهو حاجز من صنع الله سبحانه، ثم يستفهم: من الذي صنع ذلك؟ قال: {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:61]، فهل هناك إله يستحق أن يعبد مع هذا الخالق العظيم الذي فعل لكم ذلك؟! {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النمل:61]، كما قال سبحانه: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91]، أي: ما عرفوا أنه الرب الخالق، ولم يستيقنوا، وفرق بين من يعرف ومن يستيقن في قلبه فيعمل من أجل ذلك، فمعرفتهم تلك معرفة كالجاهلية؛ لذلك وصفهم أنهم جاهلون، وأنهم لا يعلمون. وسترى أن كل إنسان يدعي أنه يعرف الله سبحانه وتعالى، ولكن هذه المعرفة هل تفيدك أو لا تفيدك؟ كإنسان يقول: أنا أعرف هذا المكان؛ لأنه قد سمع عن هذا المكان، ولكن لعله لو ذهب إليه لضاع فيه، وكأنه لم يعرف شيئاً. وكذا الإنسان الذي يقول: إن الله خلقني وأنا أعرفه، فيقال له: أنت حين عرفته ما الذي صنعته؟ هل عبدته أم عبدت غيره؟ هل خفت منه سبحانه؟ هل جهزت نفسك ليوم تلقاه فيه سبحانه؟ فيسألك ويحاسبك، فستجد أن A لا فهذه المعرفة لا تنفعه مطلقاً؛ فكأنه لم يعرف شيئاً، إذ لو عرف الله لقدره حق قدره، قال سبحانه: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النحل:75]، يعني: بل أكثر هؤلاء الناس لا يعلمون شيئاً عن قدرته سبحانه، فالمعرفة التي تنفع صاحبها هي المعرفة التي ينبني عليها العمل، كمن يعرف الله فيصلي له سبحانه، ويخاف منه سبحانه فيتقرب إليه، ويطيع النبي صلى الله عليه وسلم فيما أمر وفيما نهى، فهنا يقال: إنه عرف الله وقدر الله حق قدره. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن يقدرون الله حق قدره. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة النمل الآية [62]

تفسير سورة النمل الآية [62] من دعا الله وهو مضطر فإن الله يجيبه ولو كان كافراً، فرحمة الله في الدنيا وسعت كل شيء، وهو الذي يكشف السوء عن العباد والبلاد في أمور دينهم ودنياهم، فله الحمد والمنة.

تفسير قوله تعالى: (أمن يجيب المضطر إلى دعاه)

تفسير قوله تعالى: (أمن يجيب المضطر إلى دعاه)

فقر الإنسان إلى الله وشدة حاجته للدعاء

فقر الإنسان إلى الله وشدة حاجته للدعاء قوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62] يتذكر الإنسان قول: لا حول ولا قوة إلا بالله أي: لا تحول لأحد، ولا حيلة إلا بالله، ولا قوة لأحد إلا بأن يعينه الله سبحانه وتعالى، وقول: (لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة)، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فالله الذي يجيب المضطر إذا دعاه، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ربه قائلاً: (اللهم رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت) والمعنى: اللهم رحمتك أنت وحدك، صاحب الرحمة العظيمة، إياها أرجو، (فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين)؛ لأنه لو وكل الإنسان إلى نفسه، وظن أنه قادر على كل شيء، حينها يملي الله له ويرجيه، ثم يأخذه بسبب ما هو فيه من علو واستكبار. ولذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم معلماً لنا: (اللهم رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين) وهنا أخر الفعل وقدم المفعول للاختصاص والتنبيه على أن الله وحده ذو الرحمة التي ترجى، كقولك: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، فالأصل (نعبدك) حيث يقدم الفعل ويليه المفعول، ولكن عندما يقدم المفعول فمعناه: الاختصاص بالله وحده سبحانه. قال تعالى: {إِيَّاكَ} [الفاتحة:5] أي: وحدك لا شريك لك، لا أحد آخر، إذ لو قال الإنسان: أعبدك فقد يقال: يعبده ويعبد غيره، مثلما كان الكفار يعبدون الله ويشركون به سبحانه، أما عندما يقول: إياك أعبد فقد قدم المفعول للاختصاص، فأفصح أن العبادة تقتصر عليه وحده لا شريك له. وفي الحديث: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم رحمتك أرجو) إذاً: لا أرجو رحمة من أحد غيرك، فلو قال الإنسان: أرجو رحمتك، فقد يرجو رحمته ورحمة غيره، ولكن عندما يقول: (اللهم رحمتك أرجو) أي: فإن الرحمة الوحيدة تكون من عندك يا رب العالمين! وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه أن يدعو بدعاء لو كان عليه دين عظيم أداه الله عز وجل وأعانه عليه، وهو أن يقرأ آيتين في آل عمران: ({قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:26 - 27]، فيا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما -رحمتك أرجو- تعطي من تشاء منهما وتمنع من تشاء، ارحمني رحمة تغنيني بها عن رحمة من سواك) فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلب رحمة من الله يستغني بها عن رحمة أحد سوى الله، فمن توكل على الله كان الله له نعم المولى ونعم الوكيل، ومن توكل على الله كفاه سبحانه، ورزقه من حيث لا يحتسب. وكم من إنسان وقع في ضيق وفي أزمة، فلما ضاقت عليه الدنيا لجأ إلى الله وحده وناداه: يا رب! فإذا بالله يكشف ما به، فيكون كأمس الدابر، وكأنه لم يحدث شيء، والقصص في هذا المعنى كثيرة جداً.

قصص لبعض من استجاب الله دعاءهم وكشف كربهم

قصص لبعض من استجاب الله دعاءهم وكشف كربهم ذكر الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية قصصاً، وهي قصص عجيبة جداً، ولكنها ليست بغريبة على قدرة الله سبحانه وتعالى فهو {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:284]. يقول رحمة الله عليه راوياً عن الإمام الحاكم في ترجمة فاطمة بنت الحسن أم أحمد العجلية: تقول: هزم الكفار يوماً المسلمين في غزاة، فوقف جواد بصاحبه، -وكان رجلاً صالحاً- أي أنه: حينما كان الكفار قادمين نحوه، إذا بالجواد يقف ولا يهرب به، فيتعجب الرجل ويكلم جواده قائلاً ألم أعدك لهذا اليوم؟! فإذا بالجواد يرد عليه ويقول: إنك لا تعلفني، بل تكل العلوفة إلى غيرك فيظلمونني، فيجيبه الرجل قائلاً: عهد علي إذا رجعنا لأعلفنك في حجري، فيطير به الجواد، ومن ثم يلتزم صاحبه العهد، وهذا أمر عجيب! والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن الذين من قبلنا: أن بقرة تكلمت، وليس أولئك بأحسن من هذا، فإنه من التابعين لمحمد صلوات الله وسلامه عليه، وليس عجيباً على أمر الله أن يحدث ذلك. وفي الصحيح: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ركب رجل ممن كانوا قبلنا بقرة، فاستدارت إليه وقالت: ليس لهذا خلقت -أي: لم أخلق للركوب- إنما خلقت للحرث). وتتمة القصة الأولى التي رواها ابن كثير عن الإمام الحاكم: فلما علم ملك الروم أن في المسلمين رجلاً كلمته دابة قال: لا يصلح إلا أن يكون عندنا، فالمكان الذي يكون فيه سيكون مباركاً، فأرسل إليه من يخطفه ويأتي به إليهم ممن كان من المرتدين، فذهب المرتد إليه وأظهر للرجل الصالح أنه أسلم وحسن إسلامه، فانخدع به، فكأنه خرج معه يوماً، وقد واعد المرتد غيره من الناس عند أطراف البلد ممن هم على شاكلته، فلما وصل هذا المسلم إلى هذا المكان، أخذوه وأرادوا الذهاب به إلى ملك الروم لعله يقتله، ولما يشكل وجوده في المسلمين من قوة حيث أنه مستجاب الدعوة، فإذا بالرجل يدعو ربه سبحانه وتعالى، ويقول: اللهم بك خدعوني -أي: إنما ذهبت مع هذا رجاء أن يسلم، وأن يحسن إسلامه، فقال لله عز وجل: فاكفنيهم بما شئت. قال الراوي: فخرج سبعان في المكان الذي هو فيه فخططا الرجل الكافر ومن معه، وتركا الرجل الصالح. والأسد عادة لا يفرق بين مسلم وكافر إلا أنه هنا فرق بينهما في هذا الموطن، ولا شك أن الله عز وجل هو الذي قدر ذلك. ثم ذكر رحمه الله قصة هي أغرب من هذه القصة يقول: ذكر ابن عساكر بإسناده عن رجل قال: كنت أكاري على بغل لي في دمشق إلى بلد، فركب معي ذات مرة رجل، فمررنا على بعض الطريق غير المسلوكة، أي: غير المأهولة، فقال: ادخل في هذا الطريق، فقلت: لا أعرفه، قال: أنا أعرفه ادخل فيه، فلما دخلوا فيه وأصبحوا بعيدين عن الناس، نزل الرجل وأحضر سكيناً ثم أراد قتل هذا الرجل، فتوسل إليه الرجل بكل شيء، وقال له: خذ الدواب التي معي، والمال واتركني، قال: لا، إنما أريد قتلك أنت، يقول الرجل: فقلت له: فاتركني أصلي ركعتين، طالما أنك ستقتلني، فقال: عجل، قال: فقمت فارتج علي القرآن فلم أستطع أن أقرأ، وقد دخلت في الصلاة، والقتل ينتظرني، ولم يحضرني منه حرف واحد، فبقيت واقفاً متحيراً، قال: فأجرى الله على لساني قوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62]، فإذا أنا بفارس قد أقبل من فم الوادي، وبيده حربة، فرمى بها هذا الرجل فما أخطأت فؤاده فخر صريعاً. قال: فتعلقت بهذا الفارس، وقلت: بالله من أنت؟ قال: أنا رسول الذي يجيب المضطر إذا دعاه، وهذه القصة ليست بعجيبة على قدرة الله سبحانه وتعالى أن يرسل من يغيث هذا. وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (أن رجلاً خرج من قرية ليزور أخاً له في بلدة أخرى، فلما وصل منتصف الطريق، أرسل الله عز وجل إليه ملكاً، فقال: أين تريد؟ قال: أريد فلاناً في البلدة الفلانية، قال: لم؟ قال: أحبه في الله، قال: ألك حاجة عنده؟ قال: لا، قال: ألك نعمة تردها عليه؟ قال: لا، ولكنني أحبه في الله، قال: فأنا رسول الله إليك بأن الله يحبك كما أحببته). فليس بعيداً على الله سبحانه وتعالى في تدبير كونه أن يرينا من ذلك ما يتعجب الإنسان منه، كأن يبعث إلى هذا من يقتل خصمه، والله يفعل ما يشاء، والذي يقرأ في السير والتأريخ يجد العجائب من إكرام الله عز وجل لعباده ما هو فوق ذلك بكثير؛ لكن الغرض بيان: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62]. فكلما اشتدت بالمسلم كربة من الكرب، تذكر أن الله يجيب المضطر إذا دعاه، وكلما اضطر الإنسان، واستشعر الضيق، وعدم القدرة، ولم يجد أحداً حوله قال: يا رب! ويكفيه ذلك. فهذا لوط عليه الصلاة والسلام، لما ضاقت به الدنيا، ووقف يدافع قومه وحده، وكل قومه يدفعون عليه بابه، ويريدون أخذ أضيافه، وهو لا يعلم أن هؤلاء ملائكة الله سبحانه، إذا به يقول: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ * قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} [هود:80 - 81] فكان النصر حليفه، ومن يخاف عليهم هم الذين يدفعون عنه، وهذا عجيب من أمر رب العالمين سبحانه وتعالى، ولا غرو فهو يجيب المضطر إذا دعاه، ويستجيب دعاء من ناداه.

من يستجيب الله دعاءهم

من يستجيب الله دعاءهم يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن)، أي: ثلاث دعوات للإنسان كلما ضاق به الأمر فقال: يا رب! مضطراً، فالله عز وجل يستجيب له، يقول: (دعوة المظلوم)، فالمظلوم إذا ضاق به الأمر ولم يجد من ينصره، فدعا الله عز وجل نصره، قال: (ودعوة المسافر) والمسافر غريب في بلد غير بلده، لا يجد من يعينه، وقد تعود الناس أن يعين الإنسان من يعرفه، من جار أو قريب أو نحوه، أما الغريب فلا يجد أحداً، فقد قطن مكاناً موحشاً فأحب أن يرجع إلى بلده، فيفزع إلى الله عز وجل فيستجيب له. قال: (ودعوة الوالد على ولده) وبالرغم من أن العادة أن الوالد يدعو لولده والله يستجيب، ولكن دعوة الوالد على ولده لا تأتي إلا إذا ضاق به ذرعاً، كأن يكون عاقاً لأبيه لا يطيعه، فإن دعا عليه استجاب الله لهذه الدعوة. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقوا دعوة المظلوم فإنها تحمل على الغمام- على السحاب- فيقول الله تبارك وتعالى: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين) فنصر المظلوم آت من عند الله سبحانه، ولو تأخرت الاستجابة شيئاً ما في نظر الإنسان؛ ولكنها آتية ولو بعد حين. يقول الله سبحانه وتعالى في هذا المعنى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ} [يونس:22]، أي: السفينة {وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [يونس:22]: بحيث أن الإنسان ينسى نفسه، وينسى ربه سبحانه وتعالى، قال: {وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} [يونس:22]، فيفجأهم هذا الهول، ولذلك لابد أن يكون الإنسان في ذكر لله دائماً، يذكر الله في الرخاء، فيذكره الله ويكون معه عند الضراء. ثم يقول سبحانه: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} [يونس:22]، فعندما اشتدت الأمواج والرياح ظنوا أنهم أحيط بهم، قال: {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [يونس:22]، ففي الأوقات العصيبة يذكر الإنسان ربه. ثم يقول سبحانه: {فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [يونس:23]، فبعد أن يكشف الله عنه الضر الذي هو فيه ينسى ويتناسى، ثم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [يونس:23]، أي: إذا بغيتم أو ظلمتم، رجع عليكم مكركم، وسوء صنيعكم. لذلك على المؤمن إذا أحب أن يستجيب الله له في وقت البلاء: أن يكثر من الدعاء في وقت الرخاء، وأن يتواضع لله ولخلقه، فالله يحب المتواضعين.

تفسير سورة النمل [62 - 63]

تفسير سورة النمل [62 - 63] من رحمة الله عز وجل أن جعل بابه مفتوحاً لكل محتاج، فمن دعاه أجابه، ومن سأله من فضله أعطاه، ومن رحمته سبحانه أن هدى الإنسان في ظلمات البر والبحر حتى لا يتيه في هذه الأرض الواسعة، وأنزل له من السماء ماءً جعل فيه رزقه، ومع ذلك فإن الإنسان قد يعبد مع ربه غيره، فتعالى الله عما يشركون.

مجيب دعوة المضطر

مجيب دعوة المضطر الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة النمل: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل:62 - 63]. في هذه الآيات -كما ذكرنا قبل- يخبر الله سبحانه وتعالى فيها عن آياته، وعما خلق سبحانه وتعالى من خلقه، مما يراه كل ذي عينين، وكل من له عقل يفهم ويعرف أن هذه الأشياء لم تخلق سدى، وإنما خلقها الله عز وجل ليتفكر الخلق فيها، ففي خلق السماوات والأرض وما يأكله الإنسان آيات من آيات الله سبحانه. فهنا يذكر الله عز وجل عباده بقوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62]، أي: من الذي يجيبكم إذا اضطررتم، أو أصابكم الضر ولم تجدوا أحداً يجيركم أو يغيثكم؟ حينئذ تلجئون إلى الله، فتقولون: يا رب! وتجأرون إليه بالدعاء، فيستجيب لكم، يقول الله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62]، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: المضطر: هو ذو الضرورة المجهود، أي: الإنسان الذي حاقت به مصيبة من المصائب، ووجد نفسه مضطراً يكاد يهلك ويضيع، فيجأر بالدعاء إلى الله سبحانه وتعالى وهو مجهود مكدود متعب لا يجد ملجأً له إلا عند الله سبحانه فيسأله حاجته، ويقول السدي: هو الذي لا حول له ولا قوة، أي: لا حيلة له ولا قدرة، بل وقف عاجزاً لا يقدر أن يدفع عن نفسه، فيقول: يا رب! ويلجأ إلى الله فيعطيه. ويقول أبو جعفر وأبو عثمان النيسابوري: هو المفلس، وكله داخل تحت هذا المعنى، فإذا صار الإنسان معدماً لا شيء معه، محتاجاً إلى طعام وشراب ونفقه، والكل يطالبونه بما عليه لهم، وهو لا يجده، فيقول: يا رب! ويطلب من الله سبحانه، ويحسن اللجوء إليه، فالله يعطيه، يقول ذو النون: هو الذي قطع العلائق عما دون الله، أي: وجد أنه لا يوجد أي رابطة بينه وبين أحد، فلا أحد ينفعه، فصار وحيداً لا وسيلة ولا علائق بينه وبين أحد، فإذا به يلجأ إلى الله، فيعطيه الله سبحانه وتعالى. ويقول سهل بن عبد الله: هو الذي إذا رفع يديه إلى الله داعياً لم تكن له وسيلة من طاعة قدمها، أي: وجد نفسه مضطراً لم يكن له قبل ذلك ما ينفعه، فقد كان عاصياً لله سبحانه، وفجأة اضطر ووجد نفسه محتاجاً إلى من يغيثه، وانقطع عنه الخلق، واستحيا من نفسه أنه لم يكن له طاعة قبل ذلك، فرفع يديه إلى الله خجلاً من نفسه، وقال: يا رب! فإذا بالله يعطي هذا المضطر الذي لجأ إليه سبحانه. جاء رجل إلى مالك بن دينار فقال: أسألك بالله -يقسم عليه- أن تدعو لي لأني مضطر، وكان مالك بن دينار أحد الصالحين رضي الله عنه -فقال له: طالما أنت مضطر فاسأل الله سبحانه- فإنه الذي يجيب المضطر إذا دعاه. فالإنسان يدعو ربه ويكثر من الدعاء، والله سبحانه يستحيي أن يرفع العبد يديه إليه سبحانه مستغيثاً به ثم يردهما صفراً بدون شيء، فإن الله أكرم من ذلك سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض) وبيان حكمة الله من خلق الموت

تفسير قوله تعالى: (ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض) وبيان حكمة الله من خلق الموت قوله تعالى: {يَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62]، السوء: هو كل ما يسوء الإنسان، كالضرر الذي ينزل به، فإذا به لا يقدر على كشفه، فيساء منه أو يسوؤه ذلك، فالذي يكشف عنه ما نزل به هو الله سبحانه وتعالى. وقوله تعالى: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} [النمل:62]، معناه: أن الذي يجعلكم خلفاء هو الله، أي: يستخلفكم في الأرض، بأن يجعل بعضكم وراء الآخر خليفة له، بحيث يذهب إنسان ويخلف الله غيره، ويذهب هؤلاء ويأتي بخلفاء غيرهم، ومعنى الخليفة كما يقول الله عز وجل للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]، أي: خلفاء يخلف بعضهم بعضاً، ومن نعم الله سبحانه وتعالى التي من بها على العباد: الموت، ولذا يقول الله تعالى: {((قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} [الجاثية:26]، فلو ترك الله عز وجل عبده حياً وعاش مائة سنة ومائتين وألف سنة، كما عمر نوح، فلن تكون له قوة ولا قدرة، ولن يعير عقله كاملاً مكتملاً يرى ويفهم ويعي ما حوله؛ فكلما تقدمت به السنون رد إلى أرذل العمر ونسي وجهل وساء خلقه وقلل من طاعة ربه وصار ضعيفاً، فبعد أن كان يصلي قائماً صلى قاعداً، وبعد أن كان يكثر من الصلاة قلت صلاته، وأصابته الأمراض فإذا به لا يقدر على شيء، قال الله عز وجل: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} [النحل:70]، وهو العمر الرذيل الذي لا يعلم فيه الإنسان بعد علم شيئاً، فبعد أن كان عالماً يعرف، إذا به لا يعرف شيئاً، وكم رأينا ممن ردوا إلى أرذل العمر لا يجدون شيئاً ولا يقدرون حتى على الصلاة، وإذا جلس أحدهم ليصلي سرح في صلاته واحتاج إلى من يذكره: أنت في الركعة الأولى أو في الثانية وهكذا، وقد يدخل في صلاته ثم ينام وهو فيها، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله عز وجل من أن يرد إلى أرذل العمر، فكان يقول: (أعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر)، وعندما يصير الإنسان إلى أرذل العمر يكون عند الناس مكروهاً بغيضاً لا يحبونه، وقد ينفر منه الأقربون، فكيف يكون حال إنسان كانت الدنيا في يوم من الأيام تتكلم عنه، واليوم لا يطيق أحد مجالسته أو التكلم معه! الأمريكي السابق أصيب الآن بمرض أنساه كل من حوله، وأنساه نفسه بعد أن كان الحرس حوله يحرسونه في كل مكان، وبعد أن كان يتعالى على الناس ويترفع عليهم، أصبحوا الآن يحرسونه ليمنعوا عن الناس شره؛ لأنه لا يعرف من حوله، وقد كان في يوم من الأيام رئيساً لأمريكا التي تعد أقوى دولة في العالم، وكان الناس ينظرون إليه أنه شيء كبير، لكنه الآن في مصحة في قصر عظيم، داخل غرفة مغلقة، لا يختلط بأحد وعندما يعود إليه عقله يجلس وينظر قليلاً من النافذة وهكذا، فالله عز وجل جعل بني الإنسان خلفاء في الأرض يخلف بعضهم بعضاً، وأراح بعضهم من بعض بالموت، بعد أن يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته. والموت خير للإنسان المؤمن؛ لأنه إذا مات ابتعد عن الفتن، وصار إلى رحمة رب العالمين سبحانه {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ} [القصص:60]، فإذا قارنا بين الدنيا والآخرة كان الأفضل للإنسان ما عند الله، ولذلك ما قبض الله نبياً إلا وخيره، فلما جاءت وفاة النبي صلى الله عليه وسلم خير بين الدنيا والآخرة، فاختار ما عند الله سبحانه، وقال: (بل الرفيق الأعلى)، أي: أنه طلب الرفيق الأعلى ولم يطلب الدنيا صلوات الله وسلامه عليه؛ لأن {مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [القصص:60]. وكما أن الموت خير للمؤمن من أن يرد إلى أرذل العمر، فهو خير للكافر أيضاً، قال الله سبحانه: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} [آل عمران:178]، فكلما عمر الكافر ازداد إثماً، حتى يتوفى على ذلك، ولذلك كان الموت خيراً له من أن يعيش ويزداد إثماً. وليس معنى أن الله عز وجل جعل العباد خلفاء في الأرض: أنهم ملوك، إذ ليس كل الناس ملوكاً في الأرض، إنما يكون الملك منهم واحداً، والباقون كلهم رعية، فمعنى جعل الله الناس خلفاء أي: يخلف بعضهم بعضاً، ولو أن الله عز وجل ترك للناس العمر الطويل، وترك لهم عقولهم، وترك فيهم قوتهم أعماراً طويلة، فسيصبح الملك طول عمره ملكاً، ويظل على ذلك مائة سنة ومائتين، وسوف يكرهه الناس، وهو مع ذلك والناس يكرهوه يظل ملكاً عليهم، إذاً: أليس من رحمة رب العالمين سبحانه أنه لم يطل في عمر هذا الإنسان، بل جعل عمره قصيراً، ثم أخذه برحمته؟ فمن رحمته سبحانه وتعالى أنه لا يديم للظالم ملكه، ولا يبقيه في مكانه، ولكن يأخذه سبحانه ويأتي بغيره. وهكذا فكل إنسان كان رئيساً على قومه ووالٍ عليهم، لو أن الله أطال في عمره وأبقاه في مكانه، فلن يرتقي إلى ذلك المكان الذي هو فيه أحد، وكلما ولد مولود فهو من الرعية الذين لا يملكون شيئاً ولا يقدرون على شيء، ولكن من الله عز وجل على العباد بنعمة الموت، فيقبض هؤلاء، وكل غيرهم محلهم؛ لعلهم يصلحون ويعتبرون فيكونون أحسن ممن كانوا قبلهم. إذاً: فالله سبحانه يمن على العباد في هذه الآيات ويقول: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} [النمل:62]، فهو يسألهم سؤالاً فيه إنكار على من يعبدون غير الله سبحانه، وفيه تقرير لوحدانيته سبحانه، وأنه مستحق وحده للعبادة دون غيره. والجواب على هذه الأسئلة: أن الله سبحانه هو الذي يفعل ذلك دون غيره. قال الله تعالى: {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:60]، يستحق العبادة وقد أعطاكم هذه النعم سبحانه وتعالى فهو {يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} [النمل:62]، و A لا إله إلا الله ولا يستحق العبادة إلا الله، وحده الذي أعطانا هذه النعم العظيمة.

معنى قوله تعالى: (قليلا ما تذكرون)

معنى قوله تعالى: (قليلاً ما تذكرون) قال الله عز وجل: {قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62]، أي: أن الإنسان كثير النسيان، فهو مشتق من اسمه، فقد سمي إنساناً لكثرة نسيانه، وكثير من الناس ينسون ربهم سبحانه، وفضله، ويجحدون نعمه، قال الله تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات:6]. وفي قوله تعالى: {قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62]، ثلاث قراءات: (قليلاً ما تذَّكِّرون)، (قليلاً ما يَذَّكرون)، والمعنى في الجميع: أن الإنسان كثير النسيان يغفل عن عبادة الله سبحانه، ويتغافل عن النعم ولا يشكر ربه سبحانه عليها، ففي كل يوم يدعو ربه، وبعد أن يستجيب له ينسى الله سبحانه وتعالى. فبعض الناس يكون رئيسه في عمله ظالماً، فيدعو عليه بالهلاك، فلما أزاح الله عز وجل عنه الظلم، وصار في مكان رئيسه، إذا به يظلم الناس، ونسي كم دعا الله عز وجل على هذا الذي ظلمه، وإذا به يقول: هذه هي طبيعة العمل، وكما كان يقول الذي قبله يقول الذي بعده، فالإنسان فيه ظلم ونسيان. إذاً: فقوله تعالى: {قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62]، هذه قراءة حفص عن عاصم، وقراءة حمزة، والكسائي، وخلف، ويقرؤها أبو عمرو، وهشام، وروح عن يعقوب: (قليلاً ما يذِّكرون)، ويقرؤها باقي القراء: (قليلاً ما تذَّكَّرون)، هذه ثلاث قراءات، والمعنى واحد.

الهادي في ظلمات البر والبحر

الهادي في ظلمات البر والبحر قال الله تعالى: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل:63] أي: من الذي يهديكم؟ ولا يعرف هذه النعمة العظيمة إلا من تاه وضل الطريق، فقد يدخل بسيارته الصحراء، ثم يتوه ولا يعرف طريق العودة، فينظر يميناً وشمالاً، ويقول: يا رب يا رب، فيدله الله عز وجل بمطلع الشمس على المشرق، وبغروبها على المغرب، وبالنظر في النجوم يعرف الشمال من الجنوب، وهكذا يستدل بأشياء خلقها الله عز وجل فيعرف طريقه، وقد يرسل الله إليه من يدله، كأن يجد إنساناً أمامه، فيسأله فيدله على طريق النجاة، بعد أن ضل يوماً أو يومين في هذا المكان، فمن الذي هداه ودله على هذا الذي دله على الطريق؟ إنه الله سبحانه وتعالى. وقوله تعالى: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [النمل:63]، في الظلام الدامس، فقد يكون الإنسان في البحر يقود سفينة وفجأة لا يعرف أين يذهب، والله سبحانه وتعالى ينير بالقمر مكاناً؛ حتى يعرف هذا الإنسان طريقه، أو ربما تتعطل السفينة في البحر، وتتوقف أجهزتها عن العمل، والنور ينطفئ ولا يستطيع من في السفينة أن يرو شيئاً، وإذا بالله يلهمهم كيف يصلحون العيب الذي فيها، ويضيء لهم ربهم سبحانه وتعالى بعد ظلمة شديدة، وإذا بهم يتناسون ربهم الذي دعوه قبل ذلك. فقوله: يهديكم، أي: بالدلالات على المشرق والمغرب، والشمال والجنوب، {فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [النمل:63].

بشرى الرياح بالمطر

بشرى الرياح بالمطر قال الله تعالى: {وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [النمل:63]، أي: أن الإنسان إذا كان في غاية الحر فإن الله يرسل رياحاً ترطب ما هو فيه، وإذا به في الشتاء ينتظر المطر ولا مطر، وفجأة تهب الرياح فينتظر البشارة من الله؛ لأن الرياح ما دامت شديدة فستسوق السحاب، وتنزل ماء على الناس، إذاً: فالله عز وجل يرسل الرياح بشارة للخلق بهطول المطر. و (يرسل الريح)، هذه قراءة ابن كثير وحمزة والكسائي وخلف، وفي القرآن كلمة: (الرياح) و (الريح)، ومن فرق بين الكلمتين فقال: إن الرياح للخير، والريح للشر فقد أخطأ فيها؛ لأنه لم يطلع على القراءات التي في كل القرآن، والتي فيها: (الرياح) و (الريح)، فقوله: إن الريح تأتي في الشر، والرياح تأتي في الخير بناء على أنه اطلع على قراءة واحدة فقط، وهي قراءة حفص عن عاصم، ولم يطلع على قراءة أبي جعفر الذي يقرأ: (الرياح) بالجمع في كل القرآن، فإذا جاءت الريح قرأها: الرياح، وهي قراءة متواترة، فالصواب: أن الريح والرياح يأتيان بالخير ويأتيان بغير ذلك. وكلمة: (بشراً) يقرؤها بالباء عاصم فقط، ويقرؤها نافع وأبو جعفر المدنيان وابن كثير المكي، والبصريان أبو عمرو ويعقوب: (نُشُرَاً بين يدي رحمته)، بضمتين، ويقرؤها ابن عامر (نُشْراً بين يدي رحمته). ويقرأها حمزة والكسائي وخلف الكوفيون: (نَشْرَاً بين يدي رحمته)، والنشر: من النشور، وكأنه هنا نشر الشيء بمعنى: أحياه، فيرسل الله سبحانه وتعالى الرياح لتنشر رحمة رب العالمين سبحانه وتعالى، وتنزل الأمطار فيحيي بها الأرض بعد موتها، أي: ينبت الأرض، فنشرها بمعنى: رفعها وأحياها بعدما أماتها، وأغاث عباده بهذا الماء الذي نزل من السماء، و {بُشْرًا} [النمل:63]، من البشارة أي: أنه يفرح عباده بذلك، فالآية عندما تقرأ بقراءتين كأن لها معنيين، وكل قراءة لها حكم من الأحكام، فهنا أرسل الله عز وجل الرياح للبشارة، وأيضاً للنشور؛ لتنشر وترفع وتحيي بفضل الله عز وجل ما أمات من نبات بإنزال المطر من السماء. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة النمل [59 - 66]

تفسير سورة النمل [59 - 66] يذكر سبحانه في هذه الآيات أن من نعمه على خلقه أنه يهديهم في ظلمات البر والبحر بالنجوم والعلامات التي خلقها، وأنه ينزل لهم المطر، ثم يسألهم: من الذي بدأ الخلق ثم هو قادر على إعادته؟ ومن الذي يعلم غيب السماوات والأرض؟ و A إنه الله الذي لا إله إلا هو.

استحقاق الله للعبادة دون ما سواه

استحقاق الله للعبادة دون ما سواه الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة النمل: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:63 - 66]. يخبر الله سبحانه وتعالى الناس عن نعمه ويعددها عليهم في هذه السورة بهذه الصور، فيذكر في أولها قوله سبحانه: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل:59]، ثم يسأل الناس سؤالاً فيه استفهام، وفيه التقرير بالجواب، {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل:59]، والجواب عند الجميع: الله خير وأبقى سبحانه وتعالى. ثم يعدد النعم التي أنعمها على عباده بهذه الصورة الجميلة في تقريره لنعمه سبحانه، واستفهامه استفهام إنكار على من يعبد غير الله سبحانه وتعالى: من خلق السماوات والأرض؟ قال سبحانه: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:60]، والجواب، أنه لا إله إلا الله، أي: لا يستحق أن يعبد إلا الله الذي يفعل ذلك، والذي يخلق ويرزق سبحانه وتعالى: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل:60]، فيعقب وراء الاستفهام الذي مضمون الجواب فيه أنه: لا إله إلا الله، وهم يعرفون ذلك، فيقول سبحانه وتعالى مثبتاً عليهم كفرهم وشركهم: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل:60]، يعدلون بالله غيره، ويعبدون غير الله مع الله، فهم قوم مشركون. سؤال آخر: {أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:61]، والجواب أنه: لا إله إلا الله، وأنه لا يستحق العبادة سوى الله وحده لا شريك له، يقول الله سبحانه معقباً: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النمل:61]، أي: الأكثرون منهم لا يعرفون ربهم حق المعرفة، وما قدروا الله حق قدره، وإن عرفوا ربوبيته فقد جهلوا أو تجاهلوا أمر ألوهيته سبحانه وتعالى، فهم لا يعرفون الله حق معرفته سبحانه وتعالى. وقال في الآية الأخرى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103]، أي: الأكثرون لا يؤمنون، وقال: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116]، فالأكثرية من الناس على غير طريق الله سبحانه، والأكثرون يشركون بالله، ويقعون في الكفر بالله سبحانه. ثم قال: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} [النمل:62]، من يفعل ذلك؟ الجواب هو الله، الفعال لما يريد، يقول الله سبحانه: {قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62]. أي: أنه يقل تذكر الإنسان لربه سبحانه، فهو في غفلة وسهو ونسيان، إلى أن تنزل به مصيبة فيتذكر ويقول: يا رب يا رب، وإذا مسهم الضر في البحر ضل من يدعون من دونه سبحانه، فلما نجاهم ربهم إلى البر، إذا بهم يشركون، فهم في البحر وفي الضر يوحدون الله، فإذا أنجاهم من المصائب رجعوا إلى شركهم وإلى كفرهم، وإلى دعاء غير الله سبحانه: {قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62].

تفسير قوله تعالى: (أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر)

تفسير قوله تعالى: (أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر) قال سبحانه: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [النمل:63] أي: من الذي يدلكم وأنتم في ظلمة البحر، بأن يهديكم بالنجوم وبالعلامات التي ترونها، ويخرجكم من ظلمة البر والبحر، من الذي يفعل ذلك؟ ومن الذي يرسل هذه الرياح بشراً بين يدي رحمته ونشراً، فينشر لكم به الأرض بعد موتها، ويحيي به الأرض، ويخرج بهذا المطر النبات؟ ومن الذي يسير هذه السحاب إلا الله سبحانه وتعالى، فتستبشرون بالرياح، وتستبشرون برؤية السحاب؟ {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:63]، والجواب أنه: لا إله إلا الله، تعالى الله عما يشركون. قال الله: {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [النمل:64]، أي: من الذي بدأ الخلق؟ الكل يقولون: الله هو الذي بدأ الخلق، ومن يعيد هذا الخلق كما بدأه؟ وهل إعادة الخلق أصعب من بدء الخلق؟ بل كله هين على الله سبحانه وتعالى، ولذلك يخبرنا أنه سيخلق الخلق مرة ثانية، قال: (وهو أهون عليه)، أي: أنه هين على الله سبحانه أن يعيد الخلق مرة ثانية، قال: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27]، فإعادة الخلق مرة ثانية أهون من بدء الخلق، فإذا كان بدء الخلق هيناً على الله سبحانه، فكيف تكون الإعادة؟! ولكنهم ينكرون، فهم يثبتون أنه سبحانه بدأ، لكنهم ينكرون المبعث، يقول الله: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [الرعد:5]، أي: سنرجع مرة ثانية. وقال: {أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} [الإسراء:49]، أي: سيرجعنا مرة ثانية، هذا صعب لن يكون، هذا مستحيل، فينكرون شيئاً أثبتوا أصله، فهم يقولون: الذي خلقهم في البداية هو الله سبحانه وتعالى، فهذا الإله العظيم الذي خلق، أليس قادراً على الإعادة مرة ثانية؟ وأنتم تفكروا في أحوالكم، إذا صنع أحدكم آلة من الآلات وبعدما صنعها فككها، أليست إعادتها على هذا الذي صنعها أهون عليه من ابتداء صنعها واختراعها؟! تفكروا في أنفسكم حتى تعرفوا قدرة ربكم سبحانه وتعالى. قال: {وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [النمل:64]، أي: من الذي تطلبون منه: يا رب ارزقنا، يا رب توكلنا عليك! من الذي يفعل بكم ذلك؟ الكل يقول: الله. ولو أنكر الكافر بلسانه فهو يعرف بقلبه، والذي يدل على ذلك: أن الله شهد عليهم أنهم مقرون بأنه الخالق، قال سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87]، وقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9]، سبحانه وتعالى. فكأن هؤلاء الكفار وإن نطقوا بألسنتهم بأشياء يكذبون بها، فإنهم في داخلهم يعرفون الله سبحانه وتعالى، حتى لو أنكروا وقالوا: الذي خلقتنا الصدفة أو الطبيعة، مثلما يقول الملحدون الدهريون، فيقال لهؤلاء: هذه الطبيعة التي أوجدتكم، أو هذه الصدفة التي تزعمون، هل هي قادرة عليمة حكيمة تعلم ماذا تعمل، وتقدر عليه؟ سيضعون صفات الله عز وجل لهذه الطبيعة، وفي النهاية يوجد خالق خلقهم، ولكن يفرون من أن يقولوا: الله، حتى لا يكلفوا، وحتى لا يعبدوا الله سبحانه وتعالى. فالكافر ينكر ربه مكابرة وجحوداً، حتى لا يقال له: اعبد الله سبحانه وتعالى، وحتى لا يقول لهم النبي صلى الله عليه وسلم: أنا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فينكرون إلهه سبحانه حتى لا يتابعوه في دينه، عليه الصلاة والسلام. فالذي يبدأ الخلق والذي يعيد الخلق وهو أهون عليه هو الله سبحانه، والذي يرزق العباد من السماء فينزل المطر، ويستجيب الدعاء، ويخرج لهم ما تنبته الأرض من نبات ومن ثمار هو الله، يقول الله: {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:64]، هل إله مع الله يستحق أن يعبد؟ فكأنه أثبت الربوبية، ثم أنكر عليهم أن يشركوا في إلوهيته غيره سبحانه، فقال: {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل:64]، فكل آية يختمها بما يناسبها، فلما ذكر مجموعة من الأدلة على ما أنعم به على عباده، ختم بهذا الختام الجميل، قال: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل:64] أي: هاتوا الدليل على ما تقولون، من أن غير الله يستحق أن يعبد، فإذا قالوا: نعبد اللات والعزى، فما الدليل على أنها تستحق العبادة؟ هاتوا الدليل النقلي، والدليل العقلي الذي يدل على ذلك؟ والدليل النقلي: أن يكون معك كتاب من عند الله، أو آثار من علم لتقول: اعبدوا هذا من دون الله، وهيهات أن يأتوا بمثل ذلك. والدليل العقلي: لماذا تعبد هذا الحجر الذي خلقته أنت، وصنعته أنت، وهو لا ينفع نفسه فضلاً عن أن ينفعك، ولا يضر نفسه ولا يضر أحداً؟ فالعقل لا يجيز ذلك، ولا معك برهان على ما تقول، قال سبحانه: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل:64]، يعني: في دعواكم هذه.

تفسير قوله تعالى: (قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله)

تفسير قوله تعالى: (قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله) قال الله: {قُلْ} [النمل:65] أي: لهؤلاء القوم: {لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65]، وحده لا شريك له، فهو الذي يعلم غيب السموات وغيب الأرض، وهذه الآلهة التي تبعدونها لا تعرف شيئاً من هذه الغيوب، فالله وحده سبحانه هو علام الغيوب، ولا يطلع على غيبه إلا من شاء من رسله عليهم الصلاة والسلام، ولذلك تقول عائشة رضي الله عنها: من زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم يعلم ما في غدٍ فقد أعظم على الله الفرية. يعني كذب على الله من ادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم يعرف ماذا سيكون في غد، فهو لا يعرف صلى الله عليه وسلم ولا غيره من خلق الله ماذا سيكون في غد، قال الله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:34]. أيضاً جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه حضر عرساً لأناس من الأنصار، فسمع جارية تغني وتقول في مدح النبي صلى الله عليه وسلم: وفينا نبي يعلم ما في غد، فنهاها النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا وقال: لا يعلم الغيب إلا الله، قولوا ببعض قولكم، ولا يستهوينكم الشيطان أن تقولوا ذلك). فلا أحد في السموات ولا في الأرض يعلم الغيب إلا الله سبحانه: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل:65]، أيان أي: متى، والمعنى: أنه لا يدري أحد متى يموت، ومتى يبعث.

تفسير قوله تعالى: (بل ادارك علمهم في الآخرة)

تفسير قوله تعالى: (بل ادارك علمهم في الآخرة) يقول سبحانه: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:66]. قوله: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ} [النمل:66]، فيها قراءتان، قراءة الجمهور: (بل ادارك علمهم في الآخرة)، وقراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو ويعقوب: (بل أدرك علمه في الآخرة)، من الإدراك، فإما أن يكون فيه إنكار على هؤلاء على وجه الاستهزاء بهم: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ} [النمل:66]، مستهيناً ومستهزئاً بهم؛ فهم يدعون أنهم يعلمون وهم أجهل الجاهلين، لا يفهمون شيئاً، ولا يعرفون شيئاً، فيستهزئ بهم ربهم سبحانه. وإما أن يكون معنى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ} [النمل:66]، أنه في الآخرة يدارك علمهم، ويتكامل يوم القيامة، فيعرفون حقيقة ما كانوا ينكرون، وكل إنسان معه شيء من العلم في الدنيا، لكنه يوم القيامة يكون أمامه عين اليقين وحق اليقين، فيرى بعينه الجنة والنار، ويرى بعينه الآخرة، فيكتمل علم الخلق يوم القيامة، حين يجدون ما كان غائباً أمامهم مشاهداً، فسيكتمل العلم لكل الخلق من كافر ومؤمن يوم القيامة، وكذلك أدرك علمهم في الآخرة، أي: فسيكون الإدراك يوم القيامة، فيعرفون ويستيقنون حين لا ينفعهم العلم، ولا ينفعهم هذا اليقين، ويكونون في النار. فيكون المعنى: بل تكامل علمهم في الآخرة؛ لأنهم رأوا كل ما وعدوا به. قال سبحانه: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا} [النمل:66]، يعني: أنهم في شك منها الآن، ويوم القيامة يصلون إلى اليقين فيعرفون، لكن لا تنفعهم معرفتهم. {بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:66]، أي في عمى عن الآخرة، ولذلك لا يعملون لها، أما المؤمن فهو يرى الآخرة كلما قرأ كتاب الله سبحانه، وكلما مرت به عظة من العظات، وكلما مر به ميت محمول إلى قبره، فهو متذكر للآخرة ليل نهار، يعلم أنه راجع إلى الله، وأنه سائله ومحاسبه. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، ونسأله ألا يجعلنا من الغافلين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة النمل [67 - 75]

تفسير سورة النمل [67 - 75] لقد أنكر كفار قريش والعرب البعث بعد الموت، وادعوا أن هذا مما وعد به آباؤهم الأولون، وأنه من الأساطير المكذوبة، وقد أمرهم الله أن يسيروا في الأرض حتى ينظروا كيف كان عاقبة أمثالهم من المجرمين الذين كذبوا رسل الله، وخوفهم بأنه قد يكون اقترب منهم عذاب الله الذي يستعجلونه، ولكن من فضل الله على الناس أنه لا يعاجل بالعقوبة من عصاه، عسى أن يتوب ويرجع إلى مولاه.

تفسير قوله تعالى: (وقال الذين كفروا أئذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون)

تفسير قوله تعالى: (وقال الذين كفروا أئذا كنا تراباً وآباؤنا أئنا لمخرجون) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة النمل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ * قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ * وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل:67 - 75]. قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ} [النمل:67]. يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن تكبر الكفار وإنكارهم أن الله يعيد الخلق كما بدأه أول مرة، فقالوا مستنكرين للنبي صلى الله عليه وسلم: {أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ} [النمل:67]، أي: أئنا لمبعوثون، فكانوا يستنكرون ذلك وقد أعماهم الله عز وجل عن التفكر في أن الله هو الذي خلقهم أول مرة، وقد أقروا على ذلك بأنفسهم، وشهدوا أنهم مخلوقون، وأن الله هو الذي خِلقهم، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87]، فالله عز وجل قد خلقهم، وأرسل رسولاً إليهم ينبئهم أنهم مبعوثون ومسئولون ومحاسبون، وأن مصيرهم إما إلى الجنة وإما إلى النار، فأنكروا حتى لا يكلفهم ربهم سبحانه، وحتى لا يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأفعال لا يريدون فعلها، فلذلك استنكروا وقالوا: {هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق:2 - 3]، أي: بعد أن نكون تراباً أنرجع مرة أخرى؟ هذا مستحيل. وما وجه الاستحالة فيها إذا كان الله هو الذي خلقكم من عدم، وجعلكم تراباً وأوجدكم بهذا الخلق الذي تقرون به؟ وكيف تنكرونه وتتعجبون من أن يعيدكم الله مرة أخرى، وهو على كل شيء قدير؟ هنا يقول سبحانه: ((أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ))، هل نخرج ونبعث ونحاسب مرة أخرى؟ هذا بعيد. إن السبب في إنكارهم البعث هو: الأماني، فالإنسان عندما يحب أن يعمل المعصية، يتعامى ويتغافل عن الدار الآخرة، ولا يريد أن يذكره أحد بالبعث، أو الجنة والنار. والكافر يريد أن يأكل ويشرب، ويأتي ما يشتهي من شهوات باطلة، ثم لا يسأله ولا يحاسبه أحد، فإذا ذكر بالآخرة، لا يريد أن يذكرها، فإذا قلت له: لا تفعل هذا وهو يريد أن يفعله، تغافل عن الدار الآخرة. فاستنكروا على النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]، {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [ص:7]، وأي ملة هذه التي لم يسمعوا بها، وقد كان قبلهم النبي عيسى وموسى وإبراهيم ونوح وآدم عليهم السلام؟ فكلهم أخبروا العباد بأنهم ميتون، ومبعوثون إلى ربهم، وحذروهم من بطش ربهم سبحانه وتعالى. أي ملة هذه التي يقولها هؤلاء الكفار، ويتكلمون عنها؟ وما الذي بأيديهم من آثار ومن علم حتى يزعموا ذلك؟ إنهم كذابون، وكما يقال: رمتني بدائها وانسلت، ومع ذلك يقولون عن النبي صلى الله عليه وسلم: ساحر كذاب، فيختلفون الكذب ثم يرمون به النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. فقال الله تعالى هنا: {أَئِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَاؤُنَا} [النمل:67]، فقد نظروا إلى أنفسهم وقالوا: نحن الآن على قيد الحياة، وآباؤنا أموات، فيذهب أحدهم إلى قبر، ويأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم برأس محطم لإنسان ميت، من زمن بعيد ويفتته بيده، ويقول له: أتزعم أن ربك يبعث هذه مرة ثانية؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يبعثها ويدخلك النار)، جزاء تكذيبك أيها الإنسان! فالله يحيي العظام بعد أن تكون رميماً. قوله تعالى: {أَئِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ} [النمل:67]، إذا جاء الاستفهام بهذه الصورة: (أَئِذَا)، و (أَئِنَّا) ففيه قراءات، فيقرأ هذه الآية نافع وأبو جعفر بالإخبار في الأولى، والاستفهام في الثانية، فتكون القراءة: (إذا كنا تراباً وآباؤنا أئنا لمخرجون)، وعلى الوجوه التي يقرءون بها بالتسهيل وبالمد فيها، فـ قالون عن نافع يقرأها: (إذا متنا وكنا تراباً آئنا لمخرجون)، فيمدها، وكذلك أبو جعفر يمد في الثانية (آئنا) ويسهل فيها (أئنا). يقرأها ورش كما يقرأها نافع وأبو جعفر، ولكن بدون مد فيقول: (إذا متنا وكنا تراباً أئنا لمخرجون). ويقرأها ابن عامر والكسائي بالعكس في ذلك، فيستفهم في الأولى ويخبر في الثانية، فيقول: (أَئِذَا متنا وكنا تراباً إننا لمخرجون)، وعلى أصول ابن عامر سيقرأها ابن ذكوان: (أئذا متنا وكنا تراباً إننا لمخرجون)، وهشام يقرأ بالمد فيها: (آئذا متنا وكنا تراباً إننا لمخرجون)، وباقي القراء يقرءونها بالاستفهام في الاثنين: (أئذا) و (أئنا)، وهو على أصولهم، فـ أبو عمرو وابن كثير يقرؤها: (أئذا متنا وكنا تراباً أئنا لمخرجون). إذاً: باقي القراء يقرؤنها بالتحقيق في الهمزتين: (أئذا) (أئنا). فهنا استفهام استنكاري من الكفار، يستنكرون كيف يموتون ويكونون تراباً، وعظاماً، ثم يرجعون مرة ثانية، إن هذا لرجع بعيد. وقوله تعالى: {لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [النمل:68]. وذكر في سورة المؤمنون أيضاً: {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ} [المؤمنون:83]، والقرآن يتفنن في السياق، فهنا يذكر بصيغة وهناك يذكر بصيغة، أخرى، فيقدم ويؤخر سبحانه وتعالى بما يتناسب مع السياق القرآني. فقدم (هذا) هنا، وقال: ((لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا)) أي أنهم قالوا: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم جاء يعدنا بأنا سنبعث مرة أخرى، فإن آباءنا من قبل قيل لهم ذلك، ولم نر أحداً منهم بعث، فكأنهم ينظرون إلى الدنيا ويقولون: أين أجدادنا؟! لم لم يبعثوا؟! فهم يريدون من الله أن يميتهم ويبعثهم أمامهم حتى يؤمنوا بذلك. قوله: (إِنْ هَذَا) أي: الوعد والكلام، ((إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ))، والأساطير: جمع أسطورة، والأسطورة: الكلام الخرافي المكتوب، أي: هذه خرافات قديمة كان يقولها السابقون، فهذا كله من أساطيرهم وخرافاتهم.

تفسير قوله تعالى: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين)

تفسير قوله تعالى: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين) قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} [النمل:69] أي: كما أجرمتم أنتم انظروا إلى السابقين كيف أجرموا، وماذا كانت عقوبتهم، وكيف كانت عاقبتهم، فينظرون ويسيرون شمالاً وجنوباً، ففي الشمال يسيرون إلى أرض كان فيها ثمود قبل ذلك في حجر ثمود، وهم يعرفونه تماماً، ويسيرون إلى فلسطين، فيأتون إلى قرى قوم لوط وينظرون كيف صنع بهم؟! وكيف أهلكهم الله؟! وهم كانوا يعرفون ذلك، فالله عز وجل يقول: ((قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ))، أي: انظروا الذين كذبوا من قبلكم كيف صنعنا بهم، لقد توعدتهم رسلهم بعقوبة من عند الله وجاءتهم العقوبة والعذاب، وسيروا جنوباً وانظروا أين ذهب قوم عاد، لقد أهلكهم الله وأزالهم، فما ترى لهم من باقية. يقول سبحانه للنبي صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء: امشوا، وسيروا في الأرض فانظروا واعتبروا، ((كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ))، والعاقبة: هي النتيجة، وهي ما يعقب الشيء، فهؤلاء أجرموا، فسيروا وانظروا كيف أهلكهم الله سبحانه وتعالى وجعلهم آية، وكيف كانت نتيجة إجرامهم. وقوله: ((الْمُجْرِمِينَ)) أي: المكذبين لرسلهم.

تفسير قوله تعالى: (ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون)

تفسير قوله تعالى: (ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون) يقول الله تعالى: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النمل:70]. يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: ((وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ))؛ لأنه كان يحزن من إجرامهم، وكفرهم، وكان يود لو أنهم أسلموا، فكان حزنه شديداً صلوات الله وسلامه عليه، فالله سبحانه يصبره ويطمأنه، ويقول له: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6] {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:3]، أي: لا تهلك نفسك عليهم، إنما عليك أن تبلغ، ولكن لا تحزن حتى تميت نفسك على هؤلاء، فهم لا يستحقون ذلك. قوله: ((وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ)) فيها قراءات: قراءة الجمهور ((عَلَيْهِمْ)) بكسر الهاء، ويقرأها حمزة ويعقوب: (عليهُم) بضم الهاء. وقوله تعالى: ((وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ)) أي: لا يكن صدرك ضيقاً بسبب مكر هؤلاء. وفيها قراءات: قراءة الجمهور: (ضَيْقٍ)، بفتح الضاد، وقراءة ابن كثير: (ضِيق) بكسرها، فإذا قرأها كلها يقول: (ولا تحزن عليهمُ ولا تكن في ضِيق مما يمكرون). فالله عز وجل يصبر النبي صلى الله عليه وسلم ويقول له: لا تحزن ولا يضق صدرك بما يمكر هؤلاء، فمهما مكر المستهزءون فنهايتهم إلى الله عز وجل ليجازيهم، وذلك في الآخرة أو أنه في الدنيا سيعاقبهم بعذاب من عنده، فيهلكهم كما أهلكهم في يوم بدر وغيرها، فلا تكن في ضيق من مكرهم واستهزائهم.

تفسير قوله تعالى: (ويقولون متى هذا الوعد قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون)

تفسير قوله تعالى: (ويقولون متى هذا الوعد قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون) قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل:71]، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كلما قال لهم -يخوفهم بيوم القيامة-: اتقوا الله، وخافوا يوم الحساب، يقولون: متى يوم الحساب؟ إنك تتوعدنا به وبأنه قريب، ولكنا لا نرى مما تتوعدنا به شيئاً، وكيف تقول إن الله يقول: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل:1]، ولم يأت أمر الله هذا؟ إذاً: فالله عز وجل يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: إنهم يقولون لك: ((مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ))، وهم ينتظرون جواباً منه صلى الله عليه وسلم، فالله عز وجل يقول جواباً على سؤالهم: {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} [النمل:72]، أي: لماذا تستعجلون؟ فعسى أن يكون بعض ما تستعجلونه، وربما أتاكم ما توعدون قريباً وقد كان ذلك، فـ أبو جهل وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وغيرهم يوم بدر كانوا كلهم صرعى، فألقاهم المسلمون في قليب بدر، ووقف النبي صلى الله عليه وسلم على هذا القليب ينادي على هؤلاء الكفار: أن جاءكم ما توعدون. وقوله: ((قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ))، أي: قد اقترب منكم بعض الذي تستعجلون من العذاب، و (رَدِفَ) بمعنى: تبع أو أتبع، فكما يقولون: فلان رديف لفلان، أي: آت بعده، فالمعنى: أن الموت آت بعدكم مباشرة، فلا تستعجلوه.

تفسير قوله تعالى: (وإن ربك لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون)

تفسير قوله تعالى: (وإن ربك لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون) قال الله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ} [النمل:73]، أي: أن نعم الله عظيمة، والنبي صلى الله عليه وسلم لعله ضاق صدره من هؤلاء الكفار، ومن أذاهم له، فقال له الله عز وجل: ((وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ))، فلا تستعجل، لعل الله عز وجل يتفضل على بعض هؤلاء، فيؤمنوا ويدخلوا في دينك، وبالفعل فقد أسلم كثير من هؤلاء الكفار، سواء قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم كعمر بن الخطاب رضي الله عنه، أو بعد هجرته ثم هاجروا إليه، أو بعد ما فتحت مكة، وحسن إسلامهم، كـ أبي سفيان الذي كان شيخ قريش في الجاهلية، وكان من أشد الناس أذى للنبي صلى الله عليه وسلم ولمن معه من المؤمنين، ثم أسلم بعد ذلك، وحسن إسلامه رضي الله تعالى عنه. فربنا يقول: ((وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ))، فمن فضل الله عز وجل على الناس أن جعل درجات عالية في الجنة، لا ينالها الإنسان بعمله فقط، ومهما عمل فلن يصل إليه، ولكن الله يرفعه إليها بالابتلاء والصبر، فالنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون يصبرون، -والصبر لا يكون إلا على البلاء، أو الجهاد في سبيل الله سبحانه- فيرفعهم الله بهذا الصبر درجات. إن الله خلق العباد فمنهم كافر ومنهم مؤمن، وأفعال الله عز وجل كلها خير، خلق الكافر وهو شر، ولكن وجوده خير للمؤمن، ليدعوه إلى دين الإسلام، فإما أن يستجيب فيحصل على الأجر العظيم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس) أو أنه لا يستجيب، فيحارب ويقاتل المسلم فيقتل المسلم فيكون شهيداً، أو يغلب المسلم فيكون له الأجر عند الله والغنيمة، فكل أفعال الله عز وجل خير لو تفكر الإنسان. يقول الله سبحانه: ((وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ))، أي: يتناسون نعم الله، وقد ذكرنا بهذه النعم في الآيات السابقة. قوله تعالى: ((وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ)) أي: أكثر الناس، ((لا يَشْكُرُونَ))، نعم الله عز وجل عليهم.

تفسير قوله تعالى: (وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون)

تفسير قوله تعالى: (وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون) قال تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} [النمل:74]، أي: أن الله يعلم ما تكن صدور الناس، من إيمان، أو كفر، أو نفاق، أو مكر، أو استهزاءٍ، أو استهانة، أو تدبير يدبرونه، أو حب لله، أو بغض للمؤمنين. وقوله تعالى: ((وَمَا يُعْلِنُونَ)) أي: من أقوال وأفعال، فيجهرون بها.

تفسير قوله تعالى: (وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين)

تفسير قوله تعالى: (وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين) ثم يقول الله سبحانه: {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل:75]، هذا أسلوب حصر وقصر، والمعنى: لا يمكن أن يفوت الله سبحانه وتعالى شيء في السموات ولا في الأرض، فكل شيء غاب عن الخلق في السموات والأرض فإن الله عز وجل يعلمه، سواء كان صغيراً أو كبيراً، أو دقيقاً أو حقيراً أو عظيماً، فكله يعلمه الله سبحانه. وقوله تعالى: ((وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ)) أي: ما من شيء يغيب في السموات ولا في الأرض، وعبر عنها بكلمة: (غائبة) وكأنها صفة لمحذوف تقديره: (خصلة)، أو أي شيء غائب، فعبر عنه بذلك، والتقدير: ما من خصلة في السموات والأرض تغيب عن الخلق إلا والله عز وجل قد علمها، وأثبتها في كتاب مبين عنده. وقوله: (مُبِينٍ)، بمعنى: بين ظاهر، وهذا الكتاب هو اللوح المحفوظ عند الله عز وجل، مكتوب فيه كل شيء، ويظهر يوم القيامة كل ما فيه. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة النمل [76 - 81]

تفسير سورة النمل [76 - 81] يبين القرآن لأهل الكتاب أكثر ما يختلفون فيه، ففيه الهدى والرحمة لمن آمن به، ولكنهم لم ينتهوا عما هم عليه من الضلال، بل أعرضوا عن هذا الهدى وصدوا عنه، فمن كان أعمى فمن أين يرى؟ ومن كان أصم فكيف يسمع؟ فهم صم بكم عمي لا يعقلون.

تفسير قوله تعالى: (إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل)

تفسير قوله تعالى: (إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة النمل: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ * فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ * إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} [النمل:76 - 81]. في هذه الآيات من سورة النمل يخبر الله سبحانه وتعالى فيها عن هذا القرآن العظيم، كيف أنه يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون، فهم يزعمون أنهم أهل التوراة، وأن عندهم علم عظيم من عند الله سبحانه، فالله يخبرهم أنهم مختلفون في هذا الذي جاءهم من عنده، فقد حرفوه وبدلوه وغيروه وكتموه وأخفوا بعضه، فجاء القرآن ليبين لهم ما هم فيه مختلفون، {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل:76]. فكان الواجب عليهم -وقد علموا أن النبي صلى الله عليه وسلم رسول رب العالمين، وأنه نبي حق، وسمعوا ما جاء في القرآن مما هو عندهم، ولا يطلع عليه الكثيرون منهم- أن يتبعوا هذا القرآن، لكنهم اختلفوا فيما عندهم من العلم، فإذا بالله عز وجل يذكر حقيقة الشيء الذي حرفوه، وكيف كذبوا على الله وعلى رسله عليهم الصلاة والسلام. ومن المعلوم أن بعض اليهود ذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا له: نسألك عن أشياء لا يعلمها إلا نبي، فعندما يجيبهم يقولون له: صدقت -ويقبلون يده ورجله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لا يدخلون في دينه- فيقول: ما يمنعكم أن تتبعوني؟ فيقولون: نخاف من بني إسرائيل -أي: من يهود- أن يقتلوننا، وإن داود دعا ربه أنه لا يزال من ذريته نبي، فنحن ننتظر نبياً من ذريته، فهم في حقيقة أمرهم يخاف بعضهم من بعض، ويخافون أن يقتل بعضهم بعضاً، فطمعوا في الدنيا، وتركوا الآخرة، وأعرضوا عنها، فالله عز وجل فضحهم وأخبرهم في كتابه عما كانوا فيه يختلفون، وأنهم ما اختلفوا إلا من بعد ما جاءتهم البينات، وأن اختلافهم سببه البغي فيما بينهم. إذاً: جاءهم العلم من رب العالمين، فبغى بعضهم على بعض، وحسد بعضهم بعضاً، وكأن العلم الذي نزل من عند الله عليهم كالمطر، إذا نزل على أرض صالحة أخرج ما فيها من نبات طيب، وإذا نزل على أرض خبيثة لم تنتفع به، وإذا نزل على نبات مر أخرج ثماراً مرة، فهؤلاء جاءهم كتاب رب العالمين وعرفوا ما فيه، ولكن قلوبهم ملئت بالبغي والغل والحسد، فاختلفوا وقتل بعضهم بعضاً بغياً بينهم، فالله أخبر بما كانوا فيه يختلفون، وقال: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل:76]، وقد أطلع الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على ما كانوا يكيدون له، وما كانوا يقولونه فيه، كما أطلعه على بعض الأشياء التي حرفوها، ففضحهم أمام النبي صلى الله عليه وسلم، فقد جاءوا إليه برجل وامرأة قد زنيا، فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم: (ما تجدون عندكم في التوراة؟ -وكانوا يخفون هذا الحكم- قالوا: نجد في كتابنا أن نسخم وجوههما، ونطوف بهما منكسين على حمار، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: أما تجدون الرجم عندكم؟ قالوا: لا -فكذبوا ومعهم التوراة وفيها الرجم- فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: {فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:93]، فأتوا بالتوراة، وإذا بالقارئ يقرؤها ويضع يده على آية الرجم ليخفيها، فقرأ الذي أمامها والذي خلفها، ولم يقرأ ما تحت يده، ثم قال: لا أجدها، فقال له أحد اليهود: ارفع يدك واقرأ ما تحتها، فرفع يده، وما استحيا من الله عز وجل، ومن الناس، فقرأ الآية التي كان يخفيها بيده). وهكذا كانوا يتعاملون مع توراتهم التي يقولون عنها: إن فيها علماً عظيماً، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يأمر برجم اليهوديين ويقول: (اللهم اشهد أني أول من أقام دينك بعد أن بدلوه)، ففضحهم ربهم على لسان النبي صلى الله عليه وسلم وفي كتابه العزيز بأنهم اختلفوا {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [البقرة:213]، فقص عليهم القرآن {أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل:76].

تفسير قوله تعالى: (وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين)

تفسير قوله تعالى: (وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين) قال الله عز وجل عن القرآن: {وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [النمل:77]، فقوله: ((وَإِنَّهُ لَهُدًى)) أي: يهدي به الله عز وجل من يشاء من خلقه، وقوله: ((وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ))، أي: أن القرآن يقرؤه المؤمن ويقرؤه المنافق، والذي ينتفع به هو المؤمن، أما المنافق فلا ينتفع به، فرحمة الله قريب من المحسنين، فمن أحسن في تلاوته وفي عمله أحسن الله إليه، ومن أساء وأعرض واتخذ القرآن لعباً ولهواً، أو اتخذه حرفة يتكسب بها، ولم ينظر إلى الدار الآخرة، فالله عز وجل يعرض عنه، ولا يجعل القرآن له هداية ولا رحمة؛ لأن هذا القرآن هدى ورحمة للمؤمنين، يهديهم إلى الصراط المستقيم، وإلى سبيل رب العالمين، ويرحمهم الله عز وجل به.

تفسير قوله تعالى: (إن ربك يقضي بينهم بحكمه)

تفسير قوله تعالى: (إن ربك يقضي بينهم بحكمه) قال الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [النمل:78]، أي: بين بني إسرائيل وبين خلقه جميعاً، يقضي بينهم بحكمه يوم القيامة فيما اختلفوا فيه، {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [النمل:78]، فالله يحكم يوم القيامة، ولا معقب لحكمه، والإنسان في الدنيا إذا اختصم مع غيره فلعله يخيفه ويأخذ حقه منه، ولعله أمام الحاكم يأتي بشهود زور يشهدون له، أما يوم القيامة فالحساب عند رب العالمين سبحانه، والحكم بينهم للملك الحق العدل المبين. ((وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ)) أي: وهو العزيز الغالب الذي لا يمانع، القادر القاهر، سبحانه وتعالى، فإذا جاءوا يوم القيامة فلا يتكلم أحد أمام رب العالمين، ويختم الله على أفواههم كما قال سبحانه: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65]. فالله سبحانه ذكر أنه يقضي بحكمه، وكم من إنسان في الدنيا يصلح أن يحكم بين الناس، ولكن لا يقدر على ذلك لضعفه، فقد يعرف المسألة ويعرف الحق فيها، ولكنه يخاف أن يقوله؛ لكي لا يؤذيه أحد الخصمين، وكم من إنسان يحكم بين اثنين، فيحيف وينصر أحدهما على الآخر، وكأنه قريب منه؛ لأنه أدلى بحجة صحيحة في زعمه، وليست بحجة صحيحة، وهذا إن مضى وجاز على الناس، فلا يجوز على رب العالمين سبحانه وتعالى. فالإنسان يدلي بحجته يوم القيامة، ويأتي الضعيف فيقول: يا ربي سل هذا: فيم قتلي؟ أو فيم أكل مالي؟ أو فيم لطمني؟ أو فيم ظلمني؟ والله عز وجل يسأله: لم فعلت كذا؟ فلا يقدر أن يكذب، فتنطق جوارحه بالحق ويدين نفسه في يوم الجزاء ويوم الدين، قال الله سبحانه: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ} [النمل:78]، أما في الدنيا فيظهر الله الحق الذي أخفاه أهل الكتاب، ويأتي بالحق في كتابه ليحكم به بين الناس، وأما يوم القيامة فيؤاخذ الظالم ويعاقبه، فإما أن يدخله النار، وإما أن يأخذ من حسناته ويعطيها المظلوم، حتى يكتفي ويشعر أنه أخذ حقه وانتصر عليه، فقوله: ((وَهُوَ الْعَزِيزُ)) أي: الغالب، و ((الْعَلِيمُ))، الذي يقضي بعلمه وحكمه، والذي يعلم كل شيء، ما ظهر وما خفي، ويعلم السر وأخفى، فيقضي بينهم يوم القيامة بحكمه ((وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ)).

تفسير قوله تعالى: (فتوكل على الله إنك على الحق المبين)

تفسير قوله تعالى: (فتوكل على الله إنك على الحق المبين) ثم يأمر الله نبيه صلوات الله وسلامه عليه بقوله: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل:79]، والفاء هنا: عاطفة على ما قبل، والتقدير: إذا كان الأمر على ذلك {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [النمل:79]، أو بسبب ذلك توكل على الله سبحانه. ومعنى (توكل على الله): اعتمد عليه وفوض أمرك إليه، وهو ناصرك ومؤيدك سبحانه. {إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل:79]، وكأنه يقول له: لأنك ((عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ))، أو فإنك ((عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ))، فلذلك ينبغي عليك أن تفوض أمرك إلى الله فهو وكيلك وناصرك، ومعنى ((إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ)) أي: على شريعة من عند ربك، والمبين أي: الواضح الظاهر الذي لا خفاء فيه، والذي عرف الجميع أنه الحق من عند رب العالمين.

تفسير قوله تعالى: (إنك لا تسمع الموتى)

تفسير قوله تعالى: (إنك لا تسمع الموتى) ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [النمل:80]، قوله: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى}، هذا هو الأصل، فالميت انحجب عن الدنيا، فلا يسمع شيئاً من أمورها، إلا ما يشاء الله عز وجل أن يسمعه إياه، كما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه دفنوا ميتاً ثم تولوا عنه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه ليسمع قرع نعالهم)، فالميت حين يوضع في قبره، وينصرف عنه الناس، فإن الله عز وجل يسمعه أصوات انصرافهم، وبعد انصرافهم يصير وحيداً في قبره، وينقطع أمره عن الدنيا، فلا يسمع شيئاً، ولا يعرف شيئاً مما يدور فيها. إذاً: الأصل أن الموتى لا يسمعون، إلا أن يجعل الله عز وجل صوته يصل إليهم، كما حدث في يوم بدر، فقد جاء في حديث أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلاً من صناديد قريش، -أي: من عتات قريش وكفارهم، كـ أبي جهل وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وغيرهم من كبار الكفار- كانوا قتلوا في يوم بدر فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بهم فقذفوا في طوي من أطواء بدر خبيث مخبث -أي: في بئر من الآبار التي كانت موجودة في ذلك المكان، فلم يحفروا لهم قبوراً ولا غيره، ولكن رموهم في داخل بئر من الآبار- وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال، -أي: إذا غلب قوماً وانتصر عليهم أقام بمكان القتال ثلاثة أيام صلوات الله وسلامه عليه- فلما كان ببدر في اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها، ثم مشى وتبعه أصحابه -وهم لا يعرفون أين سيذهب صلى الله عليه وسلم- فقالوا: ما نراه ينطلق إلا لبعض حاجته، حتى قام على شفير الركي- أي: جاء على حرف البئر- وجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: يا فلان بن فلان! ويا فلان بن فلان! أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ -أي: أيسركم الآن لو كنتم أطعتم الله ورسوله- فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فتعجب عمر وقال: يا رسول الله! أتكلم أجساداً لا أرواح لها؟! -أي: جثثاً مرمية لا تسمعك- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده! ما أنتم بأسمع لما أقول منهم)، بمعنى: أنهم يسمعونني الآن، وإن كانت العادة أنهم لا يسمعون، ولكن الله أسمعهم الآن كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول الله عز وجل هنا في هذه الآية: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل:80]. إذاً: الأصل أن الموتى لا يسمعون شيئاً من كلام أهل الدنيا، ولا مما فيها، إلا ما يشاء الله عز وجل أن يسمعهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، أو كما أسمعهم انصراف الناس عنهم. يقول الله عز وجل: ((وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ))، الصم: جمع أصم، وهو الذي لا يسمع، فإذا ناديته ولى مدبراً عنك، فكأن هؤلاء المشركين كما قال الله عز وجل فيهم {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [البقرة:18]، وقال: {فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [البقرة:171]. فالأصم الذي لا يسمع، والأبكم الذي لا يتكلم، والأعمى الذي لا يرى، من المستحيل أن يحس أو يشعر بمن يناديه، فإذا ذهب فلا يمكن أن يعيده هذا النداء، وقلبه بيد الله عز وجل يقلبه كيف يشاء. فلذلك أخبر عن هؤلاء الكفار أنهم {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [البقرة:18]، إذا نودوا ليرجعوا لا يرجعون، وهم لا يعقلون، وكيف يعقلون وقد انقطعت عنهم حواسهم، وغاب عنهم شعورهم، يقول الله سبحانه: {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} [النمل:80]، والكافر أشد من هذا الأصم الأبكم الأعمى، وإذا جاء الأصم الأبكم الأعمى يوم القيامة قال لربه: يا رب! لم أسمع ولم أعلم، وما جاءنا من عندك من نذير، فيرحمه الله سبحانه وتعالى، أما الكافر فلا يرحمه؛ لأنه كان ينظر ويسمع ويعي ويعقل، ومع ذلك أعرض عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكان كالأعمى والأصم، فالله عز وجل يقول: ((إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى))، هؤلاء، ((وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ))، أي: لا تسمعهم، وهذه قراءة الجمهور، وقراءة ابن كثير: (ولا يسمع الصم الدعاء) أي: أن الإنسان الأصم لا يسمع دعاءك إذا ناديته، وهذا الكافر كهذا الأصم الذي لا يسمع، فلا تسمعه دعاءك إلا أن يشاء الله، وقوله تعالى: ((إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ))، أي: أعرضوا عنك، ولم يريدوا أن يسمعوا لك، وكانوا إذا أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم استغشوا ثيابهم؛ كي لا يرونه، فكان الواحد منهم يضع أصبعه في أذنه ويغطي عينيه حتى لا يسمع كلامه صلى الله عليه وسلم ولا يراه، وهذا الذي فعله الكفار مع نوح، فقد شكا نوح لربه سبحانه أنه كلما دعاهم إلى الله عز وجل {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} [نوح:7]، وهذا حال الكفار والمنافقين أيضاً، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يمر وهو راكب على حمار بـ عبد الله بن أبي بن سلول فإذا بالرجل يستغشي بثوبه على وجهه ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم -وقد جاء مسلماً يدعوهم إلى الله- يا أيها الرجل! ما أحسن ما تقول إن كان ما تقول حقاً، ارجع إلى بيتك فمن أتاك منا فأخبره، أي: لا تكلمنا، واذهب إلى بيتك، والذي يأتي إليك يريد أن يسمع فكلمه. فهذا رده على النبي صلى الله عليه وسلم، فهو أصم أعمى القلب، لا يفهم ولا يعقل، وظل على هذا العمى حتى أخذه الله عز وجل وهو على ذلك، وقد أساء إلى النبي صلى الله عليه وسلم إساءات عظيمة، فكفر في قلبه وإن خالف بعد ذلك وأظهر الإسلام بلسانه، لكن قلبه ممتلئ بالغل والحقد على الإسلام دين رب العالمين. فالمقصود أن الله عز وجل يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: لا تقدر أن تسمع من أصمه الله سبحانه، وأذهب عقله، فلا يفهم ولا يعي.

تفسير قوله تعالى: (وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم)

تفسير قوله تعالى: (وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم) يقول الله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} [النمل:81]، فالنبي صلى الله عليه وسلم يهدي إلى صراط مستقيم، بمعنى: يدل، أما أن يأخذ الإنسان ويحوله من دين إلى دين فلا يقدر. ومعنى قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]، أي: أنت -يا محمد- تدل وتبين، و {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56]، أي: لا تقدر أن تحوله إلى الإسلام، ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم يقدر على ذلك لحول عمه أبا طالب الذي دافع عنه وعن الإسلام دفاعاً عظيماً، ومع ذلك أبى إلا أن يموت كافراً، فالنبي صلى الله عليه وسلم يحاول أن يدعوه ويدخله في الدين، والله يقول له: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56]، كذلك الآية هنا: {وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ} [النمل:81]، وهذه قراءة الجمهور، وقراءة حمزة: (وما أنت تهدي العميَ عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون) أي: الذي يسمع فينتفع، وإلا فالكل يسمع، ولكن الذي يسمع فينتفع هو الذي يؤمن بكتاب رب العالمين، ويسلم نفسه ويوجه وجهه إليه سبحانه. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة النمل الآية [82]

تفسير سورة النمل الآية [82] يخبر الله تعالى عن الدابة التي ستخرج في آخر الزمان عند فساد الناس وتركهم أوامر الله وتبديلهم الدين الحق، وهذه الدابة عندما تخرج تكلم الناس وتخاطبهم بأن الناس كانوا بآيات الله لا يوقنون، ثم تسم الناس على جباههم وعلى أنوفهم، فمن كان مؤمناً كتبت على جبهته أنه مؤمن، ومن كان كافراً كتبت على جبهته أنه كافر، حينها لا ينفع نفساً إيمانها إن لم تكن آمنت من قبل، فكل يعرف نفسه هل هو من أهل الجنة أم من أهل النار.

تفسير قوله تعالى: وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم)

تفسير قوله تعالى: وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ} [النمل:82]. يخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية من سورة النمل أنه إذا جاء أمر الله سبحانه ووقع القول على الخلق، والقول هو حكم الله وقضاء الله وقدره سبحانه، وغضب الله سبحانه وتعالى، فإذا كان أكثر أهل الأرض من المجرمين الكافرين نزل عليهم غضب الله سبحانه واستحقوا العذاب واستحقوا العقوبة. وقالوا أيضاً في قوله تعالى: (إذا وقع القول عليهم) أي: حق عليهم القول من الله سبحانه أنهم لا يؤمنون، ولا يأتي بعد ذلك إلا الكفار والفجار، فيستحقون غضب الله سبحانه وتعالى عليهم، كما أخبر عن قوم نوح أن نوحاً قال لربه سبحانه وتعالى مستغيثاً ومستجيراً به: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} [نوح:5 - 7]، فأخبر عن قومه أنهم كفار مجرمون مستكبرون، فأوحى إليه ربه فقال: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود:36]، فإذا كان الأمر أن الإيمان وقف على ذلك، أن هؤلاء مؤمنون والباقي كلهم كفار، ولن يأتي مؤمنون بعد ذلك، فعلى ذلك يستحق هؤلاء الكفار عقوبة رب العالمين سبحانه. ثم قال: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [هود:36]، أي: لا تحزن على هؤلاء، فستأتيهم المصائب وسيأتيهم العقاب من الله سبحانه.

أقوال الصحابة في معنى قوله (وإذا وقع القول عليهم)

أقوال الصحابة في معنى قوله (وإذا وقع القول عليهم) كذلك هنا قوله: (وإذا وقع القول عليهم)، يقول أبو سعيد الخدري وابن عمر رضي الله عنهما: (إذا لم يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، وجب السخط عليهم) أي: يستحقون سخط الله إذا كانوا لم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر. ويقول ابن مسعود رضي الله عنه في قوله تعالى: ((وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ)) قال: يكون بموت العلماء وذهاب العلم ورفع القرآن، فهذا يكون يوماً من الأيام أن الله عز وجل بعدما ينتشر الدين ويعم الأرض كلها يقبضه الله سبحانه وتعالى بعد ذلك، ويقول ابن مسعود: (أكثروا تلاوة القرآن قبل أن يرفع، قالوا: هذه المصاحف ترفع فكيف بما في صدور الرجال؟ قال رضي الله عنه: يسرى عليه ليلة فيصبحون منه قفرة)، نسأل الله العفو والعافية، يعني: إذا صار من يحفظ القرآن يحفظه للدنيا ليس للدين استحقوا ذلك، وفيهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أكثر قراء أمتي منافقوها). فإذا كان حفاظ القرآن من المنافقين استحقوا ذلك، وإلا فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء ولكن يقبضه بقبض العلماء)، أي: الصالحون من أهل العلم الذين يعملون بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، أن الله لا ينزع العلم من قلوبهم، ولكن يقبضهم هم، أما أهل الفسق وأهل النفاق، فالله يأخذ من صدورهم كتابه سبحانه وتعالى كما أخبر هنا. ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: (يسرى عليه ليلة فيصبحون منه قفرة، وينسون لا إله إلا الله)، فسيصل الأمر إلى أن الناس ينسون لا إله إلا الله، وهذا الذي جاء فيه الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق)، يعني: يصبح الناس يتهارجون كتهارج الحمر، ويستباح الزنا في الطرقات، فالله عز وجل يقبض الصالحين وتقوم الساعة على شرار الخلق وهم على ذلك. يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (ينسون لا إله إلا الله ويقعون في قول الجاهلية وأشعارهم؛ وذلك حين يقع القول عليهم) يعني: إذا وقع القول عليهم إذا بالله سبحانه وتعالى يأخذ منهم كتابه فيصيرون بغير كتاب فينسون. ويقول أيضاً ابن مسعود رضي الله عنه: (أكثروا من زيارة هذا البيت، من قبل أن يرفع وينسى الناس مكانه) يعني: حتى الكعبة، وجاء في حديث آخر للنبي صلى الله عليه وسلم: (أنها تهدم، يهدمها ذو السويقتين من الحبشة)، رجل من الحبشة يأتي للكعبة محارباً فيهدم الكعبة، فإذا هُدمت لا تقام مرة ثانية، فينسى الناس مكانها لتقادم الزمان بهم، ويرفع منهم القرآن، وينسون العلم. في هذا الحين يحق عليهم قول الله عز وجل، فتأتي العلامات الكبرى للساعة، ومن العلامات الكبرى: خروج الدابة التي ذكرها الله عز وجل في الآية.

معنى حديث: (يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب)

معنى حديث: (يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب) جاء في حديث رواه ابن ماجة عن ربعي بن حراش عن حذيفة رضي الله عنه، والحديث صححه الألباني، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب). قوله: (يدرس) من درس الشيء بمعنى: قدم وبلي وخلق وانمحى وزال، وهنا: يدرس القرآن بمعنى: ينمحي، مثل الثوب، فالثوب يكون جديداً ويكون لونه ظاهراً جيداً، فتأتي عليه الشمس تحيله إلى شيء آخر ويصير خلقاً بالياً قديماً، ثم يتمزق فهنا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أن الإسلام سيأتي عليه زمان يكون هذا حاله، يدرس كما يدرس وشي الثوب، حينها تقوم الساعة على هؤلاء الذين يدرس عليهم الإسلام، ولا يكون ذلك إلا في نهاية الزمان، بعد أن ينزل المسيح عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، ويعم العدل في الأرض ويحكم بالإسلام، ولا يبقى بيت حجر ولا مدر إلا ودخله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله عز وجل به الإسلام، وذلاً يذل الله عز وجل به الكفر وأهله. بعد ذلك يرجع الناس مرة ثانية إلى أخلاقهم السيئة، ثم يكونون شرار الخلق، ثم تقوم الساعة على هؤلاء، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة، وليسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة: لا إله إلا الله، فنحن نقولها)، يعني: يصل الأمر أنهم لا يعرفون أي شيء عن الإسلام، إلا أن العجائز والشيوخ الكبار يذكرون كلمة لا إله إلا الله فقط، لا ما يعرفون شيئاً آخر غير هذه الكلمة. قال أحد الرواة واسمه صلة، قال: (ما تغني عنهم لا إله إلا الله، وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة؟) -يعني: إذا كان وصل الأمر أنهم لا يعرفوا شيئاً عن الدين، فماذا تغني عنهم لا إله إلا الله؟! (فأعرض عنه حذيفة - وكأن سؤاله ليس له وجه- فكرر عليه السؤال ثانياً وثالثاً، كل ذلك يعرض عنه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة فقال: يا صلة! تنجيهم من النار، يا صلة! تنجيهم من النار، تنجيهم من النار). فأخبر أنهم معذورون في هذا الحين، لأنه رفع منهم القرآن، وأخذ منهم العلم، ولم يبق معهم علماء، فتمسكوا بآخر شيء عندهم كلمة لا إله إلا الله، فهم لا يعرفون غيرها، فتنفعهم هذه الكلمة، وتنجيهم من النار. يقول الله سبحانه: ((وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ)) يعني: استحقوا غضب الله واستحقوا عذاب الله سبحانه وتعالى، الذي قال فيه: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة:13]، فإذا وجب عليهم هذا القول بكونهم شراراً، إذا بالله يخرج لهم آية من الآيات الكبرى للساعة، والساعة قبلها علامات وآيات، وقد عدها النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات تكون قبل قيام الساعة، من هذه الآيات طلوع الشمس من مغربها، ومن هذه الآيات خروج المسيح الدجال، ونزول المسيح عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام ليحكم بين الناس بالإسلام، وقيل: المسيح الدجال. ومن هذه الآيات التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم: نار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى محشرهم. ومنها أيضاً: ثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب وهكذا.

ذكر خروج الدابة وحقيقتها وعملها

ذكر خروج الدابة وحقيقتها وعملها ومن الآيات: خروج الدابة وكلامها للناس، فيا ترى ما هي هذه الدابة؟ لم يوضح لنا في هذه الآية، إلا أنها دابة تخرج وتكلم الناس، فتكون آية من آيات الله سبحانه وتعالى، وهي آية عظيمة، ستكلم الناس بماذا؟ {أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ} [النمل:82]. فإذا كذب الناس بآيات الله سبحانه وتعالى كذبوا بالقرآن، وكذبوا بكلام النبي صلى الله عليه وسلم، وكذبوا بالأحكام الشرعية، فتخرج عليهم هذه الآية وتكلمهم كأنها تأتي لعقاب من يشاء الله سبحانه؛ بسبب أنهم كانوا لا يؤمنون بآيات الله سبحانه. هذه الدابة تأتي فتختم الناس على وجوههم، المؤمن تختم عليه بأنه مؤمن، والكافر تختم عليه بأنه كافر، ولا يستطيع إنسان أن يهرب منها ولا يقدر أن يهرب منها. هذه الدابة تخرج على الناس وتكلمهم بأن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون. وقد جاء في الحديث في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وسلم قال: (ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفساً إيمانها)، أي: ثلاث من أكبر وأعظم الآيات، إذا خرجت هذه الآيات لا ينفع بعدها الإيمان، فهذه الآيات الثلاث يقول فيها صلى الله عليه وسلم: (لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض)، وكأن الدابة من آخر ما يكون، وأما الدجال: فإنه يخرج على الناس كما جاء في حديث طويل للنبي صلى الله عليه وسلم ويزعم أنه إله، ويتبعه اليهود والمنافقون، ويتبعه من شاء الله سبحانه، وينزل المسيح عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام فيقتل الدجال، ويعم العدل بعد ذلك في الأرض، فإذا عم العدل بعد ذلك أخذ القرآن من الناس على ما يشاء الله سبحانه وتعالى، ثم تخرج هذه الدابة تكلم الناس، وتطبع على هذا بأنه كافر وعلى هذا بأنه مؤمن، حتى إن الناس ليصبحون يتكلمون بذلك، المؤمن يقول للكافر: يا كافر! بعني كذا وكذا، والكافر يقول للمؤمن: يا مؤمن! بعني كذا وكذا، عندها يعرف كل شخص، الكافر يعرف أنه كافر فلا ينفعه إيمانه، والآخر يعرف أنه مؤمن، والله عز وجل يحفظه بإيمانه. وفي حديث يرويه الإمام أحمد وغيره من حديث أبي أمامة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تخرج الدابة فتسم الناس على خراطيمهم)، قوله: (فتسم): من الوسم، وهو: العلامة، وخراطيم الناس هي الأنوف، بمعنى: الأنف، يعني: فتسم على الجبهة وتسم على أنف الإنسان وتضع علامة عليه، قال: (ثم يعمرون فيكم) يعني: يظلوا على هذه الحال، هذا مكتوب على جبينه أنه مؤمن، وذاك مكتوب عليه أنه كافر، ويبقون فترة، قال: (ثم يعمرون فيكم، حتى يشتري الرجل البعير، فيقال: ممن اشتريته؟ فيقول: من أحد المخطمين)، يعني: المكتوب على خطمه أنه كافر أو أنه مؤمن.

حديث الجساسة وعلاقته بالدابة

حديث الجساسة وعلاقته بالدابة جاء في حديث طويل عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر فيه هذه الدابة، قال بعض العلماء: هي الجساسة التي جاءت في صحيح مسلم في حديث طويل عن فاطمة بنت قيس قالت: (إن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الناس، فخرج المنادي يقول: الصلاة جامعة، الصلاة جامعة، فاجتمع الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأقيمت الصلاة فصلى بالناس صلى الله عليه وسلم، فلما قضى صلاته جلس على المنبر وهو يضحك عليه الصلاة والسلام، فقال: ليلزم كل إنسان مصلاه، ثم قال: أتدرون لِمَ جمعتكم قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: إني والله ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة -يعني: ما جمعتكم حتى آتي لكم بموعظة أرهبكم بها أو أرغبكم في شيء- ولكن جمعتكم لأن تميماً الداري كان رجلاً نصرانياً، فجاء فبايع وأسلم، وحدثني حديثاً وافق الذي كنت أحدثكم عن المسيح الدجال). يعني: كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك يحدث الصحابة عن الدجال وأخبر عن صفات الدجال وأخبرهم عما يكون من علامات قبل الساعة، فجاء تميم وحدث النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الشيء الذي حدث به أصحابه، فأحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يسمعوا ما قاله تميم ليزدادوا يقيناً فوق يقينهم رضوان الله تعالى عنهم. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (حدثني: أنه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلاً من لخم وجذام، فلعب بهم الموج شهراً في البحر، ثم أرفئوا إلى جزيرة في البحر حتى مغرب الشمس، فجلسوا في أقرب السفينة، - يعني: القوارب التي تكون في جوف السفينة- فركبوا هذه الأقرب ودخلوا إلى الجزيرة، فلقيتهم دابة أهلب) قال العلماء: هذه هي الدابة التي تخرج يوماً من الأيام على الناس، إذاً: فهي مخلوقة موجودة كما أن المسيح الدجال مخلوق وموجود الآن، ويخرج على الناس يوماً. يقول صلى الله عليه وسلم: (فلقيتهم دابة أهلب - يعني: كثيرة الشعر- لا يدرون ما قبله من دبره) يعني: لا يعرفون الوجه من الظهر لكثرة الشعر الذي عليه، ففزعوا من منظرها يقول: (قالوا: ويلك؟ ما أنت؟ قالت: أنا الجساسة، قالوا: وما الجساسة؟ قالت: أيها القوم انطلقوا إلى هذا الرجل في الدير فإنه إلى خبركم بالأشواق -يعني: اتركوني واذهبوا إلى هذا الذي ينتظركم في هذا الدير- قالوا: فلما سمت لنا رجلاً فرقنا منها أن تكون شيطانة، قال: فانطلقنا سراعاً حتى دخلنا الدير فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط، خلقاً، وأشده وثاقاً -يعني: رأوا منظر إنسان ما رأوا مثله قبل هذا، منظره عظيم جداً، وكان طويلاً عريضاً مكتفاً تكتيفاً شديداً جداً- مجموعة يداه إلى عنقه ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد، قلنا: ويلك ما أنت؟ قال: قد قدرتم على خبري، فأخبروني من أنتم؟ قالوا: نحن أناس من العرب ركبنا في سفينة بحرية فصادفنا البحر حين اغتلم، فلعب بنا الموج شهراً، ثم أرفأنا إلى جزيرتك هذه، فجلسنا في أقربها، فدخلنا الجزيرة فلقيتنا دابة أهلب كثير الشعر لا يدرى ما قبله من دبره من كثرة الشعر، فقلنا: ويلك ما أنت؟ فقالت: أنا الجساسة -هذه هي الدابة التي جاء ذكرها في القرآن، والله أعلم- قال: قلنا: وما الجساسة؟ قالت: اعمدوا إلى هذا الرجل في الدير، فإنه إلى خبركم بالأشواق، فأقبلنا إليك سراعاً، وفزعنا منها ولم نأمن أن تكون شيطانة، فقال: أخبروني عن نخل بيسان؟ -يسألهم عن مواضع في بلاد العرب والشام هل ما زالت موجودة، أو أنها انمحت؟ وكأن علامة خروج هذا الإنسان وفك قيده ما يسأل عنه في هذا الحديث- فقال: أخبروني عن نخل بيسان؟ قلنا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: أسألكم عن نخلها هل يثمر؟ قال: قلنا له: نعم، قال: أما إنه يوشك ألا يثمر، قال: أخبروني عن بحيرة طبرية؟ -بحيرة طبرية في فلسطين- قلنا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: هل فيها ماء؟ قال: قلنا: هي كثيرة الماء، قال: أما إن ماءها يوشك أن يذهب، قال: أخبروني عن عين زغر -بحيرة هنالك-؟ قالوا: عن أي شيء تستخبر؟ قال: هل في العين ماء؟ وهل يزرع أهلها بماء العين؟ قال: قلنا: نعم، هي كثيرة الماء وأهلها يزرعون من مائها، قال: أخبروني عن نبي الأميين -صلوات الله وسلامه عليه، وهؤلاء كانوا نصارى، فيسألهم الآن عن النبي صلى الله عليه وسلم- ما فعل؟ قالوا: قد خرج من مكة ونزل يثرب، قال: أقاتله العرب؟ قلنا: نعم، قال: كيف صنع بهم؟ قال: فأخبرناه أنه قد ظهر على من يليه من العرب وأطاعوه، قال: قد كان ذلك؟ قلنا: نعم، قال: أما إن ذاك خير لهم أن يطيعوه، فكان هذا سبب إسلام تميم الداري رضي الله عنه- قال الرجل: وإني مخبركم عني، قال: أنا المسيح)، وما قال: المسيح الدجال، ولكن قال: أنا المسيح، فهو المسيح الدجال ولكن ما ذكر عن نفسه أنه الكذاب الدجال؛ ولذلك لما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك ضحك وأخبر أنه الدجال، قال: (وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج، فأخرج فأسير في الأرض فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة -يعني: مدة مكثه على الأرض أربعين ليلة) ولكن منها اليوم كيوم، واليوم كشهر، واليوم كسنة- (غير مكة وطيبة فهما محرمتان عليّ كلتاهما، كلما أردت أن أدخل واحدة منهما استقبلني ملك بيده سيف صلت يصدني عنها، وإن على كل نقب منها ملائكة يحرسونها). ففيه: أن المسيح الدجال لا يقدر على دخول مكة والمدينة، قال الذي روى الحديث: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم طعن بمخصرته في المنبر وقال: هذه طيبة، هذه طيبة، هذه طيبة، ألا هل كنت حدثتكم ذلك؟ فقال الناس: نعم أخبرتنا، فازدادوا يقيناً بما قال صلى الله عليه وسلم، قال: فإنه أعجبني حديث تميم أنه وافق الذي كنت أحدثكم عنه، وعن المدينة ومكة أن المسيح الدجال لا يقدر أن يدخلها، ألا إنه في بحر الشام أو في بحر اليمن، لا بل من قبل المشرق ما هو، من قبل المشرق ما هو، من قبل المشرق ما هو) يعني: أن المسيح الدجال سيخرج من ناحية المشرق، والنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة ويخبر عن شرق المدينة الذي يخرج منه المسيح الدجال، قالت فاطمة بنت قيس: (فحفظت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم). فالغرض: أنهم ذكروا الجساسة التي رأوها مع الدجال وهي هذه الدابة التي تخرج يوماً من الأيام تكلم الناس بأن الناس كانوا بآيات الله عز وجل لا يوقنون. نسأل الله العفو والعافية والتثبيت في الدنيا والآخرة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة النمل [82 - 87]

تفسير سورة النمل [82 - 87] من علامات الساعة الكبرى: خروج دابة من الأرض تكلم الناس أنهم كانوا لا يوقنون بآيات الله الكونية والشرعية، وتختم على جباههم بوصف كل واحد منهم، فمنهم المؤمن ومنهم الكافر، ولا تنفع التوبة بعد خروجها، ثم بعدها تقوم الساعة فينفخ في الصور نفخة الصعق، ثم نفخة البعث.

تابع تفسير قوله تعالى: (وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم)

تابع تفسير قوله تعالى: (وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة النمل: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ * وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنطِقُونَ * أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النمل:82 - 86]. يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات من آخر سورة النمل أنه إذا وقع القول على العباد أي: وجب عليهم غضب الله سبحانه وحق عليهم العذاب وأنهم لا يؤمنون: {أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ} [النمل:82]، يخرج الله عز وجل لعباده دابة من الأرض، قالوا: تخرج من جبل الصفا، وهذه الدابة تخرج ثلاث خرجات: خرجة يراها الناس ولا يدركونها ثم تختفي، وتخرج مرة أخرى ثم تختفي، وتخرج مرة ثالثة فتختم الناس على جباههم، هذا مؤمن وهذا كافر، وستكلم الناس هذه الدابة، وتطبع على جباههم، وقد كانوا قبل ذلك يتمكنون من العمل الصالح ومن الإيمان، وبعد خروجها يقف الأمر على ذلك، فالله عز وجل أخبر أنهم حق عليهم القول أنهم لا يؤمنون، فلا يؤمن أحد بعد هذه الآية. وقوله: {أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ} [النمل:82]، هذه قراءة الكوفيين ويعقوب، وباقي القراء يقرءونها: (إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون)، فعلى هذه القراءة يكون المعنى: حقت على الناس كلمة العذاب، وحقت عليهم العقوبة، وأخرج الله عز وجل لهم هذه الآية العظيمة تكلمهم، وتطبع عليهم هذا كافر وهذا مؤمن؛ بسبب إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون، وهذه قراءة الجمهور: نافع وأبي جعفر وأبي عمرو وابن كثير وابن عامر، وكأن الدابة تقول لهم: إن الناس كانوا بآيات الله عز وجل لا يستيقنون، وكانوا يكذبون ولا يوقنون.

تفسير قوله تعالى: (ويوم نحشر من كل أمة فوجا)

تفسير قوله تعالى: (ويوم نحشر من كل أمة فوجاً) قال الله سبحانه: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل:83]، هنا ذكر الله يوم القيامة، فبعد أن ذكر علامة من العلامات الكبرى للساعة التي لا ينفع الناس الإيمان بعد ظهورها يقول: اذكر يوم القيامة يوم الحشر، والحشر: الجمع والضم، فيخرج الناس من القبور ويساقون إلى موضع حسابهم إلى عرصات القيامة. {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل:83]، أي: يضمون ويوقف أولهم حتى يلحق بهم آخرهم، ويضم بعضهم إلى بعض، ويحشرهم الله سبحانه فوجاً وراء فوج، وكأنها أفواج بعضها وراء بعض، يحشرهم الله سبحانه جماعات زمراً. {مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا} [النمل:83] يعني: الذي كذبوا بآيات الله سبحانه وبالعلامات التي جعلها لهم آيات على أن الله يستحق العبادة وحده، وكذبوا بآيات القرآن العظيم وما جاء على لسان الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وبالدلالات الدالة على الحق. {فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل:83]، أي: يدفعون ويساقون إلى المحشر إلى موضع الحساب، فهم يوزعون فيرد آخرهم على أولهم وأولهم على آخرهم.

تفسير قوله تعالى: (حتى إذا جاءوا قال أكذبتم بآياتي)

تفسير قوله تعالى: (حتى إذا جاءوا قال أكذبتم بآياتي) قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْماً أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:84]، أي: إذا وصلوا لمكان حسابهم، حيث يجمعون للحساب ويتركون في موقف عظيم خمسين ألف سنة، وتدنو الشمس من رءوسهم، وهم لا يدرون ما يصنعون ولا ما يصنع بهم، فيقول بعضهم لبعض: من يشفع لنا ليقضي الله عز وجل بيننا؟ فيذهبون إلى آدم فيقول: اذهبوا إلى نوح، وهكذا حتى يصلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (أنا لها أنا لها)، فهنا يخبرنا الله سبحانه وتعالى أنه في هذا الموقف يقول للكافرين: {أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي} [النمل:84]، يعني: التي أنزلت على رسلي والآيات التي أقمتها دالة على توحيدي؟ {وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا} [النمل:84]، يعني: كيف تكذبون بها ولم تحيطوا بها علماً؟! والإنسان يعلم بعض الأشياء، ولا يحيط علماً بالشيء، قال الله: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255]. فأي شيء من مخلوقات الله عز وجل قد يعرف الإنسان اسمه، وقد يعرف وصفه، وقد يعرف الفرق بينه وبين غيره، لكن لا يحيط علماً به ويقول: أنا عندي علم إحاطة بهذا الشيء، فمن المستحيل أن يصل الإنسان إلى ذلك، وكلما كثر علمه عرف جهله بأشياء كثيرة، وكلما قال: وصلت إلى شيء، وجد نفسه يجهل أشياء كثيرة في الشيء نفسه الذي وصل إليه. فالله عز وجل يقول للخلق يوم القيامة: {أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا} [النمل:84]، يعني: لم تعرفوها حق المعرفة ولم تدركوها على يقين حقيقتها، ولم تحيطوا بالأشياء علماً، ولم تحيطوا بالآيات علماً، فكيف كذبتم هذه الآيات التي أنزلتها على الرسول صلى الله عليه وسلم؟ {أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:84] ماذا كنتم تعملون في الدنيا؟ تقريع وتوبيخ، أي: ماذا كنتم تعملون في هذه الدنيا حين لم تبحثوا عن هذه الآيات ولم تتفكروا فيها؟ وكأنه يوبخهم أن أمضوا أعمارهم في تضييع في عبث في لهو في تكذيب، ولم يحاولوا أن يفهموا ما جاء عن الله عز وجل وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالله أعطاهم في كل شيء آية، فإذا بهم ينصرفون عن هذه الآيات، وبدلاً من أن يعبدوا الله سبحانه إذا بهم يكذبون ويضيعون الأعمار في التكذيب والرد على الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ لذلك يقول لهم: {أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:84]. ماذا كنتم تعملون في الدنيا؟ فقد تركنا لكم أعماراً في هذه الدنيا طويلة، فما الذي صنعتموه في أعماركم الطويلة غير التكذيب والإعراض عن الله عز وجل والهزل واللعب واللهو والعبث في الدنيا؟

تفسير قوله تعالى: (ووقع القول عليهم بما ظلموا)

تفسير قوله تعالى: (ووقع القول عليهم بما ظلموا) قال الله: {وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنطِقُونَ} [النمل:85]، أي: حق عليهم العذاب، حق عليهم قول الله عز وجل: {لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:119]، فوقع عليهم العذاب يوم القيامة {بِمَا ظَلَمُوا} [النمل:85] أي: بسبب ظلمهم، فهم ظلموا أنفسهم وظلموا غيرهم، فوجب عليهم العذاب بشركهم. قال: {فَهُمْ لا يَنطِقُونَ} [النمل:85]، الله يسألهم ويوبخهم وهم لا يجيبون ولا يعرفون كيف يردون على ربهم سبحانه، فلا عذر لهم ولا حجة معهم، فهم لا ينطقون، ثم يختم الله على أفواههم وتنطق جوارحهم بما كانوا يعملون.

تفسير قوله تعالى: (ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه)

تفسير قوله تعالى: (ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه) يقول الله عز وجل مذكراً بآية من آياته سبحانه: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النمل:86]، هذه آية من آيات الله، وقد ذكر آيات كثيرات من آياته سبحانه حين قال: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل:59]، ثم عدد نعمه وآياته على عباده سبحانه وتعالى، ثم هنا لما قال لعباده: {أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:84]، أي: ماذا كنتم تعملون في الدنيا غير التكذيب؟ فلم تتفكروا في آيات الله عز وجل التي ترونها كل يوم وكل ليلة، قال: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ} [النمل:86]، أي: جعلنا لكم الليل تنامون فيه، ولو جعلنا عليكم النهار سرمداً ما أطقتم ذلك ولتعبتم ولهلكتم، ولكن جعلنا لكم ليلاً للنوم والراحة تسكنون فيه، ونهاراً مبصراً لمعاشكم، فالله يقلب الليل والنهار، ويجعل هذا مظلماً وهذا مضيئاً، ويجعل هذا بارداً وهذا حاراً، ويقلبكم بين الليل والنهار، فلم لا تتفكرون في عمركم كله في الذي جعل لكم الليل وسخر لكم الشمس والقمر دائبين؟! لم تتفكروا في ذلك فماذا كنتم تعملون؟ كل عمرك تلعب وتلهو، وفي هذا الامتحان الأعظم بين يدي الله سبحانه وتعالى يسألك: {أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:84]، عشت خمسين أو ستين سنة، فما فعلت في هذه الدنيا غير التكذيب؟! قال سبحانه: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ} [النمل:86]، جعلناه سكناً يستقرون وينامون فيه، ويهدءون ويستريحون فيه، وجعلنا النهار مبصراً أي: يبصر الإنسان فيه، ويسعى لطلب رزقه في النهار. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النمل:86]، دلالات دالة على قدرة الله سبحانه وعلى رحمته بعباده، ولكن لا يفهم هذه الآيات إلا المؤمنين {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، فالعالم المؤمن يخاف من الله، ويتقي الله سبحانه، ويعلم أنه إليه راجع، فيؤمنون بالله مصدقين بآياته.

تفسير قوله تعالى: (ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض)

تفسير قوله تعالى: (ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض) ثم يذكرنا الله سبحانه وتعالى بيوم القيامة فيقول: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل:87] أي: اذكر ذلك، وفي الزمر قال: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68]، وهما النفختان: نفخة الموت، ونفخة النشور. قال سبحانه: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [النمل:87] (ويوم) منصوبة مفعول لفعل محذوف تقديره: اذكر أو اذكروا يوم ينفخ في الصور. والصور: القرن أو البوق مثل الزمارة، وهو بوق عظيم جداً خلقه الله عز وجل، وخلق له ملكاً موكلاً به، وهو إسرافيل ينفخ في الصور حين يأمره الله سبحانه وتعالى. روى الإمام الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: (جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما الصور؟ فقال: قرن ينفخ فيه). وروى الترمذي من حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن واستمع الإذن متى يؤمر بالنفخ فينفخ؟!)، فهذا النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو محسن لا يسيء، والذي عصمه الله سبحانه وتعالى فلا يقع في كبيرة ولا في صغيرة عليه الصلاة والسلام، هذا النبي الذي قال له ربه: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:2]، ومع هذا يقول: (كيف أنعم) أي: كيف أتلذذ وأتنعم بهذه الدنيا، وأنا أعلم أن الملك قد أخذ الصور ينتظر أمر الله سبحانه وتعالى؟! فالأمر عظيم جداً، والساعة قريبة، فمنذ خلق الله عز وجل الملك إسرافيل وخلق الله عز وجل له هذا البوق لينفخ فيه؛ وهو مستعد لينفخ فيه حين يأمره الله عز وجل. وجاءت في حديث لفظه: (إنه لا يطرف)، أي: يطرف جفناه خوفاً من أنه إذا أغمض عينيه يأتي أمر الله عز وجل، فهو مستعد للنفخ في الصور بإذن الله رب العالمين، وقد ثقل ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا). فليكثر المسلم من قول ذلك، وليتذكر ذلك، وأنه وإن غفل فليس الله غافلاً عنه، وأنه إن عاش في الدنيا ما بدا له فهو إلى موت وإلى قيامة وإلى حساب بين يدي الله عز وجل. وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني أول من يرفع رأسه بعد النفخة الآخرة، فإذا أنا بموسى متعلق بالعرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور). وقد جاءت الأحاديث بأن هذه النفخة تكون يوم جمعة، وأن بين النفختين أربعين، ففي سنن أبي داود والنسائي من حديث أوس بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم عليه السلام، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة؛ فأكثروا علي من الصلاة). فيوم الجمعة فضل بأن خلق الله فيه آدم، وفيه مات عليه الصلاة والسلام، وفيه الصعقة حين يموت الخلق. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بين النفختين أربعون)، ولم يحدد هل هي أربعون يوماً أو شهراً أو سنة، فالرواة سألوا أبا هريرة فقالوا: أربعون يوماً؟ قال: أبيت، يعني: إني لا أتكلم إلا بما أعلم، فلم يخبرني النبي صلى الله عليه وسلم، هل هي أربعون يوماً أو غيرها، قالوا: أربعون سنة؟ قال: أبيت، قالوا: أربعون شهراً؟ قال: أبيت، ثم قال: (ويبلى كل شيء من الإنسان إلا عجب ذنبه، منه يركب الخلق). فالإنسان إذا مات يتحول كله إلى تراب إلا عجب الذنب، وهو آخر العمود الفقري، والمكان الذي يكون منه ذيل الحيوان، هذا المكان الذي في الإنسان لا يبلى، ويخفيها الله عز وجل بما يشاء، ولا تأكلها الأرض. والذين يحرقون الجثث في بعض بلاد الكفار حين يموت الميت، يتعجبون من أن الجثة كلها تحترق إلا هذه العظمة التي في آخر الإنسان فإنها لا تحترق فيدفنونها أو يلقونها، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في هذا الحديث، وأن الإنسان يبلى كله إلا عجب الذنب، والمعنى: أن الإنسان يكون مثل النبات، فالنبات ينبت من حبة صغيرة حتى يكون شجرة كبيرة، وكذلك الإنسان ينبت يوم القيامة من عجب الذنب. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة النمل الآية [87]

تفسير سورة النمل الآية [87] ذكر الله تعالى في كتابه وفي سنة نبيه كيف يكون بعث الناس، فبين أنه إذا حان قيام الساعة أمر إسرافيل بالنفخ في الصور -وهو القرن- نفختين: الأولى يموت بها من كان على ظهر الأرض من شرار الخلق، ثم يكون بينها وبين النفخة الثانية أربعين، ثم يؤمر بالنفخة الثانية بعد أن ينزل مطر كالطل تنبت به أجساد الموتى، فإذا نفخت هذه النفخة رجعت الأرواح في الأجساد، وقام الناس لرب العالمين.

تفسير قوله تعالى: (ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض)

تفسير قوله تعالى: (ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل:87]. يذكرنا الله سبحانه وتعالى بيوم القيامة، وما يكون فيه من أهوال، وما يكون فيه من فزع الخلق، يوم أن ينفخ في الصور نفخة الصعق فيصعق الناس جميعاً. ثم تكون النفخة الأخرى بعد أربعين كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ندري أربعين يوماً، أو شهراً، أو سنة، فبين النفختين أربعون. نفخة القيام للقاء رب العالمين، وللجزاء وللحساب. فالنفخة الأولى: يصعق فيها الخلق جميعهم، فيموتون. والنفخة الثانية: يبعثون. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الصور وقال عنه: (إنه قرن ينفخ فيه) أي: بوق ينفخ فيه الملك الموكل بالصور، وهو إسرافيل عليه السلام. فمنذ خلقه الله سبحانه أعطاه هذا البوق؛ لينفخ فيه حين يأمر الله سبحانه بموت الخلائق جميعهم، ثم بإحيائهم بعد ذلك. وفي حديث آخر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كيف أنعم وصاحب القرن -يعني: إسرافيل- قد التقم القرن واستمع الإذن متى يؤمر بالنفخ فينفخ). وذكر في حديث آخر: (أن بين النفختين أربعين) وراوي الحديث أبو هريرة لما سئل ما الأربعون؟ أهي أربعون يوماً؟ أم شهراً أم سنة؟ قال: أبيت، يعني: أبيت أن أتكلم فيما ليس لي به علم، وإنما هكذا سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم. فبالنفخة الأولى يصعق الخلق بعد ما يرون علامات القيامة الكبرى التي جاءت في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك يأمر الله عز وجل فينفخ في الصور، فيبعث الخلق مرةً ثانية. وفي الحديث الذي رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يخرج الدجال فيمكث في أمتي، أو فيمكث أربعين لا أدري أربعين يوماً، أو أربعين شهراً، أو أربعين عاماً، فيبعث الله عيسى بن مريم كأنه عروة بن مسعود فيطلبه فيهلكه، ثم يمكث في الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة). ذكر هنا من علامات الساعة: خروج الدجال، ونزول عيسى عليه السلام. وقد ذكرنا قصة تميم الداري، وكيف أنهم رأوا المسيح الدجال في جزيرة من الجزر موثقةً يداه إلى عنقه بالحديد، وكذلك من ركبتيه إلى عقبيه موثق بالحديد. وذكر النبي صلى الله عليه وسلم نزول عيسى بن مريم من السماء إلى الأرض كما رفعه الله سبحانه وتعالى قبل ذلك. وشبهه برجل من أصحابه اسمه: عروة بن مسعود، فيطلب الدجال فيقتله. ثم قال: (ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة). فهذه سنين العدل الذي ينتشر فيها الإسلام، ولا يقبل غير الإسلام، فتوضع الجزية؛ لأنه لا يوجد من يدفع الجزية، فكل الناس مسلمون، ويكسر الصليب الذي عبده النصارى وقدسوه، فلا تقوم لهم قائمة بعد ذلك. ويهدي الله عز وجل الخلق وينزع من قلوبهم الغل والحقد هذه الفترة. ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ثم يرسل الله ريحاً باردة من قبل الشام فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته). فبعد السبع السنين التي يكون فيها المسيح عليه الصلاة والسلام على الأرض، ثم يموت ويصلي عليه المسلمون، ثم بعد ذلك يقبض الله عز وجل المؤمنين الذين على وجه الأرض بريح طيبة وهؤلاء قامت عليهم ساعتهم، وليست هذه القيامة الكبرى؛ لأن القيامة الكبرى لا تقوم إلا على شرار الخلق. فتأتيهم هذه الربح الطيبة من ناحية الشام فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير، أو إيمان إلا قبضته (حتى لو أن أحدكم دخل في كبد جبل لدخلته عليه حتى تقبضه) قال عبد الله بن عمرو: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فيبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع) يعني: غاية في التفاهة، وغاية في التهور والاندفاع، لا عقل عندهم، بل فيهم خفة كخفة الطير، والطائر لا يثبت في مكان، وهؤلاء لا يثبتون على دين متقلبون متهورون، وفيهم أحلام السباع، وأحلام السباع أن تنهش وتأكل وتنام، كذلك هؤلاء في خفة الطير وأحلام السباع. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يعرفون معروفاً، ولا ينكرون منكراً). إذاً: فهنا رفع منهم العلم والإيمان، وبقي هؤلاء الأشرار لا يعرفون معروفاً، ولا ينكرون منكراً. فيتمثل لهم الشيطان في صورة أحدهم فيقول: (ألا تستجيبون؟) -يدعوهم إلى عبادته- فيقولون: (فما تأمرنا)، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فيأمرهم بعبادة الأوثان). إذاً: يرجعون مرةً أخرى إلى الجاهلية، وإلى الكفر بالله سبحانه، وإلى عبادة الأصنام من دون الله، وهم في ذلك كثير رزقهم، حسن عيشهم، وهذه فتنة من الله سبحانه، يعبدون غيره والله يعطيهم الرزق الوفير، ويحسن لهم معيشتهم تحسيناً عظيماً فتنةً وابتلاءً، قال تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} [آل عمران:178] فالله عز وجل يملي، قال: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183]. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم ينفخ في الصور) فهؤلاء قبضهم الله على شر ما يكون الخلق، في خفة الطير، وأحلام السباع، وفي غاية الرزق الحسن وفي غفلة عن الله، وفجأة يأمر الله عز وجل بالنفخ في الصور، قال صلى الله عليه وسلم: (فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا) يعني: أنهم سمعوا صوتاً كأنها زمارة آتية من بعيد، فكل ما سمعه إنسان أمال عنقه وحول أذنه تجاه الصوت فيسمعه كل إنسان على هذه الهيئة. قال صلى الله عليه وسلم: (وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله) أي: أول واحد يسمع النفخ في الصور رجل يصلح البئر الذي يشرب منه الإبل بالطين فيصعق. ثم قال: (ويصعق الناس ثم يرسل الله عز وجل، أو قال: ينزل الله مطراً) فهذه نفخة الصور كما قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [الزمر:68]، إذاً: جاءتهم الصاعقة مما سمعوه، فاخترق هذا الذي سمعوه آذانهم فقضى عليهم وهم مقيمون على كفرهم، وشرهم، وفيما هم فيه، ولا يستطيع أحدهم عمل شيء حين ذاك، فلذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الرجلين يتبايعان على الثوب فيمدانه ولا يتمكنان من طيه ولا نشره) بمعنى: أن كل واحد يمد من جانبه، فتأتي عليهم هذه النفخة فيصعق الجميع فلا يتمكنون من توبة إلى الله، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم حين يحدثنا بذلك يقول: توبوا إلى الله عز وجل قبل أن ينفخ في الصور، وقبل أن تأتي الساعة وإن لم تكن الساعة الكبرى فساعة أحدنا موته، والموت أقرب لأحدنا من جبينه، وأقرب من حبل وريده. فلذلك النبي صلى الله عليه وسلم يحذرنا بما يسوقه لنا من أحاديث من التسويف بالتوبة وطول الأمل، فهذا الرجل الذي يلوط حوض إبله يفعل ذلك من أجل أن الإبل تشرب، وفي ذهنه أنه سيعمر ويسقي الإبل ويعيش ويتكسب بإبله. والآخر يبسط في السوق متاعه من أجل أن يبيعه، والثاني يأخذ المتاع ويدفع، وكلاهما يمد يده إلى صاحبه، فجاءت الساعة فمات الاثنان. فهل كان على بال أحدهما أنه يموت قبل أن يشتري الثوب أو يبيعه، ويفرح بالمكسب؟! يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم يرسل الله أو ينزل الله مطراً كأنه الطل أو الظل، فتنبت منه أجساد الناس)، ينزل مطر كالطل من السماء فينبت الله عز وجل الناس ويحييهم مرة أخرى كما أماتهم، ثم يمضي وقت ما بين النفخة الأولى والنفخة الثانية: وهو أربعون، ولا يعلم أهي أربعون سنة أم شهراً أم يوماً؟ وهل هذه الأيام من أيام الدنيا أم من أيام الآخرة؟ فالله أعلم بذلك، ولكن يمكثون على الأرض أربعين ثم ينزل الله عز وجل على هذه الأرض مطراً، فتنبت هذه الأجسام مرةً ثانية ثم تكون نفخة الصور الثانية. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم ينفخ فيه أخرى) إذاً: هذه النفخة الثانية تكون لإحياء هذه الأجساد التي جمعت ونبتت بسبب المطر؛ إذ أنها كانت أجساداً لا حياة فيها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون، ثم يقال: يا أيها الناس! هلموا إلى ربكم وقفوهم إنهم مسئولون) فتأمل هذا الموقف: لما نزل المطر على الأرض اجتمعت الأجساد، ولما كانت النفخة في الصور قامت هذه الأجساد الميتة من قبورها، فلما قامت سمعت النداء: هلموا إلى لقاء ربكم، وقفوهم إنهم مسئولون، فسيكونون في غاية الفزع، والخوف، والرهبة من هذا اليوم، ومن لقاء الله سبحانه وتعالى. قال: (ثم يقول الله: يا آدم! أخرج بعث النار، فيقول: وما بعث النار؟ قال بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، فذاك يوم يجعل الولدان شيباً). أي: هذا اليوم الذي يشيب شعر رأس الوليد من الهول والفزع والرعب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وذاك يوم يكشف عن ساق) أي: في يوم القيامة يكشف عن ساق، وهذه العلامة التي بين الله عز وجل وبين المؤمنين من خلقه. وقد جاء في أحاديث أخر ما يكون في هذا اليوم بالتفصيل، فبعد أن يقف الخلق في عرصات القيامة موقفاً طويلاً في يوم مقداره خمسون ألف سنة، ثم يشفع النبي صلى الله عليه وسلم في فصل القضاء بين العباد، يقول الله سبحانه لخلقه: (ألا يحب من كان يعبد شيئاً أن يتبعه فيقولون: بلى) ويفرحون بذلك، فيمثل لمن كان يعبد الشمس الشمس، فيتبعها إلى النار، و

تفسير سورة النمل [87 - 90]

تفسير سورة النمل [87 - 90] يذكرنا الله تعالى بيوم ينفخ في الصور حين يفزع من في السماوات والأرض إلا من شاء الله، وذكر تعالى أن الجبال في ذلك اليوم تنسف وكل يرى عمله، فالمحسن يأمن من فزع ذلك اليوم، والكافر يكب على وجهه في نار جهنم بما كسبت يداه في هذه الدنيا.

تفسير قوله تعالى: (ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض)

تفسير قوله تعالى: (ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض) الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة النمل: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ * وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ * مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:87 - 90]. يخبر الله عز وجل في هذه الآيات عن يوم القيامة، يوم ينفخ في الصور، وذكر سبحانه وتعالى في القرآن نفختين، قال الله عز وجل: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68]، فالنفخة الأولى وهي نفخة الصعق التي يميت الله عز وجل بها الخلائق، والنفخة الثانية يبعثهم، وبينهما أربعون، فلعلها أربعون يوماً، ولعلها أربعون سنة أو شهراً، فلم يذكر راوي الحديث - أبو هريرة - ما الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، بل هو نفسه لم يعرف هل هي أربعون يوماً أو سنة أو شهراً؟ ففي الصحيحين قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بين النفختين أربعون). وليس من الضروري أن يعرف المسلم ماهية هذه الأربعين، بل المهم أن هناك موت وبعد ذلك إحياء، ولكن الله عز وجل ذكر على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم أن بين النفختين أربعين. قوله: ((وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ))، (يوم) منصوبة بفعل محذوف تقديره: اذكر، والتقدير: اذكر هذا اليوم، وقوله: ((فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ))، هذا هو الفزع الأكبر الذي يكون يوم القيامة، وينجي الله عز وجل من هذا الفزع الأكبر من يشاء من عباده، فينجي المؤمنين الصالحين: {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ} [الأنبياء:103]، وهم في الجنة خالدين، ولهم فيها ما تشتهي أنفسهم. وقد جاء في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بالله عز وجل من الفزع الأكبر، يوم يقوم الناس بين يدي رب العالمين سبحانه، فكان من دعائه عليه الصلاة والسلام، ما رواه أحمد في مسنده عنه صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم إني أسألك النعيم المقيم، الذي لا يحول ولا يزول، اللهم إني أسألك النعيم يوم العيلة، والأمن يوم الخوف، اللهم إني عائذ بك مما أعطيتنا وشر ما صنعت). فكان يسأل الله عز وجل النعيم يوم القيامة في الجنة، والذي لا يحول ولا يزول، أي: لا يتحول، أما النعيم في الدنيا فهو بين الإحالة وبين الزوال، والإنسان يتحول من حال إلى حال، ومن غنى إلى فقر، ومن فقر إلى غنى، وهكذا فحال الإنسان متحول ومتقلب في الدنيا. وقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أسألك النعيم يوم العيلة) ويوم العيلة: يوم الفقر، وهو يوم القيامة، فكل إنسان في ذلك اليوم فقير لا مال له، إلا أن يكون له عمل صالح ينفعه. و (والأمن يوم الخوف)، وهو يوم القيامة: يوم الفزع الأكبر، وفيه ينجي الله عز وجل من يشاء من عباده، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من الناجين. يقول الله عز وجل: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل:87]، هذه هي النفخة الثانية، وفيها يقوم الخلق فزعين خائفين بين يدي رب العالمين، إلا من شاء الله أن ينجيه ويؤمنه من هذا الفزع، ويحشره في غاية الأمن، ويظله بظله يوم لا ظل إلا ظله. قال تعالى: ((إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ))، التنوين في لفظة (كل) تنوين عوض عن كلمة: الخلق، والتقدير: كل الخلق، و (أتوه): أي: يأتون الله سبحانه، وأتوا: فعل ماض من يأتي. ((وَكُلٌّ أَتَوْهُ))، وهذه قراءة حفص عن عاصم وقراءة حمزة وقراءة خلف. وقراءة باقي القراء وهم الجمهور: (وكل آتوه داخرين)، من اسم الفاعل: أتى فهو آت، أي: وكل إنسان آتٍ إلى الله عز وجل. وقوله: ((وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ))، أي: أتوا إلى الله سبحانه وتعالى يوم ينفخ في الصور وهم في غاية الذل والصغار، وفي غاية الخوف.

تفسير قوله تعالى: (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب)

تفسير قوله تعالى: (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب) ذكر الله الجبال وما يحل بها يوم القيامة فقال: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل:88]، كما قال سبحانه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه:105 - 107]. فهذه الجبال الراسيات العظيمات ينسفها الله ويدمرها ويجعلها هباءً منثوراً، وذرات متناثرة، فإذا بها مسواة بالأرض، فالجبل الذي كان على الأرض راسخاً، يطير كالسحاب، ثم تذروه الرياح، أو يصيره على هيئة الرمال والتراب فوق الأرض، فإذا الأرض بلا مرتفعات ولا منخفضات. قال الله سبحانه: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً}، قال ابن عباس: أي قائمة وهي تسير سيراً حثيثاً. وقد ذكر الله في القرآن أن الجبال يوم القيامة تكون على حالات: الحالة الأولى: دك الأرض والجبال، قال الله تعالى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:21 - 22]، فتزلزل الأرض وتندك الجبال، وتتواضع لربها سبحانه وتعالى، وهذه حالة من أحوالها. الحالة الثانية: أخبر سبحانه وتعالى عن الجبال أنها تكون كالعهن المنفوش، والعهن هو الصوف، والمنفوش: المنتفش، كانت ثقيلة يوماً من الأيام، وفي يوم القيامة صارت خفيفة كالعهن المنفوش. الحالة الثالثة: أخبر الله سبحانه وتعالى أن الجبال يوم القيامة تنسف، قال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا} [طه:105 - 106]، والقاع: الأرض المنبسطة. الحالة الرابعة: قال الله تعالى: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا} [النبأ:20]، أي: كان موضعها كالسراب، والسراب ما يراه الإنسان أمامه في اليوم الشديد الحر في الأرض المنبسطة يحسبه ماءً، فإذا وصل إليه لم يجده ماء، ووجده أرضاً كغيره من الأرض، كذلك الجبال سيرت يوم القيامة، وحركت من مكانها فصار مكانها كالسراب، فالناظر إليها يظنها واقفة جامدة، والله يسيرها ويدمرها حتى تتطاير ثم تنزل على الأرض هباءً ورمالاً، فتستوي بها الأرض، قال سبحانه: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} [النمل:88]. وقوله: ((تَحْسَبُهَا جَامِدَةً))، فيها قراءتان: الأولى: بفتح السين في (تحسبها)، وهي قراءة عاصم، وابن عامر وأبي جعفر، وباقي القراء نافع وابن كثير وأبي عمرو ويعقوب والكسائي وخلف يقرءون: (تحسِبُهَا جامدة) بكسر السين. وقوله: (صنع الله) أي: هذا الصنع البديع، المتمثل في الجبال الراسيات التي يجعلها يوم القيامة تسير، ثم يصيرها كالعهن المنفوش، ويدمرها فيجعلها قاعاً صفصفاً، هذا الصنع صنع الله وحده لا شريك له، لا يقدر عليه أحد سواه. وكأن الله يقول: انظروا إلى صنع الله سبحانه، فصنع: منصوب على الإغراء، والمقصود: الزموا التفكر في هذا الصنع العظيم، أو أنه مفعول مطلق لفعل محذوف، والتقدير: صنعه صنعاً. قوله: ((الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ))، أي: خلق كل شيء في غاية الإتقان والدقة وعلى أفضل ما يكون، وكلمة (الإتقان) أصلها: من أتقن، وقالوا: إن أصل هذه الكلمة عربية قديمة من أيام عاد، تنسب إلى رجل اسمه: ابن تقن، كان غاية في تسديد الرماح والسهام، لا يخطئ أبداً، فإذا رمى السهم لا بد وأن يصيب الهدف، فكان يضرب به المثل في ذلك، فكانوا يضربون به المثل في الإتقان، ويقولون للرامي العظيم: أرمى من ابن تقن، أي: فلان أرمى منه. فالمحسن في عمله يسمى: متقن، نسبة إلى ابن تقن، فصارت الكلمة بعد ذلك دليلاً على الإصابة والسداد والإحسان في العمل، فمن أتقن عمله صار كهذا الذي كان يرمي فيصيب في رميه. فالإتقان: إحسان العمل، ولذلك قال الله: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}، وأمر الله عز وجل عباده أيضاً أن يحسنوا، فقال: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:77]، وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإتقان الأعمال كذلك، كما جاء في الحديث الذي رواه أبو يعلى عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه)، فيحب الله من الإنسان أن يتقن عمله، سواء كان عملاً دينياً أو دنيوياً ينبني عليه تحصيل رزق أو غيره. وقول الله تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل:88]، فيه أنه أتقن خلق الإنسان، كما قال تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة:7]. قال تعالى: {إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل:88]، الخبير من الخبرة وهي دقة العلم، أو العلم الدقيق، فهو عالم خبير لطيف بعباده سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (من جاء بالحسنة فله خير منها)

تفسير قوله تعالى: (من جاء بالحسنة فله خير منها) قال الله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [النمل:89]، أي: الذي يفعل حسنة له خير منها، وإن كان كثير من العلماء على أن هذه الحسنة المقصود بها: كلمة: لا إله إلا الله، أو أن كل المفسرين تقريباً على هذا المعنى وهو أن الحسنة بالتعريف: المقصود منها: لا إله إلا الله، فلا شيء أفضل وأخير من لا إله إلا الله، وهي أعظم ما يقولها الإنسان، فالذي يأتي بها تكون له حسنة، والحسنة بعشرة أمثالها، فله خير من فعله عند الله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ منها} [النمل:89]، والخير: هي جنة الخلود عند رب العالمين. قال تعالى: {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [النمل:89]، هذه الآية فيها ثلاث قراءات: فقراءة الكوفيين: {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [النمل:89]، بتنوين العين، وقراءة نافع وأبي جعفر المدنيين: (وهم من فزعِ يومئذ آمنون) بالكسر بلا تنوين، وقراءة باقي القراء: (وهم من فزعِ يومِئِذٍ آمنون) بإضافة (يومئذ) إلى (فزع). فمعنى قراءة الكوفيون: ((وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ))، أي: فزع عظيم، فنكره للتعظيم، وهذا الفزع يكون يوم القيامة، فالله عز وجل يؤمن المؤمنين وينجيهم منه، وينجيهم مما هو دونه كذلك، فهو الكريم الرءوف بعباده سبحانه. وقراءة المدنيين، نافع وأبي جعفر: (وهم من فزعِ يومئذ آمنون)، فإضافة يومئذ إلى ما قبلها، وكأن المضاف إليه هو: يوم: مجرور بالفتحة، فمنع من الصرف لأضافته إلى إذ، ويجوز منعه وصرفه، ولذلك قراءة باقي القراء: (من فزعِ يومِئِذٍ) على الإضافة وعلى الصرف فيها. إن الفزع يكون يوم القيامة؛ لأنه يوم يحاسب الله عز وجل به العباد، بعد أن يخرجون من قبورهم، والمؤمنون ينجيهم الله بكلمة: لا إله إلا الله، وقد جاء في الحديث أن العصاة ممن قال: لا إله إلا الله يدخلون النار، فإن قيل: لماذا لم يأمنهم الله من الفزع وهم قد قالوا: لا إله إلا الله؟ ف A أن هذا من المطلق الذي قيد بغيره، فالحسنة المذكورة في الآية وهي قول: لا إله إلا الله، إنما تنفع بشروط، وهي أن يأتي صاحبها بالأفعال التي تصلح بها هذه الكلمة، فإذا قال العبد: لا إله إلا الله، بلسانه، وصدق ذلك يقيناً بقلبه، وعمل بمقتضى ذلك بجوارحه كانت من أعظم الحسنات التي تجعل صاحبها ممن يؤمنهم الله سبحانه. أما إذا قالها كلمة لا يعلمها ولا يفهم معناها، ولا يعمل بمقتضاها، فقد جاء في الحديث أن هذا يعذب في قبره، ويقال له: ما كنت تقول في الدنيا؟ وماذا كنت تعبد؟ وما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ ومن ربك وما دينك؟ فلا يستطيع أن يقول شيئاً، فإذا أخبر عن كلمة لا إله إلا الله، يقول: سمعت الناس يقولونها فقلت. أي: أنه قال كما قال الناس، بدون أن يفهم معناها، أو يعمل بمقتضاها، فيعذب في قبره، ويعذب كذلك في يوم القيامة، ولا يأمن من الفزع الأكبر. إذاً: كلمة: لا إله إلا الله تنفع من أتى بشروطها، وشروطها: العلم، واليقين، والقبول، والانقياد، والصدق، والإخلاص، والمحبة، والولاء والبراء، فمن أتى بهذه الشروط نفعته لا إله إلا الله يوم القيامة، وأمنته من الفزع، ودخل بها الجنة.

تفسير قوله تعالى: (ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار)

تفسير قوله تعالى: (ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار) قال الله تعالى: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:90]، فالأول جاء بـ (لا إله إلا الله) بشروطها، وهذا أتى بالسيئة، وأقبح السيئات: الشرك بالله سبحانه وتعالى، والتي لا ينفع معها حسنة، فمن جاء بهذه السيئة كب وجهه في النار، قال سبحانه: {يوم يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور:13]، فيضربون في أقفائهم، فيكبون على مناخرهم ووجوههم في نار جهنم، ثم يقال لهم -وهم في النار والعياذ بالله-: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:90]، أي: هذا الجزء بما اقترفت أيديكم، وبما عملتم في الدنيا، فلا تجزون إلا على ما قدمتم من عمل، ولذلك ينبغي على الإنسان المؤمن أن يحرص على أن يراقب نفسه، ويراقب عمله، وهل هذا العمل يرضي الله أم لا يرضيه؟ فإذا عمل العمل الذي يرضي به ربه فله الجزاء الحسن، وإن أساء فلا يلومن إلا نفسه. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة النمل [91 - 93]

تفسير سورة النمل [91 - 93] على الداعية في كل زمان ومكان الاهتمام بجانب الدعوة دون النظر إلى استجابة المدعو من عدمها، مستدلاً على ذلك بما يصلح الاستدلال به في مقابل عقل المخاطب وما يفهمه مازجاً بين الترغيب تارة والترهيب تارة أخرى، وهذه هي طريقة القرآن والأنبياء والدعاة المجيدين في القديم والحديث.

تفسير قوله تعالى: (إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة وما ربك بغافل عما تعملون)

تفسير قوله تعالى: (إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة وما ربك بغافل عما تعملون) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في آخر سورة النمل: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ * وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [النمل:91 - 93].

مناسبة الآيات لما قبلها

مناسبة الآيات لما قبلها في هذه الآيات الأخيرة من هذه السورة -وبعد أن ذكر الله سبحانه من جاء بالحسنة ومن جاء بالسيئة- أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للقوم: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} [النمل:91] فتناسبت هذه الآية في سياقها مع ما قبلها من الآيات. فقد ذكر الله سبحانه وتعالى قبل هذه الآية قوله تعالى: {ويَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ} [الأنعام:73]، والنفخ في الصور كائن يوم القيامة، فالله يقول: اذكروا هذا اليوم العظيم الذي يفزع فيه {مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النمل:87]، وهذا تخويف من الله سبحانه وتعالى بيوم القيامة، والسورة كما ذكرنا قبل ذلك سورة مكية، أي أنها نزلت في وقت كان يؤذى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤذى فيه المؤمنون، ويطردون من ديارهم، ويشردون، ويقتلون، ويعذبون، فجاء القرآن ليطمئن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ويخبرهم أن هؤلاء الذين يفزعونكم الآن سيفزعون يوم القيامة، ويخيفهم الله، ويعذبهم في ذلك اليوم. والإنسان مهما كان فيه من قوة فلن يبلغ أن يضرب الأرض بقدمه فيخرقها، ولا أن يبلغ الجبال طولاً، أو يضاهيها قوة، فهي أقوى من الإنسان بكل حال، ولذا فمهما عتا فلن يكونوا أقوى من الجبال التي تصير هباء يوم القيامة، قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} [طه:105]. وبما أنهم ضعفاء لا حول لهم ولا قوة فلا داعي لأن يتكبروا على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين، فإنهم مهما بلغوا من القوة فلن يكونوا كهذه الجبال التي تنسف يوم القيامة، وإذا كان هذا هو صنعنا بالجبال الراسيات، قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه:105 - 107]، فكيف سيكون صنعنا بهم!؟ وإذا كانت الجبال لم تكذب ربها سبحانه وتعالى حين عرضت عليها الأمانة، قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} [الأحزاب:72]، وكان حالها يوم القيامة أن ينسفها الله نسفاً، فكيف بمن قبل هذه الأمانة ولم يقم بها؟ وكيف بحال هؤلاء الكفار الذين استكبروا على النبي صلى الله عليه وسلم؟ وكيف سيصنع بهم يوم القيامة؟ قال سبحانه: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل:88]، ومرورها قبل يوم القيامة، وقيل في الدنيا، على أنها يوم القيامة ستنسف وتطير من مكانها كالسحاب، ثم يذرها سبحانه وتعالى قاعاً صفصفاً: {لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه:107]، أي: لا يرى فيها مرتفعات ولا منخفضات. ومن بديع صنع الله عز وجل: أن هذه الجبال العظيمة القوية التي تنظر إليها وتراها راسية في مكانها، ليست ثابتة، بل حتى الأرض التي يقوم الإنسان فوقها ليست ثابتة، وإنما تتحرك في مسار معدود محدود بقضاء الله وقدره سبحانه وتعالى. فالناظر يظن أن هذه الجبال الراسيات ثابتة، والحقيقة أنها متحركة بتحرك الأرض التي هي فوقها، ففي الدنيا تتحرك الجبال بتحرك الأرض، إذ أن الأرض تدور حول نفسها وتجري في مستقر لها حول الشمس، وبتحركها تحدث الأيام والشهور والسنون. فكل شيء في الكون يتحرك كما تتحرك السحاب، وإن كنا ننظر إليها على أنها تتحرك ببطء، لكنها في الحقيقة تسير سريعاً في هذا الفضاء، وأنت لا تدري بذلك ولا تنشغل به، وهذا من بديع صنع الله سبحانه في الدنيا أن أرسى الجبال وهي متحركة كالسحاب، ويوم القيامة ينسفها ربنا سبحانه وتعالى نسفاً. وإذا كان الله يصنع ذلك أليس قادراً على أن يعذب هؤلاء المشركين؟ وهم الذين أرادوا إخراج النبي صلى الله عليه وسلم كما أخبر الله عنهم فقال: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]. فمن جاء بالحسنة أي: بقول لا إله إلا الله وعمل صالحاً كان في أمان من الله عز وجل يوم القيامة، وكان له الخير والجنة، ولهم الأمن يوم الفزع الأكبر، ومن أشرك بالله وعتا وأفسد في الأرض وعلا على أمر ربه سبحانه، فكبت وجوههم في النار، ويقال لهم: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:90].

تعظيم الله لمكة

تعظيم الله لمكة يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن يقول لقومه: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [النمل:91]، والكلام مناسب للحال الذي كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم، ولسياق الآيات العظيمة في آخر هذه السورة. وفي الآية خطاب من الله لنبيه أن يقول للكفار: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ} [النمل:91]، أي: أن هذه البلدة التي تريدون أن تثبتوني أو تقتلوني أو تخرجوني منها ليست ببلدكم، ولستم تملكونها، ولكن الأرض أرض الله سبحانه وتعالى. فهو الذي حرمها وجعلها حرماً آمناً تتنعمون فيها، وفي ذلك إشارة إلى ظلم هؤلاء، إذ أن مكة بلدة جعلها الله سبحانه في وسط الأرض، وحرمها سبحانه وتعالى وجعل المعصية فيها حراماً، فحرم فيها القتل والقتال، وأنعم عليكم بهذه النعمة وجعلكم في أمان ممن حولكم من العرب وغيرهم. ثم إذا منَّ الله عليكم بها وأمنكم فيها تريدون أن تطردوني منها، وتريدون أن تخرجوني، أو تقتلوني، وتعملون على أن تفزعوا المؤمنين؟! فاذكروا يوم العرض على الله عز وجل -يوم الفزع الأكبر-، واذكروا أن الله أمركم بعبادته، وأمركم أن تشكروه على نعمته عليكم سبحانه. قال: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} [النمل:91]، فالله هو رب كل شيء سبحانه، وذكر الله البلدة تعظيماً لها وتخصيصاً لها، ثم ذكر أن له كل شيء، فالله ليس رب هذه البلدة وحدها، بل هو رب كل شيء سبحانه، وهو المالك المدبر للأمر. وعبر سبحانه بقوله: {رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ} [النمل:91]، وفيه: التنويه بعظيم شأن مكة التي حرمها الله عز وجل، والله لا يحرم شيئاً إلا لتعظيمه، أو لتحقيره، فحرم هذه البلدة تعظيماً لها، وحرم الميتة والدم ولحم الخنزير تحقيراً له، وهنا البلدة التي عظمها الله سبحانه فحرمها، قال سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت:67]. وهذه نعمة من الله سبحانه على أهل مكة، إذ أن العرب في جاهليتهم كانوا لا يعرفون إلا السلب والنهب والخطف والقتل ويأكل بعضهم بعضاً، فيأكل القوي فيها الضعيف، ويقتل بعضهم بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً، وكل ذلك يجري في القرى التي حولهم حتى إذا ما أتوا على مكة كفوا عن ذلك كله، إذ أن مكة حرمها الله سبحانه قدراً وشرعاً، فجعلها بلدة محرمة، وكلهم يدخلون إليها حجاجاً ومعتمرين، كما أنهم يعرفون فضل أهلها، حتى إن أهلها ليستكبرون على الغير ويمنعونهم من الطواف إلا في ثياب أهل مكة، ويعجب المرء حينما يرى أهل مكة وقد أنعم الله عليهم بتحريم هذه البلدة فإذا أهلها يستكبرون على غيرهم، بل وصل بهم الترفع على غيرهم أن يمنعوا غير المكي من الطواف بثيابه التي يقدم بها من بلده؛ لأنها بزعمهم ثياب عصي الله فيها، فإما أن يشتروا الثياب من مكة، وإما أن يطوفوا عرايا، وإما أن يستعيروا ثياباً للطواف من أهل مكة، ويستوي في ذلك الرجال والنساء. وبرغم أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء بتعظيم هذه البلدة وتعظيم دين رب العالمين وأمرهم بعبادته، إلا أنهم تطاولوا عليه صلى الله عليه وسلم، فأخبرهم أنه أمر أن يعبد الرب الذي خلقه، وخلق هذه البلدة، وخلق كل شيء، وهو المالك لكل شيء.

فضل هذه الأمة ونبيها

فضل هذه الأمة ونبيها ثم قال سبحانه: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [النمل:91] وفي الآية الأخرى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]، فكان النبي صلوات الله وسلامه عليه هو أول المسلمين في هذه الأمة، وهنا يقول: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [النمل:91]، ففيه: تنويه وإشارة لهذه الأمة على فضلها، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم هو {أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:163]، كما ذكر في سورة الأنعام فإنه أيضاً من هذه الأمة، وهذا تشريف لهذه الأمة وتكريم لها. والمسلمون في قوله تعالى: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [النمل:91]، هم: المستسلمون لرب العالمين، فهم يسلمون وجوههم وقلوبهم وأبدانهم لله سبحانه، فهو يحكم فيهم بما يشاء فينفذون شرعه.

بيان وظيفة النبي صلى الله عليه وسلم

بيان وظيفة النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} [النمل:92]، أي: وأمرت أن أقرأ القرآن، والتلاوة هي: القراءة التي فيها التدبر، وتلاوة النبي صلى الله عليه وسلم لهذا القرآن العظيم وقراءته؛ ليتعلم الناس كيف يقرءونه وكيف يتدبرونه، قال تعالى: {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} [النمل:92]. أي: أنني لست عليكم بحفيظ، ولست عليكم بوكيل، ولست عليكم بمسيطر، وإنما وظيفتي أن أتلو عليكم كلام رب العالمين، فمن هداه الله سبحانه فليحمد الله على نعمة الهدى، ومن اهتدى فهو الذي ينتفع بهداه، ولن ينتفع الله عز وجل به شيئاً، قال تعالى: {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} [النمل:92]. وجزاء الهدى والسير فيه جنة رب العالمين، ثم قال تعالى: {وَمَنْ ضَلَّ} [النمل:92] أي: ومن كسب السيئة فإنما سيضل على نفسه، قال تعالى: {فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ} [النمل:92] أي: ومن ضل عن دين رب العالمين وعن الهدى: {فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ} [النمل:92]، أي: لا أملك لكم من الله شيئاً، وقد أنذرتكم. وفي الآية تفصيل لما سبق والمعنى: من جاء بالحسنة، أي: بلا إله إلا الله واهتدى، فله خير منها عند رب العالمين سبحانه وهذا الخير ينتفع هو به بسبب إيمانه. {وَمَنْ ضَلَّ} [النمل:92]، أي: أتى بالسيئة، من الشرك وغيره من المعاصي والبلاء، فقل لهؤلاء: إنما أنا من المنذرين وقد أبلغتكم وأنذرتكم، وكما أن النبي منذر فهو مبشر؛ إلا أن المناسب للسياق هنا أن يذكر الإنذار فقط؛ لأن هؤلاء قد ضلوا، فناسب أن يقول: إني منذر لكم، ولذلك كان يقوم إليهم وينذرهم صلوات الله وسلامه عليه، ويحذرهم من غضب الله، فإذا اشتدوا عليه يقول: (إنما جئتكم بالذبح)، أي: إنما جئتكم بالجهاد من الله سبحانه وتعالى، فسأجاهدكم وأقتلكم يوماً من الأيام.

وعد الله بأن يرينا آياته

وعد الله بأن يرينا آياته قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا} [النمل:93]، هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم: أن احمد ربك سبحانه على كل حال، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءته النعمة قال: الحمد لله رب العالمين، وإذا أصابته مصيبة قال: الحمد لله على كل حال، فكان يحمد ربه كما أمره الله سبحانه: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} [النمل:93]، وفي الآية وعد من الله أن يري الناس الآيات، كما قال في السورة الأخرى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت:53]، فالله يري عباده الآيات، ويريهم نتائج ما صنعوا في هذه الدنيا، فمن كفر بعد أن رأى الآيات أذاقه العذاب في الدنيا وهزمه فيها، ثم مآله ومرده إلى عذاب يوم القيامة. قوله: {سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا} [النمل:93] أي: أن الله قد أراكم هذا القرآن وما فيه من الآيات العظيمة، وهذا من نعم الله عز وجل عليكم لتعرفون الآيات، وقد أراكم كيف صنع بالأقوام السابقين، وكيف سيصنع بكم يوم القيامة، وبين كيف سيكون فيه أمركم، وذلك حتى تتدبروا. ثم تهددكم وتوعدكم فجاء الوعيد على ما قاله سبحانه وتعالى؛ ولذلك قام النبي صلى الله عليه وسلم على أهل بدر من الكفار وقال: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا} [الأعراف:44]، فكان ما حدث لهم في بدر آية من الآيات التي وعدهم الله سبحانه وتعالى أن يريهم إياها، وقد حذرهم الله سبحانه وتعالى من عذاب رب العالمين، وتوعدهم أنه سيبطش بهم في الدنيا، قال سبحانه: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ} [السجدة:21]، وبذلك عرفوا أنه سيأتيهم عذاب أدنى دون العذاب الأكبر، وبرغم هذا التوعد فقد كذبوا بكلام النبي صلى الله عليه وسلم فجاءهم العذاب في يوم بدر، وقام النبي صلى الله عليه وسلم على قليب بدر يقول: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا} [الأعراف:44]. وقد حدث أن أبا سفيان ذهب إلى هرقل عظيم الروم فسأله هرقل عن أشياء، وكان أبو سفيان حينها كافراً، وكان هرقل رجلاً نصرانياً، وكان ينظر في النجوم، وبدأ هرقل يسأل الرجل أسئلة تدل على ذكائه. فسأله عن هذا النبي وعن علاماته، وهل كان يدعي هذه النبوة قبله أحد؟ وهل كان أبوه ملكاً في يوم من الأيام؟ فسأله عشرة أسئلة أو نحوها، وبعد أن سمع بالإجابة من أبي سفيان جزم بأن هذا نبي رب العالمين سبحانه وتعالى، فصلوات الله وسلامه على رسوله الأمين. فكانت تلك آية لـ أبي سفيان جعلته يتفكر وهو كافر، ثم رجع وهو يقول: لقد أَمِر أَمْر ابن أبي كبشة، وأبو كبشة قيل: جد من أجداد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان هذا اسمه، وقيل: كان أبو كبشة زوج مرضعة النبي صلى الله عليه وسلم فنسب إليه، ومعنى قوله: لقد أمر أمره، يعني: زاد وانتشر وقوي، وما حدث مع أبي سفيان في مرحلة كان فيها النبي صلى الله عليه وسلم ليس بالقوي ولا المؤمنون أقوياء. لكنه بعد أن سأله هرقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما أخبره علم أن النبي صلى الله عليه وسلم في يوم من الأيام سيحكم مكة وغيرها ويمكنه الله سبحانه وتعالى. فقال في نفسه يوماً من الأيام: لقد أمر أمره. أي: زاد أمره وقوي أمره، حتى عرفه ملك الروم، ثم قال: فلم يزل أمر الإسلام منتشراً منتصراً بعد ذلك، ومع أن أبا سفيان رأى الآية وهو كافر إلا أنه لم يزل على كفره حتى أسلم في فتح مكة، وبعد أن أسلم أبو سفيان أراه الله عز وجل الآيات على لسان هذا الرجل الكافر، فكان خيراً له لو أنه أسلم حينئذ. وإذا كان أبو سفيان لم ينتفع في هذا الحين، فقد انتفع غيره، فانتفع تميم الداري حين رأى آية من الآيات، فبينما كان هو ومجموعة معه من النصارى في البحر، ووصلوا إلى جزيرة من الجزر لعبت بهم الأمواج، فرسوا على هذه الجزيرة ونزلوا، فرأوا الجساسة، ثم دلتهم على المسيح الدجال، فحدثهم وأخبرهم عن نبي العرب صلوات الله وسلامه عليه، وأنه خير للناس أن يتبعوه، فإذا بـ تميم الداري رضي الله عنه ينتفع بالنصيحة ويذهب للنبي صلى الله عليه وسلم ويؤمن به ويحدثه بهذا الحديث الذي يعد آية من الآيات، فلما قال ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم جمع النبي صلى الله عليه وسلم الناس وقال: (أما إني لم أجمعكم لرغبة ولا لرهبة، ولكن تميماً حدثني حديثاً قد أعجبني ووافق ما حدثتكم به قبل ذلك)، ثم حدثهم النبي صلى الله عليه وسلم بما قاله تميم الداري، وصدق الله {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا} [فصلت:53]، فالله عز وجل يري الآيات فينتفع بها من يؤمن، ولا ينتفع بها من يصر على كفره: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [النمل:93]. والله سبحانه وتعالى ليس غافلاً عما يعمل هؤلاء، ولكن الله حليم سبحانه، يصبر ويحلم عنهم لعلهم يؤمنون، فإذا لم يؤمنوا أخذهم أخذ عزيز مقتدر. وقوله: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [النمل:93]، قرئت بالتاء، وهي قراءة نافع وابن عامر وحفص عن عاصم وأبي جعفر ويعقوب، والباقون يقرءونها بالياء: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [النمل:93].

القصص

تفسير سورة القصص [1 - 4] ذكر الله تعالى في أول سورة القصص جزءاً من طغيان فرعون وفساده في بني إسرائيل، وكيف أنه فرق الناس شيعاً وأحزاباً، واستضعف بني إسرائيل يقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم، فكانت العاقبة لبني إسرائيل بالفرج والتمكين في الأرض جزاء صبرهم واستضعافهم.

تفسير قوله تعالى: (طسم)

تفسير قوله تعالى: (طسم) الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين. أما بعد: قال تعالى: {طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:1 - 6]. السورة الثامنة والعشرون من كتاب الله سبحانه وتعالى، وهي سورة القصص، وهي من السور المكية إلا آية فيها أو آيتين منها فهما مدنيتان، وفيها خصائص السور المكية من ذكر قصص القرآن، وتحدي المشركين، وذكر الأمم السابقة كيف صنعوا وكيف صنع بهم؟ وذكر العظة والاعتبار في هذه القصص العظيمة من قصص كتاب ربنا سبحانه. ثم ذكر أمر الإيذاء الذي يكون لأولياء الله ولأنبيائه عليهم الصلاة والسلام، ثم تمكين الله عز وجل بعد ذلك للمؤمنين. عدد آيات السورة ثمان وثمانون، باتفاق القراء على هذا العدد، وفي غيرها من السور قد تزيد الآيات في العد وإن كانت الآيات هي نفسها، ولكن هنا كل أهل العد اتفقوا على أن عدد آي هذه السورة ثمان وثمانون. بدأها الله سبحانه وتعالى بالأحرف المقطعة الثلاثة فقال: {طسم} [القصص:1]، فهي حروف مقطعة فيها التحدي للمشركين أن يأتوا بمثل هذا القرآن، والعادة أنه إذا ذكرة حروف مقطعة يذكر بعدها الإشارة إلى هذا القرآن العظيم، فقال: {طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [القصص:1 - 2]، وذكرنا قبل ذلك أن هذه الحروف من أسرار القرآن، يعني: مهما نذكر من حكم وموافقات بين هذه الحروف وبين السور فإننا لا نجزم بأنها جاءت من أجله، ولكن المفسرون يذكرون أشياء كلها لها وجهة من النظر، وبعضها أقوى من بعض. فهنا كون العلة من بدء بعض السور بهذه الحروف التحدي واضح المعنى، أي: فإن هذا القرآن من الكلام العربي المركب من الأحرف التي تقرءونها فأتوا بسورة من مثله. من العجيب في أمر القرآن العظيم أن الذين ينظرون في أسرار حروف السور يقولون: ما من سورة افتتحها الله عز وجل بأحرف مقطعة إلا كان أكثر الحروف عدداً هذه الأحرف المقطعة، إذاً: الطاء والسين والميم أكثر في هذه السورة من غيرها من الحروف. قوله: {طسم} [القصص:1]، فيها قراءات ثلاث: قراءة أبي جعفر بالسكت عليها؛ لبيان أنها حروف وليست كلمة، فهي مكونة من حرف الطاء، وحرف السين، وحرف الميم، ولذلك إذا قرأها يقف عليها بالسكت، حتى يعلم السامع أنها أحرف وليست كلمة واحدة، وباقي القراء منهم من سيقرأ بالفتح، ومنهم من سيقرأ بالإمالة في حرف الطاء، وهم شعبة عن عاصم، وحمزة والكسائي وخلف كلهم بالإمالة، ويدغمون النون في الميم إلا حمزة فإنه يظهر النون، فيقرؤها (طسم)، بالنون مظهرة.

تفسير قوله تعالى: (تلك آيات الكتاب المبين)

تفسير قوله تعالى: (تلك آيات الكتاب المبين) قوله: (تلك) إشارة واللام للبعد، فتكون الإشارة هنا للبعيد إما في رتبته وعظمته وإما في مكانه، فهنا إشارة لهذه الآيات التي بين أيدينا، وفيها تعظيم لهذه الآيات، فعندما تخبر عن إنسان أمامك تقول: هذا الرجل، فإذا أردت تعظيمه تقول: ذلك الرجل، يعني: تشير إليه كأنه بعيد في رتبته وعلوه. فهنا يشير الله عز وجل إلى هذا القرآن فيقول: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [القصص:2]، وذكرها في موضع آخر: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [لقمان:2]، فالقرآن كتاب عظيم وكتاب كريم، وكتاب حكيم، وكتاب مبين. (آيات) جمع آية. (الكتاب) اللام للعهد وهو القرآن (الْمُبِينِ)، من بان الشيء بمعنى: وضح وظهر وتجلى، فليس به خفاء، فالقرآن ليس به خفاء، كل من يسمعه يفهمه سواء كان عالماً أو جاهلاً، وإن كان الله عز وجل فضل بعض الناس على بعض في الفهم، فلا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، ولكن عجيب أمر هذا القرآن العظيم أنه يسمعه الإنسان الأمي فيعجب ويطرب لكلام رب العالمين سبحانه، ويفهم ما يقوله ولو فهماً عاماً لما فيه، يسمعه الإنسان العالم فيفهمه آية آية وكلمة كلمة، وينظر إلى عباراته وفصاحته وبلاغته، وإلى ما فيه من فقه وأحكام، أمر عجيب في هذا القرآن كما سنرى.

تفسير قوله تعالى: (نتلوا عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق)

تفسير قوله تعالى: (نتلوا عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق) قوله: {نَتْلُوا} [القصص:3]، يوجه الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، {نَتْلُوا عَلَيْكَ} [القصص:3] حتى تعتبر وتتذكر وتتصبر أنت ومن معك من المؤمنين، فهي سورة مكية يصبر الله عز وجل فيها المؤمنين على ما كانوا فيه من الأذى، أي: إذا أوذيتم فانظروا الأذى الذي أصاب من قبلكم أكثر منكم، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أوذي بشيء يقول: (رحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر)، فيعتبر النبي صلى الله عليه وسلم ويقتدي بمن قبله، كما قال الله سبحانه تبارك وتعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]، فاقتدى صلى الله عليه وسلم في الصبر بهؤلاء. قوله: (من نبأ) النبأ الخبر المغيب، ما كان يعرف النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً عن موسى ولا عن قومه حتى أخبره الله سبحانه تبارك وتعالى في القرآن، قال: {نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ} [القصص:3]، أي: من خبر غاب عنك، فنتلو عليك، أو نجعل جبريل يقرأ عليك ذلك فتستمع إلى هذه التلاوة، وتتعلم من نبأ موسى وفرعون. وهنا ثلاث سور وهن: سورة الشعراء والنمل والقصص ذكر في كل منها قصة موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، والقصة هي هي، ولكن العجب من هذا القرآن العظيم الرائع، حيث إنه في كل موضع يذكر شيئاً من القصة تستفيد منه، ويناسب السياق فسورة الشعراء آياتها قصيرة وفيها هذه القصة، ذكرها الله عز وجل على نفس الفواصل التي في السورة مناسبة معها، وفي سورة النمل تجدها مناسبة، وفي سورة النمل ذكر قصة موسى فيها بنفس الفواصل التي فيها. وهكذا في السور الأخرى كسورة الأعراف وهود، وهكذا في كل سورة يذكر موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام بشيء إما مختصراً وإما مطولاً، وهنا أطال فيها وأطنب، حيث ذكر فيها قصة موسى منذ مولده، وكيف أن الله عز وجل نجى موسى ولا حول له ولا قوة، وأمه ضعيفة مستضعفة، فهي من بني إسرائيل الذين كانوا يهانون ويستضعفون في الأرض، فلا حول لها ولا قوة ولا حيلة على أمر فرعون، فإذا بالله عز وجل يصنع ما نرى في هذه القصة العجيبة الجميلة من آياته؛ ليطمئن النبي صلى الله عليه وسلم، ويطمئن المؤمنين أنه مهما اشتد الكرب فلا بد وأن يأتي الفرج من عند الله سبحانه، ومهما صبرتم أتاكم النصر من عند الله سبحانه، قال صلى الله عليه وسلم: (اعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً). قوله: ((لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)) أي: نتلوه لينتفع به المؤمنون.

تفسير قوله تعالى: (إن فرعون علا في الأرض)

تفسير قوله تعالى: (إن فرعون علا في الأرض) قوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4]. يقول الله عز وجل: ((إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ)) أي: ملك مصر وما حولها من بلاد، وعلا علواً شديداً وعتا في الأرض، فالله عز وجل يرفع من يشاء ويضع من يشاء، فرفعه الله ملكاً فإذا به يزعم أنه الملك على البلاد وأن هذا حقه، ولكن ما أعجبه أن يقف عند هذا الحد، وإنما ادعى ما هو أكثر من ذلك، ادعى أنه إله، وفي دعواه الكذب الواضح. ثم ختم هذه الآية بقوله: {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4]، فبين أن فساده كان فساداً عظيماً جداً، وهذا واضح مما يذكره الله عز وجل في هذه الآية. وفرعون علا في الأرض، فالله يعلي من يشاء، ويرفع درجات من يشاء، يرفع بالعلم من يشاء سبحانه وتعالى، يكون الناس بعضهم في علو وبعضهم في سفل، بحسب ما أعطاهم الله عز وجل من فضله، هذا غني وهذا فقير، هذا قوي وهذا ضعيف، هذا عالم وهذا جاهل، هذا ذكي وهذا غبي، فيرفع الله عز وجل ويفضل الناس بما يشاء، ولكن من أعطاه الله نعمة فتعالى بها على القوم حتى زعم ما ليس له فهذا العلو والإفساد، ففرعون آتاه الله الملك فإذا به يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، ويزعم لقومه أنه ابن الشمس، وليس مثل واحد منهم، كما كان يزعم الفراعنة، وقالوا: هذا كان رمسيس الثاني أو ابنه منفتاح والكثير يرجحون في زماننا أنه ابنه منفتاح بن رمسيس الثاني. المهم أن هذا الفرعون أعطاه الله ملكاً عظيماً فعلا في الأرض أول شيء بكفره بالله سبحانه، وبدعواه أنه شيء آخر أعلى من البشر، وأن هؤلاء عبيد عنده يعبدونه من دون الله سبحانه، {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} [القصص:4]، الذي يجعل الناس شيعاً هذا لا يصلح أن يكون حاكماً عليهم، الحاكم على الناس هو الذي يجمع الناس جميعهم. النبي صلى الله عليه وسلم من منة الله عز وجل عليه أن جعله بالمؤمنين رءوفاً رحيماً، فقال: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]، يبقى الحاكم الرءوف الرحيم هو الذي يجمع الناس حوله، ولذلك دعا النبي صلى الله عليه وسلم للحاكم الرفيق بشعبه، فقال يدعو ربه سبحانه: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به)، إذاً: الحاكم الذي يتولى من أمر المسلمين شيئاً ويكون رفيقاً بالناس دعا له النبي صلى الله عليه وسلم أن يرفق الله به في الدنيا والآخرة، ومن كان عنيفاً مع الناس شديداً غليظاً دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يعامله الله عز وجل بهذا العنف وبهذه الشدة. فالغرض أن فرعون كان حاكماً قاسياً، يدبر أمر ملكه بالكيد والمكر، قال الله سبحانه: {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4]، فمن إفساده أن: ((جَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} [القصص:4]، فلأجل أن يحكم البلد جعل الناس فرقاً، فقالوا: قسم البلاد إلى بضع وثلاثين فرقة، الفريق الذي في البلدة الفلانية، والفريق الذي في البلدة الفلانية، وجعل بينهم عداوة وبغضاء، الكل يوالونه هو، ولكن لا يحب بعضهم بعضاً، فجعل القوم شيعاً، فأقل شيعة وأضعف شيعة هم بنو إسرائيل الذين كانوا ساكنين في مصر من قبل أن يأتي هذا الفرعون بأربعمائة عام، يعني: ما كانوا من أهل مصر أصلاً، ولكنهم هم أبناء يعقوب على نبينا وعليه الصلاة والسلام وكانوا في فلسطين في بلاد الشام، وبعد ذلك لما كاد إخوة يوسف على نبينا وعليه الصلاة والسلام له ألقوه في غيابة الجب، وتمر سيارة فيأخذونه طفلاً من غيابة الجب، ويأتون به إلى مصر، وينشأ ويشب كما ذكر الله سبحانه في سورة يوسف قصته، بعد ذلك أمر إخوته لما عرفوه أن يأتوا بأهلهم إلى مصر، فجاء إلى مصر يعقوب وأبناؤه وعاشوا في هذه البلدة، فمن هذا الوقت عاشوا وتكاثروا وظلوا فترة طويلة، وكان أهل مصر يعرفون لهم حقهم. وأهل مصر كانوا يلقبون بالأقباط، وكلمة (قبط) ليس أصلها النصارى، فلم يكن يوجد في ذلك الوقت نصارى، ولكن أهل مصر الذين هم من أيام الفراعنة هم القبط، كل من سكن مصر يسمى قبطياً، والذي يحكم مصر يلقب بفرعون، والوزير يلقب هامان، فكان يميز بين القبط وبين بني إسرائيل، فبنو إسرائيل جاءوا إلى مصر ودخلوا فيها، أما الأقباط فهم من أهل مصر. الغرض أن بني إسرائيل عاشوا وكانوا على التوحيد، ثم بعد ذلك رجعوا إلى الإشراك بالله، فلما فعلوا ذلك سلط الله عليهم فرعون؛ لأنهم كانوا هم أهل الديانة الصحيحة والتوحيد، ولكن لما ابتعدوا عن دين ربهم سبحانه سلط عليهم ربهم فرعون، فعاشوا في هذه البلدة مستذلين، أذلهم فرعون ذلاً شديداً، فهذا كان من فساد فرعون، قال الله سبحانه: {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ} [القصص:4]، جعل أهل مصر جميعهم شيعاً؛ لأن النظام يقول: فرق تسد، فرق الناس من أجل أن يبقى هو الرئيس عليهم. ثم من فساده أنه يستضعف طائفة من بني إسرائيل، فماذا كان يعمل فيهم؟ {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [القصص:4]. فرعون هذا الإنسان العنيف ليس في قلبه رحمة، فكان {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أْبْنَاءَهُمْ} [القصص:4]، وسبب ذبحه للصغار أن منجماً من منجميه الذين كانوا ينظرون في النجوم قال له: إنه سيولد طفل من بني إسرائيل يكون هلاكك على يديه، فإذا به يأمر بقتل أبناء بني إسرائيل، فذهب إليه الفلاحون وقالوا: لو قتلت أبناء بني إسرائيل لم نجد من يخدمنا، فإذا به يتراجع ويقول: نقتل الأولاد سنة ونتركهم سنة، وكأنه بناءً على كلام هذا الذي نظر في النجوم فإذا به يقتل أطفال بني إسرائيل في سنة، وفي سنة أخرى يترك أطفال بني إسرائيل، فكان ممن ولد في العام الذي لا يقتل فيه هارون أخو موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وفي العام الذي يليه ولد موسى عليه الصلاة والسلام، فأرسل فرعون من يقتله. فكانت هنا منة من الله عز وجل من ساعة ما ولد موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، والله يرينا كيف يحميه سبحانه، وكيف يدبر له أمره وهو صبي صغير، ففرعون يقتل الأبناء قسوة وعنفاً منه، وكفراً بالله سبحانه وتعالى، وكيداً ومكراً وتفريقاً بين الناس. وكان يستحيي نساء بني إسرائيل، أي يترك البنات تكثر، والعادة أن الإسرائيلية تتزوج من أمثالها، لكن سيقل الصبيان، فماذا ستعمل المرأة عندما تكبر وتكون فيها شهوة؟ تقع في البغاء والزنا، وهذا الذي يريده فرعون، يستحيي النساء من بني إسرائيل بحيث تبقى خادمات في البيوت، وتكون عواهر وزانيات أيضاً، {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4]. فالله عز وجل بدأ القصة بأن فصل لنا ما الذي يصنعه هذا الفرعون حتى تأتي إلى النهاية فتنظر كيف صنع الله به بكفره بالله سبحانه، وبإفساده في الأرض، فهذا فعل فرعون: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4]، كان عظيم الفساد في الأرض. وهؤلاء المستضعفون ماذا سيعمل بهم ربنا؟ قال: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5]، الله عز وجل يطمئن المؤمنين، أنتم مستذلون وضعفاء، وعددكم قليل في مكة، سننصركم يوماً من الأيام، ولن نمكن لكم في مكة فقط، بل في الأرض كلها. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.

تفسير سورة القصص [5 - 7]

تفسير سورة القصص [5 - 7] تكررت قصة موسى وفرعون في سور كثيرة في القرآن، وفي كل موضع يذكر منها ما يناسب ذلك الموضع، وقد أجملت في بعض السور، لكنها فصلت في سورة القصص، وقد بين الله فيها كيف كان طغيان فرعون وكيف كانت نهايته، وكيف منَّ على الذين استضعفوا في الأرض من بني إسرائيل وجعلهم أئمة لما صبروا وكانوا بآيات الله يوقنون

بيان ما اشتملت عليه سورة القصص

بيان ما اشتملت عليه سورة القصص الحمد لله رب العالمين، واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز جل في سورة القصص: بسم الله الرحمن الرحيم {طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:1 - 6]. هذه السورة مكية وفيها خصائص السور المكية، من تقرير توحيد الله سبحانه، وأمر العقيدة العظيمة الصافية التي جاءت من عند رب العالمين سبحانه، وليست لأمر جديد، وإنما كل أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام أمرهم الله عز وجل أن يدعو الخلق إلى توحيد الله وحده لا شريك له. واشتملت السورة على التنويه بشأن هذا القرآن العظيم، والتعريض بأن بلغاء المشركين لا يقدرون أن يأتوا بمثل هذا القرآن، كما ذكر الله عز وجل في النصف الأخير منها قصة موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وقد تكررت كثيراً في كتاب الله سبحانه، وفي كل موضع من المواضع يذكر منها ما يليق بذلك الموضع كما ذكرنا من قبل. وهذه الثلاث السور المتتالية سورة الشعراء وسورة النمل وسورة القصص كل من هذه السور فيها ذكر لموسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وكأنه في موضع يذكر شيئاً فيجمله ثم يفصله في هذه السورة سورة القصص، وكأنه يقص علينا قصصاً عن موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ففيها قصته وهو صبي وما الذي حدث له، وقصته في مدين، وقصته في الطريق من مدين إلى مصر وما الذي حدث له، وقصة النار وإتيانه إليها وما الذي حدث له، وقصة محاجته لفرعون وما كان فيها. ثم ذكر في آخر هذه السورة قصة قارون وكيف أهلكه الله سبحانه وتعالى، ليرينا الله عز وجل أن الإنسان الذي غره ملكه وماله فنهايته نهاية أليمة إن لم يتب إلى ربه سبحانه وتعالى، فالذي غره الملك فرعون، والذي غره المال قارون، فأرانا الله عز وجل كيف أهلك الاثنين، ففصل في هذه السورة ما أجمل في غيرها، ففي سورة النمل قال الله عز وجل: {إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [النمل:7]، وفصل هنا سبحانه وتعالى كيف صار بأهله حتى وصل إلى هذه النار، وكيف صنع حينما رأى هذه النار، ولما أتى إليها ما الذي قاله له الله سبحانه وتعالى، ففصل ما أجمل هنالك. كذلك لما ذكر الله سبحانه تبارك وتعالى في سورة الشعراء قصة موسى مع فرعون وأن فرعون من عليه: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء:19 - 20]، فأجمل كيف رباه فرعون حيث ذكر قول فرعون: ألم نربك؟ وهنا ذكر لنا أن هذه التربية كانت في قصر فرعون، وأن امرأة فرعون هي التي قامت بذلك وهي التي أحبته وأخذته وقالت: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} [القصص:9]. بدأ الله هذه السورة بقوله: {طسم} [القصص:1]، وهذه حروف مقطعة ليرينا أن هذا القرآن من جنس هذه الحروف، {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23]، أو فأتوا بكتاب مثله؛ ولذلك قال الله في هذه السورة: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص:49 - 50]، فالغرض أنه تحداهم أن يأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى من هذا الكتاب، ومن الكتاب الذي جاء على موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص:50]. قال الله تعالى: {نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ} [القصص:3 - 4] أي: استكبر في الأرض بملكه فإذا به يطغى ويقول لقومه: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، ومن فساده: {َجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ} [القصص:4]، فرق أهلها -وهم بنو إسرائيل- حتى يتمكن من حكمهم بهذا المكر، {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [القصص:4]، أي يبقي النساء على قيد الحياة، {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4]، وكان يريد تقتيل جميع الأبناء، فلما فعل ذلك إذا بقومه يقولون: لو قتلتهم لن نجد من يخدمنا، فكان يقتلهم عاماً ويتركهم عاماً، فولد هارون على نبينا وعليه الصلاة والسلام في العام الذي كان يتركهم فيه على قيد الحياة، وولد موسى في العام الذي يليه، وكان بين موسى وهارون سنة واحدة، وهارون أكبر سناً من موسى على نبينا وعليهم الصلاة والسلام، فولد موسى في العام الذي يذبح فيه الصبيان، ليرينا الله عز وجل من آياته العظيمة كيف ينجي من يشاء من خلقه سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض)

تفسير قوله تعالى: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض) قال الله: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5]، هذه تسلية للمؤمنين، يعدهم الله سبحانه أن يثبتهم ويمن على المستضعفين، وهذه السورة مكية، وآية منها نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو مهاجر من مكة وهو في الجحفة، حيث أنزل الله عز وجل عليه يثبته ويطمئنه ويواسيه ويسليه: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص:85]، أي: الذي فرض عليك القرآن فدعوت الكفار إليه فشددوا عليك وآذوك حتى أخرجوك من مكة التي هي أحب البلاد إليك، كما قال: (لولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت)؛ فيسليه الله عز وجل بأنه سيرجع مرة أخرى إلى هذه البلدة التي أخرجوه منها. وذكر الله عز وجل استضعاف فرعون لبني إسرائيل، وقد نصرهم الله عز وجل بعد ذلك، فليس بعزيز على الله سبحانه أن ينصركم وأن يمكنكم، ومن سنة الله عز وجل أن يجعل الناس منهم الضعفاء ومنهم الأقوياء، منهم الأقلية ومنهم الأكثرية، ثم يقلب موازين الكون بعد ذلك فيمن على المستضعفين ويمكن لهم، حتى يرى كيف يعملون، فإذا استقاموا على سنة الله عز وجل أعطاهم الخيرات وثبتهم، فإذا انقلبوا أعاد الأمر عليهم مرة ثانية، فالله يقلب هذه الدول كما يشاء سبحانه، وأمرهم يدور بين قوة وضعف، بين عزة وصغار، بين قلة واستكثار. قال سبحانه تبارك وتعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} [القصص:5] يعني: قادة في الخير، يقتدى بهم في الخير بعدما كانوا مستضعفين مستذلين لا يعبأ بهم، يقول الأقوياء لأنبيائهم: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} [الشعراء:54]، أي: هؤلاء ضعفاء ليس عندهم رأي حتى نتبعهم. فالله عز وجل يمن عليهم ويجعلهم قادة في الخير في يوم من الأيام، {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} [القصص:5]، دعاة إلى الخير، قال: {وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5] أي: نورثهم هذه الأرض بعد أن نهلك المستكبرين. وهل بنو إسرائيل أورثهم الله عز وجل أرض مصر بعدما أهلك فرعون؟ هم ما ملكوا مصر، والله ما قال هنا: نورثهم ملك فرعون، ولكن قال: (ونمكن لهم في الأرض) أي: في أي أرض من الأراضي؛ ولذلك أذن لهم الله سبحانه وتعالى في الخروج من مصر فخرجوا، فلما عبروا البحر وأغرق الله فرعون لم يرجعوا إلى مصر وإنما ذهبوا إلى الشام مع نبيهم موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فمكن الله لهم هناك. وأرض الشام كانت أرض العمالقة الجبارين كما قالوا لموسى عليه الصلاة والسلام: {إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ} [المائدة:22] فكان فيها أناس أشداء أقوياء، مثل الحثيين والكنعانيين والآراميين، فالله عز وجل أورث بني إسرائيل من هؤلاء الأرض التي كانوا فيها، ولم يورثهم ملك فرعون، بل ملك فرعون توارثه الفراعنة بعد ذلك، وكان لهم عبرة فيما حدث لفرعون ولكنهم لم يعتبروا بما حدث فيهم. قال سبحانه تبارك وتعالى: {َنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ} [القصص:5]، وقد فعل ذلك سبحانه وتعالى، {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} [القصص:5]، وقد فعل ذلك، ثم قال: {وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5]، فأورثهم أرضاً، وهو لم يقل: نجعلهم وارثين لأرض فرعون، ولكن قال: {وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ} [القصص:5 - 6]، فمكن الله سبحانه تبارك وتعالى لهم في أرض الشام. قال الإمام القرطبي: أي نجعلهم مقتدرين على الأرض وأهلها حتى يستولوا عليها، يعني: أرض الشام وأرض مصر، ولكن الظاهر من كلام المفسرين وأهل التواريخ أنهم لم يرجعوا إلى مصر، وإنما كانوا بعد ذلك في الشام، وحصل لهم التيه هنالك، ثم استولوا على الأرض التي هناك على ما ذكر الله سبحانه وذكر أهل التواريخ.

تفسير قوله تعالى: (ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون)

تفسير قوله تعالى: (ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون) قال الله تعالى: {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:6] فرعون كان يحذر من شيء، قيل: إن بعض المنجمين قالوا لفرعون: إنه سيكون هلاكك على يد واحد من بني إسرائيل، فالله عز وجل قدر ذلك، ولا بد أن يكون ما قدره الله سبحانه، ومهما أخذ الإنسان في الحيطة وفي الحذر فقدر الله لا بد أن يصيبه، قال: {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ} [القصص:6] أي سنري فرعون {وَهَامَانَ} [القصص:6] وزيره، {وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ} [القصص:6]، من هؤلاء المستضعفين {مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:6] ويستعدون له ويأخذون بالأسباب، فلم تنفعهم أسبابهم. وقراءة الجمهور: {وَنُرِيَ} [القصص:6]، وقراءة حمزة والكسائي وخلف: (ويرِى) بالإمالة، يعني: سيرى فرعون ما كان يحذر من هؤلاء، ولابد أن يدركه هذا الشيء، فأفعال الله سبحانه وتعالى آيات وفيها عظمة رب العالمين سبحانه، فأجمعوا جموعكم، وقدروا لأنفسكم ما تشاءون، فلن يكون إلا ما قدره الله سبحانه وتعالى، فالإنسان قد يقدر ويدبر ويأخذ بالأسباب ويعمل الحيطة، ومن المأمن الذي هو فيه يأتيه عذاب الله سبحانه وتعالى! فهذا فرعون استعد لهؤلاء واستضعفهم واستصغرهم وقال: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:54 - 56]، وكان قوم موسى نحو خمسمائة ألف أو أقل أو أكثر، شرذمة قليلون، وفرعون ومن معه كانوا ملايين من الناس، ورأى في نفسه القوة ورأى في هؤلاء الضعف، وتيقن أنه حصرهم، فالبحر أمامهم وفرعون وراءهم؛ فيأتي من هنا نصر الله سبحانه ليري الخلق أن القوة بيد الله سبحانه وتعالى، ينصر من يشاء.

تفسير قوله تعالى: (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه)

تفسير قوله تعالى: (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه) يقول الله سبحانه تبارك وتعالى بادئاً قصة موسى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7]. هذا إلهام من الله عز وجل، فهو حديث في نفسها من عند الله سبحانه وتكون مستيقنة بهذا الذي تفعله، ولا تملك أن ترده، وليس كل وحي من الله عز وجل للإنسان يكون دلالة على أنه نبي، فالله عز وجل أوحى إليها بالنفث في روعها أو أرسل إليها من يقول لها ذلك، وليس هذا دليلاً على أنها نبية. وكذلك السيدة مريم عليها السلام أوحى الله عز وجل إليها ومع ذلك ليست نبية، وكذلك أوحى ربك إلى النحل، فالنبي ينزل عليه وحي من عند الله سبحانه ينبئه بأمر الغيب، ويأمره أن يأمر الناس بعبادة الله وبالتوحيد، ويعلمه الله من أمور الغيب ما لا يعلمها غيره، والرسول هو من كان نبياًَ وأعطاه الله عز وجل شريعة ورسالة من عنده، وأمره أن يبلغ هذه الرسالة. قال الله: {أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7] هذه الآية العظيمة العجيبة عندما نظر إليها العرب ما ملكوا إلا أن يذعنوا لفصاحة القرآن وبلاغة القرآن، ففي آية واحدة يذكر الله سبحانه تبارك وتعالى أمرين ونهيين وبشارتين، فهذا مما يجعلهم يخضعون ويقرون أنهم لا يستطيعون أن يأتوا بمثله، وقد تحداهم الله وقال: {فَأْتُوا بِكِتَابٍ} [القصص:49] أي: مثله، فلا يقدرون، وقال: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود:13]، فلا يقدرون، وقال: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [البقرة:23]، فلا يستطيعون إلى ذلك سبيلاً؛ ولذلك عرف الناس فضل هذا القرآن وفصاحة هذا القرآن بما ذكره الله عز وجل فيه، وهذا من إعجاز هذا الكتاب العظيم. يقول الأصمعي وهو من أئمة اللغة: سمعت جارية أعرابية من الأعراب وهي تنشد وتقول: أستغفر الله لذنبي كله قتلت إنساناً بغير حله مثل الغزال ناعماً في دله فانتصف الليل ولم أصله فقال لها: قتلك الله ما أفصحك! فقالت له: أويعد هذا فصاحة مع قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7]، فجمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وبشارتين! فهذا إمام من أئمة اللغة يقول لها: أنت فصيحة، وهي تقول: كلامي لا شيء إذا قورن بهذا القرآن العظيم، فالذي يتكلم عن الفصاحة ليس آحاد الناس، ولكن يتكلم أهل الفصاحة وأهل اللغة، لذلك بعض الناس يقولون: ما المانع أن يؤلف مثل هذا القرآن، فنقول لهم: ألفوا، وهاتوا مثل هذا القرآن، فيقوم إنسان يخرف في الإنترنت ويأتي إلى سورة من السور ويزيل منها كلمات ويضع بدلها كلمات أخرى، ثم يقول: أنا ألفت مثل هذا القرآن! وبعض المغفلين يقول: لقد ألف مثل القرآن، وهؤلاء لا يفهمون اللغة العربية أصلاً، ولا يعرفون معنى الفصاحة ولا معنى البلاغة، والذي يحكم على ذلك هم أهل اللغة وأهل الفصاحة وأهل البلاغة الذين يتذوقون الكلام فيعرفون أن هذا كلام فارغ لا يقارن مع فصاحة القرآن التي أعيت العرب، ولو كان الأمر يسيراً، لكان أبو جهل وأبو سفيان والوليد بن المغيرة يقولون مثل هذا القرآن، لكنهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، فالقرآن كلام رب العالمين، ووعد الله حق، فالله يتحدى الناس بهذا القرآن، ولا يقدر أحد أن يثبت أمام هذا التحدي، وإذا جرب أتى بكلام فارغ خال من فصاحة القرآن وبلاغته وإعجازه. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة القصص [7 - 13]

تفسير سورة القصص [7 - 13] من أبرز ما يشد الانتباه في قصة موسى: هو كيف أن الله سهل وهيأ سبل الحفظ والرعاية والكلاءة لموسى عليه السلام، وكيف أنه عز وجل لا يخلف الميعاد، فحين وعد أم موسى أنه سيرد عليها ابنها أوفى بذلك عز وجل.

تفسير قوله تعالى: (وأوحينا إلى أم موسى وجاعلوه من المرسلين)

تفسير قوله تعالى: (وأوحينا إلى أم موسى وجاعلوه من المرسلين) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة القصص: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ * وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص:7 - 10]. في آية واحدة من هذه الآيات من سورة القصص يخبرنا ربنا تبارك وتعالى بخبرين وبأمرين وبنهيين وبشارتين قالها الله تبارك وتعالى لـ أم موسى، فقال مخبراً: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص:7]، فهذا الوحي من الله سبحانه تبارك وتعالى والإخبار منه هو: {أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص:7]، وهذا أمره لـ أم موسى بإرضاع الغلام وهو موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ} [القصص:7]، وهذا أمر آخر منه سبحانه وتعالى. ثم قال لها: {وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي} [القصص:7] نهاها سبحانه أن تخاف وأن تحزن، ثم بشرها سبحانه تبارك وتعالى ببشارتين، {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7]، فأخبر سبحانه وأمر ونهى وبشر في آية واحدة، وهذا من بلاغة القرآن العظيم، والإيجاز في الألفاظ مع إعطاء المعاني العظيمة الكثيرة. وأوحى الله عز وجل إلى أم موسى وهي لم تكن نبية ولكن الوحي هنا هو: الإلهام، فألهمها وألقى ذلك في قلبها، بحيث تثبتت واستيقنت من ذلك، فنفذت ما قاله الله عز وجل لها. قال: {أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص:7]، فإذاً: لما ولد موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لم يمكث مع أمه إلا فترة قليلة قيل: مكث معها أربعة أشهر أو ثلاثة أشهر ترضعه فيها وتخاف عليه من فرعون وجنوده، فأوحى الله عز وجل إليها {أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ} [القصص:7]، أي: إذا حدث شيء فألقيه في اليم، فأرضعته خلال الثلاثة الأشهر إلى أن تنبه إليه من تنبه وجاءوا إليه ليذبحوه فقال لها الله عز وجل موحياً إليها: {فإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي} [القصص:7]. قالوا: إن فرعون كان يرسل القوابل لتوليد نساء بني إسرائيل في السنة التي يذبح فيها الغلمان، فإذا ولدت امرأة استقبل القوابل هذا الغلام ثم ذبحنه، ويأتي الرجال فيأخذونه ويلقونه أو يدفنونه، فكانت العادة جارية بذلك، فلما ولدت أم موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فكأن القابلة التي تولده جاءت لتأخذه وتذبحه، ولكن ألقى الله عز وجل محبة موسى في قلبها، فإذا بها تحبه وتقول لأمه: أخفيه، وأنا لن أخبر به، فلما انتبهوا له عليه الصلاة والسلام جاءوا ليأخذوه فألقته في اليم. قال الله عز وجل: {فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7]، فكأنها صنعت له تابوتاً، وكانت كلما خافت عليه وضعته في التابوت ووضعته في النهر وربطته حتى لا يذهب، فكل ليلة كأنه كان يحدث منها ذلك حين تخاف أن يأتي من يشك في أمرها، وفي مرة من المرات خافت خوفاً شديداً فوضعته في اليم وغطته وكأنها نست أن تربط هذا التابوت في مكانه، فانطلق التابوت بموسى كالسفينة يحمله من ضفة النهر التي هي فيها إلى مكان وجود فرعون. وسبحان الله الذي يرينا آياته، فقد كان من الممكن أن الله يربي سبحانه وتعالى موسى في بيت أمه ويخفيه سنين طويلة، ولكنه يرينا قوته وقدرته وإعجازه، فينشأ موسى كما أراد الله في بيت فرعون الذي علا في الأرض، فينشأ في قصره وفرعون هو الذي يربيه، ثم يمن عليه في يوم من الأيام يقول: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} [الشعراء:18]. ذهب النهر بموسى إلى مكان فرعون، قال الله عز وجل لهذه المرأة: {وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي} [القصص:7]، فالخوف عادة ما يكون على المستقبل، إن إنساناً خائفاً لابد أن يحصل منه الحزن فقال: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7]، فطمأنها وثبتها سبحانه أنه لن يقدر عليه فرعون فإننا معه، (ولا تحزني) أن فارقته وأن تركته في اليم فهذه مشيئة الله وتقديره سبحانه تبارك وتعالى، فإنه في يوم من الأيام سيرجع إليك، {وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7]، وهذا تبشير من الله أن موسى عليه الصلاة والسلام سيكون رسولاً يوماً من الأيام. قال تعالى: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} [القصص:7]، والتعبير هنا بنون العظمة، أي: إنا فاعلون ذلك؛ لأن الأمر عظيم ولا يفعله إلا العظيم سبحانه وتعالى، ولم يقل: أنا راده وإنما قال: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7]. والرد إليها يكون بتسهيل الأسباب.

تفسير قوله تعالى: (فالتقطه آل فرعون كانوا خاطئين)

تفسير قوله تعالى: (فالتقطه آل فرعون كانوا خاطئين) قال سبحانه: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص:8]. لما وضعته في اليم سار به التابوت ولم ينقلب التابوت في النهر فالله عز وجل الذي حفظه برعايته سبحانه وبحفظه سبحانه، تابوت صغير فيه طفل صغير، ما المانع أن ينقلب التابوت الذي يطفو على الماء وهو شيء صغير؟! فالعادة الذي يثبت على الماء يكون كبيراً، أما لو وضعت قطعة من الخشب على الماء فإنك تجدها فجأة مقلوبة، فما هو الذي منع هذا التابوت من ذلك؟! إنه الله سبحانه وتعالى، ليريه أنه وحده الذي حفظه وحافظ عليه. قال سبحانه: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ} [القصص:8]، وليس فرعون نفسه، ولكن الجواري من آل فرعون وخادمات زوجة فرعون آسيا، فكن ينظرن إلى النهر فوجدن هذا التابوت فأخذنه، وكأن التابوت كان مغلقاً على موسى عليه الصلاة والسلام، فذهبن بالتابوت إلى زوجة فرعون. قال الله سبحانه: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص:8]، لاحظ أنه لن يكون قلقاً، فاللام ليست لام التعليل ولكنها لام العاقبة، أي: لتكون العاقبة في يوم من الأيام أنه يكون لفرعون ولجنوده عدواً وحزناً، وكلمة (حزناً) بمعنى الحزن، وفي الآية قراءتان: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص:8]، وهذه قراءة الجمهور، وقرأ حمزة والكسائي وخلف: (ليكون لهم عدواً وحُزنا) أي: لتكون العاقبة في يوم من الأيام أن يُحزن موسى فرعون ويكون فرعون نادماً أن فعل به ذلك، فتكون العاقبة لهذا الجبار المتكبر أن يحزنه الله وأن يذله في يوم من الأيام. قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ} [القصص:8]، وكأنه يقول هنا: لأن {فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص:8]، وهناك فرق بين الخاطئ والمخطئ، فهم ما كانوا مخطئين حين أخذوه، ولكن (خاطئ) مأخوذ من الخطيئة، فهم أهل خطيئة، وأهل كبائر، فقد كفر فرعون ونصب نفسه إلهاً بل رباً بزعمه، وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، فكان خاطئاً، ففرق بين أن نقول: فلان خاطئ، وفلان مخطئ، فلان مخطئ أي: جانب الصواب، ويريد أن يعمل عملاً صحيحاً فلم يوفق إليه، فهذا مخطئ. ولكن فلان خاطئ أي: أتى بالخطيئة عمداً لأنه يريد أن يفعلها، ففرعون لم يكن مخطئاً وإنما كان صاحب خطيئة. {وَهَامَانَ} [القصص:8]، وهو وزير فرعون، {وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص:8]، أي: أصحاب كبائر، وكانوا كفرة بالله سبحانه وتعالى، وكانوا يعبدون فرعون الذي كان يزعم لقومه أنه ابن الشمس وليس ابن البشر، ويزعم أنه إله فيعبدون الشمس من دون الله، ويعبدون فرعون من دون الله سبحانه، فكأن القوم قد ذهبت عقولهم، كما قال الله سبحانه: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف:54]، يعني: كانت عقولهم خفيفة لا تفقه ولا تفهم فعبدوه من دون الله وأطاعوه.

تفسير قوله تعالى: (وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك وهم لا يشعرون)

تفسير قوله تعالى: (وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك وهم لا يشعرون) كان موسى من رآه أحبه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فلما حملت امرأة فرعون التابوت نظرت إليه فأحبته حباً شديداً، ولذلك قالت: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} [القصص:9]، فذهبت به إلى فرعون كأنها تتوسل إليه: إياك أن تقتله، لا تقتله، فهذا قرة عين لي ولك، (قرة عين) العين القريرة كأنها من القُر أيك السكون، وإنما تسكن العين حين يستريح الإنسان إلى خبر سار فتقر عينه وتسكن. الإنسان الخائف من شيء لا تقر عينه فيظل ينظر شمالاً ويميناً. و (قرة) مأخوذة من القر وهو البرد، وعين الإنسان الفرح قارة، أو يقال: هو قرير العين، أي: من شدة فرحه تدمع عينه، ودمع السرور يكون بارداً، بخلاف دمع الحزن فإنه ينزل حاراً، فتقر عين الإنسان المستبشر الفرحان. فهنا يقول الله عز وجل: {وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} [القصص:9]، أي: أني في غاية الفرح بهذا الطفل وأنا أريده كي تقر عيني به؛ لأنها لم يكن لها ولد. وقالت: {لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا} [القصص:9]، يوماً من الأيام {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [القصص:9]، ولكن لا أحد يقرأ الغيب ولا أحد ينظر في المستقبل. وهذه القصة -كما يقول العلماء- فيها من الفوائد: أن يظهر الله سبحانه تبارك وتعالى علمه وقضاءه وقدره وما سيكون في يوم من الأيام والناس لا يدرون منه شيئاً، يقول سبحانه {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5] فأرانا كيف منّ عليهم في يوم من الأيام؛ فمهما يستضعف الضعيف ولكن الله عز وجل إذا شاء أن يمكن له سبَّب الأسباب ومكن له يوماً من الأيام. ويقول العلماء: في هذه الآيات إظهار أن العلو لله وحده لا شريك له، فمهما علا الإنسان واستكبر فإن الله يمكر به، فيتركه يعلو ويعلو، حتى إذا جاء انتقام الله عز وجل منه، وجد الجميع أن هذا هو الحكم العدل، وأن هذا الإنسان يستحق ذلك بكفره وبمعصيته ومثاله: فرعون. وفي هذه الآيات بيان أنه مهما علا الإنسان الكافر فإن الله يزيله يوماً من الأيام. وكذلك السورة مكية، والنبي صلى الله عليه وسلم في المرحلة المكية ذاق من الكفار ما ذاق، من تعنتهم ومن كفرهم ومن تعذيبهم لأصحابه صلى الله عليه وسلم، فالله عز وجل عندما يقول له: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} [القصص:5] فهذا فيه تخفيف من معاناة الرسول عليه الصلاة والسلام، وفيه بشارة للمؤمنين. وفي هذه القصة إشارة إلى قوله تعالى: {َعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة:216]. فالمؤمنون يبتليهم الله سبحانه كما ابتلى موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وابتلى بني إسرائيل، فكان الابتلاء شراً في نظرهم، وإذا به ينجيهم عز وجل ويعكس الأمر، فكانوا يكرهون شيئاً والخير فيه، ولذلك كان موسى يقول لقومه: عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون, ففعل الله سبحانه ومكن للمؤمنين.

تفسير قوله تعالى: (وأصبح فؤاد أم موسى فارغا لتكون من المؤمنين)

تفسير قوله تعالى: (وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً لتكون من المؤمنين) يقول الله تبارك وتعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص:10]. فلما أخذ آل فرعون موسى وأم موسى تأكدت أن التابوت سار به وذهب به في النهر، كادت تنسى ما قاله لها ربها سبحانه وتعالى، لولا أن ثبتها الله سبحانه. {َأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} [القصص:10]، فالمصيبة عظيمة جداً، فأصبح القلب فارغاً من كل الدنيا إلا من موسى، وكذا الإنسان صاحب البلية والمصيبة ينسى كل شيء كأن قلبه لم يتفرغ إلا لهذه المصيبة فقط. قال تعالى: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} [القصص:10]، أي: كادت تبدي بمصيبتها وأنه ابنها لما علمت أنه عند آل فرعون، فكادت تصرخ وتقول: إنه ابني، فالإنسان في المصيبة يتكلم وهو لا يشعر بما يقوله. قال تعالى: {لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} [القصص:10]، فالإنسان لا يملك لنفسه شيئاً ويكاد أن يفضح نفسه لولا أن يثبته الله سبحانه تبارك وتعالى، قال: {لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص:10] أي: بأمر الله سبحانه وبقضائه وبقدره وأنه بشرها أنه سيكون مرسلاً يوماً من الأيام.

تفسير قوله تعالى: (وقالت لأخته قصيه وهم لا يشعرون)

تفسير قوله تعالى: (وقالت لأخته قصيه وهم لا يشعرون) قوله: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} [القصص:11] أي: أذهبي وابحثي ما الذي حصل له، يقال: قص الأثر أي: تتبع الأثر. {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [القصص:11] أي: مشت وراء التابوت وعلمت أنه وصل إلى آل فرعون {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ} [القصص:11]، عن جنب أي: عن بعد من مكان بعيد، كأنها تتظاهر أنها مجانبة له وكأنها ذهبت مراراً تنظر ماذا حصل فوجدتهم يبحثون عمن يرضعه، فموسى كان يبكي عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام وهم لا يعرفون كيف يصنعون معه، فكلما جاءت مرضعة لا يلتقم ثديها ولا يريدها، وظلوا يبحثون عن مرضعات. قال تعالى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص:12]، إنه التحريم القدري وليس الشرعي، فقالت أخته بعد أن أظهرت نفسها كأنها عابرة سبيل: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص:12]، أي: أن من عادتهم النصح في كفالة الأطفال ويؤملون منكم أن تعطوهم مالاً مقابل هذا الشيء. {قَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص:12]، وما قالت هل أدلكم على امرأة، وكأن تدبير ربنا سبحانه وتعالى أن يرجع موسى للبيت الذي كان فيه، لترضعه أمه ويكون في حضانتها. قوله: {أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ} [القصص:12]، أي: يقومون بأمره فيكفلونه لأجلكم {وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص:12]، أي: ينصحون ويربون، وهم ناصحون لفرعون، فعلى ذلك تأمنون شرهم.

تفسير قوله تعالى: (فرددناه إلى أمه)

تفسير قوله تعالى: (فرددناه إلى أمه) قال سبحانه: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ} [القصص:13]، لتتحول دموع الحزن إلى دموع الفرح، أي: أرجعه مرة ثانيه إلى أمه ليكون لأمه قرة عين فضلاً عن أنها تأخذ مالاً أيضاً، فترضعه وتأخذ أجرة من فرعون على أن ترضعه فيشب في حضن أمه عليه الصلاة والسلام، وتؤجر على ذلك، يعطيها فرعون وتأخذ الأجر من الله على صبرها على ذلك. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصلِ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة القصص [14 - 20]

تفسير سورة القصص [14 - 20] الأنبياء والمرسلون قدوة للناس، لا سيما في الرجوع إلى الله، والخوف منه، والتوبة إليه، والثقة به سبحانه، وفي نصرة المظلوم، فقد حفظ الله موسى من كيد فرعون وملئه قبل رسالته وبعد رسالته، وسورة القصص توضح لنا طرفاً من ذلك.

تفسير قوله تعالى: (فرددناه إلى أمه كي تقر عينها)

تفسير قوله تعالى: (فرددناه إلى أمه كي تقر عينها) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة القصص: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ * وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [القصص:13 - 14]. في هذه الآيات من سورة القصص يخبرنا الله سبحانه وتعالى عن موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وكيف أن الله سبحانه حفظه، وكيف أنه منع فرعون من قتله، وكيف أنه أنشأه سبحانه وتعالى على وعده الذي وعد أمه {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7] فنشأ في بيت فرعون على ما أراد الله عز وجل له، فكان عزيزاً نبياً من أنبياء الله على نبينا وعليه الصلاة والسلام، رباه الله سبحانه قال: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] فالله سبحانه رباه تربية عظيمة في بيت عدو الله، ولم يكن موسى قد صار نبياً إلا في علم الله سبحانه، ولم تكن نبوته إلا بعد أن رجع من مدين إلى مصر، ثم رأى النار في الطريق، على ما ذكر الله عز وجل في سورة الشعراء وفي سورة النمل، وهنا يذكر أيضاً في سورة القصص، فالله سبحانه وتعالى يعلم المؤمنين بأنهم إذا صبروا أنجاهم الله عز وجل وإذا اتقوا ربهم سبحانه جعل لهم مخرجاً، ويضرب لنا الأمثلة في ذلك في القرآن العظيم، كيف نجى موسى وكيف نجى يوسف على نبينا وعليه الصلاة والسلام من كيد من كادوا له ومكروا به، وكيف نجى أنبياءه ورسله وأهلك أعداءه سبحانه وتعالى، فلذلك فإن الإنسان المؤمن يقرأ كتاب الله سبحانه ويتدبر الآيات ليعي هذا الأمر، فإذا أردت الخروج من ضيق ما أنت فيه فعليك بتقوى الله سبحانه، فهذا موسى عليه الصلاة والسلام قد رده الله إلى أمه لترضعه، ولينشأ في خدرها، وما زال هو في بيت فرعون، ولكن أخذته أمه تحتضنه وترضعه.

تفسير قوله تعالى: (ولما بلغ أشده واستوى)

تفسير قوله تعالى: (ولما بلغ أشده واستوى) كبر موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام وكبر في سنه وفي جسده وصار قوياً، وعبر الله عز وجل عن ذلك بقوله: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} [القصص:14] وهي نفس العبارة التي عبر بها سبحانه عن يوسف على نبينا وعليه الصلاة والسلام، هذا كفله الله سبحانه وذاك رباه الله سبحانه وتعالى، فيوسف أيضاً لما بلغ أشده آتاه الله حكماً وعلماً، ففي سورة يوسف بلغ يوسف أشده، والأشد رشد الإنسان، أي: بلغ مبلغ الرجال ومبلغ الكمال، فهو لم يبلغ مبلغ الرشد لكنه صار رشيداً بالغاً عاقلاً فاهماً علمه الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله لم يذكر: (واستوى)، فزاد لموسى (استوى) على ما ذكر في قصة يوسف: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:22] هنا ذكر ما يناسب السيرة. قال تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [القصص:14] في الآيتين ذكر أنه يجزي المحسنين، أي كذلك الجزاء الذي ترونه، وعبر باسم الإشارة للبعيد لبيان عظيم الجزاء، أنه من الله يناسب فضله ويناسب كرمه سبحانه. فيوسف عليه الصلاة والسلام ذكر الله أنه بعد ما بلغ أشده آتاه سبحانه الحكم وآتاه العلم، قال تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف:23] وهنا ناسب السياق، ولم يذكر أشده واستوى، لكن هنا ذكر: ((وَاسْتَوَى)) والاستواء بمعنى: القوة، فالقوة هنا مناسبة لما سيذكر من وكز موسى لقبطي وقضائه عليه، فكان موسى قوياً جداً، إذاً: الاستواء: القوة البدنية. وجاء عن ابن عباس رضي الله عنه: أن استوى، أي: بلغ أربعين سنة، وهذا قد يكون صحيحاً، ولكن المعنى الذي يناسب أن الاستواء هو القوة، قال تعالى: {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} [الفتح:29] فالزرع يخلقه الله سبحانه وتعالى فيكبر ويشتد ويستوي في النهاية، كأن موسى بلغ مبلغ الكمال سواء في بدنه أو في سنه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فآتاه الله الحكم والحكمة، وآتاه من لدنه حكمته، وآتاه علماً سبحانه وتعالى قبل النبوة وعلماً آخر بعد النبوة، فموسى عليه الصلاة والسلام من بني إسرائيل من أولاد يعقوب النبي فهو من أحفاده عليه الصلاة والسلام، فعلى ذلك فإن موسى عنده العلم الذي ورثه من آبائه، وهو علم يعقوب وعلم إسحاق وعلم يوسف عليهم الصلاة والسلام. فالله عز وجل آتاه هذا العلم بإلهام منه سبحانه، وبالتعلم ممن معه، ثم بعد ذلك من عليه بالنبوة وآتاه علم النبوة وأنزل عليه التوراة، فكان موسى على علم من الله وعلى حكمة، فكان حكيماً عليه الصلاة والسلام. قال تعالى: ((وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)) أي: بما جزينا به موسى وغيره عليهم الصلاة والسلام.

تفسير قوله تعالى: (ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها)

تفسير قوله تعالى: (ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها) قال سبحانه: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص:15] مر وقت طويل غير مذكور في القرآن أن موسى تربى في بيت فرعون تربية ملوك، حتى إنه كان يدعى ابن فرعون، فصار له عزة وصار له تمكين، وأمه لا شك أنها أخبرته أنه من بني إسرائيل وأنها أمه الحقيقية؛ لذلك كان يحن على بني إسرائيل وكان ينصرهم، فموسى منع أذى آل فرعون لبني إسرائيل، وهذا من فضل الله عز وجل ومن حكمه الذي آتاه موسى. وشب موسى عليه السلام على قوة في قصر فرعون، وهو مع بني إسرائيل رءوف رحيم بهم، ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها في يوم من الأيام، وهذا يدل على أنه كان خارج المدينة، فقد يكون بينه وبين فرعون شيء قبل ذلك جعله يخرج خارج المدينة؛ لذلك عبر الله سبحانه وتعالى بأنه {دَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص:15]. إذاً: عرف موسى عليه الصلاة والسلام أن بني إسرائيل هم شيعته، وكان بنو إسرائيل يعرفون ذلك، لذلك استنصره هذا الإسرائيلي على القبطي من أهل مصر، قال تعالى: {هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص:15] أي: استصرخه في الحال. وذكر المفسرون أن الرجل القبطي كان خبازاً لفرعون، فأراد من الإسرائيلي أن يحمل له حزمة حطب كعادتهم في تشغيل الإسرائيليين فرفض الإسرائيلي وتعزز بموسى عليه الصلاة والسلام وكان القبطي أقوى منه فضربه، فجاء موسى ووجد الأمر على ذلك والإسرائيلي يستغيث بموسى عليه الصلاة والسلام، فما كان منه إلا أن وكز القبطي بكوع اليد وكزة في صدره، فكانت الوكزة قوية فقضى عليه، ولم يقصد ذلك عليه الصلاة والسلام؛ لأنه تاب إلى الله عز وجل من ذلك، وإنما قصد المعاقبة وتخليص الاثنين، فضرب هذا العدو فكانت الضربة شديدة تدل على قوة موسى. ولما رأى الرجل مات قال: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [القصص:15] أي: أنا لا أقصد أن أقتله، فهو لم يوح إليه بعد أنه رسول عليه الصلاة والسلام وكان هذا قبل الوحي إليه عليه الصلاة والسلام، فهذا من موسى كان خطأً؛ ولذلك قال فرعون: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} [الشعراء:18] أي: ربيناك فقتلت نفساً بغير حق قبل ذلك، {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الشعراء:19] وفرعون هو الكافر. فالمقصود هنا: أنت من الكافرين بنعمتي عليك فقد ربيتك وعلمتك، ثم بعد ذلك كفرت هذه النعمة، فقال موسى عليه الصلاة والسلام معترفاً أنه فعل ذلك: {فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء:20] أي: ولكني فعلتها وأنا من الضالين، ضل أي: أخطأ في الطريق الصحيح، فليس معنى كلامه: إني كنت من الضالين عن عبادة الله سبحانه، لكنه يقصد: إني أخطأت في هذا الشيء الذي فعلته؛ ولذلك قال إخوة يوسف لأبيهم: {تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف:95] فلو قصدوا أنت في كفرك وبعدك عن الله لكفروا، ولكن لم يقصدوا ذلك، وإنما قصدوا أنه ما زال في الوهم من أجل يوسف، وهذا مقصود كلامهم بالضلال القديم، يعني: في توهمك وأنت مخطئ، وكانوا كاذبين في قولهم ذلك له. فالغرض أن موسى عليه الصلاة والسلام لما وكز هذا القبطي قال: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} [القصص:15] فالشيطان عدو، إذا دعا دعا إلى الضلال، فهو مضل وضلاله بين واضح، ولكن عذر موسى عليه الصلاة والسلام أنه لم يقصد القتل، وإنما كان يقصد نصرة الحق.

تفسير قوله تعالى: (قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي)

تفسير قوله تعالى: (قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي) فالإنسان حين يقع في معصية يأتسي بهؤلاء الأنبياء الأفاضل عليهم الصلاة والسلام، ويتوب إلى الله عز وجل ويتذكر ذنبه ولا ينساه، فموسى عليه الصلاة والسلام معذور، وقد غفر الله سبحانه وتعالى له، ومع ذلك ظل يذكر هذا الذنب إلى يوم القيامة، فعندما يذهب الناس إليه يستشفعون به عليه الصلاة والسلام ويقولون: أنت موسى الذي كلمك الله وكتب لك التوراة بيده، يقول لهم: إني قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها، نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى عيسى، فلم يزل ذاكراً لذنبه إلى يوم القيامة، والله سبحانه وتعالى قد غفر له ذلك، وقد أنعم عليه سبحانه وجعله في منزلة عالية، ومع ذلك يتذكر هذا الذنب. قال تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ} [القصص:16] فيه تعليم كيف تتوب إلى الله عز وجل إذا وقعت في الذنب، تقول: رب إني ظلمت نفسي، فتعترف بالذنب وترجع إلى الله سبحانه وتطلب منه المغفرة. قال تعالى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص:16] الله هو الغفور الرحيم فإن لم يغفر هو فمن يغفر، قال تعالى: ((إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)) لذلك غفر سبحانه لموسى وتاب عليه سبحانه وتعالى وستر ذنبه الذي وقع فيه. ومعنى: ((إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ)) أي: الذي يمحو الذنوب، والرحيم بعباده المؤمنين سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (قال رب بما أنعمت علي)

تفسير قوله تعالى: (قال رب بما أنعمت علي) قال موسى عليه الصلاة والسلام {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:17] أي: رب بما أنعمت علي من نعمة القوة، وأنعمت علي من نعمة العلم ونعمة الحكمة لا أكون ظهيراً للمجرمين، ولا أكون ظهيراً لفرعون ولا لمن معه، بل أنصر المظلوم وأنصر الضعيف ولا أنصر مجرماً أبداً. ربِّ بما أنعمت علي من نعم وغفرت لي سأكون مع الحق دائماً أنصره ولا أكون ظهيراً، والمظاهر للشيء بمعنى: القوي، ومنه: ظاهر بين درعين، أي: يلبس درعاً وفوقه درع آخر حتى يتقي سيوف الأعداء، فقولك: لن أكون ظهيراً يعني: معيناً للمجرمين.

تفسير قوله تعالى: (فأصبح في المدينة خائفا يترقب)

تفسير قوله تعالى: (فأصبح في المدينة خائفاً يترقب) فأصبح موسى في اليوم الثاني خائفاً قال تعالى: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص:18] إذاً: هو دخل في اليوم الأول المدينة على حين غفلة وكان في شيء من الخوف، ومع ذلك لم يمنعه هذا الخوف من نصر المظلوم فنصر المظلوم وصار في خوف أشد في اليوم الثاني. يقول سبحانه: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ} [القصص:18] يعني: يصرخ عليه ويناديه. قال تعالى: ((قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ)) غوى الإنسان بمعنى: ضلَّ، إنسان يغوي: يعني بعيد عن الهدى، ومنه قوله سبحانه: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:2] فغواية الإنسان أن يتبع هواه، ويمشي حسب مزاجه، والمعنى في هذه الآية: إنك كثير الغواية والتعارك مع الآخرين وأنت ضعيف لا تستطيع أن تدافع عن نفسك، ولما قال له ذلك: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} [القصص:18] لم يترك موسى عليه الصلاة والسلام نصر المظلوم، فهذا مجرم من آل فرعون أراد أن يظلم الرجل، فموسى عليه الصلاة والسلام سينتصر له. قال المفسرون: ((قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ)) الغوي: الإنسان الخائن الذي يتبع هواه، وفسروها: إنك تشاد إنساناً لا أطيقه، مع ذلك توجه موسى لنصرة الإسرائيلي، ولكن لما شدد على هذا الإسرائيلي إذا به يظن أن موسى يريد ضربه هو الآخر، فإذا به يقول لموسى: أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس، فطار القبطي بهذا الخبر إلى فرعون بأن قاتل القبطي بالأمس هو موسى عليه الصلاة والسلام. يقول الله سبحانه وتعالى هنا: {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ} [القصص:19] هذه قراءة الجمهور، وقراءة أبي جعفر: (أن يبطش بالذي هو عدو له قال يا موسى أتريد أن تقتلني). قال تعالى: {قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأَرْضِ} [القصص:19] والجبار: الذي يخرج إلى الناس فيقتل ويظلم من غير أن ينظر فيهم، فهو شديد القوة لا يتحرى المخطئ من المصيب، فقال: {إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} [القصص:19] أي: أنت لا تريد أن تصلح، بل تريد أن تكون قتالاً في الأرض تقتل النفس بغير حق.

تفسير قوله تعالى: (وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى)

تفسير قوله تعالى: (وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى) قال الله تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} [القصص:20] كأن الفرعوني هرب فترة زمنية ووصل إلى فرعون، ورجع من عند فرعون بجنود لقتل موسى عليه الصلاة والسلام، إذ جاء أمر فرعون بقتل موسى، فجاء رجل من أقصى المدينة يسعى، وهذا الرجل هو مؤمن آل فرعون أتى موسى محذراً، قال تعالى: {قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} [القصص:20] يعني: يتشاورون حتى وصلوا إلى الأمر بقتلك، {فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص:20] أي: اخرج من هذا المكان ولا تمكث فيه فأنا لك ناصح. ف وقالوا: إن هذا الرجل هو مؤمن آل فرعون، وكان ابن عم لفرعون وكان مؤمناً يكتم إيمانه، فنصح موسى، فخرج موسى من المدينة خائفاً يترقب كما ذكر الله سبحانه داعياً ربه: {رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:21]. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة القصص [20 - 25]

تفسير سورة القصص [20 - 25] قصة موسى عليه السلام مليئة بالعظات يبحث فرعون عنه ليقتله، لكن الله ينجيه حتى يكون نصيراً للمستضعفين فيقتل القبطي لحكمة بالغة، ثم يخرج إلى أرض مدين ويعاني من التعب والعناء ليستخرج ربه من نفسه الفقر والحاجة واللجوء إليه، فيأتيه الفرج حالاً، فيجد المأوى والسكن.

قصة قتل موسى عليه السلام للقبطي

قصة قتل موسى عليه السلام للقبطي الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. يذكر الله سبحانه وتعالى كيف أن موسى عليه الصلاة والسلام خرج من مصر هارباً إلى مدين من بلاد الشام، وكان السبب في ذلك كما ذكرنا أنه اعترض على فرعون في تأليهه نفسه، فخرج من عندهم ثم دخل المدينة في يوم من الأيام على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان، أحدهما من بني إسرائيل شيعة موسى عليه السلام، والآخر من عدوه، وكأنه يوجد عداء قبل ذلك بين موسى وفرعون، فلذلك لم يكن في المدينة في هذا الوقت بسبب ذلك، وكان هذا الفرعوني يريد أن يسخر الإسرائيلي في عمله ويكرهه على العمل بغير أجر ويضربه، وهذا الآخر يمتنع ويدافع عن نفسه، فاستغاث بموسى عليه، فما كان من موسى عليه الصلاة والسلام إلا أن ضربه بجمع يده ولكمه؛ فقضى عليه، ثم ندم بعد ذلك وقال: هذا من عمل الشيطان، لأنه لم يقصد قتله والشيطان عدو للإنسان يدعوه إلى الشر وإلى البعد عن الله سبحانه وتعالى، إنه عدو مضل وضلاله بين واضح. ثم استغفر موسى ربه سبحانه وتعالى ودعاه أن يغفر له فقال: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص:16] ثم عاهد ربه سبحانه فقال: رب بما أنعمت علي وما أعطيتني من نعم عظيمة وقويتني ونشأتني على عبادتك، ولم تجعلني مثل هؤلاء الكفرة في عبادتهم لفرعون، فعلي عهد ألا أكون نصيراً للمجرمين وسأكون نصيراً للمؤمنين وللضعفاء. ولم يعرف بقتل هذا القبطي من البشر سوى موسى عليه الصلاة والسلام وهذا الرجل الإسرائيلي الذي استغاث به. فأصبح موسى في اليوم الثاني وهو خائف يترقب: ترى ما الذي سيحصل في هذا اليوم؟ هل سيخبر الإسرائيلي عن موسى أنه قتل القبطي أم يسكت عنه؟ فلم يذهب إلى قصر فرعون، ولكنه لبث في المدينة خائف يترقب، فإذا به يبتلى مرة ثانية عليه الصلاة والسلام فيجد الذي استنصره بالأمس يستصرخه اليوم وهو يتشاجر مع رجل من قوم فرعون. {قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} [القصص:18]، أي: إنك داع إلى الهوى وداع إلى الغواية، ومعنى الغوي: كثير الشر. ولكن لما كان بين موسى عليه السلام وبين الله عهد أن ينصر المظلوم ولا يكون ظهيراً للمجرمين، وهنا ضعيف يستنصره على مجرم يقاتله فلا بد من نصر المظلوم. وكأن موسى عليه السلام اشتد على هذا الرجل الإسرائيلي في الكلام، واشتد أيضاً على الآخر الفرعوني، فإذا بهذا الإسرائيلي يصرح بقتل موسى للقبطي، وذلك إما في الشجار فقال له: يا موسى اقتله كما قتلت القبطي البارحة. فعرف القبطي ذلك فقال لموسى عليه الصلاة والسلام: {أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ} [القصص:19]، يعني: لكونك قوياً تريد أن تقتلني، {إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ} [القصص:19] والجبار الإنسان الذي يقتل بغير تفكير وبغير نظر في العاقبة وبغير تحرٍ واستفهام عن السبب. ثم قال لموسى عليه الصلاة والسلام: {وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} [القصص:19] أي: أصلح بيننا بدلاً من أن تضربني، لكنك تريد أن تكون جباراً ولا تريد أن تكون مصلحاً. وفر القبطي إلى فرعون ليخبره أن الذي قتل القبطي بالأمس هو موسى الذي ربيته في بيتك. فاجتمع الناس عند فرعون واتفقوا على قتل موسى عليه الصلاة والسلام، فأسرع رجل منهم وهو مؤمن آل فرعون، وخرج من قصر فرعون يبحث عن موسى ليحذره.

تفسير قوله تعالى: (وجاء من أقصى المدينة)

تفسير قوله تعالى: (وجاء من أقصى المدينة) قال تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى َ} [القصص:20] أي: يجري ويبحث عن موسى ليحذره، فلما وجده: {يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} [القصص:20]. والله سبحانه وتعالى إذا أراد شيئاً قدر له أسبابه ويسرها له، فهو الذي ربى موسى في بيت فرعون، ونجاه من القتل، وهنا ينجيه من القتل مرة ثانية، فيأتيه هذا المؤمن ويحذره: إن الملأ يأتمرون بك. والملأ: هم علية القوم الكبار والوزراء، فتشاوروا مع فرعون في ذلك وائتمروا يعني: أخذ بعضهم أمر بعض لينفذوه فيه بقتلك. قال تعالى: {فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص:20] أي: اهرب من هذا المكان إني لك من الناصحين. فأخذ موسى هذا الخبر وخرج عليه الصلاة والسلام من مصر.

تفسير قوله تعالى: (فخرج منها خائفا يترقب)

تفسير قوله تعالى: (فخرج منها خائفاً يترقب) قال تعالى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص:21]. يعني: أصبح موسى عليه الصلاة والسلام خائفاً يترقب وينتظر، وخرج من المدينة أيضاً خائفاً يترقب عليه الصلاة والسلام، والإنسان الخائف ينتظر كل دقيقة ماذا يحصل له من المصائب. فهو يترقب كأنه ينظر ويراقب هل يأتيه أحد من هذا المكان، ابتلي بخوف شديد جداً يذكره ربنا هنا ليطمئن النبي صلى الله عليه وسلم في الأعوام التي كان يؤذي فيها في مكة هو والمؤمنون، أي: مهما أخافكم هؤلاء فالأمر ليس كما حدث لموسى، بل كان ما حدث لموسى أصعب مما أنتم فيه، وقد نجاه الله عز وجل، فاطمئنوا فإن الله ينجيكم. ثم قال موسى داعياً ربه سبحانه: {رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:21] فاستجاب له ربه سبحانه ونجاه ودله، وموسى لا يعرف الطريق، ولم يخرج من مصر قبل ذلك، وسيخرج الآن من مصر متوجهاً إلى الشام لا يدري أين الطريق.

تفسير قوله تعالى: (ولما توجه تلقاء مدين)

تفسير قوله تعالى: (ولما توجه تلقاء مدين) قال سبحانه: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ} [القصص:22]. أي: ناحية مدين من بلاد الشام عند الأردن، فخرج موسى من مصر متوجهاً إلى بلاد الشام. فقال حين توجه إلى مدين: {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص:22]. فهو لا يعرف أين الطريق الصحيح، لأن فرعون مسيطر على البلاد كلها، فموسى لا يعرف أن هناك بلاداً أخرى ولا يتحكم فيها فرعون، فلذلك طلب من ربه أن يهديه سبحانه، وقد طمأنه بعد ذلك الرجل الصالح هناك وقال له: {لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:25] وهنا اطمأن موسى لما أعلمه أبو الفتاتين بأنه قد نجا من فرعون، وأن فرعون ليس له سلطان في تلك الأرض، فموسى خارج وهو لا يدري إلى أين يمتد سلطان فرعون. وفي قوله تعالى: {قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي} [القصص:22] قراءتان: قراءة الجمهور {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي} [القصص:22] بالمد وبالقصر. وقراءة نافع وأبي جعفر وابن كثير وأبي عمرو {قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص:22] فلا يوجد فيها مد أصلاً. والمعنى: عسى ربي أن يدلني ولا يضلني عن الطريق، ويهدني سواء الطريق الصحيحة المستقيمة التي أصل بها إلى النجاة. خرج موسى عليه السلام من مصر ولم يكن مهيئاً نفسه للسفر، وليس معه زاد ولا مركوب، بل لم يكن معه شيء وكان بمفرده؛ لأنه جاء لهذا المكان وهو خائف يترقب وليس على باله الخروج، فإذا بالرجل يأتي إليه وينصحه بالخروج، فيهرب موسى على قدميه، قالوا: مشى حوالي ثمانمائة وخمسين ميلاً يعني: أكثر من ألف كيلو متر مشاها موسى عليه الصلاة والسلام من مصر حتى وصل إلى مدين. {قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص:22] فهو لا يعرف الطريق حتى يصل إلى هذا المكان الذي وصل إليه، فلما خرج من مصر متوجهاً بدا متردداً خشية أن يضل أو يته، ولكنه وصل بفضل الله سبحانه وتعالى إلى مدين، ولكن لم يكن معه طعام ولا شراب، قالوا: كان يشرب من المياه التي في طريقه ويأكل من ورق الأشجار. ولقد ذكر ابن عباس رضي الله عنهما: أنه خرج من مصر حتى وصل إلى مدين وقد حفيت قدماه وسقط نعله عليه الصلاة والسلام، وصار بطنه لاصقاً في ظهره. يعني: من طول المسافة التي قطعها حتى وصل إلى هذا المكان، إذ لا يعقل أن إنساناً سيخرج من مصر متوجهاً إلى الشام ماشياً، ومع ذلك سيمشي الليل والنهار مثلاً، ولا يأكل فيها شيئاً إذ ليس معه مال ولا طعام. وفي قصة موسى عليه الصلاة والسلام يرينا الله عز وجل حقارة الدنيا وأنها لا قيمة لها، وأنه مهما ابتلى الله عز وجل الإنسان فيها بأن سلب منه ماله أو أخذ منه صحته، أو ابتلاه بالمصائب، فعليه أن يتصبر اتعاظاً بما حدث لأنبياء الله عليهم الصلاة والسلام. فهذا النبي عليه السلام يؤذى في مكة، وأحياناً يجوع حتى يربط على بطنه الحجر من شدة الجوع، فالذي ينظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وينظر إلى موسى كيف خرج من مصر إلى أن وصل إلى الشام، {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24]، وينظر إلى أيوب عليه السلام كيف ابتلاه الله سبحانه وتعالى ومكث في البلاء ثماني عشرة سنة حتى هجره القريب العبيد إلا زوجه وصديقين من أصدقائه عليه الصلاة والسلام، وصديقاه في النهاية قالا عنه: لا بد أنه عمل معصية أخفاها لذلك ابتلاه الله بذلك؛ فالذي ينظر إلى أحوال هؤلاء الأنبياء يتعظ ويعتبر ويكون له بهم أسوة. والمؤمن حين يبتليه الله عز وجل بشيء لا ينظر إلى الناس؛ لأنه إذا نظر إليهم تعب إذ إنهم لا بد أن يقولوا: هذا قد عمل مصيبة من المصائب حتى ابتلاه الله تعالى بهذا البلاء، كما قالوا عن أيوب عليه الصلاة والسلام حتى دعا ربه فنجاه مما كان فيه، فالنظر إلى الناس يتعب ولكن الإنسان ينظر إلى ربه، ويتذكر نعم الله عز وجل عليه.

تفسير قوله تعالى: (ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس)

تفسير قوله تعالى: (ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس) وصل موسى النبي عليه الصلاة والسلام إلى مدين، قال تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} [القصص:23] يعني: وصل إلى بلدة فيها ماء ووجد عليه جماعة كثيرة من الناس يسقون مواشيهم، {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ} [القصص:23]. تبقى الصورة أنه وصل إلى بئر ماء وعليها زحام شديد من الناس كل واحد يريد أن يسقي أنعامه، وجاء موسى عليه الصلاة والسلام ونظر فإذا بامرأتين بعيدتين عن الناس معهما مواشيهما تذودانهما، أي: فكأنهما تدفعان الأغنام كيلا تزدحما مع الناس، خوفاً من أن تضيع الأغنام، فكان الناس يسقون والفتاتان تنتظران حتى ينتهوا ثم يذهبوا، وبعد ذلك تسقيان، وهذا لا شك انتظار طويل ممل. فمعنى قوله تعالى: {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ} [القصص:23]، أي: تدفعان أغنامهما أو مواشيهما بعيداً عن الماء وبعيداً عن الناس. قال تعالى: {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا} [القصص:23]، والخطب بمعنى المصيبة والأمر الهام العظيم. وكأنه وجد المرأتين في حسرة وشدة وضيق، ولذلك لم يقل: ما حالكما؟ إنما قال: ما خطبكما وأي بلية نزلت بكما؟ فموسى عليه الصلاة والسلام الذي خرج ماشياً من مصر حتى وصل إلى مدين بعد مشي طويل وتعب شديد ولم يأكل إلا أوراق الأشجار، هو الذي كان قد دعا قبل ذلك فقال: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:17]، أي: سيكون نصيراً للضعفاء. وهاتان المرأتان ضعيفتان، فسألهما ليساعدهما، ثم كان جوابهما: {قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23] أي: لا نقدر أن نسقي الأغنام أو الأنعام حتى يذهب كل الرعاة. وفي قوله: {حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} [القصص:23]، قراءتان: وهذه قراءة الجمهور. وقراءة أبي جعفر وأبي عمرو وابن عامر {حَتَّى يَصدُرَ الرِّعَاءُ} [القصص:23] بجعل الفعل ثلاثياً من صدر بمعنى: مشى، ويكون المعنى: حتى يمشي الرعاء. والقراءة الأولى من الفعل الرباعي (أصدرَ) فيكون المعنى: حتى يأخذوا الأنعام وينصرفوا بها، وهذه قراءة الجمهور. فكأن الإنسان الوارد من أقبل على الماء، والصادر من انصرف عنه. قالتا: {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23] يعني: ليس عندنا رجال إلا أبانا، وأبونا شيخ كبير ضعيف لا يقدر أن يأتي بهذه الأغنام فيسقيها فاضطررنا لذلك، فسقى لهما عليه الصلاة والسلام كما سيأتي.

تفسير قوله تعالى: (فسقى لهما ثم تولى إلى الظل)

تفسير قوله تعالى: (فسقى لهما ثم تولى إلى الظل) قال تعالى: {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24] أعطى الله موسى قوة عظيمة حتى إنه ضرب رجلاً بيديه ضربه واحدة فقتله، ومن قوته أنه يأتي إلى بئر ماء عليها زحام من الناس، وهو المسافر المسافة الطويلة والمحتاج للنوم والراحة، ومع ذلك يزاحم الناس ويسقي. وقيل: إنه ذهب إلى بئر كانت مغلقة بحجر لا يحمله إلا عدد من الرجال فرفع غطاء البئر وحده وسقى أنعام هاتين الفتاتين، والله أعلم بالحال. لكن معناه: أن الله عز وجل أمده بقوة عظيمة من عنده حتى يصبر على هذا الذي هو فيه ويفعل هذه الأشياء العظيمة. ولما سقى لهما انصرف ولم ينتظر منهما الأجرة ولم يقل: أنا جائع أعطوني غنمة أكلها أو شربة لبن، فلم ينتظر أجراً إلا من الله. انصرفت الفتاتان وتولى من موسى إلى ظل شجرة قال تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24] يدعو ربه سبحانه وتعالى: رب إني محتاج لما تنزله علي من خير، أو إنك قد أنزلت إلي خيراً كثيراً وأنا محتاج إلى خير أكثر. وهذا الدعاء العظيم والطلب من الله فيه أدب الأنبياء مع الله سبحانه وتعالى، فلم يقل له: أنا فقير أو أنا هارب أو جائع، ولكن قال: يا رب أنت قد أنعمت علي بنعم عظيمة، فأعطيتني القوة ونجيتني من فرعون ومن معه، وأطعمتني وربيتني وفعلت بي خيراً عظيماً، وأنا الآن محتاج لمزيد من الخير.

تفسير قوله تعالى: (فجاءته أحداهما تمشي على استحياء)

تفسير قوله تعالى: (فجاءته أحداهما تمشي على استحياء) {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:25]، قوله تعالى: (فجاءته) الفاء تفيد الترتيب والتعقيب، فكأنه دعا فحصلت النتيجة حالاً من فضل الله سبحانه وتعالى. وقوله تعالى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [القصص:25] فيه أدب المشي للنساء، وأن المرأة تمشي في جانب الطريق لا في منتصفه ولا تمشي بحركات ملفتة للنظر كما تفعل نساء اليوم؛ لكنها تمشي على استحياء في طريقها، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أي تستر وجهها وهي تأتي في الطريق لتنادي موسى عليه الصلاة والسلام. {قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص:25] أي: أبي يدعوك ليعطيك أجر سقيك لنا. فذهب معها موسى عليه الصلاة والسلام لا طالباً للأجر، إذ ليس الأنبياء بالذين يأخذون أجراً على عمل يسدونه إلى الناس، ولكن لجيب إنساناً يدعوه، فليذهب لينظر ما المراد من دعوته له. وذكروا أن المرأة كانت تمشي أمام موسى عليه الصلاة والسلام في الطريق لتدله عليها، فجاءت الرياح فصفقت ثوبها، فكأنه استحيا أن ينظر إليها فقال: كوني من ورائي ودليني بصوتك على الطريق. ففعلت ذلك حتى وصل موسى إلى الرجل فلما جاءه وقص عليه القصص، {قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:25]. وهنا لم يذكر من هو هذا الرجل، وإن كان أكثر المفسرين على أنه النبي شعيب عليه الصلاة والسلام. وقالوا: إن موسى عليه الصلاة والسلام نبي تربى في بيت فرعون فترة طويلة في عزة ومال ورفاهية، فلا بد أن يتأدب قليلاً ليتعلم كيف يصبر على شظف العيش، ويصبر على الفقر ويصبر على العمل ويربي الغنم، وما من نبي إلا عوده ربه على ذلك حتى يتعود على تربية الناس بعد ذلك. فهنا موسى عليه الصلاة والسلام انتقل إلى بيت هذا الرجل، والنبي لا يتعلم إلا من نبي، لذلك قالوا: إنه شعيب عليه الصلاة والسلام. لكن بعض المفسرين يرى أنه ليس شعيباً، فقالوا: بين موسى وشعيب فترة طويلة، واحتجوا بالآية التي في سورة هود أن شعيباً قال لقومه: {وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} [هود:89]. قالوا: ولوط ابن أخ إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهلاك قوم لوط كان في حياة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وبين إبراهيم وبين موسى حوالي أربعمائة سنة، ولا يمكن أن يعيش شعيب أربعمائة سنة، فقوله: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} [هود:89] يعني أنهم رأوا الذي حصل لقوم لوط، أو كانوا قريبي العهد بهم، فتكون سنوات قليلة بين شعيب وقومه، وبين قوم لوط، وتكون الفترة بين شعيب وبين موسى فترة طويلة تزيد على ثلاثمائة سنة. ولكننا نقول: ما المانع أن يعمر الله سبحانه شعيباً هذه المدة كما عمر نوحاً ألف سنة. قالوا: لكن أهل الكتاب في كتبهم لم يسموه شعيباً وإنما سموه (ثيرون)، قالوا: فهذا الاسم غير اسم سيدنا شعيب عليه الصلاة والسلام. قالوا: فهذا يدل على أنه ليس شعيباً عليه السلام قبله. وأجيب بأنه قد يكون قريباً لشعيب، فيبقى البيت بيت نبوة منه رجل صالح قريب لشعيب وإن لم يكن شعيباً. قالوا: لو كان شعيباً لكان حرياً أن يذكره القرآن باسمه، ونحن نقف على ما قاله الله سبحانه إنه رجل، والله أعلم. فالرجل قال لموسى عليه الصلاة والسلام: {نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:25] ثم طلب منه أن يكون أجيراً عنده على ما يأتي بعد ذلك إن شاء الله. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة القصص [22 - 27]

تفسير سورة القصص [22 - 27] يتجلى حفظ الله لموسى عليه السلام في نجاته من فرعون وقومه، ووصوله إلى مدين في ضيافة رجل صالح، وقد رباه الله على حسن الخلق ومساعدة الناس والصبر على الشدائد، وحسن الوفاء بالمواثيق، وسورة القصص توضح لنا ذلك، وتبين أدب المرأة وحياءها لتكون مثالاً للعفاف والطهر.

العبر المستفادة من قصة فرار موسى إلى مدين

العبر المستفادة من قصة فرار موسى إلى مدين الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ * فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ * قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص:23 - 28]. يخبرنا الله تبارك وتعالى في هذه الآيات من سورة القصص، كيف أن موسى عليه الصلاة والسلام، خرج من مصر هارباً من فرعون متوجهاً إلى الشام، وهو لا يعرف طريقه، لكن خرج متوكلاً على الله سبحانه تبارك وتعالى، داعياً ربه أن يهديه سواء السبيل، وكان سبب خروجه كما ذكرنا من قبل أن رجلاً من آل فرعون أتى مسرعاً محذراً له من فرعون وقومه أنهم يأتمرون ويتشاورون فيما بينهم على قتل موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام. فقال: {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص:20]، أي: أنا ناصح لك، فاخرج من هذه البلدة إنهم يريدون قتلك، فأخذ موسى الخبر ونفذ الأمر وخرج صلوات الله وسلامه عليه خائفاً ممن هم وراءه من فرعون وقومه، متوجساً يراقب الطريق في خروجه، ويلتفت حوله من الخوف هل يدركونه أم أنهم لا يرونه. فقال موسى داعياً ربه: {رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:21]، وتوجه حيث وجهه الله سبحانه وتعالى، وحتى ذلك الحين لم يكن قد صار نبياً بعد إلا في علم الله سبحانه وتعالى، ولم يكن قد أعلمه الله سبحانه أنه يكون نبياً، ولم يكن قد أرسل إلى القوم بعد.

ذكر ما حدث لموسى عند وروده ماء مدين والفوائد التي نستفيدها من هذا الحدث

ذكر ما حدث لموسى عند وروده ماء مدين والفوائد التي نستفيدها من هذا الحدث قال تعالى: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ} [القصص:22]، أي: خرج ناحية الشام إلى بلدة مدين {قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ * وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ} [القصص:22 - 23]، أي: وجد خلقاً غفيراً من الناس، يسقون من بئر فيها المياه، يردون بإبلهم ومواشيهم وأغنامهم، فيسقون من هذه البئر، ووجد امرأتين من دونهم متخلفتين متأخرتين عن الناس، تذودان أي: تمنعان ما معهما من الغنم عن الورود حتى لا تضيع الأغنام، وهما لا تقدران على مزاحمة الناس، فاستشعر فيهما الضعف، فسألهما عن حالهما فقال: {مَا خَطْبُكُمَا} [القصص:23]، بمعنى: أي خطب حل بكما، وما المصيبة التي أنتما فيها بحيث إنكما لا تقدران على السقي، {قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23]. هنا أخبرتا موسى عليه الصلاة والسلام، فقالتا: لا نقدر على السقي مع هذا الزحام الشديد، وهذا يدل على حياء الفتاتين، قالتا: وأبونا شيخ كبير. إذاً: السبب في ذلك: أن الأب كان شيخاً طاعناً في السن، وكذلك كان ضعيفاً لا يقدر على ذلك، وقالوا أيضاً: إنه كان ضريراً، فهو لن يقدر على أن يسقي الغنم والإبل وهو على هذه الحالة، ولذلك خرجت الفتاتان وهما في غاية الحياء لا تقدران على مخالطة الناس مزاحمتهم، فكان منهما الانتظار حتى ينصرف الناس من هذا المكان، فتردان بما معهما من الأغنام للسقيا. قال تعالى: {فَسَقَى لَهُمَا} [القصص:24]، أي: أن موسى عليه الصلاة والسلام، أخذ ما معهما من إبل وغنم، فورد بهما وزاحم الناس وسقى لهما. وقيل: بل إنه وجد بئراً مغطاة، وكان عليها غطاء لا يرفعه إلا عشرة من الرجال أو أكثر من ذلك، فرفعه موسى عليه الصلاة والسلام وحده، وسقى من هذه البئر، فالله أعلم، ولكن قد حدث من موسى ما يدل على أنه قوي شديد القوة، حيث إن قوته كانت في أنه قطع أكثر من ألف كيلو متر ماشياً على قدميه صلوات الله وسلامه عليه، هارباً من فرعون، لا طعام معه ولا زاد إلا ما يجده في طريقه من أوراق الشجر ونحو ذلك، فهذا كان طعامه، ولذلك لما انتهى من السقي لهاتين الفتاتين دعا ربه سبحانه وتعالى أن ينزل عليه من خيره. ولما سقى لهما تولى إلى الظل، ونستفيد من ذلك أنه: لا يمتنع صاحب المعروف أو الإنسان المحسن من عمل المعروف حتى ولو كان به شيء من الضرر، فموسى كان مضروراً من خوفه من فرعون، ومن فراره وهربه، ومن مشيه هذه المسافة العظيمة البعيدة، ومن جوعه وعدم وجود ما يأكل، ومع ذلك سقى لهما وفعل بهما هذا المعروف العظيم، فذهبت الفتاتان، وموسى تولى إلى الظل عليه الصلاة والسلام: {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24]، أي: إني مفتقر إلى خيرك الذي تنزله علي، يعني: قد عودتني يا رب على الخير من عندك، وأنا مفتقر إلى هذا الخير الذي عندك. وهذا القول فيه أدب عظيم في الدعاء، وذلك أنه لم يقل: يا رب أنت حرمتني من الخير، يا رب أنت جعلتني جائعاً وأنت جعلتني عطشان، ولكن قال: أنت يا رب تنزل علي الخير دائماً، وأنا مفتقر إلى هذا الخير الذي تنزله علي. قال تعالى: {فَجَاءَتْهُ} [القصص:25]، والفاء تفيد الترتيب والتعقيب، أي: فأجاب الله دعاءه حالاً وجاءت إحدى الفتاتين تمشي على استحياء، فمدحها الله سبحانه وتعالى أنها في غاية الحياء، أي: ليست ماشية في وسط الطريق، ولا هي تقتحم الرجال وتأتي موسى، بل إنها حين جاءت إلى موسى أتت إليه وهي في غاية الحياء، مستترة متغطية، وهي تطلب من موسى ما أمرها أبوها. قال تعالى: {قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ} [القصص:25]، ولم تقل: تعال أريدك في كلمة، بل جاءت إليه وأخبرته أنها ليست هي التي طلبته، وإنما الذي يريده أبوها. {قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص:25]، هذا كلام فيه الجد، ولا يعتريه الهزل، وليس فيه ميوعة وليس فيه استطالة واستفاضة، إذاً: لا بد للمرأة حين تكلم الرجل أن تتكلم باستحياء، وتتكلم على قدر ما تريده فقط؛ ولذلك علم الله عز وجل نساء النبي صلى الله عليه وسلم كيف يتكلمن مع الغرباء فقال لهن: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} [الأحزاب:32]، أي: أنتن في غاية التقوى، ولكن لا يدفعكن هذا إلى الخضوع في القول: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32]. والإنسان قد يلين في القول من ناحية التواضع، ولكن إذا كان هذا التواضع سيطمع فيه من أمامه فلا داعي لهذا اللين في القول حتى لا يطمع فيه السفيه، ولذلك كانت هذه هي عادة المؤمنين التي مدحهم الله عز وجل عليها، أنهم أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين. إذاً: المؤمن لا يكون متواضعاً مع الكافر، ولا خانعاً له، ولكنه عزيز عليه، فلو أنه خنع خضع للكافر فهذا سيجعل الكافر يستكبر عليه، ويطلب منه ما لا يجوز للمؤمن أن يعطيه إياه، فلذلك كان المؤمنون أعزة في دين الله عز وجل على الكافرين، متواضعين فيما بينهم. وأما التواضع في النساء فلا يوجد مانع من التواضع، ولكن إذا كان التواضع يدفع للخنوع واللين في القول بحيث يطمع فيها الذي أمامها، ويظن أنها تريد شيئاً، فيراودها عن نفسها، فهذا لا يجوز، قال تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب:32]. فهذه الفتاة جاءت لموسى عليه الصلاة والسلام قال تعالى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [القصص:25]، فقد ظهر أدبها في مشيتها، وقالت له كلاماً فصلاً. قوله تعالى: {قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ} [القصص:25]، لماذا يدعوك؟ فلا بد أن توضح له، فمن الممكن أن موسى عليه الصلاة والسلام سوف يفكر لأي أمر من الأمور يريدني، ففصلت له هذا الشيء وأخبرته أنه يريد أن يعطيه أجرته على الذي عمل معهما، قال تعالى: {لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص:25]. إن موسى عليه الصلاة والسلام نبي، وقد علمه الله وأدبه ورباه، وإن كان حتى هذا الحين لا يعرف عن نفسه أنه سيكون نبياً إلا ما كان من وحي لأمه وهو ما زال طفلاً، وربما حدثته بذلك، وربما لم تحدثه، فقد أخبرها سبحانه وتعالى بذلك، قال تعالى: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7]، ولكن موسى إلى هذه اللحظة لم يوح إليه أنه سيكون نبياً أو رسولاً عليه الصلاة والسلام. إن هذه الفتاة وضحت لموسى سبب دعوة أبيها له، فقالت: {لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص:25]، ويظهر هنا أيضاً أدب موسى أنه لا كلام مع الفتاة؛ لأن الكلام مع الفتاة يفتح موضوعاً كبيراً قد يؤدي إلى الفتنة، فلم يقل: أنا لا آخذ أجرة، أنا عملت معروفاً ولا آخذ على المعروف شيئاً، فإن موسى إذا فعل ذلك سيفتح مجالاً للكلام، ولذلك لم يتكلم معها أكثر من أنه انصرف معها، وهي أمامه تدله على الطريق، فلما سارت أمامه هبت رياح كشفت جسدها؛ فقال لها: تنحي، وأمرها أن ترجع إلى الخلف، حتى يمشي هو أمامها، وهي تدله على الطريق. فجاء موسى عليه الصلاة والسلام إلى هذا الرجل، قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ} [القصص:25]، وفيه دلالة على تبادل الحديث فيما بينهما. {قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:25]، فقد كان موسى إلى هذه اللحظة خائفاً من فرعون أن يصل إليه في هذا المكان، فأخبره الرجل أن فرعون لا سلطان له في هذه البلدة، وبهذا نجوت يا موسى، فقد هربت منه ونجاك الله عز وجل من هؤلاء القوم الظالمين.

تفسير قوله تعالى: (قالت إحداهما يا أبت استأجره)

تفسير قوله تعالى: (قالت إحداهما يا أبت استأجره) وقوله تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا} [القصص:26]، أي: لأبيها، {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} [القصص:26]، لماذا تستأجره؟ قالت: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26]. ويتضح من ذلك أنها فتاة فصيحة وبليغة في كلامها، وعاقلة، فهي لما ذهبت لتدعو موسى مشت على استحياء وقالت له قولاً موجزاً: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ} [القصص:25]، ومن أجل ألا يقول لها: لماذا؟ ويفتح مجالاً للكلام معها قالت: {لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص:25]. فيذهب موسى عليه الصلاة والسلام وهو لا يأخذ أجراً من الناس على عمل المعروف، كان هذا عمل المعروف، ولا يجوز للمؤمنين أن يطلبوا أجراً على معروف أسدوه للناس، فكيف بموسى عليه الصلاة والسلام، ولكن الجدال ليس معها إنما مع أبيها، فلا بد أن يتوجه إلى أبيها، فإذا وصل إليه تكلم معه. إن الفتاة تقول لأبيها مشيرة عليه: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} [القصص:26] وبينت لأبيها السبب، فقالت: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26]. كأنها تقول: موسى قوي وأمين، ولكن من حياءها وأدبها في الكلام جعلت تقول ذلك، فعممت الكلام حتى لا يظن أبوها فيها أنها تريد موسى، فقالت: استأجر هذا؛ لأنه لا بد أن تكون صفة من نريد أن نستأجرهم، القوة والأمانة، وهذا الرجل فيه القوة والأمانة. وقد عرفت هذه الفتاة أنه قوي لأنها رأت موسى وهو يزاحم الخلق بالأنعام والأغنام حتى استطاع أن يصل إلى الماء ويسقي لهما، أو أنه عليه الصلاة والسلام رفع حجراً ثقيلاً لا يقدر على رفعه إلا عشرة من الرجال، وسقى لهما الغنم والإبل. وعرفت أنه أمين، وذلك لما سارت أمامه، فإذا به يأمرها أن تسير خلفه؛ حتى لا ينظر إليها، فكانت تسير خلفه، وتدله على الطريق وهي الطالبة له، وليس هو الطالب لها، عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. قالت: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} [القصص:26]، وهذه قراءة الجمهور، وقراءة ابن عامر وأبي جعفر: (يا أبتَ)، بفتح التاء، وكان أبو جعفر يقرأ: (يا أبتَ استاجره) مثل قراءة نافع وقراءة أبي عمرو. قال تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26]. أي: إن خير أجير تستأجره من كان قوياً ومن كان أميناً. وكذلك يعلمنا الله عز وجل كيف نستأجر الأجير، فهو يعلمك حين تستأجر الأجير أن تسلم مالك لإنسان تأتمنه، ويملك قوة على إدارة عملك، فإذا قصرت واستأجرت إنساناً خائناً، فالتقصير من عندك أنت فلا تلومن إلا نفسك؛ لأن الله علمك كما في هذه الآية: أن الأجير الذي يستحق أن يعمل عندك، أو يعينك في عملك، لا بد أن يكون قوياً على هذا العمل، فإن كان عملاً بدنياً كان قوياً في بدنه، وإن كان عملاً ذهنياً كان قوياً في عقله وفي تفكيره، وإذا كان عملاً يحتاج إلى أخذ وعطاء، فالقوة في العقل والقوة في أخذه وفي عطائه وهكذا، إذاً: بحسب العمل الذي يعمل فيه يكون قوياً على هذا العمل، وأميناً لا يضيع العمل ولا يضيع المال، ولا يضيع صاحب العمل، فهو قوي أمين.

تفسير قوله تعالى: (قال إني أريد أن أنكحك)

تفسير قوله تعالى: (قال إني أريد أن أنكحك) فقال الرجل لموسى عليه الصلاة والسلام: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص:27]. وهذا تفكير صائب من هذا الرجل الفاضل الصالح، إذ طلب من موسى أن يشتغل عنده في هذا المكان، فإنَّ موسى غريب، وهذا الرجل لا يوجد لديه أبناء، وهو ضرير، فموسى قد ينفرد مع بناته في مكان، صحيح أن موسى أمين، وأن موسى قوي، ولكن ما الذي يضمن كيف تكون الظروف عندما ينفرد مع بناته، لذلك طلب منه هذا الطلب. فهو لما وجده قوياً وأميناً وصالحاً، فأفضل شيء أن يتزوج واحدة من بناته ويمكث معها في هذا المكان، ثمان سنوات أو عشر سنوات، أي: فإذا كنت هارباً من فرعون، فإن مأواك هنا. فكان الرجل في غاية التفكير الجيد، وفي غاية التفكير الصائب حين يطلب منه تزوج إحدى ابنتيه، فقد قال هذا الشيخ لموسى عليه الصلاة والسلام: {إِنِّي أُرِيدُ} [القصص:27]، ولم يأمره بذلك، ولم يقل له: تزوج، بل قال: أنا أرغب في ذلك. قوله: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ} [القصص:27]، ولفظة النكاح هنا للتزويج، فإذا زوج إنسان إنساناً فلا بد من لفظة النكاح أو لفظة التزويج على خلاف بين العلماء في ذلك. ولكن قد نص عليها الله سبحانه، فقال: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص:27]، وليس في ذلك إيجاب للنكاح؛ لأن النكاح هنا على الإبهام، فالمعنى: اختر واحدة من الاثنتين وأنا أزوجك التي اخترتها. وقرأ الجمهور: {إِنِّي أُرِيدُ} [القصص:27]، وقرأ نافع وأبي جعفر: (إِنِّيَ أريد أن أنكحك) أي: أزوجك فعلاً وهذا ظاهر في قوله: أنكح. وقوله تعالى: {إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} [القصص:27] هذه قراءة الجمهور، وقرأها ابن كثير: (إحدى ابنتي هاتيّنِّ). وقوله تعالى: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص:27] فيه دلالة على الإجارة، فيكون مهر الفتاة الإجارة، بأن يكون أجيراً عند أبيها {ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص:27] أي: ثمان سنوات، قال: {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} [القصص:27] أي: تفضلاً منك لو زدتهن إلى عشر سنوات.

عدد سنوات الإجارة التي مكثها موسى عند شعيب

عدد سنوات الإجارة التي مكثها موسى عند شعيب يا ترى كم من السنوات التي مكثها موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام؟ جاء في حديث رواه الطبري، ورواه أيضاً أبو يعلى عن ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سألت جبريل: أي الأجلين قضى موسى؟ قال: أكملهما وأتمهما) أي: أن ثماني سنوات هي مدة الإجارة، وزاد موسى سنتين تفضلاً منه، فقد مكث موسى عشر سنوات. قوله: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} [القصص:27] أي: أن ثماني سنوات كافية، ولا أريد أن أحرج عليك أو أشق عليك. {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القصص:27]، فيه أن الإنسان لا يمدح نفسه بصفة الصلاح إلا أن يذكر: إن شاء الله؛ لأنك لا تدري لعل الله يغير ذلك، فهذه آداب عظيمة في كتاب الله عز وجل، فلنتعلم منها. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة القصص [27 - 29]

تفسير سورة القصص [27 - 29] أرسل الله سبحانه وتعالى الأنبياء رحمة لهذه البشرية، وجعلهم أهلاً لحمل هذه الرسالة وتبليغها إلى جميع الناس، وكان من تربيته لهم سبحانه أن جعلهم يرعون الأغنام ليتعلموا سياسة أمور الناس، ويتعلموا الرقة والرحمة والعطف عليهم، ولنا في قصة موسى في مدين عظة وعبرة، فقد كتب الله له الزواج فيها، واصطفاه بالرسالة إلى فرعون وقومه في طريق رجوعه إلى مصر.

ذكر ما يستفاد من قصة موسى مع الرجل الصالح الذي زوجه ابنته في مدين

ذكر ما يستفاد من قصة موسى مع الرجل الصالح الذي زوجه ابنته في مدين الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة القصص: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ * فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص:27 - 30]. يذكر لنا ربنا سبحانه وتعالى في هذه الآيات الكريمة، كيف خرج موسى صلوات الله وسلامه عليه هارباً من مصر، متوجهاً إلى مدين في بلاد الشام، ومن الله سبحانه تبارك وتعالى عليه بالأمان، وسقى للفتاتين أغنامهما وأنعامهما، ثم جاءته إحداهما تمشي على استحياء، ودعته لأبيها فذهب، وقالت له: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص:25] فذهب موسى إلى أبيها، فقص عليه قصته، مع فرعون، وكيف أنه فر هارباً منه، فقال مطمئناً له: {لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:25]. وذكرنا أن هذا الرجل على قول الكثيرين من المفسرين هو شعيب النبي عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، واستبعد ذلك بعض المفسرين، والأرجح أنه ليس شعيباً وإنما هو رجل صالح، ولعله من أبناء شعيب، أو أبناء أخي شعيب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. وهذا الرجل الصالح قالت له ابنته: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26]، فوصفته بأنه قوي، ووصفته بالأمانة، فقال الرجل: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص:27]. فأراد الرجل الصالح أن يزوج موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام من إحدى ابنتيه؛ حتى يمكث عنده في بيته، وفي بلده، فيكون أجيراً عنده، ثمان سنوات، ولم يذكر ما هي الأجرة التي سيأخذها موسى مقابل خدمته ثمان سنوات أو عشر سنوات؟ ولكن ذكر المفسرون أنه قال له: إنه لك من هذه الأغنام جزءاً، وفي بعض الروايات: أن له ما ولدت الأغنام في سنة من السنين على خلاف ألوان أمهاتها، فإذا كانت الأمهات سوداً فولدت بيضاء فهي لك، وإذا كانت الأمهات بلقاء فولدت حمراء فلك هذه، يعني: ما كان من أغنام على خلاف لون الأصل، قالوا ذلك، ولكن الله عز وجل لم يذكر لنا هنا ما الأجرة التي يأخذها موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام. لكن جاء في حديث ذكره الإمام القرطبي وإسناده فيه نظر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر أن موسى آجر نفسه على عفة فرجه، وعلى إشباع بطنه. لكن هذا كله لم يذكره الله عز وجل، لم يذكر إلا لفظ: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ} [القصص:27] أي: على أن تكون أجيراً عندي خلال هذه الفترة. وماذا سيكون مهر هذه الفتاة التي تزوجها موسى؟ أيضاً لم يذكر هنا إلا الإجارة، قالوا: إذاً سيكون أجيراً، والإجارة هي لنفع الرجل نفسه، فهل يأخذ من مهر ابنته ويشترط لنفسه؟ قد يكون هذا في شرعهم جائزاً، أما في شرعنا فلا يجوز، المهر في شرعنا للبنت، وليس لأبيها، فليس للأب أن يأخذ مهرها لنفسه، إلا ليزوجها به، وليحضر لها أثاثها وأمور بيتها مثلاً، أما أن يأخذ لنفسه المهر فليس له ذلك؛ لأنه ليس في شرعنا هذا الشيء، ولكن قد يكون هذا جائزاً في شرعهم. أو قد يكون المعنى أعم، أنه يكون أجيراً عنده، وأيضاً لنفع بناته من هذه الإجارة، فيخدم ويرعى الأغنام والأنعام، فيكون الناتج من ذلك جزء منه للأب وجزء للبنت، ولم يوضح لنا ربنا سبحانه ذلك، إنما ذكر {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص:27]. وقوله تعالى: {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا} [القصص:27] أي: إذا مكثت عشر سنين عندي فيكون هذا من عندك زيادة، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن موسى مكث الأجل الأتم والأفضل والأكمل. قال له الرجل الصالح: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} [القصص:27] يعني: لن تجد من أخلاقي الصعوبة والعسر، ولكن ستجد مني التيسير وتجد مني الصلاح إن شاء الله، قال: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القصص:27]. {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ} [القصص:27] هذه قراءة الجمهور. وقرأ نافع وأبو جعفر: (ستجدنيَ إن شاء الله من الصالحين)، فهنا الإنسان لا يمدح نفسه أنه من أهل الصلاح إلا أن يستثني فيقول: إن شاء الله أكون على ذلك، فلا يدري هل يستمر على ذلك أم ينقلب عن الصلاح.

تفسير قوله تعالى: (قال ذلك بيني وبينك)

تفسير قوله تعالى: (قال ذلك بيني وبينك) قال تعالى: {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ} [القصص:28] يعني: هذا العقد، أو هذا العهد بيني وبينك. قوله: {أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ} [القصص:28] يعني: أياً من الأجلين، سواء ثمان سنوات ثم أنا اكتفيت فيكون لي ذلك، أو عشر سنوات وفيها زيادة فلك ذلك. {أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ} [القصص:28] يعني: لا حرج علي في ذلك، وإنك لا تلزمني بأن أمكث الأجل الأكثر بحسب ما يشاء الله سبحانه وتعالى. وقوله: {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص:28] فجعل الله سبحانه وتعالى وكيلاً على ما يقولان، يعني: على ما يعقدان فيما بينهما. ومكث موسى هنالك عشر سنوات يرعى الأنعام، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (ما من نبي إلا ورعى الغنم). والحكمة في ذلك: أن الأغنام كثيرة الشرود والنفور وتحتاج إلى من يرعاها ويحوطها ومن يقوم بأمرها، وفيها الضعيفة، فيحمل الضعيف منها، وفيها المريضة، فيطعم المريضة ويراعيها وينظر في شأنها، فراعي الغنم فيه رقة، وفيه رحمة، وفيه حنان، فما من نبي إلا ورعى الأغنام. ولذلك ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن التواضع والرقة في رعاة الأغنام، وأن الكبر والخيلاء في الفدادين الذين هم رعاة الإبل وأصحابها، فصاحب الإبل متعود على أن يركب فوق سنام الجمل، وينظر إلى الناس من عل، فيتعالى على الناس إلا من رحم الله عز وجل. فلذلك لم يجعل ربنا سبحانه الأنبياء رعاة إبل، وقد تكون الإبل عند هذا الرجل الصالح تبعاً للغنم، عنده أغنام كثيرة والإبل قليل، أو كل ما كان عنده أغنام كما ذكر البعض من المفسرين، لكن الله عز وجل يعلم الأنبياء كيف يسوسون الناس بهذا الأمر، ولا يكون ذلك إلا برعيهم الغنم، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم وأنت؟ قال: (وأنا)، فقد رعى النبي صلى الله عليه وسلم الغنم لأهل مكة على قراريط. فهذا من الله تأديب لأنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام، وتعليم لهم وتخليق لهم على الحلم وعلى الصبر؛ لأن الأغنام تحتاج لصبر كثير من صاحبها في رعايتها، وأنه لو غفل عن أغنامه، جاء الذئب وأخذ منها، أو عاث فيها فساداً، والأغنام فيها شيء من الحمق، لو أن إنساناً ساق غنمة من أغنام كثيرة، فجرت الغنمة وقفزت من أعلى الجبل على الأرض لتبعها القطيع كله وقفز من فوق الجبل، ومات القطيع كله. ولذلك يحتاج راعي الغنم إلى أن يكون بصيراً برعاية الغنم، وإلى أن يعرف كيف يطعم هذه الأغنام، وكيف يكون معها، فالغنم تنفر بسرعة، ولو أن راعي الغنم أمسك عصاً وهي ذاهبة تشرب الماء؛ ليجعلها على الماء، لتركت الماء وهربت من خوفها وجبنها. فالأغنام تحتاج إلى من يسوسها، فالله عز وجل لحكمته جعل الأنبياء يعتادون على ذلك حتى يكون في أخلاقهم الحلم والصبر، وسياسة الأمر، كيف يسوسون أمر هذه الأغنام فيعتادون على سياسة أمور الناس إلى طريق رب العالمين سبحانه وتعالى. قال موسى {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص:28] فجعل الله هو الشاهد على ما فعل هو والرجل الصالح. وهنا لم يذكر الله لنا من شهد هذا الزواج، وقد تزوج موسى ولم يكن حتى هذا الحين من الأنبياء، إلا في علم الله سبحانه وتعالى، ولكن الله عز وجل ذكر أنه تزوج من إحدى الفتاتين، قال: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} [القصص:27]، يا ترى هل هذا زواج على الإبهام؟ هذا تخيير في البداية، فلما انتقى موسى إحداهما، قالوا: إنها الصغرى منهما، فصارت معينة فزوجه منها بهذا الشرط الذي اشترطه: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص:27]. ولم يذكر هنا شهوداً، واختلف العلماء في هل يشترط في النكاح الشهود أو يكتفى فيه بالإعلان؟ وقد ثبت في حديث النبي صلى الله عليه وسلم (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل) إذاً: لا بد من الشهود، ولكن كما يقول الإمام مالك رحمه الله: إنه إذا انتشر الخبر بين الناس واستفاض فحضروا، كفى الإعلان عن الشهود، فإن لم يعلن فلا بد من الشهود، وإلا فلا يصح النكاح.

تفسير قوله تعالى: (فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله)

تفسير قوله تعالى: (فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله) قال الله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} [القصص:29] يذكر لنا ربنا سبحانه وتعالى أن موسى قضى الأجل، ويذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن موسى عليه السلام قضى أكملهما وأتمهما، والأجل الأكمل والأتم عشر حجج، أي: عشر سنين. ولما قضى موسى الأجل وانتهت الفترة سار بأهله؛ لأن الرجل أحق بأهله، ولذلك يقول العلماء: إن الرجل أحق بأهله أن يذهب بها حيث يشاء في أمر حياته ومعاشه، مع حاجته لذلك، إلا أن يكون شرطاً في النكاح عدم الذهاب بها، فجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج)، فإذا تزوج إنسان من فتاة وأبوها شيخ كبير، وأمها امرأة عجوز، ويحتاجان لخدمتها، فزوجاها من إنسان واشترطا عليه أنها لا تخرج من هذه البلدة التي فيها أبواها؛ فتزوج الرجل منها ثم أراد أن يأخذها إلى بلدة أخرى، فلها شرطها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج). إذاً: طالما كانن الشرط مع النكاح أو قبل النكاح وفيه مصلحة للمرأة، فلا بد من الوفاء بهذا الشرط. فموسى عليه الصلاة والسلام لم يشترط عليه الرجل أن البنت تمكث معه، ولكن عشر سنوات وينتهي الأمر، وانتهى الأجل، فسار موسى بأهله و {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} [القصص:29] إذاً: هو خارج من الشام متوجه إلى مصر فتاه في الطريق عليه الصلاة والسلام، والله يريد ذلك حتى يربي موسى، وكان موسى قوياً شجاعاً عليه الصلاة والسلام، ولكن في النهاية خاف من فرعون ومن معه لما أرادوا قتله، فأراد الله سبحانه وتعالى أن يملأ قلبه بالتوكل عليه سبحانه وتعالى، وعدم الخوف إلا منه وحده سبحانه وتعالى، فالله يخلق الأنبياء ويربيهم. ولذلك رأينا نبينا صلى الله عليه وسلم يوم أن فر عنه الناس يوم حنين، قام وحده صلى الله عليه وسلم يقاتل ويدافع في سبيل الله سبحانه وتعالى، وفي يوم حنين كان جيش المشركين عشرة آلاف من هوازن، وجيش النبي صلى الله عليه وسلم كان اثني عشر ألفاً، وجيش النبي صلى الله عليه وسلم حسب أمر الانتصار لصالحه، فخرجوا للقتال حسراً، أي: ليسوا لابسين دروعاً، وانتظرهم الكفار فوق الجبال، فلما وصل جيش المسلمين رشقوهم بالنبال، وفر الجيش كله، ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا سبعون من اثني عشر ألفاً، وإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يترجل عن ناقته، ويتوجه إلى الكفار، ويقول: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) صلوات الله وسلامه عليه. وهذه شجاعة منقطعة النظير، إذ إن المطلوب في هذا القتال هو النبي صلى الله عليه وسلم وليس غيره، ومع ذلك يقول ذلك، وهذا مما خلقه الله عز وجل عليه، ووهبه له سبحانه من الشجاعة العظيمة والقوة العظيمة، حتى كانوا يقولون عنه صلى الله عليه وسلم: إنه أوتي قوة أربعين رجلاًَ صلوات الله وسلامه عليه، يقولون: كنا إذا احمي البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: عندما تشتد المعركة ويشتد القتال يحتمون بالنبي صلوات الله وسلامه عليه. فالله هو الذي يربي أنبياءه على الأخلاق العظيمة الفاضلة ويعصمهم سبحانه وتعالى، فأراد الله لموسى بهذه التربية أن يحسن التوكل على الله ولا يخاف إلا من الله سبحانه وتعالى، إذاً: لا بد أن يلاقي موقفاً من المواقف الصعبة التي يثبته الله عز وجل فيها، فمرنه ربه بهذا الليل، فهو في ليل بهيم مظلم وفي برد شديد قاس، وفي مكان تاه فيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فإذا به لا يعرف أين يذهب هو ومن معه من أهله، فسار بأهله ولم يعرف الطريق فإذا بالله سبحانه وتعالى يريه ناراً في مكان، قال تعالى: {آنَسَ} [القصص:29] أي: بعد أن كان مستوحشاً استأنس بهذه النار التي رآها من بعيد، وذلك بعدما استوحش من الظلمة، وتاه في الأرض. قال تعالى: {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ} [القصص:29] أي: من جانب الجبل في سيناء عند جبل الطور، كأنه وجد ناراً هنالك، {قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [القصص:29]. {إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} [القصص:29] يأمر أهله أن ابقوا وامكثوا في هذا المكان، وأنا أذهب. وهنا حكمة من الله أن يذهب وحده عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فيترك أهله في مكان ويطمئنهم، ويذهب هو وحده إلى هذه النار، حتى يأتي بخبر أو جذوة منها، فهو يريد أن يعرف أين الطريق، أو يريد شخصاً يخبره عن الطريق. فقوله تعالى: {آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} [القصص:29] أي: طالما أن النار موجودة فلا بد أن أحداً أوقدها، إذاً: سيكون هناك شخص يدلني عن الطريق، وإذا لم أجد أحداً، أجد على الأقل جذوة من النار نستدفئ بها في هذا البرد الشديد في ليل الصحراء القاسي. وقوله تعالى: {أَوْ جَذْوَةٍ} [القصص:29] أي: قبس من النار، يعني: قطعة من النار، أو خشبة أشعلها من النار فنستدفئ بها. {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [القصص:29] لعلكم تستدفئون بهذه النار. والقراءات في هذه الآية: {فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا} [طه:10] قراءة الجمهور. وقراءة حمزة: (قال لأهلهُ امكثوا) بضم الهاء فيها. قوله تعالى: {إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} [القصص:29]، قراءة الجمهور، بسكون الياء في لفظ: ((إِنِّي)). وقراءة نافع وأبي جعفر وأبي عمرو وابن كثير (إنِّيَ آنست ناراً). ومثلها: {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا} [طه:10] هذه قراءة الجمهور. وفي قراءة نافع وأبي جعفر وابن كثير وأبي عمرو وابن عامر: (لعلِّيَ آتيكم) وقوله: (بخبر أو جذوة من النار) فيها ثلاث قراءات: قراءة عاصم وحده: (جَذوة) بالفتح فيها. قراءة حمزة وقراءة خلف أيضاً: (جُذوة من النار). قراءة باقي القراء: (جِذوة من النار لعلكم تصطلون). أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة القصص [29 - 32]

تفسير سورة القصص [29 - 32] في سورة القصص يذكر الله تعالى حفظه لأنبيائه وتوفيقه لهم، فموسى اصطفاه الله بالنبوة وهو لم يكن يعرف ذلك، وقد كلمه الله وأيده بمعجزات وآيات ساطعة لمواجهة فرعون وقومه.

ذكر قصة موسى في وادي الطور

ذكر قصة موسى في وادي الطور الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة القصص: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ * اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [القصص:29 - 32]. يذكر لنا ربنا سبحانه وتعالى قصة مسير موسى عليه الصلاة والسلام من مدين بالشام إلى أن وصل إلى مصر، وكيف أن الله سبحانه أوحى إليه بالرسالة خلال هذه الرحلة قبل مجيئه إلى مصر، فصار نبياً رسولاً عليه الصلاة والسلام، وكذلك من الله على هارون فجعله نبياً. قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ} [القصص:29] أي: أخذ زوجه وانطلق من مدين متوجهاً إلى مصر بعدما قضى أكمل الأجلين وأتمهما عشر سنوات. وقوله تعالى: {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} [القصص:29] حيث إنه كان يسير بليل في شدة برد وشدة ظلام، وتاه موسى عن الطريق عليه الصلاة والسلام، وقد حصل له كل هذا؛ لأن الله أراد أن يربيه ويعوده على الشجاعة وعدم الخوف من أي شيء، فهذا من تعليم الله وتأديبه وتربيته لموسى عليه الصلاة والسلام.

تربية الله لموسى

تربية الله لموسى ربى الله سبحانه موسى في بيت فرعون فتعلم موسى عليه الصلاة والسلام كيف يكون الإنسان وهو في بيت غريب عن أهله، فقد صار كأنه منهم، وصنع موسى عليه السلام بعين الله سبحانه وتعالى في هذا المكان، ولم يغتر بذلك؛ وهذا بفضل الله عز وجل من تربيته لموسى، وقد علم موسى من هم أهله من بني إسرائيل فكان يقف بجوارهم، وكان يدافع عنهم، فكانوا لا يظلمون مع وجود موسى وعليه الصلاة والسلام، وهذا من فضل الله عز وجل على موسى وعلى بني إسرائيل، وقد رباه الله في بيت هذا الفرعون المتكبر الذي يزعم أنه الإله، بل ويزعم أنه الرب، ومع ذلك لم يمل موسى إلى ما هم فيه من بذخ ومن أمور ملك، ومن باطل ما هم فيه، حتى خرج من مصر، وقد ذكر الله عز وجل لنا من حكايته في مدين، ثم رباه عز وجل في بيت الرجل الصالح الذي هو في مدين عشر سنين وهو يرعى الغنم، وهذه تربية أخرى من الله عز وجل ليعود موسى كيف يربي الناس بعد ذلك، وكيف يصبر على أذاهم، فكان صبره عظيماً، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعجب من صبره عليه الصلاة والسلام، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ابتلي وأوذي بشيء يقول: (رحم الله أخي موسى، لقد أوذي بأكثر من هذا وصبر) فموسى صبر صبراً عظيماً عليه الصلاة والسلام، وهذا من قوله سبحانه: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39]، أي: برعايتي، وبكلاءتي، وبحفظي لك، فقد حفظه الله ورباه أحسن تربية على ما رأينا. وفي هذه الآية يبين الله عز وجل كيف أنه رباه على عدم الخوف إلا منه وحده لا شريك له، فموسى في ظلام الليل وفي شدة البرد، وفي مكان قد تاه فيه ولا يعرف الطريق، فآنس ناراً، أي: أنه استوحش فآنس هذه النار، فتوقع أن يجد بجوارها أحداً قد أوقدها، لعله يأتي منها بخبر، أين الطريق؟ وكيف يتوجه؟ أو يأتي بقبس من هذه النار، فيصطلي هو وامرأته في هذا المكان الشديد البرد. قال تعالى: {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [القصص:29]. ووصل موسى وحده عليه الصلاة والسلام إلى مكان هذه النار، فلما أتاها وجد أمراً عجيباً، وجد شجرة خضراء متقدة ومشتعلة ناراً، ومن العجب أنه لا الماء الذي في الشجرة يطفئ هذه النار، ولا النار تتغير من خضرة هذه الشجرة، فتعجب لأمرها، فلما أتاها ناداه ربه سبحانه وتعالى، قال تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} [القصص:30]، فوصل إلى الشجرة التي هي في بقعة مباركة في واد في طور سينا في الجبل المبارك، أو في الأرض المباركة. قوله تعالى: {نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ} [القصص:30] شاطئ المكان أي: جانب المكان. قوله تعالى: {مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ} [القصص:30]، يفهم من هذا وهو متوجه إليها أن الشجرة كانت على يمين موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، من شاطئ الوادي الأيمن من هذه البقعة المباركة، من أرض تسمى سِيناء، وتسمى سَيناء، وتسمى سينين، وقد ورد ذكرهم في القرآن، (سِيناء) و (سَيناء) قراءتان في الآية، و (سينين) طور سينين، والطور بمعنى: الجبل وسِيناء وسَيناء وسنين بمعنى المباركة، فهي أرض باركها الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك أمر الله سبحانه موسى فقال: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [طه:12]، أي: في مكان اسمه طوى، أو الوادي الذي قدسناه مرتين، وطهرناه مرتين. قال تعالى: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ} [طه:13]، فجاءت له الرسالة في هذا المكان عليه الصلاة والسلام، فهو مكان مبارك نزلت الرسالة على موسى فيه. ويقول سبحانه: {نُودِيَ} [القصص:30] الذي ناداه هو الله عز وجل، يدل على ذلك ما ذكر في سورة طه: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه:12]. وقوله تعالى: {نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ} [القصص:30]، فيخ دلالة على أنه سمع الصوت من داخل الشجرة. وقوله تعالى: {فِي الْبُقْعَةِ} [القصص:30] أي: في الأرض. وقوله تعالى: {الْمُبَارَكَةِ} [القصص:30] أي: من الشجرة. قال تعالى: {أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص:30]، فموسى متوجه إلى مصر، ومصر فيها الفرعون الذي قال للناس: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، وهو نفسه الذي قال للناس: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، فهنا يبين الله سبحانه وتعالى لموسى الذي يعلم أن الله هو الرب سبحانه، وأنه هو الأعلى وحده لا شريك له، فيقول له: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ} [القصص:30]. وقد ناداه سبحانه {أَنْ يَا مُوسَى} [القصص:30]، أي: اسمع يا موسى. وقوله تعالى: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص:30] هذه قراءة الجمهور. وأما قراءة نافع وأبي جعفر وابن كثير وأبي عمرو فهم يقرءون: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص:30]، وهذه الآية نداء من الله سبحانه لموسى، وجمع الله في هذه الآية بين الربوبية له سبحانه: أنه الرب المدبر لكل شيء، وأنه الخالق لكل شيء، وبين الألوهية له سبحانه: أنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له، فالرب الخالق هو وحده الذي يستحق أن يكون إلهاً حقاً معبوداً. وقوله تعالى: {الْعَالَمِينَ} [القصص:30] جمع عالم، أي: كل عالم، عالم الإنس، وعالم الجن، وعالم الحيوان، وعالم الحشرات، وعالم الأرض، وعالم السماء، وعالم الملائكة، وكل العوالم العلوية والسفلية، الله خالقها ورازقها ومدبر أمورها، وهو ربها سبحانه وتعالى.

تأييد الله لموسى بالآيات

تأييد الله لموسى بالآيات قال تعالى: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ} [القصص:31]. قوله تعالى: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} [القصص:31] أي: ارم عصاك على الأرض. وهنا كان أول العجب لموسى أنه يرى هذه النار في هذه الشجرة، ثم النداء من داخلها، والله عز وجل يناديه، فيقول له: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص:30]، فأسمعه الله سبحانه كلامه واختص موسى وحده بذلك عليه الصلاة والسلام، حتى جاء نبينا صلى الله عليه وسلم ولم يكلمه الله عز وجل على الأرض، فالنبي الوحيد الذي كلم على الأرض واختص بذلك هو موسى عليه الصلاة والسلام، أما نبينا صلى الله عليه وسلم فكلمه الله فوق السموات عليه الصلاة والسلام، حين رفع إلى سدرة المنتهى، ورأى نوراً، وكلمه ربه سبحانه وفرض عليه الصلاة، أما على الأرض فالذي خاطبه الله عز وجل وكلمه هو موسى؛ ولذلك وصف بأنه (كليم الله) أي: الذي كلمه الله؛ لقوله سبحانه: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143]، وهذا دليل على أن الله عز وجل كلم موسى عليه الصلاة والسلام. قال تعالى: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} [القصص:31] هذه معجزة ثانية وآية ثانية؛ حتى يعلم أنه رسول، وأن الذي يخاطبه هو الله عز وجل حقاً، فلابد أن يريه الله معجزاته، فقد رأى هذه الشجرة التي تتقد ناراً وهي لا تحترق، وسمع النداء من جوف هذه الشجرة، ولا يرى شيئاً عليه الصلاة والسلام، سوى هذه الشجرة. وقوله تعالى: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} [القصص:31] آية أخرى، وهي العصا التي في يد موسى عليه الصلاة والسلام، وقد ذكر الله ذلك في سورة طه، فقال: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه:17]، بعدما أمره بقوله سبحانه: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [طه:12]، فيستجيب موسى لأمر الله عز وجل، ويخلع نعليه لينال بركة هذا الوادي المبارك، أو ليتأدب مع ربه سبحانه وتعالى. ثم يقول الله له: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:17 - 18]. ويسرد الله عز وجل ذلك: أن موسى يتكلم عن يقين، أن هذه العصا يعرفها جيداً، ويعرف ماذا يعمل بها، عندما يمشي ويتكئ عليها، وليست شيئاً آخر. وقوله تعالى: {هِيَ عَصَايَ} [طه:18] العصا لي ولم أطلبها من أحد، ولم آت بها من أي مكان، فهي معي دائماً. قوله تعالى: {أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} [طه:18] أمشي عليها. وقوله تعالى: {وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} [طه:18] أي: عندما أرعى الأغنام أضرب أوراق الشجر، فينزل ورق الشجر فتأكل منه هذه الأغنام. وقوله تعالى: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:18] أي: منافع أخرى وحوائج أخرى. قال تعالى: {قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى} [طه:19]، أي: ارم هذه العصا على الأرض التي أنت متأكد أنها عصاك. فقال سبحانه: {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} [طه:20]، أي: فألقى العصا التي يعرفها تماماً على الأرض، فهذه معجزة وآية أخرى لموسى عليه الصلاة والسلام، وأيضاً هي نوع من التشجيع والتربية لموسى على ألا يخاف من شيء، في وسط هذا الليل البهيم المظلم والبرد القارس والمكان الموحش الذي لا أحد به إلا الله سبحانه وتعالى، فموسى عليه الصلاة والسلام، يمرن على الشجاعة وعلى ألا يخاف. قال تعالى: {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ} [النمل:10] أي: أن العصا وقعت على الأرض، فإذا بها دبت فيها الحياة واهتزت تسعى وتتحرك. قال تعالى: {كَأَنَّهَا جَانٌّ} [النمل:10] والجان والجنان: الحية والحيات، فقد وجدها موسى كحية عظيمة تسعى وتتحرك في الأرض، وتفتح فمها، فخاف موسى عليه الصلاة والسلام. قال سبحانه: {وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} [النمل:10] فالذي يولي مدبراً، أي: وجه ظهره إليه، والذي يعقب، أي: يرجع مرة أخرى وينظر، ولكنه لم يعقب، حيث جرى موسى عليه الصلاة والسلام من شدة الخوف، وقد أراد الله عز وجل أن يخيفه ثم يطمئنه حتى يتعود موسى عليه الصلاة والسلام على الشجاعة في المواقف التي ستكون أقل من ذلك. قوله تعالى: {وَلَّى مُدْبِرًا} [النمل:10] أي: أعطى ظهره وجرى. وقوله تعالى: {وَلَمْ يُعَقِّبْ} [النمل:10] أي: لم ينظر إلى هذا المكان، ولم يرجع إليه. وقال الله عز وجل لموسى: {يَا مُوسَى لا تَخَفْ} [النمل:10] أي: ارجع إلى مكانك مرة أخرى. وقوله تعالى: {إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ} [القصص:31] كأنه يقول: لأنك من الآمنين، أو نؤكد لك أنك من الآمنين، ارجع إلى مكانك. فرجع موسى إلى مكانه فأمره الله سبحانه وتعالى أن يأخذ هذه العصا مرة ثانية وهو في غاية الرعب، والحية تسعى أمامه، ولكن الله طمأنه، وقال: {خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى} [طه:21]، أي: سوف نرجعها مرة أخرى عصا كما كانت في يدك. فأمسك موسى عليه الصلاة والسلام بالثعبان فإذا به يرجع عصا مرة أخرى. فمن يمسك ثعباناً من رأسه، ولكن موسى عليه الصلاة والسلام شجعه ربه سبحانه بهذه التربية العظيمة، فأمسك بهذه الحية التي تسعى، فإذا بها ترجع مرة ثانية إلى هيئتها الحقيقة. وحجم الحية ذكره الله لنا في سورة طه أنه لما حاج موسى فرعون وجاء السحرة فألقوا حبالهم وعصيهم، فإذا بهذه الحبال والعصي يخيل إلى موسى من سحر هؤلاء أنها تسعى، فأمره الله عز وجل {أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} [الأعراف:117] فلما ألقاها، قال تعالى: {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الأعراف:117]، وهذا يدل على أنها حية ضخمة جداً التي كانت مع موسى عليه الصلاة والسلام. وقوله تعالى: {تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الأعراف:117] أي: تأكل كل العصي، وكل الأشياء التي أمامها، والتي ظن هو أنها حيات، فصارت شيئاً ضخماً، وعندما يؤمر موسى أن يأخذ هذه الحية الضخمة بيده مرة ثانية فهو شيء مرعب ومخيف، ولكن الله يطمئنه فيقول: {سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى} [طه:21] فيمسكها موسى مرة ثانية، فهو أمسك حية تسعى فصارت عصا مرة ثانية. فهنا يعلم الله عز وجل موسى حتى لا يخاف عليه الصلاة والسلام إذا حدث هذا أمام فرعون، فلو أنه كان للمرة الأولى أمام فرعون وهو خائف، ويمسك العصا ويرميها فتصبح حية، فمن الممكن أن يخاف موسى ويهرب أمام فرعون ويهرب من هم موجودون، ولكن الله يربي موسى على الشجاعة، فإن هذه الحية تمرين وتدريب على ذلك، فعندما تصير حية هناك لا يخاف موسى عليه الصلاة والسلام، قال الله عز وجل: {يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ} [القصص:31] فأمنه الله سبحانه وتعالى مما يحاذر الآن من أمر هذه الحية، وبعد ذلك مما هو قادم عليه مع فرعون وملئه. قال تعالى: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [القصص:32]. قوله تعالى: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ} [القصص:32] آية ثالثة، فالشجرة التي فيها النار آية من آيات الله سبحانه، وكلام الله عز وجل لموسى آية من آياته سبحانه، والعصا التي صارت حية آية من آياته، وهذه آية أخرى وهي قوله تعالى: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} [القصص:32] فالجيب: هو مكان دخول الرأس من القميص، فأمره الله عز وجل أن يدخل يده في جيبه، فأدخل موسى يده في جيبه. قال تعالى: {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [القصص:32]، وقد كانت يده سمراء، حيث إن موسى عليه الصلاة والسلام كان أسمر، فلما أدخل يده في جيبه، خرجت يده من جيبه بيضاء شديدة البياض لها شعاع كالشمس. قوله تعالى: {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [القصص:32] أي: تحولت إلى البياض، وهذا البياض ليس برصاً ولا بهاقاً، ولكن آية من آيات الله وجمالاً منه سبحانه فوق جمال موسى، أن تخرج بيضاء من غير سوء، ثم ترجع اليد مرة أخرى إلى ما كانت عليه. فهي آية من آيات الله عز وجل ليثبت موسى وليريه أن هذا حق من عند الله سبحانه. قوله تعالى: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} [القصص:32]، أي: إذا خفت ضع يدك على صدرك؛ يذهب الخوف؛ لذلك كان ابن عباس رضي الله عنه يذكر أنه ما من إنسان يخاف فيضع يده على صدره متوكلاً على الله منفذاً لذلك، إلا ويذهب الله عز وجل ذلك عنه، والله أعلم. وقوله تعالى: {مِنَ الرَّهْبِ} [القصص:32] هذه قراءة حفص عن عاصم بفتح الراء وبسكون الهاء. وأما قراءة شعبة عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف: (مِنَ الرُّهْبِ) وهو نفس المعنى. وقراءة بقية القراء: (مِنَ الرَّهَبِ) بالتحريك فيها، والمعنى: أنه إذا خشيت وأرهبت ضع يدك على صدرك؛ يذهب عنك الرعب، ويذهب عنك الرهب، فيطمئن موسى عليه الصلاة والسلام، فيقول له ربه سبحانه: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} [القصص:32]. فهذه جملة آيات وجميعها لموسى عليه الصلاة والسلام، ولكن منها ما هو لفرعون

تفسير سورة القصص [32 - 35]

تفسير سورة القصص [32 - 35] اصطفى الله سبحانه وتعالى موسى ليكون رسولاً إلى فرعون وقومه، وأيده بأخيه هارون وبمعجزتي العصا ويده التي تخرج بيضاء من غير سوء، وطلب موسى العون من ربه في تبليغه الرسالة دليل على افتقاره إلى ربه واتكاله عليه، وسورة القصص توضح لنا ذلك.

اصطفاء الله سبحانه لموسى عليه وسلم بالرسالة إلى فرعون وملئه

اصطفاء الله سبحانه لموسى عليه وسلم بالرسالة إلى فرعون وملئه الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة القصص: {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ * وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ * فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ * وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [القصص:33 - 37]. لما ذكر الله سبحانه وتعالى كيف أنه أوحى إلى موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وهو بالوادي المقدس طوى، وأن الله سبحانه وتعالى أراه آيات؛ ليربيه ويمرنه على الشجاعة وعدم الخوف من فرعون، وعلى أن يتشجع في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ففي هذا الوقت الذي أوحى إليه كان موسى عليه الصلاة والسلام تائهاً في صحراء شاسعة، في ليل مظلم، وبرد شديد، ومعه زوجه ليس وحده في الطريق، فإذا به يرى نوراً أمامه أو ناراً مشتعلة، فظن أنه إذا أتاها يحصل منها على قبس أو يعرف منها خبراً عن الطريق، فلما أتاها كان الوحي من الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [طه:11 - 13]. فجاءته الرسالة من رب العالمين سبحانه، وجاءه الاصطفاء والاتباع والاختيار من الله حيث قال له ربه: أنا اخترتك فاستمع لوحينا، {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [طه:13]، ثم قال: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} [طه:14]، فبدأ بالتوحيد، فالله عز وجل هو الإله المعبود وحده لا شريك له، والإله: هو المستحق للعبادة سبحانه وتعالى، وإن كانوا زعموا بوجود آلهة غير الله سبحانه، وهي آلهة باطلة، ولذلك معنى كلمة التوحيد: أشهد أن لا إله إلا الله، أي: أقر وأستيقن من قلبي وأؤمن كأني أرى أمامي هذا الذي أقوله، فأنا أشهد بالحق كأني أعاين هذا الحق الذي أشهد به، أنه لا إله إلا الله، وأنه لا يستحق العبادة حقاً إلا الله سبحانه وتعالى، ولا معبود حق إلا الله، فالمعبودات الباطلة كثيرة، فهذا فرعون نصب نفسه إلهاً على قومه، واستخف بهم، وقال لهم: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، فأطاعوه فيما هو فيه. فزعم فرعون أنه إله، بل تعدى وزعم أنه رب، حاشا لله أن يكون له شريك سبحانه وتعالى، فلما قال لهم ذلك، فهو إله من الآلهة الباطلة، والله عز وجل يذر الآلهة، ويقول سبحانه: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43]، فالآلهة الباطلة كثيرة، ولكن الإله الحق المعبود واحد لا شريك له، فعندما تقول: أشهد أن لا إله إلا الله، معناه: أنه لا يوجد إله حق إلا إله واحد سبحانه وتعالى؛ ولذلك أنت تعلم بوجود آلهة كثيرة كلها باطلة ولكن الإله الحق واحد؛ ولهذا لا يقال: أشهد أن لا إله إلا الله، بمعنى: أنه لا إله موجود إلا الله، هذا خطأ، فالآلهة الموجودة كثيرة، إنما التقدير الصحيح: لا إله حق إلا الله سبحانه وتعالى. هذا معنى كلمة التوحيد: أشهد أن لا إله إلا الله، وأما أشهد أن محمداً رسول الله، يعني: هو رسول هذا الإله الحق الذي أرسله إلينا برسالة، وبشريعة من عنده سبحانه وتعالى، إذاً: نحن نعبد الإله العظيم وحده لا شريك له، عن طريق المتابعة للنبي صلوات الله وسلامه عليه، فهذا هو الطريق الوحيد الذي يوصل إلى الله عز وجل وإلى ما يرضيه سبحانه، وإلى كيفية إقامة شرعه عن طريق معرفة سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وما جاء به من عند ربه من كتابه وسنته.

تأييد الله لموسى صلى الله عليه وسلم بالآيات وبأخيه هارون دليل على افتقار موسى إلى ربه

تأييد الله لموسى صلى الله عليه وسلم بالآيات وبأخيه هارون دليل على افتقار موسى إلى ربه عرفنا أن الله سبحانه أوحى إلى موسى، قال تعالى: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [طه:13]، فإذا كان الله قد اختاره فلا بد أن يبين الله أن الذي يكلمه هو نفسه سبحانه، وأنه هو الذي يؤيده بمعجزات، فأمره الله سبحانه وتعالى أن يلقي عصاه، قال تعالى: {فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} [طه:20]، وأمره الله أن يدخل يده في جيبه، قال تعالى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [النمل:12]، وهذه معجزة أخرى، قال تعالى: {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} [طه:23] أي: نريك الآيات العظيمة الكبيرة التي تقر بها عينك ويطمئن بها قلبك. قال الله سبحانه وتعالى: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} [القصص:32]، أي: فإذا خفت يا موسى فاضمم جناحك إليك، واضمم يدك إلى صدرك، يذهب الله عز وجل عنك ما تعانيه من خوف، {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ} [القصص:32] أي: آيتان قويتان من عند الله سبحانه إلى فرعون وملئه؛ لكي يعرفوا بهما الحق الذي أنت عليه، ثم قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [القصص:32] أي: خارجين عن طاعة الله. وقال موسى متعللاً ويطلب من الله عز وجل التثبيت أكثر: {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ * وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} [القصص:33 - 34]. هنا تعلل موسى بعلتين، لا ليترك الرسالة، ولكن ليعينه الله سبحانه، وليثبته، فهو يعترف بالضعف وبالعجز، وأنه محتاج إلى الرب سبحانه وتعالى ليعينه، فحري بالإنسان الذي يتوسل إلى الله ويتضرع إليه بعجزه أن يعينه الله سبحانه وتعالى، فالإنسان الذي يقول: يا رب، فإن الله معه؛ لأن الله يستحيي من عبده أن يرفع يديه فيردهما صفراً، فموسى دعا ربه سبحانه وهو في مدين قال تعالى: {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24]، فانظروا إلى أدب سيدنا موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فهو يتأدب في طلبه مع الله سبحانه، فمعنى قوله: يا رب، أنت أنزلت إلي خيراً كثيراً وأنا مفتقر إلى هذا الخير الذي أنزلت.

الأنبياء لا يطمعون في الدنيا ولكن لا غنى لهم عن بركة الله

الأنبياء لا يطمعون في الدنيا ولكن لا غنى لهم عن بركة الله اختبر الله عز وجل أيوب عليه الصلاة والسلام، وامتحنه ثماني عشرة سنة، ثم من عليه سبحانه وتعالى، بأن رد إليه صحته، ورد إليه ماله، وأعطاه الأولاد، وملأ له الخزائن التي كانت تملأ بالقمح وبالذرة أو بالشعير ذهباً، ثم إذا به يبتليه سبحانه ويمتحنه وينزل له من السماء جراداً من ذهب، فيبسط أيوب عليه الصلاة والسلام ثوبه ليأخذ هذا الذهب، فقال الله عز وجل لأيوب: ألم أكن أغنيتك عن هذا، أي: ما مقدار الجراد الذي هو من ذهب أمام الخزائن المملوءة بالذهب عندك، فإذا بالجواب العظيم من أيوب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، أن الأمر ليس في الذهب، ونحن نعلم أن هؤلاء الأنبياء الذين عصمهم الله سبحانه لا مطامع لهم بالدنيا، فلما سأله الله: لماذا تبسط ثوبك؟ قال: لا غنى لي عن بركتك، فهناك أشياء تنزل من السماء قريبة العهد بنا من الله سبحانه وتعالى، فهو لا يستغني عن بركته أبداً حتى لو أعطاه ما أعطاه، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك حين ينزل المطر من السماء، فيحسر ثوبه عليه الصلاة والسلام لينال من بركة ما نزل من السماء، فهذا المطر طهور، حيث قال الله عز وجل: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48]. فكان يحسر ثوبه لينال من بركة هذا الماء المنزل من السماء.

أسباب طلب موسى عون ربه على تبليغ رسالته

أسباب طلب موسى عون ربه على تبليغ رسالته قال موسى عليه الصلاة والسلام معترفاً بعجزه: إني ضعيف، ولن أذهب لقوم لا يسمعون لي، فأنا قد قتلت منهم نفساً، فأخاف أن يستقبلوني بالقتل، قال تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} [القصص:33]، أي: أنا هربت منهم عشر سنين وقد قتلت منهم نفساً {فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} [القصص:33]، أي: أخاف أن يقتصوا مني وأن يقتلوني بهذه النفس. وقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} [القصص:33]، على قراءة الجمهور، وأما قراءة يعقوب: (فأخاف أن يقتلوني). السبب الثاني: وهو أن في لسانه عقدة، وهو صغير كأن فرعون أراد قتله لأمر فعله موسى، وهو أن موسى عليه الصلاة والسلام لما حمله فرعون، قيل: إنه شده من لحيته، أو أنه عبث بها، فهم فرعون بقتله، فحاولت امرأة فرعون أن تصرف فرعون عن قتله، وتقول: إنه صبي لا يميز ولا يفهم، فأراد فرعون أن يعرف هل موسى يميز أو لا يميز، فقالت امرأة فرعون لفرعون: أره جوهرة وأره ناراً، فإن أخذ الجوهرة يقتل، فقيل: إنه مس جمرة بلسانه عليه الصلاة والسلام، ولم يمس الجوهرة، فالله عز وجل أرى فرعون أن هذا الصبي لا يفهم الذي يفعله، حتى ينجيه الله عز وجل منه، فكان موسى في لسانه عقدة، إذا نطق يصعب عليه النطق عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. وهذا سبب قول فرعون لقومه لما ذهب موسى يناظرهم كما قال تعالى: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52] فكلمة مهين أي: حقير، حيث إنه كان هارباً منا ثم رجع إلينا وهو لا يعرف أن يتكلم، ففرعون يعير موسى بأن فيه عقدة في لسانه، وأنه لا يجيد الكلام، قال تعالى: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52]. فموسى عليه الصلاة والسلام يعترف بعجزه لربه سبحانه، ويقول: إن لساني ضعيف، لا أستطيع أن أنطق ولا أستطيع أن أجادل هؤلاء، وإن أقصى ما يتمناه موسى أن يكون معه من يستطيع أن يتكلم عنه؛ ولذلك قال الله تعالى على لسان موسى: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا يُصَدِّقُنِي} [القصص:34]، وطلب موسى من ربه أن يزيل ما بلسانه من عقدة لا يقدر معها على الإبانة والإفصاح، فاستجاب الله له، فقال سبحانه في سورة طه: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه:25]، أي: أفسح صدري، ولا تجعله ضيقاً حرجاً؛ لأن الإنسان الضيق الصدر لا يستطيع أن يصبر على كلام الخصوم، فإنه إذا استمع إلى كلامهم سرعان ما يثور، وقد كان موسى عليه الصلاة والسلام فيه حدة، وفيه غضب لله، فكان سريع الغضب لله سبحانه وتعالى، ولذلك كان بنو إسرائيل يحبون هارون أكثر من موسى، وهارون كان أكبر من موسى بسنة، وكان أكثر ليناً مع بني إسرائيل من موسى، ولذلك لما مات هارون وهو مع موسى، ورجع موسى اتهموه بقتل هارون، قالوا: أنت قتلته؛ لأنه كان ألين منك وأرق منك قلباً، وهذا كذب وافتراء على موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. لما دعا موسى ربه كما قال تعالى: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه:25] دعاه دعوة أخرى فقال: {وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} [طه:26]، فإن توفيق الإنسان يكون بالله سبحانه وتعالى، فموسى عليه الصلاة والسلام لا يقدر على شيء بنفسه، إلا أن يقدره الله له، فطلب من الله أن يشرح له صدره، وأن ييسر له هذا الأمر الذي يتوجه إليه، ويدعو إليه ربه قال تعالى: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا} [طه:27 - 29]، فقال: وزيراً وهنا قال: {رِدْءًا} [القصص:34]، فالوزير: هو المؤازر، والمناصر والمدافع، أي: اجعل من يكون معي وزيراً يحمل معي الأوزار، والأثقال، ويحمل معي أعباء النبوة، وقوله تعالى: {رِدْءًا} [القصص:34] أي: ناصراً ومدافعاً، يدافع عني بشيء آخر. قال تعالى: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا} [القصص:34]، أي: يستطيع أن يتكلم ويجيد التعبير عما يقول، فهذا فصيح اللسان، وأما البليغ: فهو الإنسان الذي يتكلم بكلام موجز قليل يعبر به عن معان كثيرة، والله سبحانه جعل للأنبياء هذه الخصائص، جعلهم يجيدون التعبير عن الأشياء العظيمة بألفاظ قليلة، وأجود بلاغة بلاغة نبينا صلوات الله وسلامه عليه، حيث قال صلى الله عليه وسلم عن نفسه قال: (أوتيت جوامع الكلم)، أي: مجامع الكلام، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعبر بالكلمات الموجزة التي تشرح في مجلدات كثيرة، فلو أخذنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار)، فقد بنى عليه العلماء قواعد فقهية ومسائل كثيرة جداً، وخرجوها من هاتين الكلمتين.

اختلاف القراءات في قوله تعالى (فأرسله معي ردءا يصدقني)

اختلاف القراءات في قوله تعالى (فأرسله معي ردءاً يصدقني) قوله تعالى: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا يُصَدِّقُنِي} [القصص:34]، فقراءة الجمهور: {فَأَرْسِلْهُ مَعِي} [القصص:34]، وقراءة حفص عن عاصم: (أرسله معيَ ردءاً يصدقني)، فقوله: (ردءاً)، هي قراءة البعض، وقراءة نافع: (ردا يصدقني)، وكذلك قراءة أبي جعفر، ولكنه يقرأ: (أرسله معي ردا يصدقْني)، وكأن (يصدقْ) جواب الأمر، حيث إن قوله: (أرسلهْ معي) طلب فكانت مجزومة على قراءة نافع، وكذلك قراءة أبي جعفر. وبقية القراء يقرءون: (فأرسله مَعِي ردءاً يصدِّقُني). فموسى عليه السلام طلب من الله عز وجل أن يعينه بهارون، فيكون معه وزيراًَ، ويكون معه معيناً ومدافعاً، ومقوياً له عليه الصلاة والسلام؛ لأنه يخاف من تكذيب هؤلاء. واستجاب له ربه سبحانه، فقال سبحانه في سورة طه: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه:36]، أي: كل ما سألت، فكل الذي طلبته: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه:52 - 32]، كل هذا استجبنا لك فيه، قال تعالى: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه:36]، وليس الآن فقط، فقد مننا عليك قبل ذلك بنعم كثيرة، قال تعالى في سورة القصص: {سَنَشُدُّ} [القصص:35]، أي: سنقوي، {عَضُدَكَ} [القصص:35]، أي: أمرك، وأصل العضد: يد الإنسان، وذراع الإنسان عضده، فهو يمسك الأشياء بيده ويبطش بها ويأخذ ويعطي، ويعبر بذلك عن القوة، فقال: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ} [القصص:35]، أي: سنقويك في أمرك، بأخيك هارون. قال تعالى: {وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا} [القصص:35]، والسلطان: هو الحجة والبيان من الله سبحانه وتعالى، أي: بيان قوي وحجة قاهرة باهرة، قال تعالى: {فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا} [القصص:35]، فالله عز وجل يعصمهما؛ لأنهما نبيان من أنبياء الله، وقد قيل: إنه كان أنفع أخ لأخيه على مر التاريخ موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام. فهو الوحيد الذي نفع أخاه بمثل هذه المنفعة العظيمة؛ لأن النبوة ليست كسباً يكتسبها الإنسان، فالوحيد الذي فعل به ذلك هو هارون؛ ببركة دعاء موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فالله عز وجل جعل أخاه بدعائه نبياً. قال تعالى: {وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا} [القصص:35]، وهنا طمأن الله موسى أن فرعون لن يستطيع عليه، لذلك كان موسى في غاية الشجاعة، حين يكلم فرعون ويرد عليه الحجة التي كان يقولها فرعون، فحجة فرعون ضعيفة، ويرد عليه موسى بالحجة القوية، التي يبهت بها فرعون، فلا يقدر أن يرد عليه، قال تعالى: {وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص:35]. هنا أخبر الله سبحانه أن موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام هو وهارون الغالبان، وليس هما فقط، بل قومهما معهما، فقال تعالى: {أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص:35]، وذلك حين نعطيكم الحجة والبرهان، قال تعالى: {وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا} [القصص:35]، فبالسلطان الذي من الله، وبقوة المناصرة من الله، لا يصلون إليكما. ثم قال تعالى: {بِآيَاتِنَا} [القصص:35]، أي: لا يصلون إليكما وأنتما معكما الآيات من عند الله، قال تعالى: {بِآيَاتِنَا} [القصص:35]، أي: بتأييدنا ستغلبون هؤلاء: {أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص:35]، فكان وعد الله حقاً، فقد نصر الله موسى وهارون وقومهما على القوم الظالمين. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة القصص [36 - 49]

تفسير سورة القصص [36 - 49] يخبر الله تعالى عن مجيء موسى وأخيه هارون إلى فرعون وملئه، وعرض ما آتاهما الله من المعجزات الباهرة الدالة على صدقهما فيما أخبرا عن الله عز وجل من توحيده واتباع أوامره، فلما عاين فرعون وملؤه ذلك وشاهدوه وتيقنوا أنه من عند الله عدلوا بكفرهم وبغيهم إلى العناد والمباهتة، فكان عاقبتهم أن أهلكهم الله جميعاً، وذلك جزاء الظالمين.

تفسير قوله تعالى: (فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات)

تفسير قوله تعالى: (فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} [القصص:36]. ذكر لنا ربنا سبحانه وتعالى في هذه الآية وما قبلها كيف أنه أرسل إلى موسى صلوات الله وسلامه عليه، وأنزل عليه الوحي لما جاء موسى إلى طور سيناء، فالله سبحانه وتعالى كلمه وأسمعه سبحانه كلامه، وأوحى إليه بأنه صار رسولاً له سبحانه، قال تعالى: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [طه:13]، أي: استمع لوحينا، فأوحى الله عز وجل إليه: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14]. ثم أمره سبحانه أن يذهب هو وأخوه هارون إلى فرعون إنه طغى، وذلك بعدما سأل موسى ربه سبحانه أن يجعل هارون معه نبياً، جاءت الرسالة لموسى عليه الصلاة والسلام، وتوجه موسى إلى فرعون فذهب إليهم بآيات الله سبحانه التي علمه ربه والتي دربه عليها.

ذكر محاجة موسى لفرعون وقومه

ذكر محاجة موسى لفرعون وقومه قال الله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ} [القصص:36] ومكث فيهم موسى فترة طويلة يدعوهم إلى الله سبحانه، وناظرهم وحاجهم، وقال له فرعون: من هذا الرب الذي تدعو إليه؟ أو لك رب غيري؟ فموسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أجاب فرعون بإجابات فصيحة وبليغة، وقد شفاه الله عز وجل مما كان بلسانه من عقدة، فأجاب فرعون وحاجه، ولم يقدر فرعون على الرد على موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام كما تقدم في الآيات في سورة طه، قال: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى * قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى} [طه:49 - 54]. وفرعون كان يقول لقومه: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، فبين موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أن الذي يخلق والذي يرزق، والذي ينزل من السماء ماء وينبت به أزواجاً من نبات شتى، والذي يطعمكم ويسقيكم ويعطيكم هو الله سبحانه وتعالى. وفرعون يعلم في نفسه أنه حقير وأنه ليس إلهاً، وأنه كذاب يكذب على قومه، وفرعون لم يكن له أولاد، فكان يكذب على قومه ويخدعهم ويقول: أنا ابن الشمس؛ وذلك لأنه لم يكن له أبناء، فكان يوهمهم أنه ليس منهم وإنما هو ابن للشمس، فاتبعوه وعبدوه من دون الله سبحانه وتعالى، وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وأوهمهم أنه يقدر على الخلق فقال: {وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51]، فاستخفهم فأطاعوه. فيبن موسى للجميع أن الرب الله سبحانه وتعالى: {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:26]، قال فرعون لقومه: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء:27] فقال موسى: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء:28]، ففرعون رمى موسى بالجنون؛ لأنه لا يقدر على المواجهة بالقول وبالحجة، فإذا به يذكر قومه بما كان عليه موسى قبل ذلك، قال: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52]، أي: أنا خير من هذا الذي يزعم الخيرية، وليس عنده ما يدل على ذلك. فلم يقدر فرعون في معرض المناقشة أن يأتي بجواب مقنع أو برد مفحم على ما يقوله موسى، وإنما غاية ما هنالك أنه يعجب القوم منه ويقول: {أَلا تَسْتَمِعُونَ} [الشعراء:25] وقال: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء:27]، فلما لا يجد بداً من أنه يواجه بالقوة يقول له: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء:29] أي: فلجأ فرعون إلى التهديد وإلى الوعيد، فموسى يقول له: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ} [الشعراء:30]، أي: أولو جئتك بآية بينة من عند رب العالمين: {قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} [الشعراء:31 - 33]. هذه الآيات التي أراها الله عز وجل لموسى قبل ذلك ودربه عليها حتى لا يفزع موسى حين يراها للمرة الأولى، فلما ألقى العصا فإذا هي ثعبان مبين، فيفزع فرعون ومن معه، ولا يفزع موسى عليه الصلاة والسلام، ثم يأخذ هذه الحية من الأرض فترجع مرة ثانية عصا، ويريهم يده ويخرجها من جيبه فإذا بها كالشمس لها شعاع، فيتعجبون لذلك، ففرعون حين رأى ذلك سارع بأن يقول: {إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} [الشعراء:34] وقال في سورة طه: {فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ} [طه:58] أي: لنأتينك بسحر أعظم من هذا السحر الذي أتيت به أو مثله، {فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى} [طه:58] هذه حجة الإنسان المهزوم الذي يرى نفسه ضعيفة. ففرعون حين رأى ما فعل موسى وذلك بفضل الله سبحانه، رأى نفسه مهينة حقيرة وأنه غير قادر على مجابهة موسى فقال: أعطنا وقتاً حتى نأتي لك بسحر مثل هذا الشيء، ولذلك قال: {فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى} [طه:58]، أي: نختار مكاناً وسطاً يجتمع فيه الناس كلهم. ففرعون يرى نفسه ضعيفة، فيلجأ إلى السحرة، ويبعث إليهم من أقصى الأرض ومن أدناها، من شمال مصر ومن جنوبها، فيجتمع إليه السحرة الذين يرغبون في القرب من فرعون، ويرغبون في مال فرعون. قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء:41]، أي: هل ستجعل لنا جائزة إن كنا نحن الغالبين؟ يقول لهم: {نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الشعراء:42] أي: سأعطيكم أجراً إن غلبتم موسى، ليس هذا فحسب، بل سأقربكم إلي وستكونون جلسائي. فلما اجتمع السحرة وألقوا حبالهم وعصيهم وهم كفار وقالوا: {بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء:44] فهم يقسمون بعزة فرعون إنهم هم الغالبون، فهم عندما ألقوا كان منظرها منظراً مخيفاً، حتى إن موسى عليه وعلى نبينا عليه الصلاة والسلام فزع، وإذا بالله يطمئنه ويثبته ويقول: {لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى} [طه:68] أي: أنت أعلى من هؤلاء، وأنت ستغلبهم، {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا} [طه:69]، فألقى عصاه فإذا بها تأتي إلى كل هذه الحبال والعصي التي أخافت موسى فتلتهمها ولا تترك منها شيئاً، {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:69]. فالسحرة الآن عرفوا ما هو الحق، فخروا لله سجداً {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الشعراء:47 - 48]، أما فرعون فإنه لم يؤمن؛ لأنه يظن أن ذلك يضيع منه الملك، وطمس الله على قلبه ولم يهده، ليكون إماماً إلى النار والعياذ بالله، فإذا بفرعون يستكبر على هؤلاء، ويقول: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} [طه:71] أي: ستنظرون من الذي هو أشد عذاباً، أهذا الإله الذي يتوعدكم موسى به، أو أنا؟ فالسحرة قد استيقنوا من أمر ربهم سبحانه، وقد دخل الإيمان في قلوبهم، فإذا بإيمانهم إيمان قوي، فقالوا: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا} [طه:72] لا نفضلك على هذه الآيات، وأقسموا بالذي فطرهم وهو الله أنهم لا يؤثرون فرعون على ما جاءهم من الآيات والبينات. فإذا بفرعون يقتل هؤلاء السحرة، ويقطع يداً ورجلاً من كل إنسان، ويصلبهم على جذوع النخل، فكانوا في أول النهار كفاراً سحرة، وكانوا عن الله بعداء، وإذا بهم في آخر النهار يصيرون مؤمنين شهداء، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء. فالسحرة جاءوا إلى فرعون حتى يقربهم، فإذا بهم يرون الآيات فيؤمنون بالله وحده لا شريك له ويقتلون شهداء، ويخاف قوم موسى من فرعون، فإذا بالله يؤيده بآيات وراءها آيات كما قال هنا: {فَلمَّاَ جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} [القصص:36].

ذكر الآيات التي أرسلها الله على فرعون وقومه

ذكر الآيات التي أرسلها الله على فرعون وقومه ذكر سبحانه وتعالى أن الله أيد موسى بتسع آيات بينات من عنده سبحانه، منها: اليد والعصا، فهما آيتان من عند الله سبحانه. وكذلك قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} [الأعراف:133]، فهذه خمس آيات من الله سبحانه وتعالى لهؤلاء القوم. ثم بعد ذلك قال: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف:130] آيتان أخريان، فالجملة تسع آيات من عند الله سبحانه وتعالى، فهو سبحانه أخذهم بالقحط وعدم المطر وقلة المياه وعدم الثمرات، {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف:130]. فهرعوا إلى موسى وطلبوا منه أن يدعو الله سبحانه وتعالى لعله يكشف عنهم فيؤمنوا، فكشف عنهم فلم يؤمنوا، فأرسل عليهم الطوفان، فهم لما نقص الماء استجاروا، فإذا بالله يرسل عليهم الماء شديداً عليهم، فيجأرون ويلجئون إلى موسى أن يكشف عنهم، فيدعو ربه فيكشف عنهم، فيرجعون إلى الكفر ولا يؤمنون، فأرسل عليهم الجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات، فإذا بهم يرون هذه الآيات، آية وراء آية تملأ بيوتهم وأراضيهم فيفزعون إلى موسى، أكل الجراد ثمارهم، فإذا بهم يجأرون إلى موسى ويقولون: ادع ربك يكشف عنا هذا، ونؤمن لك، ونرسل معك بني إسرائيل، فلما كشف عنهم الجراد الذي أكل زروعهم فإذا بهم لا يؤمنون، ويرجعون إلى تكذيبهم وإلى عادتهم الأولى، فإذا بالله سبحانه وتعالى يرسل عليهم الضفادع فملأت بيوتهم، فإذا بهم يستغيثون بموسى، فكشف الله عز وجل عنهم فكذبوه، فأرسل عليهم الدم في طعامهم وفي مياههم حتى كان الشيء أمامهم يجدونه مليئاً بالدم، فإذا بهم يستغيثون بموسى فيكشف عنهم، ومع ذلك لم يعتبر هؤلاء القوم، والله عز وجل له حكمة في أن يؤخر عذابهم حتى إذا أهلكهم، رأى الناس كيف يأخذ الله عز وجل الظالم المعاند أخذ عزيز مقتدر. فهنا يخبر الله سبحانه عن قولهم في هذه الآيات لما جاءتهم: {قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى} [القصص:36] أي: مختلق، {وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} [القصص:36] أي: أول مرة نسمع مثل هذا الكلام، وهذا ليس جواباً بحجة، فهؤلاء قالوا: ما سمعنا بهذا الكلام قبل ذلك، هذا ليس رداً للحجة، ولكن الحجة ترد بمثلها، فلم يكن عند فرعون ولا قومه من الحجج ما يردون بها على موسى إلا أن يقولوا: لم نسمع بهذا.

تفسير قوله تعالى: (وقال موسى ربي أعلم وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون)

تفسير قوله تعالى: (وقال موسى ربي أعلم وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون) قال الله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [القصص:37]. (ربي أعلم) هذه قراءة الجمهور. وقراءة نافع وأبي جعفر وابن كثير وأبي عمرو: ((ربيَ أعلم)). قوله: ((وَمَنْ تَكُونُ لَهُ)) هذه قراءة الجمهور. وقراءة حمزة والكسائي وخلف: ((ومن يكونُ له)). قوله: ((ومن يكون له عاقبة الدار)) يعني: من تكون له العاقبة الحسنة يوم القيامة. قوله: ((إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)) أي: مهما ظلمتم أيها القوم فإن عملكم لا ينجح، ولن تفلحوا في الدنيا ولا في الآخرة. وقال فرعون لقومه: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] يقول: ((ما علمت)) وهو كذاب في نفسه ويعرف ذلك، وقال: ((يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ)) يبجلهم ويعظمهم حتى يستجيبوا له، ولم يقل: (يا أيها الناس) ولكن قال: ((يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ)) أي: يا كبار القوم يا وزراء يا رؤساء، {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]. ثم قال: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ} [القصص:38] أي: سأذهب لأبحث عن الإله الذي يقول عنه موسى هذا، مع أنه لا يوجد في الأرض إله غيري، بزعمه وبكذبه لعنة الله عليه، فقال لـ هامان وزيره: ((فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ)) أي: اصنع لي طوباً أحمر من الآجر قوياً شديداً وابن لي صرحاً عظيماً وبرجاً عالياً هائلاً، حتى أطلع على هذا البرج وأنظر أين إله موسى هذا الذي يقول عنه، قال: {فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [القصص:38]. وهنا قوله: ((لعلي)) فيها قراءتان: يقرؤها نافع وأبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر (لعليَ) بفتح الياء، والباقون (لعليْ أطلع) بسكونها. ثم قال: {وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [القصص:38] الكذاب هو الذي يعلم أنه إنسان ضعيف، وأنه يحتاج إلى برج، ولو كان إلهاً لما احتاج إلى برج ليصعد عليه، والناس لو كانوا عقلاء لفهموا ذلك، ولكن الله عز وجل وسمهم ووصفهم بأن عقولهم خفيفة وأنهم أغبياء لا يفهمون، قال: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف:54]. صعد فرعون فوق هذا الصرح العالي البناء المرتفع الهرم الذي بناه له لينظر في السماء، ثم نزل بعد ذلك وقال: ما رأيت إلهاً، فموسى يكذب عليكم فلا يوجد شيء فوق في السماء، وكأنه صعد إلى السماء أمام قومه، وقال قبل أن يصعد: ((وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ)) فهو لما صعد رجع إليهم وزعم لهم أن موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام يكذب. قال الله تعالى: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ} [القصص:39]، أي: فرحوا بما أخبرهم به فرعون لما رجع إليهم، وقال: ما رأيت إلهاً، فاستكبروا في الأرض بغير الحق وظنوا في أنفسهم أن الله لا يحاسبهم ولا يجزيهم، وظنوا أنهم لو بعثوا لكانوا أفضل حالاً مما هم عليه الآن، ولذلك كانوا يحنطون جثثهم ويجعلونها في القبور حتى يرجعوا للملك مرة ثانية. قراءة الجمهور ((لا يُرْجَعون)). وقراءة حمزة والكسائي وخلف ونافع ويعقوب: ((لا يَرْجعون)).

تفسير قوله تعالى: (فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم ويوم القيامة هم من المقبوحين)

تفسير قوله تعالى: (فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم ويوم القيامة هم من المقبوحين) قال الله تعالى: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [القصص:40]. وبعد هذه الاستطالة خلال سنين طويلة إذا بالله عز وجل ينصر جنده، ليعلم النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون أنه مهما طال زمن الاضطهاد، ومهما طال زمن الأذى على المؤمنين، أنه لابد وأن يأتي يوم ينصر الله عز وجل عباده ويهزم هؤلاء الكفرة، ففعل بفرعون ما سمعنا، قال: ((فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ)). وانظر إلى التعبير: ((فنبذناهم)) والنبذ هو الإلقاء بالشيء الحقير، كأنه شيء تقدر عليه وتملكه فتأخذه بيديك وترميه بيدك؛ لحقارته وضعفه ولقوتك وقدرتك. فأخبر الله سبحانه أنه نبذ فرعون وألقاه في اليم كما تلقى المهملات، قال: ((فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ)) أي: هذا الذي علا واستكبر يرمى كالزبالة بداخل اليم، فانظر وتعجب لأمر الله سبحانه. وقال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص:41] أي: جعلنا فرعون وملأه وجنوده أئمة يدعون إلى النار بإغوائهم، فهم كانوا يغوون الناس ويدعونهم إلى الضلالة، فكانوا أئمة الضلالة هم ومن اتبعهم في النار. قال سبحانه: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ} [القصص:41] أي: لا يجدون ناصراً لهم، ففرعون وجنوده في نار جهنم لا ينصرهم أحد. وقال تعالى: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} [القصص:42] أي: قفينا على آثارهم، فمن يسمع بذكر فرعون وجنوده، يقول: لعنة الله عليه وعليهم، لا أحد من المؤمنين يذكرهم بخير، إلا ما كان من أهل الاستخفاف ومن أهل الحماقة ومن أهل الجهل، الذين يقولون: آباؤنا الفراعنة فيفتخرون بهم، فهؤلاء أتباعهم وأشياعهم، ومن افتخر بهم كان سبيله النار وراء فرعون؛ كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلين في عهد موسى افتخرا وذكرا الآباء، فأحد الاثنين افتخر بالآباء عن الآخر، فقال له: أنا فلان بن فلان بن فلان، وعد تسعة آباء له، وقال الآخر: أنا فلان بن فلان بن الإسلام، -أي: يكفيني شرف الإسلام، فافتخر بدين رب العالمين سبحانه- فأوحى الله إلى موسى: أن قل لهذين المفتخرين: أنت افتخرت بتسعة آباء من الكفار أنت عاشرهم في النار، وأنت افتخرت بالإسلام فأنت في الجنة). فهذا الذي افتخر بالآباء الكفار كهؤلاء الذين يقولون: أجدادنا الفراعنة، يعني: يفتخرون بالكفار، فهذا مآلهم: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} [القصص:42] فكل من يقلد فرعون ويتبعه فهو ملعون في الدنيا، ففرعون وجنوده وملؤه من ذكرهم من المؤمنين، قال: لعنة الله على فرعون وعلى أشياعه وعلى أتباعه وعلى جنوده. ثم قال: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} [القصص:42] أي: من أهل القبح، يقبحهم الله، ويشوه وجوههم، ويحشرهم في نار جهنم زرق العيون سود الوجوه، على أقبح ما يكون من الكلاحة قبحهم الله، فمن يسمع بذكرهم يقول: لعنة الله عليهم وقبحهم الله، {وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} [هود:98]، {بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} [هود:99]، بئس ما يردون عليه يوم القيامة وبئس ما يعطون من عطاء في نار جهنم والعياذ بالله، فاحذروا وحذروا من يفتخر بآل فرعون، فإنما هم جهلاء لا يدرون، يفتخرون بالكفار الذين يتبعونهم في الدنيا، فيتبعونهم في نار جنهم يوم القيامة، نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.

تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى)

تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى) قال الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص:43]. لما أخبرنا الله سبحانه وتعالى بقصة فرعون وكيف أنه سبحانه أهلكه وأتبعه في هذه الدنيا لعنة، وجعله هو وقومه يوم القيامة من المقبوحين، وجعلهم أئمة يدعون إلى النار، ذكر بعد ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل قد آتى موسى الكتاب، يعني: التوراة من بعد هلاك قرون سابقة، يعني: لم يكن هذا الأمر جديداً، ولم يكن بدعاً من الرسل عليهم الصلاة والسلام، ولكن كما فعل الله بقوم فرعون فعل بقرون سابقة بأقوام قد كفروا بالله سبحانه وكذبوا المرسلين، فأهلكهم الله سبحانه، كقوم نوح وعاد وثمود وأصحاب الأيكة وقوم لوط وأصحاب مدين وغير ذلك من الأمم التي أهلكها الله عز وجل، فقد جعلهم الله عز وجل عبرة، وآتى موسى الكتاب يذكره بهؤلاء كيف صنع بهم. قوله: ((وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ)) أي: أعطيناه وأنزلنا عليه التوراة، ((مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى)) القرون: جمع قرن، والقرن الأمة من الناس الذين يدركهم زمان واحد، فنقول مثلاً: القرن الذي فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فكل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وعاش مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عاشوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم وقد رأوه فهؤلاء قرن، حتى إذا انقرض هؤلاء، فقد انقضى قرن من القرون، ثم قرن يليهم الذين لم يروا النبي صلى الله عليه وسلم، ورأوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فهؤلاء قرن حتى ينقضي آخر هؤلاء ممن رأى الصحابة، فيأتي قرن آخر وهم الذين لم يروا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورأوا الذين من بعدهم وهكذا، قرون في أزمنة متتالية، فأهلك الله عز وجل قروناً كثيرة، إما بالعذاب، وإما بالموت الذي يأتي على الجميع. قوله: {بَصَائِرَ لِلنَّاسِ} أي: آتينا موسى التوراة بصائر للناس ليتبصروا وليتذكروا، وليعتبروا بهذه التوراة التي أنزلها الله عز وجل على موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام. ثم قال: {وَهُدًى} [القصص:43] من الضلالة لمن عمل بها. فإذاً: التوراة تبصرة للناس وكذلك هداية من الضلالة لمن عمل بها ورحمة من الله سبحانه وتعالى، فإنزال الكتب السماوية رحمة من الله عز وجل للعباد. كان من الممكن أن يكتفي سبحانه بما جعل في قلوب العباد من فطر تعرف ربها سبحانه ويحاسبهم على ذلك، وقد أخبرنا في كتابه سبحانه وتعالى أنه جمع هؤلاء الخلق في يوم من الأيام وفي زمن الأزمنة قبل أن يوجدهم هكذا على هذه الأرض، فأخذهم من ظهر آدم وأشهدهم على أنفسهم، فقال لهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172] هذا ميثاق من مواثيق الله عز وجل على عباده، لا يذكر العباد هذا الموقف، ولكن الله يذكرنا به: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:172] أي: لئلا تقولوا يوم القيامة: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:172]. كأن الناس وهم في الدنيا يغفلون عن ذلك، ولكن كل إنسان في قلبه ما يدل على خالقه سبحانه، فالذي يقول: لا خالق لا رب لا إله، هذا كذاب شهد الله عز وجل أن في قلبه ما يدله على الخالق سبحانه، حتى وإن نطق بلسانه بخلاف ذلك. ومن أفظع وأعظم هؤلاء الكذابين فرعون، هذا الذي قال للناس وأمرهم أن يعبدوه من دون الله، قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، أي: ما علمت من يستحق العبادة إلا أنا، فهذا الكذاب اللعين قال ذلك، وقال لقومه: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، فلا استقر على هذا الذي قاله ولا استمر عليه حتى مات، بل لما أهلكه الله قال مستغيثاً بالله: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90]. هذا الذي قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، وقال: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [القصص:38]، فهذا أعظم الكذابين المفترين قال في وقت هلاكه وغرقه: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ} [يونس:90]. صدق الله العظيم حيث أخبرنا في كتابه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87]، فكل إنسان مهما تعالى ومهما استكبر ومهما زعم أنه مخلوق بالصدفة، فإن في قلبه ما يدل على خالقه سبحانه وتعالى، ولكنه جاحد، فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33]، فهم يكذبون آيات الله مع معرفتهم أنها الحق، فربنا سبحانه وتعالى جعل في قلوب العباد فطراً تدلهم على خالقهم سبحانه وتعالى. أيضاً أخذ عليهم الميثاق الذي غفلوا عنه، فقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172]، كذلك جعل في كل إنسان عقلاً يتفكر ويعرف أن كل أثر يدل على المؤثر في هذا الأثر، وكل شيء يدل على واجد هذا الشيء، فالإنسان بعقله لو فكر واستقام عقله وبعد عن الهوى وعن الشهوات وعن العصبيات لعرف أن الله هو خالقه، وأنه الحق الذي يستحق العبادة سبحانه وتعالى. كان من الممكن أن يكتفي ربنا سبحانه وتعالى بذلك، ولكن نزل الكتب رحمة منه سبحانه، كما قال هنا: {بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى} [القصص:43] تبصيراً للناس، فإن كنت متغافلاً فهذه الكتب تدلك على خالقك سبحانه وتعالى، وتدلك هذه الآية على معجزة من معجزات نبيك صلوات الله وسلامه عليه، وتهديك إلى صراط مستقيم. قوله: ((وَرَحْمَةً)) أي: أن إنزال الكتب رحمة من رب العالمين، لو لم ينزل الكتب لاستحق الخلق عذاب رب العالمين. قوله: ((لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)) أي: لعلهم يتذكرون الآن ما نسوه قبل ذلك، فيهتدون، ولعلهم يذكرون النعم ويعبدون خالق هذه النعم سبحانه، ويقيمون على إيمانهم، ويثقون بثواب الآخرة.

تفسير قوله تعالى: (وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر)

تفسير قوله تعالى: (وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر) قال الله تعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه ذاكراً نعمه عليه: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [القصص:44] يعني: هذه القصة ساقها الله عز وجل وكرر ذكرها في القرآن، فقد ذكر موسى في القرآن أكثر من مائة وثلاثين مرة، وذكر ما أنزله عليه وما فعله بنو إسرائيل معه، وما فعله فرعون معه قبل ذلك، كل ذلك لم يره النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقرأه، ولم يجلس مع أهل الكتاب يحدثونه عن ذلك، ولكن معجزة من معجزاته، فقد جاءهم بالتفاصيل التي حدثت بين موسى وفرعون، فهذه رحمة من رب العالمين على النبي صلى الله عليه وسلم، وآية من آياته، ومعجزة للنبي صلى الله عليه وسلم أن أطلعه الله عز وجل على شيء ما كان يعرفه هو ولا يعرفه العرب الذين جلس معهم صلى الله عليه وسلم وهو منهم. فلذلك يقول الله هنا مذكراً له ولهم بهذه النعمة: أنت لم ترَ ذلك فليتعظ هؤلاء وليتعظ أهل الكتاب، وليتذكروا أن هذا لا ينطق بكذب، قد جاءكم بما قاله موسى وما فعله مع فرعون، وما فعله الله عز وجل مع بني إسرائيل ومع فرعون، فكيف عرف النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؟ لا شك أنه وحي من رب العالمين. فلذلك يقول: ((وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ)) أي: لم تكن بجانب الجبل الغربي، يعني: إذا جئت أنت إليه وجعلت وجهك جهة القبلة يكون هو تجاه الغرب. قوله: ((إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ)) أي: أوحينا إليه بأمر الرسالة، ((وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ)) أي: لم تشهد ذلك حتى تحدث به، كم بينك وبين موسى؟ آلاف السنين.

تفسير قوله تعالى: (ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر)

تفسير قوله تعالى: (ولكنا أنشأنا قروناً فتطاول عليهم العمر) قال الله تعالى: {وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [القصص:45]. قوله: ((ولكنا أنشأنا قروناً)) أي: أوجدنا وخلقنا قروناً يأتيهم رسول يذكرهم، وبعد ذلك يتباعد الزمن بينهم وبين رسولهم فيتطاول عليهم العمر، فإذا بهم يرجعون إلى الكفر وإلى الضلال، فقال: ((فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ)) أي: طالت عليهم السنون فنسوا ربهم سبحانه وتعالى. قوله: ((وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ)) أي: لم تكن مقيماً في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا، يعني: قصة موسى عليه السلام مع صاحب مدين، لم تكن أنت معهم حتى تعرف كيف تزوج موسى، وكيف حدثت له هذه القصة التي هي من خصوصيات موسى، عرفها أهل الكتاب وأنتم لم تعرفوها إلا من عند الله سبحانه، حين أخبركم بها. فقوله: ((وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا)) أي: مقيماً ((فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا)) أي: تذكرهم بالوعد والوعيد، {وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} أي: أرسلناك إلى هؤلاء كما أرسلنا موسى إلى قومه، وكما أرسلنا شعيباً إلى قومه وهكذا.

تفسير قوله تعالى: (وما كنت بجانب الطور)

تفسير قوله تعالى: (وما كنت بجانب الطور) قال الله تعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص:46]. أي: لم تحضر جانب الجبل في المكان الغربي منه حيث نزلت الرسالة على موسى عليه الصلاة والسلام. قوله: ((إِذْ نَادَيْنَا)) أي: كلمنا موسى وناديناه. ((وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ)) أي: رحمة بكم أنتم أيها المؤمنون، بأن أوحى إليكم بهذه الرسالة الخاتمة التي تعظ الناس وتعلم الناس، وهي الشريعة الأخيرة التي تنزل من السماء على الخلق، فرحمكم الله عز وجل بذلك. وفي صحيح مسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله اطلع إلى أهل الأرض فمقتهم جميعهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب) أي: مقتهم الله قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كانوا على الكفر وكانوا على الشرك بالله، حتى أهل الكتاب كانوا على الكفر والشرك، إلا بقايا من أهل الكتاب ممن عرفوا الله عز وجل وعرفوا أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام، وانتظروا النبي صلى الله عليه وسلم، فكان تنزيل هذا القرآن رحمة من الله بالخلق، وإلا لو ماتوا على ذلك لكانوا كلهم في النار. ((وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ)) يعني: هؤلاء الذين كان فيهم صلى الله عليه وسلم لم يأتهم نذير إلا بقايا من ملة إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام؛ لأن موسى لم يرسل إليهم، لذلك لا يعرفون شيئاً عن شرع موسى، ولم يدعُ هؤلاء، والمسيح عيسى عليه الصلاة والسلام لم يدعُ هؤلاء، وإنما بعث إلى خراف بني إسرائيل الضالة، فهؤلاء من قرون لم يأتهم نذير، فلذلك كانوا أهل فترة، حتى جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم فبلغهم الرسالة، فاستحقوا الوعد واستحقوا الوعيد بعدما جاءهم النذير من رب العالمين، ((وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)). إذاً: من نعمة الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الخلق أنه أرسله رحمة للخلق جميعهم، للإنس وللجن، وهذه من خصائصه، قال: (وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وأرسلت إلى الناس كافة).

تفسير قوله تعالى: (ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم)

تفسير قوله تعالى: (ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم) قال الله تعالى: {وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [القصص:47]. أي: لولا نزلت عليهم بلية وعذاب من السماء، ليس بظلم من الله، ولكن بما كسبت أيديهم، فهؤلاء لو أهلكهم الله بعذاب فإنما ذلك بسبب كفرهم وشركهم، فهم كانوا يعرفون الله سبحانه، حتى ذهب رجل منهم إلى بلاد الشام، فوجدهم يعبدون أصناماً، وهذا الرجل هو عمرو بن لحي الخزاعي فأتى بصنم فوضعه في مكة، فأعجب أهل مكة هذا الصنم، فصنعوا أصناماً مثله حول الكعبة، فكفروا وأشركوا بالله سبحانه وتعالى. قوله: ((ولولا أن تصيبهم مصيبة)) أي: بسبب هذا الذي صنعوه وبكفرهم وبعدهم عن الله، ثم تشريعهم لأنفسهم أشياء ما أنزل الله بها من سلطان، قال تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [المائدة:103] فهم يفترون ويقولون: هذه محرمة؛ لأنها وصيلة، وهذه محرمة؛ لأنها حام، وهذه محرمة؛ لأنها كذا، فيجعلون من الأنعام سوائب يسيبونها، فلا يأكلها أحد ولا ينحرونها بدعوى أنها سائبة متروكة هكذا، ويحرمون أشياء ويقولون: هذه لذكورنا خاصة دون نسائنا، فإذا كانت ميتة فهي للذكور وللإناث جميعاً، وإذا كانت مذكاة فهي للذكور خاصة، نقول: من الذي أحلها هنا وحرمها هنا؟ هم بعقولهم الفارغة يكذبون على الله ويشرعون تشريعات باطلة، فيقول الله سبحانه: ((وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ)) أي: تصيب قريشاً، وتصيب العرب، ((مصيبة)) أي: عذاب من عند الله، ((بما قدمت أيديهم)) أي: من كفر وشرك بالله، فإذا حدث شيء: {فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا} [القصص:47]، هذا كلامهم وهذه حجتهم، لم نكن نعرف شيئاً، لو أرسلت إلينا رسولاً لاتبعنا آياتك: ((فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ))، والإنسان في تمنيه يقول ما يشاء، ولكن المحك والاعتبار بما يحدث في الواقع، فالآن نقول لكم: هذا الرسول قد جاء إليكم فماذا أنتم فاعلون؟ هل ستتبعونه أم لا؟ وقبل إتيان الرسول يخبر الله عز وجل أنه لو تركهم من غير رسول وعذبهم فإنهم يستحقون العذاب، ويوم القيامة سيقولون: لو أرسلت إلينا رسولاً، والله أعلم من الذي سيصدق ومن الذي سيكذب؟ ها نحن أرسلنا إليكم رسولاً، ومع ذلك كذبتموه، فهؤلاء عندما يبعثون يوم القيامة سيقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:107]، أي: أخرجنا من النار ولو رجعنا إلى الكفر والشرك فإنا ظالمون، فالله أعلم بما في قلوب عباده، وما الذي يستحقونه، لو عذبهم فهو غير ظالم لهم سبحانه، ولو رحمهم فبفضله وبكرمه سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (فلما جاءهم الحق من عندنا أتبعه إن كنتم صادقين)

تفسير قوله تعالى: (فلما جاءهم الحق من عندنا أتبعه إن كنتم صادقين) قال الله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} [القصص:48]. يعني: الخلق لا يعجبهم شيء، الله يهديهم وينزل عليهم الرسالة ويرسل إليهم الرسول ولا يعجبهم ذلك، فيطلبون من الله تعنتاًَ ويقولون: {لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} [القصص:48] يعني: هو جاء لنا بقرآن، فنحن نريد أن نرى معجزات، وذلك بأن يأتي لنا بعصا تنقلب ثعباناً، نريد أن نرى يداً تبقى بيضاء مثل الشمس، نريد أن نرى كذا ((لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى)). كذلك اليهود قالوا هذا الشيء لما أمروا بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم والدخول في دينه، والعجب أنهم كانوا يعرفونه قبل أن يبعث صلوات الله وسلامه عليه، يعرفون صفاته بما قرءوه واطلعوا عليه في كتبهم، بل كانوا يتوعدون المشركين بأنه سيبعث رسول، وأنهم سيقاتلون مع هذا الرسول في هذا الزمان، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كانوا أكثر خلق الله عداوة وبغضاً للنبي صلوات الله وسلامه عليه وللمؤمنين، فقال الله سبحانه في هؤلاء المشركين واليهود الذين قالوا: ((لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى))، قال الله سبحانه: ((أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ)) يعني: هؤلاء لم يصدقوا موسى من قبل. فاليهود ينجيهم الله سبحانه فيكذبون موسى، ولما ذهب موسى لميقات ربه قالوا: ضل موسى عن ربه، وهذا رب موسى عندنا، وذلك لما صنع لهم السامري العجل، {فأخرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} [طه:88]، يعني: موسى نسي إلهه وذهب يبحث عنه فوجدناه أمامنا. فهؤلاء عبدوا العجل الذي صنعه لهم السامري من دون الله، أليس هؤلاء هم الذين رأوا الآيات التي نزلت على موسى، ومع ذلك كفروا فعبدوا العجل من دون الله سبحانه؟ فاستحقوا عقاب الله، فأمرهم بأن يقتل بعضهم بعضاً بما كفروا وكذبوا على الله سبحانه، فقال الله في الجميع: {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} [القصص:48]، قوله: ((قالوا سحران)) يعني: التوراة والقرآن سحران اجتمعا مع بعضهما، فلا نصدق هذا ولا ذا، هذا قول المشركين. قوله: ((قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ)) هذه فيها قراءتان: قراءة الكوفيين عاصم وحمزة والكسائي وخلف: ((سحران تظاهرا)) يعني: التوراة والقرآن. وقراءة باقي القراء: ((ساحران)) وهم يقصدون محمداً صلى الله عليه وسلم وموسى عليه الصلاة والسلام، أو محمداً وعيسى عليهما الصلاة والسلام. ((قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا)) اجتمع بعضهما إلى بعض، ((وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ))، فقال مشركو العرب عن موسى وعن محمد عليهما الصلاة والسلام: سحران أو ساحران تظاهرا، وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما، أما اليهود فقالوا ذلك عن موسى وعن هارون: ((قالوا ساحران تظاهرا)) ثم صدقوا بهما بعد ذلك. أو أن المشركين وكذلك اليهود يقولون ذلك عن المسيح وعن محمد صلوات الله وسلامه عليهما، فيقول اليهود عن المسيح: ليس هو المسيح الذي يبعثه الله، وكذلك قالوا عن النبي صلوات الله وسلامه عليه، فجمع الله أقوال الجميع، ((قالوا سحران)) يعني: عن كتب الله سبحانه التوراة والقرآن، أو عن رسولين من رسل الله: محمد صلوات الله وسلامه عليه والمسيح، أو محمد وموسى. فإذاً: اليهود كذبوا بالمسيح وكذبوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأهل مكة الكفار كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم ومن قبله من الرسل ولم يتبعوا أحداً منهم، ((وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ)). فقال الله سبحانه للجميع: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [القصص:49]، أي: أنتم تقولون: إن الرب الذي في السماء خلق كل شيء، وتعبدون الأصنام حتى تقربكم إلى الله، فأين دليلكم على ذلك، هاتوا كتاباً من الله يدلنا على أنكم صادقون فيما تقولون؟. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصلّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة القصص [48 - 53]

تفسير سورة القصص [48 - 53] لقد عرف أهل الكتاب من اليهود ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، واستقر في قلوبهم أنه الحق، ولكنهم عاندوا واستكبروا عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وعن الإيمان به، وقليل من رهبانهم وأحبارهم الذين عرفوا علامات النبي الكريم وآمنوا به واتبعوا الحق الذي أنزل عليه، فاستحقوا بذلك أن يمدحهم الله سبحانه ويثني عليهم.

ما صد به اليهود المشركين عن اتباع دعوة الحق

ما صد به اليهود المشركين عن اتباع دعوة الحق الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين: قال الله عز وجل في سورة القصص: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} [القصص:49 - 53]. لما أخبر الله سبحانه تبارك وتعالى في سورة القصص عن الكفار من المشركين وأهل الكتاب الذين جاءهم الحق من عند الله سبحانه وتعالى: {قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} [القصص:48] أي: أن اليهود قالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولقنوا المشركين أن يقولوا: {لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} [القصص:48]. قال الله عز وجل: {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} [القصص:48] أي: هؤلاء اليهود الذين يلقنون المشركين أن يقولوا ذلك. فقد كان المشركون يذهبون إلى اليهود يسألونهم: ماذا نفعل مع هذا الرجل؟ وهل هذا الرجل على حق أم لا؟ وهل نحن أهدى سبيلاً أم هو؟ فكان اليهود كعادتهم في الكذب يقولون لكفار العرب: أنتم أهدى منه سبيلاً، مع أن المفترض أن اليهود يعرفون التوحيد، ويعرفون أن هؤلاء المشركين عباد أوثان، وأن عبادتهم باطلة، ومع ذلك يقولون: {هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء:51]، فيكذبون في أمر العقيدة الذي يعرفونه، ويلقنون المشركين أن يطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بآية مثلما جاء موسى بآية، فقد جاءنا باليد، وبالعصا التي صارت حية، وجاء بتسع آيات بينات، فاطلبوا مثل هذه الآيات من النبي صلى الله عليه وسلم يأتيكم بها إن كان نبياً حقاً، فطلب المشركون من النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال الله عز وجل عن هؤلاء اليهود الذين طلبوا من المشركين هذا الطلب: {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} [القصص:48]، أي: أن اليهود قد كانوا صدقوا بهذه الآيات ورأوها أمامهم، لكنهم كفروا وعبدوا العجل من دون الله سبحانه، قال الله عز وجل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30]، فلم تنفعهم هذه الآيات التي جاءت من عند الله سبحانه ليستمروا على التوحيد، ويستقروا على أمر عبادة رب العالمين سبحانه. قال الله عز وجل: {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} [القصص:48] أي: أن أول ما جاء موسى اعتقدت اليهود أن ما جاء به موسى سحر، أو قالوا ذلك، أو أنهم كفروا بعد ذلك بموسى، حتى أمرهم الله سبحانه تبارك وتعالى أن يقتل بعضهم بعضاً. فاليهود قالوا: {سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} [القصص:48]، وكذلك المشركون قالوا: سحران تظاهرا أو ساحران تظاهرا، فالمشركون يقصدون بذلك موسى ومحمداً صلوات الله وسلامه عليه، واليهود كأنما يقصدون ما نزل قبل محمد صلوات الله وسلامه عليه، وهو ما جاء به المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام. فالمعنى أنه ساحر: {قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} [القصص:48] أو أن محمداً والمسيح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ساحران، فقال الله سبحانه: {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا} [القصص:48] أي: المشركون واليهود وأهل الكتاب، فإنهم قد كفروا بما جاء من عند الله عز وجل قبل ذلك. قال الله تعالى: {وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} [القصص:48]، أي: المشركون قالوا: إنهم كافرون بما جاء به موسى وبما جاء به محمد صلوات الله وسلامه عليه. قال الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [القصص:49]، وهذا تحد من الله سبحانه وتعالى لهؤلاء، المعنى: إن كنتم صادقين فهاتوا كتاباً من عند رب العالمين يخبر بصدق ما تقولون، ولن يقدروا على ذلك. قال سبحانه: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا} [القصص:49] أي: أهدى من القرآن ومن التوراة: {أَتَّبِعْهُ} [القصص:49] أي: هاتوا كتاباً من عند الله يصدق ما تقولون وأنا أتبعه: {إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [القصص:49].

تفسير قوله تعالى: (فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم)

تفسير قوله تعالى: (فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم) قال الله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص:50]. أي: إن لم يستجيبوا للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يأتوا بكتاب يدل على شركهم ويعينهم على باطلهم: {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص:50]، كما قال الله عز وجل في سورة هود: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هود:14]. فالله عز وجل يخاطب المؤمنين ويقول: اعلموا أيها المؤمنون أن هؤلاء يتبعون أهواءهم، وأن هذا الكتاب العظيم قد جاء من عند رب العالمين: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هود:14] أي: مستسلمون لرب العالمين، مصدقون ربكم سبحانه وتعالى فيما جاء من عنده. فقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ} [القصص:50] خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين تبعاً له، والمعنى: فإن لم يستجيبوا ويأتوا بدليل وبرهان من عند الله: {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص:50] أي: استيقن من ذلك. وكان صلى الله عليه وسلم يعلم يقيناً أنهم سيتبعون أهواءهم، فأخبره الله سبحانه وأخبر المؤمنين أن يعلموا ويستيقنوا أن هؤلاء أهل باطل، وإن جادلوكم بما يظهر منهم أنهم يبحثون عن الحق فهم كذابون؛ لأنهم يعرفون الحق الذي عليه النبي صلى الله عليه وسلم وإنما يتبعون الهوى. {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص:50] أي: من أضل من هذا؟ و A لا أحد أضل ممن يتبع هواه بغير هداية من الله، ويمشي وراء الهوى، فلن يصل هذا إلى طريق الخير وهو على هوى وعلى ضلال. قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص:50] بما كسبت أيديهم وبظلمهم استحقوا أن يضلهم الله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (ولقد وصلنا لهم القول)

تفسير قوله تعالى: (ولقد وصلنا لهم القول) قال الله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص:51]. أي: أتبعنا هذا القرآن ينزل بعضه وراء بعض حتى يتبين لهم ويعلموا، وهذا كقولك: وصلت لك المعلومة بكل طريقة، فوصلتها لك على هيئة الحكاية والقصة، وعلى هيئة الأمر والنهي، وعلى هيئة الموعظة. فهذا القرآن العظيم والى الله عز وجل إنزاله يتبع بعضه بعضاً وعداً ووعيداً، وقصصاً وعبراً، ونصائح ومواعظ، وأوامر ونواهي؛ حتى يتذكروا فيفلحوا، فكأن الله عز وجل قد أقام عليهم بذلك حجته لما وصل لهم هذا القول بهذا النحو. يقول ابن عباس رضي الله عنه: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ} [القصص:51] أي: أتممنا لهم، والمعنى: لم نزل ننزله شيئاً فشيئاً، حتى أقمنا عليهم الحجة وأتممنا نورنا. ومن معاني قوله تعالى: {وَصَّلْنَا} [القصص:51] أي: فصلنا لهم القول. ومن معانيها كذلك: وصلنا خبر الدنيا بخبر الآخرة، وذكرناهم بأمر دنياهم، وأن يعملوا صالحاً حتى يصلوا إلى الآخرة فينجوا من النار ويدخلوا الجنة. قال: {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص:51] فيذكرون الله سبحانه ولا ينسون شرعه، ولعلهم يتعظون بهذا الذي جاءهم فينتهون عن عبادة الأوثان.

تفسير قوله تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب من قبله)

تفسير قوله تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب من قبله) قال الله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} [القصص:52]. في هذه الآية مدح الله عز وجل المؤمنين من أهل الكتاب، وذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن ربه سبحانه كيف أنه نظر إلى أهل الأرض جميعهم قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم، فمقتهم عربهم وعجمهم؛ لأنهم كانوا على الشرك وعلى الضلال والظلم، وكانوا بعيدين عن ربهم سبحانه وتعالى، وكانوا أهل خبث ومنكرات، فمقتهم الله سبحانه، إلا بقايا من أهل الكتاب. قال هنا سبحانه: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ} [القصص:52] أي: من قبل القرآن، ومن قبل محمد صلوات الله وسلامه عليه: {هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} [القصص:52]، فلم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم إلا أعداد قليلة من اليهود لا يصلون إلى العشرة، كـ عبد الله بن سلام رضي الله عنه. أما النصارى فكثيرون منهم آمنوا بالنبي صلوات الله وسلامه عليه، فمدح الله عز وجل هؤلاء المؤمنين من أهل الكتاب الذين انتظروا النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان بعضهم سبب هداية سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه، فقد كان أبوه من المجوس، وكان صاحب بيت النيران التي يعبدونها من دون الله سبحانه، وكان يحب ابنه سلمان حباً شديداً جداً، حتى إنه من شدة حبه له منعه من الناس، وجعله في مكان حبسه فيه لا يخرج إلى الناس. وفي يوم من الأيام خرج سلمان رضي الله تعالى عنه، فإذا به يصل إلى راهب في صومعة يعبد الله سبحانه، وكان هذا الراهب من بقايا أهل الكتاب الذين عرفوا التوحيد والحق، فلما رآه سلمان أعجبه ما هو فيه من عبادة لله سبحانه وتعالى، وأنزل الله الهدى على قلبه، واتبع هذا الراهب الذي يعبد الله سبحانه، وهرب من أبيه، فلما عرف أبوه أنه وصل إلى الراهب حبسه في البيت وقيده بالأغلال، حتى لا يخرج من البيت، وإذا بالله عز وجل يشاء لـ سلمان أن يهرب من أبيه، ودله هذا الراهب على راهب آخر في مكان بعيد؛ ليذهب ويعبد الله عز وجل معه. وانطلق سلمان يبحث عن الدين الحق، ووصل إلى هذا الراهب، وعبد الله عز وجل معه، وقد كان هذا الراهب شيخاً كبيراً في آخر حياته، وقبل وفاته سأله سلمان: من تعهد إليه بي من بعدك؟ لأنه يريد أن يعبد الله سبحانه، فدله على راهب آخر، فلما جاءت هذا الراهب الوفاة دله على آخر، ولم يزل هكذا إلى أن انتقل إلى ما يقرب من ثمانية عشر راهباً، كلما أتت الوفاة أحدهم يوصي به إلى راهب آخر، إلى أن وصل إلى آخر راهب فسأله سلمان رضي الله عنه أن يوصيه براهب آخر، فقال له: لا أعلم أحداً على هذه الأرض على ما كنا عليه -أي: من التوحيد- إلا أنه سيخرج نبي في هذا الزمان الذي نحن فيه، وأخبر سلمان عن صفات هذا النبي صلوات الله وسلامه عليه. فسأله سلمان: أين هذا النبي؟ فقال له: في بلاد العرب، فظل سلمان يبحث عن طريقة توصله إلى بلاد العرب، وهو في بلاد فارس، وما كان قد خرج من بيته قبل ذلك، فإذا ببعض العرب يقدمون على المكان الذي هو فيه، فيعطيهم ما معه من مال رضي الله تعالى عنه؛ حتى يوصلوه إلى بلاد العرب وإلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذه هؤلاء العرب، وكانوا كعادتهم في أخذ أموال الناس واستعبادهم، وعدم رعايتهم للعهود والمواثيق، فأخذوا سلمان وهو رجل حر، فإذا بهم يستعبدونه ويبيعونه لبعض اليهود، وسلمان ينتظر النبي صلوات الله وسلامه عليه، حتى هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وإذا بـ سلمان -وهو فوق شجرة يجني لليهود شيئاً من ثمارها- يسمع يهودياً يخاطب اليهودي الآخر ويقول: إن محمداً قد جاء صلوات الله وسلامه عليه، فكاد أن يسقط من فوق الشجرة رضي الله عنه حين سمع ذلك؛ من شدة فرحه بمقدم النبي صلوات الله وسلامه عليه، فنزل وسأل هذا اليهودي عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا به يلطمه على وجهه، ويقول: اذهب إلى عملك، فذهب سلمان إلى عمله، وهو عبد رقيق رضي الله عنه، وانتظر حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وذهب لينظر إليه، هل هو فعلاً النبي الذي حدثه الراهب عنه وذكر له صفاته أم هو غيره؟ فلما أراد أن يتبين أنه رسول، ويعلم أنه لا يأكل الصدقة، أخذ شيئاً من تمر وذهب إليه، وقال: هذه صدقة، فلم يأكل منها النبي صلى الله عليه وسلم، وأعطاها لأصحابه، فعرف علامة من العلامات، وأتاه مرة أخرى بتمر، وقال: هذا هدية، فأكل منه النبي صلى الله عليه وسلم، فعلم أنه رسول عليه الصلاة والسلام. وكان يدور حول النبي صلى الله عليه وسلم، ويبحث عن علامة من العلامات التي حدثه عنها الرهبان، وانتبه النبي صلى الله عليه وسلم لذلك، فأسقط رداءه صلى الله عليه وسلم فكشف عن كتفه عليه الصلاة والسلام، فنظر سلمان إلى تلك العلامة وهي خاتم النبوة: وهي قطعة من اللحم على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم كبيضة الحمامة، علامة على أنه نبي، وهذه هي علامات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فإذا بـ سلمان يقبل النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤمن به، ومرت الأيام وأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يعينوا سلمان على أن يعتق، فأعانه المسلمون، فأعتقه الله سبحانه وتعالى وصار حراً. هذا ممن آمنوا بالنبي صلوات الله وسلامه عليه من قبل أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، ومن قبل أن يراه؛ وذلك بسبب أخبار هؤلاء الرهبان من أهل الكتاب الذين أخبروا سلمان أن هناك نبياً يخرج في هذا الزمان. كذلك عبد الله بن سلام رضي الله تبارك وتعالى عنه، فإنه عرف صفات النبي صلى الله عليه وسلم من التوراة، فذهب وآمن بالنبي صلوات الله وسلامه عليه. وكذلك مجموعات من النصارى الذين كانوا في الحبشة، لما قدموا مع جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه من الحبشة إلى المدينة أسلموا وآمنوا بالنبي صلوات الله وسلامه عليه. وغيرهم من أهل الكتاب ممن آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم. يقول عروة بن الزبير: نزلت هذه الآية: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} [القصص:52] نزلت في النجاشي وأصحابه -وكأن الآية مدح للجميع: من أسلم قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أسلم بعد ذلك- وذلك أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه هاجر إلى الحبشة، فلما عرف النجاشي بأمر النبي صلى الله عليه وسلم أسلم وصدق به، ووجه مجموعة من النصارى للنبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا اثني عشر رجلاً، فجاءوا إليه وهو في مكة، وأقاموا عنده، وسمعوا منه، وعرفوا أنه نبي حق عليه الصلاة والسلام، وكان أبو جهل لعنه الله يراقبهم، فلما قاموا من عنده اتبعهم أبو جهل وقال لهم: خيبكم الله من ركب وقبحكم من وفد، لم تلبثوا أن صدقتموه، ما رأينا ركباً أحمق ولا أجهل منكم. فهذا أبو جهل لعنه الله، يقول لهؤلاء الذين أتوا من الحبشة وصدقوا النبي صلى الله عليه وسلم هذا الكلام، وهو الذي بجوار النبي صلى الله عليه وسلم قد ذهب عقله، فكان غاية في الغباء لعنة الله عليه وعلى أمثاله، فلم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم ولم يكتف بأنه لم يؤمن، بل صد عن سبيل الله سبحانه من جاءوا ليؤمنوا. فقالوا لـ أبي جهل بعد أن سمعوا منه ذلك: سلام عليكم، وليس معنى (سلام عليكم) الدعاء له، بل المقصود بها المتاركة، أي: أنت في حالك ونحن في حالنا، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، وقد اجتهدنا لأنفسنا في الرشد، فابحث أنت عن نفسك في جهلك وما أنت فيه، فأنزل الله عز وجل هذه الآية بمثل ما قال هؤلاء، قال سبحانه: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ} [القصص:52] أي: من قبل القرآن، أو من قبل النبي صلى الله عليه وسلم: {هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} [القصص:52]. قال الله تعالى: {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} [القصص:53]، فآمنوا بكتابهم وبالقرآن، وبالنبي صلى الله عليه وسلم. وذكر الله سبحانه وتعالى في سورة المائدة أن هؤلاء: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة:83]، فقد كانوا نصارى، وجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسمعوا ما قاله من هذا القرآن العظيم ومن كلام رب العالمين، فإذا بهم يبكون متأثرين، ويدخلون في دين رب العالمين سبحانه. فمدح الله هؤلاء بفعالهم هذه، وقال سبحانه: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة:82]، فمن هؤلاء من صدقوا النبي صلوات الله وسلامه عليه لما سمعوا هذا القرآن، فقال الله عز وجل في وصفهم: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} [المائدة:82 - 83]، أي: يبكون ويقولون لربهم سبحانه: {رَبَّنَا آمَنَّا} [المائدة:83] فاجعلنا مع هؤلاء المؤمنين. فالله سبحانه مدحهم هناك في سورة المائدة، ومدحهم هنا فقال سبحانه: {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} [القصص:53]، أي: كنا على الإسلام من قبل أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، ومن قبل أن ينزل القرآن، ف

تفسير سورة القصص [51 - 56]

تفسير سورة القصص [51 - 56] يخبر الله سبحانه أنه أوصل القرآن إلى الكفار تارة بالقصص وتارة بالمواعظ وأخرى بالأوامر والنواهي لعلهم يتذكرون ويعتبرون، ثم بين أن من أهل الكتب السابقة من آمن بمحمد وأنهم إذا سمعوا القرآن يتلى عليهم يقولون: صدقنا به إنه الحق من ربنا، إنا كنا من قبل أن نسمعه مستسلمين لله رب العالمين، نطيعه ونوحده ولا نشرك به، فكان جزاؤهم عند ربهم أن جعل أجرهم مرتين بسبب صبرهم على أذى قومهم قبل أن يؤمنوا بالنبي، وبسبب صبرهم على أذى الكفار بعد أن آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم.

توصيل القول إلى الناس لعلهم يتذكرون

توصيل القول إلى الناس لعلهم يتذكرون الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة القصص: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ * إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:51 - 56]. يذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية: أنه وصل القول، يعني: القرآن العظيم الذي فيه أوامر رب العالمين، وفيه المواعظ فوصل هذا القول إلى هؤلاء الكفار ليتذكروا وليعتبروا. وقد جاء بهذا القرآن على مراحل، وفيه الأوامر والنواهي، وفيه القصص، والتذكرة، وفيه غير ذلك من تفاصيل أحكام هذه الشريعة العظيمة، وفيه اعتبار وتذكير بما كان في الأمم السابقة من إعراض عن رسل الله، وما فعل الله عز وجل بهم، فأنزل القرآن ووصله إليهم. والقرآن متصل آية وراء آية وحكماً وراء حكم، فقالوا: معنى وصلنا: أي والينا وتابعنا، وأنزلنا القرآن يتبع بعضه بعضاً، فيه الوعد وفيه الوعيد، وفيه القصص وفيه العبر، وفيه النصائح وفيه المواعظ، وفيه الأوامر وفيه النواهي، فوصل الله عز وجل بعض هذا ببعض في القرآن العظيم. ووصلنا: من وصل الحبال، وهو أن يوصل الحبل بحبل آخر ليصل إلى المكان الذي يريده، فوصل الله عز وجل القرآن إلى أفهامهم، وإلى أسماعهم وقلوبهم عن طريق إتيانهم بأمر أو بنهي أو بقصة أو بموعظة، فوصل لهم القول لعلهم يتذكرون، فيرجعون إلى ربهم سبحانه. قال سبحانه في مدح الذين آمنوا من أهل الكتاب: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ} [القصص:52] أي: التوراة والإنجيل، فعرفوا أن هذا الزمان يخرج فيه نبي يبعث إلى الناس، فانتظروا النبي صلى الله عليه وسلم وآمنوا به. قال سبحانه: {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [القصص:53] يعني: القرآن العظيم، {قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} [القصص:53] أي: كنا متبعين لأنبيائنا على ملة الإسلام والاستسلام لرب العالمين، والطاعة والانقياد للرب سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا)

تفسير قوله تعالى: (أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا) قال سبحانه: {أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [القصص:54]. فقد مدحهم الله سبحانه بأنهم صبروا على أوامر كتبهم، وصبروا على ما جاء في القرآن العظيم فتابعوا النبي صلى الله عليه وسلم، وصبروا على ما ابتلاهم الله عز وجل به في الدنيا من أذى الكفار، وصبروا على الطاعة وصبروا عن المعصية، فلهم أجرهم مرتين عند الله سبحانه وتعالى. وقد عرفنا من القرآن أن الحسنة بعشر أمثالها، وهؤلاء حسناتهم مضاعفة، فلهم أجران وكل من الأجرين مضاعف إلى ما يشاء الله سبحانه وتعالى. فإن كان غيرهم يضاعف له إلى عشرة أمثاله فهؤلاء إلى عشرين، وإن كان غيرهم إلى سبعمائة ضعف فهؤلاء إلى ألف وأربعمائة ضعف، وإذا كان غيرهم إلى أكثر من ذلك فهؤلاء يضاعف لهم مرتين. قيل: بسبب أنهم صبروا في دينهم وتابعوا الحق، ووحدوا الله، ولم يشركوا بالله، فكانوا قد أوذوا في دينهم؛ لأن النصارى اختلفوا إلى فرق، فالفرقة التي وحدت الله سبحانه وتعالى صارت منبوذة بينهم، والذين أشركوا وقالوا المسيح ابن الله، وقالوا اتخذ الله الصاحبة والولد، هم الذي غلبوا فآذو الموحدين، فصبروا على ذلك في دينهم فلما جاء الإسلام دخلوا في دين النبي صلى الله عليه وسلم، فابتلوا وصبروا على ذلك فكان لهم الأجر المضاعف.

الأصناف الذين لهم أجران

الأصناف الذين لهم أجران ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي موسى قال: (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه وصدقه فله أجران) هذا أحد الثلاثة الذين يؤتون أجرهم مرتين فقد آمن مرتين: آمن بنبيه ثم آمن بنبينا صلوات الله وسلامه عليه، فاستحق أن يؤتى الأجر مرتين على إيمانه بنبيه وعلى اتباعه للنبي صلى الله عليه وسلم وتصديقه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وعبد مملوك أدى حق الله عز وجل وحق سيده فله أجران) الإنسان يحب أن يكون حراً، بل يفتخر بأنه حر، ولكن أخبر هنا أن العبد المملوك يؤتى أجره مرتين، أي: أكثر من أجر الإنسان الحر، لأنه صبر في الدنيا على ذل الرق فأطاع سيده كما أمره الله عز وجل، وأطاع ربه سبحانه وتعالى فيما أمر، فكان له الأجر مرتين، ولذلك يقول أبو هريرة رضي الله عنه: (والذي نفسي بيده لولا الجهاد في سبيل الله والحج وبر أمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك). لأنه لو كان مملوكاً لم يقدر أن يجاهد فالجهاد ليس فرضاً على المملوك، وإنما فرضيته على الحر، كذلك الحج هو فريضة على الحر، وليس على العبد، قال (وبر أمي) ولو كان عبداً لانشغل بسادته الذين يملكونه فلم يقدر على الجمع بين بر الوالدين وبين حق السيد. وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: (نعماً للملوك أن يتوفى يحسن عبادة الله وصحابة سيده نعماً له) يعني: له عند الله عز وجل الأجر العظيم على ذلك. وهنا في الآية ذكر الله سبحانه وتعالى واحداً من الثلاثة، وهو رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ثم بنبينا صلى الله عليه وسلم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ورجل كانت له أمة فغذاها فأحسن غذاءها، ثم أدبها فأحسن أدبها، ثم أعتقها وتزوجها فله أجران) الحديث في صحيح مسلم ولفظ البخاري قال: (فأدبها فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها) أي: رجل كان عنده أمة يملكها، وهذا أقوى من الزواج، ومع ذلك فهذا الرجل الذي عنده هذه الأمة أدبها فأحسن تأديبها، وعلمها فأحسن تعليمها، وغذاها فأحسن غذائها، حتى صارت كبيرة جميلة مرغوباً فيها لأدبها وعلمها وجمالها، ولو أنه باعها لباعها بمال كثير جداً ولكنه من عليها فأعتقها، ومن عليها مرةً أخرى فتزوجها فصارت امرأة مع زوجها وليس أمة مع سيدها، فالذي يفعل ذلك يشكر الله عز وجل له صنيعه، ويعطيه الأجر مرتين. قال الله عز وجل في هذا الذي آمن من أهل الكتاب قال: {أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} [القصص:54] أي: بسبب صبرهم. {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} [القصص:54] وهذه من صفاتهم الجميلة أنهم يدفعون الإساءة بالإحسان، أي: يدفعون بإحسانهم سيئات غيرهم، أو: سيئات أنفسهم، فما أساءوا فيه درءوه بالإحسان بعد ذلك فيتوبون إلى الله عز وجل ويعملون الصالحات، وإذا أساء لهم غيرهم فلا يدفعون السيئة بالسيئة، ولكن يدفعون السيئة بالحسنة، أي: بالصبر وبحسن الخلق يدفعون ما ينالهم من أذى من غيرهم، والله عز وجل مدح هذه الصفات، {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34]. {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [المؤمنون:96]. فالله أمر المؤمنين أن يدفعوا بالحسنى، فإذا أساء إليك إنسان فأحسن إليه لعل الله عز وجل أن يقلب حاله ويغيره فيصير ولياً حميماً. وقوله: {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} [القصص:54] فيها معنيان كما ذكرنا أنهم يدرءون بإحسانهم سيئات غيرهم إذا أساءوا إليهم، وهذا من حسن الخلق. والأمر الثاني: أنهم رجاعون تائبون إلى الله سبحانه وتعالى، فإذا أساء أحدهم سرعان ما يتوب ويفيء، ويستغفر ربه سبحانه. قال: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [القصص:54] أي: هم أهل كرم ينفقون ويحسنون إلى الفقراء وإلى المساكين وإلى أقربائهم، وإلى الغرباء عنهم، فينفقون مما رزقهم الله سبحانه. وفيه التنبيه على أن الإنسان مهما أحسن فأنت لا تحسن من فضلك، وإنما من فضل الله ومن كرمه، فبين أنه رزقه هو سبحانه ((َمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ)) أي: أعطيناهم، فهم أنفقوا من رزق الله سبحانه وتعالى ومدحهم على فضله وعلى كرمه سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه)

تفسير قوله تعالى: (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه) قال سبحانه: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ} [القصص:55]. هذه من الأخلاق الحسنة التي ينبغي أن يكون عليها الإنسان المؤمن، واللغو: هو الكلام الفارغ الرديء الذي ينبغي أن يلغى ويطرح. فهم إذا سمعوه لم يجيبوا صاحبه إلا بالكلام الحسن، فإذا استمر صاحبه على ذلك أعرضوا: {وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55]. ويقولون: سلام عليكم، والسلام هنا بمعنى المتاركة يعني: أنتم على حالكم ونحن على حالنا فابعدوا عنا فليس لنا بكم شأن. {لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55] أي: يقولون لهؤلاء: أنتم أهل جهالة وأهل باطل، ونحن لا نريد أن نكون مع أهل الباطل فنحشر معهم، هذا الذي ذكره الله عز وجل من الأخلاق الحسنة هي في تعاملهم مع المسلمين، وفي تعاملهم أيضاً مع الكفار، فهم يدعونهم إلى دين رب العالمين سبحانه وتعالى فإذا لم يجدوا منهم استجابة أعرضوا وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين. وهذا معنى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6] أي: أنتم على الضلالة ونحن أبعد الناس عن ضلالاتكم، فدينكم يختص بكم، وأنتم تسألون عنه عند الله سبحانه، ولنا ديننا دين الإسلام. أما أن يجهل الكفار على المسلمين ثم يقولون: سلام عليكم، فهذه السورة مكية، وقد نزلت حين كان يتعرض المسلمون للأذى ولا يقدرون على دفعه، فلما هاجروا وفرض عليهم الجهاد أمرهم الله عز وجل بالرد على الكفار، فيكون (سلام عليكم) في معرض الجدل، إذا كان هناك جدل بين المسلمين وبينهم ولم يصلوا إلى شيء فنقول: لكم دينكم ولي دين. أي: انتهى الأمر. أما إذا اعتدى الكافر على المسلم بالإساءة وبالبذاءة باليد وباللسان، وبالحيل والمكر، فإن الله أمر المسلمين أن يدفعوا عن أنفسهم وأن يدافعوا عن دينهم، وأن يجاهدوا هؤلاء، قال الله سبحانه: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5] وهذه الآية تسمى آية السيف، نسخت كل ما في القرآن من أمر بموادعة ومتاركة ومسالمة الكفار. إذاً: نسالمهم إذا كانوا يسالموننا، أما أن يبدأ الكافر بأن يؤذي المسلم أو يقاتل المسلمين ثم يقولون سلام عليكم فهذا لا يكون أبداً، فإن جميع ما جاء في المسالمة والمتاركة كان في العهد المكي، أما في العهد المدني فقد أمر الله عز وجل المؤمنين بالجهاد في سبيل الله سبحانه، وبذلك يقول العلماء: إن هذه الآية مع الكفار نسختها آية السيف، يعني: أن الآية ليست منسوخة كلها، ولكن إذا سمعوا اللغو والبذاءة والإساءة من الناس، هؤلاء الناس إما أن يكونوا مسلمين، وإما أن يكونوا كفاراً، فإذا كانوا مسلمين فادفع بالتي هي أحسن لعله يستحيي من نفسه فيتوب إلى الله سبحانه وتعالى، {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى:43]، {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى:41]. فللمسلم أن ينتصر ممن آذاه من المسلمين فكيف بالمشركين؟ كيف بالكفار الذين يؤذون المسلمين في دينهم وفي ديارهم؟ فقوله: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55] بمعنى: متاركة بيننا وبينكم هذا إذا لم يصل الكفار للأذى في دين المسلمين ولم يقاتلوهم؛ لكن إذا كانوا يدفعون المسلم ليقع في الخطيئة وليقع في الكفر ويترك دين الله عز وجل، فعليه حينئذٍ أن يجاهدهم كما أمر الله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (إنك لا تهدي من أحببت)

تفسير قوله تعالى: (إنك لا تهدي من أحببت) قال الله عز وجل لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56]. هذه الآية نزلت في أبي طالب عم النبي صلوات الله وسلامه عليه بإجماع المفسرين، كان النبي صلى الله عليه وسلم في غاية الحزن عليه لأنه لم يدخل في دين الإسلام، فقد كان يود لو أنه قال كلمة لا إله إلا الله ثم مات على ذلك، ولكن أبى الله عز وجل إلا أن يموت على ما هو فيه، فالرجل أبى أن يقول لا إله إلا الله، وآخر كلمة نطق بها قال هو على ملة عبد المطلب، فهنا الله سبحانه وتعالى يواسي نبيه صلى الله عليه وسلم ويقول له: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56]. أي: الأمر ليس بيدك أنت، ولكن الهدى هدى الله سبحانه وتعالى، فهذا العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم هداه الله عز وجل، وهذا حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم هداه الله عز وجل، وهذا أبو طالب لم يهده الله عز وجل وأضله، وهذا ابنه عقيل بن أبي طالب وابنه جعفر بن أبي طالب هداهم الله عز وجل للإسلام، وعقيل بن أبي طالب استمر على الكفر وما دخل في الإسلام إلا متأخراً، فصار بعد ذلك مسلماً. فالله يهدي من يشاء، والهدى هدى الله سبحانه وتعالى، فأعمام النبي صلى الله عليه وسلم كان منهم من يؤذيه، ومنهم من يدافع عنه، ومنهم من دخل في دينه، وكان أبو لهب يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، وهو عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأشد الناس إيذاءً للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يمر النبي صلى الله عليه وسلم في الطريق يدعو الناس، فيسير وراءه يقول: هذا كذاب، لا تصدقوه أنا عمه أنا أعلم به، فيكذب النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا حضر النبي صلى الله عليه وسلم الموسم في الحج، ودعا الناس إلى دين الله عز وجل كان يكون وراءه يكذبه، صلوات الله وسلامه عليه. وابنه عتبة بن أبي لهب كان زوجاً لبنت النبي صلى الله عليه وسلم، قال لأبيه: لأوذين محمداً صلى الله عليه وسلم فذهب وفرح أبوه بذلك وكانا ذاهبين إلى الشام أبو لهب وابنه عتبة بن أبي لهب فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وكذبه وقال له عن نفسه إنه كافر بالنجم إذا هوى، وكافر بما جاء في القرآن العظيم، ثم طلق ابنة النبي صلى الله عليه وسلم وفعل أفعالاً شنيعة، فالنبي صلى الله عليه وسلم دعا عليه وقال: (سلط الله عليك كلباً من الكلاب) وخرج الرجل وذهب إلى أبيه مسروراً أنه آذى النبي صلى الله عليه وسلم وأنه طلق بنت النبي صلى الله عليه وسلم. فلما وصل إلى أبيه قال له ذلك: ففرح أبوه ثم سأله: ماذا قال لك؟ قال: ((سلط الله عليك كلباً من كلابه)) فأبوه خاف من هذه الكلمة، وخرج إلى الشام ومعهم مجموعة من الناس، ولما وصلوا إلى بعض الطريق نظر إليهم راهب من صومعته، وقال: ما أتى بكم إلى هذه الأرض فإنها أرض مسبعة يعني: فيها أسود كثيرة، فخاف أبو لهب وتذكر دعوة النبي صلى الله عليه وسلم على ابنه فجمع من معه في الرحلة، وقال: ألست كبيركم؟ أليس لي حق في السن والكبر عليكم؟ قالوا: بلى قال: فاحموا ابني فإن محمداً دعا عليه. ولا يغني حذر من قدر، فلما قال ذلك جمعوا أمتعتهم بأمره ووضعوا بعضها فوق بعض ونام فوق الأمتعة عتبة بن أبي لهب لعنة الله عليه وعلى أبيه، فلما نام ناموا حوله يحرسونه، وجاء الأسد بالليل فجعل يشمهم واحداً واحداً حتى انتهى منهم، ثم وثب فوق المتاع فعصر رأسه بأنيابه فأخذه فقتله لعنة الله عليه. وكم تمنى النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤمن هذا الإنسان فلم يؤمن هو ولا امرأته ولا ابنه لعنة الله عليهم وعلى أمثالهم، وما آمن أبو طالب ولكنه دافع عن الإسلام، ولذلك حزن عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ودافع أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم وكان موجوداً حين جاء عتبة بن أبي لهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فشتم النبي صلى الله عليه وسلم وطلق ابنته وعابه وعاب القرآن فلما دعا عليه صلى الله عليه وسلم قال أبو طالب: ما كان أغناك يا ابن أخي عن هذه الدعوة. لقد قالها لأنه يعرف أن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لا بد وأن تستجاب فاستجاب الله عز وجل دعوته وقتل عتبة الكافر، وسلط عليه كلباً من كلابه أكله، لقد علم أبو طالب بذلك ومع ذلك لم يسلم. نسأل الله عز وجل أن يهدينا صراطه المستقيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة القصص [56 - 58]

تفسير سورة القصص [56 - 58] إن الهداية مطلب عظيم، ولكن لا ينالها كل الناس، بل ذلك يرجع إلى علم الله وتقديره هداية هذا وإضلال ذاك، وكل ذلك بحكمة منه تعالى، فهو يفعل ما يريد، فعلى المرء أن يطلب طرق الهداية ليسلكها، ولا يخاف من قول الحق، فإن الوقوف مع الحق آخره إما فوز في الدنيا والآخرة أو شهادة في الدنيا لنيل الآخرة كذلك، وكم أهلك الله من الظلمة والمتكبرين فكانوا عبرة لغيرهم.

الهداية والضلال بيد الله

الهداية والضلال بيد الله

يهدي الله من يشاء ويضل من يشاء

يهدي الله من يشاء ويضل من يشاء الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة القصص: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ * وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} [القصص:56 - 58]. يخبرنا الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات بقوله للنبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56]، فيخبرنا أن الهدى بيد الله سبحانه تبارك وتعالى. فالله سبحانه تبارك وتعالى الحكم العدل، لا يجري شيء في الكون إلا بعلمه وبقضائه وبقدره، فإذا هدى إنساناً فهذا محض فضل منه سبحانه، وإذا أضل إنساناً فهذا محض عدل منه سبحانه تبارك وتعالى. فيهدي من يشاء، ويضل ويخذل ويبتلي من يشاء بعدله، والناس يتقلبون بين فضله وعدله سبحانه وتعالى، ولو حاسب الناس بعدله لأدخلهم النار؛ لأنه لا يقدرون أن يجازوا ربهم سبحانه على نعمه التي أعطاها لهم، ولا يشكرونه ولا يقدرونه حق قدره سبحانه وتعالى، ولا يقدرون على شكر نعمة واحدة من نعمه عليهم. ولذلك عندما يدخل المؤمنين الجنة إنما يدخلهم بفضله. ويؤكد لنا هذا المعنى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إنه لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله) فالعمل لا يصلح أن يكون ثمناً للجنة، فالجنة أغلى من عمل الإنسان. والإنسان يقدر ذلك بما في الدنيا، فلو أنه رأى بستاناً عظيماً، وقصراً مشيداً وأرضاً واسعة، ثم أراد أن يشتريها وليس معه شيء، فقيل له: اعمل واشتغل لنعطيك هذا البستان، فماذا سيعمل هذا الإنسان؟ وكم سيتعب في عمله من أجل أن يشتري هذا البستان؟ فإذا كان هذا في الدنيا فكيف بجنة عرضها السموات والأرض! وأقل ما يكون للإنسان فيها مثل ملك من ملوك الدنيا عشر مرات، فلو تخيلنا ملكاً من ملوك الدنيا يملك بلداً من البلاد فهل يستطيع أحد أن يشتري هذه البلاد، مهما عمل بماله ومهما كسب من شيء؟ A لا إذاً فهذا هو الفضل من الله عز وجل، يؤتي الإنسان من فضله سبحانه وتعالى. يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] ويقول: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى الله} [آل عمران:73]. فقد أحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يهتدي عمه أبو طالب ولم يقدر الله عز وجل ذلك فمات على الكفر، فقال الله سبحانه: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] فهدى الله عز وجل من شاء من خلقه فدخل في دين رب العالمين سبحانه، كما هدى حمزة بن عبد المطلب والعباس، فهذا عم النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا عمه، ولكنه أضل أبا طالب، وأضل أبا لهب، فهدى الله عز وجل من شاء وأضل من شاء. قال: {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56]، فقد يقول الإنسان: لماذا ربنا هدى فلاناً وفلاناً أضله؟ وهذا الذي أضله الله قد يراه البعض إنساناً طيباً ومهذباً، وإنساناً رقيقاً ولكنه لا يصلي، وقد نرى إنساناً آخر قد تكون فيه شراسة ونفور ولكنه يصلي؟ فنتأمل هذا الإنسان الذي على خلق، لماذا لا يصلي؟ فالصلاة نعمة عظيمة من نعم الله عز وجل، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وعلى الأقل هذا الإنسان إن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر وهو مصل فإنها تنفعه يوم القيامة، فهذا في قلبه كبر وإن أظهر للناس تواضعاً وأدباً، فإنه يستكبر على ربه سبحانه فلا يصلي ويقول: المهم القلب والمعاملة مع الناس!

الهداية والإضلال راجعان إلى علم الله

الهداية والإضلال راجعان إلى علم الله قد ترجع إلى نفسك وتقول: الله أعلم بما في القلوب، فقد يكون الإنسان في المعاصي وفي الفجور، وفجأة يأتي عليه الهدى من الله عز وجل، ألم يهد الله عمر بن الخطاب رضي الله تبارك وتعالى عنه، وكان على ما كان من أمر الجاهلية؟ وقد كان أراد أن يقتل النبي صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام. وقتل ابنته ووأدها يوماً من الأيام، فإذا بالله عز وجل يعلم من قلبه أنه يصلح للإيمان فهدى قلبه، فكان من أرق الناس على المؤمنين، ومن أخوف الناس لرب العالمين، وصار إيمان عمر يوزن بإيمان الأمة غير النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله تبارك وتعالى عنه. ف A أن الهدى راجع لعلم الله سبحانه تبارك وتعالى، ولذلك قطع عليك التفكر في ذلك، ستقول لربنا: لماذا؟ يقول لك الله: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء:23]، لا تتدخل في شيء ليس من حقك، ولا من إرادتك، ولذلك قال الله لسيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] إذاً غيره يسكت من باب أولى {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]. وقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم لرقة قلبه أن يذهب ويزور قبر أمه عليه الصلاة والسلام فاستأذن ربه فأذن له، ولما وصل إلى قبر أمه حن لأمه عليه الصلاة والسلام فهي ماتت وله ست سنوات عليه الصلاة والسلام، وكانت رقيقة مشفقة عليه صلى الله عليه وسلم، ورأت رؤيا عظيمة أنه يخرج منها نور أضاء ملك كسرى وغيره، فهذه المرأة ماتت قبل الإسلام، فأحب أن يستغفر لها صلى الله عليه وسلم، فمنع من ذلك عليه الصلاة والسلام، فبكى بكاء شديداً صلى الله عليه وسلم، وبكى حوله الصحابة، وسألوه عما يبكيه عليه الصلاة والسلام، فأخبر أنه استأذن ربه أن يزور قبر أمه فأذن له، واستأذنه أن يستغفر لها فمنع من ذلك. إذاً: هنا الأمر ليس بيد الإنسان، إنما الأمر بيد الله وحده لا شريك له، ولذلك يقول الله عز وجل عن نبيه: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:43 - 46] أي: لأخذناه أخذاً قوياً وعاقبناه عقوبة شديدة، وقطعنا نياط قلبه صلوات الله وسلامه عليه، وحاشا له أن يتقول على الله رب العالمين تبارك وتعالى. فإذا قيل ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فمن من الناس يكون له درجة تقرب من درجته صلى الله عليه وسلم حتى يتألى على الله وحتى يتكلم على الله بما لم يقله الله رب العالمين، وحتى يعترض على قضاء الله عز وجل وقدره؟ قال تعالى: {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56] أي: وهو أعلم بمن يستحق الهدى، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ربه أن يؤيد الإسلام بأحد العمرين عمر بن الخطاب أو أبي الحكم الذي هو عمرو بن هشام أبو جهل، ولكن الله يعلم أن عمر هو الذي يستحق ذلك، فهدى عمر، وأما عمرو فمات على كفره، وقتل في يوم بدر، وألقي ملعوناً في القليب.

تفسير قوله تعالى: (وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا)

تفسير قوله تعالى: (وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا) قال تعالى: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص:57]. فالكفار لما رأوا الآيات وعرفوا الحق الذي جاء من عند رب العالمين، أرادوا أن يتعللوا من عدم دخولهم في هذا الدين، فتعللوا بأنهم خائفون، وقالوا: إن نتبع الهدى معك فإن العرب كلها ستأتي علينا في أرضنا وتقاتلنا، ونحن لا نقدر على قتالهم. قال ابن عباس رضي الله عنهما: قائل ذلك من قريش هو الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف القرشي، قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لنعلم أن قولك حق، ولكن يمنعنا أن نتبع الهدى معك ونؤمن بك أن يتخطفنا العرب من أرضنا. يعني: لاجتماع العرب على مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ولا طاقة لنا بهم ولا نقدر عليهم. فلما قالوا هذا الكلام للنبي صلى الله عليه وسلم أنزل الله عز وجل ما يبين لهم أين ذهبت عقولهم؟! وأي عرب ستأتي إليكم في أرضكم؟! قال الله تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا} [القصص:57] أي: أنتم في الجاهلية كنتم أضعف الناس ولم يستطع أي أحد أن يأتي إليكم في مكة ويأخذ هذه الأرض، حتى أبرهة الذي جاء من اليمن بجنود لا حصر لها، وجاء بفيل يريد أن يهدم الكعبة ولم تقدروا له على شيء فخرجتم وتركتم مكة بما فيكم عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم، وقام عبد المطلب يخاطب أبرهة عن إبل أخذها منه، وكان أبرهة كبره جداً، ونظر إليه أنه كبير مكة، وأنه جاء يفاوضه في أمر هدم الكعبة، فإذا بـ عبد المطلب يفاوضه في أمر إبله، فكأنه استقله فقال له عبد المطلب: إن الإبل أنا ربها، وأما البيت فله رب يحميه. وخرج أهل مكة ينتظرون ماذا سيكون، وجاء أبرهة بجنوده، وإذا بالفيل يتردد ويتراجع، فإذا بهم ينخسونه وهو يرجع مرة أو مرتين أو ثلاث مرات، ونزل العذاب من عند رب العالمين، قال تعالى: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:3 - 5] فإذا بهم يصيرون كطعام أكل وخرج من دبر الدابة، هكذا كان أمر هؤلاء الذين أرادوا أن يهدموا البيت وأن يذلوا أهل مكة. فإذا كانوا في الجاهلية وهم يعبدون غير الله ويشركون بالله، قد دفع الله عز وجل عنهم الأذى، أيتركهم في الإسلام وهم الموحدون لله رب العالمين؟ قال تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص:57] أي: أليس نحن من فعلنا بهم هذا الشيء، فأين شكر هذه النعمة؟! وكيف لا يثقون في الله سبحانه وتعالى وهو الذي آمنهم من خوف وأطعمهم من جوع. قوله: {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص:57] أي: ينقل إليه ويحضر إليه ويؤتى بهذه الثمرات إلى مكة، ومكة ليست بمكان زرع، ولكن الله عز وجل منّ على أهلها أن يجبى إليها الثمرات من كل مكان: من اليمن ومن الشام وغيرها، وتجد فيها فاكهة الصيف وفاكهة الشتاء. {يُجْبَى إِلَيْهِ} [القصص:57] أي: تأتي إلى هذا الحرم من كل أرض ومن كل بلد تأتي إليه هذه الثمرات، فإذا كان الله قد منّ عليكم بالأمان في الجاهلية وبالطعام الذي يؤتى إليكم من كل مكان، أفلا تشكرونه وتثقون فيه سبحانه وتعالى. قال: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ} [القصص:57] هذه قراءة الجمهور بالياء. وقراءة نافع وأبي جعفر ورويس عن يعقوب: ((تجبى إليه ثمرات كل شيء)) بالتاء. قوله تعالى: {رِزْقًا} [القصص:57] حال أي: حال كونها رزقاً من الله عز وجل، أو أنها تمييز فهذه الثمرات رزق من الله سبحانه وتعالى. قوله: {رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا} [القصص:57] إذا نسب الرزق إليه سبحانه فمعناه أنه رزق عظيم جداً يتحير الإنسان فيه، فعندما يذهب الذاهب إلى هناك في أي وقت من الأوقات يجد الفواكه من كل مكان، وهذا من كرم الله على أهل هذه البلدة ببركة دعوة إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ودعاء نبينا صلوات الله وسلامه عليه. قوله: {مِنْ لَدُنَّا} [القصص:57] أي: من عندنا. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [القصص:57] أي: لا يعلمون نعم الله عز وجل أنه الذي يعطي هذه النعم ويسوقها إليكم، وهو الذي يمنع عنكم النقم ويدفعها عنكم، فهو القادر سبحانه على كل شيء، ولكنهم نسوا كل ذلك.

تفسير قوله تعالى: (وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها)

تفسير قوله تعالى: (وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها) قال الله سبحانه: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} [القصص:58]. أي: إذا كان الأمر على ذلك وأنتم تتكبرون عن دين رب العالمين، فلا تنسوا كم أهلكنا من قرى عظيمة. والقرية معناها: المدينة، وصار عندنا العرف أن القرية بمعنى الريف، أما في لغة العرب ولغة القرآن فالقرية بمعنى البلد. ولذلك فإن الله سبحانه تبارك وتعالى قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف:109] يعني: من أهل البلدان. قالوا: لأن أهل البلدان يتميزون عن أهل الريف وعن أهل البادية برقة الطباع؛ لأن البلد تجمع أناساً كثيرين، والإنسان مع احتكاكه بالكثير من الناس يكون أليفاً رقيقاً، ويعرف التخاطب مع هذا ومع هذا، وأما مع قلة العدد فيتعلم الإنسان النفور والجفاء ويتعلم الغلظة، ومع قلة العدد قد يترأس عليهم. فلذلك كان في أهل البادية الغلظة وكانوا أجلافاً، ولكن أهل المدن فيهم رقة الطباع، فجعل الله عز وجل منهم المرسلين، ومنّ على أهل القرى أن جعل الأنبياء منهم. قال الله سبحانه تبارك وتعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} [القصص:58] والبطر هو: أن الإنسان يتكبر على نعمة الله سبحانه تبارك وتعالى، فيطغى بهذه النعمة، ويعطيه الله مالاً فيتكبر على الخلق، وينظر إلى نعمته أنه مستحقها، وأنه لا أحد مثله في هذا الشيء، فيطغى على الخلق ويستكبر عليهم. فهذه القرى {بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} [القصص:58] أي: أغناهم الله وأعطاهم الرفاهية والغنى، فكان الواجب عليهم أن يعبدوا الله وأن يشكروه، ولكن بطروا، فلما بطروا أهلكهم الله سبحانه تبارك وتعالى. قال: {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا} [القصص:58] أي: ديار الأقوام البائدة في كل بلد من البلدان صارت آثاراً لا يسكنها أحد، فتذهب إلى أسوان فترى آثار الفراعنة، ولا أحد يسكن في هذه الأماكن، والله عز وجل قال: {لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ} [القصص:58] أي: صارت الديار دياراً خربة، ليس فيها أحد. وكذلك قرى عاد، وقرى ثمود، وقرى الفراعنة، وغيرهم ممن أهلكهم الله سبحانه، وترك مساكنهم لتنظروا وتعتبروا. قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} [الفجر:6 - 7] فالذي يذهب يجد قصوراً عالية، وأعمدة فخمة، وسقوفاً منقوشة، وأهلها كانوا في هذه الأماكن عمروها وعاشوا فيها ما شاء الله عز وجل، فلما استكبروا إذا بالعذاب يأتيهم من عند الله سبحانه، وكم من قرى قد غطتها الرمال، والآن ينقبون عنها فيخرجون قصوراً كاملة موجودة بداخلها، فضرب لنا الأمثلة بذلك حتى نعتبر. قال تعالى: {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} [القصص:58] أي: كنا نحن الذين ورثنا هذا كله ورجع إلينا ما أعطيناهم، وكذلك يرث الأرض ومن عليها، فليعمل الإنسان المؤمن بحق وبإخلاص؛ لعل الله عز وجل أن يجعله من أهل الجنة، وأن يمن عليه بنعمه سبحانه.

تفسير سورة القصص [57 - 61]

تفسير سورة القصص [57 - 61] أخبر الله تعالى عن عدله وأنه لا يهلك أحداً ظلماً، وإنما يهلك من يهلك بعد قيام الحجة عليهم، ثم أخبر تعالى عن حقارة الدنيا وما فيها من الزينة الدنيئة والزهرة الفانية بالنسبة إلى ما أعده الله لعباده الصالحين في الدار الآخرة من النعيم المقيم، فعلى المؤمن ألا يحزن على هذه الدنيا الفانية، فلو كانت هذه الدنيا لها منزلة عند الله لأعطاها خير خلقه محمداً صلى الله عليه وسلم.

تأمين الحرم

تأمين الحرم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين: قال الله عز وجل في سورة القصص: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ * وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ * وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ * أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [القصص:57 - 61]. ذكر الله سبحانه وتعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه كلام المشركين وعذرهم الكاذب في عدم دخولهم في دين النبي صلى الله عليه وسلم، فقال جل شأنه: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص:57]. يعني: لن نؤمن لك لأننا معذورون، فلو آمنا بك لعادانا كل العرب، فلا نقدر على معاداتهم، فيتخطفوننا من ديارنا، وسينقلب علينا جميع العرب ويقتلوننا. فقال الله سبحانه تبارك وتعالى مكذباً لهؤلاء: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا} [القصص:57] أي: فمتى حصل لهم هذا الشيء؟! والعرب عادتهم في الجاهلية أن يغير بعضهم على بعض، ويأكل بعضهم مال بعض، ويغتصب بعضهم نساء بعض، وأهل الحرم قد عصمهم الله سبحانه وتعالى من هؤلاء وأجارهم منهم بأن جعل لهم حرماً آمناً بقضاء الله وقدره، وكذلك بشرعه سبحانه تبارك وتعالى. فلم يحدث فيهم هذا الشيء الذي يزعمونه وهم على جاهلية وشرك، فهل يحدث ذلك وهم على التوحيد، قال تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا} [القصص:57]. فهاتان نعمتان من الله سبحانه تبارك وتعالى وهما من أعظم النعم عليهم، قال تعالى: {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:4] أي: أمنهم من غيرهم من العرب فلا يقدر أحد أن يغزو ديارهم، وإن أراد إنسان أن يفعل ذلك قصمه الله سبحانه تبارك وتعالى. ثم أطعمهم من جوع وأتت إلى بلادهم ثمرات الأرض من كل مكان، فهذه النعم تستحق منهم شكر الله عز وجل، لأنها من الله، قال تعالى: {رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا} [القصص:57] أي: ليس بأيديهم، فليس هم الذين زرعوا، ولا يوجد مكان للزرع في مكة، ولكن رزقهم الله بأن ساق إليهم الثمرات من الشام واليمن ومن غيرهما ليأكلوا ويشكروا نعم الله سبحانه وتعالى. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [القصص:57]. فهؤلاء الكفار ليس عندهم يقين في ذلك ولا لديهم عقول تهديهم إلى أن يتفكروا ويشكروا خالقهم سبحانه، فإذا كانوا كذلك فهم يستحقون عقوبة رب العالمين بأن يهلكهم، وليس هذا بغريب على أمر الله سبحانه، فإن من عصاه وعادى أولياءه قصمه الله سبحانه.

البطر سبب لزوال النعم

البطر سبب لزوال النعم {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} [القصص:58] ولن تكون هذه أول من يهلكها الله، فقد أهلك قبلها الكثيرين ولا شيء عزيز على ربنا سبحانه وتعالى، وإنما لكل شيء قدر. لكن الله عز وجل يتركها يترك المؤمنين؛ لأنهم عرفوا نعمة الله وعرفوا لماذا خلقوا، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] فهم مخلوقون للعبادة فقط، فإذا نفذوا أمر الله سبحانه فالله يعصمهم ويمنعهم من أعدائهم ويجيرهم من عذابه سبحانه. أما من عصى الله سبحانه وكفر به فإنه يستحق الهلاك، كما أهلك من كانوا قبله، قال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} [القصص:58] أي: طغوا واستكبروا، فكان الله يعطيهم من النعم فإذا بهم يعلون على الخلق ويستكبرون بنعم الله سبحانه. والإنسان إذا أعطاه الله نعمة فالله يأمره بشكرها، فإذا شكر فشكره لنفسه، فهو المستفيد وليس الله سبحانه تبارك وتعالى، قال سبحانه: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37] فالعبد كلما شكر الله أعطاه الله مزيداً، قال سبحانه: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7]. وإذا كفر المخلوق نعم الله عز وجل أهلكه الله، قال تعالى: {وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7] وقال سبحانه تبارك وتعالى: {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا} [القصص:58] والسبب في الإهلاك أنهم بطروا. والبطر: الطغيان والاستكبار على الخلق، وهو: أن الإنسان لا يعترف بالحق، فكأنه يرفض الحق ويستكبر على الخلق ويستصغر الناس، فالله عز وجل يحقر هذا الإنسان ويهلكه، قال سبحانه: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا} [القصص:58]. أي: صارت مساكنهم آثاراً ينظر إليها الناس ويتعجبون من أحوال هؤلاء الذين كفروا فدمرهم الله سبحانه الذي يرجع إليه الأمر، قال الله سبحانه تبارك وتعالى: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [البقرة:210]. وقوله تعالى: {وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} [القصص:58] كقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:40].

تفسير قوله تعالى: (وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا)

تفسير قوله تعالى: (وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً) قال سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا} [القصص:59]. فالله أهلك الظالمين، ولا يظلم ربك أحداً. ولا يهلك الله قرية كافرة حتى يبعث فيها رسولاً يدعوهم إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، قال تعالى: {حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} [القصص:59]. أمها أي: أم القرى وأعظم القرى وهي مكة، والقرية معناها: البلد العظيم، مأخوذة من القري بمعنى: الجمع، يعني: البلد الذي يجتمع فيه ناس كثيرون. فأم القرى وأعظم البلدان هي مكة، فهي وسط العالم كله وسرة الأرض؛ ولذلك بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم في هذه البلدة العظيمة، والأنبياء كلهم كانوا في الشام. فإبراهيم هاجر من العراق إلى الشام، وبنى الكعبة في مكة ولم يعش فيها، والذي عاش في مكة هو إسماعيل على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وكذلك محمد صلوات الله وسلامه عليه، فهو الرسول الوحيد من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي عاش في أم القرى مكة. وكل الأنبياء حجوا إلى بيت الله الحرام، لكنهم لم يكونوا مقيمين في مكة، إنما نبينا فقط صلى الله عليه وسلم الذي بعث إلى الخلق جميعهم من أصل أم القرى ومن أعظم بلدان الدنيا وهي مكة. وقوله تعالى: ((فِي أُمِّهَا)) قرأ الجمهور بهمزة القطع، وقرأها حمزة والكسائي وصلاً. فلا يهلك الله سبحانه تبارك وتعالى بلداً من البلدان ولا يعذب أهلها إلا بسبب من أنفسهم، أي: بما كسبت واقترفت أيديهم وبسبب ظلمهم، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص:59].

تفسير قوله تعالى: (وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا)

تفسير قوله تعالى: (وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا) قال الله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [القصص:60]. (وما) هذه للعموم، يعني: مهما أوتي الإنسان في الدنيا من مال أو بنين أو صحة أو عافية أو غير ذلك من نعم الله عز وجل، فإنها متاع قليل للدنيا، ثم في النهاية يتركها الإنسان ويصير إلى التراب، ثم يرجع إلى ربه سبحانه تبارك وتعالى. وقوله سبحانه وتعالى: {فَمَتَاعُ} [القصص:60] أي: تستمتعون به مدة قليلة، والإنسان لا يدري كم يعيش في هذه الدنيا؟ فإذا عاش وعمر فيها وظن أنه أخذ من متاع الدنيا وأنه طال عمره، أتاه الموت، فيتفكر في السابق من عمره وكأنه شريط أحلام يمر برأسه إذا نام ثم استيقظ فيه على الدار الآخرة. فسواء طالت الدنيا بالإنسان أم قصرت فلابد أن تنتهي، فهي متاع قليل. وقوله تعالى: {وَزِينَتُهَا} [القصص:60] أي: زينة لهذه الحياة الدنيا، تستمتعون بها وتزول بعد ذلك، لكن الذي عند الله هو خير وأفضل من كل ما في هذه الحياة الدنيا، قال تعالى: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [القصص:60]. وهنا إشارة إلى أن ما في الدنيا فإنه يزول، فالدنيا لا تبقى أبداً، أما الدار الآخرة فهي الباقية؛ ولذلك عبر الله عنها بقوله تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت:64] والحيوان بمعنى: دار الإقامة الدائمة والحياة الحقيقية، أما الدنيا فهي إلى زوال لا تدوم. ومعنى قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [القصص:60] أي: لا يفنى ولا يزول، وقوله تعالى: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [القصص:60] أي: أفلا تتفكرون فيما خلقكم الله عز وجل من أجله فتعبدون الله حتى تنالوا هذا النعيم المقيم. وقوله تعالى: (أَفَلا تَعْقِلُونَ) هذه قراءة الجمهور. وقراءة الدوري عن أبي عمرو وقراءة السوسي: أفلا يعقلون بضمير الغائب.

تفسير قوله تعالى: (أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لا قيه)

تفسير قوله تعالى: (أفمن وعدناه وعداً حسناً فهو لا قيه) قال الله تعالى: {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [القصص:61]. يعني: لا تبتئس أيها المؤمن بما ضاع منك من الدنيا ولا تحزن على فواتها، فإنه لا يستوي المؤمن مع الكافر، فمهما آتاه الله في الدنيا من مال وبنين ونعم فهذا كله إلى زوال، أما المؤمن فإن له النعيم المقيم عند رب العالمين، ولو كانت الدنيا لها منزلة عند الله لأعطاها للنبي صلى الله عليه وسلم، ولما نام على حصير يؤثر في جنبه صلى الله عليه وسلم، ولما ربط الحجر على بطنه من شدة الجوع صلوات الله وسلامه عليه. ولو كانت الدنيا تساوي عند الله شيئاً ما جعل النبي صلى الله عليه وسلم يخرج مجاهداً بيده وبلسانه صلوات الله وسلامه عليه حتى جرح ووقع في حفرة فخرت ثناياه صلوات الله وسلامه عليه وتأثر في ساقه عليه الصلاة والسلام ولم يستطع المشي إلا أن يحمله من معه عليه الصلاة والسلام. وهكذا فإن الدنيا لا تساوي عند الله شيئاً؛ ولذلك مهما كان فيها من كد وهم وغم وتعب فإن هذا يزول، ومتاع الدنيا قليل، فلا يحزن المؤمن عليها. كان عمر يدخل على النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل مرة فوجد النبي صلى الله عليه وسلم في غرفة فارغة ليس فيها شيء إلا سرير عليه حبال، والنبي صلى الله عليه وسلم متكئ على هذه الحبال التي على السرير فأثرت فيه صلى الله عليه وسلم؛ لعدم وجود فراش على السرير، ورأى جلد شاة مدبوغ معلقاً في هذه الغرفة التي فيها النبي صلى الله عليه وسلم. فلما نظر عمر في الغرفة ولم يجد شيئاً يرد البصر، تأثر رضي الله عنه وقال: أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس لديك شيء، وكسرى وقيصر في القصور ولديهم الذهب والفضة. فيقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمر ليطمئنه: (أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم)، أي: لا تغضب على هذا الشيء، فهو على ما هو فيه صلى الله عليه وسلم راض بهذا الشيء، ومنشرح بهذا الأمر، فإنه في نعمة من الله سبحانه وتعالى وهي نعمة الإيمان. فالإنسان المؤمن يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم، فمهما رأى غيره من أهل الكفر قد نالوا من الدنيا فلا يحزن ولا يبتئس، فإن ما له عند الله عز وجل أعظم بكثير من الدنيا. قال تعالى: {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا} [القصص:61] أي: الجنة وعدناها المؤمنين، وقوله تعالى: {فَهُوَ لاقِيهِ} [القصص:61] فالمؤمن ملاق هذا الوعد من الله يقيناً، فهل يستوي هذا مع من متعناه متاع الحياة الدنيا؟! فكلاهما يعيشان في الدنيا ويأكلان، فالكافر يأكل أحلى الأطعمة، والمؤمن يأكل دون ذلك، وفي النهاية يصير الاثنان تراباً، ثم يبعثان إلى الله، فهل يستويان في الآخرة؟! فالمؤمن له جنة النعيم، والكافر له عذاب الجحيم، فلا يستويان، يقول سبحانه وتعالى: {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [القصص:61] فكلمة متاع فيها تحقير للحياة الدنيا، ثم يؤتى به للعذاب وللسؤال ويكون من أهل النار، قال تعالى: {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [القصص:61] وهذه أيضاً فيها قراءتان: قراءة الجمهور بضم الهاء في كلمة هو: (ثم هُو يوم القيامة من المحضرين). وقراءة قالون وأبي جعفر والكسائي بتسكين الهاء فيها.

تفسير سورة القصص [62 - 68]

تفسير سورة القصص [62 - 68] ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات حال الكفار يوم القيامة حين لا تنفعهم آلهتهم التي عبدوها من دون الله تعالى، وحين يتبرأ بعضهم من بعض، وذكر تعالى أنه يسأل الكافرين عن طاعتهم لرسل الله في الدنيا فلا يستطيعون أن يجيبوا ربهم عن هذا السؤال، وذكر أنه تعالى هو الذي يختار رسلاً من خلقه ويصطفيهم، فهو صاحب الخلق والأمر سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون)

تفسير قوله تعالى: (ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة القصص: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ * قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ * وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ * وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ * فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمْ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ * فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ * وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص:62 - 68]. يخبرنا ربنا تبارك وتعالى في هذه الآيات عن يوم القيامة وسؤال الله عز وجل خلقه عما عملوا في هذه الدنيا، فيسأل المؤمنين فيحاسبهم حساباً يسيراً، ويسأل الكافرين المشركين ويحاسبهم حساباً عسيراً، فيسأل الله عز وجل المشركين ويناجيهم: {فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص:62]. كانوا في الدنيا يعبدون مع الله آلهة أخرى ويقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] فإذا جاءوا يوم القيامة فسئلوا وسئلت الآلهة وتبرأ بعضهم من بعض فهنا يسألهم الله عز وجل قائلاً: {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص:62] أي: الذين كنتم تفترون وتقولون بأفواهكم الكذب على الله سبحانه، فأين زعمكم وكلامكم عن هذه الآلهة؟ فيتكلم هؤلاء الكفار يوم القيامة فيتبرأ بعضهم من بعض، قال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} [القصص:63] أي: حقت عليهم كلمة العذاب، وحق عليهم قول ربنا أنهم في النار، وهم رؤساء المشركين، فقالوا: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} [القصص:63] فعرفوا ربهم في يوم القيامة فقالوا له: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا} [القصص:63] وأصلها: هؤلاء الذين أغويناهم، فيشيرون إلى أتباعهم الضعفاء، فكبار المشركين يتكلمون عن صغارهم فيقولون: ربنا هؤلاء الذين أضللناهم وأبعدناهم عن طريق الهدى، أغويناهم كما غوينا نحن وضللنا عن الطريق. وفي الدنيا الإنسان المؤمن يتذكر ذلك، ويعلم أنه مستحيل أن يكون الإنسان غاوياً ثم يهدي إنساناً آخر، فالضال لا يهدي إنساناً أبداً، كذلك الكافر لا يدل المؤمن على الخير أبداً، ولا يثق المؤمن في الكافر، وربنا يخبر باعترافات هؤلاء الكفار يوم القيامة. فالكافر لا يتمنى خيراً لغيره، والضال العاصي لا يحب لغيره هداية؛ لأنه لا يريد أن يكون أحد أفضل منه، فلذلك يدعو صاحبه إلى الضلال، والكافر يدعو الإنسان إلى كفره، {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] فأهل الكفر والشرك لن يرضوا أبداً عن أهل الإيمان حتى يضلوهم ويجعلوهم يزيغون عن طريق الله سبحانه، فقالوا يوم القيامة معترفين: {هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا} [القصص:63]، أي: أضللنا {أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} [القصص:63] أي: طلبنا لهم الغواية، والبعد عن الرشد، وطلبنا لهم الضلال وأخذناهم معنا في طريق الضلال، والآن يا ربنا تبنا وتبرأنا إليك فإنهم ما كانوا يعبدوننا، قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة:166] فيوم القيامة كبار الكفار وصغارهم يتبرأ بعضهم من بعض. وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا أنتم أضللتمونا عن سبيل الله سبحانه تبارك وتعالى، ألم تغوونا وتبعدونا عن طريق ربنا؟! فالصغار يرمون بالتهمة على الكبار، والكبار تبرءوا وقالوا: نحن أضللناكم، لكن أما كان لكم عقول تفكرون؟ فانظر إلى حديث الكفار يوم القيامة واعتبر من الآن في الدنيا بما يفعله الناس بعضهم مع بعض يوم القيامة مهما كانت بينهم روابط في الدنيا وأسباب، فإنه يتبرأ بعضهم من بعض. يقول الله عز وجل: {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ} [القصص:63] يعني: مما كان يفعل هؤلاء معنا، ما كانوا إيانا يعبدون.

تفسير قوله تعالى: (وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم)

تفسير قوله تعالى: (وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم) قال تعالى: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ} [القصص:64]. أي: ادعوا آلهتكم وادعوا الذين كنتم تستعينون بهم في الدنيا، فدعوهم، فهل أجاب أحد أحداً؟ فيبرأ يوم القيامة بعضهم من بعض، فدعوهم يطلبون منهم أن يدافعوا عنهم، فلم يستجيبوا لهم ولم يردوا عليهم، ورأوا العذاب ماثلاً أمام أعينهم فيقولون: يا ليتنا كنا اهتدينا وعرفنا طريق الله سبحانه تبارك وتعالى فاتبعناه. وقوله تعالى: {لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} [القصص:64] أي: لو اهتدوا ما وصلوا إلى هذا الذي وصلوا إليه، فيتحسرون يوم القيامة فيقولون: يا ليتنا اهتدينا وما ضللنا عن سبيل الله سبحانه، فهذا كأنه من كلامهم، أو أنه من كلام ربنا سبحانه وتعالى أن هؤلاء لو كانوا اهتدوا ما وصلوا إلى ما هم فيه الآن.

تفسير قوله تعالى: (ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين)

تفسير قوله تعالى: (ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين) قال تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:65]. يوم: منصوب بفعل محذوف تقديره: اذكر يوم يناديهم ربهم سبحانه. {فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:65] أي: كيف أجبتم هؤلاء المرسلين؟ هل اتبعتم الحق أم ضللتم عن سبيل الله؟ وبأي شيء أجبتموهم؟ قال تعالى: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمْ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ} [القصص:66]. الكفار في الدنيا لديهم ألسنة يجيدون بها الكلام، ويجيدون المدافعة بالباطل والزور، أما عند الله فلا ينفع هذا الكلام كله، فلما وقفوا أمام ربهم عميت عليهم الأنباء وخفيت عليهم الحجج وضاع عنهم ما كانوا يقولونه، فلم يقدروا أن يجيبوا على كلام ربنا سبحانه وتعالى، فقالوا لله سبحانه وتعالى: تبرأنا من عبادة هؤلاء فينا. فيقول سبحانه: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ * فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمْ الأَنْبَاءُ} [القصص:65 - 66] أي: خفيت عليهم الحجج، وضاع عنهم الزور الذي كانوا يقولونه في الدنيا. قال تعالى: {فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ} [القصص:66] أي: لا يسأل بعضهم البعض عن شيء، قد أخرسوا في هذا الوقت فلا يقدرون على الكلام. وفي الآية الأخرى {قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23] فكأنهم لا يعرفون أن ينطقوا بحجة، أو أنها مواقف بين يدي الله سبحانه وتعالى، ففي حين يُختم على أفواههم فلا يقدرون على الكلام، فإذا تكلموا حاولوا الهرب فقالوا لربهم: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23].

تفسير قوله تعالى: (فأما من تاب وآمن)

تفسير قوله تعالى: (فأما من تاب وآمن) قال الله سبحانه وتعالى: {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} [القصص:67]. التوبة شرطها أن يرجع الإنسان إلى ربه سبحانه، ويبدل ما كان في عمله من سيئات إلى أعمال صالحة حسنة. والتائب هو الذي تاب عن كفره، ودخل في الإيمان وعمل صالحاً، وتاب عن ظلمه وآمن وازداد يقيناً وعمل العمل الصالح، قال تعالى: {فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} [القصص:67]. أي: عساه عند الله عز وجل أن يجعله من المفلحين، فمناه الله سبحانه بذلك، ووعد الله حق وكلامه صدق. فمن أتى بهذه الشروط أي: تاب وآمن وعمل صالحاً، يكون من المفلحين، ولماذا قال الله: (عسى) وما قال (يقيناً) ولاقال: (هؤلاء هم المفلحون)؟ و A كم من إنسان يظن أنه تائب إلى الله عز وجل ويقول ذلك في نفسه، وقد يخدع الإنسان نفسه، وعلى باله أنه لو عرض له هذا الذنب في يوم من الأيام فإنه سيعمله مرة ثانية، فالتوبة لا تكون صحيحة في قلب الإنسان إذا عجز عن الوقوع في المعصية ثم قال: تبت إليك يا رب، وكذلك إذا لم يقدر على مواجهة أهل الإيمان فيقول: أنا تبت وأسلمت ودخلت في الدين، لكن في قلبه الشك والنفاق ولعله يقع في الكفر بعد ذلك. فالله عز وجل يتكلم عن الجميع وفيهم المؤمنون الصادقون والمنافقون الذين يظهرون الطاعة ويبطنون المعصية، فيقول: عسى أن يكون هؤلاء من المفلحين. فأما من آمن حقاً ظاهراً وباطناً فهذا مفلح يقيناً، وأما من آمن في الظاهر أمام الناس ولم يصدق ذلك بقلبه فإنه يوم القيامة يكون مع المنافقين. إذاً: المفلحون هم الفائزون، والفلاح: الفوز الأبدي والنجاح الذي لا خسران بعده أبداً.

تفسير قوله تعالى: (وربك يخلق ما يشاء ويختار)

تفسير قوله تعالى: (وربك يخلق ما يشاء ويختار) قال سبحانه: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68]. يرد الله على هؤلاء المشركين وفيهم الكبار والصغار، فصغار المشركين ينظرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه على أنهم ليسوا أفضل من الذين معهم، وكبار المشركين ينظرون إليه حسداً لماذا جاءت إليه هذه الرسالة، قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] فكانوا يتمنون لو نزل هذا القرآن عليهم، وهذا منهم حسد للنبي صلى الله عليه وسلم. وعظيم مكة عند المشركين هو الوليد بن المغيرة، وكان من أعلمهم في الكلام والفصاحة واللغة العربية المتينة والشعر والخطابة، وكان من أغناهم، ولذلك ربنا سبحانه وتعالى ذكر هذا الرجل فقال: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا} [المدثر:11 - 16]. فقوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر:11] فيها معنيان: المعنى الأول متفرداً في الناس بهذا الذي عنده من غنى مال ومن أولاد وقوة، ومن رئاسة في قومه، وكان المفترض عليه أن يعرف الحق فيتبعه، وخاصة أنه هو الذي قال عن هذا القرآن العظيم: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر، والذي منعه من الإيمان بالله ورسوله هو كبره وحسده وقول بعض الكفار له: قل في هذا القرآن شيئاً لعل الناس يتبعونك، ولما أصروا عليه بدأ يفكر، قال تعالى: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ} [المدثر:18 - 19] أي: لعنة الله عليه، {كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ} [المدثر:18 - 23] وفي النهاية قال لهم: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر:24] فالله عز وجل ذكر ما قاله هذا الرجل عن هذا القرآن بأنه سحر، وهو يعلم في نفسه أن هذا مستحيل أن يكون سحراً. والمعنى الثاني: ذرني وإياه وحده، فسيأتي إلينا يوم القيامة لوحده وليس معه لا مال ولا بنون ولا شيء. فالمراد بالرجل العظيم في القريتين هو عظيم قريش الوليد بن المغيرة، أو عظيم الطائف عروة بن مسعود الثقفي، فكان يقول الكفار: لماذا لم ينزل القرآن على أحدهما وأنزل على النبي صلى الله عليه وسلم؟! فالصغار نظروا إلى هؤلاء الكبار أنهم الأحق في نزول القرآن عليهم، والكبار نظروا بحسد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك يذكر عنهم الله عز وجل: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:54] أي: يحسدون النبي صلى الله عليه وسلم على ما آتاه الله سبحانه وتعالى من فضله. وصغار المشركين يخاصمون كبراءهم فإذا كان يوم القيامة: {يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ} [سبأ:31 - 32] أي: أنتم الذين كنتم مجرمين في الدنيا. ففي الدنيا قد كان يدافع بعضهم عن بعض ويفدي بعضهم بعضاً بنفسه وروحه. ويوم القيامة يبرأ بعضهم من بعض، فالكبار يخاصمون الصغار، والصغار يتهمون الكبار أنهم السبب في ذلك، ويرد عليهم الكبار أنهم كانوا مجرمين وكانوا في بعد عن الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} [سبأ:33] أي: نظروا العذاب أمامهم فأسروا في أنفسهم الندامة، وأظهروا الحسرة والبكاء حين لا ينفعهم بكاء ولا حسرة، فكان الشقاء الأبدي على هؤلاء. قال الله عز وجل: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ويختار} [القصص:68] تفرد الله بالخلق سبحانه، وهو يأمر بما يشاء، فهو المتفرد بالأمر وبالشرع قال تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54] وهو وحده الذي يخلق ويأمر. إذاً: الشرع لا يكون إلا من عنده سبحانه وتعالى وهو الذي خلق العباد، وهو الذي يعرف ما الذي ينفعهم وما الذي يضرهم، لذلك شرع لهم الشريعة العظيمة التي نزلها في كتابه وفي سنة نبيه صلوات الله وسلامه عليه. إذاً: ربك يخلق ما يشاء من خلقه، ويختار من هؤلاء الخلق من يصطفيه، فاختار محمداً على هؤلاء جميعهم، ففضله صلوات الله وسلامه عليه، والكفار كانوا يريدون أن ينزل القرآن على رجل من القريتين، ولكن الله اختار النبي صلى الله عليه وسلم، أن يكون رسولاً، وهذا وهب من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم. ولا حاجة لأن يظل الإنسان يتعبد إلى أن ينزل عليه الوحي فيكتسب ذلك بعبادة الله، فهذا اختيار من الله سبحانه تبارك وتعالى، وتوفيق من الله لمن يريده، فيقطع عن الناس التمني فلا يتمنى الإنسان أن يكون رسولاً أو نبياً، إنما هذا وهب من الله لمن يشاء، فالله يخلق ما يشاء ويختار من يريد سبحانه. وقوله تعالى: {مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [القصص:68] أي: ليس الاختيار للخلق، ولا لهؤلاء الذين يريدون أن ينزل القرآن على الوليد بن المغيرة أو عروة بن مسعود. فـ (ما) هنا نافية على قول جمهور المفسرين، ومعنى الآية: ليس لهم من الأمر شيء كما قال الله سبحانه تبارك وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128] وكما قال الله سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]. إنما الاختيار إلى الله عز وجل، لذلك علمنا النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الاستخارة حين نقدم على عمل من الأعمال، فهو الذي يختار لنا الخير سبحانه وتعالى. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة القصص [68 - 73]

تفسير سورة القصص [68 - 73] الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الخلق وهو أعلم بهم، فهو الذي يعلم من يكون أهلاً للرسالة والنبوة، فليس الاختيار في ذلك للبشر، فإن ألوهيته تستلزم أن يكون له الحكم والأمر. ومن دلائل ألوهيته التأمل في عظمة حكمته في خلق الليل والنهار، وما ينتج عنهما من ضياء أو سكون.

يخلق الله ما يشاء ويختار

يخلق الله ما يشاء ويختار الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة القصص: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ} [القصص:68 - 71]. يخبرنا الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات أنه هو وحده الذي يخلق سبحانه تبارك وتعالى، وأن هو الذي يختار وأنه له الخلق وله الأمر كما قال سبحانه: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]، فهو الذي يخلق، وهو الذي يأمر، وهو الذي يشرع لعباده؛ لأنه أعلم بما في نفوسهم. قال: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ) أي: من خلقه سبحانه (ويختار) من يشاء من هؤلاء الخلق ليكونوا رسلاً وأنبياء، فأنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام أولياء الله اختارهم واجتباهم واصطفاهم، وجعلهم الخيرة من خلقه، فقال: (رَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ). وكان المشركون قد اعترضوا على كون النبي صلى الله عليه وسلم رسولاً من رب العالمين، وقالوا: هلا جعل الله هذه الرسالة لرجل من القريتين عظيم، قال تعالى: {وَقَالوُا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31]، فقال الله عز وجل رداً عليهم: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ) أي: ليس لهم الاختيار في ذلك، إنما هو من الله عز وجل يختار من يشاء، ويجتبي ويصطفي من يريد. {سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص:68] أي: تنزيهاً له سبحانه عن شرك هؤلاء المشركين، وعن إراداتهم الباطلة، فهم يريدون أن يفطئوا نور الله سبحانه تبارك وتعالى، ويريدون أن يكون الدين بالتشهي والهوى، فسبحان الله وتعالى الله عما يقول هؤلاء الكافرون.

تفسير قوله تعالى: (وربك يعلم ما تكن صدورهم)

تفسير قوله تعالى: (وربك يعلم ما تكن صدورهم) {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} [القصص:69]، وأنه قد تكن صدورهم أشياء وقد يعلنون بها، وقد يعلنون بغيرها، فربك أعلم هل يتوافق ما تكن صدورهم مع ما يقولون بألسنتهم أم أنهم يضمرون شيئاً ويظهرون غيره؟ وكم فضح الله سبحانه وتعالى الكفار والمنافقين في كتابه بأنهم يسرون أشياء ويظهرون غيرها، ويظهر الله عز وجل أن هذه الأشياء التي يظهرونها ليست هي حقيقة الأمر، فيكرهون البنات ويظهرون أمام الناس أنهم يحبون البنات؛ لكون البنت تجلب العار على أبيها، هذا كلامهم وهذا باطلهم، والله عز وجل يفضحهم سبحانه أنهم يفضلون البنين على البنات؛ لكونهم يخافون من ضيق الرزق، والله عز وجل يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء:31]، ويقول {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام:151]. كانوا يئدون البنات، والسبب في ذلك خوف الفقر، وأن البنت لا تقاتل ولا تجلب الرزق في ظنهم، فكان أحدهم يقتلها ليتخلص منها، ويظهر أمام الناس أنه ليس خائفاً من الفقر، ولكنه يخاف أن تكبر البنت وتقع في الفحش وغيره، ففضحهم الله عز وجل فيما أضمروا في قلوبهم، وأظهر سبحانه وتعالى هذا الذي يضمرونه. وكذلك كانوا يكذبون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: كذاب، ويقولون: ساحر، ويقولون: مجنون، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحزن، فإذا بالله يظهر ما يبطنون، ويقول: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ} [الأنعام:33]، أي: في حقيقة الأمر وفي قلوبهم هم يعلمون أنك صادق ولست كاذباً: {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33]. والجاحد: هو الذي يعرف الشيء ثم يكذبه، ويكذب الشيء وهو في نفسه يعلم أن هذا هو الحق، فالله عز وجل يفضح ما في قلوبهم يقول له: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ} [الأنعام:33] وإن كانوا بألسنتهم يقولون ذلك، لكن الحقيقة أنهم يضمرون في قلوبهم أنك صادق، ولكن الغيرة والحسد للنبي صلى الله عليه وسلم تدفعهم إلى أن يقولوا عنه: كذاب ويقولون: مجنون، ويقولون غير ذلك، فالله عز وجل يقول: {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} [القصص:69]. أيضاً كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: سل ربك أن يجعل لنا الصفا ذهباً، فإن فعل ذلك آمنا به. والله يعلم أنهم لن يستجيبوا، ولم يفعل ولم يحول لهم الصفا ذهباً، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبره ربه سبحانه أنهم لن يؤمنوا {وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:97]، فيخبر الله عز وجل أن فرعون ومن معه طلبوا الآيات ولم يؤمنوا بها، وجاءتهم الآيات مبصرة من عند رب العالمين فكذبوا بها، وهؤلاء القوم قد أظهر الله حقيقتهم وقد فضحهم وقد كذبهم فيما يقولون، فربك أعلم بما تكن صدورهم وما يعلنون. وكذلك كل إنسان كافر يقول: إنه لا يعرف إلهاً، أو إن الصدفة هي التي أوجدته مثلاً، فإن الله يكذبه ويقول: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87]، سواء أظهروا ذلك بألسنتهم أم أخفوا ذلك، فهم في قلوبهم يعلمون أن الخالق الواحد هو الله تبارك وتعالى، وأنه هو الذي يخلق وهو الذي يرزق، لذلك على المؤمن أن لا يهتم بقول الكافر بأنه لا يوجد إله، فالمؤمن يعرف أنه كذاب؛ لأن الله شهد عليهم أنهم يعرفون ذلك.

تفسير قوله تعالى: (وهو الله لا إله إلا هو له الحمد)

تفسير قوله تعالى: (وهو الله لا إله إلا هو له الحمد) يقول الله سبحانه: {وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:70]. (وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) قد عبر الله بلفظ الرب وبلفظ الإله، فله الربوبية وله الإلهية، هو الرب الخالق، وهو الإله المعبود تبارك وتعالى، وهو الله المستحق للعبادة، فلا يستحق العبادة إلا من كان يخلق، والخالق سبحانه هو الرب، والرب هو من يختار ويريد ويشرع تبارك وتعالى، ولا يستحق العبادة إلا من كان يعلم السر وما هو أخفى من السر، وهو الله المعبود المستحق للعبادة. (لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) أي: فلا يستحق العبادة غيره تبارك وتعالى، ولا معبود بحق إلا هو. (لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ)، فإن الله يُحمد في الدنيا وفي الآخرة، أولاً وآخراً، ظاهراً وباطناً، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحمد الله تبارك وتعالى بمحامد عظيمة يقولها كما جاء في الحديث: (ربنا ولك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد)، فالله سبحانه هو المستحق للمحامد جميعها، وقد حمد نفسه تبارك وتعالى في كتابه. والحمد معناه: الثناء بالصفات الجميلة التي له سبحانه وتعالى، فله الحمد قبل أن يخلق، وله الحمد بعدما خلق، وله الحمد قبل أن ينزل الكتاب، وله الحمد بعدما أنزله، وقبل كل شيء وبعده؛ له الحمد سبحانه لأنه يستحقه، فله الحمد أولاً وآخراً. (وَلَهُ الْحُكْمُ) بعد أن ذكر لنا في هذه الآيات ربوبيته التي مقتضاها أنه يخلق، وأنه يرزق، وأنه يصطفي ويجتبي ويختار، وأنه وحده الذي يستحق العبادة، وذكر لنا من صفاته أنه يعلم الغيوب سبحانه، ويعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون، وذكر لنا أن له الحكم وحده تبارك وتعالى، فهو يختص به كما اختص بالخلق ولا أحد يجادل في ذلك ويقول إن الخالق غير الله سبحانه وتعالى؛ فكذلك له الحكم وليس من حق أحد أن يشرع مع الله، ولا أن يلغي حكم الله سبحانه وتعالى، ولا يقول إن من حقه أن يحكم مع الله سبحانه، فإن الله تعالى له وحده الحكم وإليه المرجع والمصير. (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فالمرجع إلى الله تبارك وتعالى، وهنا يخبرنا عن صفاته لنعرف الله سبحانه، ولم يترك المعرفة لنا في أن نفكر ونؤلف ونقول: من صفاته كذا وكذا، ولكنه أخبرنا عن نفسه، وأخبرنا عن صفاته، وأخبرنا كيف نعبده سبحانه وتعالى، ولم يترك ذلك لأهوائنا.

تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا)

تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً) قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ} [القصص:71]. قوله: (أَرَأَيْتُمْ) أي: أخبروني عن هذا الأمر. قوله: (إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ). أي: لو كان ربنا جعل عليكم الليل سرمداً دائماً على وجه الأرض، فمعنى ذلك أن الأرض لن تدور، وستظل ثابتة في مكانها، فالأرض تدور حول نفسها خلال 24 ساعة، فيأتي عليها الليل والنهار، فالوجه المقابل للشمس يكون نهاراً، والوجه الآخر يكون ليلاً، فدوران هذه الأرض يجعلها تتعرض لشروق الشمس ولغروبها، فلذلك تقوم الحياة على الأرض، وتأتي طاقة من حرارة الشمس للأرض، فيعيش الناس. فتأملوا لو جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة، ماذا سيحصل إذا لم تأت الشمس إلى هذه الأرض؟ ستكون الأرض فيها الثلوج وتنخفض الحرارة، فيموت الخلق، فالله عز وجل لطيف ورءوف ورحيم بعباده سبحانه. يقول: تفكروا لو جعلنا عليكم الليل سرمداً، وانظروا إلى الكواكب حول هذه الشمس القريبة منها والبعيدة منها، فهي لا تصلح للحياة، ولكن جعل الله هذه الأرض صالحة للحياة، فجعلها في هذا المكان، وجعلها تدور، فليتأمل الإنسان في بديع قدرة الله سبحانه وتعالى، فإن الأرض في مدار تجري حول الشمس، وتدور حول نفسها، ولو قرب المدار قليلاً حول الشمس لاحترقت الأرض ومن عليها، وبعض الكواكب التي في المدارات القريبة من الشمس قليلاً تصل الحرارة فيها إلى خمسمائة درجة مئوية، أو أربعمائة وستين درجة مئوية، فمن يطيق ذلك؟! وكذلك لو بعدت الأرض عن الشمس لأصبحت الأرض كوكباً جليدياً لا توجد عليها حياة. (سَرْمَدًا ً): دائماً إلى يوم القيامة. (مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ)، أي: لو جعلها مظلمة على العباد، من إله غير الله يأتيكم بضياء، فعلى الإنسان أن يعلم أن النفس الذي يتنفسه من الأشياء الضارة، مثل ثاني أكسيد الكربون، فيجعله الله نفعاً لغيره، فيأخذه النبات بالنهار، ويخرج الأوكسجين لكي تتنفسه أنت، والذي يتسبب في ذلك هي الطاقة الشمسية وضوء الشمس مع الأوراق الخضراء التي في النبات، فلو أنه كان مظلماً، فسيتنفس النبات ما تتنفسه أنت، وكل ما على الأرض سيتنفس كما يتنفس الإنسان فتتلوث الأرض من نفس الإنسان، فمن إله غير الله يأتيكم بهذا الضياء الذي بسببه تتنفسون؟ وبسببه ينظر بعضكم إلى بعض، وتستفيدون من ضوء الشمس في كل شيء من فضل الله ومن رحمته. (أَفَلا تَسْمَعُونَ)، فلو كان الأمر دنيا مظلمة فليس معك إلا السمع، فلن ترى شيئاً، فاسمع لما نقول لك وافهم هذا الذي نقوله، فناسب ما ذكر من ظلمة ذكر السمع، ولم يقل: (أفلا تبصرون) وإنما قال: (أَفَلا تَسْمَعُونَ) أي: لهذا الذي نقوله.

تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا)

تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً) {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [القصص:72]. أي: إذا صار النهار سرمداً على الأرض جميعها، فسترتفع درجة الحرارة، وتذوب الثلوج الموجودة، فتغرق الأرض كلها. (مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ). أي: من يجعل الليل سكناً تنامون فيه، ومعلوم أن الإنسان لا يستريح إلا بالنوم في الليل، فالليل جعله الله عز وجل سكناً للإنسان، ولذلك لو أنه ينام في النهار ويستيقظ بالليل تتعب أعصابه ويمرض في النهاية، ولكن جعل الله عز وجل هدوء الليل وظلمة الليل للإنسان راحة يستريح بها، فيقول الله سبحانه: (مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ). والسكون: عكس الحركة، فلو نام الشخص في وقت الظلمة أربع ساعات لكفت أن يستريح ويقدر على العمل بعد ذلك، ثم ينام بعد ذلك بالنهار ثلاث ساعات أو ساعتين، ولكن لو أنه نام ست ساعات في النهار لا تكفيه؛ لأنه يحتاج إلى النوم في الظلمة، ويحتاج إلى النوم في الليل، فجعل الله الليل للعباد سكناً، وجعل طبيعتهم تتوافق مع ذلك، {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]. (أَفَلا تُبْصِرُونَ) أي: أفلا تبصرون في ضوء النهار ما يجعله الله عز وجل من آيات ترونها. قال تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص:73]، أي: جعل الله لكم الليل تسكنون فيه، والنهار تبتغون من فضله وتنتشرون. (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) وكأن هنا شيئاً مضمراً أي: تشكرونه على نعمة الليل والنهار، وجعل لكم ذلك لتطلبوا رزق الله عز وجل، وتسعوا في الأرض، وتأخذوا حظوظكم ونصيبكم، وتشكروا ربكم سبحانه على ما أنعم عليكم من نعم، والمؤمن يشكر ربه سبحانه ويحمده حمداً يليق به سبحانه، وشكراً يليق بإنعامه. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة القصص [73 - 77]

تفسير سورة القصص [73 - 77] يجمع الله الناس يوم القيامة، فيسأل المشركين عن شركائهم، ثم يستشهد عليهم بأنبيائهم الذين أرسلوا إليهم، فيسكت الكفار وتقوم عليهم الحجة.

تفسير قوله تعالى: (ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون)

تفسير قوله تعالى: (ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون) قال الله عز وجل: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ * وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:74 - 77]. في هذه الآيات من سورة القصص يخبرنا الله عز وجل عن رحمته بعباده كما يذكرنا بيوم القيامة، ويضرب لنا مثالاً لنعتبر ونتعظ به، فهذا إنسان قد آتاه الله عز وجل من الدنيا متعاً ومتعه، فجحد ولم يشكر نعم الله، وظن أن هذا لفضله وأنه بذكائه أوتيه وعلمه. فقال الله سبحانه: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص:73]، فبعد أن ذكر بنعمه العظيمة من جعل الليل محلاً للسكون والنهار محلاً لطلب المعاش وجعلهما متعاقبين {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} [الحج:66]، فينام الإنسان ويتذكر نعمة الله عز وجل عليه بالنوم، إذ لو استمرت يقظته أياماً لتعب ولم يقدر على العمل، وقد يموت من عدم النوم. لكن من رحمة رب العالمين أن جعل الإنسان ينام فيستريح، فكان النوم له سباتاً أي: راحة وانقطاعاً عن الدنيا، وهو مأخوذ من السبت، والسبت: القطع، والنوم هو الموتة الصغرى، ويري الله عز وجل الإنسان آياته بهذا النوم الذي يحتاجه المرء ويفتقر إليه، وهو الغني عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم عن ربنا سبحانه: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، بيده القسط، يرفع ويخفض) فهو الحي الذي لا يموت، والنوم أخو الموت كما جاء في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي الآية ما يفيد أن الإنسان قد يسكن بالنهار وإن كان سكونه في الليل أكثر، إذ فيه السكون وفيه الدعة والراحة والطمأنينة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من بات آمناً في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه؛ فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها)، أي: حصل على الدنيا جميعها، فمهما كان عند الإنسان من شيء يجد نفسه لا يحتاج إلى شيء طالما عنده هذه الأشياء. قوله: (بات) أي: جاء عليه الليل وهو في بيته. قوله: (آمناً في سربه) أي: لا يزعجه أحد في شيء، ولا يطلب أحد منه شيئاً، ولا يقتحم أحد عليه بابه ويخيفه ويزعجه. (معافى في بدنه) قد أعطاه الله نعمة العافية فقدر على النوم. أما المريض ففي سهاد لا يقدر على النوم يظل يتأوه، طوال ليله، متعب يشكو عدم قدرته على النوم، فإذا أعطاك الله عز وجل السكن، وأعطاك الأمن، وأعطاك العافية، ومن عليك بقوت هذا اليوم، فلا تنظر إلى الغد لعلك لا تعيش فيه الغد. فلو أن الإنسان دخل بيته في الليل فوجد الطعام عنده، وقد هيئ له السرير فنام مستريحاً فأي شيء يريده من الدنيا، فكان من رحمة الله بالعباد أن جعل لهم الليل ليسكنوا والنهار ليبتغوا من فضله، وكان من بلاغة الآية أن فيها لفاً ونشراً: فالليل لتسكنوا فيه والنهار لتبتغوا من فضل الله عز وجل، ورزقه ورحمته فتتنعموا بذلك في الدنيا، وتحمدوا الله سبحانه، ولعلكم تشكرونه على ما أولاكم وما أعطاكم. وعليكم أن تدركوا أنه إذا أعطاكم في الدنيا فإنه يسألكم يوم القيامة، {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:8]؛ ولذا قال: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} [القصص:62]، أي: يوم ينادي المشركين فيقول: {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص:62]، أين هؤلاء الشركاء، الذين عبدتموهم من دون الله، واتخذتموهم أنداداً لله سبحانه، من الأصنام والأوثان والملائكة والجان.

تفسير قوله تعالى: (ونزعنا من كل أمة شهيدا)

تفسير قوله تعالى: (ونزعنا من كل أمة شهيداً) قال سبحانه: {وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} [القصص:75]. أي: جئنا من كل أمة بشهيد وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فيؤتى من كل أمة بشهيد ينادي عليه تعالى: اشهد على قومك، أبلغت هؤلاء؟ فيقول الرسول: نعم. أي رب. فيسأل الأقوام المكذبين: أبلغكم هذا؟ فيقولون: لا. فيقال لهذا الرسول عليه الصلاة والسلام: من يشهد لك؟ فيقول: أمة محمد صلوات الله وسلامه عليه! فتشهد أمتنا على الأمم، وعلى أن رسلهم قد بلغوا، وكانت شهادتنا عليهم بما في هذا القرآن، فقد أخبرنا الله عز وجل عن دعوة الأنبياء لقومهم وتكذيبهم لأنبيائهم ومن ذلك: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون:23]، {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:65]، {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:73]. ثم يؤتى بنبينا صلوات الله وسلامه عليه فيشهد علينا وعلى الجميع. قال سبحانه: {وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا} [القصص:75] لهؤلاء المشركين: {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [القصص:75] أي: هاتوا ما تحتجون به من أثر، أو من يشهد لكم أنكم كنتم على صواب. قال: {فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ} [القصص:75] فلما انعدمت حجتهم استيقنوا أن ما كانوا يقولونه باطل، وإن كانوا يزعمون في الدنيا أنه حق، وينصرونه لا بقوة حجتهم ولكن بقوة أبدانهم وأسلحتهم، فيلزمون غيرهم بما يقولونه من باطل، ويستخفون بهم، قال الله سبحانه: {فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ} [القصص:75]، ومعلوم أن يوم القيامة لا باطل فيه، وهم يوم القيامة يستيقنون أن الحق لله وحده ويصدقون به، ولكن حين لا ينفع التصديق، ويندمون حين لا ينفع الندم. قال سبحانه: {فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ} [القصص:75]، والعلم بمعنى: اليقين، أي استيقنوا الآن أن الكلام الحق كلام رب العالمين، وقد كانوا في الدنيا يعرفون ذلك ولكن يتكلمون بالباطل ويزعمون أن معهم حججاً وبراهين. يقول الله سبحانه: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [القصص:75]، ((وَضَلَّ))، بمعنى: تاه، وذهب عنهم، يقف الواحد منهم في الدنيا يتكلم ويتهم المؤمنين بأنهم هم المتزمتون والمتشددون وأنهم هم أهل الباطل، وأنهم رجعوا للعصور الوسطى والكتب الصفراء. وقد يجد من يقبل منه مثل هذا الكلام الباطل، رغم أنه محض كذب، ومن يستمع إليه إنما يفعل ذلك اليوم، أما يوم القيامة فلا قوة إلا لله سبحانه، ولا حيلة لأحد يوم القيامة مع الله سبحانه وتعالى، فظهر الحق جلياً، وضاع منهم وتاه عنهم ما كانوا يختلقونه ويفترونه في الدنيا، وما كانوا يكذبونه، فبهتوا يوم القيامة وندموا على ما قدموا، {وضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [القصص:75].

تفسير قوله تعالى: (إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم)

تفسير قوله تعالى: (إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم) يذكر لنا الله قصة عجيبة، وهي قصة قارون، ذلك الإنسان الذي كان ملكاً بما أوتي من المال. وقد أرانا الله عز وجل فرعون في ملكه، وأرانا قارون في ماله، وأرانا هامان في رئاسته ووزارته، لنرى ما يصنع الجاه والمال والملك بالإنسان، إن لم يتق الله سبحانه وتعالى. كان قارون من بني إسرائيل، {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} [القصص:76]، ولم يكن من أهل فرعون، ولكن غره أن فرعون قربه منه، فإن فرعون كان له الملك على مصر ومعه هامان الوزير المستعلي على الخلق، وتبعهم قارون مع أنه ليس من قومه، بل هو من قوم موسى. وقيل: كان ابن عم موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وبالرغم من أنه كان قريباً لموسى إلا أنه لم يستفد من دعوته، بعكس هارون أخي موسى فقد انتفع بدعوة موسى عليه الصلاة والسلام وصار نبياً بعده، أما قارون فقد ملأ قلبه حسداً لموسى وأخيه عليهما الصلاة والسلام على ما آتاهما الله من الرسالة وهما من الفقراء ولم يعطها وهو الغني. فبغى على قومه، وهم بنو إسرائيل، وكذا الإنسان حين يترك نفسه لهواه يستعلي على من معه، فرعون لم يعجبه الناس فأراد أن يكون فوق الناس، فزعم أنه الإله على الناس، وأنه الرب، واختلق لهم البراهين، وأخذ يقول: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51]، ومع أن حججه باطلة إلا أن الناس صدقوها فعبدوه من دون الله سبحانه، وكان فرعون لا ولد له فكان يقول: أنا ابن الشمس، والشمس إله وهو ابن لها! فيزعم الباطل، وهذا الكلام الذي راج على الناس صدقوه وإن كانوا في قلوبهم غير متيقنين، ولكن صدقوه بألسنتهم واتبعوه فيما يقول؛ خوفاً من سطوته وإعجاباً بقوته الزائلة في الدنيا ويوم القيامة قال تعالى: {َضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:24]. وممن تبعه قارون وكان من قوم موسى فبغى عليهم، إذ لما أحس بقربه من سلطة فرعون بدأ يتقرب من فرعون ويبتعد عن موسى ومن معه، ويستكبر عليهم. قال عنه الله سبحانه وتعالى: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص:76]، فالله قد أعطاه مالاً عظيماً، وكنوزاً كثيرة من الذهب والفضة، وامتلك الخزائن العظيمة التي لا يستطاع وزنها، بل إن مفاتيح هذه الخزائن كانت تجمع، حتى لو قام عصبة من أولي القوة، أي: عشرة من الرجال الأشداء فإنها تنوء بهم؛ أي: تثقلهم وقد لا يستطيعون حملها! فقوله: {لَتَنُوءُ} [القصص:76]، من ناء بالشيء إذا أراد أن يحمله فثقل عليه، فمال به، وكاد يسقطه على الأرض من شدة ثقله، فكيف بتلك الخزائن! وقد نتساءل: هل هو محتاج لهذا المال؟! مهما عمر الإنسان فلن ينفق هذا المال الكثير. ومع أن الله قد أعطاه ذلك كله إلا أنه جحده ولم يشكره! قال الله سبحانه: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص:76]. وقد يفهم من الآية مقت الفرح عموماً، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفرح بنصر الله سبحانه وتعالى، وقد أخبر الله عز وجل عن المؤمنين أنهم يفرحون بنعمة الله سبحانه، ويستبشرون بها، ومثل هذا الفرح مشروع، وإنما المذموم الفرح الذي يجعل الإنسان يطغى ويغرق فيستعلي على الخلق، ويرى نفسه أعلى منهم، بطراً وأشراً. وجاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه ذرة من كبر، فقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة فهل هذا من الكبر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق، وغمط الناس)، فبطر الحق أي: عدم قبوله، فقد يعلم أن معك الحق لكنه لا ينظر للحق الذي معك، بل ينظر إليك أنت، وإلى فقرك البادي على ثوبك ونعلك، وسوء هيئتك، فيلغي ذلك الحق ولا يقبله منك. قوله: (وغمط الناس)، بمعنى أنه يحتقر الناس، ويراهم دونه، فلا يستحقون أن يستمع إليهم، وكذلك كان قارون، فقال له قومه: لا تفرح، أي: لا تستكبر، وكأنهم تأدبوا معه في الموعظة، فبدلاً من أن يقولوا له: لا تستكبر، قالوا له: لا تفرح، والمعنى: لا تبالغ في فرحك بما أوتيت فقد يطغيك هذا الفرح الذي أنت فيه، وكم من إنسان يفرح فتأخذه سكرة الفرح، فيطغى على الناس، ويفعل ما لا ينبغي له أن يفعل، كمن يتزوج فيعلن فرحته بزواجه بأن يحضر الراقصات والمعازف والخمور والحشيش ويفعل ما نهى الله عز وجل عنه، غروراً واستكباراً على الحق الذي أمر الله عز وجل به، فيدخل تحت وعيد قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص:76].

تفسير قوله تعالى: (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة)

تفسير قوله تعالى: (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة) {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ} [القصص:77]، أي: إذا كان الله قد أعطاك هذه الكنوز العظيمة فلم لا تنفق من هذه الكنوز ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى، بدلاً من الاستكبار في الدنيا؟ {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77]، وهنا يظهر التحلي بأدب الموعظة، إذ إنك لو وعظت غنياً فلا تأمره أن ينفق كل ماله! فالله برحمته سبحانه لم يأمر العباد أن ينفقوا جميع أموالهم، بل النبي صلى الله عليه وسلم حين أخبره سعد بأنه عازم على أن يوصي بماله كله -وذلك في مرض موته- نهاه عن ذلك وقال له: (الثلث والثلث كثير). ولذا لو أن الإنسان شارف على الموت لا ينبغي أن يوصي بكل ماله، بل ثلث المال فقط، والثلث كثير، كما أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم. ومن الأدلة على ذلك أيضاً ما حدث مع كعب بن مالك حين تاب إلى الله عز وجل، وهو من الثلاثة الذين خلفوا وذكر الله قصتهم في سورة براءة، قال: (يا رسول الله! إن من توبتي أن أخرج مالي كله صدقة لله)، أي: أترك المال كله فلا آخذ لنفسي منه شيئاً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أمسك عليك بعضه فهو خير لك). فليس كل إنسان كـ أبي بكر الصديق، إذ إن له خصوصيات، حيث أنفق ماله كله على دين الإسلام وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يليه عمر رضي الله عنه، حيث أنفق نصف ماله، وليس كل الناس كـ عمر رضي الله عنه، فالله عز وجل لم يأمر العبد أن ينفق ماله كله، لكن تصدق من هذا المال وأد شكر النعمة. {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ} [القصص:77]، أي: اطلب الجنة بهذا المال ولا تنس نصيبك من الدنيا، بل استمتع بمالك في الحلال الذي هو طيب لك. فالمعنى: لا تنس نصيبك من الحلال، فكل واشرب ولا تسرف، وأنفق في الحلال ما تحب من إنفاق، بعد أن تعطي لله عز وجل حقه. {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:77]، فلا بد على الإنسان أن يتذكر دائماً نعمة الله عز وجل عليه، وهنا أمروه أن يحسن ويتذكر إحسان الله عز وجل عليه، ويحذر من الفساد، {وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:77]، وهنا كأنهم يعرضون به: أنت مفسد، وأنت مستكبر، ولكن صاغوها بتلك الصياغة الجميلة لعله يتعظ ويتذكر، ولكنه لم يتعظ ولم يتذكر، كما سيأتي بعد ذلك إن شاء الله.

تفسير سورة القصص [76 - 82]

تفسير سورة القصص [76 - 82] كان قارون من بني إسرائيل، وكان رجلاً غنياً فبغى على قومه واستكبر، ولم يشكر الله تعالى، فعاقبه الله وخسف به وبداره الأرض.

سبب طغيان قارون ونصح قومه له

سبب طغيان قارون ونصح قومه له الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص:76 - 78]. ذكر الله عز وجل في هذه الآيات قصة من قصص القرآن وفيها عبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. والمؤمن يعتبر من القصص التي في كتاب الله عز وجل، فإن الله سبحانه وتعالى يذكر لنا فيها مواطن العبر والعظات. كان الرجل من قوم موسى، وكان اسمه قارون قالوا: كان ابن عم موسى أو كان قريباً لموسى عليه الصلاة والسلام، فهو من بني إسرائيل، وبنو إسرائيل كانوا مستذلين في مصر من فرعون وملئه وجنوده، وهذا الرجل منهم ثم بغى عليهم واستكبر ورأى أنه أفضل منهم وأنه أحسن منهم؛ لأن الله أعطاه مالاً كثيراً. فسبب بغيه وطغيانه أن الله عز وجل آتاه كنوزاً عظيمة قال: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص:76]، إذا كانت هذه المفاتيح فكيف بالكنوز نفسها، فقد كان العشرة من الرجال لا يقدرون على حمل مفاتيح الخزائن، فاغتر هذا الرجل بماله واغتر بما آتاه الله سبحانه وتعالى من كنوز. قال الله سبحانه: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ} [القصص:76]. أي: لا تغتر، ولا تستكبر، ولا تكن من المفسدين؛ لأن الفرح المطغي للإنسان يجعله يفسد فيكون فاسداً في نفسه بعيداً عن الصلاح، ويكون مغوياً لغيره، فهو باستكباره وهو من بني إسرائيل يدفعهم إلى أن يحسدوه وإلى أن يتمنى كل منهم الدنيا ويتناسى الدار الآخرة، وهذا الذي حصل من كثيرين منهم. وهنا يذكر الله عن بعض قومه قولهم له إن الله عز وجل لا يحب الإنسان الذي يبطر ويستكبر على الخلق ويرى نفسه أفضل منهم، فالله لا يحب من يفرح هذا الفرح الغامر الذي يجعله يتعالى على غيره، وإلا فإنه يجوز للإنسان أن يفرح بما آتاه الله من مال وعلم وحكمة، ويفرح المؤمنون بنصر الله كما قال الله: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم:4 - 5]. فالفرح الذي يحبه الله عز وجل لعباده هو أن يسر المؤمن برحمة الله سبحانه، وأن ينسب الخير إلى ربه سبحانه، فيفرح لأنه مؤمن؛ ولأن الله أعطاه من نعمه فيشكر الله عز وجل ويحمده عليها، أما الفرح الذي لا يحبه الله عز وجل ويبغض صاحبه فهو الذي يدفع صاحبه للغرور، وللإفساد في الأرض، وللشعور بأنه أعلى من غيره. قال الله: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77]. فكانت نصيحة له ذكرها الله عز وجل في القرآن لتكون نصيحة لكل منا، والإنسان حين يعطيه الله عز وجل المال الكثير يعلم أن المال مال الله عز وجل، ويعلم أن الدنيا زائلة، وأنه سيترك هذا المال يوماً من الأيام، فإذا كان الأمر كذلك فليتصرف في هذا المال بما يرضي ربه سبحانه وتعالى، وبما يجعله له ذخراً في الآخرة، فيعمل الصالحات ولا يقال للإنسان: تصدق بجميع مالك، ولكن تصدق بشيء وأبق شيئاً لأهلك فهو خير لك. فقال له قومه: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ} [القصص:77]، أي: في هذا الذي أعطاك الله عز وجل ابتغ الدار الآخرة، فخذ من مالك وأنفق في سبيل الله سبحانه، وأنفق على قومك، وأنفق على من يجب عليك أن تنفق عليه، وابتغ بهذا المال إصلاح دنياك وإصلاح أخراك. {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77]، الإنسان يحب أن يكون له أشياء يختص بها في الدنيا، يكون له بيت، يكون له قصر، يكون له طعام، يكون له شراب، يكون له زوجة أو زوجات، فمهما أخذت فلا حرج عليك طالما أنها مباحة لك شرعاً، ولكن قد قال الله سبحانه: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31]، فلا يجوز للإنسان أن يسرف، وأن يضيع ماله فيما لا ينفعه في الدنيا ولا في الآخرة، كل بقدر معلوم، واشرب بقدر معلوم، ولا تتجاوز الحد فتتعب نفسك وتحرم غيرك. فقال له قومه: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ} [القصص:77]، أي: تذكر أن هذا من عند الله عز وجل فابتغ الدار الآخرة بهذا: {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77]، أي: خذ من هذه وهذه، فالمؤمنون يقولون: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201]. والكافر يسأل الله عز وجل الدنيا، يريد المال والبنين والمنصب، ويريد كل شيء فيها وينسى الدار الآخرة، فحذره قومه من ذلك، وذكروه وقالوا: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:77]، {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60]، أي: أحسن الله عز وجل إليك فأعطاك، فأحسن أنت إلى غيرك، فجزاء الإحسان إحسان من الله سبحانه، إذا أحسنت وأعطيت للناس فإن الله سيعطيك: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]. تذكر هذه الآية، وقس ما في هذه الآية على ما صنعه هذا الرجل، الله سبحانه وتعالى ذكره على ألسنة قومه فلم يتذكر ولم يعتبر، قالوا له: تذكر أن الله قد أحسن إليك، لا؛ لأنك تستحق ولكن لفضله سبحانه ولكرمه. {وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ} [القصص:77]، أي: لا تطلب الإفساد في الأرض: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:77]. {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص:76]، لما سمع ذلك ازداد كبراً، وازداد غروراً ولم ينتصح بهذه النصيحة الجميلة بل رد عليهم رداً لا يدل على عقل وإنما يدل على جهل. قال الله: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77]، فكانت نصيحة له وذكرها الله عز وجل في القرآن لتكون نصيحة لكل منا، والإنسان حين يعطيه الله عز وجل المال الكثير يعلم أن المال مال الله عز وجل، ويعلم أن الدنيا زائلة، وأنه سيترك هذا المال يوماً من الأيام، فإذا كان الأمر كذلك فليتصرف في هذا المال بما يرضي ربه سبحانه وتعالى، وبما يجعله له ذخراً في الآخرة فيعمل الصالحات، ولا يقال للإنسان: تصدق بجميع مالك، ولكن تصدق بشيء وأبق شيئاً لأهلك فهو خير لك، فقال له قومه: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ} [القصص:77]، أي: في هذا الذي أعطاك الله عز وجل ابتغ الدار الآخرة، فخذ من مالك وأنفق في سبيل الله سبحانه، وأنفق على قومك، وأنفق على من يجب عليك أن تنفق عليه، وابتغ بهذا المال إصلاح دنياك وإصلاح أخراك. {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77]، الإنسان يحب أن يكون له أشياء يختص بها في الدنيا، يكون له بيت، يكون له قصر، يكون له طعام، يكون له شراب، يكون له زوجة أو زوجات يحب أن يختص بشيء، فمهما أخذت من أشياء مباحة فلا حرج عليك طالما أنها مباحة لك شرعاً، ولكن قد قال الله سبحانه: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31]، فلا يجوز للإنسان أن يسرف، وأن يضيع ماله فيما لا ينفعه في الدنيا ولا في الآخرة، كل بقدر معلوم، اشرب بقدر معلوم، لا تتجاوز الحد فتتعب نفسك وتحرم غيرك، فقال له قومه: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ} [القصص:77]، أي: تذكر أن هذا من عند الله عز وجل فابتغ الدار الآخرة بهذا: {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77]، أي: خذ من هذه وهذه، فالمؤمنون يقولون: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201]. والكافرون يسألون الله عز وجل الدنيا يريد المال والبنين، والمنصب ويريد كل شيء فيها وينسى الدار الآخرة، فحذره قومه من ذلك، وذكروه وقالوا: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:77]، سبحانه: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60]، أي: أحسن الله عز وجل إليك فأعطاك، فأحسن أنت إلى غيرك، فجزاء الإحسان إحسان من الله سبحانه، إذا أحسنت وأعطيت للناس فإن الله سيعطيك: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]، تذكر هذه الآية وقس ما في هذه الآية على ما صنعه هذا الرجل، الله سبحانه وتعالى ذكره على ألسنة قومه فلم يتذكر ولم يعتبر قالوا له: أحسن وتذكر أن الله قد أحسن إليك ليس؛ لأنك تستحق ولكن لفضله سبحانه ولكرمه، وإياك أن تفسد في الأرض، {وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ} [القصص:77]، أي: لا تطلب الإفساد في الأرض: {

تفسير قوله تعالى: (قال إنما أوتيته على علم عندي)

تفسير قوله تعالى: (قال إنما أوتيته على علم عندي) قال الله سبحانه: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78]. قالوا: كان هذا الرجل يقرأ التوراة ويجيد قراءتها، فيقول: لأني أحسن منكم في القراءة أنا أستحق هذا الشيء. أو قال: على علم من عندي يعني أنا ذكي وأنا أستحق ذلك بتعبي وبكدي. وكثير من الناس يعطيه الله عز وجل من فضله فيقال له: احمد ربك على ما أعطاك فيقول: أنا ذكي وأعرف أشتغل، وأنا أجيد عملي وأعتمد على نفسي، وينسى الله سبحانه وتعالى، كم من إنسان يفعل كما فعل قارون مع الفارق بين الاثنين، قارون أوتي كنوزاً عظيمة وهذا قد يؤتى شيئاً حقيراً يسيراً، هذا يقول: أوتيته على علم مني، وذاك يقول: بذكائي وبقوتي وبتفكيري وسأخطط وسأعمل، وينسى تدبير الله سبحانه وتعالى. {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78]، يعني: على علم بوجوه التجارة ووجوه الكسب، والأماكن التي يمكن أن أكسب فيها. {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا} [القصص:78]. يعني: هذا الإنسان الذي أعطاه الله عز وجل مالاً، وأعطاه رجالاً، قد مر قبله قرون كثيرة كان فيهم ملوك وعظماء عندهم الأموال وعندهم الجيوش، وهذا لا يساوي شيئاً بجوار هؤلاء الملوك، وإن كان يضرب به المثل في الغنى، ولكن الله عز وجل قد أهلك قبله من هو أشد منه قوة وأكثر جمعاً للدنيا. {وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص:78]. فكأنه سبحانه وتعالى يحذر الإنسان إذا آتاه الله عز وجل من المال وآتاه من الكنوز أن يغتر بذلك، بل عليه أن يحذر من الغرور وأن يتذكر السابقين، فإنهم اغتروا فأهلكهم الله سبحانه وتعالى، ولو كان المال يدل على فضل صاحبه لما أهلك الله عز وجل هؤلاء بذنوبهم، فقد أعطاهم أموالاً كثيرة ثم أهلكهم بذنوبهم فليعتبر قارون وليعتبر من يقلده. لكن قارون لم يعتبر مع أن الله عز وجل قد نصحه على ألسنة قومه وعلى لسان موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ولكن لم يتفكر ولم يتذكر أن السابقين كان عندهم أموال كثيرة وما وصلت إليك هذه الأموال إلا حين تداولها السابقون، فلم يكن المال مالك، ولم تولد ومعك هذا المال ولكن أخذته ممن جمعه قبلك، وتذكر أن من كان معه هذا المال قبلك قد أهلكه الله سبحانه، وأنه لم يعطه المال لفضله. واعتبر بفرعون الذي هو ملك وأنت لست ملكاً وإنما أنت رجل تملك مالاً وهذا الملك أهلكه الله سبحانه وتعالى، فقد كان عدواً لموسى وأنت تعلم ذلك، وكم أهلك الله من قبله من القرون من هو أشد قوة وأكثر جمعاً للمال. {وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص:78]، أي: لا يحتاج الله سبحانه أن يسألهم سؤال استفهام، فهو قد أحصى عليهم كل شيء فعلوه، فلا يسألهم سؤال من لا يعرف، وإنما يسألهم سؤال توبيخ وتقرير وتبكيت وفرق بين سؤال وسؤال. فأن تسأل الإنسان عن الطريق الذي يوصلك إلى مكان كذا؛ لأنك لا تعرف، وحين تسأل إنساناً بقولك أنت عملت هذا الشيء وسأحاسبك عليه، فأنت تسأله لتبكته، فهم لا يسألون سؤال من يجهل حالهم، أو سؤال من يكرمهم بذلك، وإنما سؤال إهانة، وتبكيت وتقريع، وتوبيخ يوم القيامة، فالله عز وجل يذكر أنه سيسألهم قال: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:92 - 93]، ويقول هنا: {وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص:78]، ولا تعارض؛ فإن الله عز وجل سيسألهم سؤال العالم بهم، فهو علام الغيوب سبحانه وتعالى، ولن يسألهم سؤال من لا يعرف عنهم شيئاً، بل يسألهم سؤال القادر العالم الذي يبكت على الشيء، ثم يدخلهم النار بعد ذلك، فلا يسأل عن ذنوبهم المجرمون.

تفسير قوله تعالى: (فخرج على قومه في زينته)

تفسير قوله تعالى: (فخرج على قومه في زينته) وذكر سبحانه وتعالى أنه خرج على قومه في زينته وذكرنا قبل ذلك قصة لـ قارون مع موسى عليه الصلاة والسلام تدل على كفر هذا الرجل، وإن كان من قوم موسى عليه الصلاة والسلام، وإن كان من أحسن قراء التوراة في عصره، ولكنه أراد أن يكيد لموسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام. ومن كيده أنه ذهب إلى امرأة بغي وأعطاها مالاً، قيل: أعطاها ألفي درهم ثم سألها أن تقول أمام الناس إن موسى عليه الصلاة والسلام زنى بها. وجاء بالناس وقال لهم: موسى يفعل كذا وكذا، وذهب إلى موسى أمام الناس وقال: ما جزاء من يزني في شرعك؟ فقال له موسى عليه الصلاة والسلام إنه يرجم، قال: وإن كنت أنت؟ قال: وإن كنت أنا، فإذا به ينادي على المرأة فتقول: إن موسى زنا بها! فلما قالت ذلك دعا موسى ربه سبحانه وتعالى، ثم قرر المرأة ما الذي تقولينه؟ فقالت: لقد أعطاني مالاً حتى أقول عليك كذا، فرجعت عن كلامها، فدعا موسى على قارون فاستجاب الله سبحانه وتعالى له استجابة عجيبة جداً، فقد جعل هذا الرجل يعلو فجأة أمام الناس حتى يأخذه وهو في علوه وغروره فيجعله عبرة للناس حوله. فإذا ب قارون يزداد عتواً وغروراً فيخرج على الناس في يوم عيد ليريهم أنه أعلاهم، وأنه أفضلهم، فتزين زينة عظيمة، وقد ذكر الله عز وجل في هذه الآية أنه خرج على قومه في زينته، وترك لك أن تتخيل ما هذه الزينة، ولم يفصل لنا ما هي، ولكن واضح أنه خرج على الناس، ولن يخرج لوحده، ولكن تخيل أنه خرج في غلمانه، مع أولاده، ومع الجواري، معه مال يتزين به غير الذي تركه في دياره وفي خزائنه، لقد خرج على الناس في زينته ليريهم أنه أفضل منهم، وحتى يتحسروا على ما هم فيه من فقر، فكان الرجل فتنة لهم. فلما خرج {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا} [القصص:79]، والأمة التي مع موسى هم بنو إسرائيل فيهم المؤمن القوي، وفيهم المؤمن الضعيف الإيمان، فيهم الصالحون وفيهم الفاسدون، فقال كثير منهم وهم الذين يريدون الحياة الدنيا واغتروا بما رأوه من قارون {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ} [القصص:79]. أي: يا ليت عندنا مثل ما عند هذا الإنسان، والإنسان أحياناً ينسى النعم التي أعطاه الله سبحانه وتعالى في بدنه وفي قلبه وفي عقله وفي لسانه، {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:8 - 10]. والله عز وجل نعمه عظيمة على الإنسان لكنه ينساها إذا نظر إلى ملك من الملوك يتبختر أمامه، فتراه يقول: ياليت عندي مثل ما عند فلان، كذلك هؤلاء قالوا: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ} [القصص:79]، فإن الله قد فتح له باباً واسعاً جداً، فعنده المال الكثير، وعنده الحظ العظيم: {إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظيمٍ} [القصص:79]. وأهل الإيمان وأهل الطاعة يعرفون أن هذا كله زائل ولن يبقى منه شيء.

تفسير قوله تعالى: (وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير)

تفسير قوله تعالى: (وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير) قال سبحانه: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [القصص:80]. والذين أوتوا العلم قريبون من فضل ربهم ومن رحمة ربهم ومن حكمة ربهم سبحانه وتعالى، قالوا لهؤلاء: {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [القصص:80]. أي: هذا كله لا يساوي شيئاً بجوار ثواب الله وفضل الله، وجنة الله سبحانه وتعالى، وكلامهم فيه توجع لما في هؤلاء من طمع وطلب للدنيا، فقالوا: {وَيْلَكُمْ} [القصص:80]، أي: أفيقوا من هذا الذي أنتم فيه، فلكم الويل على ما تقولون! وليس المعنى أنهم يدعون عليهم بالويل، ولكنهم يتعجبون مما هم فيه من حال، ومن نسيانهم لربهم سبحانه وتعالى. {ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [القصص:80]، أي: كل هذه الدنيا لا تساوي شيئاً عند الله سبحانه، فما عند الله خير وأبقى للذين يعملون الصالحات. قال: {وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص:80]، أي: جنة الله رب العالمين لا يلقاها إلا الصابرون، والأعمال الصالحة (لا يلقاها) أي: لا يؤتاها إلا من صلح واستحق ثواب رب العالمين سبحانه. إذاً: العمل الصالح والجنة يلقاهما الصابرون الصالحون.

تفسير قوله تعالى: (فخسفنا به وبداره الأرض)

تفسير قوله تعالى: (فخسفنا به وبداره الأرض) قال الله سبحانه تبارك وتعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ} [القصص:81]. أي: لما كان الأمر على ذلك وكان المؤمنون ينظرون إليه أنه مغرور وأن ما عنده لا يساوي شيئاً مما عند الله، وكان الذين لهم طمع في الدنيا يتحسرون على حالهم وينظرون إليه نظرة حسرة وحسد، إذا بالله عز وجل يخسف به الأرض أمام الجميع. فتزلزلت الأرض من تحته، وغاص في الأرض بزينته وماله ودياره وخزائنه، وكل شيء كان يملكه لم يجعلها الله إرثاً لبني إسرائيل، فإنه لو ترك هذا المال لكان ميراثاً لبني إسرائيل ولكن الله عز وجل لم يجعله لهم وإنما خسف بـ قارون وبداره الأرض. {فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ} [القصص:81]، يعني: لم يكن معه قليل ولا كثير {يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ} [القصص:81]، وحتى لو كانت له فئة فمستحيل أن ينتصر وقد كتب الله عز وجل عليه الهزيمة. قال سبحانه: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ} [القصص:82]، أي: حين وقعت المفاجأة بهت الجميع ثم ردت إليهم عقولهم فأصبحوا بعد ذلك يتكلمون عما حدث في هذه القصة. لقد كانت مفاجأة للجميع، ثم جاءت التذكرة بعد ذلك، وحين تنزل مصيبة بالإنسان لا يعتبر ويتفكر في وقت المصيبة، ولكن يمر عليه الليل وحين يصبح بالنهار يتفكر فيما حدث. {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} [القصص:82]. (وي) كأن أصلها: ويل، وهي كلمة تقال عند المفاجأة وعند التوجع، وعند التعجب، فكأنه يقول: عجباً كأن الأمر كذا وكذا، فقال سبحانه: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ} [القصص:82]. وقيل معناها: ألم تر أن الله فعل كذا وكذا. {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} [القصص:82]. (يبسط) يعطي كثيراً، (يقدر)، يقبض ويضيق سبحانه وتعالى، فيعطي ويمنع. {لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} [القصص:82]. أي: كانت مصيبتنا مصيبة عظيمة لو كان الله أعطانا مثلما أعطى هذا الإنسان، {لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا} [القصص:82]، يعني: نحن طمعنا وتمنينا ما مع هذا الإنسان، ولو أن الله أعطانا لخسف بنا كهذا الإنسان. {وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص:82]، أي: الشأن والأمر أنه لا يفلح الإنسان الكافر مهما أعطاه الله عز وجل في الدنيا من مال ومن بنين. نسأل الله عز وجل العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة القصص [83 - 88]

تفسير سورة القصص [83 - 88] يحث الله عباده المؤمنين على المسارعة إلى فعل الخيرات والأعمال الصالحة، فهو سبحانه يضاعف الحسنة إلى عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، ويجازي بالسيئة مثلها، ثم يمتن الله على نبيه بالنبوة، حيث إنه لم يخطر بباله أنه سينال النبوة ويعطى الرسالة، فهذا شيء عظيم، ومرتبة كبيرة ذات شرف، ونهاه عن أن يصدق الكافرين، أو يستسلم لصدهم عن سبيل الله، ولا يدعو مع الله إلهاً آخر ما دام أنه علم الدين الحق، وأوتي القرآن، وبعث بالنبوة.

تفسير قوله تعالى: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض)

تفسير قوله تعالى: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض) الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وبعد: قال الله عز وجل في وسورة القصص: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ * وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:83 - 88]. هذه الآيات الأخيرة من هذه السورة الكريمة يخبر الله سبحانه وتعالى فيها عن الدار الآخرة، وكيف أنه يجعلها لمن لا يريد علواً في الأرض ولا فساداً، وأن العاقبة الحسنة والجنة العظيمة لمن اتقى الله سبحانه وتعالى. والمناسبة من هذه الآيات أن قبلها قصة فرعون، فذكر الله عز وجل أنه علا في الأرض، واستكبر على من معه فقال: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا} [القصص:4]، كذلك تشبه به قارون الذي كان من قوم موسى فبغى عليهم، فعلا فرعون وهامان وقارون، فالله عز وجل يقول: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا} [القصص:83] أي: لا يطلبون العلو ولا الاستكبار، فأرانا عاقبة الظالمين. فما الذي صنعه فرعون وهامان وجنودهما؟ قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص:8]، كانوا أصحاب خطيئة، كفروا بالله تبارك وتعالى، وتظاهروا في كفرهم على نبيهم موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فأرانا الله عز وجل كيف أخذهم أخذ عزيز مقتدر، فأهلكهم وأغرقهم، وجعلهم عبرة وآية للناس، فهؤلاء استكبروا بملكهم ووزاراتهم وجنودهم، وهذا قارون كان من قوم مستضعفين في الأرض، قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ} [القصص:5 - 6]. ولكن قارون كان من قوم موسى فتعجل البغي والعلو، ولم ينتظر وعد الله وهو الذي كان يقرأ التوراة ويجيد تلاوتها، ولكن الكبر كان في القلب، فمهما نزل من مطر على أرض كانت غير صالحة، أو كانت الأرض صالحة والبذور التي فيها غير طيبة، فإنها تنبت نباتاً غير حسن، والأرض الطيبة يخرج نباتها بإذن ربها، {وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} [الأعراف:58]. فهذا الإنسان كان خبيثاً في نفسه، فيه علو وكبر في قلبه، فضحه الله وكشف ما فيه وأظهره، فابتلاه بالمال كما ابتلى فرعون بالملك، وابتلى هامان بالوزارة، ففتح عليه من نعمة المال الكثير، فإذا به لا يراعي حق الله سبحانه وتعالى في ماله، وتشبه بفرعون في علوه وفساده، وكاد للنبي موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فإذا بالله عز وجل يجعله آية للناس حتى يعتبروا، قال تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} [القصص:81]. فالله عز وجل أخبر عن الأمم السابقة فقال: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت:40] إلى أن قال: {وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} [العنكبوت:40]، فهذان الاثنان هما المذكوران في هذه السورة، ذكرهما الله عز وجل بالتفصيل. عقب الله عز وجل هذه الآيات في نهاية قصة قارون كيف أن المستضعفين الذين تمنوا مكان قارون وماله رأوا آية بأعينهم: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص:82]. فتعجبوا من أمر أنفسهم لتهورهم في أمانيهم، حيث تمنوا أن يكون لهم مثل قارون، فالإنسان يربع على نفسه، ولا يترك لنفسه هواها وعنانها فيتفكر فيما يشاء، ويتمنى ما يشاء، فإذا نظر إلى أهل الفساد لا يتمنى ما مع أهل الفساد؛ لأن العاقبة السيئة على هؤلاء تكون في الدنيا بالخزي، وفي الآخرة بالعذاب العظيم. {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا} [القصص:83]، روى الإمام البخاري في صحيحه: (أن امرأة كانت تحمل رضيعها على يدها، فمر بها إنسان ذو شارة، فقالت: اللهم اجعل ابني مثل هذا، فإذا بالله ينطق الغلام ويقول: اللهم لا تجعلني مثله، فتتعجب المرأة، ثم يمر أناس بامرأة يضربونها ويقولون: سرقت، وهي تقسم أنها لم تفعل، فتقول: اللهم لا تجعل ابني مثلها، فيقول: اللهم اجعلني مثلها). مر هذا الإنسان العظيم صاحب المنصب فقالت: اللهم اجعل ابني مثله، وهو يمص ثديها، فتركه وقال: اللهم لا تجعلني مثله، لأن هذا الرجل العظيم من المتكبرين ونهايته إلى النار، وهذه المرأة مظلومة، يقولون لها: سرقت ولم تسرق، زنيت ولم تزن، فهي مظلومة فقيرة، فلها عند الله الجنة، فقال: اللهم اجعلني مثلها. فهذا صبي أنطقه الله عز وجل ليري العباد كيف يكون الأمر، فليس كل شيء تراه تفرح به، فإنه قد يضرك في الدنيا العاجلة، ويضرك في الآخرة أكثر، فالمؤمن يرضى ولا يصرف بصره إلى ما متع الله عز وجل به الناس، فيحسد الغير ويكمد نفسه، فهو يرى نفسه مظلوماً، فهذه آخرة الظالمين، فاعتبر هؤلاء وقالوا: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا} [القصص:82]. لولا أن من الله عز وجل على هؤلاء المؤمنين لخسف بهم، وهذه قراءة حفص عن عاصم، وقراءة باقي القراء: (لخُسِف بنا)، أي: لفُعل بنا كما فعل بهذا الإنسان: {وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص:82]، الشأن أنه لا يفلح الكافرون، أو أنهم يتندمون على ذلك ويتوجعون لأنفسهم فيما تمنوه. فيختم الله عز وجل بهذه الآية العبرة، ويجمع هذا كله في القصة كلها، والآن خذوا هذه الموعظة، {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ} [القصص:83]، هذه الدار العظيمة في الآخرة وهي الجنة نجعلها للذين لا يريدون علواً -استكباراً- في الأرض، ولا فساداً، لا يريدون أن يكونوا ملوكاً أو وزراء أو رؤساء، لا يريدون أن يكونوا أصحاب غنى فاحش، ولكن يرضون في الدنيا بالقليل كما رضي النبي صلوات الله وسلامه عليه، وقال: (اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكنياً، واحشرني في زمرة المساكين)، صلوات الله وسلامه عليه. قال: {لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا} [القصص:83]، ليسوا من المفسدين بترفهم، وليسوا من المفسدين بخطيئاتهم وأفعالهم القبيحة، {وَالْعَاقِبَةُ} [القصص:83] يعني: الحسنة بالجنة، {لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83].

تفسير قوله تعالى: (من جاء بالحسنة فله خير منها)

تفسير قوله تعالى: (من جاء بالحسنة فله خير منها) قال تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} [القصص:84]، يقول الله عز وجل مبيناً لنا: إذا أتيت بحسنة فالله يعطيك ما هو أفضل منها، فمن جاء بالحسنة فله خير منها، وعرفنا أن الحسنة تضاعف إلى عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف. وأعظم الحسنات مطلقاً قول: لا إله إلا الله. إذا قلنا: لا إله إلا الله، فلا يوجد خير منها، ويكون التفسير على ذلك: من جاء بلا إله إلا الله فيعقبه الخير بسببها، فله الخير العظيم من هذه الكلمة عند رب العالمين سبحانه، فالله ما خلق الخلق إلا لعبادته سبحانه وتعالى، فكلمة التوحيد من أعظم ما يكون. وإذا كانت الحسنات غير كلمة التوحيد فله الحسنة مضاعفة بعشر أمثالها إلى ما يشاء الله سبحانه وتعالى. قوله: (ومن جاء بالسيئة) وهذا محمول على عكس معنى الحسنة، فإذا كانت الحسنات هي الأعمال الصالحات، فيكون معنى السيئات: الأعمال الغير الصالحة، وإذا كانت الحسنة لا إله إلا الله فالسيئة التي هي أكبر الكبائر: الكفر بالله والشرك به سبحانه. {فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [القصص:84]. لا يظلمهم الله عز وجل، ولكن الذي عملوه في الدنيا ينالون الجزاء عليه في الآخرة.

تفسير قوله تعالى: (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد)

تفسير قوله تعالى: (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد) ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص:85]. هذه الآية هي الخامسة والثمانون من هذه السورة، وليست الآية مكية ولا مدنية، يعني: لا نزلت في مكة ولا في المدينة، وإن كان الغالب أن يقال: إن السور المكية هي التي نزلت في العهد المكي، فتكون هذه في العهد المكي؛ لأنها نزلت والنبي صلى الله عليه وسلم في أثناء هجرته إلى المدينة. وذلك أنه لما هاجر خرج إلى أماكن لا يعرفها، فاحتاج إلى دليل يدله على الطريق، فكان معه أبو بكر الصديق، ومعهما رجل من بني الديل هادياً خريتاً، فسلك بهم طرقاً لا يعرفونها، حتى وصل بهم إلى المدينة، فلما أفلتوا من الكفار مر على طريق يعرفونها بالجحفة، وكأنه صلى الله عليه وسلم تحسر على مكة؛ لأنه يحبها، فالتفت وهو يقول: (إنك لأحب البلاد إلي، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت)، صلوات الله وسلامه عليه، فأنزل الله عز وجل عليه هذه الآية يبشره ويطمئنه أنه سيرجع إليها يوماً من الأيام. {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} [القصص:85]، أنزل عليك هذا القرآن وفرض عليك تلاوته وتحصيله. {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص:85]، سيرجعك مرة ثانية إلى هذه البلدة التي خرجت منها، وهذا وعد الله، ولا يخلف الله الميعاد. فالله عز وجل أرجعه إليها بعد خروجه منها بثمان سنوات صلوات الله وسلامه عليه. {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [القصص:85]، قل لهؤلاء الكفار الذين ذهبوا يسألون ويتحرون، وألغوا عقولهم وصدقوا اليهود وغيرهم، فسألوهم: أنحن على الهدى أم هو على الهدى؟! فإذا باليهود وقد أضلهم الله يقولون: أنتم {أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء:51]، قالوا لهم ذلك كذباً، فالله عز وجل يقول: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [القصص:85]، من معه الهداية من الله سبحانه، ومن الذي هو في ضلال بين واضح وفي تيه، وفي بعد عن الحق.

تفسير قوله تعالى: (وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب)

تفسير قوله تعالى: (وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب) قال تعالى: {وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ} [القصص:86]. فهو ما كان يرجو ذلك، ولا خطر على باله عليه الصلاة والسلام أنه سيكون رسولاً، ولكن غيره تمنوا هذا الشيء، فعرفوا أنه سيبعث في هذا الزمان رسول -ويعرف ذلك اليهود- فإذا بهم يتمنون لقاءه وينتظرون بعثته، وبعضهم يلقب نفسه بالراهب، ويذهب ليتعبد من أجل أن تنزل عليه الرسالة، ولكن الرسالة ليست كسباً من الإنسان، وإنما هي وهب من الله سبحانه تبارك وتعالى، فقال له: {وَمَا كُنتَ تَرْجُوا} [القصص:86]، أنت لم تكن في يوم من الأيام يخطر على بالك أن تكون رسولاً، إنما الذي كان على باله صلى الله عليه وسلم أن يعبد الله، فكان يتوجه إلى غار حراء في الليالي ذوات العدد يتحنث، ويتعبد لله عز وجل في هذا الغار، حتى جاءه الوحي فجأة وبغتة من غير أن يكون على باله. قال تعالى: {وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ} [القصص:86] كأنه يأتي من بعيد، أي: من السماء من عند رب العالمين، فتتلقاه أنت، فقال: {يُلْقَى إِلَيْكَ} [القصص:86]، ولم يقل: عليك، وإنما قال إليك، وفرق بين أن (يلقى عليك)، وأن (يلقى إليك)، فيلقى عليك فيكون صعباً عليك تلقيه، ولكن (يلقى إليك) كأنه يعطى إليك بهدوء، فتأخذه وتتلقاه مرحباً وحافظاً له، ومقيماً له، ومحباً له، ولست مع هذا الإلقاء معرضاً، أو لا يكون إلقاءً عنيفاً، وإنما يكون لطيفاً عليك. قال سبحانه: {إِلَّا رَحْمَةً} [القصص:86] فهذا يناسب قوله سبحانه: {يُلْقَى إِلَيْكَ} [القصص:86]، فلو قال: (عليك) فإنه لا يناسب الرحمة، وإنما يقول هنا: {يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً} [القصص:86] يعني: ولكن كان رحمة من ربك أن نزله عليك فألقاه إليك. {فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا} [القصص:86] أي: معيناً {لِلْكَافِرِينَ} [القصص:86]، فنهاه، وحاشا له أن يكون معيناً للكافرين، ولكن هذا خطاب له ولأمته بالتبع: لا تعاونوا الكافرين في كفرهم.

تفسير قوله تعالى: (ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك)

تفسير قوله تعالى: (ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك) {وَلا يَصُدُّنَّكَ} [القصص:87] هؤلاء الكافرون {عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} [القصص:87]، أي: وادع إلى التوحيد. قوله: {وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ} [القصص:87]، يحذره ربه سبحانه وتعالى، وكانوا يكيدون للنبي صلى الله عليه وسلم كما قال الله في سورة الإسراء: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء:73 - 74]. فإذاً: هنا المشركون جروا وراء النبي صلى الله عليه وسلم في كيدهم يريدون أن يميلوا النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن العصمة موجودة: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ} [الإسراء:74] فبدأ بذكر العصمة، فإن الله ثبته على الحق فلا يزيغ أبداً، قال له سبحانه: {وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} [القصص:87]، ادع إلى التوحيد، (ولا تكونن من المشركين) خطاب له ولأمته.

تفسير قوله تعالى: (ولا تدع مع الله إلها آخر)

تفسير قوله تعالى: (ولا تدع مع الله إلهاً آخر) قال تعالى: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [القصص:88]. أي: احذر أن تتخذ إلهاً غير الله، وحاشا له -وهو المعصوم- أن يعبد غير الله، ولكن إذا كان هذا الوعيد يخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم فغيره من باب أولى أن يخاف من وعيد الله سبحانه. قال: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ} [القصص:88]، ولا بد من الوقوف هنا، فهذا يسمى وقفاً لازماً؛ لأنك لو وصلت أفسدت المعنى، إذاً: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [القصص:88]، وتقف ثم تقول: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [القصص:88] فهذا تقرير منه أنه الإله الواحد، وفيها يجوز المد الطويل -لمن يمد مداً طويلاً- ويجوز القصر، وإن كان أصحاب القصر كـ قالون وحفص وأبي عمرو وغيرهم يجوزون في ذلك المد، ويسمونه مد التعظيم، وذلك في كلمة (لا إله إلا الله)، فيمد فيها مداً متوسطاً، حتى ولو كان يقصر في غيرها، ويسمي هذا المد: بمد التعظيم لله سبحانه وتعالى. قال تعالى: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، وقال في سورة الرحمن: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]، فعبر بالوجه، وليس معناه أن الوجه يبقى وحده، ولكن الوجه أعظم ما يكون فعبر به، فهو عبر بالبعض عن الكل. فالله سبحانه تبارك وتعالى عندما يقول: {إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] معناه التعظيم، ونؤمن بالوجه لله عز وجل، فذكره هنا تعظيماً له، ولذلك يقول الثوري: سألت أبا عبيدة عن قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] فقال: إلا جاهه، كما تقول: لفلان وجه في الناس، أي: جاه في الناس، وهذا ليس معناه النفي لوجه الله عز وجل، بل هذا فيه إثبات لوجه الله، ولكن المعنى أنه يعبر بهذا الشيء عن العظمة. فالمعنى: وجهه العظيم وذاته باقية وأما غيره كلهم فسيفنون. قال: {لَهُ الْحُكْمُ} [القصص:88] وحده لا شريك له، يحكم بما يشاء ويفعل ما يريد: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88] وهذه قراءة الجمهور، وقراءة يعقوب: (وإليه تَرجعون). نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، وألا يجعلنا من المفسدين في الأرض، وأن يجعلنا من أهل الآخرة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

العنكبوت

تفسير سورة العنكبوت [1 - 3] سورة العنكبوت سورة مكية، ذكر الله عز وجل فيها الابتلاء، وأنه سنة من سنن الله عز وجل، حتى يتميز الصادق من الكاذب، وقد ذكر الله عز وجل في هذه السورة العظيمة عدداً من الدروس والمفاهيم العظيمة، التي كان حرياً بالمسلم أن يقف عندها متدبراً متفهماً لها، حتى يستفيد منها في سيره إلى الله عز وجل.

بين يدي سورة العنكبوت

بين يدي سورة العنكبوت الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة العنكبوت: بسم الله الرحمن الرحيم: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1 - 3].

سورة العنكبوت مكية وأقوال العلماء في ذلك

سورة العنكبوت مكية وأقوال العلماء في ذلك سورة العنكبوت هي السورة التاسعة والعشرون من كتاب الله سبحانه تبارك وتعالى، وهي سورة مكية أو أغلبها مكية، وقيل: مدنية، وقيل: بعضها مكي وبعضها مدني، هذه السورة من أواخر السور التي نزلت في مكة وبعضها نزل بالمدينة، ولذلك اعتبرها البعض مدنية أو مكية بناء على ذلك، ونزلت قبلها سورة الروم، وسورة الروم مكية، ونزلت بعدها سورة المطففين، وسورة المطففين مكية، فكأن سورة العنكبوت نزل بعضها بمكة، ثم نزلت سورة المطففين كاملة، ثم أُكملت هذه السورة بعد ذلك في مكة والمدينة، فإذا قيل: سورة المطففين آخر ما نزل بمكة، فمراده: آخر سورة كاملة نزلت في مكة، وكانت هذه السورة قد نزل بعضها قبلها وبعضها بعدها. وسورة العنكبوت آياتها تسع وستون آية على عد أكثر أهل العد من القراء، وحسب المصحف الحمصي عددها سبعون آية، والخلاف في الفاصلة، فبعضهم يعتبر (الم) آية مستقلة، وبعضهم يعدها والتي تليها آية واحدة، والآيات هي الآيات، وإنما بحسب العد، وحسب ما وقف عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الخلاف في العد في كل القرآن إذا اختلف أهل العد. والسورة فيها خصائص السور المكية، من ذكر التحدي بهذا القرآن، ومن ذكر الأقوام السابقين، والأنبياء الذين ابتلاهم الله سبحانه تبارك وتعالى، ومن ذكر القصص وعاقبة هؤلاء المكذبين، وما الذي صنعه الله عز وجل بهم.

معنى الحروف المقطعة في أوائل السور

معنى الحروف المقطعة في أوائل السور بدأ الله سبحانه هذه السورة بـ: {الم} [العنكبوت:1]، وهذه الحروف هي التي تسمى بفواتح السور، وهي من الإعجاز في القرآن الكريم، وكأن الله يقول للعرب: إن هذا القرآن من جنس الحروف التي تنطقونها وتتكلمون بها، وقد جئناكم بهذا القرآن بلغتكم ومن حروفكم، فائتوا بسورة من مثل هذا القرآن. وقد ذكرنا قبل ذلك فقلنا: إن بعض أهل العد الذين يعدون حروف القرآن أو حروف السور يقولون: إنه إذا ابتدأت سورة بحروف مقطعة فغالباً ما تكون هذه الحروف أكثر الحروف المكررة في هذه السور، وغالباً ما يكون ترتيبها في التكرار أو في العدد: الحرف الأول أكثر ما يكون، ثم الثاني، ثم الثالث، وهكذا، وقد توجد حروف أخرى أكثر منها، ولكن الغالب ذلك، وستجد أن أكثر ما يعد في هذه السورة: حرف الألف، سواء ألفاً بهمزة، مفتوحة أو مكسورة، أو ألفاً من غير همزة، أو بهمزة مد، أو بهمزة على نبرة تكون ياء أو واواً، فيكون عدد الألف في هذه السورة تقريباً ثمانمائة وثمانية وخمسين مرة، ثم يليه اللام، فقد تكرر في هذه السورة تقريباً خمسمائة وخمسين مرة، ثم يليه حرف الميم، فقد تكرر في هذه السورة حوالي ثلاثمائة وواحداً وأربعين مرة، وكأن الترتيب في هذه السورة ترتيب تنازلي، الألف ثم اللام ثم الميم، وكأن الإشارة إلى أن هذه الحروف من جنس ما تتكلمون بها على هذا الترتيب، فائتوا بمثل ما جئناكم به. والحروف هذه كما ذكرنا قبل ذلك أنها سر من أسرار القرآن، أي: مهما قال المفسرون فيها باجتهاداتهم فإن حقيقة علمها عند الله تبارك وتعالى، فهم يطلعون على بعض الأشياء منها، فلماذا هذه السورة بدأت بـ {الم} [العنكبوت:1]؟ ولماذا هذه بـ {كهيعص} [مريم:1]؟ ولماذا هذه بـ (حم) {عسق} [الشورى:2]؟ ولماذا هذه بـ (طسم)؟ الله أعلم بحقيقة الأمر في ذلك، ولكن كل ما يقوله المفسرون في ذلك ما هو إلا شيء من عند أنفسهم، ليس توقيفاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو فهم يؤتيه الله عز وجل من يشاء، ولذلك ستجد من يقول: إن هذه الحروف فيها تعجيز للناس، وسيقول: ما ذكرت أبداً هذه الحروف إلا ويليها الإشارة إلى هذا القرآن العظيم، ومن ذلك قوله عز وجل: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:1 - 2]. {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [آل عمران:1 - 3]. فهنا يذكر الحروف ويذكر بعدها الإشارة إلى القرآن، إلا في ثلاث سور من القرآن لم يذكر بعدها الكتاب مباشرة، وإنما ذكر ذلك في ثنايا السورة، منها هذه السورة التي معنا، فذكر الإشارة إلى القرآن بعد آيات من أول السورة، وليس في أول السورة عقب: ((الم)). وكذلك نفس الأمر في سورة الروم ومريم. ففي هذه السورة الكريمة ذكر العلماء أن الله سبحانه تبارك وتعالى افتتحها بـ {الم} [العنكبوت:1] تعجيزاً للكفار كما ذكرنا، وقيل: إن {الم} [العنكبوت:1] اسم للسورة أو اسم للقرآن، أو أنها حروف من أسماء الله عز وجل بدأ بها هذه السور، والله أعلم بذلك.

مواضيع سورة العنكبوت

مواضيع سورة العنكبوت في هذه السورة تثبيت للمؤمنين، وأنه مهما أصابتهم الفتن، ومهما أصابهم البلاء، فإن لهم الجنة جزاء صبرهم، لذا فإن كل سورة من سور القرآن لها أغراض يذكرها ربنا تبارك وتعالى في ثنايا هذه السور، فالإنسان الناظر نظرة عامة لهذه السورة يجد فيها أن الله عز وجل يثبت المؤمنين المستضعفين الذين يبتلون، فيقول لهم: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2] ثم يسوق لهم كيف ابتلى الأنبياء، ومنهم إبراهيم الخليل على نبينا وعليه الصلاة والسلام حينما ألقي في النار: {قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ} [العنكبوت:24]. وفيها أيضاً: الأمر بمنافاة المشركين والبعد عنهم، والتبرؤ من هؤلاء المشركين حتى ولو كانوا أولي قربى، ولذلك وصى الله عز وجل بالوالدين إحساناً وقال: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15]، فالإنسان يصاحب الوالدين بالمعروف، ويحسن إليهما، ويطيع الوالدين في المعروف، أما في الكفر بالله عز وجل، وفي معصية الله فلا طاعة لأحد في ذلك. وفي هذه السورة أيضاً وجوب صبر المؤمنين على أذى المشركين، وأن لهم سعة في الأرض فيذهبون ويتوجهون حيث شاءوا، قال الله عز وجل فيها: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت:56]، فذكر أن أرض الله عز وجل واسعة، وذكر في السورة الأخرى فقال: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء:97]، وهنا ذكر الله عز وجل فقال: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت:56]، أي: ما الذي جعلكم تقيمون في مكة حتى هذا الحين، وقد هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة؟ ولماذا تقولون: نحن مستضعفون وأنتم لا زلتم في مكة؟ وإنما اخرجوا وهاجروا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فحاول ذلك المستضعفون في مكة فخرج منهم من استطاع أن يهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ورد منهم من غلب على أمره وأرجعوه إلى مكة. أيضاً في هذه السورة الأمر بترك الجدل إلا بالحسنى، قال تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت:46]. كذلك فيها الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالثبات على إبلاغ هذا القرآن العظيم، وشرائع هذا الإسلام العظيم، والتأسي بالأنبياء السابقين وبأحوالهم. كذلك فيها الإخبار عن أمية النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه نبي أمي عليه الصلاة والسلام، قال سبحانه: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48]، فذكر أن النبي عليه الصلاة والسلام كان أمياً، وذكر أيضاً الحكمة من ذلك، وهي: أنك يا محمد! إن كنت تتلو كتاباً من قبل القرآن، أو كنت تخط كتاباً بيمينك {إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48]، أي: لارتاب أهل الباطل في القرآن، ولقالوا: إن هذا الكلام الذي يقوله قد قرأه من كتب السابقين، وترجمه لنا بالعربية حين يزعم أنه من كلام الله عز وجل، لذلك أغلق الله عز وجل عنهم هذا الباب فقال: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:48 - 49]، أي: أن القرآن محفوظ في الصدور والسطور، بخلاف الكتب السابقة، فقد كان أهل الكتاب يكتبونها فإذا مات من حفظوا ذلك يقوم الذين كتبوا فيحرفون هذا الكتاب، وما يجدون أحداً يراجع عليهم ويقولون: ما حفظنا غير هذا الذي كتبتموه، فيحرفون ولا يعرفه غيرهم. أما القرآن فالأصل أنه محفوظ في الصدور: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49]. كذلك في هذه السورة الإلزام بإثبات وحدانية الله سبحانه تبارك وتعالى، فقد ألزم المشركين بأن يعبدوا الله وحده، فهم يقرون بأنه الخالق وحده سبحانه، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [العنكبوت:61] أي: فكيف يصرفون عن توحيده؟ وكيف ينصرفون عن عبادته سبحانه وقد أقروا أنه الخالق سبحانه، خلق السموات والأرض بغير عمد ترونها؟ كذلك فيها إثبات جزاء الأعمال، فقد توعد الله المشركين بالعذاب الذي يأتيهم بغتة وهم منهمكون في باطلهم، وغير ذلك من أغراض هذه السورة العظيمة.

سنة الابتلاء

سنة الابتلاء سورة العنكبوت بدأها ربنا سبحانه بقوله: {الم} [العنكبوت:1] ثم قال: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]. قوله: {أَحَسِبَ} [العنكبوت:2]، أي: أفيظن الناس عندما يقولون: آمنا. أنه لا يتعرض أحدهم للبلاء؟ ليست هذه سنة الله سبحانه في خلقه، إنما سنة الله في الخلق أن يبتلي المؤمن، فكلما ازداد الإيمان واليقين كلما ازداد البلاء من الله تبارك وتعالى عليه، ولذلك كان (أشد الناس ابتلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل) كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم. يقول لنا ربنا سبحانه: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا} [العنكبوت:2] قال ابن عباس وغيره: أراد بـ (الناس) قوماً من المؤمنين كانوا بمكة، وكان الكفار من قريش يؤذونهم ويعذبونهم على الإسلام كـ سلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد، وعمار بن ياسر وياسر أبوه وسمية أمه، وعدة من بني مخزوم، وغيرهم ممن كان يعذب في مكة، وكانت صدورهم تضيق لذلك، وربما استنكروا كيف أن الله عز وجل يمكن الكفار منهم، والإنسان في وقت الضيق يمكن أن يحصل في صدره شيء من ذلك، فيأتيه الشيطان فيوسوس في نفسه، ويقول: هل هذا جزاء إيماني؟ هل هذا جزاء أنني أصلي؟ هل هذا لأنني ملتزم بالدين؟ وهكذا، فيوسوس له الشيطان في الابتعاد عن الالتزام، وعن دين رب العالمين، لكن ربنا يطمئن المؤمنين ويثبتهم، وكأنه يقول لهم: أنتم تريدون أن تقولوا: نحن مؤمنون، وتأخذون الجنة العظيمة من غير بلاء؟ لا، لابد من الابتلاء والتمحيص. وقالوا في سبب نزولها: إنها نزلت في يوم بدر لما قتل مهجع مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان عبداً عند عمر، فأعتقه عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، أو كان أبوه عبداً وأعتقه عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، فكان له الولاء عليه، وكان الرجل أول قتيل من المسلمين في يوم بدر، رماه رجل من الكفار اسمه: عامر بن الحضرمي فقتله، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه من الشهداء، ولكن أبوه وامرأته جزعا عليه جزعاً شديداً، فنزلت الآية تطمئنهم وتقول: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]. كذلك ذكروا في سبب نزولها: أن ناساً من المؤمنين كانوا في مكة، وعندما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية في السنة السادسة راسل هؤلاء المؤمنين، وأمرهم أن يخرجوا، فخرج بعضهم فإذا بالمشركين يردونهم ويقتلون بعضهم، فنزلت الآية تثبتهم وتطمئنهم، وأنه لا بد من البلاء، فيبتلي الله الإنسان المؤمن حتى يثبت إيمانه، يقول الله سبحانه: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2] إذاً: سنة الله أن المؤمن مبتلى، {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [العنكبوت:3]، أي: لقد ابتلينا الذين من قبلهم، والفتنة بالتشديد بمعنى: الابتلاء والاختبار، وأصلها: من فتن الحديد، وفتن الذهب، وفتن الفضة، بمعنى: أدخلها النار حتى ينقيها من الشوائب، فقال الله عز وجل: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [العنكبوت:3]، فالذين من قبلهم فتنوا وحرقوا وأوذوا في سبيل الله عز وجل، ومنهم إبراهيم الخليل على نبينا وعليه الصلاة والسلام. روى الإمام البخاري عن خباب بن الأرت قال: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد كان من قبلكم يؤخذ بالرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين) فانظروا إلى هذا البلاء الشديد الذي كان في السابقين، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول ذلك للمؤمنين ليثبتهم وليطمئنهم، فيقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ وأنت ترى ما نحن فيه من النكال والعذاب من الكفار، فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم: أنكم لستم بأول من ابتلي، بل إن بلاءكم أخف ممن كان قبلكم فقد كان يؤتى بالرجل من الذين من قبلكم فينشر بالمناشير، ويمشط بأمشاط الحديد، بمعنى: يؤتى بمشط من حديد قد وضع على النار، وينزعوا به لحمه من جسده (ما دون عظمه ولحمه) يقول صلى الله عليه وسلم: (فما يصرفه ذلك عن دينه، ثم يقسم فيقول: والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون)، أي: أنتم تستعجلون، ولكن إن صبرتم فإن الدين سينشر، والإيمان سيستقر، والأمان سينتشر بين الناس، حتى يخرج المسافر من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف أحداً، لا قطاع طريق ولا غيره، فلا يخاف أحداً في الطريق إلا الله سبحانه تبارك وتعالى، وإن خاف من شيء ما فسيخاف من الذئب، لأنه يأكل غنمه مثلاً، ولكن لا يخاف من البشر (ولكنكم قوم تستعجلون). أيضاً مما جاء من الأحاديث في هذا المعنى ما رواه ابن ماجة بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك)، أي: مريض مرضاً شديداً، (قال: فوضعت يدي عليه -عليه الصلاة والسلام- فوجدت حره بين يدي فوق اللحاف) يعني: أنه حط يده فوق اللحاف الذي على النبي صلى الله عليه وسلم فشعر بحرارة شديدة جداً، قال: (فقلت: يا رسول الله! ما أشدها عليك) أي: أن هذه حرارة شديدة جداً، فهو لم ير مثلها قط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا كذلك يضعف لنا البلاء ويضعف لنا الأجر. قال أبو سعيد: قلت: يا رسول الله! من أشد الناس بلاء؟ قال: الأنبياء). إذاً: مهما ابتلي إنسان فلن يبتلى بمثل ما ابتلي به الأنبياء، (قال: قلت: ثم من؟ قال: ثم الصالحون، إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يحوبها أو يجوبها، وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء). قوله: (إن كان أحدكم ليفرح بالبلاء) أي: أن الصالحين يبتليهم الله عز وجل فيصبرون على البلاء، بل ويفرحون بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء، وهذا حديث صحيح. حديث آخر صحيح رواه الترمذي عن سعد بن أبي وقاص قال: قلت: (يا رسول الله! أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلباً) أي: قوة في الإيمان (اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة). لذلك إذا ابتلي العبد فليتذكر أن الله يكفر عنه سيئاته بهذا البلاء، ويرفع له درجاته بهذا البلاء، ويجعله كالأنبياء، فليتأس بالأنبياء والصالحين، وليصبر على ذلك وينتظر الفرج من الله. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة العنكبوت [2 - 7]

تفسير سورة العنكبوت [2 - 7] يكشف الله سبحانه في هذه الآيات الكريمات سنة من سننه في هذا الكون، وهي: أن من ادعى الإيمان من الناس فلا بد أن يبتلى ويفتن ليظهر صدقه من كذبه، وقد فتن الله تعالى السابقين ليظهر مكنون سرائرهم، ثم لما كان من الناس من يعمل السيئات ذكر الله أن من هذا حاله فلن يفوت ربه؛ بل إن ظن ذلك فهو حكم سيئ على مولاه القادر عليه، ثم بين أن من كان يخاف أو يطمع في لقاء ربه فاللقاء آت لا محالة، ومن عمل صالحاً فإنما يعود نفعه عليه.

سبب تسمية هذه السورة بسورة العنكبوت

سبب تسمية هذه السورة بسورة العنكبوت الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. هذه سورة العنكبوت كما ذكرنا في الحديث السابق، واشتهرت بهذا الاسم من عهد النبي صلى الله عليه وسلم لكونها اشتملت على ذكر العنكبوت في قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:41]. وكان المشركون كما يقول عكرمة رحمه الله إذا سمعوا تسمية سورة العنكبوت يستهزئون بالتسمية وبالقرآن ويستهزئون بالنبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر:95]، يعني: المستهزئين بهذا ومثله. وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26]. فالله عز وجل لا يستحيي أن يضرب المثل للشيء الصغير الذي هو في نظر الناس حقير. والإنسان عدو ما جهل، بل ويستهزئ بما يجهله، فإذا تبين له بعد ذلك حقيقتة رجع إلى الأمر وتاب إلى ربه سبحانه وتعالى. لكن المشركين نظروا إلى قوله سبحانه: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا} [العنكبوت:41]. فالله عز وجل ذكر مثلهم في اتخاذهم أولياء وناصرين ينصرونهم من دون الله، وتعززوا بالشياطين وبأصنامهم وأوثانهم، فمثلهم في استنصارهم بذلك كمثل الذي يحتمي ببيت وواهن ضعيف. فهم يحتمون بشركائهم ويستنصرون بهذه الطواغيت التي لا تملك لنفسها فضلاً عن غيرها شيئاً، فمثلهم كإنسان هجم عليه أعداؤه، فدخل يختبئ من الأعداء ويحتمي من ضرباتهم ببيت العنكبوت الذي هو أوهن البيوت. وأي إنسان هذا الذي يحتمي ببيت العنكبوت فيحميه؟! فهذا مثل هؤلاء الكفار. لذلك لما وجدوا أن القرآن يذكرهم بذلك، وأنهم كالذي يحتمي ببيت العنكبوت، إذا بهم يستهزئون، ولم ينظروا إلى حقيقة الأمر أن أولياءهم لا تنفع ولا تشفع ولا تضر ولا تملك لنفسها ولا لغيرها شيئاً، ولكنهم تجاهلوا ذلك، وتغافلوا عنه، وزعموا أن هذه الآلهة تنفعهم وتقربهم إلى الله زلفى. فلما سمعوا كلمة العنكبوت ضحكوا واستهزءوا من النبي صلى الله عليه وسلم ومما ذكر الله عز وجل، وعندما نأتي إلى قوله سبحانه وتعالى: {كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا} [العنكبوت:41] سنجد أنها آية من آيات الله سبحانه وتعالى العظيمة، ومعجزة من المعجزات التي لم يفهموها، ولم يعرفوا حقيقتها إلا بعد أن تقدم العلم، فظهر لهم هذا الشيء, وإن كان هذا المثال واضحاً: إنكم تحتمون بآلهتكم، وما الذي تصنعه لكم آلهتكم؟! ولو جاء إنسان من الكفار على آخر منهم وضربه بالسيف أمام هذه الآلهة ما أغنت عنه شيئاً، فكيف تعبدونها من دون الله سبحانه، وهي لا تملك لنفسها ولا لكم شيئاً؟! وكذلك ذكر الله عز وجل البعوضة والنمل، وهذه أشياء لا يذكرها الله تعالى إلا لحكمة، وأهل الجاهلية مع كفرهم وشركهم فعقولهم في عمى وضلالة، لا يفهمون ولا يحاولون الفهم لما جاء في كتاب الله سبحانه وتعالى. إن هذه السورة بدأها الله عز وجل بالحروف (ألف، لام، ميم) فيتحدى هؤلاء الكفار: إن كلامكم مكون من هذه الحروف، فائتوا بمثل هذه القرآن، أو بعشر سورٍ من مثله، أو سورة واحدة من مثله. فهم سخروا من القرآن لأنه ذكر الله عز وجل فيه العنكبوت والنمل والبعوض، ولكنه لما تحداهم لم يقبلوا هذا التحدي، والأكثرون لم يفعلوا ذلك، وعادة الإنسان العربي أن فيه عصبية، وفيه عناد، فإذا تحداه أحد قبل التحدي، ولكن من إعجاز القرآن أن الغالبية العظمى من هؤلاء لم يقدروا أن يقبلوا هذا التحدي، ومن رءوس هؤلاء الكفار الوليد بن المغيرة الذي كان يعد من أفصحهم وأبلغهم، وأكثرهم مالاً وبنين، ومع ذلك كان كلامه عن هذا القرآن: إنه قرآن عجيب وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق, وما هو بقول البشر. وبعضهم حاول أن يؤلف مثل هذا القرآن، فبدأ يتكلم بكلام فيه تخاريف، فيذكر أشياء فيضحك عليه من حوله منه، كما فعل مسيلمة الكذاب، لما سمع سورة العصر من النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال بعد ذلك: وأنا أنزل علي، ثم تكلم عن الضب بكلام فارغ يصفه به، فجعل أصحابه يضحكون من الكلام الذي قاله، وقال له قائلهم: والله إنك لتعلم أني أعلم أنك كاذب. ومع ذلك تبعوه لكونه منهم، لا لكونه صادقاً. فالغرض من ذلك بيان أن العرب الذين كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم قد قال الله عز وجل عنهم: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33]. أي: أنهم لا يقولون عنك كذاب، بل هم يجحدون آيات الله، وفي قرارة أنفسهم يعرفون أنك على الحق تماماً، ولكنهم يظهرون خلاف ما يبطنون.

تفسير قوله تعالى: (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون)

تفسير قوله تعالى: (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) قال سبحانه: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]. (الناس) المقصود بهم هنا المسلمون، أو بعض المسلمين، فهو من العموم الذي يراد به الخصوص، أي: أحسب المؤمنون الذين دخلوا في هذا الدين أن يتركهم الله عز وجل على ذلك من غير أن يبتليهم ومن غير أن يمتحن قوة إيمانهم، فيرفع درجاتهم بهذا الذي يبتلون به في الدنيا؟! فليس الأمر سهلاً بمجرد أن الإنسان يقول: لا إله إلا الله، أو يا الله، فينزل عليه الرزق من السماء، ويفتح له أبواب الرزق من الأرض، ويفتح له الحب من الناس، والخير الذي يراه أمامه كل يوم من غير أي بلاء ولا عناء، فيكون في جنة في الدنيا، وهذا لا يكون للمؤمن أبداً، أنه في الدنيا منعم مرفه، وفي الآخرة كذلك؛ بل لا بد أن يبتلى في الدينا حتى ينال النصيب الأوفى والحظ العظيم من النعيم يوم القيامة، لذلك لا بد في الدنيا من البلاء.

تفسير قوله تعالى: (ولقد فتنا الذين من قبلهم)

تفسير قوله تعالى: (ولقد فتنا الذين من قبلهم) قال سبحانه: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [العنكبوت:3]. أي: ابتليناهم واختبرناهم وامتحناهم بالآيات في الدنيا، وبالتعذيب فيها، حتى نجحوا ونجاهم الله عز وجل، وأدخلهم الجنة. قال تعالى: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:3]. في قوله: (فليعملن) (وليعلمن) اللام للتوكيد، والنون للتوكيد، فدخلت اللام على أول المضارع والنون المثقلة على آخره وهذا دليل على القسم، كأنه يقول: والله ليعلمن الله عز وجل ذلك، والله يعلم علم غيب، ويعلم علم الشهادة، و (ليعلمن) تفيد الاستقبال، فكأنه علم مخصوص، وقبل ذلك كان الله عز وجل يعلم كل شيء قبل أن يخلق البشر، فخلق الله عز وجل القلم وأمره أن يكتب ما يكون إلى يوم القيامة، فكتب هذا كله. فالله عز وجل علم ما في اللوح المحفوظ؛ من أنه سيكون كذا وكذا، فلان مؤمن وفلان كافر وهكذا، لكن هنا علم آخر معناه: علم المشاهد، يعني: أن يحدث ذلك، فالله عز وجل في علمه أن فلاناً لو عاش يكون مؤمناً، أو لو عاش يكون كافراً، ولكنه قبضه قبل أن يكون كافراً، فعلم الله علم غيب، والعلم في الشهادة أن يحدث ذلك، وهذا الذي تكلم عنه سبحانه تبارك وتعالى (فليعلمن) أي: ليكونن ذلك، فقد علمه غيباً فقدره وسيعلمه حين يفعله هذا الإنسان، ويكتب كذلك بأنه فعل ذلك ليجازيه عليه. فعلم الله عز وجل علمان لا يختلفان: علم غيب، وعلم شهادة. علم غيب: قبل أن يخلق الإنسان قد علم الله ما هو كائن إلى يوم القيامة، وأن هذا مؤمن وأن هذا كافر، وأن هذا يعيش كذا فقدر أجله وعلمه، وشقي أو سعيد، ورزقه كله مقدر عند الله سبحانه، فعندما يحدث هذا الشيء يكون علم الشهادة وعلم بالحدوث لهذا الأمر. قال تعالى: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ} [العنكبوت:3] أي: فليظهرن ذلك مشاهدة، {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:3]، أي: فليعلمن الله الذين صدقوا في قولهم: لا إله إلا الله، وصدقوا في إيمانهم وزعمهم أنهم يحبون الله سبحانه وتعالى، وليعلمن الكاذبين الذين قالوا: آمنا وهم لم يؤمنوا، والذين كذبوا وادعوا أنهم يجاهدون في سيبل الله، فلما جاء الجهاد لم يفعلوا ذلك.

تفسير قوله تعالى: (أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا)

تفسير قوله تعالى: (أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا) قال سبحانه: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا} [العنكبوت:4]. يعني: أفظن الذين يعملون السيئات ويكسبون الشرك والمعاصي، وأفظع السيئات الكفر بالله سبحانه وتعالى. فيقول لهؤلاء المشركين: هل تظنون أنكم تهربون من الله سبحانه، وتعجزون ربكم؟! وكأنه المثال الذي بين الناس: شخص يجري وراء آخر فقد يفلت من هذا الذي يجري وراءه، ولكن أتظن وأنت تتعامل مع الله عز وجل أنك سوف تهرب منه سبحانه، فتصعد إلى السماء أو تنزل إلى الأرض، أو تمشي شمالاً أو يميناً، وتفلت من الله سبحانه، فهذا لا يكون أبداً. قال تعالى: {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [العنكبوت:4]، أي: ساء ما يحكمون به على ربهم أن شبهوه بالخلق، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. فهم في عبادتهم يشبهون خالقهم بالمخلوق؛ لذلك صنعوا الأوثان والأصنام حتى يروها أمامهم، فيعبدوها من دون الله سبحانه وتعالى، وهذا تفكيرهم الغبي، فقال سبحانه: {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [العنكبوت:4]، أي: على خالقهم بأنه لا يقدر عليهم، أو بأنهم يعجزونه، ولذلك لما اجتمع ثقفيان وقرشي أو قرشيان وثقفي، فتكلموا يسرون إلى بعضهم، وأسروا حديثهم، فسأل بعضهم بعضاً: أترون الله يسمعنا؟ فقال أحد الحمقى منهم: أرى أنه يسمعنا لو جهرنا ولا يسمعنا إذا أسررنا. وقال الأخر: لو كان يسمعنا إذا جهرنا فهو يسمعنا في الحالين. فأنزل الله عز وجل يذكر في هذه الآيات أنهم كانوا يقيسون الخالق على المخلوق، إذ لو وقف أحد بعيداً عن المخلوق وأسر لآخر فإنه لن يسمعه، كذلك ربنا تعالى الله عما قالوا. فنتكلم في السر من أجل ألا يسمعنا. قال تعالى: {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [العنكبوت:4]، أي: يحكمون على خالقهم حكمهم على البشر، ويحكمون عليه أنه لا يقدر عليهم، وأنهم يعجزونه ويفلتون ويهربون منه.

تفسير قوله تعالى: (من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت)

تفسير قوله تعالى: (من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت) ثم قال تعالى: {مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} [العنكبوت:5]. (يرجو) أي: يؤمل، وإن كان أكثر المفسرين على أن معناها: يخاف، وهو من معاني الرجاء، قال الشاعر: إذا لسعته النحل لم يرج لسعها فمعنى قوله: (لم يرج لسعها): لم يخف لسعها. فقوله: {مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اللَّهِ} [العنكبوت:5]، أي: من كان يخاف من لقاء الله يوم القيامة، ويخاف من ذنوبه: {فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} [العنكبوت:5]، فإن الموت آت آت. ويرجو أيضاً بمعنى: يؤمل، فالإنسان المؤمن الذي يؤمل لقاء الله سبحانه وتعالى، فليعمل عملاً حسناً فإنه ملاقيه عند الله. ومن كان يخاف من لقاء الله سبحانه فليحذر من النار يوم القيامة، فإن الله سبحانه وتعالى يعذب من عصاه، قال تعالى: {فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} [العنكبوت:5]، أي: فالموت آت والبعث والنشور والقيامة آتية. فأكده الله عز وجل باللام هنا، فهو آت لا محالة، وهو السميع لما يقولون العليم بأحوالهم.

تفسير قوله تعالى: (ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه)

تفسير قوله تعالى: (ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه) قال تعالى: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت:6]. فكل إنسان يجاهد فإنما الجزاء لنفسه، ولن ينفع بجهاده ربه سبحانه وتعالى شيئاً، والإنسان الذي يذبح مضحياً أو يذبح هدياً يتقرب به لله سبحانه، قال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا} [الحج:37]. أي: لن يأخذ منكم فيأكل ولا ينتفع بهذا الذي تفعلوه، ولكن أنتم الذين تنتفعون بذلك، والذي يجعل ربكم سبحانه يعطيكم الثواب هو تقواكم، فأنتم المنتفعون أولاً وآخراً. فإياك أن تمن عليه سبحانه بعملك وبعبادتك له، فإن الله لغني عنك وعن عبادتك، قال: {إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت:6]. لكن العبد يصلي ويصوم ويرجو رحمة الله، ويصبر على الأذى، ويصبر على أقدار الله سبحانه وتعالى، وليتذكر قوله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]. ولذلك لما قتل مهجع مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في يوم بدر وجزع عليه أبوه، وجزعت عليه زوجته جزعاً شديداً إذا بالله عز وجل ينزل هذه الآية: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]. أي: لا بد أن يفتنوا بالعذاب في الدنيا بالقتل والاستشهاد فيها، ولا بد أن يفتنوا ويبتلوا بالبلاء في الدنيا حتى يرفع الله عز وجل درجاتهم يوم القيامة. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت:6] يعني: عن أعمال الناس. وقال لهم: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38].

تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم)

تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم) قال سبحانه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} [العنكبوت:7]. وهذا قسم من الله عز وجل للمؤمنين، فكأنه يقول: والله لنكفرن عنكم أيها المؤمنون العاملون الصالحات سيئاتكم. وقوله: ((والذين أمنوا وعلموا الصالحات)) هذا قيد، فلا يأتي إنسان ويقول: أنا أقول: لا إله إلا الله، وهذا يدخلني الجنة، فلا بد من العمل، وهذا من واجبات الإيمان، فلا بد أن تعمل عملاً صالحاً. والتكفير: المحو، أي: نمحو عنهم سيئاتهم بالمغفرة. قال تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [العنكبوت:7]. والمعنى: نجزيهم أعمالهم بأحسن مما يتمنونه، فالإنسان يعمل العمل ويرجو الثواب من الله، هو يرى العمل قليلاً، فإذا جاء يوم القيامة وجد ثواباً عظيماً جداً لم يكن على باله. كالذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فإذا بالناس يستجيبون ويفعلون هذا المعروف الذي أمرهم به، وهو لا يتخيل أن هذه الكلمة التي قالها توصله لهذا الثواب العظيم، فإذا به يوم القيامة يجد أعمالاً عظيمة له لم يعملها، ولكنه جوزي بعمل أصحابها. ولذلك الكلمة الطيبة صدقة للإنسان، وأن تبتسم في وجه أخيك فتصير لك عادة فتضحك لأخيك فتكتب لك حسنة عند الله سبحانه، فإذا جئت يوم القيامة وجدت حسنات كثيرة ليست على بالك: حسنة لأنك أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، وحسنة لأنك تبسمت في وجه أخيك، وحسنة لأنك أعنت إنساناً على حاجته، وحسنة لأنك دفعت لإنسان دابته وأعنته فيها: وهكذا، ولهذا قال: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [العنكبوت:7]، أي: بأحسن أعمالهم وهي الطاعة، وكذلك نكفر عنهم كل معصية. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة العنكبوت [2 - 10]

تفسير سورة العنكبوت [2 - 10] بين المولى سبحانه وتعالى أنه لا يكفي ادعاء الإيمان فقط، بل لا بد لكل مؤمن أن يبتلى بما يظهر أن إيمانه حقيقي وقوي أم ضعيف، ثم إن ذلك الابتلاء سنة الله تعالى الماضية منذ بدأ الخليقة إلى أن تقوم الساعة، وهذا الابتلاء فيه رفع لدرجات المؤمنين وتمحيص لهم وغفران لذنوبهم، أما أصحاب السيئات فليسوا بمعجزين ربهم، فلا بد أن يرجعوا إليه ليجازيهم على سوء ظنهم به تعالى. وقد أوصى الله تعالى بالوالدين، وأن يطاعا فيما يأمران به ما لم يكن معصية أو إثماً؛ لأنهما السبب في وجودك بعد الله تعالى، ولهما من سابق التعب والنصب والجهد ما يجعل طاعتهم عليك فرضاً.

تفسير قوله تعالى: (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا)

تفسير قوله تعالى: (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. في هذه الآية التي ذكرها الله عز وجل من سورة العنكبوت وما قبلها يخبرنا ربنا سبحانه تبارك وتعالى أن الإنسان إذا قال: لا إله إلا الله ودخل في هذا الدين العظيم، فإنه لا يظن أنه سيعيش سعيداً في الدنيا بغير بلاء فيها، بل لا بد وأن يصيبه شيء من بلاء الدنيا. وكلما كان الإنسان قريباً من الله عز وجل، قريباً من دين الله سبحانه وتعالى، ممتثلاً أوامر الله، منزجراً عن نواهي الله سبحانه كلما أصابه البلاء أكثر من غيره. قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2] أي: لا بد وأن يفتنوا وأن يبتلوا حتى يكفر الله عز وجل عنهم من سيئاتهم، ويرفع درجاتهم. وقد أخبرنا سبحانه أنه فتن الذين من قبلنا، قال تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:3]، وقد كانت الفتنة في السابقين فتنة عظيمة وكانت الأصار عليهم والأغلال شديدة، لكن من رحمته سبحانه أن وضع عنا ذلك قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157]، ومن الأغلال التي كانت على بني إسرائيل: أنهم إذا أذنبوا ذنباً أمروا أن يقتل بعضهم بعضاً كما حدث لهم عندما عبدوا العجل، فقام بعضهم لبعض، وظللت عليهم غمامة وأظلم النهار، فقتل في موقف واحد فوق السبعين ألفاً من اليهود؛ حتى قبل الله توبتهم، وهذا كان من الآصار. أما في ديننا من تاب تاب الله عز وجل عليه، والإسلام يجب ما قبله، والتوبة تمحو الذنوب بفضل الله سبحانه وتعالى. وقد كان على الذين من قبلنا آصار في عباداتهم، فلا تصح منهم صلاة إلا في بيعهم وكنائسهم، أما نحن فأيما رجل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أدركته الصلاة في مكان من الأماكن فعنده مسجده وطهوره، فيتطهر إن لم يجد ماء بالتراب، وإن وجد مسجداً صلى فيه، فإن لم يجد فالأرض مسجد وطهور، وهذا من فضل الله ورحمته. ومن الأغلال التي كانت على الذين من قبلنا أنه أن إذا أصاب البول ثوب أحدهم لم يجزئه إلا أن يقصه بالمقص، أما في ديننا فيكفي أن يغسله بالماء. فهذه الآصار والأغلال التي كانت على الذين من قبلنا رفعها الله عز وجل عنا، قال تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157]. وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أحدهم كان ينشر بالمنشار، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه فلا يصده ذلك عن دينه، أما هذه الأمة فالإنسان المكره منها ولو على كلمة الكفر معذور في ذلك. أما السابقون فلم يكن لهم عذر في ذلك، فكان أحدهم إذا ابتلي ليفتن عن دينه لا بد وأن يصبر وإلا مات على ذلك، ولذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دخل رجل الجنة في ذباب، ودخل رجل النار في ذباب، مر رجل على قوم من الكفار لهم وثن يعبدونه من دون الله فقالوا: قرب -أي: لإلههم الذي يعبدونه- قال: ما أقرب؟ قالوا: قرب شيئاً ولو ذباباً قال: ما كنت لأقرب لغير الله شيئاً، فقدموه فضربوا عنقه، فدخل الجنة بذلك، ومر بهم رجل آخر فقالوا: قرب، قال: ما أقرب؟ قالوا: قرب ولو ذباباً، فقرب ذباباً فكان من أهل النار)، أما نحن في ديننا فقد أذن الله عز وجل في التلفظ بكلمة الكفر لمن قلبه مطمئن بالإيمان حال الإكراه فقال: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل:106]. فالذين من قبلنا فتنوا فتناً شديدة، وصبروا، والله عز وجل أعطاهم الأجر على ذلك، وجعل في أمتنا التيسير والتخفيف، ولكن لا بد من البلاء، قال تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:3].

تفسير قوله تعالى: (أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا)

تفسير قوله تعالى: (أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا) وقد ذكرنا في الحديث السابق معناها، وأن معنى العلم أنه يعلم علم شهادة بعدما كان علماً غيبياً. قال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [العنكبوت:4]، يعني: هل يظن الذين يشركون بالله سبحانه ويقعون في معاصي الله أن يفلتوا من عذاب الله؟ إن ظنوا ذلك فهو ظن السوء منهم، فكأن من ظن ذلك فقد شبه ربه بالمخلوق، فلما كان يقدر أن يهرب من المخلوق ظن أنه يهرب من خالقه سبحانه وتعالى، وكان بعض الحمقى والمغفلين من أهل الجاهلية يتعاظم بجسمه وبقوته فيقول لغيره من هؤلاء الكفار: إن محمداً يخيفنا بالنار، فإننا إذا جئنا يوم القيامة وقفت أنا فمنعتكم!! يظن أنه في الدنيا مثلما يقف ليصد الناس فيوم القيامة سوف يقف على باب النار ويمنع الباقين، وذلك من جهله وحماقته وغبائه. ويفرح هؤلاء بما يقول هذا المغفل ويصدقونه، وإن كان التصديق ظاهراً لكن يستحيل أن يكون الإنسان في قلبه يصدق مثل هذا الشيء. فقال سبحانه: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [العنكبوت:4]. بل كان بعضهم يقول للآخرين: إن محمداً يزعم أن على جهنم تسعة عشر، ونحن عددنا كثير، فكل رجل منا برجل منهم. كأنه يظن أن ملائكة الله كالناس المغفلين الذين يراهم أمامه من هؤلاء. ويذهب أحدهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم بجمجمة إنسان ميت ويقول: تزعم أن ربك قادر أن يبعث هذه ويفتها بيده، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم، يبعثها ويدخلك النا).

تفسير قوله تعالى: (من كان يرجو لقاء الله لغني عن العالمين)

تفسير قوله تعالى: (من كان يرجو لقاء الله لغني عن العالمين) قال سبحانه: {مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} [العنكبوت:5] أي: من كان يخاف من عذاب الله ويؤمل رحمة الله؛ فإن الموعد سيأتيه، فكل ما هو آت قريب وإن طال في نظرنا؛ لأننا نقيس ذلك بأعمارنا وبسنين الدنيا، أما عند الله عز وجل فيوم واحد كألف سنة مما تعدون، فإذا قال: هذا قريب، فهو قريب. قال تعالى: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} [العنكبوت:6]. فكل إنسان يعمل الصالحات، وكل مؤمن يجاهد في الله سبحانه فجهاده لنفسه، أي: ثواب هذا الجهاد لنفسه، ونفعه لها، فهو المنتفع في النهاية، ولن ينفع ربه شيئاً، قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت:6]، أكد الله غناه عن كل العوالم، سواء كان العالم العلوي أو العالم السفلي.

تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات)

تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات) قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [العنكبوت:7]. فالمؤمنون الذين يعملون الصالحات يقسم الله سبحانه وتعالى أنه سيكفر عنهم سيئاتهم، قال تعالى: {لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ} [العنكبوت:7]، وهذا الفعل المضارع المسبوق بلام التوكيد والمنتهي بنون التوكيد الثقيلة دليل على وجود القسم، كأنه يقول: والله لنفعلن بهم ذلك ولنكفرن ذنوبهم، ولنمحون عنهم ما وقعوا فيه من خطايا، فتابوا إلى الله عز وجل، فنفعهم إيمانهم ونفعتهم توبتهم. قال تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ} [العنكبوت:7] هذا الفعل أيضاً جواب القسم، والتقدير: والله لنفعلن ذلك ونجزيهم الأجر العظيم. قال تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [العنكبوت:7]، أي: أحسن ما كانوا يتوقعون، فقد توقعوا من الله عز وجل أن يعطيهم ثواباً فأعطاهم ثواباً مضاعفاً. توقعوا من الله عز وجل أن يدخلهم جنة على نحو معين؛ فإذا به يدخلهم جنات فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

تفسير قوله تعالى: (ووصينا الإنسان بوالديه)

تفسير قوله تعالى: (ووصينا الإنسان بوالديه) قال الله سبحانه وتعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت:8]. وفي سورة الأحقاف قال: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} [الأحقاف:15]، وفي سورة لقمان: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان:14]، وفي سورة البقرة قال: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة:83]، أي: أحسنوا إليهم إحساناً. وفي سورة النساء قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:36]. فأمر الله عز وجل بالوصية بالوالدين. وكذلك في سورة الإسراء ذكر الله عز وجل الوصية بالوالدين والإحسان إليهما فقال: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء:23]، فالإنسان ينظر إلى الذي أنعم عليه وأوجده وخلقه وهو الله سبحانه وتعالى فيعبده، وينظر إلى السبب في وجوده في الدنيا وهما والداه، فلهما فضل عليك أن أوجدك الله عز وجل بسببهما، ولهما فضل التربية لك، والرعاية، والعناية بك، والرحمة عليك، ولذلك قال الله سبحانه: {وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:24]، أي: رحماني وأنا صغير، وربياني وحملاني. وقال تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء:24]، فأمر العبد بالتواضع لوالديه وألا يؤذيهما ولو بكلمة أف التي هي أقل الكلمات التي تؤذي، فما بالك بما هو أعظم من ذلك؟! قال سبحانه هنا: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت:8]، أي: وصيناه أن يحسن إليهما بكل عمل فيه حسن، قال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [العنكبوت:8]، أي: أطع والديك في أمر بمعروف أو في نهي عن منكر، وأطع والديك إذا أمراك بشيء مباح، أما إذا أمراك بمعصية فلا تفعل هذه المعصية ولا تطعهما، وصاحبهما بالمعروف حتى لو كانا كافرين يهوديين، أو نصرانيين، أو مشركين وثنيين، قال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [لقمان:15]، وهنا قال: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [العنكبوت:8]، كيف يكون العمل عند ذلك؟ {فَلا تُطِعْهُمَا} [العنكبوت:8]، قال: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ} [العنكبوت:8]. يعني: إذا اجتهدا وبذلا الجهد العظيم في دفعك عن طاعة الله سبحانه، وفي إيقاعك في الكفر بالله سبحانه فإياك أن تطيعهم في ذلك، ومع ذلك صاحبهما معروفاً، فلهما فضل عليك وهما أبواك. قال تعالى هنا: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [العنكبوت:8] وقال سبحانه: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان:15] ففي الآيتين لم يمنع الابن المؤمن من مصاحبة الأب والأم الكافرين، ولا من برهما والإحسان إليهما، وكذلك الإنفاق عليه أن ينفق عليهما. بل قيل له: كن معهما في الخير، ولكن احذر من الطاعة في الشر، وفي المعصية والكفر. ثم قال تعالى: {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت:8]، {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} [لقمان:15]. فقد يستسهل الإنسان المعصية، ولكن لما يتذكر أنه راجع إلى الله فيحاسبه، فالخوف من الحساب يمنعه من المعصية، ويدفعه إلى الطاعة، وفي سورة لقمان قال تعالى: {فَأُنَبِّئُكُمْ} [لقمان:15]، فإذا كان ينبئك بما كنت تعمل فمعناه: أنه سيحاسبك، فإن عملت الخير فلك الجزاء الحسن، وإن عملت الشر فعليك الوزر والحساب. وذكر المفسرون أن هذه الآية نزلت في سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه إذ قال رضي الله عنه: أنزلت في أربع آيات: فذكر قصة وفيها قال: قالت أم سعد وكانت كافرة: أليس قد أمر الله بالبر؟ قال: بلى. قالت: والله لا أطعم طعاماً ولا أشرب شراباً حتى أموت فتعير بي أو تكفر. وفي رواية قال سعد: وكنت باراً بأمي فأسلمت، يعني: أنه كان عظيم البر بأمه رضي الله تعالى عنه، قال: وبقيت أياماً على ذلك، وكانوا إذا أرادوا أن يطعموها يشجروا فاها بالخشب ويحطوا بداخله الطعام لكي لا تموت. فلما استمر الأمر على ذلك ذهب لأمه وقال رضي الله عنه: يا أماه! -يقول ذلك على وجه التعطف والتحنن عليها- لو كانت لك مائة نفس، فخرجت نفساً نفساً ما تركت ديني، فإن شئت فكلي، وإن شئت فلا تأكلي. فلما رأت الأمر على ذلك، وأنه متمسك بدينه أكلت. فهذه من الفتن التي قد يبتلى بها الإنسان المتمسك بدينه، وقد تجد من يصلي فيقول أبواه: لا تصل، ولا تذهب إلى المسجد، فإذا تنازل عن أمور دينه شيئاً فشيئاً ضيع كل شيء، وإذا تمسك بذلك لعل الله عز وجل يهدي هؤلاء فيتركانه على ما هو عليه من طاعة ربه سبحانه. فالإنسان عندما يبتلى بشيء من ذلك فليتذكر ما صنع سعد رضي الله تعالى عنه، وكيف أنه صبر لأمر الله سبحانه، وطاعة الله تبارك وتعالى فيها الخير والبركة. ويقول ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت هذه الآية في عياش بن أبي ربيعة أخي أبي جهل لأمه، أي: أنه فعلت أمه نفس هذا الشيء، وعيروه بذلك، فثبت فإذا بالله عز وجل يثبته في ذلك. وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت في جميع الأمة. وهذا معناه: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات)

تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات) قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ} [العنكبوت:9]، هذا جزاء الذل للمؤمنين، كما قال تعالى: {لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [العنكبوت:7]. فالله عز وجل يجعل المؤمنين مع الصالحين، والصالحون هم من قاموا بأمر الله عز وجل على الصلاح؛ فأصلحوا أنفسهم، فأصلح الله عز وجل لهم سيرتهم، وأصلح حالهم وبالهم، وجعلهم في جنته سبحانه وتعالى. والمعنى: الذين هم في غاية الصلاح، وقد بلغوا أقصى درجات الصلاح في كل أمورهم، فسنجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات معهم.

تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يقول آمنا بالله)

تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يقول آمنا بالله) قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} [العنكبوت:10]. هنا ذكر فريقاً آخر من الناس الذين في إيمانهم ذبذبة: إما أنهم المنافقون، أو أن إيمانهم ضعيف بأقل فتنة يرتد ويرجع على عقبيه. وقد كان من أهل مكة من آمن ودخل في دين الله تعالى: فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم مكثوا في مكة مستضعفين حتى كان عام الفتح. قال الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10]، فتنة الناس هنا عذاب الناس، فالمشركون كانوا يعذبون بعض المؤمنين، فإذا كان هذا المؤمن إيمانه ضعيف فيرى العذاب الذي ينزل به فيتزعزع إيمانه ويقول: ليس جهنم أكثر مما أنا فيه، فيرتد عن هذا الدين، وكأنه جعل عذاب الله عز وجل يماثل عذاب البشر. أو أنهم المنافقون الذين يظهرون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم. وقد ذكرنا أن هذه السورة منها ما نزل بمكة، ومنها ما نزل بالمدينة، فإن كانت هذه الآية نزلت بمكة فالمقصود المؤمنون إيماناً ضعيفاً، وإن كانت نزلت بالمدينة فالمقصود المنافقون. وقال مجاهد رحمه الله تعالى: نزلت هذه الآية في أناس كانوا يؤمنون بألسنتهم، فإذا أصابهم بلاء من الله أو مصيبة في أنفسهم افتتنوا. وهنا التذكير للمؤمن أن يثبت على دينه، وأن يلازم أمر الله سبحانه، فإذا نزل به البلاء انتظر الفرج من الله ولا يتذبذب ولا يرتد على عقبيه؛ فإن في ردته شماتة للكفار به، وضياعاً له في دنياه وأخراه. نسأل الله عز وجل أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة العنكبوت [12 - 15]

تفسير سورة العنكبوت [12 - 15] من رحمة الله عز وجل بالناس أن أرسل إليهم أنبياءً ورسلاً يخرجونهم من الظلمات إلى النور، ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ويدلونهم على طريق السعادة في الدنيا والآخرة، ولقد كانت سنة الله عز وجل في خلقه أن يهلك من لم يتبع دعوة الرسل أو صد عن اتباع دعوتهم، وكان نوح عليه السلام مثالاً لهذه السنة، حيث أهلك الله من خالفه واستكبر عن اتباع الحق الذي جاء به.

دعوة الكافرين للمؤمنين أن يتبعوا سبيلهم

دعوة الكافرين للمؤمنين أن يتبعوا سبيلهم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة العنكبوت: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ * فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ * وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [العنكبوت:14 - 18]. يذكر الله سبحانه وتعالى هنا إشارات لقصص بعض الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام. لقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى دين الله عز وجل، فاتبعه البعض، وكفر به الكثيرون، فقال الكفار المتعنتون لمن آمن من الضعفاء المستضعفين منهم: {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} [العنكبوت:12] أي: كونوا معنا في هذا الذي نحن فيه، ولا تتبعوا محمداً صلوات الله وسلامه عليه، وإذا كان عليكم ذنب فسوف نحمله عنكم يوم القيامة. فبعد أن ذكر الله تعالى مقالتهم هذه أخبر سبحانه وتعالى عن كذبهم فقال: {وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [العنكبوت:12] أي: لن يحملوا شيئاً من خطايا هؤلاء بحيث يخففون عنهم يوم القيامة، ولكن سيحملون أثقالهم مضاعفة: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت:13] أي: يكذبون.

قصة نوح عليه السلام

قصة نوح عليه السلام إن هؤلاء الكفار ليسوا بالأمر الجديد، وليسوا أول من كفر بالله عز وجل، بل قد كفر قبلهم الكثير؛ ولذلك ذكر الله سبحانه وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم أنه وإن يكذبوك فقد كذبت أمم من قبلهم، من هذه الأمم من أرسل الله عز وجل إليهم نوحاً على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فبدأ به لأنه أبو الأنبياء عليه الصلاة والسلام، وثنى بإبراهيم لأنه أب بعد أب، فكان أبو الخلق آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام نبياً، وكان يدعو أبناءه وهم على التوحيد وليسوا كفاراً، ولكن كان فيهم بعض المعاصي.

سبب شرك قوم نوح

سبب شرك قوم نوح تقادمت السنون والدهور، وجاء بعد آدم عشرة قرون كانوا على التوحيد، حتى تحول الناس من توحيدهم لله عز وجل إلى عبادة الأصنام، وعبدوها من دون الله سبحانه، فأرسل الله إليهم نوحاً عليه السلام، وكان سبب شركهم ذلك: التصاوير والتماثيل والأصنام، فقال بعضهم لبعض: {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:23]، فكان سبب ضلال هؤلاء: هذه الآلهة التي عبدوها من دون الله سبحانه، وسبب وجود هذه الآلهة: أن الناس كان فيهم أناس صالحون يعبدون الله سبحانه، فأحبهم الناس، فلما مات هؤلاء الصالحون أتاهم إبليس ووجدهم في حزن على الذين ماتوا، وهم: ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، فقال لهم: اصنعوا لهم الصور حتى تذكروهم، فصوروا لهم الصور حتى تكون تذكاراً يتذكرون بها هؤلاء الأقوام الصالحين. فلم يزالوا على ذلك حتى أتاهم الشيطان وقال لهم: اصنعوا لهم التماثيل حتى تذكروهم بها، فصنعوا التماثيل على قبورهم، وكانوا يذهبون وينظرون إليهم ليتعظوا، وليتذكروا هؤلاء الصالحين فيتأسوا بهم في صلاحهم، فلما مات من عرف ذلك من الآباء إذا بأولادهم وأحفادهم من بعدهم يقولون: كان آباؤنا يذهبون ويتبركون بهؤلاء ويعبدونهم، فبدل من أن الآباء كانوا يتعظون بهم ويتذكرون أعمالهم الصالحة ليعبدوا الله كما كانوا يعبدونه، انقلب الأمر عند الأبناء والأحفاد فعبدوهم من دون الله، وتواصى بعضهم مع بعض بعبادة هذه الآلهة. فكان ذلك أول شرك على الأرض، وأول ما حدث الكفر والشرك بالله كان بعبادة هذه التماثيل، فأرسل الله عز وجل نوحاً على نبينا وعليه الصلاة والسلام إلى هؤلاء القوم يدعوهم إلى عبادة الله سبحانه وتعالى، قال الله عز وجل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:59].

ما واجه به قوم نوح نبيهم

ما واجه به قوم نوح نبيهم لما دعا نوح قومه إلى الله عز وجل، وكانوا غلاظاً ذا شدة وقسوة في قلوبهم، رفضوا دعوة نوح عليه السلام، قال الله تعالى: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40]، فشكا نوح إلى ربه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح:5 - 12]. ودعاهم بالترغيب وبالترهيب، ثم أنكر عليهم مستغرباً متعجباً من صدودهم وإعراضهم: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:13] أي: أين ذهبت عقولكم فتعبدون تماثيل لا تنفع ولا تضر، وتنسون ربكم سبحانه وتعالى ولا توقرونه؟! {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا * أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا} [نوح:13 - 15]، إلى آخر ما ذكره نوح لقومه وهو يدعوهم إلى الله عز وجل، فرفضوا أن يطيعوه، وكان جوابهم: {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} [نوح:23] أي: انتبهوا أن تتركوا الآلهة وتذهبوا إلى نوح. فأوصى الآباء والأجداد الأبناء والأحفاد بذلك، وحذروهم من ترك الآلهة: {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} [نوح:23 - 24] أي: أنهم ضلوا وأضلوا، وعبدوا غير الله سبحانه تبارك وتعالى.

عاقبة المكذبين للرسل

عاقبة المكذبين للرسل لقد فصل الله عز وجل في القرآن قصة نوح في مواطن، من أطولها ما جاء في سورة هود على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فذكر كيف أنه دعاهم فلم يستجيبوا له، فأغرقهم الله وأهلكهم. وجاء كذلك تفصيل دعوة نوح لقومه في سورة نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وكيف دعاهم بالذي سبق من الآيات. وفي سورة العنكبوت ذكر الله تعالى فيها إشارات الغرض منها: بيان أن قريشاً ليسوا أول من كذب، بل إن هناك أقواماً كذبوا من قبلهم، فأشار الله عز وجل إلى هؤلاء الأقوام المكذبين وأنه أهلكهم، ثم ذكر أقواماً آخرين كذبوا فأهلكهم الله، وهكذا. كأنه يفصل شيئاً ثم يرجع في النهاية يفند هذا الشيء بعد أن يجمله. قال الله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:40] فذكر في هذه الآية إشارات للأقوام المكذبين وجمعها على طريقة اللف والنشر، فذكر في النهاية كيفية إهلاكهم بقوله: منهم من أهلكناه بكذا ومنهم من أهلكناه بكذا، وفي هذا تخويف لقريش، وكأنه يقول لهم: احذروا أن يصيبكم مثلما أصاب هؤلاء الأقوام، فيرسل عليكم حاصباً، أو تأخذكم صيحة من السماء، أو يخسف بكم الأرض أو يغرقكم، أو يفعل بكم ما يشاء، والله على كل شيء قدير.

المدة التي مكثها نوح يدعو قومه

المدة التي مكثها نوح يدعو قومه قال سبحانه وتعالى هنا في أمر نوح: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت:14]، ففي كل موضع يذكر فيه نبياً يذكر شيئاً يختص بهذا الموضع. والذي اختصت به هذه السورة: أنه ذكر فيها المدة التي لبثها نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام في قومه، وهي مدة طويلة، جداً أشار إليها بقوله: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت:14] أي: تسعمائة وخمسون عاماً، ولم يعبر بتسعمائة وخمسين، بدلاً من ألف؛ لأن الألف لها وقع في السمع، فسماعك للألف غير سماعك للتسعمائة، لذلك إذا كتب في الأوكازيون: تسعمائة وتسعة وتسعون، ولم يكتب ألف، فإن الإنسان يحس أنها قليلة، فإذا ذكر ألف دخل في العقل أن الألف كثير، والمقصود أن نوحاً لبث كثيراً في قومه، فقال الله عز وجل: إنه لبث في هؤلاء القوم الذين أهلكهم الله ألف سنة إلا خمسين عاماً. ثم أغرقهم الله سبحانه وتعالى، ثم بعثه الله إلى قوم غيرهم بعد ذلك، وهم أبناؤه وأحفاده ومن كانوا معه، فجاوز الألف السنة على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فكأن الفترة التي مكثها نوح عليه الصلاة والسلام في هؤلاء القوم المهلكين ألف سنة إلا خمسين عاماً.

دعوة نوح على قومه

دعوة نوح على قومه لقد عاش نوح يدعو قومه حتى جاوز الألف التي ذكرها الله عز وجل هنا في كتابه، قال تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت:14] فكذبوه ولم يؤمنوا به كما قال تعالى: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40]، أي: لم يؤمن معه إلا العدد القليل، فكان يوصي بعضهم بعضاً، ويحذر بعضهم بعضاً من نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام؛ ولذلك دعا عليهم، وقال كما قال تعالى: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح:26]، فقوله: (دياراً) وديور بمعنى واحد، والمعنى: لا تجعل عليها أحداً أبداً، والعرب تقول: لا تجعل على الأرض دياراً، ولا تجعل على الأرض ديوراً، أي: لا تجعل على الأرض أحداً، بمعنى: خذهم جميعاً واستأصل شأفتهم. قال الله تعالى: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:27] أي: لا تذر أحداً يدور فوق الأرض من هؤلاء الكفار وأهلكهم جميعاً؛ لأنك إن تركتهم يضلوا عبادك، ولا يتركوا بعدهم إلا فاجراً كفاراً. قال سبحانه هنا: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ} [العنكبوت:14] وهذا ترتيب وتعقيب: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ} [العنكبوت:14] فكانت فترة زمنية طويلة، ولكنها عند الله عز وجل لا تساوي شيئاً: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47]؛ لأن اليوم من أيام القيامة بالألف السنة التي عاشها نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، قال الله عز وجل: {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ} [العنكبوت:14]، {فَأَنجَيْنَاهُ} [العنكبوت:15] وهذا يفيد الترتيب والتعقيب، كأنها أشياء متوالية بعضها وراء بعض. فبين أن يدعوهم إلى الله، ثم يدعو عليهم، ثم يأخذهم الطوفان بالنسبة لنا مدة طويلة، ثم إنه ما دعا عليهم إلا بعد أن يئس منهم، ولم ييأس منهم إلا عندما أخبره الله سبحانه بقوله: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود:36]، فلم يدع عليهم طوال هذه المدة حتى أخبره الله أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن، قال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [هود:36] أي: لا تحزن عليهم.

هلاك قوم نوح بالطوفان

هلاك قوم نوح بالطوفان قال الله عز وجل: {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ} [العنكبوت:14]، الطوفان: هو الماء الذي أغرقهم، فإذا به يطوف بهم، فبعد أن كانوا فوق الماء صاروا تحته، فأغرقهم الله عز وجل بأن أمر السماء أن تفتح أبوابها، وأمر الأرض أن تفتح أبوابها، فإذا بالماء ينبع من الأرض وينزل من السماء، وينطبق الماءان عليهم، فيهلكهم الله سبحانه بالغرق العظيم. وممن أهلك الله في ذلك الطوفان: ابن نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، قال الله عز وجل: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} [هود:42] فرفض الابن الكافر أن يركب مع أبيه النبي عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وقال: {سَآوِي إِلَى جَبَلٍ} [هود:43] أي: سأطلع فوق الجبل ولن يصل إلي الماء، فاغتر بذلك وصعد إلى الجبل، فصعد الماء وراءه حتى أغرقه الله فكان من المغرقين. ومعنى قوله سبحانه: {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ} [العنكبوت:14] أي: أغرقهم الطوفان، وكأنه مارد جبار أمسكهم فلم يفلتهم، ولم يترك لهم مكاناً يلجئون فيه ويهربون إليه، فكأنه أمسك بهم وأغرقهم بقدرة الله عز وجل فيه، وهذا دليل على الإهلاك الشديد، وعدم الإفلات من عذاب الله سبحانه وتعالى إذا نزل؛ ولذلك يقول الله بعد ذلك: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} [العنكبوت:22] فلو نزلتم داخل الأرض أو طلعتم إلى السماء فلن تهربوا منا. قوله: {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [العنكبوت:14]، أي: بسبب ظلمهم. قال عز وجل: {فَأَنجَيْنَاهُ} [العنكبوت:15] أي: أنجينا نوحاً على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وذلك أن الله أمره أن يصنع السفينة، فظل يصنعها سنين، وخلال هذه السنين كان يمر به قومه ويستهزئون به، قال سبحانه: {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} [هود:38] وذلك أنهم قالوا: كيف تصنع سفينة في الصحراء، وكيف تركبها، إذاً: أنت مجنون بفعلك هذا، فرد عليهم: {قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود:38] انتظروا {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [هود:39]. وجعل الله عز وجل له علامة من العلامات تأتي وقت عذابهم، وهي أن الفرن الذي يتقد ناراً سيخرج منه الماء. فلما رأى نوح تلك العلامة ركب السفينة وركب معه المؤمنون من قومه: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40]، ثم أغرق الله الجميع، قال تعالى: {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} [العنكبوت:15]، وأصحاب السفينة هم الذين أمره الله عز وجل بحملهم من الإنس والدواب: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40]. قال سبحانه: {وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [العنكبوت:15] أي: جعلنا هذه القصة آية للعالمين، وجعلنا هذه السفينة آية عجباً؛ لأنه من العجب أن يصنع رجل واحد سفينة تحمل خلقاً عظيماً من الإنس ومن الدواب وممن شاء الله عز وجل له أن يحمله، فهذه آية من آيات الله سبحانه وتعالى. ثم ذكر من بعد نوح إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة العنكبوت [16 - 20]

تفسير سورة العنكبوت [16 - 20] مما يجب على الداعية تجاه المدعوين وبالأخص الكفار: أن يقيم لهم الدلائل العقلية والنقلية على صحة ما يعتقده، وهذا هو دأب القرآن والأنبياء في دعوة أقوامهم إلى الله تعالى، ومن هؤلاء إبراهيم عليه السلام، وقد ذكر الله جانباً من قصته في سورة العنكبوت المفسرة هاهنا.

قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه

قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه قال الله عز وجل في سورة العنكبوت: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ * أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} [العنكبوت:16 - 21]. لما أخبر الله سبحانه وتعالى في هذه السورة أنه أرسل نوحاً إلى قومه ومكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً فلم يصدقوه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، قال تعالى: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40]، فأهلكهم الله سبحانه وتعالى بالطوفان: {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ * فَأَنجَيْنَاهُ} [العنكبوت:14 - 15] أنجينا نوحاً، {وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} [العنكبوت:15] المؤمنين الذين كانوا معه في السفينة، {وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [العنكبوت:15] جعلنا هذه السفينة أو جعلنا هذه آية للعالمين. قوله: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} [العنكبوت:16] نصب إبراهيم على أنه مفعول لقوله: {فَأَنجَيْنَاهُ} [العنكبوت:15]، والمعنى: أنجينا نوحاً وإبراهيم أيضاً أنجيناه، فكأنها معطوفة على المفعول والفعل الذي هو أنجى، أو أنه نصب بفعل مقدر هنا وتقديره: واذكر {إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} [العنكبوت:16] أي: وقت أن قال لقومه ودعاهم إلى الله عز وجل، {اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [العنكبوت:16]، ذكر نوحاً وهو الأب بعد آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فإنه كان قد أرسل إلى بنيه وكانوا مؤمنين موحدين، وفيهم من يعصي الله سبحانه، فالله عز وجل أمره أن يدعوهم إلى طاعة الله، ويعلمهم ويرشدهم كما علمه الله سبحانه، لكن نوحاً عليه الصلاة والسلام هو أول الأنبياء الذين أرسلوا إلى قوم كفار قد أشركوا بالله عز وجل. ولذلك جاء في الحديث: (كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلها على التوحيد)، وقوم نوح هم أول قوم بدءوا الكفر والشرك بالله سبحانه وعبادة الأصنام والأوثان، فأرسل الله عز وجل إليهم نوحاً فدعاهم فكذبوه فأهلكهم الله عز وجل وأغرقهم. وفي هذه السورة الله عز وجل يذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الأذى الذي أوذيتم به ليس شيئاً جديداً، أو ليس شيئاً محدثاً لم يحدث للذين من قبلكم، بل هذا شيء قد حدث للسابقين من قبلكم، {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:9]، فلست رسولاً بشيء جديد، بل كل الرسل أرسلوا بالتوحيد، وكل الرسل أوذوا في الله سبحانه، فهذا نوح أوذي ألف سنة إلا خمسين عاماً وهو يدعو قومه إلى دين الله سبحانه، وكذلك أوذي إبراهيم أبو الأنبياء على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وكل الأنبياء من بعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام من ذريته من أبناء إسحاق، إلا نبينا صلوات الله وسلامه عليه فهو الوحيد من أبناء إسماعيل الذي صار نبياً ورسولاً، بل أفضل الرسل عليه الصلاة والسلام. قال تعالى: (وَإِبْرَاهِيمَ) يذكره بما حدث لإبراهيم وهو الذي عاش في هذا المكان فترة، وقد كان عليه السلام في العراق ثم هاجر إلى الشام، ومن ثم أمره الله عز وجل أن يبني البيت فأتى بـ هاجر إلى الجزيرة، وأمره الله سبحانه بعدما شب ابنه إسماعيل أن يبني البيت هنالك وتركه ورجع إلى الشام، وكان يزروه في هذا المكان، فالعرب يعرفون إبراهيم جيداً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. ولذا يقول هنا: اذكر إبراهيم {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ} [العنكبوت:16]، فأمرهم بعبادة الله، وقد أوذي أذى شديداً عليه الصلاة والسلام، دعا قومه في العراق إلى عبادة الله وكانوا عباد أصنام وأوثان، ولما لم يستجيبوا له هاجر إلى الشام هو وابن أخيه لوط عليه الصلاة والسلام، فوجدهم عباداً للشمس والقمر وكانوا يعبدون الكواكب من دون الله، وكان عليه السلام ناظر أهل العراق وناظر أهل الشام، ولم يستجب له لا هؤلاء ولا هؤلاء. ولهذا قال إبراهيم لأهل العراق: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت:26]، فما كان منه إلا أن هجرهم وهاجر إلى الله سبحانه تبارك وتعالى وتوجه إلى الشام الأرض المقدسة، ودعا القوم هنالك، وأقام هناك بالشام عليه الصلاة والسلام، على أنه قد ابتلي في نفسه وفي أهله، فابتلي في أبيه وابتلي في ابنه عليه الصلاة والسلام بلاءً عظيماً، وقد ساق لنا الله جل وعلا القصص مختصرة في هذه السورة التي ليست من الطوال، بل من السور الوسط في كتاب الله سبحانه وتعالى، فالله عز وجل يذكر فيها إشارات إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وما ابتلوا به، وكأن الغرض من ذلك ذكر العذاب الذي نزل بالأمم الذين كذبوا الأنبياء، {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:40]، فهم استحقوا ذلك بظلمهم أنفسهم {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49].

دعوة إبراهيم عليه السلام لقومه

دعوة إبراهيم عليه السلام لقومه إبراهيم بالسريانية معناها: أب رحيم، وهو اسم على مسمى، فهو أبو الأنبياء عليه الصلاة والسلام، وهو من أرحم الناس بخلق الله سبحانه، وقد رأينا كيف جادل الملائكة في قوم لوط لما أرادوا إهلاك قوم لوط فقال الملائكة لإبراهيم عليه الصلاة والسلام: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [العنكبوت:32]. دعا قومه وهم عباد الأصنام والأوثان فقال لهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ} [العنكبوت:16]، توجهوا إلى الله سبحانه وتعالى بالعبادة الخالصة ولا تشركوا بالله سبحانه، (وَاتَّقُوهُ)، أي: اتقوا غضب الله سبحانه فاجعلوا بينكم وبين عقوبته وقاية من الطاعة، فإن طاعة الله تقيكم وتنجيكم من عذاب الله وتدفع عنكم نار جهنم، فاجعلوا هذه وقاية لكم من عذابه سبحانه. {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} [العنكبوت:16]، أي: أن تلك العبادة العظيمة وهذا التوحيد العظيم يقيكم من عذاب الله، وهو خير لكم بل وهو الأفضل لكم {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [العنكبوت:16]، إن كنتم تعلمون ذلك عبدتم الله سبحانه وأطعتموني. ثم أخبرهم عن عبادتهم الباطلة {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا} [العنكبوت:17] إن عبادتكم هذه التي تعبدونها مقصورة على هذه الأوثان الباطلة، فهي عبادة باطلة {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ} [العنكبوت:17]، أي: كل ما تعبدون من دون الله هو باطل وكل عبادة لما هو دون الله سبحانه فهي عبادة باطلة. {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا} [العنكبوت:17]، أي: أصناماً تعبدونها من دون الله سبحانه، قالوا: الأوثان هي الأصنام، وفرق البعض بين الأصنام والأوثان، فالأوثان ما يعبد من دون الله سبحانه من حجر منحوت أما الأصنام فتكون مصنوعة من ذهب أو فضة أو نحاس ونحوها من معادن، وقيل: الأصنام ما كان مصوراً على هيئة والأوثان ما كان مصوراً أو غير مصور. قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} [العنكبوت:17]، والخلق: الصنعة، أي: الذي تصنعونه بأيديكم كذباً على الله سبحانه وتعالى هو إفك وباطل وكذب تكذبونه فتدعون أنها آلهة وأنتم إنما نحتموها بأيديكم. {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ} [العنكبوت:17] أي: تصنعون {إِفْكًا} [العنكبوت:17]، كذباً {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا} [العنكبوت:17]، ومن الملاحظ هنا أنه تحدث بشيء من التفصيل في قصة إبراهيم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى هؤلاء العرب الذين شابهوا قوم إبراهيم في عبادة الأصنام ففصل لذلك، والسورة منها ما هو مكي ومنها ما هو مدني، فكأنه يشير لهؤلاء الكفار أنكم فعلتم فعل قوم إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وكان الأجدر بكم أن تصنعوا كما صنع إبراهيم أبو الأنبياء وهو أبوكم عليه الصلاة والسلام.

محاجة إبراهيم لقومه

محاجة إبراهيم لقومه قال سبحانه وتعالى عن إبراهيم أنه قال: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا} [العنكبوت:17]، هذه الأصنام هل سترزقكم؟ أو هل ستأتيكم بالطعام والشراب؟ كلا! فهي لا تملك لكم شيئاً، وإبراهيم قال بقوله وفعل بفعله ما يدل على الإنكار على قومه، ولذلك لما خرج القوم -قوم إبراهيم- في يوم من الأيام إلى عيد لهم جهزوا طعامهم ووضعوه أمام أصنامهم كأنهم ينتظرون من الأصنام أن تبرك هذا الطعام فتجعل فيه البركة، آملين أن يرجعوا فيأكلوا هذا الطعام، فذهب إبراهيم إلى هذه الأصنام فإذا به يجد هذا الطعام عندهم فقال: ما لكم؟ ألا تأكلون؟ كلوا من هذا الطعام الذي أمامكم، ويستفهم متعجباً لجهل قومه وما هم فيه من باطل وذهاب عقولهم، وهل هذه الأصنام تأكل أو تشرب حتى تضعوا الطعام أمامها؟! وهل هذه الأصنام تملك لنفسها شيئاً من أجل أن تبرك لكم هذا الطعام الذي أمامها؟ فإذا به يقول للأصنام {مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ} [الصافات:92]، لماذا لا تردون {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} [الصافات:93]، فكسر جميع الأصنام الموجودة إلا كبيراً لهم تركه حتى يرجعوا فيتساءلوا: لماذا هؤلاء كسروا وهذا لم يكسر؟ وإذا كان لم يكسر فلماذا لم يدافع عن غيره؟ فلما رجعوا ووجدوا ذلك قالوا: {مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:59]، من صنع هذا بآلهتنا؟ والعجب أن تلك الآلهة من قبل البشر، وكأن الناس لا يفهمون ما الذي يقولونه! {مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:59]، من هذا الذي يقدر أن يظلم الإله؟ بل هم لا يعقلون ما يقولون! {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} [الأنبياء:60 - 61]. ائتوا بإبراهيم واسألوه: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:62 - 63]، كل ذلك من أجل أن يتساءلوا، ولكن هيهات فقد ذهبت هذه العقول، {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:63]، والمعنى كأنه يقول: مستحيل أن يصنع أحد منهم ذلك، فلا كبيرهم ولا صغيرهم يستطيع فعل شيء من ذلك، وإنما يذكر إبراهيم هذا الشيء حتى يعقلوا ويفهموا، كأنه يقول معرضاً في الكلام: إن كان هؤلاء ينطقون فقد فعله الكبير، ولكن الحقيقة أنهم لا ينطقون فكيف يصنع هذا الكبير؟! فعرض في الكلام، وهذه إحدى كذبات إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فإنه لم يكذب في حياته إلا ثلاث كذبات فقط، ومن منا يعيش طول عمره لا يكذب إلا ثلاث مرات فقط؟! وإبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ما كذب كذباً صريحاً وإنما كان تعريضاً. فهنا لما قال: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:63]، فكأنه علق فقال: هو الكبير هذا لو كانوا ينطقون، فإذا عقلتم أنهم لا ينطقون فستدركون أن الكبير لم يصنع، بل إن أحداً آخر صنع هذا الشيء، فليس كذباً صريحاً وإنما هو تعريض في الكلام من إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. {فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} [الأنبياء:64]، رجعوا إلى أنفسهم في المعاتبة فكانوا يعاتب بعضهم بعضاً، أما أنهم رجعوا إلى عقولهم فلا، ولكنهم رجعوا إلى أنفسهم بالعتب فقالوا: أنتم ظالمون، أين الحراس الذين يحرسون الآلهة؟! كلام الجهلاء الأغبياء الذين لا يفكرون، أي آلهة هذه التي تحتاج إلى من يحرسها؟ قال تعالى: {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ} [الأنبياء:65]، ثم تواصوا فيما بينهم وتشاوروا ماذا يصنعون فيه؟ وقد ذكر لنا هنا سبحانه أنهم {قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ} [العنكبوت:24]، فهذان خياران أمامكم: إما القتل بالسيف، وإما الإحراق بالنار، ولنرجع إلى الآيات في مجادلة إبراهيم عليه الصلاة والسلام لهؤلاء. قال عليه السلام: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا} [العنكبوت:17]، لا يملكون أن يطعموكم ولا أن يسقوكم {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت:17]، ارجعوا إلى ربكم، فأنتم عندما تنزل بكم المصيبة ترفعون أيديكم وتنادون: يا رب! وهذا دأب الكفار دائماً في كل زمان، عندما تنزل بهم المصيبة يستغيثون بالله وحده لا بالآلهة، فقال لهم إبراهيم: هذا الإله العظيم الذي تدعونه عند المصائب هو الذي يملك لكم الرزق {وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت:17]، أنتم راجعون ليجازيكم وليحاسبكم، وهذه قراءة الجمهور، وقراءة يعقوب (إليه ترجِعون) والمعنى: أنتم ترجِعون إلى الله سبحانه وتعالى فهو وحده إليه المرجع والمآب. {وَإِنْ تُكَذِّبُوا} [العنكبوت:18]، فتستمروا في تكذيبكم {فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} [العنكبوت:18]، يعني: لستم أول من كذب، ولكن هذه عادة الكفار مع أنبيائهم عليهم الصلاة والسلام، {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [العنكبوت:18]، كل رسول عليه البلاغ وليست عليه النتيجة، ولذلك يأتون يوم القيامة فيأتي النبي ومعه الرهط، ويأتي النبي ومعه القوم الكثيرون، ويأتي النبي وليس معه أحد قد دعا قومه ولم يستجب له أحد عليه الصلاة والسلام، فليس مسئولاً عن النتيجة، بل النتيجة على الله سبحانه وتعالى. {وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [العنكبوت:18]، وهنا بيان أن وظيفة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام هي التبيين والتوضيح، وأنهم لا يتركون شبهة من الشبهات، وهذا هو الذي عليهم فحسب {الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [العنكبوت:18]، أي: الواضح الذي لا غموض فيه ولا إشكال.

تذكير إبراهيم لقومه بقدرة الله تعالى

تذكير إبراهيم لقومه بقدرة الله تعالى قال: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [العنكبوت:19]، (أولم يروا) إما أنه كلام من الله عز وجل يقول لهؤلاء الموجودين: أولم ير هؤلاء الكفار كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده؟ أو أنه من كلام إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وهذه رواية شعبة عن عاصم، وقراءة حمزة والكسائي وخلف: (أولم تروا) بالخطاب كأنه من إبراهيم يقول لقومه: (أولم تروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده)، والإنسان يرى كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده في كل يوم وفي كل فصل من الفصول، فالناس ينظرون إلى النبات كيف يبدؤه الله سبحانه، فيكون حبة في الأرض ثم تنمو سنبلة، ثم تصير فيها الحبوب، ثم يأكلها الإنسان وتموت ثم يزرعها مرة ثانية، وفي كل ذلك يرى الناس كيف يبدأ الله عز وجل الخلق ثم يعيده مرة ثانية. وكما يرى في الحيوان كيف يتوالد أمامه، كيف يبدئ الله عز وجل خلقه فيكون صغيراً ثم يكبر، ثم يتزاوج، ثم يأتي منه النسل ويموت الأب، بل يرى كل إنسان في نفسه كيف يكون منه الذرية وكيف يموت الكبار ويعيش الصغار، يرى في كل يوم آيات الله سبحانه {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [العنكبوت:19] سبحانه وتعالى {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [العنكبوت:19]، والمعنى: إذا كنتم في الدنيا ترون هذا فكيف لا يقدر على ذلك يوم القيامة سبحانه؟! بل هو على الله سبحانه يسير. {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ} [العنكبوت:20]، وكأن الله عز وجل هنا يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للكفار: سيروا في الأرض واذهبوا جنوباً وانظروا قوم عاد وما صنع الله عز وجل بهم وسيروا شمالاً وانظروا كيف صنع بقوم ثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة، ما الذي صنعه الله عز وجل بهؤلاء. {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الخَلْق} [العنكبوت:20]. أي: كيف بدأ الله عز وجل خلقه فأوجد القرون السابقة، فسيروا وتبينوا وانظروا وتدبروا، {ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ} [العنكبوت:20] أي: يعيد الخلق مرة ثانية. فالذي بدأه من عدم قادر على أن يوجده من عدم أو من تراب مرة أخرى سبحانه وتعالى، ولهذا قال: {ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ} [العنكبوت:20]، أي: يعيده ويخلقه، والنشأة الآخرة: الخلق الآخر، أي: مرة أخرى، وقراءة الجمهور (النشأة الآخرة)، وقراءة ابن كثير وأبي عمرو (النشاءة الآخرة). {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [العنكبوت:20]، فإنه يقدر على الخلق، ويقدر على الرزق ويقدر على الجزاء لعباده والحساب لهم، ويقدر أن يدخلهم جنته برحمته أو أن يدخلهم ناره بعدله سبحانه، والله على كل شيء قدير {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} [العنكبوت:21].

تفسير سورة العنكبوت [16 - 25]

تفسير سورة العنكبوت [16 - 25] يخبر الله تعالى عن الخليل إبراهيم عليه السلام أنه دعا قومه إلى التوحيد، وأرشدهم إلى إثبات المعاد الذي ينكرونه بما يشاهدونه في أنفسهم من خلق الله إياهم من العدم، فالذي بدأ الخلق قادر على إعادته، ثم أرشدهم إلى الاعتبار بما في الآيات المشاهدة: السماوات وما فيها من الكواكب والنجوم الثابتة والسيارة، والأرضين وما فيها من مهاد وجبال وأودية وبرارٍ وقفار وبحار وأنهار وأشجار، فكل ذلك دال على وجود صانعها وهو الله سبحانه وتعالى.

لمحة مختصرة عن دعوة إبراهيم قومه إلى التوحيد وترك الشرك

لمحة مختصرة عن دعوة إبراهيم قومه إلى التوحيد وترك الشرك الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. ذكر الله قصة إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام في سورة العنكبوت باختصار، مشيراً فيها إلى أن إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام دعا قومه إلى عبادة الله سبحانه، وترك الأوثان والأصنام التي كانوا يعبدونها من دون الله، قال عز وجل: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ} [العنكبوت:16] أي: توجهوا إلى الله وحده بالعبادة واحذروا عقوبته سبحانه، {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [العنكبوت:16] أي: لو كنتم تعلمون وتفهمون، ولو اطلعتم على هذا الأمر وحقيقة ما يكون يوم القيامة لعلمتم أن الخير لكم في الدنيا والآخرة هو بتوحيد الله تعالى وعبادته. ثم قال تعالى: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} [العنكبوت:17] أي: هذه المعبودات التي تعبدونها من دون الله أنتم الذين صنعتموها ونحتموها، فعبدتم كذباً اختلقتموه واخترعتموه. {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت:17] وقد علم كل إنسان كافر أن الآلهة الباطلة التي يعبدها من دون الله لا تملك له نفعاً ولا ضراً، ولا تملك له رزقاً ولا تمنعه عنه، إنما الذي يرزق وينفع ويضر هو الله سبحانه وتعالى، فأمرهم إبراهيم أن يبتغوا عند الله الرزق، وأن يدعوا الله سبحانه ويطلبوا من الله ويتوكلوا عليه ويعبدوه ويشكروا له، قال: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت:17]. وكلام إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام كلام جميل فصيح بليغ، فهو يدعوهم إلى الله سبحانه، وبين لهم في هذه الجملة الواحدة أن هذه الآلهة لا تملك شيئاً لنفسها ولا لهم، لا تملك رزقاً؛ لأن الذي يملك الرزق هو الله سبحانه وتعالى، فإذا كان كذلك فاطلبوا الرزق ممن يملكه، فهنا يعلمهم ويعلم غيرهم ألا يتوكل المرء على غير الله سبحانه، فأنت لا تطلب الرزق ممن لا يملك لنفسه شيئاً، بل اطلب الرزق من الله عز وجل، وارفع يدك إليه وادعه مخلصاً له سبحانه، فهو الذي يعطيك، فإذا كان هو الذي يعطي فاعبده سبحانه، وتوجه بالعبادة إليه، ومن العبادة الدعاء والتوكل على الله والاستغاثة به واللجوء إليه سبحانه، وكذلك الصدق مع الله ومحبته والإخلاص له وتوحيده بجميع أنواع العبادات. قال تعالى: {وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت:17] أي: اشكروا الله أن ترككم وأمهلكم حتى الآن وأنتم تعبدون غيره لعلكم تتوبون إليه سبحانه، اشكروه أن رزقكم وأنتم تكفرون به وتشركون به، واشكروه أن جعل فيكم من يدعوكم إليه سبحانه وتعالى، فاشكروا نعمة الله عز وجل عليكم بإعطائه ومنه عليكم، وتذكروا أنكم إليه ترجعون. {وَإِنْ تُكَذِّبُوا} [العنكبوت:18] هذا من خطاب إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام لقومه، أو أن الله عز وجل يقول لهؤلاء المشركين: لستم أول من كذب، كما أن قوم إبراهيم ليسوا أول من كذب، {وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} [العنكبوت:18] أي: ليس أمراً جديداً أن يكذب قوم إبراهيم إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فقد كذبت الأمم من قبل ذلك، وليس جديداً أن تكذب الرسل، فقد ذكر الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} [فاطر:4] فالرسل قد كذبهم أقوامهم أول ما دعوهم إلى الله عز وجل، ثم من الله عز وجل بعد ذلك بالهدى على من يشاء، قال: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [العنكبوت:18] أي: يأخذ بالأسباب والنتيجة على الله سبحانه تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق إن الله على كل شيء قدير)

تفسير قوله تعالى: (أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق إن الله على كل شيء قدير) قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [العنكبوت:19] يأمر الله عز وجل عباده أن يتأملوا في الكون ويتأملوا في المخلوقات كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده، والناس يرون ذلك أمامهم من توالد الحيوانات، ومن الزروع والثمار كيف يخلقها الله سبحانه وتعالى، وكيف تنمو البذور وتصير أشجاراً وتصير ثماراً، وتصير للناس حبوباً وطعاماً، ثم بعد ذلك تصير إلى التراب مرة ثانية، ثم يعيدها الله عز وجل مرة أخرى فتنبت من هذا التراب نبتاً آخر بفضل الله سبحانه، ((أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ)) وكلما تقدم علم الإنسان نظر أكثر في ذلك، فهاهم الآن يقولون: تولد كواكب جديدة وتفنى كواكب قديمة، فهذه أشياء خلقها الله عز وجل وأبدعها ويراها الإنسان، قال سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر:28]، فكلما تقدم علم الإنسان ازداد معرفة بربه سبحانه ويقيناً بأنه القادر على كل شيء، فهو يخلق ويرزق وينفع ويضر ويحيي ويميت ويفعل ما يشاء، قال لعباده: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [العنكبوت:19] أي: إعادة الخلق مرة ثانية يسير على الله.

تفسير قوله تعالى: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق)

تفسير قوله تعالى: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق) قال الله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [العنكبوت:20] أي: تأملوا في المخلوقات حتى تعرفوا كيف خلقهم الله سبحانه على كثرتهم وتفاوت هيئاتهم، واختلاف ألسنتهم وألوانهم وطبائعهم، كيف بدأ الخلق من آدم عليه الصلاة والسلام وانتشر منه هذا العدد الجم المهول والجمع الغفير من الخلق، ويتكلمون بألسنة شتى ولسان آدم خلقه الله عز وجل واحد، فكيف اختلفت هذه الألسنة؟! فهذا يتكلم بالعربي وهذا بالعجمي وهذا بالهندي وهذا بالصيني وهذا، والله عز وجل يسمع هذا كله، ويعرف من عباده ما يقولون، ويستجيب لعباده سبحانه. اختلفت طبائعهم بحسب ما خلقهم الله من الأرض، فهذا مخلوق من هذه الأرض، وهذا من هذه الأرض، فكان من الأرض السهل والجبل والصعب والوعر، وكذلك أخلاق الناس كهذه الأرض التي خلقوا منها، والله عز وجل على كل شيء قدير. انظروا إلى مساكن القرون الماضية كيف سكنوا وكيف عمروا في هذه الأرض، وكيف أهلكهم الله، {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} [القصص:58] فتأملوا في الخلق، وتدبروا كيف يصنع الله عز وجل مع عباده ما لم يكن على بالهم وما لم يخطر بحسابهم، قال سبحانه وتعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ} [العنكبوت:20] كما بدأ الخلق أول مرة وأفناه فإنه يعيده نشأة أخرى، {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [العنكبوت:20]، لم يقل: على الإعادة قدير، ولكن على الإعادة وعلى الإفناء وعلى كل شيء هو قدير سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير)

تفسير قوله تعالى: (يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير) قال الله تعالى: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} [العنكبوت:21] فمن قدرة الله سبحانه كما يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويعيد النشأة مرة ثانية بعد الإفناء، كذلك يحاسب ويعذب ويرحم سبحانه، يعذب من يشاء من خلقه ويرحم من يشاء من خلقه {وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} [العنكبوت:21] أي: ترجعون إليه سبحانه. قال تعالى: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ} [العنكبوت:22] أين تهربون من الله سبحانه وتعالى؟ هل تظنون أنكم سوف تفلتون من الله وتهربون منه؟! لن تعجزوا ربكم سبحانه. فقوله ((وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ)) هذا من الإعجاز القرآني العظيم؛ لأن فيه إشارة إلى أن الناس سيحاولون الصعود إلى السماء، سيحاولون ذلك، وكان الماضون من المفسرين يتعجبون لهذه الكلمة، فيقولون: وما أنتم بمعجزين في الأرض وأنتم فيها، ولا في السماء فرضاً جدلياً؛ لأنهم لم يروا أحداً، يعني: لن تعجزوا الله لا في الأرض ولا في السماء. ولم ينزل القرآن للسابقين فقط، بل القرآن للجميع حتى تقوم الساعة، فهو يخاطب الجميع، والله يعلم أنكم في يوم من الأيام ستصنعون الصواريخ والطائرات، وتصعدون إلى السماء، وتظنون أنكم أقوياء وتعجزون غيركم، لكن ولو ذهبتم إلى السماء فلن تقدروا أن تفلتوا من الله سبحانه وتعالى، ولا تتحركون من مكان إلى مكان إلا بإذن الله وبقضاء الله وقدره سبحانه وتعالى. {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [العنكبوت:22] أي: من يتولى أمركم من دون الله؟ لا أحد، من ينصركم من دون الله؟ لا أحد. إذاً: لا ولاية لأحد يتولى أمركم إذا أراد الله عز وجل بكم شيئاً، ولا ينصركم أحد من دون الله إن أراد بكم شراً.

تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا بآيات الله ولقائه)

تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا بآيات الله ولقائه) قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [العنكبوت:23] أي: أن الكفار يئسوا من رحمة الله سبحانه، وعبدوا الأصنام والأوثان، فهم الذين ذهبوا بأنفسهم إلى ذلك، وهنا بيان أن الذي يموت على الكفر مستحيل أن يدخل جنة الله سبحانه وتعالى، فليس من حق إنسان أن يدعو لكافر قد مات على الكفر بالرحمة؛ لأن الله أيئسه من رحمته، فقال ((أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي)) إذاً: الكافر الذي أعرض عن الله سبحانه ويستحق أن يعيش في الدنيا معيشة ضنكاً، وعندما يموت الكافر على كفره لم يستحق رحمة الله، (أولئك يئسوا): أي: أيئستهم من رحمتي وكتبت عليهم أنه لا رحمة لهم، وأنهم لا يخرجون من النار، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]. {وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [العنكبوت:23] ذكر الله عز وجل أن الكافر يستحق النار خالداً فيها، ويستحق العذاب الأليم المؤلم الموجع.

تفسير قوله تعالى: (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه)

تفسير قوله تعالى: (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه) قال تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنْ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت:24] كأن إبراهيم ذكرهم بعبادة الله سبحانه ودعاهم دعوة طويلة، وفي النهاية ما كان جوابهم إلا الإعراض، {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [البقرة:171]. فقوله: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا} [العنكبوت:24] هذا حصر لجوابهم، فهم لم يفكروا في دعوة إبراهيم عليه السلام ولم يناقشوه، بل تشاور بعضهم مع بعض، فقال بعضهم: اقتلوه، وقال بعضهم: حرقوه؛ وأشنع وسيلة لقتل الإنسان أن يحرق بالنار. ولذلك نهانا الله عز وجل عن ذلك على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبرنا أنه لا يحرق بالنار إلا ربها سبحانه وتعالى. قال تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ} [العنكبوت:24] وهنا اختصر ربنا سبحانه وتعالى القصة ولم يفصلها كما فصلها في غير هذه السورة، ففي سورة الأنبياء جاء الأمر من الله عز وجل: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} [الأنبياء:69 - 70]. فقوله: ((فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ)) فيه بيان قدرة الله سبحانه، الأمر لا يحتاج إلى عناء ولا إلى تعب، حاشا لله سبحانه وتعالى! {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] فهم تشاوروا مع بعضهم واتفقوا على أن يشعلوا ناراً عظيمة، وأججوها حتى كانوا يبتعدون عنها حتى لا تلفحهم هذه النار، ووضعوا إبراهيم في منجنيق، ومن بعيد ألقوا بإبراهيم في النار، فإذا بالله عز وجل يأتي أمره إلى النار: {كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] فصارت النار جنة لإبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فرأوا أمامهم آية عظيمة، ويا ليتهم آمنوا بالله سبحانه وصدقوا بإبراهيم عليه الصلاة والسلام! ولكن أصروا على ما هم فيه من كفر وعناد، قال الله سبحانه: {فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ} [العنكبوت:24] لكن هذه الآيات لم تنفع هؤلاء الكفار {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت:24] أي: من كان يؤمن ومن كان في قلبه الهدى والتقى تنفعه هذه الآيات.

تفسير قوله تعالى: (وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم)

تفسير قوله تعالى: (وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودة بينكم) قال إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام مجادلاً لقومه، وكأن الله سبحانه أسرع بالإخبار عما حدث لإبراهيم وكيف نجاه الله سبحانه ثم رجع إلى إتمام هذه القصة في مناقشة إبراهيم لقومه، قال: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت:25] أي: أنكم ما عبدتم غير الله إلا لهذا الغرض ولهذا الهدف وهو المودة التي بينكم في الحياة الدنيا، ومن أجل أن يشجع بعضكم بعضاً ويعين بعضكم بعضاً، ويجامل بعضكم بعضاً، ويحب بعضكم بعضاً، فإذا حدث هذا في الدنيا فلن تنفعكم هذه المودة يوم القيامة، ((وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا)) تماثيل تعبدونها من دون الله، {مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (مودة) كأنه مفعول لأجله، أي: من أجل المودة التي بينكم في الحياة الدنيا، وهذه فيها ثلاث قراءات للقراء: فـ حفص عن عاصم وحمزة وروح وخلف يقرءون: {مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [العنكبوت:25]. وقرأها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي وقرأها رويس عن يعقوب: ((مَوَدَّةُ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)). وقرأها باقي القراء: (مودةً بينكم في الحياة الدنيا). (إنما اتخذتم من دون الله) كأنه على الابتداء، والخبر الذي اتخذتموه مودة بينكم في الحياة الدنيا، وباقي القراء يقرءونها: ((مَوَدَّةً بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا))، أي: اتخذتم ذلك مودةً بينكم؛ لأن حاله أن يكون كذلك، أو لأجل المودة التي تكون بينكم في الحياة الدنيا. ((ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ)) لأنه ليس كل مودة تنفع صاحبها يوم القيامة؛ لأن آية الإيمان الحب في الله والبغض في الله، فيحب المؤمن أخاه في الله، فينتفع بهذه المودة في الدنيا، ويوم القيامة أن يشفع أحدهم لصاحبه، وأن يظلهما الله عز وجل بظله يوم لا ظل إلا ظله. أما مودة الكفار فيما بينهم فهي فقط في الدنيا، ولكن يوم القيامة قال: {يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [العنكبوت:25] وقال تعالى في سورة غافر: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ} [غافر:47] فيرد عليهم الكبار ويقولون: {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ} [سبأ:32] أي: نحن لم نمنعكم من الهدى وإنما كنتم مجرمين، فيحدث بينهم يوم القيامة وهم في النار شجار، فيتشاجر بعضهم مع بعض، ويشتم بعضهم بعضاً، ويلعن بعضهم بعضاً. يقول سبحانه: {وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ} [العنكبوت:25]: ملاذكم نار جهنم، ولن تخرجوا من نار جهنم ((وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ)). يعني: هذه النار التي تكون يوم القيامة هي نار جهنم، وهي سوداء مظلمة على أصحابها، تضطرم عليهم، وهم في هذه النار يشتم بعضهم بعضاً كل يقول للآخر: أنت السبب الذي أدخلتني فيها، ثم يقولون: لو قلنا لخزنة النار أن يشفعوا لنا، فخزنة النار لا تجيبهم ولا ترد عليهم، فيصبرون صبراً طويلاً، فطال صبرهم ثم جزعوا، فقالوا: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم:21] فقالوا لبعضهم: نادوا ربكم، فقالوا: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:107] أي: لن نعود إلى تكذيب الرسل، وظنوا أنه سيرحمهم، فأجابهم: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]. فهذه نار جهنم التي يدوم مكثهم فيها لا حياة كريمة لهم فيها ولا راحة فيها ولا موت يستريحون به، لذلك المؤمن يتخيل ما يكون في النار، ويتذكر قول الله سبحانه: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185]. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة العنكبوت [25 - 27]

تفسير سورة العنكبوت [25 - 27] يبين الله سبحانه ما قاله إبراهيم عليه السلام حين حاور قومه عبدة الأصنام فقال: إن هذه الأوثان التي اتخذتموها وعقدتم عليها المودة والمحبة الظاهرة بينكم في الحياة الدنيا، فإذا جاء يوم القيامة كفر بعضكم ببعض ولعن بعضكم بعضاً، وانقلبت الصداقة عداوة، ثم فارقهم بعد ذلك فهاجر هو وزوجه وابن أخيه إلى الشام ليدعو أقواماً غيرهم علهم يستجيبون له عليه السلام.

تفسير قوله تعالى: (وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم)

تفسير قوله تعالى: (وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودة بينكم) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت:25] لقد قد أخبرنا الله سبحانه وتعالى فيما سبق من الآيات كيف دعا إبراهيم عليه الصلاة والسلام قومه إلى عبادة الله، وإلى ترك ما يعبدون من أصنام وأوثان من دون الله سبحانه، وبين لهم أن هذه المعبودات لا تنفعهم، وأنها لا تملك لهم رزقاً. وأمرهم أن يطلبوا الرزق عند الله الذي هو خالقهم سبحانه وتعالى، والذي هو رازقهم ويملك نفعهم وضرهم سبحانه، وأمرهم أن يعبدوه وأن يشكروا له، وأخبرهم أنهم راجعون إليه. وأنهم إن كذبوا فليس هذا شيئاً جديداً على الرسل ولا من الأمم، فقد كذب قبلهم أقوام رسلهم فجاءهم العذاب من عند الله، وليس على الرسول إلا البلاغ المبين. ثم أخبرهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام أن الله سبحانه وتعالى يبدأ الخلق وهو القادر على إعادته، وأنه يعذب من يشاء، وأنه يرحم من يشاء، وأنه إليه يقلبون ويرجعون وأنهم لن يعجزوا الله هرباً في الأرض ولا في السماء، وليس لهم من دونه ولي يتولى أمرهم، وليس لهم من دونه نصير قوي ينصرهم. ولما أخبر بذلك كان جواب هؤلاء الأقوام عليه يدل على سفاهتهم فلم ينظروا فيما قال من حجج، وفيما هم فيه من باطل، وإنما تشاوروا كيف يقضون عليه وعلى دعوته، هل نقتله أم نحرقه؟ وأرادوا أشنع أنواع القتل لإبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام حتى يمنعوا أي أحد يريد أن يؤمن ويصدق بما جاء به، وحتى يمنعوا من يأتي بعده أن يقول كما يقول إبراهيم فقالوا: {اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ} [العنكبوت:24]. فلما أوقدوا له ناراً وألقوه فيها جاءت رحمة رب العالمين سبحانه: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] وأرادوا به كيداً فجعلهم الله عز وجل الأخسرين والأسفلين، وجعل هذا الذي فعله مع إبراهيم آية من الآيات لقوم يؤمنون. قال إبراهيم لقومه: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [العنكبوت:25] أي: أن عباد النيران وعباد الأصنام وعباد الشيطان يعبدون ذلك وتكون بينهم مودات في الحياة الدنيا على ما هم فيه من باطل، فتجد الكفار يميل بعضهم إلى بعض، ويرضى بعضهم عن بعض في الظاهر، أما القلوب ففيها الحقد، والحسد، والخوف من الناس، والغيرة من الغير. فالله عز وجل جعل قلوبهم متفرقة وإن اجتمعوا على ضلالة واحدة، فيظهر بعضهم لبعض المودة، ثم يوم القيامة يظهر الله ما في صدورهم، يظهر ذلك في النار فيشتم بعضهم بعضاً، ويلعن بعضهم بعضاً، ويتبرأ بعضهم من بعض، يقول الله سبحانه: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت:25].

تفسير قوله تعالى: (فآمن له لوط)

تفسير قوله تعالى: (فآمن له لوط) {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت:26]. والوحيد الذي استجاب لإبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، لوط ابن أخيه وقال بعض المفسرين: ابن أخته، ولكن الغالب على أنه ابن أخي إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فإبراهيم عم لوط عليهما الصلاة والسلام. فلوط آمن لإبراهيم وجعله الله عز وجل بعد ذلك نبيناً آمن وقال: {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت:26]. يعني: إبراهيم ترك قومه وهاجر إلى الله سبحانه وتعالى لما لم يجد أحداً يؤمن به، ولن يهاجر إلا بإذن ربه سبحانه وتعالى، فهجرته إلى ربه الهجرة الخالصة، وإبراهيم عليه السلام كان مولده في بلدة في جنوب العراق اسمها كوثا، وهو المكان الذي أرادوا قتله فيه، فهاجر بعد ذلك من جنوب العراق إلى شمال العراق إلى مكان اسمه حران في الشمال، ومن حران ذهب إلى الشام. فكأن هجرة إبراهيم من عند قوم يعبدون الأصنام إلى مكان آخر يعبدون فيه غير الله أيضاً؛ ليدعوهم إلى الله، وفي كل مكان كان يناظر قومه، ويدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى، وهم يرفضون الاستجابة لإبراهيم. فكأنه توجه مرتين في هجرته: مرة من جنوب العراق من المكان الذي أرادوا حرقه فيه، وهو الآن قريب من البصرة في جنوب العراق، فتوجه إلى شمال العراق إلى حران، ثم وجد هناك أقواماً يعبدون غير الله سبحانه، فناظرهم، ثم تركهم وتوجه بعد ذلك إلى الشام، فوجد أهل الشام يعبدون الكواكب من دون الله سبحانه، فدعا الجميع فلم يؤمنوا، وناظرهم مناظرات عديدة وعظيمة فيها الإقناع للقوم، ومع ذلك لم يستجب له هؤلاء إلا من شاء الله سبحانه أن يهديه إلى دين رب العالمين. فإبراهيم أول من هاجر إلى الله سبحانه وتعالى، ومعه ابن أخيه لوط. ولما وصل إبراهيم إلى الشام كان عمره خمساً وسبعين عاماً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. فلم تكن هجرته من مجرد ابتلاء بسيط، إنما كان ابتلاء شديداً من قومه وصل بهم إلى أن أرادوا إحراقه بالنار وابتلي في أبيه صانع الأوثان والأصنام فقال لإبراهيم: اعتزلني واهجرني وابتعد عني وإلا لأرجمنك بالحجارة، أو لأسبنك أمام الناس. فقال لأبيه: {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} [مريم:47 - 48]. اعتزلهم وهاجر من عند هؤلاء الأقوام بإذن ربه سبحانه، قال تعالى: {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت:26] أي: إذا كان منعكم ما أنتم فيه من رئاسة ومن أموال وقوة أن تدخلوا في هذا الدين العظيم فأنا أهجركم وأتوجه إلى ربي؛ إذا ظننتم أنكم بقوتكم تغلبونني فالله هو العزيز الذي لا يغالب، وهو القاهر فوق عباده سبحانه، إنه يعز ويغني ويظهر هذا الدين ويمنعني منكم، وله حكمة في عدم إيمانكم أن أخرج من هذا المكان إلى مكان آخر فالله في كل أمره وتدبيره عزيز غالب سبحانه وتعالى حكيم له حكمة في كل أمر يفعله سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب)

تفسير قوله تعالى: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب) {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ}] العنكبوت:27]. قال: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [العنكبوت:27] فبعد أن هاجر من جنوب العراق إلى شماله، ثم إلى الشام، ومن الشام ذهب إلى مصر، وفي مصر أهدى جبار مصر لزوجته سارة هاجر، وذهب بها إلى الشام، وهنالك أهدتها له زوجته سارة، فصارت لإبراهيم أمة يطؤها، فولدت له إسماعيل على نبينا وعليه السلام، فهذا أول من ولد له، وبعد ذلك أخذ إسماعيل وتوجه به إلى مكة، وتركه هنالك، ثم رجع إلى الشام فرزقه الله عز وجل بعد ذلك إسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب، أي: أن يعقوب ابن لإسحاق عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام. فقوله تعالى: ((وَوَهَبْنَا لَهُ)) يعني: بعد ذلك {إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [العنكبوت:27]. فلما هاجر إبراهيم لم يكن معه من المؤمنين سوى امرأته سارة وابن أخيه لوط، فتوجه الاثنان إلى ديار الشام، فصار لإبراهيم أنعام ومواشي، وصار للوط أيضاً كذلك فابتعد أحدهما عن الآخر كل واحد في مكان بأنعامه وأغنامه لأمرين: الأول: الكلأ، فكل منهما يختار لنفسه مكاناً فسيحاً لأنعامه. والثاني: الدعوة إلى الله عز وجل، فلا يحتاج المكان لأكثر من نبي واحد. فهذا توجه إلى مكان وهذا إلى مكان آخر، كل منهما يدعو إلى الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [العنكبوت:27]. إذاً: هنا مكافئة لإبراهيم عليه الصلاة والسلام أن يكون له أجر عظيم جداً لكون كل نبي من الأنبياء بعده من ذريته وله أجره، فلذلك ندعو لنبينا صلى الله عليه وسلم أن يصلي الله عز وجل عليه كما صلى على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الولد من كسب أبيه) فإبراهيم أبو الأنبياء، فكل من جاء بعده من الأنبياء له ثوابه؛ لأنه سبب وجوده وهو إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فهو أبو كل الأنبياء بما فيهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فكان الأجر الذي يؤجره إبراهيم أجراً عظيماً جداً بناءً على ذلك. ولكن الله عز وجل تفضل وأكرم نبينا صلوات الله وسلامه عليه أن أوصله إلى ما كان عليه إبراهيم من الخلة، فجعل محمداً خليله كذلك، وفضله عليه وعلى غيره، فجعله إمام الأنبياء عليه الصلاة والسلام، وأعطاه الأجر تفضيلاً، وهنا كأن أجر إبراهيم أكثر؛ لأن من ذريته كل الأنبياء بما فيهم نبينا صلى الله عليه وسلم، فلذلك تقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم. لكن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل، والعادة عندما نقول: إن هذا أفضل لا نعطي له من الأجر كأجر المخصوص. إذاً: إبراهيم أقل في الأفضلية من محمد صلى الله عليه وسلم، فعندما ندعو لمحمد ونقول: أعطه ما تعطي إبراهيم، يقول العلماء: الأمر هنا على العكس في ذلك، فإبراهيم عليه الصلاة والسلام كنبي له أجر معين، ونبينا صلى الله عليه وسلم أعظم، لكن إبراهيم كأب للأنبياء له مثل أجور من جاء بعده بما فيهم محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا قلنا: أعط محمداً كما أعطيت إبراهيم، فالمقصود: الأجر المجموع لإبراهيم هو وأولاد الأنبياء جميعهم بما فيهم محمد صلى الله عليه وسلم فهذا الأجر أعظم مما يأخذه محمد عليه الصلاة والسلام وحده. فلذلك يعطى فندعو فنقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وآل محمد عليه الصلاة والسلام هم ذريته بالأصل، ونساء النبي صلى الله عليه وسلم من آل محمد صلى الله عليه وسلم، وكل مؤمن تقي من آله عليه الصلاة والسلام، فالمؤمنون الأتقياء أولياء النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أولى بهم من آبائهم ومن أقربائهم، فعلى ذلك الأجر المجتمع لإبراهيم وذريته من الأنبياء ندعو الله أن يكون لمحمد صلى الله عليه وسلم وأهله عليه الصلاة والسلام ومن تابعه كأجور هؤلاء، فهذه العلة في الأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كما صلى الله على إبراهيم. قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [العنكبوت:27] أي: جعلنا في ذرية إبراهيم النبوة من فرعين: فرع إسماعيل، وفرع إسحاق، وفرع إسحاق منه كل الأنبياء الذين جاءوا بعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وفرع إسماعيل ليس فيه إلا نبينا صلوات الله وسلامه عليه. إذاً: فجنس النبوة في هؤلاء الأنبياء من ذريته، وفيهم جنس الكتب المنزلة. وقد آتى الله إبراهيم الصحف كما قال: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى:18 - 19]. فإبراهيم آتاه الله عز وجل صحفاً، وموسى عليه الصلاة والسلام من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأنزل الله عز وجل عليه التوراة، ومن ذريته بعد ذلك من الأنبياء داود الذي آتاه الله عز وجل الزبور، والمسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام آتاه الله عز وجل الإنجيل، وكتب أخرى لا نعرفها أنزلها الله عز وجل على أنبياء ورسل لا نعرف كم عددهم، قال تعالى: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر:78]، ولكن ذكر لنا من نعتبر بقصصه. ومحمد صلوات الله وسلامه عليه أنزل الله عز وجل عليه هذا القرآن العظيم الشفاء لما في الصدور، والشريعة الباقية حتى تقوم الساعة، وحتى يبعث الناس من القبور. قال تعالى: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا} [العنكبوت:27] أي: آتينا إبراهيم عليه الصلاة والسلام أجره في الدنيا، فابتلي ابتلاءً عظيماً وشديداً جداً، فأي بلاء أعظم مما ابتلي به إبراهيم عليه الصلاة والسلام؟ في كونه يعيش مع أبيه وهو عابد للأصنام وصانع لها، وإبراهيم يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر، فيغضب عليه أبوه، ويطرده من المكان ويهدده بالقتل وبالرجم ويسبه، ثم يناظر قومه فيخيفونه بالنار ثم يحمل ويلقى فيها، ولو أنه أطاعهم وقال: أنا مكره، فيمكن أن يكون له عذر عندهم، ولكنه انتظر الفرج من الله سبحانه وتعالى ولم يطلب من الملائكة أن تعينه، ولا الناس، بل لم يطلب من أحد شيئاً، ولم يطلب العفو من هؤلاء الذين يريدون قتله، وإنما انتظر الفرج من الله سبحانه، فإذا بالله يأمر النار أن تكون برداً وسلاماً على إبراهيم عليه الصلاة والسلام. والكائنات انتظرت متى يأمرها الله عز وجل بأن تطفئ هذه النار، فالملائكة الموكلون بالمطر انتظروا أن يقول الله: أنزلوا المطر وأطفئوا هذه النار. ولكن الأمر كان أسرع من ذلك بكثير، النار نفسها تكون برداً وسلاماً على إبراهيم، قال تعالى: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69]. إذاً: صار لهب النار المحرق ناراً باردة. ولما كان البرد مؤذياً للإنسان قال: كوني برداً وسلاماً، والمعنى: كوني باردة وفيك سلم لإبراهيم وسلاماً له، فاطمأن في النار بتثبيت الله عز وجل له، فهذا كان بلاء لإبراهيم عليه الصلاة والسلام. ثم هاجر من عند هؤلاء فوجد آخرين يعبدون الكواكب التي في السماء، فناظرهم في ذلك فأبوا إلا الكفر، فهجر هؤلاء وتولى عنهم، ثم يأتي إلى أرض الشام ومنها يتوجه إلى مصر، فإذا بجبار مصر يرى سارة ويريد أن يأخذها من إبراهيم، ولو علم أنه زوجها لقتله، فاضطر إبراهيم أن يقول: هي أختي خوفاً من القتل، فيأخذ الملك السيدة سارة ويريد أن يأتيها، فإذا بإبراهيم يصلي لله عز وجل في هذه المصيبة التي ابتلي بها عليه الصلاة والسلام، وهي تدعو ربها، فإذا بالله يأخذ هذا الجبار فيصرعه، فيقول الجبار: ادعي لي وأنا أتركك، فتدعو له فإذا به يريدها ثانية، فتدعو عليه، فإذا بالله يصرعه ويأخذه ثلاث مرات وفي النهاية يقول لمن معه: إنما جئتموني بشيطانة. فتركها وأهدى لها هاجر، فأخذت هاجر أمة عندها وذهبت إلى إبراهيم فوجدته يصلي فسألها، فقالت: إن الله عز وجل أنقذني من هذا الجبار، ثم وهبت هاجر لإبراهيم فصارت ملكاً له لعله يأتي منها بولد، فكان أن جاء منها بولد. فرزق إبراهيم عليه الصلاة والسلام بولد فكأن هاجر ترفعت على سيدتها الأولى بسبب الولد، فإذا بها تغار منها، فكان في بيت واحد امرأتان وبينهما غيرة، فإذا بالله يأمره أن يأخذ هاجر وولدها ويتوجه بها إلى مكة، وهذا أمر صعب جداً أن يأخذ إبراهيم هذه التي صارت أم ولد له وأتاها وصار بينه وبينها مودة وعشرة، وبعد ذلك يتركها في مكة بلد ليس بها أنيس وكانت صحراء. وتأمل حين تذهب إلى الحج وتتوجه إلى منى مثلاً، فإذا بالخيام تملأ المكان، فترى منظراً جميلاً جداً منى ومنظر الناس والعبادة. وفي آخر يوم من أيام العيد عندما ينفر الناس في يوم النفر الأول، فترى الخيام التي كانت هناك بالألوف لم يبق من كل مائة خيمة إلا واحدة أو اثنتان، فصار المكان موحشاً، مع أنه بقي مئات من الناس، ثم بعد أيام منى ينصرف جميع الناس فيزداد وحشة، ولذلك لما ذهب بها وتركها وانصرف عنها قالت: إلى من تتركنا يا إبراهيم؟ فلم يرد عليها. فبعد أن كررت ذلك قالت: آلله أمرك بذلك؟ قال: نعم. قالت: إذاً لا يضيعنا. أي: طالما أن الذي أمر بذلك هو الله فلن يضيعنا، وإبراهيم يكتم في نفسه عاطفته وحزنه وشفقته على ولده الرضيع ويتركه في هذا المكان، لكنه أمر الله تعالى. لكن لماذا هذا البلاء كله؟ من أجل أن تظهر الخلة التي بإبراهيم مع ربه سبحانه وتعالى أنه لا يحب أحداً حبه لله عز وجل، فيبتليه الله عز وجل في كل أحد في أبيه، وولده، وأم ولده لينظر هل يحب هؤلاء أكثر منه سبحانه أم لا؟ فيستجيب إبراهيم وينفذ أمر الله سبحانه، فلما كان خارج مكة وراء جبل وتوارى عن عيني هاجر

تفسير سورة العنكبوت [28 - 35]

تفسير سورة العنكبوت [28 - 35] ذكر الله تعالى في هذه الآيات الكريمات قصة نبي الله لوط عليه السلام مع قومه حين درا الحوار بينه وبينهم، وحين بكتهم نبيهم على إتيانهم الفاحشة، وهي إتيان الذكور دون ما خلق الله لهم من أزواجهم، وأنبهم بقوله: إن هذه الفاحشة لم يسبقوا إليها، وليس هذا فحسب؛ بل إنهم كانوا يقطعون الطرق، وعلاوة على ذلك كفروا بالله واستعجلوا عذابه، فجاءهم العذاب فأصبحوا جاثمين هلكى في ديارهم، وتلك عاقبة ظلمهم وعصيانهم.

تفسير قوله تعالى: (ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة)

تفسير قوله تعالى: (ولوطاً إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت:28]. ذكر الله سبحانه وتعالى بعد قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام قصة ابن أخيه لوط عليه الصلاة والسلام، فقال: (ولوطاً إذ قال لقومه) فنصب لوطاً كما قال: (وإبراهيمَ) وكأن التقدير: واذكر لوطاً، أو: وأنجينا لوطاً، أو وأرسلنا لوطاً. قال تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} [العنكبوت:28] أي: اذكر لوطاً وقت أن قال لقومه: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْعَالَمِينَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمْ الْمُنكَرَ} [العنكبوت:28 - 29]. وفي قوله تعالى: (إنكم لتأتون)، و (أئنكم لتأتون) إذا اجتمعتا فلها عند القراء قراءات ووجوه كثيرة. فقراءة نافع، وابن كثير، وابن عامر، ويعقوب، وأبي جعفر، وحفص عن عاصم: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت:28]. وباقي القراء الذين هم: أبو عمرو وشعبة عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف يقرئون: (أئنكم لتأتون الفاحشة) (أئنكم لتأتون الرجال). إذاً: سيقرأ في الأولى بهمزتين، والثانية بهمزتين، وكل قارئ من القراء على أصله الذي يمد فيها والذي يسهل، فنجد مثلاً قالون وأبا جعفر يقرأان الأولى: (إنكم) والثانية (آئنكم) بالمد بالألف وبالتسهيل فيها. ويقرأ ورش وابن كثير ورويس: (إنكم) (ائنكم) بالتسهيل في الثانية من غير مد للألف فيها. ويقرأ أبو عمرو بالمد في الاثنين: (آئنكم لتأتون) (آئنكم لتأتون) الأولى بالمد مع التسهيل والثانية كذلك. ويقرأ هشام: (إنكم) (آئنكم)، و (إنكم) (أئنكم) له قراءتان. ويقرأ ابن عامر وروح عن يعقوب: (إنكم) (أئنكم). ويقرأ شعبة عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف: (أئنكم) (أئنكم). فالقراءت باعتبار اجتماع استفهامين: إنكم وأئنكم، تكررت مرتين ففيها هذه القراءات التي ذكرنا. قال لوط: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت:28] الفاحشة: الجريمة العظيمة التي تسيء إلى صاحبها يوم القيامة، وتسيء إليكم في الدنيا، وتسوء غيركم بفعلكم معهم ذلك. ويقال: فحش الأمر، يعني: زاد عن حده جداً، فيأتون الجرم الفضيع الذي لا يتوقع، وكانوا أول من وقع في هذه الفاحشة، ولم يفعلها أحد قبلهم، ولم يتخيل أحد قبلهم هذه الفاحشة التي وقعوا فيها. فهي أبداً ما حصلت في الخلق قبل قوم لوط.

تفسير قوله تعالى: (أئنكم لتأتون الرجال)

تفسير قوله تعالى: (أئنكم لتأتون الرجال) ثم قال تعالى يفصل ما الذي يقعون فيه: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ} [العنكبوت:29]. فهذه جملة من الجرائم، وزد على ذلك أصل إجرامهم في كفرهم بالله سبحانه وتعالى، وأنهم كفار مشركون. قال تعالى: (أئنكم لتأتون الرجال) إذاً: بدلاً من أن يتزوج الرجل المرأة يأتي الفاحشة، ويأتي الرجال بدلاً من النساء. ثم قال تعالى: (وتقطعون السبيل) فهم قطاع طرق ولصوص، يقطعون الطريق على الناس بأخذ أموالهم وبجباية المكوس عليهم والضرائب التي يأخذونها من الناس، وكذلك يخطفون الناس من الطريق ليفعلوا بهم هذه الفاحشة. قال تعالى: (وتأتون في ناديكم المنكر)، نادي القوم: المكان الذي يجتمعون فيه، فعند اجتماعهم فيها يفعلون جرائم تتكرر في مجتمعات الناس من السخرية والاستهزاء بالناس. واجتمعوا على أن يفعلوا الفواحش في نواديهم، ولا ينكر بعضهم على بعض هذا الذي يقعون فيه من الفاحشة. وجرائم قوم لوط إذا حدثت في قرية من القرى، أو في بلد من البلدان استوجبت عقوبة رب العالمين سبحانه وتعالى، واستحقوا أن يصيبهم مثل ما أصاب قوم لوط، فقد أصابهم ربنا سبحانه وتعالى ببلاء عظيم، وبعقوبة شديدة فضيعة. وكذلك من يفعلون فعلهم، فلم يقع قوم في فاحشة قط حتى يعلنوا بها إلا أصابهم الله عز وجل بأنواع من البلاء ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سوف نذكره بعد ذلك إن شاء الله. فقال هنا لوط عليه الصلاة والسلام: (إنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر)، أي: إذا اجتمعوا في نواديهم حرض بعضهم بعضاً على الوقوع في الفاحشة، وعلى أذى الناس والاستهزاء بهم، فكانوا يقومون في نواديهم ينظرون من يمر في الطريق فيحذفونه بالحصى، ويسخرون منهم، ويأخذونهم ويخطفونهم ولا أحد ينكر عليهم ما يقعون فيه من منكرات.

تفسير قوله تعالى: (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا)

تفسير قوله تعالى: (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا) قال تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [العنكبوت:29] عندما يدعو رسل الله عليهم الصلاة والسلام أقوامهم في كل زمان فتكون النتيجة أن يكذبهم قومهم ولا يؤمنون بهم إلا أن يشاء الله شيئاً. قال تعالى: (فما كان جواب قومه) أي: هذا هو الجواب الوحيد، فقصر الجواب على ذلك، ثم قال: (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين)، وهذا بيان لكفر هؤلاء، ولو كان عندهم التصديق لعرفوا أنه نبي وعرفوا أن العذاب سيأتي وأن النبي لا يكذب عليه الصلاة والسلام، ولكنهم سخروا منه وقالوا: (ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين). في قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّه} [العنكبوت:29] قراءتان: الجمهور على القراءة بالهمز. وقراءة ورش وأبي عمرو وأبي جعفر أيضاً: (إلا أن قالوا ايتنا بعذاب الله) بنقل الهمزة، فإذا بدأ كل القراء بكلمة: (ائتنا) فلا يبدءون بالهمزة فيها وإنما يبدءون بالياء فيقولون: (ايتنا بعذاب الله) إذا بدءوا بها، وليست محل وقف وابتداء.

تفسير قوله تعالى: (قال رب انصرني على القوم المفسدين)

تفسير قوله تعالى: (قال رب انصرني على القوم المفسدين) ثم دعا ربه سبحانه فقال: {قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} [العنكبوت:30] ودعوة الأنبياء مستجابة، والله عز وجل يستجيب ولكن ليس شرطاً أن يدعو وفي اللحظة يأتي العذاب، ولكن الله يملي ويمهل إلى حين، فلما دعا ربه بين لنا ربنا سبحانه كيف أتى هؤلاء عذاب رب العالمين.

تفسير قوله تعالى: (ولما جاءت رسلنا إبراهيم)

تفسير قوله تعالى: (ولما جاءت رسلنا إبراهيم) قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} [العنكبوت:31]. إذاً: رسل الله وهم الملائكة عليهم السلام جاءوا في البداية إلى إبراهيم، وقد ذكرنا قبل ذلك أن لوطاً كان مع إبراهيم، وأن الاثنين خرجا من العراق، فهاجر مع إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأتيا إلى ديار الشام، أو أتيا إلى فلسطين، وبعد المجيء إلى فلسطين توجه الاثنان إلى مصر، ثم رجع كل واحد ومعه من الغنم والإبل والمواشي ما ضاقت الأرض عن الاثنين، فالمكان الذي فيه إبراهيم لا يسع أن يكون فيه إبراهيم ولوط، غير أن هذا نبي وهذا نبي ولا يكون نبيان في مكان واحد، بل يتوجه كل نبي إلى مكان ليدعو القوم إليه. فتوجه لوط عليه الصلاة والسلام إلى قرى قوم لوط ليدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى وكانوا مجموعة من القرى منها سدوم وعمورة وصوغر، وهذه القرى كانت جنوب البحر الميت. ويذكر ربنا سبحانه أن الرسل الذين هم الملائكة في طريقهم إلى لوط جاءوا إلى إبراهيم، فقال هنا ربنا: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى} [العنكبوت:31] أي: جاءوا فبشروه. وذكر في غير هذه السورة أنهم لما جاءوا إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام دعاهم ليكرمهم ويطعمهم، وتوجه إلى بيته وجاء بعجل حنيذ فقربه وقدمه لهم {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [هود:70] فهو لم يكن يعرف أنهم رسل الله، ولم يكن يعرف أنهم ملائكة، فلما لم يأكلوا الطعام تبين بعد ذلك أنهم ملائكة. فقالوا لإبراهيم: إنا مرسلون لأهل هذه القرية لنهلكها، وقال سبحانه هنا: (ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى) أي: بالبشارة أن يولد له عليه الصلاة والسلام، وأقبلت امرأته في صرة وقالت: عجوز عقيم، فأخبروها وبشروها بفضل من الله عز وجل أنه سوف يولد لها ولد. فلما تعجبت: {قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود:73] فجاءت البشرى لإبراهيم بأنه سيولد له من سارة التي كانت عقيماً وكانت عجوزاً جاوزت الثمانين من عمرها وإبراهيم قرب المائة من عمره عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات:28] وقد بشر قبل ذلك بالغلام الحليم فكان إسماعيل عليه الصلاة والسلام، والآن بشروه بالغلام العليم وهو إسحاق، فجاءت البشرى، ثم أخبروه أنهم متوجهون إلى قرى قوم لوط ليهلكوهم. وهذه الآية أيضاً فيها قراءات: ففي قوله: (جَاءَتْ) ثلاث قراءات: يقرؤها بفتح الجيم الجمهور. ويقرؤها بالإمالة ابن عامر بخلف هشام. ويقرؤها حمزة وخلف: (ولما جيئت). وقوله تعالى: (رُسُلُنَا): يقرؤها الجمهور بضم السين. ويقرؤها أبو عمرو (رسْلنا) بتسكين السين ورفع اللام. وقوله: (إِبْرَاهِيمَ) فيها قراءتان: قراءة الجمهور: (إبراهيم). وقراءة ابن عامر بخلف هشام: (إبراهام). وقوله تعالى: (بِالْبُشْرَى) يقرؤها الجمهور بالفتح. وورش يقرؤها على التقليل. وأبو عمرو وحمزة والكسائي وخلف يقرءونها بالإمالة. فقال الملائكة: (إنا مهلكو أهل هذه القرية) أي: سنهلك قرى سدوم بسبب ظلم أهلها.

تفسير قوله تعالى: (قال إن فيها لوطا)

تفسير قوله تعالى: (قال إن فيها لوطاً) قال إبراهيم وهو الأب الرحيم عليه الصلاة والسلام: {إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا} [العنكبوت:32] وفي سورة هود قال تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ} [هود:69] فسلم عليهم، وبعدما دعاهم إلى الطعام، وعرف أنهم ملائكة قال الله عز وجل: {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود:74 - 75] ففي إبراهيم عليه السلام ثلاث صفات من أحسن الصفات التي تكون في الإنسان: فهو حليم، أواه، منيب، (حليم): أي: عنده صبر وأناة ليس بمتعجل ولا بمتهور، وهذا الحلم ظاهر عليه عليه الصلاة والسلام في مخاطبته للملائكة عليهم السلام، فقد جادلهم في قوم لوط؛ لرحمته، وأنه يتوقع أن يؤمنوا ويمكن أن يرجعوا إلى الله عز وجل ويتوبوا. وهو أواه، أي: رجاع إلى الله سبحانه، فظن أنهم يمكن أيضاً أن يرجعوا إلى الله سبحانه. وكان الجدال فقال: أتهلكون قرية وفيها مائة يعبدون الله؟ قالوا: لا. قال: أتهلكون قرية وفيها عشرون يعبدون الله؟ قالوا: لا. قال: أتهلكون قرية وفيها ثلاثة يعبدون الله؟ قالوا: لا. قال: أتهلكون قرية وفيها واحد يعبد الله؟ قالوا: لا. قال: إن فيها لوطاً، فقالوا: {قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ} [العنكبوت:32]. إذاً: لن نهلك القرية ولوط فيها، بل سنخرج لوطاً منها ونهلك القرية بعد ذلك، وفي قوله عز وجل: {لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [العنكبوت:32] قسم، أي: والله لننجينه وأهله. وفي قوله: (لننجينه) قراءتان: قراءة الجمهور: (لنُنجِّينه) بالتثقيل. وقراءة حمزة والكسائي وخلف: (لنُنْجينه) بالتخفيف. قال تعالى: {إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [العنكبوت:32] الغابرون: الباقون في العذاب، فامرأة لوط من هؤلاء. وامرأة لوط كانت تذهب وتخبر قومها عن أسرار لوط عليه الصلاة والسلام، فكانت من الكافرين فاستحقت عقوبة رب العالمين سبحانه، ولم ينفعها أن زوجها كان نبياً عليه الصلاة والسلام، كما أن ابن نوح لم ينفعه أن أباه كان نبياً، وكذلك زوجة نوح، وقد ضرب الله عز وجل المثل للكفار بهاتين المرأتين فقال: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم:10] والخيانة بالكفر، فلم تؤمنا، والخيانة بالوشي للأعداء بما يكون عند نوح أو عند لوط عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.

تفسير قوله تعالى: (ولما أن جاءت رسلنا لوطا)

تفسير قوله تعالى: (ولما أن جاءت رسلنا لوطاً) ثم قال تعالى: {وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ} [العنكبوت:33] وهنا في (جاءت رسلنا) القراءات السابقة. قال تعالى: (سيء بهم) أي: ساءه هذا الأمر، أو سُيء به، ولبيان المبني للمجهول قرأها نافع وأبو جعفر وابن عامر والكسائي ورويس عن يعقوب: (سُيء بهم). قال تعالى: (وضاق بهم ذرعاً) إذاً: هنا ساءه أمر هؤلاء ولم يعرف أنهم ملائكة، ووجدهم شباناً حساناً، وطالما أن هناك شباناً موجودين فسيأتي قوم لوط يفعلون بهم الفاحشة، فكان أن (سيء بهم). والإنسان الذي هو قليل الحيلة يضيق ذرعاً ولا يعرف ماذا سيعمل مع هؤلاء، ولوط ليس عنده جيش، وليس عنده أبناء ذكور، إنما كان معه بنات عليه الصلاة والسلام، فكيف يدفع قومه عن هؤلاء؟ والله عز وجل يرينا هذه الصورة التي فيها لوط عليه الصلاة والسلام، وكيف أن الأمر كان شديداً عليه لدرجة أنه يقول: {هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود:77]، ويقول لقومه: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80]. ليرينا الله عز وجل كيف أنه إذا ضاق الأمر جاء الفرج من عنده سبحانه وتعالى وحده. فهذا لوط كان وحده في بيته يدفع هؤلاء القوم، وذهبت امرأته إلى القوم وأخبرتهم أنه يوجد شبان حسان عند لوط عليه الصلاة والسلام، فجاء القوم يتدافعون في الطريق، فإذا به يغلق بابه في وجوههم فيدفعون عليه الباب، هو يدفع من الداخل يحمي أضيافه وهم من الخارج يدفعونه يريدون كسر الباب على لوط ومن معه، فضاق بهم ذرعاً وقال المقولتين السابقتين. فلما ضاق به الأمر وقال هذه الكلمة إذا بالملائكة تنطق وتقول للوط: {إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} [هود:81] أي: لا تخف، لست أنت الذي ستحمينا نحن الذين سندافع عنك بإذن الله رب العالمين، ولن يستطيعوا الوصول إليك. وإذا بالملائكة ترمي هؤلاء القوم بالحصباء في وجوههم فيعميهم الله عز وجل وهم على باب لوط، فيرجعون وهم يتوعدون لوطاً أنهم راجعون إليه عليه الصلاة والسلام، والملائكة تطمئنه ويقولون له: {إِنَّا مُنَجُّوكَ} [العنكبوت:33]. وفي ذلك قراءتان: هذه قراءة الجمهور. وقراءة ابن كثير وشعبة عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف ويعقوب. (مُنْجُوك). وقوله تعالى: {إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ} [العنكبوت:33] يعني: وبناتك. ثم قال: {إِلَّا امْرَأَتَكَ} [العنكبوت:33] أي: امرأتك التي وشت بأسرارك إلى هؤلاء الكفار، والتي لم تؤمن بك {كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [العنكبوت:33] أي: من المتبقين في العذاب.

تفسير قوله تعالى: (أنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء)

تفسير قوله تعالى: (أنا منزلون على أهل هذه القرية رجزاً من السماء) قال تعالى: {إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ} [العنكبوت:34] أي: عقوبة وعذاباً من السماء. وفي قوله تعالى: (إنا منزلون) قراءتان: قراءة الجمهور، وقراءة ابن عامر. فجاءتهم الزلزلة من عند رب العالمين، فإذا بجبريل عليه السلام يرفع القرية ويهوي بها، قال سبحانه: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} [النجم:53 - 54] وأنزل عليهم حجارة من الجحيم فأهلكهم جميعاً.

تفسير قوله تعالى: (ولقد تركنا منها آية لقوم يعقلون)

تفسير قوله تعالى: (ولقد تركنا منها آية لقوم يعقلون) قال سبحانه: {وَلَقَد تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [العنكبوت:35] فالذي يمر هناك يعرف أن هذه سدوم قرى قوم لوط التي أهلكها الله وجعل مكانها بحيرة منتنة مالحة، فمن يعقل يحترز عن الوقوع في المعاصي، ومن لم ينفعه التذكر استحق العقوبة. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة العنكبوت [36 - 40]

تفسير سورة العنكبوت [36 - 40] ذكر الله تعالى في هذه الآيات البينات قصة نبيه شعيب مع قومه، وكيف أنه دعاهم إلى عبادة الله وخوفهم اليوم الآخر ونهاهم عن الفساد في الأرض؛ فبدلاً من أن يؤمنوا كذبوه، فأهلكهم الله سبحانه، ثم ذكر نماذج من أولئك المكذبين وكيف أهلكهم ودمرهم؛ كل ذلك ليتعظ المؤمن ويعتبر بمن سبق، فمن فعل الذنب فلا يبعد أن تحل به عقوبة أمثاله من الأمم البائدة.

ذكر بعض أنبياء الله تعالى

ذكر بعض أنبياء الله تعالى الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. لما ذكر الله عز وجل لنا قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع قومه وكيف أنه دعاهم إلى الله عز وجل وكانوا يعبدون الأوثان والأصنام من دون الله، فرفضوه وأرادوا أن يحرقوه فأنجاه الله عز وجل من النار، وذكر لنا قصة لوط ابن أخي إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وكيف أنه هاجر مع إبراهيم إلى بلاد الشام، ودعا قومه في قرى سدوم وعمورة وصوغر، فلما دعاهم إلى الله سبحانه أبوا إلا الكفر والإعراض والوقوع في أعظم المنكرات والفواحش وإتيان الذكران من العالمين، ثم حذرهم عقوبة الله عز وجل فرفضوا وقالوا: {ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [العنكبوت:29] فجاءهم العذاب فاقتلعهم الله عز وجل بأرضهم، وزلزل بهم، وأرسل عليهم من السماء حجارة من سجيل، فأصبحوا في ديارهم هامدين خامدين صرعى جزاءً بما كانوا يعملون. ونلاحظ في سورة الأعراف عندما يذكر الله تعالى هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يطيل في ذكرهم، وما فعلوا مع قومهم وما فعل قومهم معهم. وكذلك في سورة هود، وفي سورة طه عندما يذكر موسى عليه الصلاة والسلام. ولكن في هذه السورة إشارات الغرض منها: أن يبين الله تعالى كيف أن العصيان من الأقوام يترتب عليه العقوبة العاجلة من الله سبحانه. فهذه السورة جزء منها مكي وجزء مدني، وكأن الجزء المكي منها يبين للنبي صلى الله عليه وسلم وللكفار من أهل مكة أن هذا رسول حق عليه الصلاة والسلام، وهو يدعوكم إلى الله كما دعا من قبل إبراهيم، ولوط، وشعيب، وغيرهم من الأنبياء دعوا أقوامهم، وأنتم كذبتم كما كذب من قبل قوم إبراهيم وقوم لوط، وقوم شعيب وقوم موسى وغيرهم فانتظروا سوء عاقبة من كان قبلكم. وذكر الله عز وجل قوم نوح، ثم عقب بإبراهيم عليه الصلاة والسلام. ونوح أول الأنبياء وأول الرسل عليه الصلاة والسلام إلى الكفار المكذبين، وبعده إبراهيم أبو الأنبياء عليه الصلاة والسلام، وإن كان بينهما قرون كثيرة فيها أنبياء يعلمهم الله سبحانه وتعالى. ولكن كأن الغرض هنا في الترتيب أن يذكر الأب بعد الأب، فآدم الأب الأول، وبعده نوح عليه الصلاة والسلام، ثم أغرق الله عز وجل البلاد وأهلك العباد الذين كفروا به، وصار من على الأرض أبناء نوح عليه الصلاة والسلام فهو أب بعد أب. وذكر بعده إبراهيم عليه الصلاة والسلام فهو أبو الأنبياء عليه الصلاة والسلام وله التشريف. ثم ذكر بعده لوطاً فهو في نفس الزمن، وهو ابن أخيه. ثم ذكر بعده شعيباً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.

تفسير قول الله تعالى: (وإلى مدين أخاهم شعيبا)

تفسير قول الله تعالى: (وإلى مدين أخاهم شعيباً) قال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} [العنكبوت:36]. هو مدين بن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وقد سكن في هذه الديار التي سميت باسمه. إذاً: ديار مدين التي كانت بين الشام وبين الحجاز هي مدين التي فر إليها موسى عليه الصلاة والسلام، فتجد في رأس خليج العقبة مكاناً اسمه أيلة بالقرب من الحجاز، أو على أول الحجاز تكون بلد مدين، والبعد بينها وبين مصر أكثر من ألف ميل الذي مشاه موسى عليه الصلاة والسلام هارباً من فرعون وفاراً إلى مدين! وتزوج هنالك ثم رجع إلى مصر مرة ثانية كل هذا ماشياً على قدميه عليه الصلاة والسلام. فهذه مدين، وهذا مدين بن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فكأنها المناسبة: أن هذا مدين بن إبراهيم وهذه البلدة التي كان فيها أرسل إليهم شعيب عليه الصلاة والسلام. فكأن قوم مدين كانوا قريبي عهد بإبراهيم؛ ولذلك استبعد من استبعد من المفسرين أن يكون شعيب هذا زوج ابنته موسى عليه الصلاة والسلام. وقالوا: المسافة بعيدة بين إبراهيم وبين موسى حوالي ألف سنة، وشعيب قريب من إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وهو من أبناء مدين الذي هو ابن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، قالوا: فبعيد أن يتزوج موسى من ابنة شعيب النبي. لكن الغرض هنا أن الله سبحانه وتعالى أرسل إلى مدين الذين كذبوا وكفروا أخاهم شعيباً، كأنه يقول هنا: وإلى مدين أرسلنا أخاهم شعيباً.

تفسير قوله تعالى: (فقال يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر)

تفسير قوله تعالى: (فقال يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر) قال تعالى: {فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ} [العنكبوت:36] أي: اعبدوا الله، فأمرهم بعبادة الله سبحانه وتوحيده، وبأن يوجهوا كل أعمالهم خالصة لله سبحانه وتعالى. قال تعالى: ((وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ)) أي: أملوا ما عند الله من جنة وخافوا من عذاب الله سبحانه وصدقوا بما جئتكم به من رسالة من عند رب العالمين. ثم قال: {وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِين} [العنكبوت:36] يعثى: بمعنى: يفسد، ويقال في العثى: أنه أشد الفساد، أي: لا تفسدوا في الأرض أشد الإفساد فكان إفسادهم أنهم كفروا بالله سبحانه، وأنهم ينقصون في الكيل والميزان كما فصل الله عز وجل في سورة الأعراف وفي سورة هود كيف أن نبيهم بين لهم ذلك. وكان شعيب يلقب بخطيب الأنبياء؛ لحسن بيانه، وحسن تبليغه، وجمال كلامه، وأنه أخذ قومه باللطف وبالبيان شيئاً فشيئاً وحجة وراء حجة ليقنعهم، ومع ذلك لم يستجيبوا ولم يؤمنوا به. فقال لهم: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف:85 - 86] فدعاهم بهذا البيان الطيب الجميل: ((اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ)) أي: معي بينة وآية تدل على أني رسول من رب العالمين سبحانه وتعالى. ثم قال: ((فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ)). وفي آية أخرى: {وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود:85]. وفي الآية الأخرى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأعراف:85]. ثم قال: {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [هود:86] أي: لا أملك إلا أن أدلكم على الحق، ولست رقيباً عليكم، ولا أحولكم من شيء إلى شيء فلا أملك لكم ذلك. فيخاطبهم ويتلطف لهم ويرقق قلوبهم بقوله: يا قوم! أي: أنا منكم، فقال: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره). وقال: {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [هود:85 - 86] يعني: ما بقي لكم من حلال أفضل وأخير لكم من حرام تطلبونه إن كنتم مصدقين بأنكم ترجعون إلى الله فيحاسبكم يوم القيامة. فما كان جواب قومه إلا أن ردوا عليه بالسفاهة فقالوا: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود:87] أي: أنت جاعل نفسك حليماً رشيداً فلن نسمع الكلام الذي تقوله. ثم قال تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف:88]. وحاشا له أن يكون قد دخل في ملتهم حتى يعود فيها، ولكنهم قصدوا من آمن معه، فكما دخلوا معك في دينك يرجعون إلى ديننا مرة أخرى، وإلا فسوف نخرجك ونطردك من هذه القرية. فرد عليهم: {قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ * قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} [الأعراف:88 - 89] ثم دعا ربه: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف:89]. ثم قال تعالى: {وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} [الأعراف:90]. إذاً: جدل طويل بين شعيب وبين قومه، يرقق قلوبهم، ويدعوهم إلى هداية الله رب العالمين، وهم يأبون إلا قسوة القلوب والاستكبار والإفساد.

تفسير قوله تعالى: (فكذبوه فأخذتهم الرجفة)

تفسير قوله تعالى: (فكذبوه فأخذتهم الرجفة) وفي النهاية يذكر الله عز وجل أنه أخذهم أخذ عزيز مقتدر، فقال: {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} [العنكبوت:37] فأجمل هنا ما فصل في سورتي الأعراف وهود وغيرهما. قال: (فكذبوه) إجمالاً، (فأخذتهم الرجفة) وزلزل الله عز وجل بهم الأرض من تحتهم، فأصبحوا في ديارهم جاثمين وجاءهم العذاب من عند الله سبحانه. وقد قال هناك: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:92] (كأن لم يغنوا) أي: كأن لم يعيشوا وكأن لم يقيموا فيها أبداً وكأنهم لم يكونوا قبل ذلك، مضت أعوام وسنون وهم في هذا المكان كافرين بالله سبحانه وتعالى، فلما جاءتهم الرجفة أصبحوا في ديارهم جاثمين: من الجثوم، والجثوم: البروك على الركب وعلى الأقدام، فكأنهم حين جاءت عليهم الرجفة من رعبهم يلقون أنفسهم على الأرض ويأتيهم الموت وهم على ذلك. قال تعالى: {فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [هود:94] ومنها المجثمة: وهي الطائر الذي يربط في مكان ويحذف عليه بالسهام. وكذلك يقال: جثم الطائر وجثم الأرنب، بمعنى: أنه لبد في المكان وأقام وألصق بطنه بالأرض؛ فكذلك هم أصبحوا في ديارهم جاثمين ملقون على الأرض باركين عليها أمواتاً، وجاءهم العذاب من عند رب العالمين. ثم قال: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ} [الأعراف:93] أي: شعيب عليه الصلاة والسلام: {وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} [الأعراف:93] أي: لا تستحقون أن أحزن عليكم، وكيف آسى عليكم وقد كفرتم بالله وقد حذرتكم فاستحققتم هذه العقوبة من ربكم؟ فلا آسى عليكم، ولا أحزن عليكم.

تفسير قوله تعالى: (وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم)

تفسير قوله تعالى: (وعاداً وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم) ثم ذكر الله عز وجل أقواماً آخرين قبل شعيب، وقبل إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام فقال: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ} [العنكبوت:38] أي: اذكروا عاداً واذكروا ثمود قبل ذلك فهم أقوام أهلكهم الله سبحانه وتعالى. وفي قوله تعالى: ((وَثَمُودَ)) قراءتان: قراءة حفص عن عاصم وحمزة ويعقوب: (وثمود وقد تبين لكم). وقراءة باقي القراء: (وثموداً وقد تبين لكم) بالألف وعليها تنوين. قال تعالى: ((وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ)) يعني: أنتم تمرون على ديار عاد، وتمرون على ديار ثمود فالله تعالى يخاطب قريشاً وأهل الحجاز: لقد عرفتم ديار هؤلاء، وكيف أهلكهم الله سبحانه، وكيف أن ديارهم لم تسكن إلا قليلاً، فديار عاد في الجنوب بين اليمن والحجاز، وديار ثمود في الشمال بين الحجاز والشام. قال سبحانه: ((وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ)) في الحجر وفي الأحقاف كيف أهلكهم الله سبحانه. قال تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} [العنكبوت:38] أي: أن الشيطان يزين للإنسان الشيء على خلاف حقيقته، والله تبارك وتعالى يزين الشيء خلقة، فالله يخلق الأشياء جميلة وخلق الله عز وجل كله طيب جميل، والشيطان يأتي الإنسان فيزين له سوء عمله، فيعمل القبيح، فإذا بالشيطان يريه أن هذا الذي يصنعه أمر حسن. والله يحرم على العبد النظر إلى الحرام؛ فإذا بالشيطان يزينه في عينه فيوسوس: انظر إليه فإنه حلو جميل، فينظر إلى ما حرم الله ويواقع ما حرم الله. والشيطان يزين له المعصية ويزين له ما فيه غضب الله على أنه شيء يرضيه، فإذا بالعبد يواقعه فيقع في غضب ربه سبحانه، فزين لهم الشيطان أعمالهم القبيحة فجعلها في نظرهم حسنة. قال تعالى: {فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} [العنكبوت:38] أي: عن طريق الله سبحانه. ثم قال: {وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} [العنكبوت:38] أي: أن الإنسان الذي يتنكب الطريق وهو لا يعرف لعله يكون له عذر، أما الذي يعرف الطريق ويتنكب عنه فهذا لا عذر له. فالله عز وجل أرسل الأنبياء يرشدون الناس: هذا طريق الله عز وجل، وهذا طريق الشيطان، واحذر أن تسلك هذا الطريق. إذاً: هو مستبصر الآن ويرى الطريق الصحيح أمامه، كالذي يسير وأمامه طرق ولا يعرف أين أمشي، فيأتي إليه إنسان ويقول له: امش في هذا الطريق، فبعدما عرف الطريق يتركه ويمشي في غيره! فهذا مستبصر يعرف أين الحق ويمشي إلى الباطل وهو يعرف ذلك. فالله سبحانه قد أنزل الكتب وأرسل الرسل لئلا يكون للناس حجة على الله سبحانه، فصد الشيطان هؤلاء عن سبيل الله، وكانوا يعرفونها، وكانوا يعرفون الحق وقد بان لهم بالبرهان طريق الله فكانوا مستبصرين.

تفسير قوله تعالى: (وقارون وفرعون وهامان)

تفسير قوله تعالى: (وقارون وفرعون وهامان) ثم ذكر الله سبحانه وتعالى غيرهم فقال: {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ} [العنكبوت:39] فقارون كان من قوم موسى وقد ذكرنا قصته في سورة القصص، قال تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ} [القصص:76] والقصة معروفة. (وفرعون): هو الذي حكم مصر والذي نظر في نفسه أنه أعلى من الناس، فادعى أنه إله عليهم، وكذب على الناس فوصدقوا كذبه، وكانوا قوماً مغفلين قال الله عنه: {قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ} [الزخرف:51] وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]. فإذا بهم يصدقونه ويعبدونه من دون الله سبحانه، قال الله تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:54]. وهامان وزير فرعون الذي يعينه على باطله، فقد قال له: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [القصص:38]. يقول له: سأبني لك صرحاً من أجل أن تطلع إلى السماء، وهو يعلم أن صرحه لن يبلغ السماء أبداً، ويبنيه ويصدق فرعون فيما يقول. ويقول: هذا الصرح اصعد فيه إلى السماء فيصعد فرعون فوق الصرح، وينزل للقوم ويقول لهم: لم أجد أحداً في السماء، وليس هناك إله وهذا موسى كذاب، فهذا الكذاب هامان يعين فرعون على ما هو فيه من باطل. قال سبحانه: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ} [العنكبوت:39] فقارون ألهاه ماله وحسده لموسى عليه الصلاة والسلام؛ لأنه كان ابن عم لموسى عليه الصلاة والسلام، فغار من موسى فقال: أنا معي الأموال كلها وأنت تكون رسولاً!! فغار منه فكان أن خسف الله عز وجل به الأرض. وفرعون وهامان كذبا موسى عليه السلام وقام الاثنان بأعمال تدل على هذا التكذيب، قال سبحانه: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ} [العنكبوت:39] استكبروا وكأن هذه الآية تحذر كل مستكبر: مهما تكبرت وعلوت فلست بفائت على الله سبحانه وتعالى، بل الله الذي تركهم كما قال: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183] أي: اذهبوا واعملوا ما تريدون فيستكبرون ثم لا يفلتون من ربهم سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (فكلا أخذنا بذنبه)

تفسير قوله تعالى: (فكلاً أخذنا بذنبه) قال تعالى: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت:40] أي: كل واحد من هؤلاء الأقوام أخذه الله عز وجل بذنبه. (فكلاً) هنا لف للكلام ثم نشر بعد ذلك كيف أهلكهم سبحانه. فقال: {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا} [العنكبوت:40] أي: كما فعلنا بقوم لوط، وكما فعلنا بقوم شعيب وغيرهم، ثم قال: {وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ} [العنكبوت:40] كما فعلنا بقوم شعيب وثمود وغيرهم. ثم قال: {وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ} [العنكبوت:40] كما فعلنا بقارون وغيره. ثم قال: {وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} [العنكبوت:40] كما فعلنا بقوم نوح المكذبين، وكما فعلنا بفرعون وجنوده. ثم قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} [العنكبوت:40] أي: لم يفعل ذلك ظالماً لأحد، قال سبحانه: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] حاشا له سبحانه وتعالى أن يظلم. قال تعالى: {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:40] أي: ظلموا أنفسهم فاستحقوا عقوبة الله، وهذا فيه تحذير لكل إنسان يظلم نفسه أو يظلم غيره أنه لن يفلت من العقوبة، فعليه مراجعة نفسه والرجوع إلى الله سبحانه إنه تواب رحيم. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة العنكبوت [41 - 43]

تفسير سورة العنكبوت [41 - 43] ضرب الله تعالى مثلاً رائعاً لأولئك الذين عبدوا غيره واتخذوا معبوداتهم أولياء لهم ببيت العنكبوت الذي هو أوهن البيوت، فكأنه يقول: كما أن بيت العنكبوت لا يمنعها من حرٍ ولا قرٍ ولا ريح ولا عدو، فكذلك أولياؤكم لا ينصرونكم ولا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً فضلاً عن أن ينفعوا غيرهم، ثم بين أن هذه الأمثال لا يعقلها ويفهم المراد بها إلا من وهبه الله العلم ورزقه فهم كتابه وتدبر آياته جل وعلا.

تفسير قوله تعالى: (مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء)

تفسير قوله تعالى: (مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة العنكبوت: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:41]. في هذه الآية من سورة العنكبوت يخبرنا الله سبحانه وتعالى عن الكفار الذين عبدوا الأصنام من دونه سبحانه، وأن مثل هؤلاء في ضعفهم، وضعف عقولهم، وضعف من يلجئون إليه ويدعونه من دون الله سبحانه وتعالى كمثل العنكبوت حين اتخذت بيتاً لا يحميها من أعدائها، وقد يكون بيتاً تعيش فيه وتستخدمه مصيدة لغيرها، أما أنه يحميها من أحد يريد أن يدوس عليها فيقطع ويمزق هذا البيت ويقتل العنكبوت فلا يحميها من ذلك، ولا يحميها من الرياح إذا هاجت وسارت عليها فأطارت البيت بمن فيه. فكأنه يشير إلى أن هؤلاء الذين يعبدونهم من دون الله سبحانه لا ينفعونهم بشيء، ولا يملكون لهم ضراً ولا نفعاً ولا لأنفسهم كمثل بيت العنكبوت في وهنه وضعفه. قال تعالى: (اتخذت بيتاً) وهذا البيت لا يحميها من أعدائها، وإذا جاءت الرياح أطارت البيت وضيعته، وإذا داس عليها إنسان أو حيوان لا تقدر أن تدفع ولا يدفع بيتها عنها، فكذلك هذه الأصنام وهذه الآلهة التي تعبد من دون الله، لا تملك لأصحابها لا نصراً ولا ولاية ولا تملك لهم ضراً ولا نفعاً ولا شيئاً. قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ} [العنكبوت:41] الولي: هو النصير، والولي هو الذي يحمي الإنسان ويدافع عنه، ويكون متولياً لأمره، فلا يعقل أبداً أن هذه الأصنام والتماثيل تتولى أمور هؤلاء القوم وتدبر لهم كونهم وأمورهم، فمثلهم كمثل هذه العنكبوت (اتَّخَذَتْ) يعني: العنكبوت (اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ) أوهن: أضعف من الضعف، قال تعالى عن زكريا عليه السلام: {إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم:4] أي: صار عظمي ضعيفاً لا يحملني، فالإنسان الواهن: هو الإنسان الضعيف، به وهن أي: به ضعف. فاتخذت هذه العنكبوت بيتاً، وأوهن وأضعف البيوت هو بيت العنكبوت. وفي قوله تعالى: (البيوت) قراءتان: قراءة بالضم وهي قراءة ورش، وأبي عمرو، وحفص. وقراءة أبي جعفر ويعقوب، وباقي القراء بكسر الباء: (وإن أوهن البِيوت). قال تعالى: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:41] أي: لو كانوا يعلمون أن هذه الأشياء التي عبدوها من دون الله كبيت العنكبوت ولو أنهم تدبروا في ذلك لعلموا أنها لا تنفعهم شيئاً ولا تملك لهم حيلة ولا تملك لهم رزقاً فابتعدوا عنها ولم يعبدوها من دون الله سبحانه وتعالى.

من عجائب العنكبوت وبيته

من عجائب العنكبوت وبيته وهذه الآية آية عجيبة جداً، وفيها معجزة عظيمة من المعجزات في تعبير القرآن العظيم بهذه الصيغ، قال تعالى: {اتَّخَذَتْ بَيْتًا} [العنكبوت:41] والتاء تاء التأنيث، وهنا إشارة إلى أن أنثى العنكبوت هي التي تبني البيت، وهذا بعد دراسات العلماء لهذه الحشرة العجيبة سنين طويلة يصلون في النهاية إلى ما في هذه الآية ويقولون: الذكر لا يبني البيت أبداً إنما الذي يبني البيت هي أنثى العنكبوت! والوهن الذي أشار إليه القرآن على معاني صحيحة؛ فالمعنى الذي يفهمه القارئ من أول قراءته لهذه الآية أن أضعف البيوت بيت العنكبوت، وهذا معنى صحيح؛ فهو بيت واه وضعيف، كما نقول: إنسان وهن منه العظم، كأن بيت العنكبوت لا ينصب نفسه ولا بد أن تلصقه في الجدران من أجل أن يستقر عليه. ومعنىً آخر من وراء ذلك: أن الوهن في العنكبوت نفسه، وهو أنثى العنكبوت وذكر العنكبوت وأولاد العنكبوت. وهذه العنكبوت حين التزاوج والتلاقح فالذكر حين يلقح الأنثى تستنفد قواه بهذا التلقيح وتأخذ منه ما فيه وفي النهاية تقتله وتأكله. فحياة أنثى العنكبوت حياة عجيبة جداً! بعدما نفعها بأن لقحها قتلته، ولم تقتله فقط؛ بل أكلته أيضاً، فهذا بيت ليس فيه رحمة إنما يعتمد على المنفعة. وأولاد العنكبوت يهربون من البيت وهم صغار، ولا يعيشون أبداً في البيت إلى أن يكبروا؛ لأن البيت واه وضعيف. وليس هناك علاقات اجتماعية قوية بين الأنثى والذكر والأولاد، فلو جاعت أكلت أولادها، فعلى ذلك هو بيت عجيب جداً. وهذه دراسات علمية منشورة على الإنترنت ذكرها علماء المسلمين وأخذوها عن علماء الكفار الذين درسوا حياة الحشرات وتكلموا عنها باستفاضة، قالوا: هذا القرآن يذكر لنا أن أنثى العنكبوت هي التي اتخذت بيتاً، وهم أثبتوا الآن أن الذي يبني هذا البيت هي الإناث وليس الذكور. وبيت العنكبوت ضعيف، وهذا معروف من زمن قديم، والجديد الذي عند أهل العلم في ذلك يقولون: إنه فيه ضعف من نوع آخر، وهو أن من بداخله يأكل بعضهم بعضاً وليس فيه حياة اجتماعية أسرية بداخله. وهذا أمر عجيب من تعبير القرآن؛ إذ يمكن أن يقول الناس: هذا يعمل مثل خيط العنكبوت، أما القرآن فلا يقول: خيط العنكبوت، إنما يقول: بيت العنكبوت، فيا ترى ما الفرق بين الاثنين؟ فالخيط مهما كانت قوته لو حاولت تبني منه بيتاً فذلك غير ممكن أن يستقيم الخيط فتبني منه بيتاً، لكن البيت لا بد أن تعلقه على جدار أو عمود، فلا بد من تعليقه على شيء من أجل أن يستقيم ويرتفع. فلو أتيت بالخيط ووضعته وجلست داخل هذا الخيط مهما كانت قوته فليس بشيء؛ بل لا بد أن يكون معلقاً بعيداً عنك من أجل أن يكون بيتاً تعيش فيه. أما إذا لم يكن له أشياء تحمله وترفعه وتنصبه عليه سقط على من فيه، فلم ينفع من فيه بشيء. فالعلماء يتكلمون عن التعبير القرآني: بالبيوت، ولم يقل: الخيوط. قالوا في الدراسة: إن خيوط العنكبوت ظهرت أقوى أنواع الخيوط، فخيط العنكبوت ليس خيطاً ضعيفاً بالنظر إلى ما هو مثله من الخيوط. بمعنى: لو أتينا بأي نوع من أنواع الخيوط الرقيقة في مثل رقة خيط العنكبوت، لكان خيط العنكبوت أقوى من هذا الخيط حتى لو كان هذا الخيط من الفولاذ أو من الصلب، ولذلك يقول العلماء: إذا كانت هذه الخيوط تبدو ضعيفة واهية وتمزقها الرياح؛ إلا أن الدراسات أثبتت أنها على درجة عالية من المتانة والشدة والمرونة، فهي تعد أقوى مادة بيولوجية ينتجها حيوان عرفها الإنسان حتى الآن. ولا يفوقها في الكون كله قوة خيط إلا نوع يسمى: بالكوارتز المصهور، قالوا: هذا أقوى منه. وقالوا: هذا الشيء الرفيع يتمدد إلى خمسة أمثاله، وليس هناك خيط مثله، فإذا كان طوله سنتيمتراً واحداً فإنه يتمدد حتى يصبح طوله خمسة سنتيمترات، فهو قوي وفيه متانة. وقالوا: إنهم حاولوا أن يقلدوا خيط العنكبوت من أجل أن يصنعوا خيوطاً قوية تضاهي خيط العنكبوت، وقد قالوا: إنه أقوى من الفولاذ المعدني بعشرين مرة، فتخيل! خيط تصنعه هذه العنكبوت الذي أنت تدوس عليها برجلك، فلا تستطيع أن تصنع خيطاً مثل خيطها إلا بجهد جهيد. وقالوا: أقوى الخيوط الموجودة الذي يلي خيط العنكبوت خيط استحدثوه حديثاً مصنوع من الكوارتز المصهور، يقولون: وتبلغ قوة احتماله ثلاثمائة ألف رطل للبوصة المربعة. أي: أنك لو أتيت ببوصة مربعة مضغوطة من خيط العنكبوت يتحمل قوة من غير أن يتفشى ويتكسر ثلاثمائة ألف رطل عليه. قالوا: فإذا قدر جدلاً أن أتينا بخيط العنكبوت وضغطناه وعملنا منه حبلاً في سمك الإبهام، فبالإمكان أن يأخذ طيارة جامو، وهي إحدى الطائرات العملاقة. ولكن كيف يصنعون ذلك من أجل أن يصلوا إلى القوة العظيمة التي لهذه الخيوط؟ قالوا: هناك غدد موجودة في بطن العنكبوت، وهناك ثلاثة ثقوب موجودة فيها ينزل منها ما تفرزه الغدد وتخرج منها على هيئة شعيرات، فيجتمع خيط مع خيط ويجدل الخيوط في بعضها بحيث تكون في النهاية خيط العنكبوت. كذلك في بطنها أكثر من ستمائة غدة تفرز مادة معينة، وهذه المادة تنزل من ثقوب ثلاثة موجود في داخلها مثل المغازل كل واحدة تنزل خيطاً، والثانية تنزل خيطاً، ويلتف الخيط على بعضه، فيتجدل بحيث يكون خيط العنكبوت الذي يظهر أمامنا. وقد اكتشفوا أن الحشرات أكثر شيء موجود على الأرض، وقالوا: يوجد أكثر من عشرة مليون نوع من أنواع الحشرات، ولم يصلوا إلا إلى معرفة حوالي مليون وقليل من هذا العدد الضخم من الحشرات الموجودة على الأرض. والعنكبوت لوحده خمسة وثلاثون ألف نوع من هذه الحشرات الموجودة، وربنا سبحانه وتعالى ضرب لنا مثلاً بها وقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26]. إذاً: البعوضة خلق، وأنت لا تستطيع أن تخلق مثله، والذبابة خلق وأنت لا تستطيع أن تخلق مثلها، فخلق عظيم من خلق الله سبحانه وتعالى توجد فيه حكم خلقها الله سبحانه وتعالى. وقد قال لنا: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا} [فصلت:53] أي: هؤلاء الكفار سنريهم آياتنا، أما المؤمن فيعلم أن الله لا يخلق شيئاً إلا لحكمة، والكافر يظل يفكر ويصنع ويتأمل ويخرج بنتيجة يصل في النهاية إلى ما قاله الله سبحانه وتعالى. فضرب الله بالعنكبوت المثل، والإنسان يراها حشرة تافهة ويتقزز منها، ولكن يقول لك: هذه لا تخلو من فوائد، وربنا سيذكرها هكذا وانتهى. العنكبوت فيها فوائد كثيرة جداً لدرجة أنهم يقولون: إنها تلتهم الملايين من الحشرات الضارة. كذلك تلتهم الملايين من النباتات الضارة بالصحة، بل إنها تعمل كمبيدات حشرية لدرجة أن أحد العلماء يقول ويؤكد: إن نهاية الإنسان تصبح حتمية لو أن العنكبوت لم تكن موجودة على وجه الأرض، هل تتخيل هذا الشيء؟! فيضرب الله تعالى المثل بشيء يدل على أنه مثل عظيم من الله سبحانه وتعالى، والاختيار للألفاظ مقصود لمعانٍ عظيمة منه سبحانه. قال سبحانه: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:41] أي: لو يعلمون ذلك ويتأملون في كلام الله عز وجل لآمنوا ودخلوا في دين الله تبارك وتعالى. وقد ذكر الله تعالى قبل ذلك النمل فقال تعالى: {قَالَتْ نَمْلَةٌ} [النمل:18]، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه نهى عن قتل النمل)، والعلماء يذكرون أيضاً أن النمل نافع جداً للإنسان، وأنه يتخذ سلاحاً يحمي الأشجار للإنسان من الحشرات الضارة بالأشجار التي تنخرها؛ لدرجة أن في اليمن يبيعون النمل، فيذهبون للغابات ويأتون بالأشجار التي عليها النمل وينقلونها على الجمال إلى السوق من أجل أن تباع، ويأخذها أصحاب مزارع الموالح وغيرها من أجل أن يحمي النمل لهم مزارعهم. فالنبي صلى الله عليه وسلم لا ينهى عن ذلك إلا لحكمة عظيمة جداً. إذاً: نقتل ما كان مؤذياً للإنسان بالقرص، أو يخرب بيت الإنسان، أما غير ذلك فلو أنه قضي على النمل كله الذي على وجه الأرض لخربت وضاع على الإنسان غذاؤه. ولو أنه قضي على جميع العناكب التي على وجه الأرض لمات الإنسان بعد ذلك من أعدائه الموجودين. فالله سبحانه وتعالى لم يخلق شيئاً إلا لحكمة، والإنسان قد يستكبر، ويقول: هذا مخلوق ليس له لزوم، ويضيع شيئاً من الأشياء التي أوجدها الله عز وجل في مكان، فإذا بتضييعه لهذا الشيء في هذا المكان يدمر له هذا المكان بسوء صنيعه. وكذلك لو أن الإنسان أخذ شيئاً من موطن غير موطنه، ووضعه في مكان آخر، فتكاثر في هذا المكان، فلعله يخرب هذا المكان بصنيعه هذا. فلو ترك الإنسان الدنيا على ما خلقها الله عز وجل عليه ولم يتعرض للتجارب لتضييع البيئة التي أوجدها ربنا سبحانه وتعالى أوجدها وفطرها عليها؛ لكانت الأرض فيها الخير العظيم قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96].

تفسير قوله تعالى: (إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء)

تفسير قوله تعالى: (إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء) قال الله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [العنكبوت:42] أي: الكفار، وهذه قراءة أبي عمرو وعاصم، ويعقوب: (إن الله يعلم ما يدعون). ويقرأ بالخطاب باقي القراء: (إن الله يعلم ما تدعون) يعني: يا أيها الكفار! إن الله يعلم ما تدعون من دونه من شيء، ولو كان حقيراً أو شيئاً صغيراً تخفونه فالله يعلم ما كان صغيراً وما كان كبيراً من عبادتكم الباطلة. إن الله يعلم كل ما تدعون من دونه، ويعلم ما تفعلون، وهو العزيز الغالب الذي لا يقهر سبحانه وتعالى. قال تعالى: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت:42] أي: الذي لم يخلق شيئاً إلا لحكمة والذي لم يرسل رسولاً إلا لحكمة والذي لم ينزل كتاباً إلا لحكمة سبحانه.

تفسير قوله تعالى: وتلك الأمثال نضربها للناس)

تفسير قوله تعالى: وتلك الأمثال نضربها للناس) قال تعالى: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ} [العنكبوت:43] أي: تلك الأمثال العظيمة التي يذكرها الله سبحانه وتعالى: {نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} [العنكبوت:43] أي: نبينها ونوضحها للناس ونذكرها لهم على وجه العظة والتمثيل، {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43] أي: وما يفهم هذا الشيء وما يتعقل معانيها إلا العالمون. والكافر الغبي يقول: {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} [البقرة:26] فمرة يذكر ذبابة، ومرة يذكر بعوضة، ومرة يذكر العنكبوت، ماذا أراد الله بهذا مثلاً؟! أما العلماء فيقولون لك: أنت لا تفهم شيئاً، فلو قضي على العناكب التي خلقها الله تعالى لكان القضاء عليك أنت يليها، ولو أن هذه الحشرات الموجودة في الكون كلها غير موجودة فلن تستطيع أن تعيش، أو سيكون لك أعداء لا تقدر عليهم، وهذه الحشرات هي التي يبيد الله عز وجل بها هذه الأشياء؛ فانظر لحكمة الخالق الباري سبحانه وتعالى، واعقل وتفهم ما يقوله سبحانه: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43]. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عباده العالمين المؤمنين الذي يستمعون القول فيتبعون أحسنه. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة العنكبوت [44 - 45]

تفسير سورة العنكبوت [44 - 45] بين المولى جل في علاه أن من دلائل عظمته وقدرته خلقه لهذه السماوات السبع بغير عمد، وأنه قد خلقها بالعدل والقسط، ففي ذلك الخلق على هذه الهيئة آية عظيمة باهرة تزيد أهل الإيمان إيماناً وتقوى، وتبعث في قلوبهم الرهبة والخشية من الله تعالى، فيعملوا بما أمر، ويجتنبوا ما نهى عنه وزجر، ومن ذلك إقامة الصلاة التي أمر الله تعالى بها، وتأديتها كما أمر سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (خلق السماوات والأرض بالحق)

تفسير قوله تعالى: (خلق السماوات والأرض بالحق) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل: {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} [العنكبوت:44]. يخبرنا ربنا سبحانه وتعالى أنه خلق السماوات والأرض بالحق، أي: بالعدل وبالقسط، خلقها الله سبحانه وتعالى حقاً وبالحق خلقها سبحانه، فهي موجودة حقاً وصدقاً، والذي أوجدها هو الله سبحانه وهو الذي أقام السماوات والأرض على العدل وعلى القسط وعلى الحق سبحانه وتعالى. وهذه آيات من آيات رب العالمين ودلالة للمؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم. وتأمل أنه قبل ذلك ذكر بيت العنكبوت فقال: {إِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} [العنكبوت:41]. ثم قال: {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} [العنكبوت:44]، وقال سبحانه: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [النازعات:27 - 33]. يخبرنا عن هذا الخلق العظيم فيقول: هل أنتم أقوى أم هذه السماوات وهذه الأرضون؟! والإنسان كلما ازداد علماً كلما عرف أنه ضعيف وأنه ليس شيئاً، فأصل خلقة الإنسان هذا التراب الذي يمشي عليه، وإن كان حين سيره يضرب برجله الأرض، قال الله سبحانه: {إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء:37]، أي: لن تشقها برجلك لأنك أضعف من ذلك. {وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ} [الإسراء:37]، أي: لن تطول فتصير كقمة الجبل، فأنت ضعيف والسماء والأرض والجبال أقوى منك. والله عز وجل خلق هذا كله وأحكمه إحكاماً وأتقنه إتقاناً، فانظر إلى بيت العنكبوت وضعفه، وانظر إلى السماوات والأرض وقوتها، وانظر إلى من يعبدون غير الله سبحانه، من الذي يستحق أن يعبد؟ أهذه الأصنام وهذه الآلهة التي هي أوهى من بيت العنكبوت أم الله الواحد القهار الذي خلق السماوات والأرض بالحق؟ لا شك أن الأحق بالعبادة هو الله سبحانه وتعالى. فقد خلق السماوات والأرض وشرع لعباده ولم يتركهم هملاً، فهو أولى أن يطاع لكونه الخالق الذي أتقن كل شيء وأحسن كل شيء خلقه، لا هذه الأنداد والآلهة التي لا تملك لنفسها ولا لغيرها شيئاً. قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} [العنكبوت:44]، أي: في خلق السماوات، وقد قال تعالى في سورة آل عمران: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران:190]، أي: من كان له لب وقلب وبصيرة وعقل عرف الآيات في ذلك، وعرف أنها لم تخلق نفسها ولم يوجدها إلا خالقها الله سبحانه فتوجه إليه وحده بالعبادة. ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآيات: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران:190]، أنه قال في الصباح لأصحابه: (لقد أنزلت علي الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتدبرها). ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآيات إذا استيقظ من نومه كل ليلة ليصلي بالليل، فيقول: (الحمد لله الذي أحيانا بعد أماتنا وإليه النشور)، ثم يقرأ العشر الآيات من آخر سورة آل عمران التي أولها قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران:190 - 191]. إذاً: المؤمنون يذكرون الله ويتفكرون في هذا الخلق فيزدادون إيماناً، فبدأ بقوله: (خلق السماوات والأرض)، وعقب بعد ذلك بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ} [آل عمران:49]، وبعد ذلك ذكر الصلاة وذكر الله سبحانه وتعالى. وكأن هذه أشياء مرتبة بعضها على بعض، انظر إلى الكون فتفكر، فإذا تفكرت وتدبرت عرفت الخالق سبحانه وتعالى، وعرفت قوته وقدرته وأنه يستحق العبادة، فإذا عرفت ذلك فاعبده بالصلاة ولا تكتف بخمس صلوات في اليوم والليلة، بل أدم ذكر الله عز وجل ليل نهار، واذكر الله قائماً وقاعداً وساجداً وراكعاً بل اذكر الله عز وجل على كل حال.

تفسير قوله تعالى: (اتل ما أوحي إليك من الكتاب)

تفسير قوله تعالى: (اتل ما أوحي إليك من الكتاب) ثم أمر نبيه صلوات الله وسلامه عليه فقال {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} [العنكبوت:45] أي: اقرأ عليهم قراءة تدبر وترتيل؛ ليتدبروا ويسمعوا منك هذا الكلام العظيم. فأمره بقراءة هذا القرآن والمداومة على ذلك، فيقرأ في نفسه، ويقرأ للناس، ويقرأ للمؤمنين؛ ليتعظوا ويزدادوا إيماناً، ويقرأ للكافرين؛ لعلهم أن يؤمنوا ويدخلوا في هذا الدين. وهذا أمر له بالتبليغ، أي: اتل في نفسك، وبلغ الناس فيسمعوا منك ذلك، وهذا القرآن الذي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم هو وحي جاء من عند رب العالمين ونزل من السماء.

أمر الله تعالى بإقامة الصلاة

أمر الله تعالى بإقامة الصلاة ثم قال: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ} [العنكبوت:45] ولم يقل: صل؛ لأن إقامة الصلاة تعني: إحسانها وإعدادها على النحو الذي يرضي الله سبحانه وتعالى، فقوله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ) من الإقامة فأنت أقم صلاتك، وائمر الناس بها. فيقيمها صلوات الله وسلامه عليه ويداوم عليها في أوقاتها بقراءتها وركوعها وسجودها وقعودها وجميع شروطها، ويأمر الناس بها ويصلي بهم، فكان يعلمهم الصلاة بالقول، ويعلمهم بالفعل، ويقول: (صلوا كما رأيتموني أصلي). ويعلمهم بالإنكار عليهم إذا أخطئوا، فلما رأى المسيء صلاته أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة فقال: (إذا قمت إلى الصلاة فتوضأ، ثم استقبل القبلة وكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم اقعد وافعل ذلك في صلاتك كلها)، فيعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم إتقان الصلاة، ويحذرهم من التهاون والتفريط فيها ويقول: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر). ويأمرهم بإسباغ الوضوء، وأن الذي لا يسبغ الوضوء لا صلاة له فيقول: (ويل للأعقاب من النار)، أي: الذي يتوضأ ويتعجل الوضوء ولا يغسل رجليه جيداً. وقد وجد رجلاً يصلي وعلى قدمه لمعة موجودة على ظاهر قدمه -أي: علامة على أن الماء لم يصل إلى هذا المكان- فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع فيتوضأ ويعيد هذه الصلاة. فالإنسان المؤمن يحرص على أن يصلي صلاة كاملة يتقرب بها إلى الله سبحانه على النحو الذي يريده منا. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصلوات الخمس قوله: (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء؟) يعني: هل يبقى من قذره ووسخه شيء؟ قالوا: (لا يبقى من درنه شيء، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا) رواه الترمذي وصححه وهو حديث صحيح. فيذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس التي تنظف قلب الإنسان وبدنه، تنظفه من ذنوبه الظاهرة والباطنة، وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (إذا قام العبد يصلي أتي بذنوبه فجعلت على منكبيه، فإذا قام في الصلاة تساقطت، وإذا ركع تساقطت، وإذا سجد تساقطت)، فهذه الصلاة عظيمة يتقرب بها الإنسان إلى الله عز وجل، وهي نور تنير للإنسان دنياه وأخراه، وتنير قبره، وهي صلة بين العبد وبين الله سبحانه وتعالى، يتقرب بها إلى الله فيريح الله قلبه بها، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر قال: (أرحنا بها يا بلال!) فكان يستريح بهذه الصلاة، بل قال: (وجعلت قرة عيني في الصلاة) وقرة العين: استقرارها وهدوء النفس، وراحة البال له. ولذلك أمرنا الله عز وجل بها وقال: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] فيبين لنا حكمة من حكم الصلاة وفائدة من فوائدها. وإذا ضايقه أمر صلى لله عز وجل فيفرج الله عز وجل عنه هذا الكرب الذي نزل به، أو يريح قلب الإنسان فيصبر ويتصبر، قال تعالى: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} [آل عمران:200]، فلذلك كان الصحابة رضوان الله عليهم يأتسون بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإذا نزلت بأحدهم مصيبة فزع إلى الصلاة لعل الله عز وجل يخفف عنه وطأة هذا الشيء الذي نزل به. فالصلاة للإنسان تريح قلبه، وتشعره أنه راجع إلى الله سبحانه وتعالى، فمهما حدث من مصائب الدنيا ففي النهاية كل الدنيا ستزول وهو سيرجع إلى الله عز وجل، فالأمر هين سهل طالما أنه حافظ على صلته بالله.

الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر

الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر والصلاة تعين الإنسان على تقوى الله سبحانه وتعالى وتعينه على اجتناب المعاصي والفواحش، قال سبحانه: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45]. فالإنسان المؤمن حين يسمع الأذان للصلاة يستمع له ويردد الأذان: الله أكبر من كل شيء، فلو أنه انتبه لهذا الذي يسمعه علم أن كل شيء حقير، والله عز وجل الكبير الجليل العظيم المتعال سبحانه، فلجأ إليه وترك كل شيء، وتوجه إلى بيت الله لهذه الصلاة العظيمة مستريح النفس ولن يضيع منه شيء من الدنيا، وكيف تضيع منه مصالحه وكيف تضيع منه أمواله وهو ذاهب ليطيع الله سبحانه وتعالى؟! فهو متوجه إلى الله عز وجل ليصلي الصلاة المكتوبة، وهو ذاكر لله وداخل إلى بيت الله، فلن ينظر إلى فلانة وهي تمشي في الطريق، ولن يخدع إنساناً أو يغشه. فالمؤمن الصحيح الإيمان لا يفعل هذا الشيء، فهو يتذكر أنه ذاهب ليقابل الله عز وجل، ولكي يعبده كأنه يراه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك) وإذا كنت لا ترى الله عز وجل فاستشعر أنك تراه سبحانه فهو يراك سبحانه وتعالى. وفي الدنيا حاسب نفسك وراقبها، قال سبحانه: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] فلا يقع الإنسان في فاحشة من الفواحش لا فاحشة فعلية كالزنا ونحوها، ولا فاحشة قولية كالبذاءات ونحوها، فيكون المؤمن مبتعداً تماماً عما يغضب الله سبحانه وتعالى. وكذلك تنهى عن المنكر، وكل ما ليس معروفاً فهو منكر ينكره القلب وينكره العقل السليم، وينكر على الإنسان أن يقع في القبيح أو المعاصي أو يقع في الأذى. إذاً: كل ما كان منكراً فالصلاة نور في قلب الإنسان تمنعه أن يعمل ذلك؛ لكونه ذاهباً إلى الصلاة، ثم يدخل فيها فيتذكر ذنبه ويقول: يا ربي اغفر لي وتب علي، فيلوم نفسه، وقد أقسم الله عز وجل بالنفس اللوامة فقال: {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة:2] فلها فضيلة عند الله عندما تلوم صاحبها فيرجع ويتوب إلى الله سبحانه وتعالى. هذه الصلاة تنهى الإنسان عن الفحشاء والمنكر، فيدخل في صلاته فيذكر الله فينجلي النور في القلب وينبلج ويجلي الصدأ الذي عليه. فكلما ذكر الله سبحانه وتعالى انزاح عن قلبه شيء من صدى الذنوب إلى أن يخرج من صلاته سليم الصدر، مستريح البال، قرير العين، فيتوجه إلى عمله فلا يخون ولا يخدع ولا يغش، ويذكر نفسه: أنا الآن خرجت من الصلاة فكيف أعمل هذا وأنا مصلي وأقابل الله سبحانه؟ فاحذر فالله يراقبك. فالصلاة تمنع الإنسان من المعاصي أو تقللها، فلعله يقع في ذنب ولكن يتدارك نفسه فيستغفر الله سبحانه وتعالى، ويندم على ذلك. أما الذي يترك الصلاة فيسمع المؤذن يؤذن فإذا به يجلس في مكانه ويحاول أن يلتفت عن هذا الأذان، والأذان يقول له: حي على الصلاة، أي: تعال وهو ينشغل بالحديث مع غيره. ولذلك احذر أن تسمع الأذان وتتكلم مع الناس، فأحياناً بعض الإخوة تجده يتكلم والمؤذن يؤذن، فلم يكن هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة، بل كانوا ينشغلون بالأذان، فأول ما يسمع الأذان حتى لو كان يقرأ القرآن يترك القرآن ويردد الأذان مع المؤذن فالله أكبر من كل شيء، والله أكبر من هذا الحديث الذي تتكلم مع صاحبك، اقطع علائقك بالدنيا واذهب إلى الله عز وجل وردد هذا الأذان، فإذا انتهى الأذان كان لك أجر عظيم من الله سبحانه وتعالى على الترديد. إذاً: لا ننشغل عن الأذان وعن النداء، ولا نتكلم في الشارع أو نقف على باب المسجد إلى أن يصلي الناس السنة ثم ندخل عند إقامة الصلاة تهاوناً بصلاة السنة، ولعلنا إن صلينا هذه الصلاة فإنها تكون زيادة لنا من الخير، وتكون زيادة في قلوبنا من النور والقرب من الله سبحانه وتعالى، فالصلاة فرصة للإنسان يتقرب بها إلى الله. وتجد البعض يدخل إلى المسجد فإذا أكمل صلاة السنة تكلم مع الذي بجانبه وليس هذا وقت كلام، إنما هو وقت دعاء، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد، فهذه أوقات عظيمة جداً وفوائد نفيسة وفرص فلا نضيعها، فندعو الله عز وجل في هذا الوقت الذي يستجاب فيه الدعاء، ندعو لأنفسنا وللمسلمين وندعو الله عز وجل أن يفرج الكروب والبلاء الذي امتلأت به ديار المسلمين. فالصلاة الحقيقية التي يصليها الإنسان متقرباً بها إلى الله تنهاه عن الفحشاء والمنكر، وكم من إنسان يخرج من صلاته مثلما دخل فيها، إذا دخل في الصلاة سرح ونسي وانشغل بعمله، وصار يعد فلوسه، ويوسوس: سأذهب بعد الصلاة إلى فلان، وسأعمل كذا وقد ذكرنا أن الخواطر التي ترد على النفس والقلب إذا لم يجذبها الإنسان ولم يستطرد فيها لا شيء عليه قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] وكلنا يسرح وينسى. ولكن الإنسان الذي يدخل في صلاته فلا يفهم شيئاً من الذي يقوله، وفي رأسه شيء آخر، فهذه ليست الصلاة التي أمر الله عز وجل بها، وأخبر أنها تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر. وقد ورد في حديث رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان فتى من الأنصار يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ولا يدع شيئاً من الفواحش إلا أتاه) أي: كأن إسلامه جديد وأنه كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ثم يخرج يسرق، فشكوا للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك، والذي يظهر أنه لم يثبت عليه ذلك وإلا لقطعت يده. (فلما شكوا للنبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الصلاة ستنهاه) يعني: إذا كان يصلي صلاة صحيحة فإنها ستنهاه صلاته، فلم يلبث أن تاب ورجع إلى الله سبحانه وتعالى. إذاً: لما أحسن في الصلاة نفعته، وكم من إنسان قد يصلي ويسرق، وقد يدخل المسجد ليصلي من أجل أن يسرق الأحذية وهو خارج من بيت الله عز وجل. والصلاة التي يتقرب بها إلى الله وتنهاه عن الفواحش وعن المنكرات صلاة يرجو بها الله عز وجل فيقبل على الله بقلبه فيها، ويتفكر ويتأمل فيما يقرأ. فالفاتحة مثلاً خطاب ومحادثة بينك وبين الله، (فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] قال سبحانه: أثنى علي عبدي. وإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] قال الله عز وجل: مجدني عبدي. وإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، قال الله سبحانه: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل. فإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] قال الله: نعم. سنعطيك ذلك) فتخرج من هذه الصلاة وقد هداك الله عز وجل الصراط المستقيم وأبعدك عن الفواحش والمنكرات.

صلاة النافلة وفضلها

صلاة النافلة وفضلها وتتقرب إلى الله عز وجل بصلاة النافلة فتصلي ركعتين قبل الفجر، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يواظب عليهما لفضلهما سفراً وحضراً، والسنة عدم الإطالة فيهما، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليهما بسرعة وما يزيد على ركعتين، بل قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تصلوا بعد الفجر إلا ركعتين). إذاً: هما ركعتان فقط بعد أذان الفجر لا أكثر من ذلك، ولكن لهما أجر عظيم جداً عند الله سبحانه وتعالى جعل النبي صلى الله عليه وسلم لا يتركهما سفراً ولا حضراً. وتصلي قبل صلاة الظهر أربع ركعات وبعدها أربع ركعات، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من صلى قبل الظهر أربعاً وبعدها أربعاً حرم الله بدنه على النار). وتصلي أربع ركعات قبل العصر يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رحم الله امرأً صلى قبل العصر أربعاً). وتصلي ركعتين بعد المغرب تواظب عليها كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك. وما بين المغرب والعشاء كانوا يعدونها من صلاة الليل صلاة عظيمة. وتصلي بعد العشاء وتوتر وتتهجد بعد ذلك. فإذا واظبت من رواتب النهار على عشر ركعات بني لك بيت في الجنة، والذي يتأمل ويتدبر فيقول في نفسه: أنا صليت قبل الظهر أربعاً، وبعدها أربعاً فأرجو من الله عز وجل أن يحرم بدني على النار. وأواظب على ذلك، وكذلك يقول: أنا اليوم فاتتني الأربع قبل العصر وسوف أدركها غداً ولا أضيعها من أجل أن يرحمني ربي. وكذلك يقول: لا تفوتني الصلاة الآتية، سأواظب على صلاة الجماعة من أجل ألا تفوتني تكبيرة الإحرام أربعين يوماً في صلاة الجماعة فيكون لي أجر عظيم عند الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من صلى لله أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتبت له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق). فإذا خرج من الصلاة انتظر التي بعدها حتى يكمل الأربعين يوماً فيعطيه ربه ذلك، ولا يقول: تكفي حتى البراءة وانتهيت؛ بل يجعلها أكثر لتكتب له أكثر من براءة، بل اجعل حياتك كلها على ذلك كما كان الصحابة حياتهم كلها المواظبة على الصلاة وعلى التكبيرة الأولى، حتى إن أحدهم إذا فاتته هذه التكبيرة يحزن حزناً عظيماً على فواتها، وقد يظن أنه يعذب في ذلك؛ لأنهم عرفوا قدر الصلاة وشرفها. نسأل الله عز وجل أن يعرفنا قدرها وشرفها وأن يعيننا عليها ويجعلها قرة عين لنا وراحة لقلوبنا. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة العنكبوت الآية [45]

تفسير سورة العنكبوت الآية [45] ذكر المولى جل وعلا في هذه الآية الكريمة ثلاثة أوامر عظيمة للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم ولأمته المقتدين بهديه: فأمره بتلاوة القرآن الكريم واتباع ما جاء فيه، ثم أمره بإقامة الصلاة؛ لتكون بينه وبين ربه جل وعلا صلة وثيقة؛ ولأن هذه الصلاة إذا أقيمت كما ينبغي أثمرت البعد عن الفواحش والمنكرات، ثم أمره بذكر الله المقترن بالصلاة وغيرها أو المطلق في كل الأحوال، ثم ختم الآية بتخويف العصاة وتفريح المؤمنين بأنه يعلم صنيع الفريقين فيجازي كلاً بعمله.

تفسير قوله تعالى: (اتل ما أوحي إليك من الكتاب)

تفسير قوله تعالى: (اتل ما أوحي إليك من الكتاب) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45]. هذه الآية العظيمة يأمر الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم فيها بثلاثة أشياء: الأول: أمره بتلاوة ما نزل من القرآن، على وجه البيان والتبليغ والتوضيح، وتعليم الأمة، وعلى وجه ذكر الله سبحانه وتعالى. فتلا النبي صلى الله عليه وسلم هذا القرآن العظيم في صلاته، وتلاه في خطبه، وتلاه على المسلمين، وتلاه على المشركين، وأرسل إلى ملوك الأرض يدعوهم إلى هذا الكتاب العظيم، وأرسل إلى العالمين أنسهم وجنهم. وكان يتلو هذا القرآن في ورده، حتى إنه قد ينشغل عن حزبه فيعوضه في وقت آخر، ولا يفوته ذلك أبداً عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} [العنكبوت:45]، فقام بذلك.

أمر الله تعالى بإقامة الصلاة

أمر الله تعالى بإقامة الصلاة ثم قال له: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ} [العنكبوت:45]، أي: أقمها لنفسك فصل لله عز وجل بالليل طويلاً، وصل لله عز وجل بالنهار أيضاً، ثم أقمها للمؤمنين فائمر بالنداء لها، وصل بهم، وعلمهم أن يستقيموا فيها. فعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم بأوامره وأفعاله، وبإنكاره على من يسيء منهم في صلاته وترغيبهم في الثواب فيها، وترهيبهم من التقصير فيها، فقام بذلك صلوات الله وسلامه عليه. وبين له ربه سبحانه في قوله: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] أن هذه الصلاة عظيمة جداً، تنهى الذي يحسن فيها عن الفحشاء والمنكر، ولا شك أنها تنهى كل إنسان عن الفحشاء والمنكر كل بحسبه، فإنسان جاء ليصلي وانشغل عن هذه الصلاة بالتفكير في أشياء خارجها، فأقل ما فيها أنه وهو في صلاته لا يفعل المنكر ولا يفعل الفحشاء، فنهاه ما هو فيه عن أن يقترف آثاماً وذنوباً. فإذا دخل الإنسان الذي يقع في المنكرات والمعاصي والفواحش في الصلاة فأقل ما فيها أن هذا الجزء من وقته ليس بفحشاء وليس بمنكر. فالصلاة منعته من ذلك في ذهابه من بيته ومجيئه إلى بيت الله عز وجل وهو متوجه إلى الصلاة على الأقل، وإذ هو متذكر لله عز وجل في ذلك الحين. أما الإنسان الذي يدخل في الصلاة بخشوع، وخضوع، وتواضع لله سبحانه، وحب لهذه الصلاة، وكان في كل أحواله مستشعراً الذل بين يدي الله عز وجل، وهو قائم يقرأ، وهو راكع منحن، وهو رافع، وهو ساجد لله سبحانه متواضعاً، وهو قاعد يستشعر أنه عبد ذليل بين يدي الرب الجليل سبحانه وتعالى، وفي قراءته يتدبر معانيها، ويطبق على نفسه ما هو فيها من أن المحسنين لهم الجنة فيرجو ذلك، وأن المسيئين لهم النار فيخاف من ذلك، ويسأل الله من رحمته، يتعوذ بالله من غضبه وعقابه، فهو في مناجاة مع الله عز وجل في صلاته، وإذا ركع عظم ربه سبحانه وتعالى وذكره، وإذا سجد دعا ربه وهو مستيقن بأن الله يستجيب دعاءه. فإذا كانت الصلاة على هذا الوجه وخرج فيستحق أن يقال: إن هذه الصلاة تنهاه عن الفحشاء والمنكر، ولا يعقل أبداً أن يكون إنسان يصلي على هذه الصورة ثم يخرج من الصلاة ليزني مثلاً، أو يخرج ليسرق، أو ليقع في شهادة الزور، وقول الزور، وأكل حقوق الخلق. فهذه الصلاة تنهاه عن الفحشاء والمنكر، وهو فيها متصل بالله عز وجل، فإذا خرج لم تنقطع صلته بربه سبحانه وتعالى. ولذلك يقول العلماء في قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ} [العنكبوت:45]، أن المراد: إدامتها والقيام بحقوقها. وأخبر الله سبحانه بالحكم من رواء هذه الصلاة بأنها تنهى صاحبها وممتثلها عن الفحشاء والمنكر؛ لما فيها من تلاوة القرآن واستماع الذكر الذي يشتمل على الموعظة. والصلاة تشغل بدن المصلي إذا دخل فيها وخشع وأخبت لله سبحانه وذكر الله، وتذكر أنه واقف بين يديه فتذكر الموقف يوم القيامة. الإنسان المؤمن يتفكر حال وقوفه في الصلاة أنه يقف بين يدي الله عز وجل اختياراً، أما يوم القيامة فالكل واقفون بين يدي الله رب العالمين ومجموعون ومحشورون إليه اضطراراً، قال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6]، وقال: {وقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات:24]، ولا بد للسؤال من إجابة، ولن يستطيع الهرب أبداً، ولا من الموقف بين يدي الله عز وجل في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة. فإذا وقف الإنسان في الصلاة في الدنيا تذكر الموقف يوم القيامة، وأن موقفه هذا يغني عن إطالة سؤال يوم القيامة، ويدفع عنه شر هذا اليوم الذي قال الله عنه: {يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان:10]، شديد العبوس، شديداً فيما هو فيه من سؤال وموقف وعرق، وفيما هو فيه من تبكيت وحسرة. فإذا خرج الإنسان من هذه الصلاة لم تزل عليه هذه الصلاة وصفتها وخشوعها إلى الصلاة التي تليها، ولا يزال هكذا حتى يستمتع بهذه الصلاة. ولذلك جاء عن بعض السلف رضوان الله عليهم أنه كان إذا قام إلى الصلاة ارتعد واصفر، وقال: أما تدرون بين يدي من أقف؟ استشعر أنه واقف بين يدي الله سبحانه وتعالى، وهذه منزلة عظيمة جداً ليس كل إنسان يصل إليها، ولكن على الأقل يستشعر الخوف في قلبه، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الأنفال:2 - 3]، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن أن يصلي صلاة مودع. فإذا دخل في الصلاة قال في نفسه: يمكن أن تكون هذه آخر صلاة أصليها. فإذا استشعر ذلك أحسن فيها أفضل الإحسان. قال تعالى: {وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى} [العنكبوت:45]، أي: صاحبها المصلي، {عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] فإذا انتهى من صلاته وقد أحسنها فإنها تنهاه عن الفحشاء والمنكر.

فضل الذكر

فضل الذكر ثم قال تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45]، هذا هو الأمر الثالث، وإن كان على غير صيغة الأمر لكن في مواطن أخرى أمر الله عز وجل به ومن ذلك قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152]. والمعنى: إذا كان الله أمر بالتلاوة، وأمر بالصلاة، وبين أن التلاوة تؤدي بك إلى أن تبلغ هذه الرسالة العظيمة، وأن فيها التذكر، والموعظة، وأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فأعظم من ذلك المداومة على ذكر الله سبحانه وتعالى، كأنه يقول: واذكر الله سبحانه وتعالى فإنه أعظم. فالإنسان يذكر ربه في كل أحواله، ومن ضمن ذلك أنه يذكره في صلاته، فكأن الذكر هنا أعظم؛ لأنه سيكون في الصلاة وفي غير الصلاة. فلا يظن أن قوله تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45] معناه: أن ذكر الله في غير الصلاة أعظم من ذكر الله في الصلاة، فلم يقل ذلك إنما أطلق ذكر الله في كل الأحوال، فإذا قلنا: أيها أعظم أن أصلي فأذكر الله عز وجل في الصلاة، أم أكون ذاكراً لله في كل الأحوال بما فيها الصلاة؟ فلا شك أن هذه الحالة الثانية أعظم. فهذا المقصود أنك بذكر الله سبحانه يطمئن قلبك، سواء كنت في الصلاة، أو في غير الصلاة، فكأنه يشير إلى الذكر لله سبحانه وتعالى دائماً. والذكر يكون باللسان وبالقلب وبعقل الإنسان، كأن يتفكر ويتعظ بما يقول ولا ينسى. وقد يذكر الله عز وجل بلسانه وعقله في شغل آخر لا يفهم ماذا يقول، كمن يجلس يسبح الله بعد الصلاة ولا يكون فاهماً لما يقول؛ فإن شاء الله يكون له أجر على ذلك. لكن أجر من يقول: سبحان الله، وهو يفهم معناها، ويتدبرها، ويتلذذ بطعم سبحان الله وهو يقولها، فهذا أعظم بكثير من إنسان يقول بلسانه ولا يفهم بقلبه، وإن كان الذكر باللسان يؤجر عليه. والذي يقرأ القرآن قراءة سريعة يتدبر بعضها؛ يريد أن يراجع لكيلا ينسى فهو مأجور على ذلك، وأعظم منه من يقرأ بتأنٍ وتمهل وخشوع تدبر وتفكر واتعاظ، قال تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45]، وذكر الله يكون بقراءة القرآن، وكذلك بالأذكار التي قالها النبي صلى الله عليه وسلم وبدعاء الله سبحانه وتعالى، وذكر الله بأن تطلب منه الجنة، وأن تتعوذ به من النار، فلا يزال ذكر الله على بال المؤمن وفي قلبه فيكون ذاكراً لله سبحانه وتعالى بلسانه وبقلبه. فإذا كان عقل الإنسان حاضراً وهو في ذكر الله تبارك وتعالى، فهذا عظيم جداً، وتأتي مكافأة من هذا شأنه في الدنيا وفي الآخرة، فينجيه هذا الذكر من مضايق كثيرة جداً بكثرة الذكر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أردتم أن يستجيب الله لكم وقت البلاء فأكثروا من الدعاء وقت الرخاء)، ففي وقت رخائك أكثر من الدعاء، فإذا جاء وقت البلاء استجاب الله عز وجل لك؛ لأن صوتك مسموع في السماء، والملائكة تشهد لك عند الله سبحانه، وهو أعلم. فلا يزال الإنسان ذاكراً لله حتى يعطيه الله عز وجل ما يتمناه في الدنيا والآخرة. وكلما كان الإنسان منشغلاً بالدنيا كلما كانت الأماني موجودة، فيقول: يا رب! أعطني مالاً أو أعطني قصراً أو غير ذلك فطلباته في الدنيا كثيرة. وكلما ترقى الإنسان ووصل لدرجة في ذكر الله سبحانه وحبه كان أمله في الآخرة يقول: يا رب! أسألك الجنة وأريد الحور العين، يا رب! أريد قصوراً في الجنة، فإذا كان يوم القيامة ووجد ما دعا به تمنى أنه لم يستجيب له دعاء في الدنيا وأنه ادخر له كل ذلك ليوم القيامة. فالإنسان الذاكر لله عز وجل يعطيه الله ما يتمنى في الدنيا أو في الآخرة، وقد ترى إنساناً حقيراً، وتجده يمشي حافياً، وملابسه مقطعة أو مرقعة، ولكنه قرير العين، ومستريح البال، ومطمئن القلب، قال تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]. وفي الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، وهذه الجنة هي جنة حب الله سبحانه وذكره. فالمؤمن يستمتع بذكر الله، ويصل أقصى درجات الاستمتاع في الجنة، فيلهم التسبيح كما يلهم النفس، أي: كما أن النفس في الدنيا لا يستغنى عنه فكذلك أهل الجنة لا يستغني أحد منهم عن ذكر الله سبحانه، وعن تسبيح الله؛ لأنه استمتع به أعظم استمتاع. والجنة عظيمة غالية، وأعظم ما يكون للإنسان المؤمن في الجنة والذي يتمناه أن ينظر إلى الله سبحانه وتعالى، وأن يتشرف بالقرب من الله سبحانه. وقد أمرنا الله سبحانه وتعالى بالذكر في آيات كثيرة، قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152] وأمر الله عز وجل بقراءة هذا القرآن، وبالاستماع له فقال: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِك} [العنكبوت:45] وقال: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} [الأعراف:204]، وقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، وقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]. وذكر المؤمنين الصالحين فقال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] كذلك أمر الله سبحانه وتعالى النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر فقال: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه:130]، أي: الصلاة قبل طلوع الشمس وهي صلاة الفجر، وقبل غروبها وهي صلاة العصر، فتواظب على صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم قال تعالى: {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه:130]، فجمع الصلوات الخمس في هذه الآية من سورة طه. فالنبي صلى الله عليه وسلم مأمور والمؤمنون مأمورون تبعاً بالصبر وإقامة الصلاة. ومدحهم الله سبحانه فقال: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ} [النور:36 - 37]، فبدأ بالذكر ثم ثنى بإقامة الصلاة. فهو في حال بيعه وشرائه ذاكر لله عز وجل، ففي صلاته لا بد أن يكون ذاكراً لله سبحانه؛ لأن حاله دائماً على ذلك، يتلذذ بذكر الله. وإذا ذكر الله ذكره الله، كما جاء في الحديث القدسي: (من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملئه ذكرته في ملأ خير منه)، وقد جاءت في ذكر الله عز وجل أحاديث عظيمة جميلة منها ما رواه أبو داود عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لأن أقعد مع قوم يذكرون الله تعالى من صلاة الغداة حتى تطلع الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل) فالنبي صلى الله عليه وسلم أحب إليه أن يجلس من الفجر إلى أن تطلع الشمس مع قوم يذكرون الله سبحانه، ثم قال: (ولأن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة)، وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: (أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله رب العالمين)، فتقول: الحمد لله وتثني على الله سبحانه، وتشكر الله سبحانه، قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7]، فكأنك تطلب منه المزيد، فإذا أعطاك نعمة وحمدت الله تعالى جعل لك زيادة فوق هذه النعمة من فضله ومن كرمه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (سبق المفردون الموحدون قالوا: ما المفردون؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات)، يعني: سبقوا إلى الجنات سبقوا إلى النعيم، غيرهم محبوس في الحساب وهم حوسبوا بسرعة ودخلوا إلى الجنة فسبقوا غيرهم إلى الجنات. وجاء أيضاً في الحديث أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت علي، فاخبرني بشيء أتشبث به)، يعني: أن الشرائع والسنن والأفعال كثيرة فأنا أكثر حاجة إلى ما أواظب عليه فلا أنساه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله). وليس معناه أن يترك الصلاة والصيام، بل كأنه نصحه بأعظم ما يكون أن يذكر الله عز وجل ليذكره فيستغل بذلك وقته. وروى الإمام الترمذي عن أبي الدرداء: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: (ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم)، وكل إنسان يتمنى لو أنه يعمل شيئاً من هذه الأشياء أو ينالها، وقوله: (خير) أفعل تفضيل بمعنى: أفضل وأخير أعمالكم، وأزكاها وأطهرها، وأعلاها، وأنفسها عند الله سبحانه وتعالى، فما هو الشيء الذي هو أعظم من إنفاق الذهب والفضة، وخير من الجهاد؟ (قالوا: بلى، قال: ذكر الله تعالى). فذكر الله عز وجل أعظم من هذه الأشياء، لأنه يدعو المؤمن لكل هذه الأشياء، فإذا ذكر الله تعالى دعاه إلى الصلاة، ودعاه إلى الصوم فصلى وصام، ودعاه إلى الجهاد في سبيل الله سبحانه، وإذا لقي عدو الله ذكر الله فلم يرهب أحداً، ولم يخف أحداً، فكان الذكر أعظم. لكن انظر للإنسان الذي ينفق الذهب والورق فلعله لا يذكر الله عز وجل وينساه، فيرائي بعمله، ويسمع به، وينتظر الجواب في الدنيا ولم يعمل العمل لله فحبط هذا العمل بذلك. فإذا أعطى إنساناً فقيراً مالاً وبعد فترة شتمه الفقير قال له: يا ليتني لم أعطك شيئاً، أنا الذي أكلتك وشربتك، مَنّ عليه فضاع الأجر، فإذا كان ذكر ال

تفسير سورة العنكبوت [46 - 47]

تفسير سورة العنكبوت [46 - 47] في هذه الآيات توجيهات ربانية هامة، فقد أمر المصطفى صلى الله عليه وسلم بتلاوة القرآن واتباعه، وإقامة الصلاة؛ لأنها تنهى عن الفواحش والمنكرات، وذكر الله تعالى الذي يكون في كل حال وعلى كل حال، ثم بين المولى سبحانه كيفية جدال أهل الكتاب بالأسلوب الحسن الجميل، وأن يبين لهم أننا مؤمنون بما أنزل الله من كتب وأرسل من رسول، وإلهنا جميعاً إله واحد نحن له منقادون ومذعنون لأحكامه.

أمر الله تعالى لنبيه بتلاوة القرآن والصلاة والذكر

أمر الله تعالى لنبيه بتلاوة القرآن والصلاة والذكر الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أمر الله سبحانه وتعالى نبيه أن يتلو ما أوحي إليه من الكتاب وأن يقيم الصلاة صلوات الله وسلامه عليه فقال: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45]، فأُمر صلى الله عليه وسلم بالتلاوة والتبليغ. وقال له ربه: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:94]. فأمره بأن يجهر للناس بهذه الدعوة العظيمة ويدعوهم إلى الله سبحانه، ويستعين على الدعوة إلى الله عز وجل بالصلاة وبذكر الله سبحانه وتعالى. والصلاة عظيمة يستعين بها الإنسان على الدعوة إلى الله سبحانه ويتقرب بها إليه، وهي صلة بينه وبين الله. والصلاة تنهى العبد عن معصية الله سبحانه، وتنهاه عن الفواحش والمنكرات، وتعينه على طاعة الله سبحانه، وعلى تبليغ هذه الدعوة بما يفتح الله عز وجل على العبد بذلك. وأمره بذكر الله والإكثار من ذكره سبحانه فقال: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45] أي: ذكر الله أكبر من كل شيء، فإذا كان الإنسان يصلي فينتهي عن الفحشاء والمنكر بهذه الصلاة، وهنا ذكر الله يكون في صلاته وفي عمله وفي قيامه وفي قعوده وفي كل أحواله. فإذا كان الذكر قد استولى على قلب الإنسان ليل نهار في كل أحواله سواء في صلاة أو في غير صلاة، فهذا أكبر بكثير من الصلاة وحدها. والمعنى: أكثر من ذكر الله سبحانه ولا تترك الذكر. فكان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحواله، سواء كان على وضوء أم لا، وكان لا يمنعه ولا يشغله عن ذكر الله شيء. وذكر الله تعالى يستعين به العبد على طاعة الله سبحانه ويستعين به على الدعوة إلى الله. فالذين يدعوهم إلى الله: إما أن يكونوا مسلمين، وإما أن يكونوا كفاراً، وهؤلاء الكفار منهم من في قلبه طيبة، وقد يستمع إلى هذا القرآن فيؤمن؛ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يبلغ مثل هذا وأن يجادله بالحسنى. إذاً: بذكر الله وإقامة الصلاة يكون عند الإنسان رصيد في قلبه من تقوى الله عز وجل، ومن طاعته سبحانه، فيدعوه هذا إلى أن يدعو إلى الله بالحسنى، ويدعو إلى الله سبحانه بالموعظة الحسنة.

تفسير قوله تعالى: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن)

تفسير قوله تعالى: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) قال تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46] فالإنسان المؤمن يدافع عن دين الله سبحانه: إما بالقول، أو بالفعل. والدفاع بالقول يكون بالجدال مع أهل الكتاب ومع غيرهم ممن يريدون أن يتعلموا هذا الدين العظيم، فإذا أرادوا أن يتعلموا فلعل أحدهم يناقش: لماذا قال كذا؟ ولماذا يفعل كذا؟ وما هو الدليل على كذا؟ فإذا كان يناقش بالحسنى فناقشه بالحسنى، قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125]. قال تعالى: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) يقول مجاهد: هي آية محكمة، يعني: ليست منسوخة، فيجوز مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن على معنى دعائهم إلى الله سبحانه وتعالى، والتنبيه على حججه وآياته رجاء إجابتهم. والإنسان الداعي إلى الله تعالى قد يدعو أناساً مسلمين إلى المزيد من الطاعة، وقد يدعو كفاراً ليدخلوا في هذا الدين. فالدعوة إلى الله تعالى تكون بالحكمة والموعظة الحسنة، فإما أن يستجيب المدعو ويدخل في هذا الدين، وإما ألا يستجيب. والمدعو قد يكون كافراً مشركاً، وربنا سبحانه ذكر في سورة براءة كيف يدعى هؤلاء فقال: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة:6] انظر إلى هذا الكلام العظيم من رب العالمين: لو أن أحداً من الكفار من أعدائك قال لك: أريد أن أسمع هذا القرآن، وأريد أن أعرف ماذا تقولون، وهو كافر حربي ليس بينك وبينه أمان، فتقول له: اسمع هذا القرآن واسمع هذا الدين العظيم، وتدعوه إلى دين الله عز وجل، وهذا قد يستجيب وقد لا يستجيب، فالذي عليك أن تدعو فقط أما أن يستجيب فهذا أمر الله سبحانه. فإذا أتى إليك وسمع منك وقال لك: سأفكر، ولم يدخل في هذا الدين، فما تعمل مع هذا الإنسان؟ قال: (ثم أبلغه مأمنه) أي: أرجعه إلى مكانه مرة أخرى آمناً حتى لو كان عدوك، ومحارباً لك، بمعنى: أنه لو أتى إليك لقتال جاز قتله، لكن في حال الدعوة إلى الله وعندما يطلب أن يسمع كلام الله فليس شرطاً إذا سمع أن يدخل في الإسلام وإلا قتل. فهذا العدو الذي جاء من الكفار إليكم ليستمع إلى هذا القرآن أسمعوه القرآن، وعلموه كلام رب العالمين سبحانه، فإذا استجاب فالحمد لله، وإذا لم يستجب فاصبروا عليه واتركوه يرجع إلى مأمنه مرة ثانية، وبعدما يرجع إلى مأمنه رجع الأمر إلى أنه كافر حربي وأنتم مسلمون، والحرب دائرة بين الإسلام والكفر. فكان النبي صلى الله عليه وسلم يمتثل كلام رب العالمين سبحانه، ويدعو إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة. قال سبحانه: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ} [العنكبوت:46] والأصل أن المسلم لا يجادل إلا دفاعاً عن هذا الدين، فإذا كان بعض المنافقين يتكلم فيجادل ويرد على هذا الإنسان؛ لأنه يستحق ذلك حتى لا يفتن أحداً من المسلمين. وكذلك أهل الكتاب لا تدخل معهم في جدال إلا إذا بدءوا بذلك وأحبوا أن يتعرفوا على هذا الدين فيرد عليهم بذلك، ولابد أن يكون معك أساليب الجدال، فليس أي إنسان يصلح للجدال مع هؤلاء، إنما ذلك لأهل العلم. فقد يجادل في التفسير فيكون العالم بالتفسير هو الذي يتصدى له ويرد عليه، وقد يجادل في الفقه فيكون العالم الفقيه هو الذي يتصدى له ويرد عليه، وقد يجادل في غير ذلك. إذاً: أهل العلم هم الذين يتصدرون لهؤلاء فيجادلوهم بالتي هي أحسن. ولكن قد يتطاول هذا الكتابي أو الكافر على المسلمين، ويخرج عن الجدال والمناقشة إلى سوء الأدب وإلى الشتم والتحدي، وإلى أن يقذف هذا الدين، أو النبي صلى الله عليه وسلم، ففي هذه الحالة يكون ظالماً فيستحق أن يرد عليه بالجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى. ولذلك قال بعض المفسرين: إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]، وقوله: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة:36] أي: قاتلوا الذين كفروا من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فإذا كان فيهم الصغار فلا يقاتلون، لكن إذا وصل الأمر إلى التحدي وإلى الاعتداء على هذا الدين، وخرجوا عن الجدل بالحسنى إلى الجدل بالفحش؛ فهنا يستحقون الجهاد والدفع والرد عليهم؛ فلذلك قال الله سبحانه: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ} [العنكبوت:46]، إذاً: الأصل عدم الجدال، {إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46] أي: إذا احتجت للرد فرد بالتي هي أحسن مع من يحسن من هؤلاء ويريد أن يتعرف على هذا الدين. لكن الذين ظلموا منهم، والذين يسبون ويطعنون في كلام رب العالمين وفي النبي صلى الله عليه وسلم فلا يصلح معهم الجدال بالحسنى، قال: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت:46] أي: فيستحقون أن يجاهدوا في سبيل الله سبحانه. قال تعالى: {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت:46] يعني: قولوا لهؤلاء الذين يجادلون ليتعرفوا ثم يدخلوا في هذا الدين: إن الذي أنزل الكتاب على موسى عليه السلام، وعلى عيسى عليه السلام، والذي أنزل الكتاب على محمد صلوات وسلامه عليه هو إله واحد، وهو الذي نتوجه إليه بالعبادة وحده لا شريك له. وقوله: (وإلهنا وإلهكم واحد) أي: الإله المعبود الذي نزل التوراة، ونزل الإنجيل، ونزل القرآن إله واحد لا شريك له لا نعبد إلا إياه سبحانه وتعالى. إذاً: هم لا ينكرون الربوبية ولكن يشركون في ألوهية الله سبحانه، فالرب عندهم الذي خلق ورزق وأعطى وأحيا وأمات هو الله سبحانه، ولكن في العبادة يعبدون الله وغير الله، قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّه} [التوبة:30] فعبدوا وأشركوا بالله سبحانه، فقولوا لهم: الإله واحد لا شريك سبحانه وتعالى فاعبدوا هذا الإله الواحد. وقولوا: آمنا بما أنزل على الأنبياء جميعهم، وبما أنزل علينا؛ فآمنوا بذلك وانظروا في التوراة تجدون التبشير بالنبي صلى الله عليه وسلم فيها، وانظروا في الإنجيل تجدون البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم، فآمنوا بهذا القرآن العظيم، قال الله سبحانه: {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} [العنكبوت:46] أي: آمنا بالقرآن وبالتوراة وبالإنجيل، قال: {وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ} [العنكبوت:46] أي: المعبود الذي نعبده ولا نشرك به هو واحد لا شريك له، ولا صاحبة ولا ولد ولا والد. قال تعالى: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون} [العنكبوت:46] أي: مذعنون وطائعون ومستسلمون ومنقادون لشرعه سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (وكذلك أنزلنا إليك الكتاب)

تفسير قوله تعالى: (وكذلك أنزلنا إليك الكتاب) ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ} [العنكبوت:47] أي: كما أنزلنا كتب السابقين من السماء على هؤلاء الأنبياء كذلك أنزلنا عليك هذا الكتاب العظيم وهو القرآن. قال تعالى: {فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [العنكبوت:47] أي: آمنوا بالنبي صلوات الله وسلامه عليه وما نزل عليه من القرآن، فهم يؤمنون ويصدقون بذلك. إذاً: هنا المؤمنون هم الذين تابعوا النبي صلى الله عليه وسلم. أو أن قوله تعالى: {فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} [العنكبوت:47] يعني: من اليهود والنصارى من عرفوا البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وبهذا القرآن فآمنوا وصدقوا، كـ عبد الله بن سلام رضي الله عنه، لما ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونظر في هذا القرآن الذي جاء به، ونظر في علامات نبوته فآمن وصدق رضي الله تعالى عنه. ثم قال: {وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} [العنكبوت:47] إذاً: هنا المسلمون آمنوا، جاءهم الكتاب المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم فآمنوا، وكذلك من أهل الكتاب من آمن من اليهود ومن النصارى ومن غيرهم. وقوله تعالى: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} [العنكبوت:49] أي: الذي يجحد ويكذب مع معرفته بالحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فهو الظالم. فـ عبد الله بن سلام كان مع اليهود في مدارسهم وفي بيته يتعلمون منه ومن غيره، ودخل عليهم النبي صلى الله عليه وسلم في يوم عيد لهم، ودعاهم إلى دين الله سبحانه؛ فإذا باليهود يكرهون ذلك منه، فطلب منهم الإيمان بما جاء به صلوات الله وسلامه عليه، فرفضوا وأبوا واستكبروا، حتى سألهم: (أما تجدون صفتي عندكم؟ فقالوا: لا) فلما أراد الخروج فإذا بـ عبد الله بن سلام ينادي على النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: إنك على الحق، ويتبع النبي صلوات الله وسلامه عليه، وهم يعرفون ذلك ويعرفون أنه على الحق، ومعرفتهم بذلك حقيقية؛ ولذلك الله عز وجل يشهد عليهم فيقول: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [الأنعام:20] أي: يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم، ويعرفون ما جاء به؛ كما أن الإنسان يعرف ابنه ولا يخطئ فيه. قال سبحانه: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا} [العنكبوت:49] أي: يكذب وهو يعلم: {إِلَّا الْكَافِرُونَ} [العنكبوت:47] أي: من كفر فهو يجحد بآيات الله سبحانه ويكذب بها. وقد ذكرنا أن الإنسان المؤمن لا يتعرض للجدال مع أهل الكتاب إلا بالحسنى، والمتعرض لهم بالجدال يحتاج أن يطلع على كتبهم حتى يرد عليهم، لكن الذي يطلع ليرد ليس كل إنسان مسلم يفعل ذلك؛ ولذلك يقول الإمام البخاري: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء)، فيذكر الحديث تعليقاً، ويذكر الحافظ ابن حجر حديثاً أخرجه الإمام أحمد وابن أبي شيبة والبزار من حديث جابر رضي الله عنه: (أن عمر رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب) أي: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان له أصدقاء من أهل الكتاب فطلب من بعضهم أن ينسخوا شيئاً من التوراة فكتبوه له، فأخذ الصحيفة وذهب بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ عليه هذه الصحيفة، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني). إذاً: عمر المسلم ووقته لا يتسع للاطلاع على كل كتب أهل الكتاب وعلى كلامهم، ولعله إذا اطلع على ذلك يطلع على شيء فيكون من الحق الذي جاء به موسى أو الذي جاء به عيسى عليهما الصلاة والسلام؛ فيكذب بهذا الشيء فيكون قد كذب بكلام حق من عند الله عز وجل، أو يطلع على شيء يكون باطلاً مما حرفه أهل الكتاب فيصدق بهذا في نفسه فيكون مكذباً بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قطع عنهم ذريعة الوقوع في ذلك ومنعهم من قراءة كتب أهل الكتاب. وهنا قال تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46] إذاً: ضروري للذي سيجادلهم أن يكون مطلعاً على ما يقولون، فمثلاً: لما جاء عدي بن حاتم رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو لابس صليباً، وكان يناقش النبي صلى الله عليه وسلم؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يطلب منه أن ينزع الصليب عنه، ثم بعد ذلك دعاه إلى الدين فقال: أنا على ديني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا أعلم بدينك، منك ألست من الركوسية؟ ألست تأكل مرباع قومك ولا يحل لك في دينك؟) فهنا بهت الرجل ولم يعرف الرد على النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أتى وقد جعل نفسه أنه رجل من أهل الدين وأنه يعلم النصرانية جيداً، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يرد عليه ويقول له: أنت من فرقة الركوسية من النصرانية، وتأكل مرباع قومك، وذلك يحرم عليك في دينك أن تأكل ضريبة قومك، تأخذ الربع من أموال قومك وأنت تعرف أن هذا لا يحل لك في دينك، فهنا عرف الرجل أن النبي صلى الله عليه وسلم أدرى منه بدينه، فإذا به يدخل في دين الله عز وجل ويستجيب للنبي صلى الله عليه وسلم. إذاً: المناظر الذي يناظر أهل الكتاب لا بد أن يطلع على ما يرد عليهم به، ولذلك كأنه يستثنى ذلك؛ لهذه الآية: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46]. إذاً: العلماء من المسلمين يجوز لبعضهم أن يطلع على كتب هؤلاء ليرد عليهم إذا ناظروا المسلمين وناقشوهم في دينهم. أما أن كل المسلمين يقرءون في كتب أهل الكتاب، فهذا حرام، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فليس كل إنسان يقرأ يفهم، ولكن الذي درس القرآن ودرس سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وفهم ذلك وعقله، فهذا الذي يجوز له في حالة الجدال مع أهل الكتاب أن يطلع ليرد على كلامهم. وأيضاً جاء في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء) وقال في رواية: (لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا) أي: كيف سيهدونكم وهم قد ضلوا عن سبيل الله سبحانه؟! قال: (وأن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل) يقول المهلب: هذا النهي إنما هو في سؤالهم عما لا نص فيه؛ لأن شرعنا مكتف بنفسه. وعندما أمر ربنا سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأل الذين أوتوا الكتاب من قبل، قال: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} [يونس:94] فهنا قيد: إذا كنت في شك، وهل يشك النبي صلى الله عليه وسلم؟ حاشا له عليه الصلاة والسلام، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا نشك ولا نسأل) أي: مستحيل أننا نشك، ولا نحتاج أن نسأل هؤلاء، فقلوبنا مطمئنة بالإيمان، فكأن هذا الكلام فيه التحفيز على الإيمان والتصديق. إذاً: هنا المؤمن يقول: لست محتاجاً أن أسأل أهل الكتاب عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأنا مصدق بهذا القرآن الذي جاء من عند رب العالمين. للحديث بقية إن شاء الله. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة العنكبوت [46 - 49]

تفسير سورة العنكبوت [46 - 49] ذكر الله عز وجل في هذه الآيات الكريمة أنه على المسلم عند مجادلة أهل الكتاب أن يعلن إيمانه بكل ما أنزل الله من كتب وما أرسل من رسل، وأن إلهنا جميعاً هو إله واحد لا شريك له نحن له مستسلمون وخاضعون، ثم بين الله تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولو كان كذلك لظن هؤلاء وغيرهم وشكوا في أنه جاء بهذا القرآن من عند نفسه، ولكن ذلك ليس صحيحاً؛ بل هو آيات بينات في صدور أهل العلم محفوظة، وليس له وظيفة سوى إنذار الناس بالعذاب وتبشيرهم بالجنة لمن اتقى ربه سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا)

تفسير قوله تعالى: (وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا اله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. لما ذكر الله سبحانه وتعالى للمؤمنين أنه لا ينبغي لهم أن يجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم قال: {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت:46] فأدب المسلمين بأدب من آداب هذا القرآن العظيم وهو ترك الجدل، فلا ينبغي للإنسان المؤمن أن ينشغل بالجدل إلا إذا احتاج إلى ذلك، كما إذا جادله إنسان من الكفار من أهل الكتاب أو من غيرهم في دين الله سبحانه فليرد عليه بعلم. إذاً: ينبغي على المسلم أن يتعلم دينه حتى لا يجادله إنسان فلا يعرف كيف يرد على هذا الذي يجادل فيه، فيتعلم ويدفع بالتي هي أحسن ويرد بالحسنى، قال تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46] فلا يكون هم الإنسان الجدل، ولذلك جاء في الحديث: (لا يفلح قوم أوتوا الجدل) وفي الحديث أيضاً: (ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل) فالإنسان بعدما كان على هدى ابتدأ في الجدل، فصار علمه كله عبارة عن أسئلة ومجادلات وأشياء عقلية، وابتعد عن القرآن الكريم وعن سنة النبي صلى الله عليه وسلم بتحكيم العقل بالجدل. لكن إن احتاج المسلم إلى ذلك فيدفع بالتي هي أحسن. قال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا} [العنكبوت:46] لهم ولغيرهم: {آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} [العنكبوت:46] أي قولوا لليهود للنصارى أهل الكتاب: آمنا بالكتب المنزلة من عند الله سبحانه وتعالى، ولا نفرق بين أحد من رسل الله عليهم الصلاة والسلام، بل آمنا بالجميع. قال تعالى: {وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ} [العنكبوت:46] أي: الإله الذي نعبده هو إله واحد لا شريك له، لا صاحبة ولا ولد ولا والد، بل هو إله واحد وحده الذي يستحق العبادة. {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت:46] أي: مذعنون مستسلمون له سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (وكذلك أنزلنا إليك الكتاب)

تفسير قوله تعالى: (وكذلك أنزلنا إليك الكتاب) ثم قال تعالى صلى الله عليه وسلم: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ} [العنكبوت:47] يعني: كما أنزلنا الكتب السابقة من السماء على هؤلاء الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ كذلك أنزل إليك هذا القرآن العظيم من ربك الإله المعبود الرب الخالق سبحانه. قال سبحانه: {فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [العنكبوت:47] أي: من جاءهم هذا الكتاب من المسلمين الذين عرفوا أنه الحق آمنوا به وصدقوه. قال سبحانه: {وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ} [العنكبوت:47] أي: من اليهود والنصارى من عرف الحق واتبعه أيضاً، أما الجاحدون لكلام رب العالمين فهم الكافرون الذين كذبوا وأعرضوا عنه، وكذبوا النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند ربه، فقال الله عز وجل لهؤلاء المكذبين: انظروا لهذا الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام الذي جاء بهذا الكتاب العظيم المعجز، والذي فيه نبأ من كان قبلكم، وخبر من يأتي بعدكم، أخبار يوم القيامة، وذكر الأنبياء السابقين، هل حكمتم عقولكم حتى تعرفوا أن هذا نبي حق أم أنكم رددتم ما جاء به بغير نظر وفهم وتعقل؟ لكن لا يؤمن بآياتنا إلا الإنسان المؤمن الذي يعلم ويعقل ويفهم.

تفسير قوله تعالى: (وما كنت تتلو من قبله من كتاب)

تفسير قوله تعالى: (وما كنت تتلو من قبله من كتاب) قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت:48] أي: هلا نظروا إلى ذلك ففهموا أن النبي صلى الله عليه وسلم نبي أمي، والأمي: هو الذي لا يجيد القراءة ولا الكتابة، وهذه من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون أبداً ما قرأ ولا كتب قبل ذلك، وجاء بهذا القرآن العظيم المعجز الذي يتحدى به الجميع. وهلا فهموا وعقلوا كيف يكون رجل لم يقرأ ولم يكتب ولا خالط أهل الكتاب قبل ذلك، ولا سافر إليهم في طلب علم منهم، ولا جالسهم في مكة ولا في غيرها، يخبر عن ربه سبحانه بهذا القرآن العظيم ويخبر عن الأنبياء السابقين، وما أتوا به من الآيات وما فعلوه مع أقوامهم وما صنع معهم؛ حتى إن أهل الكتاب ليتعجبون من دقة ما يذكره النبي صلى الله عليه وسلم، وهو لم يأت به من عنده ولكن من عند رب العالمين سبحانه وتعالى. ولو فكروا من أين تكلم عن آدم عليه السلام وعما حدث بين ابني آدم، قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27] فقتل أحدهما الآخر، لعلموا أنه لم يعرف ذلك النبي صلى الله عليه وسلم إلا بوحي من السماء، وإن كان عرفه أهل الكتاب من كتبهم، فهو لم يقرأ كتبهم، وكتب أهل الكتاب كانت بلغتهم وبلسانهم، فالتوراة مكتوبة باللغة السريانية أو يترجمونها عنها إلى العبرانية لكن ليس إلى العربية. والذين في المدينة كانوا يقرءون التوراة بلسانها؛ ولذلك أكثر الذين كانوا في المدينة من اليهود كانوا لا يقرءون، لكن يذهبون إلى بيت مدراسهم فيقرأ عالمهم، فإذا أحبوا أن يفهموا شيئاَ يترجمه لهم إلى اللغة العربية ويفهمهم ويحرف ما يشاء في ذلك. ولذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما ذهب لبعضهم وأخذ منهم حكماً من التوراة ترجموها لـ عمر فقالوا له: عندنا في التوراة كذا وكذا، فذكروا الترجمة، فأخذها وذهب بها للنبي صلى الله عليه وسلم، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك: كيف تصدقهم؟ وما يدريك وأنت لا تفهم اللغة التي نزلت بها التوراة ثم تأخذ منهم ما يحرفونه هم، لعلك تصدق بشيء يكون مما افتروه وكذبوه، ولعلك تكذب بشيء فيكون حقاً من عند الله عز وجل؟ فليس من حقك ذلك، ثم قال لـ عمر: (لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني). فالغرض هنا: أن الله سبحانه ذكر في هذا القرآن العظيم أنباء السابقين، فذكر قصة نوح عليه السلام في مواضع من كتابه سبحانه، وكيف أغرق الله عز وجل الناس بالطوفان، وأنجى نوحاً والذين آمنوا معه، وهذا شيء لا يعرفه الناس إنما يعرفه أهل الكتاب، وأنه كان في زمن من الأزمان نوح عليه الصلاة والسلام فدعا قومه فلما لم يستجيبوا فدعا عليهم. فالتفصيل الذي في القرآن لا يعرف جميعه إلا من اطلع على التوراة وعلى كلام أهل الكتاب فيعرف بعضاً من ذلك ويأتي القرآن يفصل هذا الشيء. وموسى عليه الصلاة والسلام أرسل إلى قومه ودعاهم إلى الله، وكذبه فرعون وجنوده، وبنو إسرائيل تلونوا عليه، وأثبت الله عز وجل ذلك في الكتاب في مواضع كثيرة جداً، فذكر موسى بالذات عليه الصلاة والسلام؛ لأنه صاحب شريعة، وكم حدث له من الأحداث مع قومه ومع بني إسرائيل، وكيف تقلبوا عليه وتلونوا معه وتغيروا وفي النهاية أسلم من أسلم وكفر من كفر. فالله عز وجل أثبت في كتابه أشياء لا يعرفها إلا أحبار أهل الكتاب، فيجدون ذلك عندهم ويجدونه عند النبي صلى الله عليه وسلم، ويتفكرون من أين عرفه صلى الله عليه وسلم؟ ليس هناك إلا أمران: إما أن النبي صلى الله عليه وسلم عرف هذه الأشياء من اطلاعه على كتب أهل الكتاب، وإما بوحي من عند رب العالمين سبحانه وتعالى. ويستحيل أن يأتي العلم بطريق آخر غير هذين الطريقين، فكونه لم يقرأ كتب أهل الكتاب وكان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، ولم يجالس أهل الكتاب قبل ذلك؛ دل على أنه وحي. وقد مدحه ربنا سبحانه وتعالى بذلك فقال: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} [الأعراف:157] إذاً: اسمه صلى الله عليه وسلم مذكور عندهم في التوراة ومذكور عندهم في الإنجيل، وهم يحرفون اسمه بشيء آخر حتى لا يقولوا عن النبي صلى الله عليه وسلم: إنه هو الذي جاء من عند رب العالمين. قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت:48] يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقرأ أي كتاب قبل هذا القرآن أبداً. وكذلك لم يكن شاعراً من الشعراء، ولا كاهناً من الكهان، إذ الكهان معروف أسلوبهم وطريقة السجع في كلامهم الذي يريدون أن يثبتوا به شيئاً أو ينفوه. وكذلك فالشعراء تعرف القصائد التي يقولونها، فلم يقل النبي صلى الله عليه وسلم شعراً قبل ذلك، بل إنه عندما كان يتمثل بأبيات لبعض الناس قالها فلعله يخطئ فيها صلوات الله وسلامه عليه، ولا يقيم التفعيلة والوزن لبيت الشعر، ولا يهتم بذلك، فلما قال رجل من المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم: أتجعل نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع فهذا بيت شعر له وزن وتسمع الموسيقى الشعرية حين تقرؤه، ومعناه: أتجعل الغنيمة أو ما تعطيني من شيء أنا وفرسي نصف ما يأخذه فلان وفلان وتعطيني أنا الأقل؟! فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (أنت الذي تقول: أتجعل نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة؟) فانكسرت التفعيلة ولم يعد شعراً، ولذلك عندما سمع الصحابة ذلك قالوا: صدق الله العظيم، لست بشاعر. وهذا مدح للنبي صلى الله عليه وسلم، إذ لو كان شاعراً لقالوا: هو لفق القرآن هذا من الشعر وغير التفعيلة بشيء آخر. والقرآن ليس شعراً، يفهم ذلك من درس الشعر، ومن قرأه وصاغه، وقد يتمثل ببيت مما قاله من قبله، أما من عند نفسه عليه الصلاة والسلام فلا يقول شعراً. فإذا كان ليس شاعراً وليس كاهناً، ولم يعهد عليه قبل ذلك قط أنه يكذب على البشر، ولم يقرأ كتاباً من كتب أهل الكتاب، ولا يجيد قراءة ولا كتابة، ثم يأتي بهذا القرآن الذي يعجز الخلق جميعهم إلى قيام الساعة، فلا يكون هذا إلا رسول عليه الصلاة والسلام. فربنا سبحانه يقول لهؤلاء: اعقلوا وافهموا، فهذا رسول رب العالمين عليه الصلاة والسلام. قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت:48] أي: لو كنت كذلك: {لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48] فظهر بذلك حكمة الله تعالى في أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقرأ ولا يكتب. وكونه لا يقرأ ولا يكتب ليس معناه مدح عدم القراءة والكتابة، وليس معناه أن يقال للأمة الإسلامية: لا تتعلموا القراءة والكتابة، بل هذا خاص به صلى الله عليه وسلم، ومدح له أنه لا يقرأ ولا يكتب وجاء بهذا الكتاب المعجز ثم أنتم أيها المشركون الذين تقرءون وتكتبون هاتوا قرآناً مثله، قال تعالى: {فَأْتُوا بِكِتَابٍ} [القصص:49] وقال: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود:13] فلم يقدروا، وقال تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23] ولم يقدروا على ذلك. وقال: {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [يونس:38] وقال: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [البقرة:23] وقال: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88] أي: ولو قوى بعضهم بعضاً واجتمع بعضهم مع بعض وبذلوا ما بذلوه من أجل أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كانوا بعضهم لبعض ظهيراً.

تفسير قوله تعالى: (بل هو آيات بينات)

تفسير قوله تعالى: (بل هو آيات بينات) قال تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49] إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقرأ ولا يكتب. أما ما جاء أنه صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى كتب فهذا لا يصح، ولا ينافي ذلك أنه كتب اسمه صلى الله عليه وسلم في عام الحديبية عندما كتب علي رضي الله عنه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإذا بـ سهيل بن عمرو يعترض ويقول: لو كنا نعلم أنك رسول الله لاتبعناك ولكن اكتب اسمك واسم أبيك محمد بن عبد الله. فرفض علي رضي الله عنه أن يغير رسول الله عليه الصلاة والسلام فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم منه القلم ومحا كلمة (رسول الله) وكتب مكانها (ابن عبد الله). فهذه معجزة له صلى الله عليه وسلم لكونه لا يجيد قراءةً ولا كتابة، وهذه المرة عرف مكان كلمة (رسول الله) فشطبها وكتب (ابن عبد الله)، فهذه المرة الوحيدة التي كتب فيها. والعلماء اختلفوا في ذلك: هل كتب بنفسه صلى الله عليه وسلم أو أمر غيره أن يكتب؟ ففي الحديث الذي في صحيح مسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر علياً وأمره أن يمحو ذلك، فـ علي قال: والله لا أمحوه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرني مكانها) أي: أين مكانها من الصحيفة، إذاً: حتى هذا الحين لا يستطيع أن يقرأ ولا يكتب، فأشار له إلى مكان كلمة (رسول الله) فمحاها بيده وكتب مكانها: ابن عبد الله. وأكثر أهل العلم على أنه أمر غير علي رضي الله عنه أن يكتب ذلك. وبعض أهل العلم ذكر أنه كتب بيده صلى الله عليه وسلم، وكانت هذه المرة الأولى والأخيرة التي كتب فيها صلى الله عليه وسلم، فتكون هذه معجزة من معجزاته عليه الصلاة والسلام؛ لأنه ليس هناك أحد يكتب فجأة. وقد خاطب الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48] فذكر شيئين: النبي صلى الله عليه وسلم والكتاب. ثم قال: ((بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ)) فاختلف المفسرون في عود الضمير (هو) فقال بعضهم: إنه عائد على القرآن، أي: القرآن آيات بينات. وقال بعضهم: إنه عائد على النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، أي: النبي صلى الله عليه وسلم آية من رب العالمين سبحانه وتعالى أن يكون نبياً أمياً لا يقرأ ولا يكتب ويأتي بهذا الإعجاز العظيم من عنده سبحانه. فالذين قالوا: (بل هو) عائد على القرآن، قالوا: القرآن آيات بينات جليات واضحات من رب العالمين لا غموض ولا إشكال فيها، والذين أوتوا العلم هم الذين يفهمون ذلك ويحصلونه ويحفظونه في صدورهم. إذاً: على هذا القول يكون القرآن هو الكتاب الوحيد الذي في الصدور، والتوراة والإنجيل وغيرها من كتب الله عز وجل التي نزلت لم ييسر حفظها لأحد، إنما كان يحفظها فقط الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أما الناس فلم يكونوا يحفظونها؛ ولذلك حرفت هذه الكتب، وسهل بذلك تبديلها وتغييرها، وشرحها بغير لغتها، فإذا بدلها بغير لغتها حرف فيها ما يشاء. أما القرآن فهو منضبط محفوظ في الصدور، يحفظه المسلمون من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما يشاء الله سبحانه وتعالى. فالقرآن آيات محفوظة في الصدور ومكتوبة في الصحف، فالإنسان المؤمن يحفظ كتاب الله عز وجل كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]. وعلى القول الآخر بأن المعنى: هو النبي صلى الله عليه وسلم، ففي قوله تعالى: (آيات) معنيان: الأول: وجدان أهل الكتاب اسم النبي صلى الله عليه وسلم وصفته في كتبهم، ثم يجدونها محققة في شخصه، فيكون ذلك دافعاً لهم على الإيمان به، فقد كان البعض منهم يأتي إليه ويختبر تحقق هذه الصفات فيه، فإذا تأكد أنه فعلاً النبي عليه الصلاة والسلام دخل في دين الله عز وجل. ويكون المقصود بقوله تعالى: {آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49] أن من أهل الكتاب من عرفوها من كتبهم. والقول الآخر: أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذو آيات بينات، أي: صاحب معجزات من عند رب العالمين أعظمها هذا القرآن العظيم، ومنها الآيات الأخرى مثل: انشقاق القمر، ونبع الماء من بين أصابعه صلوات الله وسلامه عليه حتى يتوضأ ويشرب جيشه الذين معه، وقد تكرر ذلك مراراً، وغير ذلك من بركات ومعجزات جعلها الله عز وجل على يده، حتى يعرف أهل العلم ذلك ويستيقنون، وأما من يجحدون بذلك فهم الظالمون، نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة العنكبوت [50 - 55]

تفسير سورة العنكبوت [50 - 55] اعترض المشركون على محمد صلى الله عليه وسلم وطلبوا آيات عامة يأتيهم بها ليؤمنوا، فكان من رحمة الله تعالى أنه لم يجبهم إلى ذلك؛ لأنه لو أجابهم فكفروا لعمهم العذاب؛ بل أمره أن يرد عليهم بأن الآيات عند الله ينزلها متى شاء وأنا مكلف بالنذارة البينة، ثم رد الله عليهم أن أعظم الآيات هي نزول هذا الكتاب المبين الذي نزوله رحمة للمؤمنين، فإذا لم يؤمنوا بذلك فكيف يؤمنون بما هو دونه؟! وليس ذلك إلا جحود واستكبار، ومن استكبارهم أيضاً استعجالهم بالعذاب، ولكن ذلك ليس إليهم بل إلى ربهم، وقد جعل له أجلاً وسيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون.

تفسير قوله تعالى: (وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه)

تفسير قوله تعالى: (وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [العنكبوت:50]. يخبرنا الله سبحانه وتعالى عن المشركين في صنيعهم مع النبي صلى الله عليه وسلم وتعنتهم معه وجحودهم وتكذيبهم، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ} [العنكبوت:50]. ف A يطلبون آيات حسية، ومعجزات يرونها أمامهم كما أرسل موسى بالعصا التي صارت حية، وكما أخرج يده فصارت بيضاء لها شعاع كالشمس، وكما أرسل إلى ثمود أخوهم صالح ومعه آية من آيات الله طلبوها وهي الناقة معها فصيلها، فطلبوا أن يروا شيئاً كهذا، وقد رأوا آيات من الله سبحانه وتعالى، وأعظم الآيات والمعجزات هذا القرآن العظيم الذي تحداهم الله أن يأتوا بمثله فلم يستطيعوا، ولكن كفرهم وتكذيبهم يجعلهم يتعنتون ولا يستحيون. لكنهم يريدون آيات يرونها نازلة من السماء، وقد رأوا بعض هذه الآيات، وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم من ربه سبحانه أنه لو جاءتهم آية يرونها جميعهم فيكذبون فسيأتيهم العذاب بعد ذلك. فلما طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل الله له الصفا ذهباً، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه ذلك، فأخبره ربه سبحانه أن لو فعلنا فكذبوا أهلكناهم، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يطلب ذلك. فالآية التي تأتي عامة من عند الله سبحانه ويراها الجميع إذا كذبوا جاء العذاب من عند رب العالمين سبحانه. وانظر لما طلب الحواريون من المسيح عيسى عليه الصلاة والسلام أن ينزل عليهم من عند ربهم مائدة من السماء، فقال المسيح عليه الصلاة والسلام لهم: {اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:112]، فقال الله عنهم: {قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة:113]. فسأل المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام ربه هذه الآية، فكان الجواب من الله: {إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة:115]. إذاً: الآية التي تطلب ثم تأتي ويصر من رآها على التكذيب يأتيه عذاب يستأصل الجميع. ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم أرسل رحمة للعالمين، فمن رحمته أنه لم يجبهم فيما طلبوه. فإن قيل: وانشقاق القمر ألم يكن من الآيات التي من الممكن أن يراها الجميع؟ ف A آية انشقاق القمر لم تكن للجميع، ولو رآها جميع الكفار لأهلكهم الله عز وجل بتكذيبهم بعد ذلك. وإذا كان بعضهم قد طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية التي كانت بالليل، والناس نائمون، فالذين طلبوا فقط هم الذين رأوا ذلك، وكذلك المسافرون أيضاً رأوا ذلك في سفرهم، ولذلك عندما كذب الذين رأوها جاءهم وعيدهم في حياتهم، فمنهم من قتل، ومنهم أخذه الله سبحانه وتعالى. لكن الكفار يريدون آية عامة كأن تحول لهم الصفا ذهباً ويراها الجميع ليل نهار، أو ينزل لهم من السماء كتاب يذكر أن محمداً رسول من عند رب العالمين، ويرونه وهو نازل من السماء ومعه ملائكة يشهدون، وقالوا: ولو فعلت ذلك ما نظن أننا نؤمن بك. إذاً: الأمر هو تكذيب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يريدون أن يؤمنوا أصلاً، إنما يريدون أن يجادلوا بالباطل.

القراءات في قوله تعالى: (وقالوا لولا أنزل عليه)

القراءات في قوله تعالى: (وقالوا لولا أنزل عليه) وفي قوله تعالى عن الكفار: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ} [العنكبوت:50] بصيغة الجمع قراءتان: قراءة الجمهور (آيات). وقراءة ابن كثير وشعبة عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف: (وقالوا لولا أنزل عليه آية من ربه)، بالإفراد، لكن ابن كثير في كلمة (عليه) يشبع الهاء فيها. أما باقي القراء فبالكسر بغير إشباع (عليهِ آية من ربه). وقد قالوا: (مِنْ رَبِّهِ) وهم يعلمون أن ربه هو ربهم سبحانه وتعالى، ولكن قالوا كنوع من التكذيب: اذهب إلى ربك، وهات من عند ربك هذا الذي تزعم أنه يعطيك وأنك رسوله. قال تعالى: {قل إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ} [العنكبوت:50] أي: أن الذي يخلق الآيات ويرسلها هو الله سبحانه وتعالى، فهو الذي أعطى موسى تسع آيات بينات كالعصا والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم. إذاً: هذه آيات ومعجزات بينة من عند الله سبحانه وتعالى يرسلها متى يشاء. قال تعالى: {وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [العنكبوت:50] هذا أسلوب قصر وحصر كأنه قال: ما أنا إلا نذير مبين، والمعنى: أنا رسول من عند رب العالمين أنذركم وأخوفكم إذا لم تؤمنوا بعذاب الله الذي توعدكم به.

تفسير قوله تعالى: (أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب)

تفسير قوله تعالى: (أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب) قال سبحانه: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت:51] ففيهم نوع من العزة والكبرياء، عندما يتحداهم أحد يقبلون التحدي، ولعل الإنسان منهم أن يذهب للقتال ويرى خصمه أقوى منه، ويتحداه خصمه فيخرج لخصمه ليقاتله وهو يعلم أن خصمه أقوى منه. ولكن القرآن يتحداهم ويكسر أنوفهم ويرغمها في الرغام والتراب، ويقول لهم: هاتوا سورة من مثله، ولا يقبل أحد هذا التحدي، ولا يقدرون على ذلك، ويقولون: ما هو بقول البشر، ومع ذلك لا يؤمنون.

القراءات في قوله تعالى (أولم يكفهم) و (عليهم)

القراءات في قوله تعالى (أولم يكفهم) و (عليهم) قي قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ} [العنكبوت:51] قراءتان: قراءة الجمهور بكسر الهاء في (يكفهم) وقراءة رويس عن يعقوب (أولم يكفهُم) بضم الهاء فيها. وفي (عَلَيْهِمْ) أيضاً قراءتان: قراءة الجمهور بكسر الهاء. وقراءة حمزة ويعقوب (عليهُم) بضم الهاء. قال سبحانه: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى} [العنكبوت:51] أي: يتلى تلاوة مرتلة من النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعهدوا مثل ذلك في كلامهم قط. قال سبحانه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} [العنكبوت:51] أي: في هذا القرآن الذي جاء من عند رب العالمين، أو في هذا الإنزال من السماء، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت:51] أي: رحمة من رب العالمين أن أنزل هذا الكتاب العظيم الذي فيه الهدى للناس، والذي هو طريق إلى جنة رب العالمين. {وَذِكْرَى} [العنكبوت:51] أي: تذكرة وتبصرة وعبرة لمن يؤمنون، وقد قال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9]، وقال: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]، فهو يذكر كل الناس ولكن لا ينتفع بها إلا من دخل الإيمان قلبه. والقرآن الكريم نزل من عند رب العالمين رحمة وذكرى، فعندما يقرأ المؤمن هذا القرآن يستشعر رحمة رب العالمين سبحانه، ويستشعر جمال هذا القرآن، فيطمئن قلبه بذكر الله، قال تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]. يقرأ القرآن وله بكل حرف من القرآن يقرؤه عشر حسنات، فإذا قرأت (ألم) ألف بعشر حسنات، ولام بعشر حسنات، وميم بعشر حسنات. وإذا قرأت سورة الإخلاص مرة واحدة كأنك قرأت ثلث القرآن، وإذا قرأتها ثلاث مرات كأنك قرأت القرآن كاملاً، ولو قرأتها عشر مرات يبنى لك بيت في الجنة رحمة من رب العالمين سبحانه بأشياء قليلة تفعلها وتقولها يكون لك الثواب العظيم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

تفسير قوله تعالى: (قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا)

تفسير قوله تعالى: (قل كفى بالله بيني وبينكم شهيداً) قال تعالى: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا} [العنكبوت:52] أي: كفى بالله الذي يحكم علي ويحكم عليكم، ويشهد علي ويشهد عليكم ويحاسبنا يوم القيامة، أي: قل لهؤلاء المكذبين: كفى بالله شهيداً يشهد لي بالصدق، ويشهد عليكم بالتكذيب. قال تعالى: {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [العنكبوت:52] أي: يعلم كل شيء: ما في السموات وما فوقها، وما في الأرض وما تحتها، وما بين ذلك. قال سبحانه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ} [العنكبوت:52] أي: الذين آمنوا بالشيطان، وبكل ما هو باطل وليس بحق، وكفروا بالله سبحانه وتعالى، {أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [العنكبوت:52] أي: خسروا أعظم شيء يدافعون عنه ويدفعون وهو أنفسهم. فالإنسان يقي نفسه بغيرها، ويدافع عن نفسه ولو ضاع غيره فهذه النفس يخسرها يوم القيامة، وتشهد عليه فيضيع نفسه بسبب تكذيبه في الدنيا. وفي الدنيا يمكن أن يقول الإنسان لآخر: أنا أفديك بنفسي، فإذا جاء يوم القيامة فكل إنسان يقول: نفسي نفسي، حتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كل منهم يقول: نفسي نفسي، وقد كانوا في الدنيا يدعون الخلق إلى الله عز وجل، أما يوم القيامة فلا توجد حياة ثانية يضيعون الآخرة من أجلها، إنما الدار الآخرة هي الحياة وفيها الإقامة الدائمة عند رب العالمين، لا حياة بعدها، ولذلك كل واحد يقول: نفسي نفسي. قال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:34 - 36] ومن أعز على الإنسان من هؤلاء؟ ومع ذلك فر من الجميع ويقول: نفسي، إلا نبينا صلوات الله وسلامه عليه الذي يقول: أمتي أمتي ويشفع للخلق يوم القيامة.

تفسير قوله تعالى: (ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب)

تفسير قوله تعالى: (ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب) قال سبحانه: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمْ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [العنكبوت:53]. قوله: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ) أي: هؤلاء الذين جهلوا هذا الدين العظيم وجهلوا قدر ربهم سبحانه فيهم أناس طويلة ألسنتهم مثل أبي جهل والنضر بن الحارث، فكانوا يذهبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: أين العذاب الذي تخبرنا عنه؟ لم لم يأت إلى الآن؟ قال تعالى عن ذلك: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص:16]، وتأمل التحدي في كلامهم، يطلبون من الله تعالى أن يرسل لهم وثيقة عذاب مع النبي صلى الله عليه وسلم، ويجعله عاجلاً لا آجلاً. والقط: الوثيقة بالشيء، فقالوا: (رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ) أي: ما توعدتنا به من العذاب يوم القيامة عجله لنا الآن. وإذا دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحق قالوا: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32] فليس عند هؤلاء عقول حين يقولون ذلك. فيقول الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ} [العنكبوت:53] فالله عز وجل لا يخلف الميعاد، والعذاب آت ولكن الله أجل ذلك لأجل مسمى معلوم عنده، وسيأتيهم عذابهم إما في الدنيا بأن يقتلوا أو يموتوا فيذهبوا إلى عذابهم في قبورهم كما عذب فرعون وجنوده، قال تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46]. وكذلك هؤلاء ربنا سبحانه وتعالى يقول: لا تستعجلوا فالعذاب آتيكم، فقتل منهم أبو جهل وغيره في يوم بدر وألقوا في قليب بدر، والله عز وجل عذبهم، ووقف النبي صلى الله عليه وسلم على حافة البئر يقول لهؤلاء: (هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟) تعذبون في هذا القليب ويتقد عليكم ناراً بما صنعتم مع النبي صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى} [العنكبوت:53] أي: أجلنا العذاب للوقت الذي رأيناه وأردناه، وأيضاً وعد الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يؤخرهم إلى يوم القيامة ولا يعجل لهم في الدنيا عذاباً يستأصل جميعهم. قال سبحانه: {وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ} [العنكبوت:53] أي: يقيناً سيأتي هذا العذاب، وسيأتيهم بغتة قال تعالى: {وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [العنكبوت:53]. إذاً: الواحد منهم يظن أنه قادر على شيء وفجأة يأتيه العذاب في الدنيا ثم في الآخرة، فالموت يأتي بغتة، ولا يوجد نذير قبله يقول: إنك ستموت يوم كذا، الساعة كذا، وكم قال الأطباء أن هذا المريض لن يعيش إلا يومين أو ثلاثة ثم يعيش بعدها سنين. وكم يقولون عن إنسان: إنه بصحة وعافية وقوة ولا خطر عليه، فيموت في تلك اللحظة، والله على كل شيء قدير. وهل ظن أبو جهل وهو خارج من مكة يحفز الناس على قتال النبي صلى الله عليه وسلم ويخرج معهم فقال له بعضهم: ارجع بالناس، فلن نكسب شيئاً من القتال، إنما نقتل أقوامنا، فإذا بـ أبي جهل يقول له: أنت جبان، ويحفزه على ذلك فكان الاثنان قتيلين في يوم بدر. وخرج أبو جهل في يوم بدر وهو يهيج الناس على القتال ويلبس عدة الحرب، وكان من أقوى الناس، وحوله مثل الحرجة ممن يدافعون عنه، والحرجة: شجر الغابة الملتف، وكأن أبا جهل لا يخلص إليه، فكانوا يقولون: أبو الحكم لا يخلص إليه أحد، وإذا بمقتله يكون على يد غلامين شابين صغيرين من الأنصار كلاهما يسأل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: يا عماه! أين أبو جهل؟ فيتعجب عبد الرحمن بن عوف، وكان في القتال يقول: ووددت لو أني بين رجلين أقوى منهما، يعني: أن الذين بجواره ولدان من الأنصار ما زالا في سن بداية الشباب، فلما قالا له: أين أبو جهل؟ قال: أين أنتم من أبي جهل؟ ومن أين تصلون إلى أبي جهل؟ فيقسم كل منهما ويخبر أنه آلى على نفسه لئن رأى أبا جهل لا يفارق سواده سواده حتى يكون أحدهما قتيلاً؛ لأنه كان يشتم النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون مقتله على يد الاثنين معاذ ومعوذ ابني عفراء رضي الله تعالى عنهما، فلما أبصراه استلماه بسيفيهما، ووصلا إليه وهو مثل الحرجة فوقع صريعاً على الأرض. ويأتي إليه ابن مسعود رضي الله عنه ويركب على صدره ويقطع رقبته ويقول له أبو جهل: لقد ارتقيت مرتقى صعباً يا رويعي الغنم. وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه نحيفاً قصيراً، إذا جلس عمر رضي الله عنه يكون طوله كطول ابن مسعود وهو واقف، فلما أراد ابن مسعود أن يقطع رقبة أبي جهل لعنة الله عليه قال له: يا رويعي الغنم، تصغير يقصد به التحقير، يعني: أنت تقتلني أنا! لقد ارتقيت مرتقى صعباً، تطلع أنت فوق صدري! هل كان يتوقع ذلك أبو جهل لعنة الله عليه وعلى أمثاله؟! فلما يئس قال: هل أبعد من رجل قتله قومه؟! كفر وتكذيب إلى أن يموت لعنة الله عليه، ومعنى كلامه أن أبعد رجل هو من قتله قومه، فمثلما غيري قتله قومه أنتم أيضاً قتلتموني. قال الله عز وجل: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [العنكبوت:54] فليس هناك مهرب إنما هم كداخل السور لا يستطيع أن يهرب منها، فجهنم تحيط بهم محدقة بهم.

تفسير قوله تعالى: (يوم يغشاهم العذاب)

تفسير قوله تعالى: (يوم يغشاهم العذاب) قال تعالى: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ} [العنكبوت:55] أي: اذكر هذا اليوم وذكرهم بهذا وأنذرهم يوم يغشاهم، والغشي ما يأتي من فوق، فتأتيهم النار من فوقهم ومن تحت أرجلهم، أي: من كل مكان نسأل الله العفو والعافية. {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ} [العنكبوت:55] ويقول الله سبحانه تبارك وتعالى، وهذه قراءة نافع وقراءة الكوفيين (ويقول)، وباقي القراء: (ونقول) بنون العظمة، أي: نقول لهؤلاء: {ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت:55]، ذوقوا العذاب جزاء بما كنتم تكسبون. {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [العنكبوت:55] أي يغطيهم عذاب رب العالمين، نار من فوقهم، نار سوداء مظلمة تغشاهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقال لهم: {ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت:55]. أما المؤمنون فيدخلهم الله جنته ويقول: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت:56]. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل جنته، وأن يجيرنا من عذابه وناره. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة العنكبوت [53 - 58]

تفسير سورة العنكبوت [53 - 58] أمر الله تعالى عباده المستضعفين أن يهاجروا إلى أرض يستطيعون أن يعبدوا الله فيها، والهجرة قد يخاف فيها من الموت أو الفقر، فأخبرهم الله أن كل نفس ذائقة الموت، فلا يتركوا الهجرة خوفاً من الموت، فإنهم إن ماتوا مهاجرين فسيدخلهم جنات النعيم، ووعدهم بالرزق، فإنه تكفل برزق كل مخلوق خلقه فكيف يضيع رزق من هاجر لأجله؟!

تفسير قوله تعالى: (يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون)

تفسير قوله تعالى: (يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة العنكبوت: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ * اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [العنكبوت:56 - 62]. لما أخبرنا الله سبحانه وتعالى عن المشركين وعن تهورهم واستعجالهم العذاب، فقال الله سبحانه: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ} [العنكبوت:53]، وكل ما هو آت فهو قريب، فالمشركون يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم تعجيل العذاب، ولكن الله قد قضى أن عذابهم له أجل مسمى، فهو في علم الله عز وجل، والمؤمنون يستعجلون عذاب الكافرين، ويستعجلون الانتصار عليهم، والله عز وجل قد أجل عنده أجلاً، فإذا جاء أجل الله عز وجل ونزل قضاؤه وقدره بهؤلاء {وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً} [العنكبوت:53] أي: فلن يأتيهم بعلامة قبلها، ولكن يأتيهم بغتة: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [العنكبوت:53]. وقال تعالى: {يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [العنكبوت:54]، أي: هؤلاء الكفار الذين يطلبون العذاب وينتظر المؤمنون عذابهم يخبر الله سبحانه وتعالى بأنهم تحيط بهم جنهم يوم القيامة، (وإن جهنم لمحيطة بالكافرين)، فلا يقدرون على الهرب منها، ويوم القيامة يستشعر الجميع أن الدنيا لم تكن شيئاً مهما طالت وإذا سئلوا {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون:112 - 113]، فمهما طال العمر بالإنسان فإنه في يوم القيامة يقول: لبثنا يوماً أو بعض يوم، أي: جزءاً من اليوم، فالإنسان الذي يستعجل في الدنيا يقال له: لا تعجل ستعرف يوم القيامة أن الدنيا لم تكن شيئاً، وأن طول عمرك في الدنيا لا يساوي شيئاً، قال الله عز وجل عن عذاب يوم القيامة الذي يستعجلونه: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت:55]، أي: فقد أحدقت بهم جهنم، وأحاطت بهم، فمن فوقهم نار، ومن تحتهم نار، وهم محبوسون داخلها لا انفكاك لهم عنها، ولا مهرب منها. لقد أمر الله عز وجل المؤمنين في الدنيا بأن يهاجروا من الأرض التي فيها الكفر، والظلم فقال: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت:56]، أي: لم تخلقوا لتهانوا في مكان تقدرون على الهرب منه والخروج منه، فاخرجوا فإن أرض الله واسعة كما أخبرنا الله سبحانه وتعالى. وقوله: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا} [العنكبوت:56] هذا نداء للمؤمنين، وهذه قراءة نافع وأبي جعفر وابن كثير وابن عامر وعاصم، وباقي القراء يقرءونها: (يا عبادِ الذين آمنوا). {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} [العنكبوت:56] قراءة الجمهور، (إن أرضي) بالسكون، وقراءة ابن عامر: ((إن أرضيَ واسعة فإياي فاعبدون)) وقراءة الجمهور: {فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت:56]، وقراءة يعقوب وقفاً ووصلاً: ((فاعبدوني)). فالله عز وجل يأمر المؤمنين بقوله: (اعبدوني) أي: في أي مكان، فلا تصبروا على البقاء في مكان تهانون فيه، وتمنعون فيه من إقامة شعائركم، وشرائع الله سبحانه بل هاجروا منه إلى مكان آخر. والمؤمنون منهم من هاجر مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ومنهم من بقي بمكة ولم يهاجر، فكان المسلمون يراسلونهم، ويطلبون منهم أن يخرجوا، فيقولون: نخشى إن هاجرنا، والبعض منهم خرجوا، واستطاعوا أن يصلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والبعض الآخر أمسك بهم الكفار، وعذبوهم وضربوهم في مكة، فالله عز وجل يقول للمؤمنين: ((إن أرضي واسعة)) فمن استطاع أن يهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فليفعل ذلك، ومن استطاع ولم يفعل وظل مع الكفار، ومع من يفتنه عن دينه مع قدرته على الخروج فقد وقع في قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ} [النساء:97]، فهم كانوا مستضعفين في بلدهم لكنهم كانوا يقدرون على الخروج من هذه الأرض ومع ذلك ظلوا فيها، فقد بقوا في مكة يفتنهم الكفار فيفتنون، فأخبر الله سبحانه عن هؤلاء وأمثالهم الذين فتنهم الكفار فارتدوا على أعقابهم، وتركوا دين الله سبحانه بقوله: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء:97] وهنا يقول: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت:56]. والإنسان مخلوق لعبادة الله سبحانه، قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، فالمطلوب منه العبادة، وعمر الإنسان غالٍ جداً لا يساويه أي ثمن من الأثمان، وأغلى شيء عند الإنسان عمره، فكلما عبد الله سبحانه وتعالى كلما كان قريباً من ربه سبحانه، ويكون منزله في أعلى الجنات، وكلما فرط وقصر كلما بعد شيئاً فشيئاً حتى يكون في النار، ولذلك على الإنسان أن ينتهز لحظاته، وساعاته وأوقاته حتى يدخل جنة الخلود بعمله الصالح بعد رحمة الله سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت)

تفسير قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت) قال الله سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [العنكبوت:57]، فهذه نهاية كل إنسان، فلا أحد سيخلد في هذه الدنيا، وطالما أن الله عز وجل أمرنا بعبادته فلنعبد الله سبحانه، وإذا ضُيق على الإنسان في مكان فليخرج إلى مكان آخر، فلا يمكث في مكان يفتن فيه، ويبتعد عن دين الله، ثم يقول: أنا معذور، يكفر بالله سبحانه ويقول: أنا معذور، ويفعل أفعال الفساق ويقول: أنا معذور، فطالما أنه يستطيع أن يخرج إلى مكان آخر فليبتعد عن الفساق وعن الظلمة والكفار، وليعبد الله سبحانه وتعالى، فأرض الله واسعة. فلا أحد سيفر من الموت، فإن الموت محيط بالإنسان، ومهما أمل الإنسان في العيش وفي الحياة فإنه في نهاية المطاف سيأتيه الموت من حيث لا يدري، ومن حيث لا يحتسب: (كل إنسان يغدو فمعتق نفسه أو موبقها)، وكما ذكر النبي صلوات الله وسلامه عليه، فإن الإنسان يأتي عليه الصباح لا يدري هل سيكمل باقي يومه أو يموت في هذا اليوم؟ وهل سيموت على طاعة أم يموت على معصية؟ وقد أخبرنا الله عز وجل أن الموت يأتي للإنسان بغتة، فبعد أن كان في الدنيا إذا به عند الله سبحانه، وبعد أن كان في ظهر الأرض إذا هو في بطنها. فمن عمل صالحاً فإنه يستبشر حين يلقى الله سبحانه وتعالى بعمله الصالح؛ كجهاده في سبيل الله وغيره من الأعمال الصالحة، أما الإنسان الذي يفر من الله، فإنه مهما فر فإن الموت محيط به، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وقد رسم لأصحابه خطوطاً على الأرض، فقال هم الخط الأول: (هذا الإنسان، وخط بعده بقليل وقال: وهذا أجله، وخط بعده بكثير وقال: وهذا أمله). فالإنسان يريد أن يحقق أمله وأمله بعيد جداً، فبينما هو ينظر إلى الأبعد إذ جاءه الأقرب، فليس كل ما يؤمله الإنسان سيأخذه، وأسعد الناس الذي يأتيه موته وهو مطيع لله سبحانه وتعالى، انظروا إلى الشيخ أحمد ياسين رحمة الله عليه، وكيف قتله اليهود لعنة الله عليهم، ولكم أن تعتبروا بهذا الرجل فقد ختم الله عز وجل له بالعمل الصالح فقد صلى الفجر ثم خرج فقتل شهيداً، فلعله ما كان يحلم بهذا الشيء، فإنه لم يكن يقاتل بسلاح ولا في يديه مدفع، وجاءته الشهادة وهو خارج في ذمة الله سبحانه وتعالى، وهذه بشارة من الله سبحانه وتعالى، فمن كان يدري أن الشهادة ستأتيه في هذا الوقت، نسأل الله عز وجل أن يجعله من الشهداء، وأن يسكنه الجنة. ولعل الإنسان يرى المنظر فضيعاً جداً، أن يسقط على إنسان صاروخ أو قنبلة أو يأكله قطار، أو تدوسه سيارة، إنه منظر صعب ورهيب جداً، ولكن الحقيقة أن الشهيد عند الله عز وجل له أجر عظيم، ففي الوقت الذي يأتيه حتفه لا يشعر بشيء، (ما يجد الشهيد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة)، فالبعوضة تقرص الإنسان فلا يحس بها، وكذلك الشهيد، حتى وإن كان المنظر أمام الناس منظراً مروعاً ومنظراً صعباً، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يطمئنهم ويقول لهم: لا تخافوا على الشهيد، فإن الله أرأف به منكم، فالله عز وجل يجعل هذا الشيء الهائل الذي تراه شيئاً يسيراً جداً، ويبشر الشهيد بالحور العين تستقبله، ويغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى منزله من الجنة، وغير ذلك من خصائص الشهيد عند رب العالمين سبحانه. فـ أحمد ياسين قتل في سبيل الله سبحانه وتعالى نحسبه على يد الكفار، يقول عمر رضي الله عنه وقد قتله أبو لؤلؤة المجوسي لعنة الله عليه، لـ ابن عباس: اذهب فانظر من قتلني، فيذهب ويبحث ثم يقول له: قتلك أبو لؤلؤة، فقال عمر: الحمد لله الذي لم يجعل قتلي على يد أحد من المسلمين، فقد كان يخاف أن يكون رجلاً من المسلمين ظلمه مثلاً فقتله. وعمر بن الخطاب كان يسأل الله عز وجل الشهادة، ويقول: اللهم ارزقني شهادة في بلد نبيك صلى الله عليه وسلم، فيتعجبون له، كيف تقتل في بلد النبي صلى الله عليه وسلم والجهاد بعيد عنها؟! والبلد دار إيمان، وكل الذين فيها مسلمون، فيقول: يأتي بها الله إن شاء، وليس في قلب عمر أنه سيموت هذه الموتة رضي الله تعالى عنه، فإذا بالشهادة تأتي إليه وهو في المحراب يصلي بالناس رضي الله عنه، والموت يأتي للإنسان بغتة، يا ترى هل كان عمر رضي الله عنه وهو ذاهب يصلي يدري أن أحداً سيقتله، لم يكن يدري رضي الله تعالى عنه، وكذلك كل إنسان، فطالما أننا لا ندري متى يأتي علينا الموت فليكن العمل الصالح دائماً هو هدفنا. مرة من المرات أحد إخواننا صلى معنا الفجر، ثم ذهب، فلما وصل عند سكة الحديد داسه القطار، نرجو له الشهادة عند الله سبحانه وتعالى، والذي صلى الفجر هو في ذمة الله عز وجل، والله عز وجل يحذرنا على لسان النبي صلى الله عليه وسلم من أذى هذا الإنسان الذي صلى الفجر في جماعة. ولذلك نستبشر خيراً لمقتل الشيخ أحمد ياسين رحمة الله عليه، نسأل الله أن يسلط على اليهود من يبيدهم، وأن يزيلهم، وأن يدمرهم تدميراً هم ومن يدافع عنهم، كما نسأله سبحانه أن ينصر الإسلام والمسلمين، وأن يدمر الكفرة والمجرمين، اللهم احصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً. يقول الله سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [العنكبوت:57]، أي: المرجع إلى الله عز وجل، فأعد الجواب الذي ستقوله لله عز وجل.

تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا)

تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفاً) قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا} [العنكبوت:58] يطمئن الله عز وجل المؤمنين، بأن الدنيا زائلة، فمهما طالت، ومهما عُذب المؤمن فيها فإنها ستزول ولن تبقى. ومعنى ((لنبوِّئنهم)) أي: لننزلنهم منزلاً في أعالي الجنات، وهذه قراءة الجمهور، وقراءة أبي جعفر ((لنبوينهم))، وقراءة حمزة والكسائي وخلف: ((لنثوينهم)) من الثوى بمعنى: الإقامة، أي: لندخلنهم مكاناً يقيمون فيه ولا يخرجون منه، ((من الجنة غرفاً))، الغرف هي الأماكن العالية الرفيعة الفخمة، فالله عز وجل جهز هذه الغرف للذين آمنوا وعملوا الصالحات، فهم لم يقولوا: آمنا، بألسنتهم وكفرت قلوبهم وفسقت أعمالهم، لا؛ بل قالوا: (آمنا) بالقول، وصدق ذلك القلب والعمل، والغرف معناها: الجنات العظيمة العالية، وليس كما يتخيل الإنسان الغرفة التي في بيته، فهذه وإن سميت غرفة لكن هناك فرق كبير بين هذه وبين تلك، فقد قال سبحانه: {غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [العنكبوت:58]. وقد روى البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم)، فأهل الجنة الذين هم في أدنى الجنات وفي أوسط الجنات ينظرون إلى أهل الغرف الذين هم في أعالي الجنات، قال صلى الله عليه وسلم: (يتراءون) والترائي: هو النظر للشيء البعيد، مثلما تنظر إلى الكواكب التي في السماء. قال صلى الله عليه وسلم: (إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق)، الغابر: أي: البعيد جداً، و (الدري): أي: المتلألئ في الأفق، قال: (من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم)، أي: لتفاضل الدرجات، فبحسب عمل الإنسان يرفعه الله عز وجل درجات، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا في أعالي الجنات. (قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟) أي: أن الغرف العالية ليست إلا للأنبياء، قال صلى الله عليه وسلم: (بلى، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين)، (بلى) يعني: ليس كما تقولون، ولكن هناك رجال مؤمنون سيبلغون ذلك، وهم رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم. وروى الترمذي عن علي رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة غرفاً ترى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها)، أي: قصوراً عظيمة في الجنة، وصاحب هذه القصور يرى داخلها وهو خارجها، ويرى خارجها وهو داخلها، (ترى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها، فقام أعرابي فقال: لمن هي يا رسول الله؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: لمن أطاب الكلام وأطعم الطعام وأدام الصيام وصلى لله بالليل والناس نيام)، فالذي يريد أن يصل إلى هذه الغرف فليعلم أنها لمن أطاب الكلام)، أي: كان خلقه حسناً، وكلامه طيباً، ليس رديئاً ولا فاحشاً، ولا نماماً، ولا مغتاباً، بل هو صادق في كلامه ولا يخرج من فمه إلا الطيب. (وأطعم الطعام) أطعم الفقير والمسكين، وابن السبيل، والجار، والضيف، وأطعم أهله، (وأدام الصيام) يعني: صام كثيراً، ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال، فكأنما صام الدهر)، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر كصيام الدهر، فالنبي صلى الله عليه وسلم يخبرنا بما يسهل علينا، فإذا أردت أن يكون أجرك كمن صام الدهر صم من كل شهر ثلاثة أيام، وصم الإثنين والخميس، ففيهما يرفع العمل إلى الله سبحانه وتعالى، وصم يوم عرفة، ويوم عاشوراء وهكذا، فالإنسان المؤمن يتحرى الأوقات الفاضلة، فيكثر فيها من الصيام بحسب ما يقدره الله عز وجل عليه. قال: (وصلى بالليل والناس نيام)، فهو مع الناس حسن الخلق، وهو مع الله في صيام وقيام، وقيام الليل في البداية قد يكون صعباً على الإنسان، ولكن مع العادة يصير متعة للإنسان، كما قال الثوري رحمه الله: كابدنا قيام الليل عشرين سنة، واستمتعنا به عشرين سنة. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على عمل أهل الغرف العاليات، وأن يجعلنا منهم ومعهم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة العنكبوت [58 - 63]

تفسير سورة العنكبوت [58 - 63] وعد الله المؤمنين بالرزق الحسن في هذه الحياة الدنيا إذا صبروا وتوكلوا على الله، وأخبر أنه كم من دابة لا تحمل رزقها ولا تدخر قوتها والله يرزقها ويطعمها ويسقيها، فمن لم يضيع رزق هذه الدابة وهو الله فلن يضيع رزق من عبده وآمن به، ولكن الله حكيم عليم، فهو يبسط الرزق لمن يشاء، ويضيق الرزق على من يشاء، ليبتلي العباد بالغنى والفقر، وفي ذلك حكم كثيرة للأفراد وللمجتمعات، ولا يصلح حال العباد إلا بتفاوتهم في الأرزاق.

تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم)

تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة العنكبوت: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ * اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [العنكبوت:58 - 62]. لما ذكر الله سبحانه وتعالى الموت ذكر أن المرجع إليه سبحانه وتعالى ليجازي الخلق على ما عملوا، فأما الكفار فيعذبهم الله عز وجل عذاباً يغشاهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم في نار جهنم، ويقال لهم: {ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت:55]، وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فالله عز وجل يبوئهم من الجنة نزلاً، وينزلهم من الجنة منزلاً عظيماً عالياً، وهي غرف الجنات، كما قال عز وجل: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ} [العنكبوت:58]، أي: لندخلنهم ولننزلنهم ولننسكننهم ولنقيمنهم في هذه الجنة العالية {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [العنكبوت:58]. وذكر الله عز وجل العمل فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العنكبوت:58]، والجزاء يوم القيامة أن يقال لهم: {نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [العنكبوت:58]، يعني: أنعم بهذا لمن عمل. فهم لم يكتفوا بأن يقولوا: آمنا وصدقنا بقلوبنا، ولم يكتفوا بأن نطقوا بألسنتهم بكلمة التوحيد، ولكن العمل الصالح وراء ذلك، فالله أمر المؤمنين بالعمل الصالح فقال: {وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:51]، فلما عملوا الصالحات جوزوا بالجنات وقيل لهم: {نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [العنكبوت:58]. وروى النسائي من حديث فضالة بن عبيد قال: قال صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم -والزعيم: الضامن- لمن آمن بي وأسلم وهاجر ببيت في ربض الجنة وببيت في وسط الجنة)، يعني بالقصور التي في الجنات، وربض المكان: الفناء الذي حول المكان، ووسط المكان أعظم من ربضه، فالجنة فيها ربض، وكأنه المنزلة الأقل في الجنة، وفيها منزلة أخرى هي أوسط الجنة، ومنزلة أخرى هي أعلى الجنة. فذكر الأولى والثانية فقال: (أنا زعيم لمن آمن بي وأسلم وهاجر ببيت في ربض الجنة وببيت في وسط الجنة)، هذا للمؤمن الذي أسلم والذي هاجر في سبيل الله عز وجل، ثم قال: (وأنا زعيم لمن آمن بي وأسلم وجاهد في سبيل الله ببيت في ربض الجنة وببيت في وسط الجنة وببيت في أعلى غرف الجنة)، هذا للمجاهد في سبيل الله عز وجل، لمن يجاهد بسنانه وبلسانه وبقلبه أعداء الله يجاهد المنافقين، ويجاهد الكفار، ويجاهد لنشر دين الله سبحانه وتعالى، ويدفع ما يلقيه أهل الباطل من شبهات، ويدفع ما يقوله أهل الكفر من اتهامات، فيجاهد في سبيل الله عز وجل، فالنبي صلى الله عليه وسلم زعيم ضامن له ببيت في ربض الجنة، وببيت آخر في وسط الجنة، وببيت ثالث في أعلى الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: (من فعل ذلك فلم يدع للخير مطلباً ولا من الشر مهرباً يموت حيث شاء أن يموت)، والمعنى: طالما أنك أسلمت لله وآمنت بالله وجاهدت في سبيل الله سبحانه وعملت العمل الصالح فمت حيث شئت، فسواء مت وأنت تجاهد في سبيل الله عز وجل فصرت شهيداً، أو مت وأنت على فراشك في بيتك، فلك هذا الأجر لا ينقص أبداً، والضامن لك هذا الأجر هو رسول الله صلوات الله وسلامه عليه. يقول الله عز وجل: {نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [العنكبوت:58]، أي: أن جزاءهم الجنة العالية العظيمة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم وذكر أن فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

تفسير قوله تعالى: (الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون)

تفسير قوله تعالى: (الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون) ثم قال الله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [العنكبوت:59]، أي: أنهم عملوا الصالحات وصبروا، والصبر أنواع: صبر على أوامر الله، فينفذ الأوامر، بأن يقول له: افعل كذا، فيفعل، ويصبر على ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بشيء فائتوا منه ما استطعتم)، فيجاهد الإنسان نفسه في العمل الصالح والعمل بما أمر الله سبحانه. وإذا نهى الله عز وجل عن شيء فالمؤمن يجتنبه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه)، أي: لا تأتوا هذا الشيء واتركوه بالكلية، فالمؤمن يصبر على ذلك. والله عز وجل نهى العبد عن الحرام وعن شهوات باطلة، وإذا بالنفس تدفعه ليقع فيها، ولكن يصبر ويتصبر لأمر الله سبحانه، فهذا صبر آخر، وهو الصبر عن المعصية. الصبر الثالث: الصبر على قضاء الله وقدره، على أقدار الله سبحانه، فحين تنزل المصيبة بالعبد يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، كما قال عز وجل: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة:155]. وفي أول هذه السورة قال الله سبحانه وتعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]، فلا بد من الابتلاء والاختبار والامتحان من الله عز وجل لعباده، فمن صبر على ذلك فله الأجر من الله سبحانه تبارك وتعالى. فعلى الإنسان أن يصبر على المصائب، ويصبر على الطاعة، ويصبر عن المعصية. قال الله سبحانه: {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [العنكبوت:59]، أي: صبروا لأمر الله سبحانه وتعالى، وتوكلوا على الله سبحانه أعظم التوكل، وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير؛ تغدو خماصاً وتروح بطاناً)، فلو أن الإنسان يتوكل على الله سبحانه كما تتوكل الطير على ربها سبحانه لرزقه الله كما يرزق الطير؛ فإنها تصبح فتغدو تبحث عن رزقها فالله يعطيها رزقها، فقوله: (تغدو خماصاً) خمص البطن بمعنى: ضامر البطن، قل حجمها من قلة الطعام، وقوله: (تروح بطاناً)، أي: قد شبعت وامتلأت بطونها وانتفخت من كثرة ما أكلت من طعام. فلو أن العبد توكل على الله حق التوكل وكان واثقاً بالله سبحانه، وأن الرزق بيد الله سبحانه، يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء، وكل شيء بيد الله سبحانه، ولم ينسب ما هو لله لغير الله سبحانه، ولم يظن أو يحدث نفسه أن رزقي عند فلان، وفلان يعطيني الرزق؛ لرزقه الله من حيث لا يحتسب، فالرزق عند الله سبحانه، والله الرزاق العظيم الذي قال لعباده: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58]، فالعبد يتوكل على الله سبحانه، وإذا أحسن التوكل جاءه رزقه من عند الله من حيث لا يحتسب، كما قال عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]. فهنا ربنا سبحانه وتعالى ذكر أمر التوكل عليه سبحانه وتعالى، فذكر أنه من صفات المؤمنين الذين يستحقون الجنات.

تفسير قوله تعالى: (وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها)

تفسير قوله تعالى: (وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها) أخبر سبحانه في هذه الآية كيف أن الدواب كلها تتوكل على ربها سبحانه وهو يرزقها تبارك وتعالى فقال: {وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} [العنكبوت:60]. وقوله: (وَكَأَيِّن)، هذه قراءة الجمهور، وقرأها ابن كثير: (وكآين) بالمد المتوسط، وقرأها أبو جعفر بالتسهيل مع المد ومع القصر: (وكآين من دابة لا تحمل رزقها) بالتكسين فيها وبالتسهيل. إذاً: هنا قراءة: (وكآين من دابة) بتسكين النون سواء في قراءة ابن كثير أو في قراءة أبي جعفر، والجمهور يقرءون: (وكأيِّن من دابة) تسكن وتدغم فيما بعدها. وقوله: {وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} [العنكبوت:60]، في هذا إشارة إلى أنه لا يوجد دابة تحمل رزقها ذاهبة وآتية، ولكن القليل من أنواع الدواب هي التي قد تفعل ذلك، ولكن الأكثر من الدواب التي خلقها الله عز وجل لا تحمل رزقها على ظهرها فتذهب وتجيء به، وإنما تبحث فتأكل، فإذا أكلت اكتفت. والدابة: كل ما يدب على الأرض من حيوان، والمقصود: أن كل دابة قد خلقها الله سبحانه وتعالى لا تحمل رزقها، ولكن الله عز وجل يرزقها وإياكم. لقد علم الله عز وجل العباد كيف يصبرون على أمر الله سبحانه وتعالى، وكيف يتوكلون على الله ويحسنون الظن بالله سبحانه وتعالى، فيصبر الإنسان، وإن جاع لا يجلس في بيته، وإنما عليه أن يذهب ليبحث عن الرزق متوكلاً على الله واثقاً بالله، فإذا بالله سبحانه وتعالى يفتح له باب الخير، وقد يمتحنه ويختبر إخلاصه هل يصبر أو لا يصبر؟ فيضيق عليه شيئاً ثم يأتي الفتح والفرج من الله تبارك وتعالى. وقوله: {وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} [العنكبوت:60]، أي: ويرزقكم أنتم أيضاً، فالإنسان ينظر ويعتبر، فانظر واعتبر كيف رزق الله كل هذه الدواب؛ فرزق كل طائر يطير في السماء، وكل إنسان يسير، وكل حيوان يدب على أربع، وكل حشرة، وكل شيء يرزقه الله تبارك وتعالى. فقوله: ((اللَّهُ يَرْزُقُهَا))، يعني: الدابة ((وَإِيَّاكُمْ))، يعني: يرزقكم الله سبحانه وتعالى. وقوله: (وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيم)، أي: يسمع دعاءكم حين تقولون: يا رب! ارزقنا يا رب! أعطنا، وهو العليم بمن يستحق هذا ومن يستحق ذلك.

تفسير قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر)

تفسير قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر) قال سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [العنكبوت:61]. وقوله: ((لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ))، يعني: لئن سألت الخلق: ((مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)) وكل مخلوق -سواء كان مسلماً أو كافراً- يعلم أن الله هو الخالق سبحانه وتعالى، ولا يكابر في ذلك إلا كذاب جاحد مكابر، كما كابر فرعون وكما كابر النمرود، وإذا بالله عز وجل يفضح الاثنين وغيرهما ممن جحد ذلك، فهذا النمرود لما زعم أنه يحيي ويميت قال له إبراهيم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة:258] أي: فضح وأسكت وألقم حجراً، ولما قال له إبراهيم: ((رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي ويُمِيتُ)) تعاظم وقال: وأنا أيضاً أحيي وأميت، فقيل له: تحيي من؟ فقال: أحكم على واحد بالإعدام ومن ثم أعفو عنه فأكون قد أحييته، فلما كان هذا الكلام كلاماً فارغاً وظاهر الفساد، ولكنه سيجد من يدافعون عن هذا الكلام، أعرض إبراهيم عن هذا الشيء الذي يعرفون أنه كاذب فيه، وأتى له بشيء ثان أشد منه لا يقدر أن يدعيه، فقال له: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة:258]. وسار على حذوه فرعون بعد ذلك وقال للناس كما حكى الله عنه: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وقال كما حكى الله عنه: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51]، فإذا به يستخفهم فيصدقونه، فيفضحه الله سبحانه حين يغرقه في اليم ويرفع يديه ويدعو ويقول: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ} [يونس:90]، فما زعم أحد أبداً أنه رب إلا وفضحه الله سبحانه وتعالى وأظهر كذبه. قال سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت:61]، A أن الخالق واحد وهو الله سبحانه. إذاً: هنا العباد لا يختلفون في أمر الخالق، حتى ولو أنكروا بألسنتهم فإن القلوب تقر أنه خالقهم، ولكن في التوجه في العبادة: إلى من يتوجهون بالعبادة؟ ومن الذي يعبدونه؟ هنا يختلفون؛ فهؤلاء يعبدون شيئاً وهؤلاء يعبدون غيره إلا من هدى الله سبحانه إلى توحيده. قال سبحانه: {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [العنكبوت:61]، أي: إذا كانوا يعرفون الخالق سبحانه الذي يرزق والذي خلق السماوات والأرض والذي سخر الشمس والقمر وجعل الشمس تجري لمستقر لها، والقمر يدور مع الأرض وكل شيء بحساب وبقدر عنده تبارك وتعالى، فكيف يصرفون عن توحيد الله؟! وقوله: ((أَنَّى يُؤْفَكُونَ)) يؤفك بمعنى: يصرف ويمشي بعيداً ويضل، والمعنى: كيف ضلوا عن عبادة الله؟! وكيف صرفوا عن توحيد الله وقد عرفوا أنه الذي يخلق ويرزق سبحانه؟!

تفسير قوله تعالى: (الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له)

تفسير قوله تعالى: (الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له) قال الله سبحانه وتعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} [العنكبوت:62]. قوله: ((يَبْسُطُ)) أي: يوسع، ((وَيَقْدِرُ)) أي: يضيق، فالله عز وجل يفعل كل شيء بحساب، كما قال سبحانه وتعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا} [فاطر:2]، فإذا وسع وفتح وبسط فمن يقدر أن يمسك هذا الرزق؟ وهنا قال: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [العنكبوت:62]، أي: سواء كان مسلماً أو كان كافراً؛ لأن الدنيا لو كانت تساوي شيئاً لم يعط الكفار منها شيئاً، ولكن {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} [العنكبوت:62]، والله سبحانه وتعالى يضيق على من يشاء من خلقه، فلا يقل الإنسان: لماذا ربنا وسع لفلان ولماذا ضيق على فلان، مع أن فلاناً جيد ويصلي وهكذا وربنا مضيق عليه في الرزق؟! فهذا أمر الله سبحانه وتعالى؛ فإنه يعطي من يشاء ويمنع من يشاء: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، والدنيا لا تساوي شيئاً، فيضيق على فلان الذي يصلي والذي هو يعمل الصالحات؛ حتى يرفع درجاته عنده سبحانه وتعالى. إذاً: أنت وإن اعترضت في الدنيا فإنك في الآخرة تعرف الجواب حين ترى هذا الإنسان قد رفعه الله عز وجل درجات عظيمة، وحين ستر عليه ذنوباً كثيرة فعلها واستتر بها، فالله ضيق عليه في الرزق كشيء من العقوبة له؛ لتكفير السيئات ومغفرة الذنوب والزلات، فالله عز وجل يبسط ويقدر سبحانه، ولذا قال: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [العنكبوت:62].

تفسير قوله تعالى: (ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء)

تفسير قوله تعالى: (ولئن سألتهم من نزل من السماء ماءً) قال سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت:63]، من الذي ينزل من السماء ماءً؟ ومن الذي يرسل الرياح ويسيرها كيف يشاء؟ إنه الله سبحانه وتعالى؛ فإنه ينزل الغيث ويسقي به بلدة ميتة، وينزل الغيث ماءً كثيراً غدقاً غير رائث من فضله سبحانه وتعالى. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يطلب منه أصحابه أن يدعو ربهم أن يسقيهم، فإذا به يقف وهو في خطبته ويقطع الخطبة ويدعو ربه سبحانه، فإذا بالمطر ينزل من السماء، فمن الذي أتى بهذا المطر وهم يرون السماء صافية والشمس مشرقة وليس بينهم وبين جبل سلع من سحاب، فإذا بسحابة تنشأ وتتوسط السماء وتنزل على العباد رزقاً من عند الله سبحانه وتعالى؟ إنه الله وحده الذي ينزل الغيث، وقد زعم الكفار أنهم حاولوا ذلك وقدروا على شيء من ذلك! قالوا: ننتظر سحابة مليئة بالماء وحين تأتي نرمي عليها بشيء من صواريخ أو شيء من تراب أو حاجة تفجر هذه السحابة فتنزل الماء، فهنا يقال: ما الذي صنعوا من ذلك؟ ومن الذي جاء بالسحابة؟ ومن الذي خلقها؟ ومن الذي سيرها؟ ومن الذي ملأها بالماء؟ إنه الله، وهم حين يفعلون ذلك قد ينزل شيء من رذاذ المطر وقد لا ينزل شيء، فالله عز وجل هو الذي ينزل ما يغيث به العباد، ولم يذكر رذاذاً من المطر، إنما قال: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خبِيرٌ} [لقمان:34]. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة العنكبوت [63 - 66]

تفسير سورة العنكبوت [63 - 66] آيات الله تعالى الكونية الدالة على ألوهيته كثيرة، ولذا قرر الله بها المشركين، وجعلها برهاناً على كفرهم به سبحانه؛ لأنهم يعلمون أن الله هو الذي خلق السماوات والأرض، وأن الله بيده الرزق والنجاة من المهالك، وإذا بهم يشركون بالله ويعبدون غيره عند السراء والرخاء، وما ذلك إلا لأجل أن يتمتعوا بهذه الدنيا الفانية الزائلة، ويوم القيامة لن يفلتوا من عذاب الله ونقمته.

دلائل ربوبية الله

دلائل ربوبية الله الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة العنكبوت: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:63 - 66]. يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات وما قبلها عن دلائل ربوبيته سبحانه، وأنه وحده الرب الخالق الفعال لما يريد سبحانه، فإذا كان هو الرب الذي يخلق ويرزق وينزل من السماء ماءً فيحيي به الأرض بعد موتها، ويعلم ذلك الكفار كما يعلمه المسلمون، فليكن هذا الإله الواحد سبحانه هو الذي يعبد ليس غيره؛ ولذلك يبكت الله سبحانه هؤلاء المشركين ويقرع آذانهم بهذه الآيات، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت:61] فإذا كانوا يقولون: الذي سخر الشمس والقمر، والذي خلق السماوات وما فيها، والأرض وما عليها هو الله سبحانه الذي خلق كل شيء وهم يعرفون ذلك، فلماذا ينصرفون عن توحيده؟ ولماذا يعبدون غيره ويشركون به؟ {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [العنكبوت:61] يعني: تعجب من انصرافهم عن توحيد الله -الذي عرفوا أنه الإله وحده- إلى عبادة غيره. قال تعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [العنكبوت:62] الله يوسع ويبسط لمن يشاء، ويضيق على من يشاء، {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} [النجم:48] سبحانه وتعالى، أغنى: أعطى الغنى، وأعطى المال، وأعطى السعة، وأقنى: أفقر سبحانه وتعالى. فالله يغني من يشاء، ويفقر من يشاء، ويعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، وهو الذي بيده ملكوت كل شيء سبحانه، وهم يعرفون ذلك، فلماذا صرفوا عن توحيده وعن عبادته؟ فعجباً لهم!! قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت:63] وهذا شيء يشاهدونه ويعرفونه، فالأرض تكون مجدبة لا نبات فيها ولا ماء عليها، فيسألون الله سبحانه ويدعونه؛ فينزل من السماء ماءً، فإذا بالأرض تخرج زرعها وتخرج ثمارها؛ فيأكلون ويشربون ويتنعمون، ثم يشركون بالله ويجعلون رزقهم أنهم يكفرون بالله، ويستبدلون شكر الله سبحانه كفراً به. قال الله سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا} [العنكبوت:63] A { لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} [العنكبوت:63] شهدتم على أنفسكم، الحمد لله على نعمه وفضله، الحمد لله: الثناء الجميل على الله عز وجل بما هو أهل له من صفات كمال وجمال وجلال. {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} [العنكبوت:63] أحمده تبارك وتعالى على ذاته وكماله وصفاته سبحانه، وأشكره على آلائه ونعمائه: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [العنكبوت:63] يعني: يمشون في الأرض وينظرون إلى نعم الله وآياته فلا يفهمون أنه هو الذي يستحق العبادة وحده، فينصرفون عن توحيده، قال تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ} [الفرقان:44] لا عقول لهم يفهمون بها: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44].

تفسير قوله تعالى: (وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب)

تفسير قوله تعالى: (وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب) قال سبحانه: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} [العنكبوت:64] الحياة الدنيا: هي الحياة التي يحياها الإنسان، لذا سميت حياة، والدار الآخرة حياة، ولكن ليست كهذه الحياة، بل هي حياة أخرى؛ ولذلك يقول تعالى عنها: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت:64] يعني: دار الحياة الدائمة، ودار الإقامة الدائمة التي لا تفنى ولا تزول. فقال هنا: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} [العنكبوت:64] وعندما تقارن بين الدنيا وبين الآخرة فإنك تجد أن الدنيا لا تساوي شيئاً، قال تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} [العنكبوت:64] يعني: مهما جد الناس فيها، ومهما أخذوا بالأسباب فهم في لعب إذا قاسوا ذلك بالآخرة. ويوم القيامة يتذكر الناس هذه الحياة الدنيا فيقول بعضهم لبعض: كم لبثنا فيها؟ {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ} [الكهف:19] لم نقعد في هذه الدنيا إلا يوماً أو بعض يوم، {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} [طه:104]. يقولون: يا ترى كم لبثنا في هذه الدنيا؟ عشرة أيام مثلاً! ((يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا)) هو يوم واحد الذي لبثناه في الدنيا، لأنهم عندما يقيسون الدنيا بالآخرة يكون الفرق كبيراً جداً، فيوم القيامة وحده مقداره خمسون ألف سنة، والإنسان إذا عاش ستين سنة أو سبعين سنة أو أكثر أو أقل من ذلك، ثم أتى يقارنها بيوم مقدراه ألف سنة فإنه يرى أنه كان يلعب في هذه الحياة الدنيا، وعلى سبيل المثال عندما تقول: قارن بين الموظفين الذين يشتغلون في مصر، والموظفين الذين يشتغلون في الخارج، تجد الذي يشتغل في أمريكا يقول لك: أنا أشتغل من الصبح حتى الليل، وأرجع إلى البيت لأنام فقط، ولا أحس براحة أبداً، وأذهب إلى الشغل في اليوم الثاني، والموظف هنا في مصر يقول عن نفسه: أنا لا ألعب، بل أنا أشتغل وأتعب وأشقى، لكن عندما نقارنه بإنسان آخر يشتغل أحسن وأفضل منه ويشقى في عمله، نقول له: هذا الذي تفعله ليس عملاً إنما هو لعب. كذلك الحال عند مقارنة الدنيا بالآخرة، ففي الدنيا يذهب الإنسان ويأتي ويقعد ويقف وينام، أما في الآخرة فإنه سيقف خمسين ألف سنة بين يدي الله تبارك وتعالى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4]. وفي هذا اليوم من شدة وهول الموقف ينظر الناس إلى مناظر فظيعة، فيرون مانع الزكاة يؤتى بزكاته فتحمى في النار ثم يكوى بها في هذا الموقف، وإذا كانت من بهيمة الأنعام يؤتى بها كلها في قاع قرقر ويبطح لها هذا الإنسان فتمشي عليه الأنعام مدة خمسين ألف سنة، {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] حتى يرى مصيره إما إلى الجنة وإما إلى النار، فينظر الناس إلى ذلك وهم واقفون ينتظرون الحساب، وفصل القضاء بين العباد، ومن شدة هذا الموقف يقول بعض الناس: يا رب! اصرفنا ولو إلى النار، اصرفنا ولو إلى النار. فإذا تذكروا الدنيا يقولون: إنها دنيا دنية ما الذي كنا نعمل فيها؟ وما هو المرض الذي أصابنا في الدنيا؟ وما هو البلاء الذي جاء لنا في الدنيا؟ لا شيء لا شيء إذا قورن بهول هذا اليوم، فإذا دخلوا النار عرفوا حقيقة ما كانوا فيه من لعب ولهو في الدنيا، ومن تضييع وتفريط، وعرفوا قول الله سبحانه: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} [العنكبوت:64] الحياة الدنيا لهو يلهو فيها الإنسان، ولعب يلعب فيها الإنسان، فعندما يقول: أنا أعبد ربي في هذه الدنيا، فيقال له: انظر كم ساعة تنامها في اليوم؟ وكم ساعة تدخل فيها الخلاء؟ وكم ساعة تأكل فيها؟ وكم ساعة تتكلم فيها؟ وكم ساعة تصلي لله عز وجل؟ فلو جمعت وقت الصلوات كلها في اليوم فستجد أنه لا يساوي شيئاً مقابل أربع وعشرين ساعة هي مجموع ساعات اليوم الواحد، وقد يقف الإنسان يتكلم مع أصحابه ويضحك ساعات طويلة، فإذا جاء إلى عبادة الله عز وجل إذا به يتضجر بسرعة. فيستشعر العبد يوم القيامة أنه كان في لهو ولعب، إلا الذين اتقوا الله سبحانه وتعالى، وعرفوا أن الأعمار غالية، وأن الدنيا لن تأتي مرة ثانية، فانتهزوا هذه الدنيا وخافوا على أعمارهم أن تضيع سدى وهباءً، فإذا بهم يعملون في هذه الدنيا بكل وسيلة وحيلة يتقربون فيها إلى الله عز وجل، بالليل يقومون لله سبحانه وتعالى، فإذا ناموا كانت نيتهم ليقوموا لله عز وجل، وليعبدوا الله سبحانه وتعالى، ولعل أحدهم يتمنى لو أنه لا ينام، وأنه يقدر على أن يتفرغ الليل والنهار لعبادة الله سبحانه وتعالى، حتى كان بعض السلف يقول لله من كثرة صلاته واستمتاعه بصلاته: يا رب! إن كنت جعلت لأحد يصلي في قبره فاجعلني أصلي في قبري! من كثرة ما استمتع بالصلاة بين يدي الله سبحانه وتعالى، وكانوا يصومون لله سبحانه ويستمتع أحدهم بصيامه في الهواجر كما يستمتع أحدنا بإفطاره وشرب الماء البارد في اليوم الحار، وقد عرفوا الثواب العظيم من وراء ذلك، عرفوا أن الذي يصوم يوماً يبعد عن النار بمقدار سبعين خريفاً، فالمؤمنون المتقون المحسنون عرفوا أن الأعمار فرصة لا تعوض، فانتهزوا ليلهم ونهارهم، كانت هممهم عبادة الله عز وجل في كل حال، تجد الشخص في قيامه في نومه في عمله يعبد الله عز وجل. فعندما تذهب إلى عملك تحسن عملك وتتقنه؛ لأنك تعلم أن الله يراقبك، فتؤجر على ذلك، تتعب وتشقى في العمل، وترجع إلى بيتك وقد كلت يداك من كثرة العمل؛ فيأجرك الله سبحانه حتى اللقمة تجعلها في فيّ امرأتك يكون لك أجر في ذلك. فكان عملك عبادة بهذا المعنى، تصلي لله سبحانه، وتصوم لله، ولذا تجد بعض الناس يترك الصلاة والصوم ويقول: أنا أعمل للأولاد والعمل عبادة وهو مفرط في حق الله سبحانه، فلابد أن يأتي بالواجبات والفرائض كما أمر الله سبحانه، ويعمل عمله الذي هو عليه فرض ليطعم نفسه ويكفي عياله، ويتقن في عمله حتى يكسب من حلال فيدعو ربه سبحانه، فيستجيب الله عز وجل له. فالحياة الدنيا لهو ولعب إلا ما كان فيها من ذكر لله، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها)، الدنيا لا تساوي شيئاً، ولا تستحق إلا أن تكون ملعونة ملعوناً ما فيها: (إلا ذكر الله وما والاه). الإنسان الذاكر لله عز وجل هو الذي يستحق رحمة رب العالمين، قال تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45] فالذكر من العبادات لله عز وجل التي خلق الإنسان من أجلها: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]. قال سبحانه وتعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} [العنكبوت:64] إذا كان في عمل للدنيا، أما إذا كان لله فهو الجد كل الجد، قال تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت:64] دار الحياة الباقية التي لا تزول ولا موت فيها: {لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64] هم لم يعلموا، ولكن هي الآخرة سوف يعلمون ذلك. والله عز وجل يقول: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64] وكأن العلم هنا علم آخر غير العلم الذي هو بمعنى المعرفة، فالعلم هنا: هو اليقين المنافي للشك، فلو بعد عن قلوبهم الشك، وعرفوا أنهم راجعون إلى الله، وأنه مجازيهم لكانوا يعلمون: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الأنعام:37]، بمعنى: لا يعلمون علماً يدفعهم إلى العمل ويمنعهم عن المعاصي.

تفسير قوله تعالى: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين)

تفسير قوله تعالى: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين) قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:65] يذكرهم بنعمه عليهم سبحانه إذا ركبوا في السفينة أو في المركب: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:65] وهنا دلالة الاقتضاء تقتضي أن هنا شيء محذوف، والتقدير: إذا ركبوا في الفلك، ثم هاجت الأمواج والرياح، وتلاطمت بهم الأمواج، إذا بهم يخافون من الغرق: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [يونس:22 - 23]. وهذه عادة الإنسان في وقت شدته يقول: يا رب! يا رب! وفي وقت رخائه ينسى ربه سبحانه وتعالى، وهنا يقول الله: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ} [العنكبوت:65] مشيراً إلى شدتهم، ففي وقت شدتهم: {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ} [العنكبوت:65] يا رب! نجنا يا رب! نجنا: {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:65]، فتوجهوا إليه وحده، فلما كانوا في الفلك وجاءت الريح العاصفة: {ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:67] فدعوا الله وحده سبحانه. ثم قال: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65] إذا هم يشركون بالله فيدعون غير الله سبحانه، وكان أهل الجاهلية على ذلك، وكذلك الكثيرون من الناس اليوم على ذلك، فحينما يشتد بهم الكرب يقولون: يا رب يا رب! فإذا انتهى الأمر يقول أحدهم: يا سيدي فلان! يا سيدي فلان! ويدعون غير الله سبحانه وتعالى، وقد عرفنا قصة عكرمة لما فر من النبي صلى الله عليه وسلم وكره أن يدخل في هذا الدين العظيم، وركب في السفينة، فإذا بالبحر يعلو، والريح تشتد، ويأتي ربان السفينة ينادي على الناس: إنه لا ينجيكم إلا الله، ادعوا الله، فهنا جاء التوحيد، عرفوا الله عز وجل وهم في السفينة، وكان أهل السفينة مشركين، فـ عكرمة بن أبي جهل فكر في ذلك، وسبحان من يمن على من يشاء بفضله سبحانه، أبوه أبو جهل ذاك الملعون الذي حارب النبي صلى الله عليه وسلم حتى قتله الله عز وجل في يوم بدر، وصار إلى لعنة الله وناره، وهذا ابنه عكرمة كاد يكون كأبيه ولكن أدركته رحمة رب العالمين سبحانه. فركب البحر فاراً من النبي صلى الله عليه وسلم، لا يطيق أن يكون في مكان مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما ركب وعلت الأمواج وقال ربان السفينة: إنه لا ينفعكم ولا ينجيكم إلا الله، فإذا به يتدبر في الأمر ويتفكر: إذا كان لا ينجينا في البحر إلا الله فلا ينجينا في البر إلا الله. فلا يستحق أن يعبد إلا الله، وأخذ على نفسه عهداً لئن أنجاه الله عز وجل ليذهبن إلى النبي صلى الله عليه وسلم وليبايعنه، وليجدنه رءوفاً رحيماً، فكان أن أنجاهم الله، وذهب عكرمة للنبي صلى الله عليه وسلم، وسلم عليه بالإسلام وأسلم رضي الله تبارك وتعالى عنه.

تفسير قوله تعالى: (ليكفروا بما آتيناهم)

تفسير قوله تعالى: (ليكفروا بما آتيناهم) قال سبحانه في الكثيرين من هؤلاء: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65] إذا هم يدعون غير الله سبحانه، {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:66] واللام هنا إما لام كي أي: لكي يكفروا، يشركون لكي يجحدوا ربهم سبحانه ويعبدوا غيره، {وَلِيَتَمَتَّعُوا} [العنكبوت:66] لكي يتمتعوا بهذه الدنيا الحقيرة باللهو واللعب، ثم يرجعون إلى الله. وإما أن اللام لام العاقبة، ويكون معنى: (ليكفروا بما آتيناهم): يشركون لتكون العاقبة كفرهم بالله سبحانه وتعالى، وتمتعاً قليلاً ثم يصلون إلى النار بعد ذلك. وإما أن اللام لام الأمر، وكسرت وقرئت أيضاً بالسكون على أنها لام الأمر، فقرأها بالكسر قالون عن نافع، وقرأها ابن كثير وحمزة والكسائي وخلف: (ولْيتمتعوا) بالسكون، وبقية القراء قرءوها بالكسر مثل قراءة حفص عن عاصم، وقراءة ورش عن نافع: (ولِيتمتعوا فسوف يعلمون) بالكسر. فعلى قراءة السكون تكون بمعنى: التهديد من الله، مثل قوله سبحانه وتعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت:40] فليس المعنى التخيير أي: الذي تريدونه اعملوه، بل هذا تهديد، أي: اعمل وستعرف بماذا أجازيك، فهذا تهديد ووعيد من الله سبحانه. كذلك على قراءة الكسر يأتي فيها ذلك المعنى؛ لأن أصل لام الأمر السكون، فعلى ذلك يكون المعنى حتى في الكسر أيضاً التهديد من الله عز وجل لهؤلاء: (ولِيتمتعوا فسوف يعلمون) فسوف يعلمون ماذا سيحدث لهم في الدنيا وفي قبورهم ويوم القيامة يوم يبعثون. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة العنكبوت [65 - 69]

تفسير سورة العنكبوت [65 - 69] يحفظ الله عباده ويغيثهم عند الشدائد، ومع ذلك يشركون به سبحانه في الرخاء، ويحذر الله من كفرهم وضلالهم وتكذيبهم للحق وافترائهم عليه سبحانه بالكذب، والجهاد في الله ومن أجل الله سبب في معية الله وهدايته عبده المحسن إلى طريق الرشاد.

تفسير قوله تعالى: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فسوف يعلمون)

تفسير قوله تعالى: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فسوف يعلمون) الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في آخر سورة العنكبوت: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ * وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:65 - 69]. في هذه الآيات الأخيرة من سورة العنكبوت يخبرنا الله عز وجل عن عظيم فضله على عباده، أنه هو الذي خلقهم وأنه هو الذي رزقهم، وأنه هو الذي نزل لهم من السماء ماءً فأحيا به الأرض بعد موتها، وأنه هو الذي ينجيهم في البر والبحر، فإذا ركبوا في الفلك فارتفعت عليهم الأمواج، وهاجت بهم الرياح، فلا يجدون ملجأً من الله إلا إليه، فيدعون الله مخلصين له الدين، متجردين له وحده لا شريك له بالعبادة، ويتركون آلهتهم والأنداد التي اتخذوها من دون الله عز وجل، ويتوجهون إليه وحده بالعبادة، فيدعونه مخلصين له الدين، فلما نجاهم إلى البر يرجعون مرة ثانية إلى شركهم بالله سبحانه، فليفعلوا ذلك، قال الله تعالى: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:66]. وهذا تهديد ووعيد من الله سبحانه لهؤلاء الكافرين، فهو يقول لهم: اكفروا بما شئتم، وتمتعوا بما شئتم، وانتظروا ما يأتيكم به الله عز وجل من عذاب فسوف تعلمون. وهذه الآية قد تكرر معناها في القرآن ثلاث مرات، فقد قال الله تعالى في هذه السورة سورة العنكبوت: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:66]، وقال الله عز وجل في سورة النحل وفي سورة الروم: {فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [النحل:55]، فالله عز وجل يقول للكفار: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:66]، أي: تمتعوا بما شئتم في هذه الدنيا، فإنها لا قيمة لها، فلو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء، فمن الأشياء التي يحسدهم عليها الناس، أن أعطاهم الله من المال وأعطاهم من النعم، وأعطاهم من البنين، وأعطاهم من القوة في أجسادهم، وأعطاهم من الثياب والرياش، وأعطاهم ما يتنعمون به، وهذا دليل على أن الدنيا حقيرة، فلو كانت تساوي شيئاً عند الله لما أعطى هؤلاء منها شيئاً.

تفسير قوله تعالى: (أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا)

تفسير قوله تعالى: (أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً) قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا} [العنكبوت:67]، أي: هؤلاء الكفار، ألم يروا آية من آيات الله عز وجل فيهم وفي بلدتهم مكة تدلهم على ربهم وخالقهم سبحانه، مقدر الأقدار الذي يكفرون به ويشركون به، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} [العنكبوت:67]، لماذا جعل الله مكة وحدها آمنة وكل الناس من حولهم يتخطفون؟ من الذي جعل هذا البلد بلداً آمناً؟ يأتي الناس إليه من كل مكان، ويحجون بيت الله سبحانه وتعالى، ويكونون آمنين وهم فيه، وفي رحلاتهم من بلادهم إلى الحرم لا يكونون آمنين، فإذا جاءوا إلى الحرم أمنوا، وقد يلقى الرجل قاتل أبيه وقاتل أخيه في الحرم ولا يتعرض له بشيء، كل هذا في الجاهلية، وهذا تحريم قدري من الله سبحانه وتعالى. أليست هذه آية من الآيات التي تدلهم على نعم الله عز وجل عليهم، فأنتم في بلادكم في أمان، ومن يأتي إلى بلادكم يستشعر فيها الأمان، فإذا خرجوا من عندكم يتخطف الناس من حول هذا البلد العظيم، أو من حول سكان هذا البلد. والخطف: هو الأخذ بسرعة، فالناس من حولهم يتخطفون بالقتل والغصب وغير ذلك، ويؤخذون، وكانت عادة العرب الإغارة، أي: أن يغير بعضهم على بعض، ويقتل بعضهم بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً، ولا يهتمون لذلك، فهم معتادون على هذا الشيء. فإذا جاءت الأشهر الحرم كفوا وسكتوا وانتظروا حتى تمر الأشهر الحرم، ولعلهم يتعجلون خروج هذه الأشهر الحرم فيغيرون أسماءها، فإذا جاء عليهم شهر محرم فلا بد أن يحرموا، وشهر محرم بعد ذي القعدة وذي الحجة، فيقولون: نلغي المحرم في هذه السنة، ونجعل اسمه صفراً، فيسمونه صفراً؛ ليغير بعضهم على بعض، ومن أجل أن يقاتل بعضهم بعضاً، ويأخذوا أموال بعض، ويسبي بعضهم نساء بعض فيه، أما في مكة فلا أحد يجرؤ أن يفعل ذلك، وقد رأوا آيات الله سبحانه، ومن أعظم ما رأوه حين جاء أبرهة من اليمن إلى مكة ليهدم الكعبة، ومعه الفيلة يريد بها هدم الكعبة بيت الله سبحانه وتعالى، فأرسل الله عليه وعلى جيشه طيراً أبابيل، قال تعالى: {تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:4 - 5]. وقد رأى أهل مكة ذلك؛ فخاف الناس كلهم من هذا المكان، وعرفوا أنه المكان الآمن، فهو بيت الله عز وجل، وأن له رباً يحميه، هذه الكلمة العظيمة قالها عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبرهة، فقد قال له: جئت أسأل عن إبلي، أما البيت فله رب يحميه، أي: لن تستطيع أن تعمل شيئاً في هدم البيت، ومن الممكن أن تفعل في إبلي ما تشاء؛ ومن أجل هذا جئت أطلب إبلي التي أخذتها، أما البيت فلن تقدر عليه. وأخذ إبله، وخرج أهل مكة ينظرون كيف سيدافع الله عز وجل عن حرمه وعن بيته، فزلزل الله أبرهة وجيشه وهزمهم سبحانه، بأن أرسل عليهم طيوراً ترميهم بحجارة من نار، فجعلهم كعصف مأكول. قال الله سبحانه: {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت:67]، أي: بالشيطان، وبالكفر بالله سبحانه، وبما يشركونه بالله عز وجل من آلهة وأنداد، قال تعالى: {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} [العنكبوت:67]، أي: يكفرون بنعم الله عز وجل، والقرآن نعمة من الله عز وجل، والتوحيد، أن يعلمهم التوحيد ليكونوا من أهل الجنة نعمة من الله سبحانه؛ ولذلك أهل الجنة يقولون عن هذا الدين العظيم حين يدخلون الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43]. فمنة من الله وكرم منه سبحانه أن يهدي العباد إلى جنته، قال سبحانه: {وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} [العنكبوت:67]، هكذا ذكرت هنا، وفي النحل وفي غيرها قال الله تعالى: {وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} [النحل:72]، أي: أيكفرون بنعمة الله وينسون توحيده وشكره سبحانه؟

تفسير قوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا)

تفسير قوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً) قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ} [العنكبوت:68] كذب الكفار على ربهم سبحانه وتعالى، وزعموا أن هذا القرآن ليس كلام رب العالمين، إنما يعلمه بشر، وإنما يعلمه رجل باليمامة اسمه الرحمن، وإنما يعلمه رجل أعجمي، فكذبوا وافتروا على الله الكذب، وكذبوا على النبي صلوات الله وسلامه عليه. ولمَّا أخبرهم الله عز وجل عن هذا المكان الآمن، كيف أمنهم فيه، وجعل الناس من حولهم يخطف بعضهم بعضاً، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: {إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص:57]، كما في سورة القصص، فقال الله سبحانه: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ * وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} [القصص:57 - 58]. فقد كذبوا بما يقوله الله سبحانه وتعالى، وقد أمنهم في ديارهم، فقالوا: سنتخطف من أرضنا، لا نستطيع أن نؤمن معك لكيلا نتخطف من أرضنا، وقد أخبرهم الله عز وجل بأنهم آمنون، قال تعالى: ((أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا))، فما الذي سيجعلكم تتخطفون من دياركم؟ وما الذي سيجعل الكفار يأتون إليكم إذا أسلمتم وأنتم في بلادكم؟ والله يدافع عن حرمه وعن بلده سبحانه وتعالى. قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [العنكبوت:68]، فادعى لله الصاحبة، وادعى لله الولد، أو كذب بالحق وبالقرآن الذي جاء من عند رب العالمين، قال تعالى: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [العنكبوت:68]، فقوله: ((أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ))، استفهام، والمعنى فيه التقرير، أي: أنه فعلاً فيها، والمثوى: دار الإقامة، والمستقر أي: أليس في جهنم مستقر للكافرين؟ بلى، فيها المستقر للكافرين، يستقرون فيها ولا يخرجون منها أبداً، ولا يموتون ولا يحيون فيها، لا حياة كريمة، ولا موتاً يريحهم، وإنما العذاب الأليم.

تفسير قوله تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)

تفسير قوله تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) أما المؤمنون الصالحون المجاهدون في سبيل الله عز وجل، فقد مدحهم الله عز وجل في كتابه، وأعد لهم الجنات العظيمة كما تقدم قبل ذلك، وهنا يخبر بمعيته سبحانه لهؤلاء حيث يبين الله أنه مع هؤلاء المؤمنين المتقين المحسنين، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]، أي: لنهدينهم طرق الحق، فمن جاهد في الله هداه الله عز وجل، ومن جاهد في الله ثبته الله عز وجل، ومن جاهد في الله علمه الله، من جاهد في الله كان محسناً، وكان الله معه سبحانه، قال تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69]، فهو سبحانه يؤكد ذلك، فكن محسناً، والإحسان كما جاء في حديث جبريل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، فإن لم تكن أنت ترى الله عز وجل فالله يراك، فلا بد أن تراقب الله سبحانه وتعالى، وتعبده كأنك تراه. ففي هذه الآية قد أخبرنا الله أنه مع المحسنين الذين جاهدوا في الله عز وجل، فجاهد في سبيل الله حتى يهديك الله سبحانه، ويبين لك السبل، والجهاد جهاد النفس، وجهاد الشيطان، وجهاد الهوى، والجهاد في طلب العلم الشرعي، وجهاد الكفار والمنافقين، وكل بحسب ما يستحقه من نوع الجهاد. وإذا اتقى العبد ربه وأحسن في عبادته لله، فإن الله عز وجل يكون معه. ويقول تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282]. وجاء عن عمر بن عبد العزيز رضي الله تبارك وتعالى عنه أنه قال: إنما قصر بنا عن علم ما جهلنا تقصيرنا في العمل بما علمنا، فانظروا إلى الكلام العظيم الجميل للإمام عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، لقد كان عمر بن عبد العزيز من العلماء، ومع ذلك من تواضعه يقول: إنما قصر بنا ودفعنا إلى الجهل ومنعنا من العلم تقصيرنا في العمل. وكان الإمام محمد بن مسلم بن شهاب الزهري رضي الله عنه يقول: ما احتقرت نفسي عند أحد - يعني من العلماء - إلا عند عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، هذا هو ابن شهاب الزهري الذي يقول علماء الحديث: حديث لا يعرفه الزهري فليس بحديث، فـ الزهري عالم عظيم من أعلم الناس بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أحفظ الناس وأتقنهم، ومع ذلك يقول: إنه لم يحقر نفسه عند أحد من العلماء أبداً، فكل العلماء يراهم دونه رضي الله عنه، إلا عمر بن عبد العزيز، فقد كان عمر بن عبد العزيز عالماً عظيماً، وكان إماماً رضي الله تبارك وتعالى عنه، فيرى نفسه أنه أقل من عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه. إن عمر بن عبد العزيز حين توفي لم يتجاوز بضعة وأربعين سنة، رضي الله تبارك وتعالى عنه، ومع ذلك كان الخليفة العادل الذي لم تشغله الخلافة عن العلم الشرعي، ولم يشغله شيء عن العلم الشرعي، وإنما تجرد لله سبحانه وتعالى، وعمل لله، فكان الخليفة الراشد رضي الله تبارك وتعالى عنه. يقول عمر بن عبد العزيز: إنما قصر بنا عن علم ما جهلنا -أي: الذي دفعنا للجهل ونحن لا نعرف مزيداً من العلم- قال: تقصيرنا في العمل بما علمنا، ولو عملنا ببعض ما علمنا، لأورثنا الله علماً لا تقوم به أبداننا. إذاً: العلم ليس الحفظ والتحصيل فقط، بل العلم هو العمل به، فالإنسان يعمل بما علم، وكلما علم عمل بما علم، فالله عز وجل يفتح له علوماً أخرى غير التي عمل بها، فيقول عمر رضي الله عنه: لو عملنا ببعض ما علمنا، لأورثنا الله علماً لا تقوم به أبداننا، قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282]. يقول أبو سليمان الداراني: ليس الجهاد في الآية قتال الكفار فقط، بل هو نصر الدين والرد على المبطلين، والمعنى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]، من نصروا دين الله عز وجل بكل وسيلة لنصر دين الله عز وجل، من جهاد بقوة وسلاح وسيف وسنان، ودعوة باللسان، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، يقول الداراني: ليس الجهاد في الآية قتال الكفار فقط، بل هو نصر الدين، والرد على المبطلين، وقمع الظالمين، وأعظمه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. أي: أن أعظم شيء في الجهاد هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنه مجاهدة النفس في طاعة الله عز وجل، وهو الجهاد الأكبر، فالإنسان المسلم إذا جاهد نفسه استطاع أن يجاهد أعداءه، أما إذا كان لا يجاهد نفسه، وإذا كان يتبع هواه وشهواته، فإنه لا يقدر أن يجاهد أعداء الله سبحانه وتعالى. أيضاً جاء عن سفيان بن عيينة، أنه وصى ابن المبارك رضي الله عنهما، فقال: إذا رأيت الناس قد اختلفوا فعليك بالمجاهدين وأهل الثغور، فإن الله تعالى يقول: {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]، وابن المبارك وما أدراك من ابن المبارك رضي الله عنه! كان إماماً عظيماً عالماً فقيهاً محدثاً، عالماً بالقرآن، حتى قالوا: إنه كان إماماً في تسع عشرة خصلة من الخصال، فقد كان إماماً في الفقه، وإماماً في القرآن، وإماماً في الجهاد في سبيل الله عز وجل، وإماماً في العمل، وإماماً في الزهد، وإماماً في الحديث، وإماماً في أشياء كثيرة، رضي الله تبارك وتعالى عنه، فكانت وصية سفيان بن عيينة لـ ابن المبارك نافعة له، يقول له رضي الله تبارك وتعالى عنه: إذا رأيت الناس قد اختلفوا، وأردت أن يوفقك الله للحق، فعليك بالمجاهدين وأهل الثغور، أي: كن مع المجاهدين، وكن مع أهل الثغور، فالله يهديك لما يحبه سبحانه، وما اختلف الناس فيه، قال: فإن الله يقول: {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]، قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69]. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا مع هؤلاء. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الروم

تفسير سورة الروم [1 - 3] سورة الروم إحدى السور المكية التي تتميز بخصائص السور المكية، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى فيها عن معجزات غيبية تحققت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعد عهده، فهذا القرآن هو المعجزة الكبرى للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن أهل الزيغ والضلال معرضون عن ذلك.

بين يدي سورة الروم

بين يدي سورة الروم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الروم: بسم الله الرحمن الرحيم، {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} [الروم:1 - 4]. هذه السورة الثلاثون من كتاب الله سبحانه وتعالى، وهي سورة الروم، وسميت بسورة الروم؛ لأنه بدأ بذكر الروم فيها، قال تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ}، ثم ذكر أنهم سيغلبون بعد بضع سنين. سورة الروم من السور المكية، وهي سورة عجيبة وفيها معجزة للنبي صلوات الله وسلامه عليه، بل معجزات في هذه السورة العظيمة، وهي تحتوي على خصائص السور المكية من ذكر نبوءة النبي صلوات الله وسلامه عليه، وذكر توحيد الله سبحانه، وذكر من عبدوا غير الله سبحانه وتعالى، وفيها ذكر نعم الله سبحانه وتعالى على العباد، وفيها مقتضى ربوبيته سبحانه وتعالى، وكيف أنه إذا أعطى العباد رحمة من عنده سبحانه إذا بالعباد يفرحون، وقد يصل بهم فرحهم إلى الفخر، وإلى الغرور والاستكبار، وإذا أذاقهم شيئاً من الضر إذا بهم يقنطون، فالإنسان عجيب في تقلبه بين حالة الفرح الشديد الذي يدعو إلى الزهو والخيلاء والاستكبار، فيبتعد عن عبادة الله سبحانه، وبين أن يقنط إذا جاءه شيء مما يسوءه. ويذكر الله عز وجل في هذه السورة رزق الله سبحانه، وأنه هو الذي بيده الرزق، وأنه يقبض ويبسط سبحانه وتعالى، وفيها الحث على إيتاء ذي القربى حقوقهم واليتامى والمساكين وغير ذلك. وفيها إشارة إلى تحريم الربا، فقال الله سبحانه تبارك وتعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم:39]. كذلك فيها بيان ربوبية رب العالمين سبحانه، وأنه الرب الذي يخلق، والذي يرزق سبحانه تبارك وتعالى، والذي يحيي، والذي يميت، والذي يبعث عباده سبحانه، قال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الروم:40]، هل هناك شريك آخر يفعل مثل الذي يفعله الله سبحانه؟ حاشا لله سبحانه، {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الروم:40]. كذلك يخبر سبحانه عن سبب استحقاق العباد لعقوبة رب العالمين سبحانه وتعالى، أنهم إذا كسبوا بأيديهم المفاسد ظهر الفساد فعم الجميع، واستحقوا عقوبة الله، قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} [الروم:41]، فإذا اكتسب الناس السيئات استحقوا أن يعمهم الفساد ويأتيهم من عند ربهم العذاب، وفيها أيضاً الأمر بالتوجه إلى عبادة رب العالمين سبحانه، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} [الروم:30]، وقال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} [الروم:43]. وفيها الإشارة إلى اليوم الآخر، وأن الله سبحانه وتعالى يفصل بين العباد في هذا اليوم، قال تعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [الروم:45]. وفيها ذكر إرسال الرسل، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]، ففيها الوعد من الله سبحانه للمؤمنين بأن الله ينصرهم سبحانه، وأنهم مهما كانوا ضعفاء فلا بد أن يأتي عليهم وقت ينصرهم الله سبحانه، كما أن الأرض تكون ميتة، فينزل الله عليها الغيث فيحييها بعد ما يئس أهلها من ذلك، ولذلك يقول الله سبحانه: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} [الروم:48]، ثم قال: {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم:50]، فإذا أحيا الأرض بعدما كنتم تتوقعون أن لا حياة بها، وأنها لا تحيا، فكذلك قد يأتي على المسلمين زمن فيه شدة، وفيه تعذيب، وفيه ضيق، فإذا بالله ينزل رحمته، كما ينزل الغيث على الأرض فيحييكم، ويردكم قاهرين غالبين بعدما كنتم مهزومين مغلوبين. كذلك أشار الله عز وجل في هذه السورة إلى ضعف الإنسان ومراحل عمره، فقال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الروم:54]، سبحانه وتعالى {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم:54]. كذلك أشار إلى ما يكون يوم القيامة من وقوف المجرمين بين يدي رب العالمين سبحانه، قال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} [الروم:55]، ثم ذكر الله سبحانه أنه في يوم القيامة لا ينفع الظالمين اعتذارهم ولا عتبهم. كذلك يخبر الله سبحانه أنه في هذا القرآن العظيم ضرب الأمثلة للناس لعلهم يتذكرون بهذه الأمثلة، ولكن من طبع الله على قلبه لا يفيق ولا يرجع ولا يتذكر. ثم أمر نبيه صلوات الله وسلامه عليه بالصبر على ما هو فيه هو والمؤمنين، قال: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم:60]. فهذه العبر الموجودة في هذه السورة تبين لنا أن هذه السورة فيها تصبير للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين على ما هم فيه من أذى هؤلاء الكفار، والسورة ستون آية، والبعض يعدها تسعة وخمسين آية؛ والخلاف في العد كما ذكرنا قبل ذلك مبني على معرفة وقف النبي صلى الله عليه وسلم، وأين وقف صلى الله عليه وسلم؟ فبحسب قراءته صلى الله عليه وسلم ووقفه يعدون رأس الآية، فيقولون: هذه الآية الأولى، هذه الثانية، هذه الثالثة، ولذلك لا يوجد خلاف إلا في مواطن، فالبعض عدها آية، وجعل الوقف عليها رأس آية، والبعض لم يعدها، والخلاف في العد في خمس مواطن في هذه السورة. في الموطن الأول: {الم} [الروم:1]، هذه عدها البعض آية، والبعض عدها تابعة للآية التي تليها، فممن عدها آية: الكوفيون، فيقرءون: {الم} [الروم:1]، ويقفون، على أنها رأس آية، {غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم:2]، وغيرهم يقرءون: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم:1 - 2]، على أن الآيتين آية واحدة، فهذا من الخلاف فيها. كذلك في قوله سبحانه: {غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم:2]، البعض عد الوقف عندها آية، والبعض الآخر يعدها تابعة لما قبلها. كذلك في قوله: {فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم:4]، عند المدني الآخر وكذلك عند الكوفيين أنها ليست آية، ولكنها وقف، وعند غيرهم أنها آية، فيقفون عليها: {فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم:4]. كذلك قوله سبحانه: {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم:3]، عدها الكوفيون آية، وغيرهم يعدونها أنها ليست آية وهي مما بعدها. كذلك قوله سبحانه: {يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم:55]، البعض يعد هنا الوقف على أنها آية، والبعض لا يعدها آية، والغرض أن الوقف الذي وقفه النبي صلى الله عليه وسلم في أماكن فبناء على سماعهم من النبي صلى الله عليه وسلم ووقفه البعض عد هذه آية، والبعض عدها أنها آية مع الذي يليها.

تفسير قوله تعالى: (الم.

تفسير قوله تعالى: (الم. غلبت الروم) السورة بدأها الله عز وجل بقوله: {الم} [الروم:1] أي: هذه الحروف من اللغة العربية التي تقرءونها، والتي تكتبونها، والتي تقولون بها خطبكم وشعركم ونثركم، فإن هذا القرآن من هذه الحروف، {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23]، أي: هاتوا مثل هذا القرآن، فالقرآن لم نأت به بحروف أعجمية، بل هو من حروف تقرءونها وتكتبونها. قال تعالى: {الم} [الروم:1]، ففيها التحدي من الله عز وجل لعباده، هاتوا مثل هذا القرآن من مثل هذه الحروف. قال تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم:2 - 4]، وقال تعالى في سورة يوسف: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]، فالله يطمئن المؤمنين أن الظلم وإن استمر فترة فإنه ينتهي، ولابد أن يأتي نور الله سبحانه وتعالى وعدله وحكمه سبحانه وتعالى. وفي هذه الآية معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بشيء سيكون، وقد كان عند الناس بالمعايير البشرية وبالمقاييس التي هم فيها مستحيل أن يحدث هذا الشيء، والله عز وجل يخبر في وقت ضيق المسلمين أن هذا سيحدث ولن يكون بعيداً، بل سيكون في بضع سنين! قال تعالى: {لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} [الروم:4] أي: يفرح المؤمنون بنصر الله، فالمؤمنون كانوا مضطهدين من قبل أهل الشرك، فأهل مكة كانوا مشركين، وكانوا يضطهدون المسلمين، ويؤذونهم ويعذبونهم، فكان المسلمون ينتظرون فرج الله سبحانه وتعالى ونصره، وقد أراهم الله عز وجل واقعةً بين الدولتين العظميين اللتين كانتا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، دولة الفرس ودولة الروم، فقد جارت دولة الفرس على دولة الروم فإذا بهم يغلبونهم ويهزمونهم هزيمة منكرة، وكانت هزيمة فظيعة للروم، وكان الروم أهل كتاب نصارى، أما الفرس فقد كانوا عباد النيران؛ لذلك كان ميل المشركين من قريش إلى الفرس؛ لأن المشركين يعبدون الأصنام والفرس يعبدون النيران، فالأمر قريب من بعضه، فكلهم يعبدون غير الله، فلذلك فرح المشركون بانتصار الفرس؛ لأنهم مثلهم لا كتاب عندهم من رب العالمين، ففرحوا وأغاظوا المسلمين، وأخبروا المسلمين أنهم وثنيون، وسينتصرون عليهم وإن كانوا هم أهل كتاب، كما انتصر الفرس وهم وثنيون على الروم وهم أهل كتاب، فأنزل الله آيات يطمئن فيها المؤمنين أن ذلك لن يدوم، إنما هي سنون قليلة، وتنتصر الروم على الفرس، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، ونزل القرآن بهذا المعنى بقوله تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم:2 - 4]، أي: في بضع سنين وسينتصر الروم مرة ثانية. فإذا بالمشركين يستهزئون بذلك، كيف ينتصر الروم وقد هزموا؟ وكانت المعايير الموجودة والمقاييس البشرية أن هذا مستحيل أن يحدث، كان هذا الكلام في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في الزمن المكي سنة ستمائة وعشرين ميلادية، ففيها هزمت الروم على أيدي الوثنيين أهل الفرس عباد النيران، وكانت الخسائر جسيمة جداً على الروم جراء هذه الهزيمة، حتى قالوا: لن تقوم لدولة الروم قائمة بعد ذلك، فإن الفرس أخذوا أطرافاً من بلاد الروم، وقد أغار على الروم أناس من الشمال أيضاً يقال لهم: الآفار والسلاف واللمبارديون وغيرهم، وكأن الدنيا كلها تكالبت على الروم، فلذلك قالوا: لن تقوم للروم قائمة بعد ذلك. فجمع الروم الأموال للدفاع عن أنفسهم فقط وليس للغزو، فقد جمعوا كل الأموال الموجودة في مملكة الروم للدفاع عن أنفسهم، فوصل الأمر بهم إلى أخذ كل الأموال التي مع الناس، ومع ذلك لم تكف هذه الأموال للدفاع ولشراء العدد، فجمعوا الذهب والحلي والبرنز ليصيغوه أموالاً ينتفع بها الجيش للدفاع عن أنفسهم، حتى لا تضيع دولة الروم، وفي هذا الوقت الذي استشعر فيه الروم أنهم ضائعون وأن البلاد ضائعة يخبر الله المؤمنين أن دولة الروم لن تضيع، بل سيغلبون في يوم من الأيام، فانتظر المؤمنون ذلك؛ لأن الروم أقرب إليهم من هؤلاء المشركين، فبذلك قال الله عز وجل للمؤمنين أنه: {مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} [الروم:3 - 4]. ثم بعد ذلك سيفرح المؤمنون بنصر الله سبحانه وتعالى، فأنجز الله عز وجل وعده يوم بدر بنصر المسلمين، وانتصر الروم في هذا اليوم على الفرس نصراً عجيباً جداً، فالله سبحانه إذا أراد شيئاً لا أحد يستطيع رده ومستحيل أن أحداً من الخلق يمنع ما يريده الله سبحانه وتعالى.

ذكر ما جاء من قصة اختلاف كسرى مع قادته وأسباب هزيمته

ذكر ما جاء من قصة اختلاف كسرى مع قادته وأسباب هزيمته أرسل ملك الفرس إلى بلاد الروم أخوين من القادة العظام الذين عنده لقتال الروم، ولما وصلوا إلى بلاد الروم وفعلوا بهم ما فعلوا إذا بأحدهما يرى في المنام أنه جالس على سرير كسرى، فشاعت الرؤيا بين الناس، حتى وصلت إلى الملك، فأراد كسرى قتل هذا القائد الذي رأى هذه الرؤيا خوفاً على ملكه، فأرسل إلى أخيه قائد الجيش أن يقتل أخاه، فرفض ذلك، فبعث له رسالة ثانية: اقتل أخاك! فرفض، وبعث له رسالة ثالثة فإذا به لا يفعل ذلك، فعزله الملك، وولى مكانه أخاه الآخر الذي كان قد أمر بقتله قبل ذلك، وأرسل إليه الملك رسالة أن اقتل أخاك، وكاد يفعل ذلك، لولا أن أخاه أراه الرسائل الثلاث وقال: يرسل إليك الملك بقتلي وأنا أخوك، وتريد أن تنفذه، وقد أرسل إلي من قبل بثلاث رسالات يأمرني فيها بقتلك، فلم أفعل، فلما نظر في الأمر وجد أن ذلك صحيح، وعرف أن الملك يريد الوقيعة بينه وبين أخيه، وأنه يريد بهما شراً، فلم يفعل وعصى الملك وأخذ يتفاوض معه، ولحقت الهزيمة بالفرس، ولا يتوقع الإنسان مثل ذلك، فإن ذلك شيء عجيب جداً! فإذا بالروم يجتمعون لقتال كسرى، وهزموه ومن معه، وهذا تدبير رب العالمين سبحانه، إذ انهزموا كما أخبر الله سبحانه وتعالى في فترة يسيرة، قال تعالى: {فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم:4]، ولم يجعل الله الأمر مفتوحاً، بل قال لهم: {فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم:4]، والعرب عندهم (بضع) ما بين الثلاث إلى التسع، {فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم:4].

مراهنة الصديق المشركين على انتصار الروم قبل تحريم الرهان

مراهنة الصديق المشركين على انتصار الروم قبل تحريم الرهان لما سمع المشركون قوله تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم:2 - 3]، استهزءوا بذلك، وذهبوا إلى أبي بكر الصديق يستهزئون بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويقولون: صاحبك يقول: إن الروم ستغلب، فإذا بـ أبي بكر يبادر بالتصديق رضي الله عنه، وقال: أراهن أنه سيحدث ما قال الله سبحانه، في وقت لم يكن الرهان محرماً، فـ أبو بكر الصديق حسب أنهم سيغلبون في بضع سنين كما قال الله سبحانه، فاتفقا على ذلك، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن البضع ما بين الثلاث والتسع، وأمره أن يزيد في المدة ويزيد في الرهان، وفعلاً ذهب وزاد في المدة، ووقع ما قاله الله سبحانه وتعالى، وانتصر الروم على الفرس في الوقت الذي انتصر فيه المسلمون في يوم بدر على المشركين! وكان نزول هذه الآيات في مكة قبل هجرة المسلمين ثم هاجر المسلمون، والذي راهن أبا بكر هو أبي بن خلف قال أبي بن خلف: إن غلبت الروم الفرس فأنا أدفع لك كذا، فكان الاتفاق على خمس من البعير أو نحو ذلك، ولما أراد أبو بكر الصديق أن يتوجه مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، جعل الرهان مع أحد أبنائه، وحدث بعد ذلك أن غلبت الروم الفرس فإذا بـ أبي بكر يكسب هذا المال الذي راهن به ويتصدق بهذا المال، ويحرم الله عز وجل المراهنة بعد ذلك. ففي هذه الآية معجزة من المعجزات وهو الإخبار بالغيب ثم وقوعه كما قال الله سبحانه وتعالى، فلم يكن في حساب الناس أن الروم ستقوم دولتها مرة أخرى إلا بعد مائة سنة، ولكن الله سبحانه وتعالى حقق هذا الشيء المستحيل عند البشر {فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم:4]، فكان ذلك بعد سبع سنوات مما ذكره الله عز وجل، بعد أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فمن معجزات القرآن الإخبار بالغيب، إذ تحقق على النحو الذي ذكره الله سبحانه وتعالى.

المعجزة المستنبطة من قوله تعالى: (في أدنى الأرض)

المعجزة المستنبطة من قوله تعالى: (في أدنى الأرض) قال عز وجل: {فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم:3]، قالوا: هذه أيضاً معجزة أخرى من معجزات القرآن العجيبة، فالأولى معجزة إخبار بغيب، والقرآن معجزة رب العالمين، في صياغته وإتقانه؛ لذلك الكفار لم يقدروا أن يأتوا بمثله، وتشريع القرآن معجز، ولا يقدر أحد أبداً أن يأتي بتشريع مثل تشريع رب العالمين سبحانه وتعالى أو يدانيه، كذلك في القرآن وجوه إعجازية، وإخبار بمغيبات، لم يطلع عليها النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقرأ كتب أهل الكتاب، وهو الأمي صلى الله عليه وسلم، فكان يخبر بأشياء لا يعرفها أهل الكتاب، ويعجزهم بذلك. ومن إعجازه أيضاً: ما ذكره علماء الأرض والجيولوجيا، قالوا: {فِي أَدْنَى الأَرْضِ} [الروم:3]، لها معنيان: معنى الدنو أي: القرب، فالمعركة التي وقعت بين الروم والفرس كانت في فلسطين عند البحر الميت، وفي نفس المكان انتصر الروم على الفرس بعد ذلك. فمفهوم قوله تعالى: {فِي أَدْنَى الأَرْضِ} [الروم:3] أي: في أقرب الأرض إلينا، فبلاد الفرس شاسعة في الشمال، وبلاد الروم شاسعة في الشمال وفي الغرب، فأدنى الأرض إلينا فلسطين، فكانوا يفهمون المعنى على ذلك، وهو معنى صحيح، ولكن الآية أشارت إلى شيء آخر، وهو أن الدنو يأتي بمعنى: الشيء الأسفل، فقوله تعالى: {فِي أَدْنَى الأَرْضِ} [الروم:3] أي: في أسفل الأرض، وأخفض منطقة من الأرض، فلما بحث علماء الأرض هل المكان الذي حدثت فيه هذه الحرب كانت فعلاً أخفض الأرض كما ذكر الله سبحانه؟ قال الشيخ الزنداني: التقيت مع أحد من أساتذة علوم الجيولوجيا في أمريكا اسمه: البروفسور ظلمة وهو من كبار علماء الجيولوجيا في أمريكا، جاء زيارة ومعه نموذج للكرة الأرضية بها تفاصيل لارتفاعات ولانخفاضات وأعماق البحار، كله مبين بالتضاريس، ومحسوب بالمتر. فسأله الشيخ عبد المجيد الزنداني: ما هي أخفض مناطق الأرض؟ إن الله سبحانه وتعالى يقول: {فِي أَدْنَى الأَرْضِ} [الروم:3]، وهي المنطقة التي حصلت فيها الحرب بين الروم وبين الفرس، فهي أخفض منطقة على الأرض، فإذا بالرجل يعاند؛ لأنه لم يسمع القرآن من قبل وقال: المناطق المنخفضة في الأرض كثيرة، فهناك منخفضات موجودة في هولندا، ومنخفضات موجودة في أمريكا، ومنخفضات موجودة في كذا، وحاول أن يفهمه أن هذا المكان ليس أخفض مناطق الأرض. قال الشيخ عبد المجيد: واستغرب الرجل حين قلت مرة أخرى: أنا متأكد مما أقول، إن هذه أخفض منطقة في الأرض، فإذا بالرجل يخرج نموذج الكرة الأرضية التي معه، وأخذ يتتبع ما فيها من تضاريس، فوجد سهماً موجوداً على فلسطين، على مكان البحر الميت فقال: إنها فعلاً أخفض منطقة على سطح الكرة الأرضية، قال الشيخ عبد المجيد: أدار هذه الكرة الأرضية التي فيها الارتفاعات والانخفاضات بسرعة، فلما أدراها على منطقة بيت المقدس وعلى المنطقة التي حولها وجد سهماً طويلاً خارجاً من المنطقة، ومكتوب بخط واضح أخفض منطقة في العالم! فقال الرجل: صحيح، الأمر كما قلت: إنها أخفض منطقة في الأرض! هذه المنطقة موجودة تحت سطح البحر بحوالي ثلاثمائة وخمسة وتسعين متراً تحت سطح البحر، وهي المنطقة الوحيدة في العالم الذي تصل لهذا الدنو، ولهذا السهل من سطح البحر! وهذه معجزة أخرى في كتاب رب العالمين سبحانه. والمعجزة الأولى قوله تعالى: {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم:3]، فأشار إلى أنهم سيغلبون بعد ذلك فكان الأمر على ما ذكر سبحانه وتعالى. نسأل الله عز وجل أن يعلمنا ديننا وأن يفقهنا فيه. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الروم [1 - 8]

تفسير سورة الروم [1 - 8] أخبر الله عز وجل بهزيمة الروم، ثم وعدهم بالنصر بعد ذلك على الفرس، وكان ما قال؛ ليبين أن وعده سبحانه نافذ ولا مرد له ولا دافع، ونصر الله تعالى هو حليف المؤمنين في كل زمان إذا هم نصروا دينه، والكفار لا يزالون في عتوهم ونفورهم وتكبرهم على أوامر الله وعلى الحق، والله يدعوهم إلى الرجوع إليه والنظر في آلائه الدالة على ربوبيته دون ما سواه.

تفسير قوله تعالى: (ألم.

تفسير قوله تعالى: (ألم. غلبت الروم) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، أما بعد: فقال الله عز وجل في سورة الروم: بسم الله الرحمن الرحيم {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ * أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} [الروم:1 - 8]. بدأ الله سبحانه تبارك وتعالى هذه السورة بهذه البشارة للمؤمنين، وهي أن الروم الذين غلبوا في أدنى الأرض سيغلبون عدوهم من الفرس بعد ذلك، وكان المشركون قد شمتوا بالمسلمين حين بلغ الجميع أن الروم قد هزمت؛ لأن الروم أهل كتاب وهم أقرب إلى المؤمنين من المشركين، وبلاد الفرس عباد نيران، وهم أقرب إلى المشركين ومن أعدى أعداء المسلمين، وفي الآية السابقة يطمئن الله سبحانه تبارك وتعالى المؤمنين أن الغلبة لعباده المؤمنين، وكأن المسلمين حينها كانوا ينظرون في عواقب الأمور ويتوسمون أن أهل الكتاب إذا انتصروا فنحن سننتصر يوماً من الأيام، وإذا هزم أهل الكتاب نظر المشركون إلى المسلمين وقالوا: أنتم أيضاً ستهزمون في يوم من الأيام، فرد الله سبحانه زعم المشركين فقال عز وجل: ((غُلِبَتِ الرُّومُ * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون)).

القول في الحروف المقطعة في أوائل السور

القول في الحروف المقطعة في أوائل السور بدأت السورة بذكر الحروف المقطعة قال تعالى: {الم} [الروم:1] وهذه من حروف اللغة العربية التي يتحدى بها الله عز وجل الخلق جميعهم، والتحدي: أن هاتوا كتاباً مثل هذا القرآن فيه مثل هذا الإعجاز العظيم وهو من جنس الحروف التي تنطقون بها ((الم)). وذكرنا فيما مضى فقلنا: إن الغالب أنه إذا ابتدأت السورة بحروف، تتكرر هذه الحروف في هذه السورة، فيكون نسبة تكرار هذه الحروف وخاصة الحرف الأول منها أعلى نسبة من نسب التكرار في السورة نفسها، فيكون الألف أعلى حرف تكرر في هذه السورة، يليه اللام، ثم المجموع من الألف واللام والميم يكون أعلى ما تكرر في هذه السورة. وهذا ضرب من ضروب الإعجاز الذي يتحدى الله سبحانه وتعالى الخلق أن هاتوا كتاباً مثل هذا الكتاب، أو سورة مثل هذه السورة، فيتجلى في السورة دقة الأحكام التي فيها، وجمالها في بلاغتها وفصاحتها وإتقانها، وفي التشريع الذي تضمنته آياتها، وما فيها من إعجاز علمي، ومن نبوءة صحيحة صادقة، كالإخبار بأخبار صادقة سابقة على النبي صلوات الله وسلامه عليه، كل ذلك وغيره كثير، فتجد فيه إعجاز هذا الكتاب العظيم الذي يقول فيه الإنسان المنصف إذا قرأه: يستحيل أن يكون هذا من قول البشر. كما أن من فوائد الحروف المقطعة في أوائل السور أيضاً: شد وجذب الانتباه، فالعرب لم يكونوا معتادين على ذلك، فلم يسمع العربي أحداً يقول له: الم، فإذا سمعها جهل ما الذي يقصده قائلها، فانتفض ليسمع ما الذي يريده؟ وذلك كما يسمع الإنسان صوتاً غريباً لم يعتد على سماعه، فيجتهد أن يصغي إليه، على خلاف الصوت الذي قد اعتاد أن يسمعه، فقد يمر على أذنه من غير أن ينتبه إليه. ومثال ذلك: ما يحدث لو مر بكم القطار وأنتم تعرفونه، فإنه كلما مرّ كأنه لم يمر، ولا ينتبه لمروره أحد منكم بخلاف إنسان كانت هذه هي أول مرة يرى فيها القطار، فإنه إذا مر القطار سيجتهد أن ينظر إليه، وسيتملكه العجب عند رؤيته له، فكذلك عندما يأتيهم من الله سبحانه تبارك وتعالى شيء لم يعتادوا عليه كقوله سبحانه: {الم} [الروم:1] فإنه يشدهم فيسألوا: ماذا تعني هذه الحروف؟ وقد يحرصون على أن يسمعوا ما يقوله صلى الله عليه وسلم، ليعرفوا ما يريد من هذه الأحرف، فكأن القرآن يقول لهم: تعالوا واسمعوا {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم:2 - 3]، وعند سماعهم يزدادون عجباً على عجب، فيتساءلون: ما الذي تقوله؟ وهل ما تخبر به من أن الروم ستنتصر على فارس حقاً؟ فيعلق ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم بأذهانهم، ويظلون يتوقعون ويتحدثون: هل سيصدق ما أخبر به القرآن أم أنه سيكذب؟ أما المؤمنون فهم جازمون بصدق كلام رب العالمين.

أبو بكر يراهن على صدق ما وعد به القرآن

أبو بكر يراهن على صدق ما وعد به القرآن أبو بكر الصديق بعد نزول الآيات في صدر سور الروم يندفع في أرجاء مكة وينادي على أهل مكة {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم:1 - 4] فقد روى الإمام الترمذي عن أبي بكر الصديق رضي الله تبارك وتعالى عنه أنه لما نزلت هذه الآية {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم:1 - 2] خرج أبو بكر بها إلى المشركين وذكر ونادى في أرجاء مكة بذلك، {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم:2 - 3]. فقال الكفار: أفلا نراهن على ذلك، أي: نراهنك أنه لن يحصل الذي تقول به، فيقبل منهم أبو بكر الصديق هذه المراهنة، والرهان نوع من القمار، وأصل القمار من قمره في الشيء بمعنى: غلبه فيه، وهي بمعنى: الخطر والمخاطرة؛ لأن مال أحد الطرفين على خطر، فإنه إما أن يكسب، أو يُغلب فيضيع منه ماله، وكان هذا موجوداً في أول الإسلام، وبعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بقليل، ثم حرم بعد ذلك، وقد كان هذا الأمر موجوداً في الأعوام المكية، فلذلك راهنهم أبو بكر في أن الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم هو صدق، وبعد أن ارتهن أبو بكر والمشركون وتواضعوا الرهان، قالوا لـ أبي بكر رضي الله عنه: كم تجعل البضع؟ فاتفقوا على ست سنوات، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه اجتهد حين وافقهم على الست السنوات، وإلا فالآية لم تحدد ذلك، وقد أخطأ رضي الله عنه فيما اجتهد به، فهو ليس معصوماً، إنما العصمة لكتاب رب العالمين وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، أما قول البشر فلا، والبضع في لغة العرب من ثلاثة إلى تسعة، فلما جاءت السنة السادسة لم يحصل الغلب الذي راهن عليه أبو بكر، فعاب المسلمون ذلك على أبي بكر الصديق وقالوا: كيف تقول ستة والقرآن لم يقل: ستة؟ وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر: (أفلا احتطت لذلك؟) أي: بأن لا تنزل عن التسعة إلى الستة. وكانوا قد جعلوا الرهان خمس جمال، وجعلوا الأجل إلى ثلاث سنوات، وبعد ذلك زادوا في الأجل لدون التسع السنوات، ثم حدث ما أخبر به القرآن العظيم على ما قدمنا قبل ذلك، وغلبت الروم الفرس ففرح المسلمون، وكان هذا في يوم بدر، ففي يوم انتصار المسلمين على المشركين انتصر أهل الكتاب على المجوس، وفرح المسلمون بنصر الله سبحانه. وقد كان الفرس قوة عظمى في العدة والعتاد والروم كذلك، ولكن كان الفرس أقوى من الروم، وفي هذا الحين كان الفرس منتصرين على الروم نصراً عظيماً، وأخذوا منهم بلاداً من بلاد الروم، وكان الخوف ينتاب المسلمين، إذ عندما تتقابل قوتان عظيمتان إحداهما أقوى من الأخرى، وهذه الأقوى هي عدوة للمسلمين، فإن ذلك يجعل المسلمين يخافون أن ينتصر أعداءهم، كما أن المسلمين يفرحون بأن القوة الأخرى تنتصر عليهم، أما الفرح الأعظم فهو بنصر الله سبحانه الذي كان في يوم بدر، فحدث الانتصاران في هذا اليوم، ففرح المسلمون بنصر الله عز وجل لهم، وكذلك وقع ما اعتقده المسلمون من صدق كلام رب العالمين سبحانه وأن الروم تنتصر على الفرس، فعبر القرآن عن هذه الفرحة فقال: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ} [الروم:4 - 5]، ومعلوم أن النصر من أمر الله سبحانه تبارك وتعالى ومن قضائه وقدره، فهو ينصر من يشاء

تفسير قوله تعالى: (بنصر الله ينصر من يشاء)

تفسير قوله تعالى: (بنصر الله ينصر من يشاء) قال سبحانه: {بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ} [الروم:5] ولم يقل في الآية: إنه ينصر المسلمين؛ لأن نصر المسلمين يحتاج إلى أخذ بأسباب النصر، ومتى وجدت الأسباب انتصر المسلمون، وإذا لم توجد الأسباب ينتصر الأقوى الذي يأخذ بالأسباب، ومن أهم أسباب النصر: العمل بشرع الله تعالى، فإذا كانت دولة المسلمين تعمل بشرع رب العالمين سبحانه تبارك وتعالى، فيأخذ فيها المظلوم حقه من ظالمه، ويحكم فيها بشرع الله تعالى، عند ذلك يجعل الله هذه الأمة مقدسة مطهرة، غالبة تغلب أعداءها، وإذا كانت أمة المسلمين يشيع فيها الظلم، ويهجر فيها كتاب الله وراء الظهور، فلن يكون لهم النصر، وإذا كان المسلمون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهم الذين يعملون بشرع الله رب العالمين، حين يعصون الله سبحانه ويعصون النبي صلى الله عليه وسلم يستحقون الهزيمة كما حصل في يوم أحد وفي أول يوم حنين، فكيف بحالهم بعد ذلك؟ فالمؤمن الذي يطيع الله سبحانه تبارك وتعالى ويأخذ بالأسباب، يستحق عون الله سبحانه، أما الذي يترك ما أمر الله عز وجل به فلا يستحق أن يعينه الله سبحانه تبارك وتعالى. ولذلك قيد انتصار المؤمنين وفتح الله سبحانه على المؤمنين بقوله سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60]، فإذا أعد المسلمون العدة لقتال أعداء الله سبحانه، وأخذوا بالأسباب، فإن الله سبحانه ينصرهم على عدوهم ويكون معهم، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]، فإذا اتقى المسلمون ربهم سبحانه استحقوا أن يكون معهم، وإذا خالفوا ولم يتقوا الله لم يستحقوا معية الله سبحانه تبارك وتعالى؛ لأن الله مع المتقين، كما أن الله مع المحسنين أيضاً، فالمسلمون إذا أحسنوا واتقوا فالله معهم ينصرهم ويؤيدهم سبحانه، وإذا ظلموا وتركوا نصر دين الله سبحانه لم يستحقوا أن يكون الله سبحانه تبارك وتعالى معهم. والمسلمون حين أخذوا بأسباب النصر في بدر نصرهم الله تعالى، قال سبحانه عن ذلك اليوم: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم:4 - 5] أي: يفرحون أن نصر الله المؤمنين، وأن حقق ما وعد، بأن نصر الروم على الفرس، ثم أخبر أن النصر بمشيئته سبحانه فقال: {بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ} [الروم:5] أي: ينصر من يشاء من عباده، فينصر المؤمنين ويجعل لهم الانتصار والغلبة إذا أطاعوا الله سبحانه، ويسلط عليهم غيرهم لأنهم عصوه: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الروم:5] أي: العزيز الذي لا يسأل عما يفعل سبحانه تبارك وتعالى، فلا يحتج المغلوب على ربه فيقول: يا رب! لم هزمتنا؟ لم جعلت الأعداء يتملكون أمرنا؟ بل قل: هو العزيز، فلا يسأل عما يفعل سبحانه، فختم الآية بأنه العزيز الرحيم سبحانه تبارك وتعالى، والعزيز أي: المنيع الجانب، القاهر الذي لا يغلب سبحانه تبارك وتعالى. فإن هُزِم المسلمون ليس معناه أن الله سبحانه حاشاه تبارك وتعالى ليس بعزيز، فهو العزيز وله العزة سبحانه تبارك وتعالى ولرسوله وللمؤمنين، فينصر من يشاء وقد ينصر المسلمين، وقد ينصر عليهم غيرهم، ولكن هو العزيز سبحانه الذي لا يغلب أبداً وإن غلب الناس، فالله عز وجل عزيز قاهر غالب على أمره، وهو الرحيم بعباده المؤمنين، كما أنه الرحيم بخلقه أجمعين سبحانه، ورحمته هي الرحمة العظيمة الدائمة في الدنيا وفي الآخرة، فرحمته بعباده المؤمنين أن يكون معهم ويؤيدهم وينزل شرعه الحكيم سبحانه تبارك وتعالى ليهديهم ويكون معهم سبحانه تبارك وتعالى في الدنيا وفي الآخرة. قال الله سبحانه: {لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} [الروم:4] أي: لله الأمر من قبل الغلب ومن بعد الغلب، فالله هو مدبر الأمر سبحانه تبارك وتعالى، وكل شيء بيده، وكل شيء يملكه الله عز وجل، وفي الآية أخبر بانفراده بالقدرة والتقدير، كما أخبر بانفراده بالتحكم في كل شيء سبحانه، وبين أن الأمر بيده يفعل ما يشاء.

تفسير قوله تعالى: (وعد الله لا يخلف الله وعده)

تفسير قوله تعالى: (وعد الله لا يخلف الله وعده) إن نصر المؤمنين وعد من الله سبحانه لعباده، قال سبحانه: {وَعْدَ اللَّهِ} [الروم:6] والوعد مصدر، أي وعدكم وعداً، فهذا وعد من الله سبحانه، ولأنه منه سبحانه فإنه وعد حق، وقد عبر بالمصدر والمفعول المطلق حيث قال: {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} [الروم:6] أي أنه وعد الله سبحانه ولا بد أن يتحقق موعوده: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:6].

تفسير قوله تعالى: (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون)

تفسير قوله تعالى: (يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون) قال الله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] فبين في الآية أن ما لديهم من علم كـ لا علم، فهم يجهلون مع علمهم، أما ما يعلمون فهي علوم الظواهر من الحياة الدنيا، ولا يغوصون في بواطن هذه الأشياء، ولا يطلعون على ما وراءها، فهم يعلمون في الحياة الدنيا أن الماء ينزل من السماء في فصل كذا وفصل كذا وفي شهر كذا وشهر كذا، وبسبب علمهم ذاك يحددون مواسم البذور والأشهر المناسبة لكل نوع منها، ومواسم الري والحصاد وغير ذلك، فكان علمهم مقتصراً على ظواهر الحياة الدنيا، أما أنهم ينظرون نظر تأمل أن الذي أنزل الماء من السماء هو الله، وأنه لذلك يستحق أن يشكر وأن يعبد سبحانه تبارك وتعالى؛ فلا، وكأن علمهم علم بالدنيا فحسب، فيتلهفون كيف نكسب؟ وكيف نجمع هذا الذي كسبناه؟ وكيف نبني؟ وفعلهم وهمهم منحصر على ظواهر الدنيا، أما ما وراء ذلك من العلم بالغيب والإيمان بالله سبحانه تبارك وتعالى وشكر المنعم سبحانه تبارك وتعالى على ما أنعم على العباد فليس لهم به شأن، وهذا حال أكثر الناس، والأقل هم الذين يعلمون بما لهم من بصائر وبما في قلوبهم من إيمان، فتجدهم يشكرون الله سبحانه، ويعلمون أنه هو الحق المبين. إن من غفل عن الآخرة مهما أوتي من علم فعلمه كـ لاعلم، ومهما حاز الإنسان من رتب علمية كأن يكون أستاذاً أو دكتوراً أو غيرها من الرتب في الدنيا، ويشار إليه بالبنان وهو عن الآخرة غافل وغير مستعد للموت ولم يستعد للجنة ولا للنار فإن علمه كـ: (لاشيء) عند الله سبحانه تبارك وتعالى، وذلك لأنه لم ينتفع بذلك العلم بأن يخشى الله، وقد قال سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] فإذا أورثه هذا العلم الخوف من الله سبحانه وخشيته فهو العلم النافع الذي سيجعله عبداً لله مؤمناً به سبحانه، أما علم في أمر ظواهر الدنيا لا يتعدى ذلك إلى الإيمان باليوم الآخر، بل ويظل صاحبه ملحداً وقد يدعي أن الطبيعة هي التي خلقته، وأن الله سبحانه لم ينزل كتاباً ولم يرسل رسولاً، فلا يعد علماً ولا يستحق صاحبه شيئاً، إنما يعيش في الحياة كبهيمة الأنعام ونهايته إلى النار والعياذ بالله. وقد أعاد الضمير في قوله: {وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] تأكيداً ووصفهم بأنهم غافلون أي: في غفلة عظيمة عن الآخرة وعن الموت وعما يكون بعد الموت.

تفسير قوله تعالى: (أولم يتفكروا في أنفسهم)

تفسير قوله تعالى: (أولم يتفكروا في أنفسهم) لأن الكفار يعطلون جوارحهم وأفئدتهم فقد أنكر الله عليهم غفلتهم فقال سبحانه: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى} [الروم:8] فالاستفهام في الآية: للإنكار، وهو دعوة أن يتفكر المرء في نفسه. فقوله: (في أنفسهم) كلمة (في) تفيد الظرفية وليست مفعولاً به، ليكون المعنى: أن يتفكر الإنسان في نفسه وتظل النفس عنده محل التفكر ليعتبر بها! لا، بل تعني الظرفية أن يتفكر بينه وبين نفسه في صمت، فيعمل عقله منفرداً ويتفكر في السماوات وفي الأرض؛ لأنه حين يتفكر مع مجموعة من الكفار قد يقوم إليه بعضهم فيدعوه إلى الكفر وإلى البعد عن الله سبحانه، فيستحيي أن يقر أن هناك إلهاً موجوداً؛ لأن الباقين يقولون بخلاف ذلك، أما إذا فكر في نفسه فلن يضحك على نفسه، أو يكذب عليها. وفيها يخاطب الله عز وجل العبد: أن تفكر في نفسك، وهو عندما يدعو الناس إلى التفكر لا يريد أن يتفكروا مجموعات بل إن الله سبحانه تبارك وتعالى يأمر أن يتفكر المرء وحده أو مثنى أو ثلاث، فوحده مع نفسه، ومثنى أي: مع إنسان آخر؛ وذلك لأن العادة أن التفكير الجماعي يغلب فيه المجتمعون بعضهم بعضاً بعلو الصوت، وفيه قد يستحيي بعضهم من بعض فلا يتكلم معه، بخلاف التفكر الفردي أو الثنائي فإن المرء إذا كان وحده فسيمحص الفكرة ويعيد جريانها في ذهنه إلى أن يصل التفكير إلى أقصاه، فيثمر غايته، وكذلك إذا كان التفكير مع شخص آخر يعمل فكرة أيضاً، فإذا اختمرت الفكرة في ذهنه فله أن يشاور بعد ذلك مجموعات من الناس، فتكون المشاورة مع مجموعة من الناس والتفكير فرادى ومثاني، ويكون أمر الله سبحانه تبارك وتعالى بالتفكير متحققاً على هذه الصورة، وإنما جعل فرادى ومثاني لأن التفكير يحتاج من الإنسان أن يغوص في المعنى، وينفرد بنفسه حتى يتفكر فيما وراء الظواهر الحسية القريبة.

آثار التفكير الفردي ومزاياه

آثار التفكير الفردي ومزاياه الله عندما يأمر بالتفكير يأمر به مثنى وفرادى، فإذا أمر بالشورى أمرهم جماعات فقال: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38]. أما عند الأمر بالتفكير فيقول سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} [سبأ:46]، وفي الآية أمرهم أن يتفكروا في أمر النبي صلى الله عليه وسلم، هل هو مجنون؟ فلو جلس مجموعة من الكفار ليتفكروا في ذلك لربما يطلع عليهم أبو جهل فيقول: هذا مجنون، ويحلف لهم على ذلك، وهم يخافون أن يكذبوا ساداتهم، فيقرون له أن محمداً مجنون، ويقولون كما يقول، وبذلك عُلِم عدم جدوى هذا النوع من التفكير، وأن التفكير الصحيح أن تجلس وحدك ثم تسائل نفسك: لم يقول فلان عليه أنه مجنون؟ أليس من الممكن أن يكون فلاناً في نفسه شيء من هذا النبي صلى الله عليه وسلم؟ وهكذا وحينما يفعل الإنسان ذلك فيتفكر في نفسه يصل في النهاية أنه عليه الصلاة والسلام إنسان عاقل وأنه رسول من عند رب العالمين، ولذلك كان كفار قريش عندما يأتي رجل من خارج مكة يجتمعون إليه، ويقولون له: احذر كذاب قريش، ويظلون يوعزون صدره على النبي الكريم وينصحونه بزعمهم، إلى أن يسد أذنيه بشيء يمنعه من أن يسمع النبي صلى الله عليه وسلم حتى يصل إليه، فإن كان عاقلاً لبيباً سمع فآمن وإلا فلا. ويقول بعضهم: إني جئت النبي صلى الله عليه وسلم وقد أقسمت عدد أصابع يدي: أني لا أسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الله يشاء له الإيمان فيتفكر ويسائل نفسه: لم حلفت أني لا أسمعه؟ أفلا نسمعه ثم ننظر ما سيقول؟! فيرفع أصابعه من آذانه، ويكف عن القسم الذي حلفه، ويذهب للنبي صلى الله عليه وسلم لينظر، فيجد ما يقوله صحيحاً، ويعلم أن كلامه هو ما يؤيده العقل ويؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، وما صنعه هو التفكر الذي أمر الله عز وجل به، ومن الغباء أن تجعل غيرك يسخر منك بالأفكار التي يمليها عليك، بل لا بد أن تفكر مع نفسك: لم تقول هذا الشيء؟ لم تعاد هذا النبي صلى الله عليه وسلم؟ لم تكذب هذا القرآن؟ وقد كان الوليد بن المغيرة يتفكر في القرآن ويسمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتلوه، فما كان منه إلا أن يقول: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق - أي: مكتسي من فوقه ومن تحته بالخيرات - وما هو بقول بشر. وبعد ذلك يعايره قومه ويقولون له: ضحك عليك النبي صلى الله عليه وسلم. وهو لا يستطيع أن يرد إذ القرآن كلام جميل. وما يزالون به يقولون له: سحرك محمد صلى الله عليه وسلم، قل في القرآن شيئاً، فينتكس ويجيبهم إلى قولهم. ويخبرنا الله عن هذا الإنسان فيقول: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا} [المدثر:11 - 14] وبعد كل الذي أعطيته يطلب المزيد: {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا} [المدثر:15 - 16] أي: معانداً مع معرفته بالحق، فقد عرف أنه الحق من عند رب العالمين، ثم جحده استحياءً من قومه أن يقولوا: سحرك محمد صلى الله عليه وسلم، أو أغراك فقال لك: سأعطيك مالاً أو ضحك عليك النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يخبر الله سبحانه عن تفكيره فيقول: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} [المدثر:18 - 19] أي: لعنه الله في تفكيره وتقديره الذي قاله، فقد قال قولاً ذميماً بعد أن هدده قومه أن يفضحوه قال سبحانه مخبراً عنه: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر:18 - 24]. وكان قد أقر بعد سماعه أن هذا ليس بقول البشر، فلما جاء الكفار إليه وقالوا له: ما الذي تقوله؟ أوقد تبعت محمداً وأصحابه؟ إنك بفعلك هذا ستجعل الناس يسخرون منا، فاستمالوه فقال: سنقول عنه: ساحر يسحر الناس بهذا الذي يقوله. ومن قصته رأينا كيف أنه تغير وتحول بعدما فكر في نفسه في البداية وقال: هذا الكلام ليس من قول البشر، والوليد بن المغيرة لم يكن رجلاً عادياً بل هو من سادة قريش وكبرائها، ولتعلم منزلته في قومه نسوق هذا الحدث لما دخل عمر بن الخطاب في الإسلام، فقد أتت إليه قريش جميعها تريد أن تضرب عمر رضي الله عنه وتقتله، فذهبوا إليه كالبحر كلهم يريد بيت عمر حتى إن عمر فزع من ذلك، وابن عمر واقف فوق سطح البيت ينظر أمواجاً من البشر التي جاءت تريد عمر، لكن الوليد بن المغيرة وحده رد هؤلاء جميعهم، وقال: أنا على دينه ارجعوا، فرجعوا كلهم وتركوا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والوليد بن المغيرة لم يكن على دينه حقيقة ولكن كأنه يقول: أنا أجيره فلا يقربه أحد. فـ الوليد حين يتفكر لوحده يعرف أن هذا القرآن حق من عند رب العالمين، فيقول: ما هو بقول بشر، وبعد أن يجتمع عليه قومه ويعيروه يخاف ويرجع عن قول الحق بل يقول عن القرآن: إن هذا إلا سحر يؤثر! لذلك الله عز وجل يقول للإنسان: تفكر في نفسك، ولا تجعل فكر غيرك يطغي عليك، فقد وهبتك عقلاً لتفكر فيه قال تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى} [الروم:8] أي: أنهم إذا تفكروا علموا أن هذه السماوات لم تخلق سدى وعبثاً، وأن هذه الأرض لم تخلق عبثاً، وأن هذه الآيات التي يراها الإنسان الشمس والقمر والنجوم والكواكب والجبال والبحار والأمواج والأسماك والحيتان فيها والطيور في السماء، لم يخلقها الله عبثاً، وبذلك يعلم الإنسان أن الله لم يخلق هذا كله عبثاً سبحانه تبارك وتعالى، بل خلقه لحكمة وغاية قال سبحانه: {مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الروم:8] أي: خلقها متلبسة بالحق، فخلقها بعدله وبحكمته وبحقه سبحانه تبارك وتعالى قال: {إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى} [الروم:8] أي أن كل شيء مخلوق بأجل ولأجل مسمىً عند الله، فقد حدد وجوده وفناءه وبعثه يوم القيامة، فكل شيء موجود ليس بالتعمير في الدنيا إلى الأبد، ولكن إلى أجل مسمى {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [النحل:61] ولكن الكثيرين من الناس يكفرون بذلك، قال سبحانه: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} [الروم:8] أي: بهذا الأجل المسمى وبالرجوع إلى الله لكافرون أما المؤمنون فهم وإن عاشوا في الدنيا وعمروا فيها فهم يعرفون أنهم راجعون إلى الله، فيعملون لله بالصدق وبالإخلاص وبالعلم وباليقين.

تفسير سورة الروم [8 - 17]

تفسير سورة الروم [8 - 17] أمر الله تعالى بالتفكر في مخلوقاته الدالة على وجوده وانفراده بخلقها، وأنه لا إله غيره ولا رب سواه، فهو المستحق لأن يعبد ويطاع، وذكر سبحانه عاقبة الأمم السابقة المكذبة به وبرسله، وكيف كانت نهايتهم وهلاكهم، وذكر عاقبة المؤمنين، وأنهم في الجنة يحبرون ويتنعمون ويتلذذون بما لا يخطر على بال.

تفسير قوله تعالى: (أولم يتفكروا في أنفسهم)

تفسير قوله تعالى: (أولم يتفكروا في أنفسهم) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} [الروم:8]. يأمر الله سبحانه وتعالى عباده بالتفكر في ملكوت السماوات والأرض، فيقول: ((أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ)) أي: أولم يتفكر العباد بينهم وبين أنفسهم في خلق السماوات والأرض، وفي ملكوت الله سبحانه، فيعرفون أن هذا الخلق العظيم الذي خلقه الله سبحانه آية للعباد، ليعرفوا قدرة ربهم وقوة ربهم، وأن هذا الكون لا بد وأن يكون له خالق قد خلقه، أولم يتفكروا في ذلك أم أنهم كالأنعام لا يفهمون ولا يعرفون ولا يفكرون؟ قال سبحانه: ((مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ)) أي: خلقها حقاً سبحانه وتعالى بالحق وبالعدل، وبالقسط بحكمته سبحانه وتعالى، فهو خلقها ليحق الحق بكلماته سبحانه وتعالى، وخلقها لأجل مسمى، وكل شيء عنده بمقدار، وكل شيء بقضاء وقدر، فإذا جاء الأجل انشقت السماء فهي يومئذ واهية، وإذا بالأرض تتفجر بما فيها من أنهار ومن بحار، وبما فيها من جبال، كل ذلك بأمر ربها سبحانه وتعالى. كذلك العباد كل عبد مخلوق لأجل معين، له وقت معين يخلق فيه، ووقت معين يموت فيه، ووقت معين يبعث فيه، كل ذلك عند الله بمقدار، ولكن الناس لا يفهمون ذلك، ((وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ)) أي: يكفرون بالبعث والنشور، وبالعود إلى الله سبحانه للحساب إما للجنة أو للنار.

تفسير قوله تعالى: (أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم)

تفسير قوله تعالى: (أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم) قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [الروم:9] يعني: هؤلاء الكفار الذين يتنطعون ويتعنتون، ويتطاولون على ربهم، ويكذبون رسل ربهم عليهم الصلاة والسلام، هلا ساروا في الأرض فنظروا فيها؟ انظروا كيف بدأ الله الخلق؟! وكيف ينشئه؟! وكيف يعيده سبحانه وتعالى؟! وكيف فعل بالسابقين؟! وكيف كان عاقبة الذين من قبلهم ونهايتهم؟! عاقبة الشيء ونهايته هي النتيجة التي من ورائه، انظروا كيف عاقب الله سبحانه قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة قوم مدين، وغيرهم كثيرين ممن خلق الله سبحانه، فمنهم من قص علينا قصصهم، ومنهم من لم يذكرهم لنا، فلو أن الإنسان سار في الأرض فلينظر نظرة اعتبار لا نظرة تفسح وتمشية، بل يعتبرون مما حصل للأقوام السابقين، وما الذي صنعوه، وكيف أنهم علوا في الأرض، ففرعون كان قومه يبجلونه ويرفعون شأنه، ويعبدونه من دون الله سبحانه، والآن إذا ذكرناه قلنا: هذا المجنون الذي كان اسمه فرعون، هذا الإنسان الغبي الذي ظن نفسه إلهاً مع الله سبحانه وتعالى، هذا الذي خدع الناس وقال: أنا ابن الشمس، هذا المغفل الأحمق. فقومه الذين كانوا معه لا يجرؤون أن يقولوا ذلك له، بل كان يستخفهم فيطيعونه، فنقول: كانوا خفاف العقول، كانوا يطيعونه وهم يعرفون أنه كذاب، وأنهم كذابون في عبادتهم له، فلو أن الناس تفكروا واعتبروا بهؤلاء الذين خافوا من فرعون فعبدوه من دون الله سبحانه، كيف انتهى أمر فرعون وقومه، وصاروا عبرة للناس، وهلا اعتبرتم بهؤلاء؟! كيف فعل الله عز وجل بهم، ففرعون أغرقه الله سبحانه، وهو الذي قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وهو الذي قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، وحين أغرقه الله قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90]. قال تعالى: ((أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ)) أي: نهاية ونتيجة سوء عملهم، {كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [الروم:9] يعني: كانت أبدانهم قوية، وكانوا طوالاً في قامتهم، وكانوا عراضاً في أبدانهم، وكانوا ذوي عضلات وقوة، وآثارهم تدل على ذلك، انظر إلى الذين بنوا الأهرام يا ترى كيف كانت أجسامهم؟ وكيف كانت قوتهم؟ لعلهم (أوناش) ولعلهم (روافع)، لقد أعطاهم الله عز وجل قوة بدنية، فرفعوا وبنوا وصارت آثارهم تدل على ما أعطاهم الله سبحانه من قوة ومن علوم، لكن هل انتفعوا بما أعطاهم الله من قوة؟ لا، بل تمردوا وعتوا وعلوا في الأرض واستكبروا، فالله سبحانه وتعالى يقول: ((كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ)) أي: أنهم كانوا يقلبون الأرض بالحرث، فكانوا يزرعون ويبذرون ويحصدون، وكانوا أقوياء يفعلون ذلك. قوله: {وَعَمَرُوهَا} [الروم:9] أي: أقاموا فيها أعماراً طويلة، فهم عمروا حتى قيل: لن يزولوا، أين ذهب هؤلاء؟ انتهى أمرهم، حين يتكلم عنهم الإنسان يقول: قوم في الماضي السحيق، هل كانوا يظنون أن يصيروا ماضياً يتندر بهم ويتكلم الناس عنهم؟! لقد أقاموا عمراً طويلاً، فظنوا أنهم لن يبيدوا أبداً، أو قوله سبحانه: ((وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا)) أي: عمروها بالسكنى وعمروها بالزراعة والفلاحة، وعمروها بالصناعة، وعمروها بغير ذلك. قوله: ((أكثر مما عمروها)) يعني: الذين من بعدهم، وأعمار العباد تتناقص، ففي عهد نوح عاش نوح ألف سنة إلا خمسين عاماً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام في الدعوة، أما الآن فلا أحد يعيش هذا العمر، فأعمار أمة النبي صلى الله عليه وسلم قصيرة، من الستين إلى السبعين، والقليل من يجوزون ذلك، لكن السابقون عمروا، كان الواحد يعيش مائتين سنة ويظن أن عمره طويل، ولكن ليس بطويل جداً، الآن لا أحد يعيش هذه المدة، والآن يقولون: المعمر الذي يعيش في البلد الفلاني مائة وخمس عشرة سنة، أو عاش مائة وسبع عشرة سنة فنحن نقول: هذا معمر فكيف به إذا عاش ثلاثمائة سنة أو أربعمائة سنة، يكون ماذا؟ السابقون عاشوا هذه السنين وأكثر. فالله عز وجل يقول: ((وعمروها)) أي: عمروا الأرض وسكنوا فوقها، وامتدت أعمارهم، لكن مهما طال عمر الإنسان فلا بد في النهاية أن يرجع إلى الله عز وجل ليحاسبه سبحانه. قال: ((وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ)) أي: بالآيات البينات من عند الله، هذه الآيات التي تبين نفسها وتفصح عن نفسها، أو جاءتهم معجزات من عند رب العالمين سبحانه، وقراءة الجمهور: ((وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ))، وقراءة أبي عمرو (وجاءتهم رسْلهم بالبينات) بسكون السين فيها. قوله تعالى: {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [الروم:9] كأن هنا فيه شيء مقدر محذوف، والمعنى: أنهم لما جاءتهم رسلهم بالبينات فكذبوا ولم يعتبروا ولم يتعظوا فأهلكهم الله، ولم يظلمهم الله سبحانه بإهلاكهم، قال: ((فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ)) وقال: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]. والله عز وجل قد حرم الظلم على نفسه قال: (إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)، فمستحيل أن الله عز وجل يحكم بغير العدل، فحكمه العدل، وقوله الحق سبحانه، ((فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)) أي: ظلموا أنفسهم بشركهم وبعصيانهم وبتمردهم على ربهم سبحانه، وباستكبارهم على رسل ربهم عليهم الصلاة والسلام، فاستحقوا عقوبة رب العالمين سبحانه التي ذكرها في كتابه.

تفسير قوله تعالى: (ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى أن كذبوا)

تفسير قوله تعالى: (ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى أن كذبوا) قال الله تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون} [الروم:10]، قوله: ((ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ)) على أن هنا (عاقبة) خبر (كان) مقدم، كأنه يقول: كانت العاقبة أو العقوبة لهؤلاء من عند رب العالمين سبحانه وتعالى، فيكون السوء ما يسوء هؤلاء الذين أساءوا، فعلى قراءة ابن عامر وقراءة الكوفيين: عاصم وحمزة والكسائي وخلف، ((ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ)) أما باقي القراء: نافع وابن كثير وأبي عمرو وأبي جعفر ويعقوب فيقرءون: ((ثم كان عاقبةُ)). فإذاً: هنا على هذه القراءة كانت العاقبة وكانت النتيجة الشيء الذي يسوء الإنسان، والشر الذي يحيق بهذا الكافر نتيجة وعقوبة وعاقبة فعله وصنيعه. وكانت عاقبتهم ما يسوءهم؛ لأنهم كذبوا بآيات الله، ولأنهم فعلوا أسباباً استحقوا بها أن يسيئهم الله سبحانه وأن يجعلهم في النار. يقول الله سبحانه وتعالى: ((ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا)) أي: عاقبة المسيئين، وعاقبة المسيئين هي: ((السُّوأَى)) فعلى تأنيث السوء، مثل ما نقول: الحسنى تأنيث الحسن، وقد تأتي بمعنى أفعل التفضيل. قوله: ((أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون)) يعني: استحقوا ما يسوءهم يوم القيامة من شر في النار. بسبب أنهم كذبوا بآيات الله، وكانوا بهذه الآيات يستهزئون.

تفسير قوله تعالى: (الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون)

تفسير قوله تعالى: (الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون) قال الله تعالى: {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الروم:11]، الله سبحانه وتعالى الذي يجب على العباد أن يعبدوه وحده لا شريك له؛ لأنه الرب الذي بدأ الخلق وهو الذي يعيده سبحانه. فهنا ذكر ألوهيته سبحانه، والألوهية هي أنه سبحانه يستحق أن يعبد وحده لا شريك له، فهو إله، أي: معبود. قوله: ((الله يبدأ الخلق)) بدء الخلق وإعادة الخلق من صفات الربوبية، وهو الرب الذي يفعل ما يريد سبحانه، ويفعل ما لا يقدر غيره أن يفعله، فهو الذي يبدأ الخلق، بدأه وفطره وأبدعه وأوجده على غير مثال سابق، لم يكن هناك خلق قبل هذا، فقد خلق هذا الخلق بهذا الشكل الآن سبحانه. قوله: ((ثم يعيده)) أي: الذي يبدأ قادر على الإعادة، قادر أن يفنيه ثم يعيده مرة ثانية. قوله: ((ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)) المرجع إلى الله فقوله: ((ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)) هذه قراءة الجمهور على الخطاب، وقراءة أبي عمرو وشعبة عن عاصم: (ثم إليه يرجعون) على الغائب، فترجعون على الخطاب، أي: أنتم (ترجعون) إلى الله، و (يرجعون) على الغائب، أي: يرجعون هم. وقراءة يعقوب ستكون: (ترجعون) و (يرجعون) يقرؤها روح عن يعقوب ويقرؤها رويس عن يعقوب: (ترجعون) و (يرجعون).

تفسير قوله تعالى: (ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون)

تفسير قوله تعالى: (ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون) قال الله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} [الروم:12]، قوله: ((وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ)) أي: اذكر هذا اليوم يوم تقوم الساعة يوم القيامة، وهو يوم عظيم ويوم فظيع، والله عز وجل يذكره في كتابه سبحانه ويؤكد عليه، فتذكر هذا اليوم، وكلما كان ذكر القيامة على بال الإنسان، فإنه يترك معصية الله سبحانه، ويترك الغرور والكبر والتعالي على الخلق، والتعالي على رسل الله عليهم الصلاة والسلام، فهو يتذكر أنه راجع إلى الله، فيعمل لهذا اليوم. قوله: ((وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ)) عندما تقوم الساعة يوم القيامة يقوم الناس من قبورهم، ويحشرون بين يدي ربهم. قوله: ((يبلِسُ الْمُجْرِمُونَ)) أبلس الرجل بمعنى انقطع وتحير ويئس، فهو لم يقدر على النطق وعلى الجواب. كل هذه المعاني في هذه الكلمة (أبلس) يعني: يئس وقنط وانقطع واندهش وتحير، وجلس حزيناً متفكراً ساكتاً مغموماً متحيراً، هذا هو المبلس، فالمجرمون في هذا اليوم يكونون منقطعين متحيرين، وقد كان الواحد منهم في الدنيا يعرف أن يتكلم ويعرف أن يجادل ويجد له أنصاراً، أما يوم القيامة فلا أحد ينصره، وإنما يجلس متحيراً لا يقدر على الاعتراض على شيء، فالله عز وجل ذكر حال المجرمين يوم القيامة أنهم مبلسون، أي: آيسون قانطون من رحمة الله لا يقدرون أن يدفعوا عن أنفسهم.

تفسير قوله تعالى: (ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء)

تفسير قوله تعالى: (ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء) قال سبحانه: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ} [الروم:13] قوله: ((وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ)) أي: كانوا في الدنيا يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] أي: كنا نعبد هؤلاء من أجل أن يقربونا إلى الله عز وجل، فهم كانوا يتقربون إلى الكبراء منهم، فإذا بهم يبرأ بعضهم من بعض يوم القيامة، {يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} [سبأ:31] وهم الأتباع، {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} [سبأ:31] وهم قادتهم وسادتهم {لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} [سبأ:31] أي: أنتم ضيعتمونا في الدنيا، {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ} [سبأ:32] أي: أنتم الذين كنتم مجرمين، وأنتم كنتم سفلة، وأنتم السبب في هذا الشيء، ونحن لم نطغ إلا لما وقفتم بجوارنا، انظر كيف تبرأ هؤلاء الكبار من الصغار؟! كان صغيراً حقيراً في الدنيا ومجرماً طاغياً، وكان كبيراً عالياً في الدنيا ومجرماً طاغياً، الكبير يقول للصغير: أنت السبب الذي جعلتني كبيراً هكذا بطاعتك لي، والصغير يقول له: أنت السبب الذي أضللتني، والله يقول للجميع: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ} [الروم:13]، وقال سبحانه حاكياً تبرؤ بعضهم من بعض: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} [البقرة:166] يعني: الكبار كانوا متبوعين في الدنيا، يمشي الواحد منهم وأمامه ووراءه الآخرون، هذا الكبير يوم القيامة يتبرأ من الذين كانوا وراءه في الدنيا: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا} [البقرة:166] أي: الكبار: ((من الذين اتبعوا)) من الصغار، ثم قال سبحانه: {وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة:166] أي: أسباب المواصلة في الدنيا لا توجد الآن في الآخرة، أما في الدنيا فهذا سيعطي هذا مالاً أو غير ذلك، لكن يوم القيامة تنعدم أسباب المواصلة فتبرأ بعضهم من بعض، وتقطعت بهم الأسباب، فتجد بعضهم يشتم بعضاً، ويلعن بعضهم بعضاً، ويقول لهم ربهم: ادخلوا النار خالدين فيها. ثم قال هنا: ((وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ)) أي: كفروا بمن عبدوه من دون الله.

تفسير قوله تعالى: (ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون)

تفسير قوله تعالى: (ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون) قال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} [الروم:14] أي: يوم القيامة فحين يذكر الله عز وجل قيام الساعة وما فيها من الرعب والتخويف، وكيف أنه سبحانه أقام الساعة بكلمة (كن)، وأنه جمع الجميع بين يديه سبحانه، فقال هنا: ((وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ)) فهنا لا تفرق إلا بعد اجتماع، يجتمع الجميع في موقف واحد، وبعد ذلك يرون منازلهم إما إلى الجنة وإما إلى النار، يفرقهم الله سبحانه وتعالى ذات اليمين وذات اليسار.

تفسير قوله تعالى: (فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون)

تفسير قوله تعالى: (فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون) قال الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} [الروم:15] قوله: ((فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)) ليس الإيمان بالتمني ولكن هو ما وقر في القلب وصدقه العمل، يعني: لا بد مع الإيمان من العمل. قوله تعالى: ((فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ)) الروضة عند العرب: هي المكان الجميل الذي يستمتع فيه الإنسان، يعني: هي مكان منخفض فيه غدير أو بئر ماء أو عين ماء نابعة تجري، وحول الماء ينبت البقول الذي في الأرض، فكانت العرب تفرح بهذا المكان، هذا الشيء في الدنيا، وكأن الله عز وجل يقول: أتحب هذا البستان؟ فما عند الله أعظم من هذا بكثير، وإن سميت روضة، فإنما هو من باب المشاكلة فقط، تشبهاً في الاسم فقط، أما في الحقيقة فما عند الله أعظم بكثير من هذا الذي ترونه في الدنيا، مهما ذهبت إلى حديقة في الربيع، ونظرت إلى ما فيها من ورود ومن ثمار ومن أشياء طيبة واستمتعت بها، فهي لا تسوى شيئاً بجوار الجنة، الجنة أعظم منها بكثير. فيقول الله سبحانه وتعالى: ((فهم في روضة يحبرون))، قوله: ((يحبرون)) هذه كلمة جميلة جداً، حبر الشيء يعني: زين الشيء، فكأنهم يمتعون في الجنة بكل أنواع الزينة، ومهما تخيلت وتفكرت في الجنة فلن تصل إلى ما عليه هذه الجنة العظيمة، والنبي صلى الله عليه وسلم يذكر لنا الجنة ويقول: (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) يعني: ما لا عين رأت من جمال، ومن حور عين، وما فيها من نبت وثمار، وما فيها من طيور، وما فيها من متعة. فإذاً: الإنسان لا يستطيع أن يتخيلها على حقيقتها. قوله: (ولا أذن سمعت) يعني: الإنسان في الدنيا يريد أن يستمتع بالسماع، فتراه يسمع موسيقى، ويسمع أغاني، يريد أن يسمع كذا، وهذا الاستمتاع والاستماع قد حرمه الله عز وجل على المؤمنين في الدنيا، فلما حرم منها في الدنيا عوضه خيراً منها في الآخرة، فقيل للمؤمن: إن تصبر عن هذه في الدنيا فإنا سنسمعك ما لا أذن سمعت يوم القيامة في جنة الله عز وجل، تسمع موسيقى وتسمع أغاني وتسمع أصواتاً عمرك لم تسمعها، لو أن إنساناً يسمعها وهو في الجنة بقوته التي هو عليها في الدنيا لمات طرباً، لن يفرح ويضحك، بل سيموت من شدة الطرب؛ لأنه لا يتحملها الإنسان على ما هو عليه في هذه الدنيا، أما في الجنة فيعطى قوة عظيمة جداً، وأشياء ليست له الآن، لذلك يقول لك ربك: اصبر الآن في الدنيا عن سماع هذه الأشياء التي منعت من سماعها؛ لأنها في الدنيا تلهيك عن ذكر الله سبحانه وتعالى؛ ولأن هذه الأغاني فيها مجون وفيها خلاعة وفيها حب وفيها ضياع الإنسان وابتعاد عن الله سبحانه، ونحن في الجنة سنسمعك ما تطرب به وما تلذ به، ستسمع أصوات الملائكة، وتسمع أصوات الحور العين، وتسمع ما لم تسمعه أبداً، هذا مما يحبر به أهل الجنة، فهم يحبرون ويمتعون ويسرون ويكرمون ويسمعون ما لم يخطر على بالهم من ملاذ تستمتع به آذانهم في الجنة.

تفسير قوله تعالى: (وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون)

تفسير قوله تعالى: (وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون) قال الله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} [الروم:16]، هذا القسم الثاني، القسم الأول: المؤمنون في الجنة يستمتعون بكل ما فيها، أما الكفار المكذبون بآيات ربهم، والمكذبون بنعم ربهم سبحانه، والمكذبون بلقاء الآخرة، وبلقاء الله سبحانه، وبالبعث والنشور والقيام من القبور، والمكذبون بالجنة النار؛ فهؤلاء في العذاب محضرون. ليس هم يحضرون ويذهبون بأرجلهم، بل يريدون أن يهربوا لكن لا يستطيعون، قال تعالى: {يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور:13] أي: يؤخذ أحدهم ويدفع ويلقى في نار جهنم، فهو محضر، ولو يستطيع أن يفر لفر، لكن تأخذه ملائكة العذاب ولا يقدر على الهرب من عذاب رب العالمين سبحانه، فأولئك في العذاب محضرون.

تفسير قوله تعالى: (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون)

تفسير قوله تعالى: (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون) قال الله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم:17] سبح ربك سبحانه الذي خلق فسوى، والذي خلق الجنة وجعل لها أهلاً، وخلق النار وجعل لها أهلاً، فسبح ربك سبحانه بالمساء والصباح، وهذا أمر من الله سبحانه، والأصل أن قوله: ((فسبحان)) مصدر، والمصدر فيه فعل محذوف ولم يعبر به إلا هكذا، فيكون المعنى: سبح ربك تسبيحاً، فيؤتى بكلمة سبحان، بدلاً من هذه الجملة. فقوله: ((فسبحان)) معناها: سبح الله تسبيحاً عظيماً، حين تمسي بالمساء وحين تصبح بالصباح، وباقي اليوم في كل وقت سبح ربك وصل له، لتصل إلى جنته، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل جنته. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.

تفسير سورة الروم [17 - 19]

تفسير سورة الروم [17 - 19] إن تنزيه الله سبحانه وتعالى وتعظيمه واجب على كل مكلف، كيف لا يكون ذلك وآلاؤه مبثوثة في الآفاق والأنفس، وقد أبرز الله لنا في كتابه في عدة مواطن دلائل عظمته وجبروته وقدرته، ومنها: إخراجه الحي من الميت والميت من الحي، فسبحانه أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً وبكرة وعشياً.

تفسير قوله تعالى: (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون)

تفسير قوله تعالى: (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الروم: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم:17 - 18]. في هذه الآيات يأمر الله سبحانه تبارك وتعالى عباده بأن يسبحوه سبحانه وتعالى، والتسبيح قد يأتي بمعنى: التقديس والتنزيه لرب العالمين سبحانه، تقول: سبحت الله عز وجل أي: نزهته سبحانه أن يشبهه أحد من خلقه، فهو منزه مقدس متعالٍ سبحانه، تعالى عن الأشباه والأضداد والأمثال سبحانه تبارك وتعالى. والتسبيح أيضاً قد يأتي بمعنى الصلاة، ومنه قوله: صلاة السبحة بمعنى: صلاة التطوع وصلاة النافلة، وكأن في الآية إشارة إلى التسبيح الذي هو في الصلاة، حيث إن في الآية إشارة إلى مواقيت الصلوات الخمس في قوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم:17 - 18]. ولذلك جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: الصلوات الخمس في القرآن. يعني: أنه قد ورد ذكر الصلوات الخمس في القرآن. فقيل له: أين؟ فقال: في هذه الآية: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم:17 - 18]. فذكر الله الصلوات وأشار إلى التسبيح، أي: سبحوا الله تسبيحاً واجباً في هذه الصلوات الخمس، وكلمة (سبحان) مصدر، والمصدر يغني ويُعبَّر به عن جملة كاملة، فالأصل سبحوا الله تسبيحاً، و (سبحان) تساوي تسبيحاً وهو مصدر يغني عن الجملة، فكأنه قال: سبحوا الله تسبيحاً في هذه الأوقات، وهي الأوقات التي قال عنها: ((حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ)). ذكرت الآيتان أربعة مواقيت تدل على الخمس الصلوات، فقوله: (حين تمسون) أي: وقت المساء، ووقت المساء فيه صلاة المغرب وصلاة العشاء. وقوله تعالى: (حين تصبحون) يعني: حين تدخلون في وقت الصباح. وقوله تعالى: (وعشياً) أي: وقت العشي وهذا الوقت يطلق على الوقت الذي هو من بعد الزوال إلى قبل غروب الشمس، وفيه صلاتا الظهر والعصر، ولكنه نص على الظهر هنا فكأنه قصد بالعشي العصر فقط، وبدأ بالليل لأن الليل يبدأ قبل النهار فذكر أولاً صلوات الليل، وإن كان في سورة الإسراء قال: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78]، فنص على الصلوات هنا فقال: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء:78]، والدلوك: هو الزوال، وهو وقت الصلاة الأولى وهي صلاة الظهر، وتسمى صلاة الظهر: الصلاة الأولى؛ لأنها أول ما صلاها النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه بعد قصة الإسراء والمعراج نزل النبي صلى الله عليه وسلم فأول ما صلى من الصلوات صلاة الظهر، ولذلك سميت الصلاة الأولى، وإن كانت أول صلاة في اليوم هي صلاة الفجر، ولكن أول صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم بعد المعراج كانت صلاة الظهر فسميت بالصلاة الأولى. ففي سورة الإسراء قال الله سبحانه آمراً النبي صلى الله عليه وسلم: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء:78]. أي: أقم هذه الصلاة التي أمرك الله عز وجل بها وهي صلاة الظهر، قوله: (إلى غسق الليل) أي: وصل العشاء والمغرب، وكذلك أمر بصلاة الصبح، إذ قال: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء:78]، كأنه يمدح قرآن الفجر أو يخصه بالفضل، يعني: قرآن صلاة الفجر: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78] يعني: صلاة الفجر كانت مشهودة. إذاً: هنا نص ربنا سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآية على تسبيحه، وهو إشارة إلى التسبيح الواجب في الصلاة، {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} [الروم:17] أي: حين تدخلون في المساء في صلاتي المغرب والعشاء، {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم:17] أي: حين تدخلون في وقت الصبح.

تفسير قوله تعالى: (وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون)

تفسير قوله تعالى: (وله الحمد في السماوات والأرض وعشياً وحين تظهرون) قال الله تعالى: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الروم:18]، هذه جملة معترضة بين الأمر بالتسبيح والصلاة في المساء والصباح وبين الأمر بما في العشي والظهر، فقال: {وَلَهُ الْحَمْدُ} [الروم:18] أي: له الحمد أن أمركم بالصلاة، وله الحمد أن خلقكم سبحانه، ودلكم على دينه، وله الحمد أن دلكم على عبادته؛ لتكونوا من أهل جنته سبحانه تبارك وتعالى. قال تعالى: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ} [الروم:18] أي: يحمده أهل السموات، والحمد: هو الثناء الحسن الجميل على الله سبحانه تبارك وتعالى. وقوله: {وَالأَرْضِ} [الروم:18] أي: ويحمده أهل الأرض، بل قد قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]، فكونوا ضمن من يسبحونه، فلو قورن البشر بمخلوقات الله عز وجل لكانوا شيئاً قليلاً بجوار ما خلق الله في السموات والأرض من حيوان وأجناس كثيرة جداً، فما من حيوان أو طير أو حشرات أو غيرها إلا ويسبح بحمده تعالى، ولذلك قال الله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [الحج:18] أي: فليس كل الناس كذلك، {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [الحج:18]، وهذه المجموعة التي حقت عليها العذاب، والتي أبت إلا الهوى والبعد عن الله سبحانه تبارك وتعالى إذا قورنت بهذا الخلق العظيم الذي يسجد لله سبحانه فكأنها لا شيء، فالله سبحانه تبارك وتعالى {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44]، ولذلك أخبرنا أنه محمود في السموات، محمود في الأرض. ثم بعد هذه الجملة المعترضة التي دلت على حمده سبحانه، وأنه ينبغي على العبد إذا ذكر الله سبحانه أن يسبحه، وأن يحمده سبحانه ويقول: الحمد لله سبحان الله وخاصة في الصلاة، قال: {وَعَشِيًّا} [الروم:18]، أي: في وقت العشي، وهو من الزوال إلى غروب الشمس، ويكون فيه صلاة الظهر وصلاة العصر. وقال: {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم:18] أي: حين تدخلون في الظهيرة وهو وقت دلوك الشمس أو وقت صلاة الظهر.

تفسير قوله تعالى: (يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي)

تفسير قوله تعالى: (يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي) قال سبحانه: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الروم:19]. إن نعم الله عظيمة، وهذه السورة بدأها الله عز وجل بالآيات التي يوجد فيها الإعجاز، وكل هذه السورة إعجاز، بل كل القرآن إعجاز، فهناك إعجاز في النبوءة، وهناك إعجاز في الإخبار، وهو أن يحدثنا القرآن عن أشياء قد تغيب عن ذهن الإنسان، وهو ينظر إليها ويعرفها ولكنه لا يتفكر فيها، فإذا تفكر فيها ظهرت له بعض دلائل قدرة الله سبحانه العظيمة التي لم يتفكر العبد فيها، فالله عز وجل هو القوي القاهر القادر سبحانه، وهو الخلاق العظيم.

من مظاهر قدرة الله في الخلق

من مظاهر قدرة الله في الخلق قال تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الروم:19]. ما ذكرته الآية يشاهده الإنسان، فالدجاجة عندما تبيض بيضة، فهذه البيضة تراها جماداً أمامك لا حياة فيها إذ إنها لا تتحرك ولا تعمل، فالدجاجة حية خرج منها شيء أنت تراه ميتاً، وإن كان كل شيء أوجد الله عز وجل فيه حياة من جنس معين، والبيضة قد يكون فيها شيء من الحياة أودعها الله عز وجل فيها إن كانت جماداً أمامك بحسب ما تنظر إليها، فإذا بالله عز وجل يحرك شيئاً بداخلها، فإذا لقحت هذه البيضة صار بداخلها فرخاً نما وخرج منها، فرأيته أمامك حياً وقد خرج من شيء كان جماداً، فتتعجب من قدرة الله سبحانه تبارك وتعالى! أيضاً: شعر الإنسان هو جماد، ولكن فيه حياة معينة كحياة النبات، فينمو الشعر بهذه الحياة النباتية، وإن كنا نحن نقول: إن هذا الشيء جامد لا يتحرك، إذاً: هنا الإنسان حي، والشعر الذي فيه ميت، وإن كانت له حياة من جنس خاص. وكذلك الحال في الإنسان، يلتقي الرجل والمرأة فتصير المرأة حاملاً من مني الرجل الذي دخل فيها، وكان نطفة، والنطفة ماء سائل يستقذره الإنسان، وإذا وضع أمامه في الإناء فينظر إليه أنه سائل شيء ميت ليس فيه حياة، مع أن فيه حياةً من نوع خاص، ففيه حيوانات منوية لا تراها بعينك، وتراها بالمجهر وهي تجري بداخل النطفة، وهذه النطفة التي خرجت من الإنسان إذا وضعت في زجاجة نراها شيئاً ميتاً جماداً، فإذا دخلت في بطن المرأة ينميها الله، وتحتوي النطفة الواحدة على الملايين من الحيوانات المنوية التي لا تراها أنت، وهذه الملايين قضى الله وقدر أن يفلح واحد منها فقط، وهذه الملايين في مساحة ثلاثة سنتيمتر تقريباً، فيفلح حيوان منوي واحد فيلقح بويضة المرأة، وأيضاً كانت البويضة في المرأة جسماً ميتاً، ولكن فيها حياة من نوع خاص، وهي حياة نباتية تنمو شيئاً فشيئاً، فاجتمع المنوي والبويضة فتحولا إلى كتلة لحم في يوم من الأيام وهي مرحلة العلقة، وبعد أيام صارت مضغة، وبعدها تتخلق هذه المضغة، ويرسل الله عز وجل الملك إليها، فإذا بهذا الملك ينفخ فيها الروح بأمر الله سبحانه، فتظهر فيها حياة بعد مضي أربعة أشهر على المرأة، وإذا بالجنين في بطن أمه تظهر له حركة وينمو حتى يخرجه الله سبحانه، فإن شاء أنزله حياً، وإن شاء أنزله ميتاً، فأخرج الله الحي من الميت وأخرج الميت من الحي سبحانه تبارك وتعالى. وقد يحصل أن المرأة تموت فيذهبون بها إلى المستشفى، وبداخلها جنين حي، فيشقون بطنها ويخرجون الجنين حياً، وتكون الأم ميتة. وأعجب من ذلك ما حصل في روسيا قبل سنة أو سنتين، وهو أن أماً ماتت موتاً إكلينيكياً -كما يقولون- الأجهزة على جسدها ويتحرك القلب والرئة، وهي كما هي، فشقوا بطنها وأخرجوا الجنين حياً، والمرأة محكوم عليها أنها ميتة، إذا أخذت الأجهزة منها تموت، وإذا تركوا الأجهزة كما هي عليه إذا بالطفل بجوار المرأة يرضع من ثديها على هذه الحالة مدة حتى اطمأنوا أنه سيعيش، فأخذوا الأجهزة والمرأة ميتة، ثم دفنت والطفل حي! فسبحان من قال: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم:19]. وقس على ذلك ما تراه من أشياء أمامك. وكذلك يحيي الله عز وجل الأرض بعد موتها، فتراها مجدبة قاحلة فينزل المطر من السماء يغيث الله عز وجل به العباد، ويخرج لهم النبات من الأرض، فإذا بالحياة النباتية خرجت من هذه الأرض الميتة الجرداء. وكذلك البذرة ترميها في الأرض، فتخرج قمحاً حياً حياة نباتية، ويخرج الله هذا النبات الحي من هذه البذرة التي كانت ميتة. والنواة التي تلقيها في الأرض وهي نواة ميتة في نظرك أنت، فإذا بالله عز وجل يحييها في الأرض وتخرج منها الشجرة والنخلة العظيمة، {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [الروم:19]، فتنمو الشجرة، ثم يظهر البلح فوقها، فتأخذ البلح وتراه أمامك جماداً ليس فيها حياة، {وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [الروم:19]، فإذا ألقيت النواة في الأرض، إذا بالله يخلق فيها الحياة وتطلع شجرة مرة أخرى، كذلك يقلب الله الليل والنهار، ويريك عظيم آياته أفلا تتدبر وتعقل؟!

عظمة قدرة الله في إحياء القلوب

عظمة قدرة الله في إحياء القلوب لقد جاء القرآن هداية وحياة للقلوب الميتة، ولذلك جاء في حديث رواه الزهري بلاغاً: (أنه صلى الله عليه وسلم دخل على نسائه، فإذا بامرأة حسنة الهيئة فقال: من هذه؟ فقلن: إحدى خالاتك - خالة من خالات النبي صلى الله عليه وسلم- فقال: من هي؟ قلن: هي خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث فقال صلى الله عليه وسلم: سبحان الذي يخرج الحي من الميت!). وكانت هذه المرأة مؤمنةً صالحةً، وكان أبوها كافراً فاسداً فأخرج الله عز وجل هذه المؤمنة من ذاك الكافر، فالله عز وجل على كل شيء قدير. {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} [الروم:19]، يخرج الإنسان التقي من صلب الإنسان الشقي، وكذلك العكس فقد يكون الأب تقياً باراً، ويكون الابن شقياً فاسداً، {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [الروم:19]، وقس على ذلك كل ما يظهره الله عز وجل في خلقه؛ ليري عباده من آياته العظيمة سبحانه تبارك وتعالى، ولله في خلقه شئون.

من آيات الله نوم البشر وآداب ذلك

من آيات الله نوم البشر وآداب ذلك يعلمنا الله في القرآن ويذكرنا: أن سبحوا الله، وانظروا إلى بديع قدرته، وإلى آيات عظمته، ويذكر لنا من آياته حتى نتفكر في ذلك، ويتدبر ذلك نبينا صلوات الله وسلامه عليه، ويعلمنا أن الإنسان قبل نومه حي وعند نومه يصير ميتاً بهذا النوم، إذ إن الله يتوفى الأنفس حين موتها، والتي لم تمت يتوفاها في منامها، فالنوم أخو الموت، والنوم هو الموتة الصغرى، ولذلك فإن أهل الجنة لا ينامون في الجنة؛ لأن النوم أخو الموت، فذاك موت أكبر، وهذا موت أصغر، ولهذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا نام عليه الصلاة والسلام ذكر الله عز وجل بأدعية معينة، وإذا قام من نومه ذكر الله بأدعية أخرى، ففي قيامه يقول: (الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور)، ففي الإنسان نفسه آية من الآيات، فهو لا يستغني عن هذا الموت أبداً، فمن يستغني عن النوم؟ لا أحد يقدر على ذلك، فينام الإنسان ولا يقدر على الاستغناء عن هذا النوم الذي يحتاجه في كل يوم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نام يقول: (اللهم رب السموات ورب الأرض ورب العرش العظيم، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والقرآن) فيذكر الله سبحانه تبارك وتعالى بأوصافه العظيمة، وبخلقه العظيم البديع، يقول: (فالق الحب والنوى، ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عني الدين، وأغنني من الفقر). إن هذا الدعاء العظيم فيه تعظيم الله جل في علاه: (اللهم رب السموات ورب الأرض)، يعني: يا رب! يا خالق! يا رازق! يا مدبر أمر السموات والأرض!، (ورب العرش العظيم)، أي: يا خالق عرشك العظيم! يا مدبر أمره! يا ربنا ورب كل شيء! (فالق الحب والنوى)، فالله يفلق الحبة وقد كانت جامدة فيخرج منها ساقها ويخرج منها جذرها، ويخرج منها نباتها، فهو فالق الحب. (وفالق النوى) أي: فلق النوى فأخرج منها النخلة العظيمة، فكأنه يقول: أنت الذي أحييت هذه الأشياء، ومناسبة ذكرها هنا: أني سأنام وأنت تحييني من هذا النوم، كما تحيي هذه الحبة فتصير سنبلة، وكما تحيي هذه النواة فتصير نخلة. قال: (ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان)، أما المناسبة هنا، فإن الله أنزل التوراة والإنجيل والقرآن، كما أنزل المطر من السماء، يحيي به الله عز وجل الأرض بعد موتها، وبهذه الكتب السماوية يحيي الله القلوب بعد كفرها وموتها، فالكتب السابقة للقرآن فيها حياة لخلق الله سبحانه حين أنزلها الله سبحانه إلى أن يأتي الله بغيرها، فجاء القرآن آخر كتاب من عند رب العالمين، أنزله سبحانه ليكون هو الشريعة إلى يوم الدين. يقول صلى الله عليه وسلم بعد أن سأل الله بهذه الصفات: (أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته)، وفي رواية: (من شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته)؛ ليعلمنا أن الإنسان ينام ويتعوذ بالله من الشرور، فهو لا يدري ما الذي سيحدث له في الليل، وما الذي يأتي عليه في النهار، فيتعوذ بالله من شر كل ذي شر هو آخذ بناصيته، وكل شيء فإن الله آخذ بناصيته، سواء كان إنساناً، أو حيواناً، أو طيراً، أو دابة، أو هامة، أو ناراً، أو جماداً، أو ماءً، فيتعوذ بالله من كل شيء شيطاناً أو إنساً، أو غيره. ثم قال صلى الله عليه وسلم: (أنت الأول فليس قبلك شيء) أي: أن الله هو الأول فلا شيء سابق عليه، فالله قبل كل شيء سبحانه، والله هو الحي بعد فناء كل شيء سبحانه تبارك وتعالى. (وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر) أي: أن آيات الله ظاهرة، وحججه قوية غالبة، فالله هو الظاهر سبحانه، وهو الذي يدل كل شيء عليه سبحانه تبارك وتعالى، وكل شيء فيه آية تدل على ربنا سبحانه تبارك وتعالى وعلى وجوده، وعلى قدرته، وعلى ما يفعله في خلقه سبحانه من آياته، فهو الظاهر والغالب سبحانه لكل شيء، والقاهر لكل شيء. قال: (فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء) أي: أن الله سبحانه تبارك وتعالى يعلم باطن كل شيء، ومهما بطن الشيء ومها اختفى، فإنه لا يخفى على الله سبحانه تبارك وتعالى، فيعلم الله الظاهر الواضح، ويعلم أيضاً الدقيق الخفي، وأيضاً فإن الله غيب لا يراه أحد إلا إذا شاء في جنة الخلود، فيري عباده الصالحين نفسه سبحانه وتعالى، فنسأله سبحانه أن يجعلنا ممن يرونه في جنته. وبعد أن سأل الله بذلك قال: (اقض عنا الدين)، فسأله أن يقضي عنه الدين، والإنسان يعلق بدينه ولو مات شهيداً، فلذلك كان الدين من أخطر الأشياء على الإنسان، فإذا نام الإنسان، وعليه دين فلعله لا يقوم من نومه فماذا سيعمل بالدين؟ سيحبس في قبره، ويحبس على النار بسبب هذا الدين، والله عز وجل يقضيه عمن يشاء سبحانه. قال صلى الله عليه وسلم: (وأغنني من الفقر).

إحياء الله الأرض بعد موتها

إحياء الله الأرض بعد موتها في هذه الآية أخبر الله سبحانه أنه: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم:19]، فالله تعالى يذكر لنا هذه الآيات من إخراج الحي من الميت وغير ذلك؛ ليقول لنا بعدها: {وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الروم:19]، فكما ترون هذه الأشياء ماثلة أمام أعينكم، من أن الله يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، فإذاً: الله على كل شيء قدير سبحانه تبارك وتعالى، فسيخرجكم من قبوركم للبعث والحساب! {وَيُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم:19] فهذه البذور التي كانت مدفونة داخل الأرض، وهذا النوى الذي كان مدفوناً داخل الأرض، نزل عليه المطر من السماء فأحيا الله عز وجل هذا كله، وقد رأيتم ذلك واطلعتم عليه، فأنتم إذا دفنتم بداخل هذه الأرض أفلا يقدر سبحانه على أن يحييكم مرة ثانية كما أحيا هذه الأشياء؟ بلى، فإن الله على كل شيء قدير، ففي ذلك عبرة للإنسان الذي له قلب وعظة لمن يتفكر. ثم ذكر الله آيات عظيمة من آياته في خلق الإنسان من تراب، وفي خلق السموات والأرض، وفي اختلاف ألسنة الناس وألوانهم، وفي منام الإنسان في الليل وفي النهار، وفي ابتغاء الإنسان من فضل الله وتضرعه إليه وطلبه من فضله ومن رحمته، ومن إنزال المطر، ومن أنه يري عباده البرق خوفاً وطمعاً، ومن أنه يقيم السماء والأرض بأمره سبحانه تبارك وتعالى، وأنه إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون، ففيها آيات عظيمة، وتفصيل هذا الموضوع سيأتي لاحقاً إن شاء الله. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الروم [17 - 20]

تفسير سورة الروم [17 - 20] أخبر الله سبحانه وتعالى أن كل شيء يسبح بحمده، وأمر العباد بالتسبيح والتمجيد له في كل وقت وحين، ويذكرهم الله سبحانه بمعجزاته التي أودعها في خلقه، وبيّن خلق الإنسان وحقارة شأنه، ولكن الله كرمه، فليشكر ربه على نعمه وآلائه.

تفسير قوله تعالى: (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون)

تفسير قوله تعالى: (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الروم: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ * يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:17 - 21]. لما أمر الله سبحانه وتعالى عباده بتسبيحه سبحانه حين يمسون وحين يصبحون، وبالعشي وحين يظهرون، فيها إشارة إلى الصلوات الخمس كما قدمنا في الحديث السابق، وقال: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ} [الروم:17]، أي: فسبحوا الله تسبيحاً وسبحانه، {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} [الروم:17] أي: وقت المساء، {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم:17] أي: وقت الصباح. فالتسبيح المقصود: أن العباد يسبحونه ويقدسونه سبحانه، ويذكرونه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وسبحان ربي العظيم، وسبحان ربي الأعلى، تقديساً لله وتنزيهاً له من أن يشبهه شيء من خلقه سبحانه وتعالى، فقال: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم:17]، والمساء: هو الليل، وصلوات الليل: المغرب والعشاء، {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم:17]، صلاة الصبح، {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الروم:18]، هذه جملة معترضة، {وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم:18] أي: سبحوه في وقت العشي في صلاة الظهر والعصر. ونص على الظهر فقال: {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم:18]، فهو إشارة إلى الصلوات الخمس، وبعمومه أمر بتسبيح الله عز وجل في كل وقت، فالمسلم يكثر من قوله: سبحان الله، يسبح الله سبحانه وتعالى بهذه الكلمة العظيمة، والمؤمن عندما يقول: سبحان الله يؤجر عليها، وهذه من الباقيات الصالحات والمعقبات التي لا يخيب قائلهن كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يخيب قائلهن: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)، فالإنسان الذي يقول ذلك يفلح عند الله ولا يخيب أبداً، فقد جاء في الحديث أن: (غراس الجنة سبحان الله، والحمد لله)، غراس الجنة يعني: تغرس غرساً في الجنة بأنك تقول: سبحان الله، والغرس في الدنيا هو غرس شجرة في الأرض أو نخلة في الأرض، فتغرس لنفسك في الجنة غراساً وأشجاراً ونخيلاً، وذلك بأن تقول: سبحان الله وتكرر هذه الكلمة، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، فتستحق موضعاً في الجنة وغرساً في الجنة بذلك. وإذا أصبحت فقلت: سبحان الله وبحمده، مائة مرة أفضل لك عند الله سبحانه من أن تحمل على مائة فرس في سبيل الله سبحانه وتعالى، ومن قال: سبحان الله وبحمده مائة مرة غفر الله له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر. والأحاديث كثيرة في فضل التسبيح والمسبح لربه سبحانه وتعالى، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض). لذلك فإن المؤمن لا يستقل قوله: سبحان الله، بل ينظر إلى معناها وإلى الثواب الذي من ورائها. واعترض بقوله سبحانه: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الروم:18] أي: هو الذي يحمده أهل السموات ويحمده أهل الأرضين، وهو المستحق لذلك سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي)

تفسير قوله تعالى: (يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي) قال الله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الروم:19]، فالله سبحانه وتعالى يخرج الشيء الحي الذي فيه حياة من الميت، وكل شيء خلقه الله عز وجل فيه شيء من الحياة التي أودعها الله عز وجل، ويتحرك الشيء حتى ولو حركة في داخله، في ذراته أو في نواته أو في الشحنة الكهربية التي فيه، ولكن المقصود هنا بالحي الذي فيه حياة تراها أنت وتحس بها. يخرج هذا الحي من الميت: {وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [الروم:19]، كإخراج البيضة من الدجاجة، والفرخة من البيضة، ويخرج الإنسان من مني يمنى ومن بويضة، كان هذا وذاك جامداً فإذا بالله يبعث فيها الحياة، وكذلك النواة يخرج منها النخلة، والنخلة يخرج منها الثمرة، والثمرة يخرج منها هذه النواة، وهكذا. قال تعالى: {وَيُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم:19]، هذا كله مشاهد. ثم قال: {وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الروم:19]، يقول أهل الأصول: هذه الآية دليل من أدلة القياس، والأدلة عند الأصوليين هي: الكتاب، والسنة، والإجماع، والاستصحاب للبراءة الأصلية، والاستحسان، وقول الصحابي، وشرع من قبلنا، وغير ذلك من الأدلة الأصولية، فالله عز وجل قال هنا: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [الروم:19]. فأنتم ترون قدرة الله سبحانه في أن أخرج شيئاً حياً من شيء كان ميتاً، وأخرج شيئاً ميتاً من شيء كان حياً هذا الذي نراه أصل نراه أمامنا، والقياس هو إلحاق فرع بأصل في حكمه يعني: نعطي للفرع حكم الأصل، للجامع الذي بين الاثنين، فنقول: الله عز وجل حرم على العباد الخمر؛ لعلة موجودة فيه وهي الإسكار، فكل ما كان مسكراً ففيه هذه العلة، فيأخذ حكم الأصل وهو التحريم في حكم الخمر، هذا قياس، إلحاق فرع بأصل في حكمه لجامع بينهما. فهنا الأصل ما تراه أمامك من بديع خلق الله عز وجل، {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم:19]، فهذه أشياء رأيتها أنت ودلت على كمال قدرته وعظمته سبحانه. كذلك مثل الذي تراه أنت يخرجك الله سبحانه وتعالى يوم القيامة، فأنت حي الآن ثم تصير ميتاً بعد ذلك، فكما أن هذه النخلة حية، وخرج منها تمرة، وخرج من التمرة نواة ميتة، فوضعت النواة في الأرض فأحياها الله عز وجل مرة ثانية، كذلك أنت حي تصير ميتاً بداخل الأرض، ثم يخرجك الله عز وجل مرة ثانية، فإذا أنكر الإنسان البعث قل له: قس نفسك على هذا الشيء الذي يخرجه الله أمامك وأنت مستيقن به أنه أخرج الحي من الميت وأخرج الميت من الحي. فهذا دليل من الأدلة عند الأصوليين يسمى بالقياس. من أدلة القياس في كتاب الله سبحانه وتعالى قوله: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:2]، والمعنى: انظروا إلى الأمم السابقة ما الذي صنعوه؟ وماذا كانت النتيجة وحكم الله عز وجل في هؤلاء؟ وانظروا إلى أنفسكم ما الذي تصنعون؟ فإذا كانت العلة في إهلاك هؤلاء موجودة فيكم فالحكم واحد، كما أهلكهم يهلككم أنتم أيضاً، فقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا} [الحشر:2] أي: قيسوا أنفسكم على هؤلاء السابقين، إذا فعلتم فعلهم استحققتم عقوبة هؤلاء، فهذا من أدلة القياس في كتاب الله سبحانه وتعالى. ومن أدلة القياس في سنة النبي صلوات الله وسلامه عليه ما جاء عنه حين سأله عمر رضي الله عنه وقال: هل أقبل وأنا صائم؟ هذا سؤال عمر، يقول للنبي صلى الله عليه وسلم هل أفطر بهذا الشيء، أي إن قبلت امرأتي وأنا صائم؟ فالنبي صلى الله عليه وسلم قال له: (أرأيت لو تمضمضت وأنت صائم؟)، فهنا يكون القياس، والحكم فيما لو أنك تمضمضت أثناء الصيام لا شيء في ذلك، فقال: لا شيء، فقال: (فمه). إن المضمضة مقدمة لبلع الماء ولشربه، ولكن ليس في التقبيل بلع ولا شرب، فالصوم على ذلك صحيح، كما أن الإنسان لو تمضمض وهو صائم فصومه صحيح ما لم يبلع الماء أو يشربه، فالقبلة مثل المضمضة، والنبي صلى الله عليه وسلم أراه هذا القياس، هذا هو معنى القياس وهو: إلحاق فرع بأصل في الحكم لجامع العلة بينهما.

تفسير قوله تعالى: (ومن آياته أن خلقكم من تراب)

تفسير قوله تعالى: (ومن آياته أن خلقكم من تراب) قال الله سبحانه وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} [الروم:20]، آية من آيات الله العظيمة لمن يتفكر فيها، فإن الله تعالى يقول: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، فالعلماء هم الذين يخشون الله سبحانه وتعالى. وكلما ورث العلم زادت الخشية في القلب من الله عز وجل، وصار صاحبه مستحقاً لرحمة رب العالمين سبحانه وتعالى، فهنا يذكر لنا هذه الآيات: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الروم:20]، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} [الروم:21]، {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم:22]، {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [الروم:23]، {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الروم:24]، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ} [الروم:25]، آيات بعد آيات ليتدبر الإنسان في آيات الله سبحانه وتعالى، وآيات الله عز وجل عظيمة وكثيرة. ومن ضمن آيات الله العظيمة، ومن ضمن هذه المعجزات التي نراها: {أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الروم:20] أي: بدأ خلق الإنسان من تراب، ثم جعله نطفة {فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون:13]، ثم خلق هذه النطفة علقة، ثم خلقها مضغة، ثم جعل المضغة عظاماً وكسا العظام لحماً، ثم أنشأ الإنسان خلقاً آخر كما ذكر سبحانه في سورة المؤمنون، وفي سورة الحج التفصيل في ذلك. قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الروم:20]، وخلق الإنسان ليس من تراب فقط، ولكن من تراب ومن ماء، أي: من طين، هذا أصل الإنسان، والعلماء الذين ينظرون في ذلك يقولون: إن كل عناصر الإنسان موجودة في هذا التراب الذي يمشي فوقه، فالله يخبرك أنه خلقك من هذا التراب الذي تسير عليه، هذا التراب الذي يحتقره الإنسان، والذي لو سقط على ثوب الإنسان بسرعة ينفض التراب ويغسل الثوب، فهو يستقذر ثوبه بهذا التراب، وهو مخلوق من هذا التراب، ويمشي فوق الأرض ويطأ على الأرض برجله وهو يحتقر هذا الذي يسير عليه، وهو أصلاً خلق منه، إن العلماء حللوا جسم الإنسان فوجدوا عناصر التراب الذي في الأرض أكثر من عناصر الإنسان، ووجدوا أن جسم الإنسان يحتوي على مجموعة من العناصر موجودة كلها في التراب، والتراب فيه عناصر أكثر منه. فالتراب فيه حوالى مائة عنصر من العناصر، والإنسان فيه اثنان وعشرون عنصراً من هذه العناصر الموجودة في التراب، فحين يموت الإنسان يصير تراباً في الأرض من ضمن التراب الموجود في الأرض، وقالوا: إن في جسم الإنسان الأكسجين، وفيه الهيدروجين على شكل ماء، وخمسة وستون في المائة من جسم الإنسان ماء. ويقول العلماء: في جسم الإنسان عناصر مثل الكربون، ومثل الهيدروجين والأكسجين، وتشكل في الإنسان ما يسمى بالمركبات العضوية من سكريات، ودهون، وبروتينات، وفيتامينات، وهرمونات، وخمائر، كلها مواد موجودة من الكربون والأكسجين والهيدروجين الذي في الإنسان، وهي مواد جافة خلقها الله سبحانه وتعالى فيه. يقول العلماء: هذه المواد تقسم ثلاثة أقسام: القسم الأول: مواد الكلور، والكبريت، والفسفور، والبوتاسيوم، والصوديوم تشكل ستين إلى ثمانين في المائة من المواد الجافة الموجودة داخل الإنسان. القسم الثاني: مواد بنسبة وهي الحديد، والنحاس، واليود، والمغنسيوم، والمنجنيز، والكوبالت، والتوتيا، والملفيديم. القسم الثالث: عناصر آخر أقل من ذلك بشكل فقير جداً في الإنسان وبشكل زهيد، والله عز وجل ركب كل شيء في الإنسان بحكمة، ولو زاد هذا الشيء لحصل للإنسان تسمم، فأقل هذه العناصر وجوداً في الإنسان الفلور، الألمنيوم، القورن، السلنيوم، الكنديون، الكروم. وتركيب الإنسان كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون:12] أي: من خلاصة من هذا الطين، إذاً: ليس خلقه من كل التراب، ولكن من بعض عناصر التراب، ومع ذلك كرمه الله سبحانه وتعالى فقال: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70]. ولذلك الشيطان احتقر آدم، وأبى أن يسجد له؛ لأنه مخلوق من تراب فقال: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]. فلو أن الإنسان عومل هذه المعاملة على أنه عبارة عن منجم من المناجم التي فيها هذه العناصر، فإنه لا يساوي شيئاً، وقال العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن الإنسان فقال: (إن الله خلق آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض)، إذاً: آدم قبضة مقبوضة من جميع الأرض، فجاء منها آدم، وجاء من آدم أولاده على حسب هذه الأرض، جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك، والسهل، والحزن، والخبيث، والطيب. والأرض فيها أرض بيضاء، وأرض حمراء، وأرض سوداء، وأرض طيبة، وأرض خبيثة، وأرض سهلة، وأرض جبال صعبة، والإنسان جاءت خلقته على ما هو موجود في الأرض. وقالوا: إنه بتحليل جسم الإنسان عرفنا أنه تكون من مركبات، من ضمنها هذه المعادن التي في الإنسان، مثل: الفسفور والكبريت والمغنسيوم والكالسيوم والبوتاسيوم وغيرها، وقال العلماء: لو أخذت المعادن التي في جسم الإنسان وقمت بتركيبها لخرجت بالمكونات التالية: علبة طباشير، وعلبة كبريت، ومسمار صغير، وحفنة من الملح، ومواد أخرى لا قيمة لها، هذا هو أصل خلق الإنسان! ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم نبه أصحابه إلى ذلك، وبصق في يده الشريفة صلى الله عليه وسلم وأخبر أن الإنسان خلق من مثل هذا البصاق، ثم يتعالى على الله سبحانه وتعالى، ويأبى أن يعبد الله سبحانه وتعالى!! يقول العلماء: إن الثوب الذي يلبسه الإنسان أغلى من العناصر الموجودة فيه والتي تكون منها، والساعة التي يلبسها في يده أغلى من العناصر الموجودة فيه، ولكن الذي كرمه وجعل له القدر والقيمة هو الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70]، إذاً: التكريم في أصله لا يستحقه، ولكن الله بفضله وبكرمه سبحانه رفعه، وكرمه، وأسجد له الملائكة، وجعل في الإنسان ما يعود إلى ربه من فضل الله سبحانه، وخلق الإنسان من طين، وخلق الشيطان من نار، ولو خلق الإنسان من نار لنفر كالشيطان، فآدم لما أخطأ رجع إلى أصله، رجع إلى الطين الذي فيه التؤدة، والذي فيه احتقار النفس، والذي فيه التواضع والركون إلى ربه سبحانه وتعالى. والشيطان لما تغيظ رجع إلى أصله، إلى النار، وإلى النفور والرفض فقال لله سبحانه وتعالى: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82]، {قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء:61]، رجع الشيطان إلى أصله، وقال: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]، وآدم رجع إلى أصله، وهو الطين لما عصى الله سبحانه وتعالى، فقال: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]، فرجع إلى أصله الطين، حيث احتقر نفسه فتواضع لله فاستحق أن يغفر الله عز وجل له، وأن يعيده إلى الجنة مرة ثانية، فكان أن خلق الله الإنسان من طين فضلاً ومنة منه سبحانه على العبد، فيستشعر الإنسان في نفسه بأنه عبد لله وأنه حقير، وأن الله الخالق الجليل الكبير العظيم الذي يستحق العبادة، فيعبد ربه ويتوب إليه سبحانه وتعالى. وهنا في الآية يقول الله سبحانه وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} [الروم:20]، وفي الآية الأخرى يقول: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} [يس:36]، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الروم [20 - 22]

تفسير سورة الروم [20 - 22] أنى التفت الإنسان إلى الوجود وجد أمام عينيه آية شاهدة على عظمة خالق هذا الوجود، ولما كان القرآن هو خطاب الله للناس جميعاً، فقد حث الله فيه عباده أن يتأملوا في الكون ليدركوا عظمة الخالق سبحانه، فقد خلق الإنسان من التراب، ونشره في الأرض، وخلق له الزوجة لتكون سكناً له، وملأ قلوب الزوجين مودة ورحمة، وخلق السماوات والأرض، وجعل ألسنة الناس وألوانهم مختلفة، وهذه آيات للعالمين شاهدة على واحدانية الله تعالى واستحقاقه للعبادة.

تفسير قوله تعالى: (ومن آياته أن خلقكم من تراب)

تفسير قوله تعالى: (ومن آياته أن خلقكم من تراب) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الروم: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم:20 - 22]. إن آيات الله عز وجل في الكون كثيرة عظيمة جليلة، يرينا بعضها في كتابه سبحانه تبارك وتعالى، ولم يذكر لنا كل الآيات التي في الكون، فإنها من الكثرة لا تحصى، كما أنك لو تتبعت آيات الله عز وجل لوجدت له في كل شيء آية تدل عليه، ففي خلق الإنسان آية، بل في كل عضو من أعضائه آية، وفي كل جارحة من جوارحه آية من آيات الله سبحانه تبارك وتعالى، كما أن خلقه لكل المخلوقات التي لا يحصيها الإنسان آية من آيات رب العالمين سبحانه. وفي الآيات السابقة يذكر لنا بعض هذه الآيات الكثيرة، و (من) في فواتح الآيات تبعيضية، أي: سيذكر البعض من آيات الله ليدلنا على غيرها، ولعل الإنسان يتفكر ويعتبر بهذه الآيات. فذكر في هذه السورة آيات متتالية بدأها بقوله: (ومن آياته) (ومن آياته) (ومن آياته). فكررها ست مرات ليستبين العبد قدر ربه وعظمته. قال سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} [الروم:20]، أول آية من آيات رب العالمين سبحانه ذكرنا بها هي أن الإنسان كان تراباً جامداً لا حياة فيه، فإذا به يصير إنساناً حياً عاقلاً، يملأ الأرض حركة وإعماراً وعملاً، فمن آيات الله أن خلق هذا الإنسان من هذا التراب الذي يمشي عليه، وجعله متحركاً خلاف أصله. قال تعالى: {ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} [الروم:20] أي: يبثكم الله سبحانه ويذرؤكم في أرجاء هذه المعمورة، فأنتم تنتشرون على الأرض بالتناسل، فالله سبحانه تبارك وتعالى هو الذي يخلق من الإنسان إنساناً، فيخلق الأولاد والأحفاد إلى أن يأتي على الناس يوم المعاد.

تفسير قوله تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا)

تفسير قوله تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً) قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21]. من آيات الله سبحانه تبارك وتعالى العظيمة، أن خلق للإنسان من نفسه زوجة، فقد كان أول من خلق الله عز وجل من الناس آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وجعل له من نفسه أي: من داخله ومن ضلعه حواء؛ ليأنس بها آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فلم يجعل لآدم زوجة من غيره مثلاً، كأن تكون من جنس من أجناس الحيوان أو من الجان أو من غير ذلك من المخلوقات، ولكن جعل له زوجة من نفسه ليألفها وتألفه، فهي مخلوقة من آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ولذلك لما كان آدم في الجنة وأراد الله سبحانه تبارك وتعالى أن يخلق له زوجة، كأنه أنامه فلم يشعر آدم إلا وبجواره إنسان، فسئل: من هذه؟! فقيل له: هذه حواء، فأنس بها وأنس لها عليه الصلاة والسلام، وكان من بديع خلق الله سبحانه تبارك وتعالى أن جعل الرجل يسكن إلى الأنثى، وجعل الأنثى كذلك تسكن إلى الرجل، بل جعل الله سبحانه تبارك وتعالى الذكر لباساً للأنثى، كما جعل الأنثى لباساً للرجل فقال سبحانه: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187] أي: كل منهما ستر للآخر وغطاء له، فيركن الرجل إلى امرأته، ويسكن إليها، ويألفها، ويحبها، ويكون بينه وبينها المودة والرحمة، وكذلك المرأة، فكان من آيات رب العالمين سبحانه تبارك وتعالى، أن جعلها زوجة له بشرعه سبحانه تبارك وتعالى، فإنها إذا لم تكن زوجة له لا يأنس إليها، بل يكون بينهما نفور؛ لأنهما اجتمعا على معصية الله سبحانه تبارك وتعالى، فالنكاح شريعة من رب العالمين سبحانه، حيث جعل للعبد أن يتزوج مثنى وثلاث ورباع، كما جعل له أن يأنس بهذه الزوجة التي خلقها الله عز وجل له. والإنسان في طاعة الله يجد الدعة والراحة والطمأنينة كما يجد فيها الأمن والأمان، أما في معصية الله سبحانه يجد النفور، ويجد القلق والاضطراب وعدم السكن، إذ لا يمكن أن تكون المرأة الخدينة للرجل سكناً له، إنما يأتي السكن بشرع رب العالمين سبحانه. وذكر الخلق ثم الزواج في قوله تعالى: {أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} [الروم:21] يشعر أن الله خلق المرأة ثم شرع لكم أن تتزوجوا النساء، ولم يجعل الزواج بين الجنس ومثله، كأن يكون بين الذكر والذكر، أو بين الأنثى والأنثى؛ ولكن جعل الله عز وجل السكن للإنسان الذكر مع الأنثى بالعقد الشرعي الذي شرعه الله سبحانه، وهو النكاح الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبرنا عنه في وصيته بالنساء فقال: (فإنكم أخذتموهن بكلمة الله واستحللتم فروجهن بأمانة الله).

معنى قوله تعالى: (وجعل بينكم مودة ورحمة)

معنى قوله تعالى: (وجعل بينكم مودة ورحمة) ثم ذكر سبحانه ما امتن به على عباده من جعل المودة والرحمة بين الزوجين فقال: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21] أي: مودة بين الرجل وبين المرأة، وكذلك مودة بين الأسرتين: أسرة الرجل وأسرة المرأة، وجعل بينكم كذلك الرحمة، فأنتم تتراحمون بسبب هذه العلاقة الزوجية، وشرع في ذلك الزواج العشرة، إذ من وراء شهوة الإنسان يكون الولد فتزداد المودة وتزداد الرحمة بين الرجل وبين امرأته، وبين أسرتيهما، فالسكن والطمأنينة التي يعيش فيها الإنسان آية من آيات الله سبحانه، إذ يصاحب الإنسان القلق فترة بقائه بلا زواج حتى يتزوج، فإذا تزوج سكن، ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا تزوج العبد فقد استكمل شطر الدين، فليتق الله في الشطر الباقي) أو (فقد استكمل نصف الدين، فليتق الله في النصف الباقي)، وفيه أن الزواج يوصل الإنسان إلى نصف الدين، وكأن النبي يخاطب من تزوج فيقول: معك نصف الدين بهذا الزواج، فاتق الله في النصف الآخر، وعندما يتزوج الرجل يجد من تطيعه حين يأمرها بطاعة الله، وتنصحه بطاعة الله أيضاً فيطيع، وبذلك يعين الزواج على طاعة الله سبحانه تبارك وتعالى، ويسكن ثورة نفس الإنسان وغليان شهوته؛ لأنه يجد من يأتيها في الحلال، ويفعل معها شهوته بما أحل الله عز وجل له، فيخمد في الإنسان نار الشهوة، فلا ينظر إلى ما حرم الله سبحانه تبارك وتعالى، وينتهي وينزجر عن معاصي الله سبحانه، فلا يقع في الزنا، ولا يقع في النظر المحرم، وإنما يستكمل العبد نصف دين الله سبحانه تبارك وتعالى بالزواج؛ لأنه يبتعد عن الحرام بها، ويستغني بما أعطاه الله عز وجل وما وهبه ممن يعينه على طاعة الله سبحانه، كما أن الإنسان حين يسكن يتفكر في خلق الله عز وجل ويفكر في أمره وفي مستقبله وفي حياته وفي مماته، بل حين يهدأ يصبح إنساناً آخر غير الذي كان عليه قبل أن يتزوج. ومما ينبت المودة والرحمة في قلب الإنسان الولد، فإنه حين يتزوج ويرزق الولد يحدث في قلبه نوع من أنواع الرحمة والشفقة لم تكن موجودة قبل ذلك، فإذا به يكون رءوفاً، رحيماً، ودوداً مع الناس، إذ حين يصبح عنده الولد وعرف كيف يربيه فسيعرف كيف يربي أولاد غيره، وينظر إليهم بنظرة الشفقة التي ينظر بها إلى أولاده. وقد جعل الله سبحانه تبارك وتعالى من وراء النكاح قضاء وطر الإنسان وشهوته، وتسكين الإنسان وإبعاده عن النفور والمعصية لله سبحانه تبارك وتعالى، كما أن وجود الولد يصير في قلب الإنسان الرحمة والعطف بسببه، ولما جعل الله النكاح سكناً للإنسان ومودة ورحمة، حذر من تضييع ذلك، فنهى عن الزنا، قال سبحانه: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32]، كما حرم على العباد أن يأتي الذكر الذكر أو الأنثى الأنثى، وجعل الحدود في ذلك حتى يستقيم الإنسان على طاعة رب العالمين سبحانه، وأنكر لوط عليه الصلاة والسلام على قومه فقال: {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء:166] أي: لقد تعديتم طاعة الله سبحانه والحلال الذي أحله الله ووقعتم في معصية الله بالوقوع فيما أنتم فيه، وقوله: {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ} [الشعراء:166] يبين أن الله خلق المرأة للرجل والرجل للمرأة، وليس الرجل للرجل ولا المرأة للمرأة.

طاعة المرأة لزوجها سبب لبقاء المودة

طاعة المرأة لزوجها سبب لبقاء المودة ولكي تدوم المودة بين الزوجين وتستمر العشرة، فقد حدد لها قائداً، وأوجب له الطاعة، ورتب على طاعته الأجر الكبير، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وأحسنت تبعلها لزوجها؛ قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئتِ)، فرتب دخول المرأة الجنة بطاعتها لربها، وبطاعتها لنبيها صلى الله عليه وسلم، وبطاعتها لزوجها في غير معصية، كما حذرها النبي صلى الله عليه وسلم عن أن تبتعد عن زوجها، أو تنفر منه أو تعصيه إذا أراد قضاء شهوته منها، فقد جاء في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده! ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطاً عليها حتى يرضى عنها)، فبين أن الله يغضب لغضب الزوج على زوجته إذا دعاها إلى فراشه فأبت عليه ذلك؛ وذلك لأن الرجل إذا لم يجد السكن في بيته فقد يخرج إلى خارج بيته فينظر إلى ما حرم الله، فيضيع نفسه ويهلك، ويكون السبب في هلاكه هو امرأته، فاستحقت الغضب من الله على ذلك، وليس ذلك فحسب، بل الملائكة تلعن من هجرت فراش زوجها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح)، فإذا غاضبت المرأة زوجها وتركت الفراش وانصرفت عنه فإن الملائكة تلعنها حتى تصبح أو ترجع وتصالح زوجها. فليس من البساطة أن تهجر المرأة زوجها، والرجل يهجر بيته، ولكن الأمر أكبر من ذلك، إن الله عز وجل جعل بينكم مودة ورحمة، وأمركم أن تحافظوا على مودتكم، وعلى الرحمة التي جعلها بينكم. وفي قوله: {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم:21] أن الله جعلها سكناً للإنسان، وأباح له أن يأتيها ويجامعها في الوقت الذي أحله سبحانه وليس في الوقت الذي حرمه الله، فإذا كانت المرأة حائضاً أو نفساء، لم يحل للرجل أن يجامعها؛ لأنه إن فعل كان ذلك سبباً للنفور بينهما، وللأذى الذي يجعله الله عز وجل بسبب ذلك، قال سبحانه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة:222]، فأمر الإنسان أن يعتزل امرأته ويجتنب جماعها إذا حاضت، ولم يأمره أن يجتنب فراشها، وكان اليهود يجتنبون المرأة في وقت الحيض، فلا يساكنونها في بيت واحد، بل يهجرون البيت كله، ولا يؤاكلونها، بل لا يتركونها تصنع لهم الطعام، ولما أنزل الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222]، حدد اعتزال النساء وجعله في المحيض أي: في موضع الحيض وموضع الجماع، وفي قوله: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة:222]، جعل أجل تلك العزلة طهارة المرأة، فإذا طهرت المرأة من المحيض، فلا يأتيها الإنسان حتى تغتسل لقوله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة:222] أي: إذا اغتسلت المرأة جاز له أن يأتيها. وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21] إرشاد بأن الإنسان الذي يتفكر هو من يعقل هذه الآية من آيات الله سبحانه، وهو الذي يدرك أن سبب خلق الله الأنثى للذكر هو حاجة الذكر لذلك، وحاجة الأنثى لذلك، وحاجة المجتمع والأرض لذلك؛ إذ لابد من الزواج حتى يتناسل الخلق ويعمروا هذه الأرض ويعبدوا الله سبحانه تبارك وتعالى، كما أنه إن لم يكن الزواج، كأن لا توجد أنثى للذكر فسيكون الخلق جيلاً واحداً ثم يفنى هذا الجيل ويموت، ولن يكون هناك أجيال بعد ذلك، ولكن الله جعل ذلك لتواصل الأجيال، ووجود النسل الذين يعبدون الله سبحانه تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم)

تفسير قوله تعالى: (ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم) يذكر الله سبحانه آية أخرى من آياته الدالة على عظمته فيقول سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم:22]. ذكر الله سبحانه آيات عظيمة في هذه الآية، فذكر خلق السموات وما فيها من مجرات عظيمة، والإنسان عندما يتأمل في خلق الله سبحانه ويرى هذه الأرض الدائرة في المجموعة الشمسية، ويرى اتساع الكواكب التي حول هذه الشمس؛ يدرك صغر حجمها بجوار المجرة التي نحن فيها، إذ إنها تشبه ذرة في فلاة عظيمة، فهذه المجموعة الشمسية التي تتكون من الأرض والشمس والقمر وما بجوارها من كواكب تدور حول الشمس وما الأرض إلا شيء يسير بجوار هذه المجرة التي فيها مليارات الكواكب والشموس والأقمار، بل إن هذه المجرة بجوار باقي المجرات تشكل محيطاً بسيطاً، وقد عجز العلماء أن يحصوا عدد المجرات التي في الكون، فإذا كانت مجرة واحدة لم يستطيعوا أن يستوعبوا كم من الكواكب والنجوم فيها، فكم مجرة مثل هذه المجرة التي نحن عليها؟! -وتسمى المجرة التي نعيش فيها: بمجرة درب التبانة- ولو سألتهم عن عدد هذه المجرات؟ لأجابوك: مليارات المجرات، فيا ترى كم هو كبر هذا الكون الذي نحن فيه؟ فإذا نظرنا إلى ذلك وتفكرنا فيه عرفنا أن هذا الكون كبير جداً، فكيف يكون الذي خلق هذا الكون؟! فسبحان الله العظيم الكبير الجليل، ولذا كانت قاعدة التعرف على الله سبحانه تبارك وتعالى: هي النظر في هذا الكون الفسيح. قوله تعالى: {خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الروم:22] أي: خلق السموات وخلق الأرض. وقوله تعالى: {وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم:22] الآية تدل على بديع صنع الرحمن فكم على الأرض من أجناس البشر؟! وكم نوع من أنواع البشر؟! وكم لسان يتكلم هؤلاء البشر؟! أنواع كثيرة جداً وألسنة كثيرة، الكل يدعون الله ويقولون: يا ألله! والله يسمع هذا، ويسمع هذا، ويسمع هذا، ويعلم كل هذه الألسنة كيف تناديه سبحانه، ويعلم ما يقولون، وما يفعلون، فالله يعلم كل شيء سبحانه تبارك وتعالى. وإذا عرفنا إنساناً يعرف لغةً وإنساناً آخر يعرف لغتين، أو يعرف ثلاث لغات، أو يعرف ست لغات، فسنعظم الثاني دون الأول، ونثني على سعة علمه؛ لأنه يتكلم ست لغات، ولله عز وجل المثل الأعلى، فنستدل بالمخلوق على عظيم قدر الخالق العظيم، قال سبحانه: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91]، فهو الذي خلق كل شيء، وعلم كل شيء، قال جل في علاه: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:31]، سبحانه تبارك وتعالى. وفي قوله سبحانه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم:22]، قراءتان: قراءة حفص عن عاصم: (إن في ذلك لآيات للعالِمين) أي: العلماء. وقراءة باقي القراء: (إن في ذلك لآيات للعالَمين) أي: لكل العالم، ولكل خلق الله عز وجل، وعلى القراءة الأولى فإن المنتفع بهذه الآيات هم العلماء، ولذا قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]. يذكر الشيخ وحيد الدين خان في كتابه: (الإسلام يتحدى) قصة عجيبة من القصص التي يرويها عن رجل آخر من علماء الفيزياء اسمه: عناية الله المشرقي، وهو رجل هندي، كان من علماء الفيزياء الأفذاذ، الذين استحقوا أن يأخذوا جائزة نوبل في يوم من الأيام ورفضها ولم يقبلها، فقالوا له: ترجم كتبك التي باللغة الأردية إلى اللغة الإنجليزية، حتى تأخذ جائزة نوبل، فقال لهم: إما أن تقبلوها باللغة الأردية، وإلا فلا؛ لأنكم إذا لم تعترفوا باللغة الأردية لا أريد جائزتكم. وذكر هذا الرجل قصة من القصص فيقول: في يوم من الأيام في عام 1909م -أي: قبل مائة سنة خلت- كان في انجلترا وهو يمشي في الطريق قابل أستاذه في الفيزياء البروفسور جيمس، يقول: وجدته في الطريق يمشي وبرد الشتاء الشديد فوق رأسه، ومظلته تحت إبطه، ويمشي وهو غارق في التفكير، فوصل إليه وسلم عليه ولم يكن منتبهاً له، فقال له: ماذا تريد؟ من غير أن يرد عليه التحية، فقال له: أريد شيئين: إلى أين ستذهب؟ قال: سأذهب إلى الكنيسة؟! فقال له: أنا أعجب منك، السماء تمطر على رأسك، والمظلة تحت إبطك! فانتبه الرجل فرفع المظلة فوق رأسه، وقال له: هل تريد شيئاً آخر؟! فقال له: أنت عالم من العلماء فلماذا تذهب إلى الكنيسة؟! فقال له: حسناً، تعال نشرب الشاي في بيتي في العصر، وذهب إليه في بيته في وقت العصر، ووجده منتظراً له فجلس، قال عناية الله: فقبل أن أبدأ في الكلام أعطاني محاضرة طويلة في علم الفلك، وفي هذا الخلق العظيم الذي يدل على وجود الخالق. يقول الرجل: هو يتكلم عن خلق هذا الكون العظيم، وبدأ يرتعش وشعره يقف، ودموعه تنهمر، وهو يقول: مدة خمسين عاماً وأنا أدرس وصلت لهذا الشيء، إن هذا الكون له خالق عظيم، أفتتعجب لماذا أذهب إلى الكنيسة؟! أذهب الكنيسة لكي أعبد الخالق الذي خلق هذا الكون، وعناية الله المشرقي رجل مسلم، فقال له بعدما أخذ منه هذه المحاضرة الطويلة: لقد ذكرتني بآية عندنا في القرآن إذا أحببت قلت لك هذه الآية، فقال له: تفضل، فذكر له الآية: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر:27 - 28]، فوقف عندما سمع هذه الآية، وقال: تفسير هذه الآية التي تقولها، ماذا تقول؟! ما هو هذا الشيء الذي تقوله؟! ومن قال هذا الكلام؟! إن محمداً يستحيل أن يعرف هذا الكلام، لقد عرفت هذا الكلام بعد دراسة دامت خمسين عاماً، فأين درس محمد صلى الله عليه وسلم خمسين عاماً؟! تقول: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) عندكم هذه الآية في القرآن! قال: اكتب عني أن هذا القرآن وحي من عند الله سبحانه تبارك وتعالى! (إنما يخشى الله من عباده العلماء) هذه الكلمة التي تمر على أذهاننا حين نسمعها مروراً عادياً، ونفهم أن العلماء يخشون الله، لكن الرجل بعد دراسته خمسين عاماً لعلم الفيزياء وعلم الفلك ينظر في اختلاف ما خلق الله سبحانه تبارك وتعالى من آيات في الكون، فهذه جبال حمراء، وهذه سوداء، وهذه بيضاء، الأفلاك الموجودة في السماء فيها كذا وفيها كذا، وأخذ يتدبر فيها ويخشع ويخاف من الله سبحانه تبارك وتعالى، والذي هو متاح أمامه بحسب دينه هو النصرانية، فكان يتوجه إلى الكنيسة ليصلي، وليعبد الله الذي خلق هذا الكون، والذي يخاف منه، فلما يسمع هذه الآية يقول: إن هذا كلام حق من عند رب العالمين، إن هذا القرآن ليس كلام محمد صلى الله عليه وسلم، إنما هو كلام جاء من السماء من عند رب العالمين سبحانه. والله يأمرنا أن نتدبر القرآن ويعيب علينا عدم التدبر، قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، فالقرآن يتوافق بعضه مع بعض في العظمة والإتقان، قال تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1].

تفسير سورة الروم [21 - 24]

تفسير سورة الروم [21 - 24] من آيات الله التي تدل على وحدانيته سبحانه وقدرته: أنه خلق للبشر من أنفسهم أزواجاً ليسكنوا إليها، وجعل بينهم مودة ورحمة، ومن آياته العظيمة: خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنة الناس وألوانهم، ومنامهم بالليل والنهار وابتغاؤهم من فضله، وإنزاله من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها.

تفسير قوله تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا)

تفسير قوله تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الروم: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ * وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم:20 - 24]. من آياته العظيمة ومعجزاته: {أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21] , فالله سبحانه وتعالى يهدي القلوب ويوفق الإنسان لأن يتزوج ويختار المرأة الصالحة التي تصلح له ويجعل المودة والرحمة في القلوب، وهذه آيات من رب العالمين؛ لعل الناس يتفكرون فيها ويعقلون معانيها, فيؤمنوا بالله سبحانه وتعالى خالقها وباريها. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21]. وختم كل آية بما يناسب الآية, فجعل الله عز وجل لكم من أنفسكم آية من الآيات وهي آية الخلق وآية النكاح, قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21] , فالمؤمن يتفكر في نفسه وفي أهله وفي ولده، كيف أن الله سبحانه وتعالى جمع بينه وبين زوجته، ولعله لم يكن يعرفها قبل ذلك، ولكن الله قدر أن يتزوج فلان من فلانة، وأن يكون له ولد، وأن يكون بينه وبينها مودة ورحمة، وهذه آيات لقوم يتفكرون، فيعلمون أن الله سبحانه يقدر لهم الخير, ويريد بهم الخير ويريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر.

تفسير قوله تعالى: (ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم)

تفسير قوله تعالى: (ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم) قال الله سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم:22] , السموات فوق الأرض، وهناك بون شاسع بين السماء والأرض, كالبون بين لسان ولسان، هذه السماء بما فيها من كواكب وأجرام، وأشياء لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى, متفاوتة فيما جعل الله عز وجل فيها، هذا نجم شديد الاشتعال، وهذا نجم بارد جداً، وهذه شمس، وهذا قمر، وهذا كذا, أشياء مختلفة، ولكن تتفق جميعها في أن كل واحدة منها آية عظيمة من آيات الله سبحانه وتعالى, تدل على الخالق الواحد سبحانه وتعالى, من أصغر الأشياء لأكبر الأشياء آية من آيات الله, فتتشابه جميع هذه الآيات في كونها آيات عظيمة، وكونها تدل على خالقها العظيم سبحانه وتعالى, من الذرة إلى المجرة، انظر إلى المجرة كيف تدور في هذا الكون، ثم يجعل أشياء صغيرة فيها كالشمس وما حولها من الكواكب، تدور حولها الشمس وتجري وحولها الأرض، وحول هذه الشمس كواكب مقرونة بهذه الشمس تدور حولها في نظام بديع جداً, الشمس بما حولها تجري في هذا الكون حول شيء أكبر منها, والمجرة وما حولها تدور وتجري في الكون حول شيء أكبر منها, وأصغر شيء في الكون الذرة الصغيرة وفيها نواة بداخلها وحولها مدارات تجري الالكترونات فيها بنفس النظام الذي تجري فيه الشمس، وكل شيء يجري ويدور ويتحرك يدل على خالقه سبحانه وتعالى الذي خلقه, فأصغر الأشياء وأعظم الأشياء يدل على أن الخالق واحد لا شريك له، إن في ذلك لآية للعالمين. كذلك في نطق الإنسان واجتماع عقله مع لسانه مع شفتيه في حركات متوافقة، فالعقل يفكر واللسان يتحرك وكذلك الشفة ويعبر الإنسان عما في داخله، هذا يعبر بطريقة، وهذا بطريقة، وهذا بطريقة, هذا له صوت، وهذا له صوت آخر، وهذا له صوت ثالث, هذا له لغة، وهذا له لغة أخرى، وهذا له لغة ثالثة, والذي خلق هذا كله هو الله سبحانه وتعالى، والذي يتدبر ذلك العالمون، أي: أهل العلم هم الذين ينظرون ويتأملون كيف أنطق الله كل شيء بما يليق به. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم:22] بذلك، و (للعالَمين) أي: لخلق الله أجمعين ليتدبروا ويتأملوا.

تفسير قوله تعالى: (ومن آياته منامكم بالليل والنهار)

تفسير قوله تعالى: (ومن آياته منامكم بالليل والنهار) قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [الروم:23] من آيات الله سبحانه وتعالى أنه خلق الإنسان وجعله يحتاج إلى النوم، فهو من ضروريات الإنسان، ولو أنه ذهب عنه النوم, لأصيب بالجنون أو لمات من ذلك فالنوم آية من آيات الله سبحانه وتعالى، ولا يعرف الناس له تفسيراً إلا ما يرونه أمامهم، لكن حقيقة هذا النوم هو كما ذكرنا قبل ذلك أن الله عز وجل يقبض روح الإنسان خلال نومه, والنوم كما يعبر عنه العلماء ليس حالة من حالات الخمول, وإنما هو ضرورة من ضروريات حياة الإنسان يحتمها عليه الأمر الحيوي الذي في الجسم حتى يستريح, وقالوا: إذا حللنا ما يحدث للإنسان أثناء نومه بدراسة التغيرات التي تحدث فيأتون برسام المخ وبأناس نائمين ثم يرسمون مخ الإنسان النائم يقولون: إنه يمر بخمس مراحل في نومه: المرحلة الأولى والثانية: البدء في النوم والدخول فيه. الثالثة والرابعة: السبات وهو النوم العميق. الخامسة: مرحلة الأحلام التي يراها الإنسان أثناء منامه, فنوم الإنسان عجيب جداً يسجل رسام المخ أول ما ينام الإنسان أنه يهدأ مخه ثم يبدأ يسجل رسام المخ موجات المخ التي يرسلها وهي تضعف شيئاً فشيئاً حتى يصير الإنسان في سبات عميق, فهو يرسل موجات من سبع إلى اثني عشر موجة في الثانية الواحدة ثم تقل حتى تأتي مرحلة السكون التي يكون عليها الإنسان، ويدخل الإنسان في مرحلة السبات حتى يصبح في مرحلة لا يعرف أن يحسب فيها الزمن ولو نام عشرين ساعة أو ألف سنة لا يشعر, ولذلك نام أهل الكهف في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً, فلما استيقظوا قالوا: كم لبثتم؟ فلم يشعروا بهذه السنوات الطوال، بل قالوا: لبثنا يوماً أو بعض يوم, وقد كانوا في نوم الله أعلم بحالهم هل قبض أرواحهم في هذا النوم على أنه نوم وليس موتاً يأخذهم وتتحلل فيه أجسادهم، وكذلك {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [البقرة:259] وهو عزير، {قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [البقرة:259]، وهو نفس الذي قاله أهل الكهف في ثلاثمائة عام {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف:19]، وجعل له الله عز وجل آيات في نفسه وفي حماره وفي طعامه، إنسان يركب على حمار، ومعه الطعام في مزوده، ثم يتعجب لقرية أبادها الله وأهلكها, وهذه نظرة البشرية فأنت إذا رأيت بلداً خربه المستعمرون المحتلون الكفرة تقول: هؤلاء دمروا هذه البلاد فمتى تتعمر هذه البلاد؟ ومثلها نظرة من يقول: هؤلاء دمروا العراق يا ترى كم يحتاج من السنين حتى يعود إلى ما كان عليه؟! هكذا قال هذا الرجل: (أنى يحيي) أي: كم من الوقت سيمضي حتى ترجع هذه البلدة مرة ثانية؟! كأنه استبعد ذلك, فجعل الله له آية في نفسه (فأماته الله مائة عام ثم بعثه)، (قال كم لبثت) أي: كم من الوقت نمت؟ قال: (لبثت يوماً أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه) , والعادة في الطعام أن يظل يومين أو ثلاثة أو أكثر ثم يعفن وينتهي، لكن الله سبحانه وتعالى أراه آية عجيبة، فالطعام الذي جرت العادة فيه أن يتعفن بعد اليوم الثاني ما زال على ما هو عليه بعد مائة سنة! {وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ} [البقرة:259] , والحمار الذي يمكن أن يعيش أكثر من الطعام تحلل وصار عظاماً، ولك آية في نفسك أنك لم تتحلل بعد مائة سنة فما زلت على حالتك الأولى, فهذه آيات الله سبحانه وتعالى في خلقه, فإنه جعل النوم مرحلة يحتاج إليها الإنسان كل يوم، كذلك إذا كان في نوم عميق لم يعرف الزمن ولم يستطع أن يحدد كم وقتاً نام، وهذه آية من الآيات. وهناك تجارب أجراها أحد الأساتذة البريطانيين البروفسور: أرسر أديسون على مخ الإنسان وعلى نوم الإنسان، وهي دراسة طويلة توصل فيها في النهاية إلى أن عملية النوم هي خروج شيء من الإنسان سماه الله النفس وهذا الإنسان لا يعرف ما هذا الذي يخرج، ولكن الأبحاث أدت إلى ذلك، والله سبحانه وتعالى قد قال: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر:42]، فنفس الإنسان يقبضها الله على هيئة معينة في وقت نومه, {وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر:42] فالإنسان محتاج للنوم وهو يذكره بالموت وأنه راجع إلى الله سبحانه وتعالى بعد ذلك, وقد جعل الله النوم آية ليرينا ضعفنا وحاجتنا إلى ذلك، فلا أحد يقول: أنا مستغن عن النوم، أنا لا أحتاج للنوم، ولو قال ذلك أحد وكابر فإنه لو قدر على ترك النوم يوماً أو يومين أو ثلاثة فإنه يعجز بعد ذلك، ولا يستطيع على ترك النوم، فالإنسان ضعيف والله هو الحي الذي لا يموت، فهو الحي القيوم سبحانه وتعالى, لا تأخذه سنة ولا نوم، والسنة النعاس اليسير، والله سبحانه حاشاه أن يعتريه نعاس ولو للحظة، ولا نوم فهذا مستحيل على الله سبحانه وتعالى، وقد قال في آية الكرسي: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [البقرة:255]، فهو حي لا يموت قيوم لا ينام سبحانه وتعالى، فهو قائم على كل شيء، مدبر لكل شيء، ولو قلنا: الله سبحانه وتعالى، وحاشا له تأخذه سنة أو نوم لكان الكون كله سوف يتدمر متى حدث له ذلك؛ ولذلك يخبرنا الله سبحانه: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22] أي: لو كان هناك آلهة في هذا الكون غير الله سبحانه لفسدت السموات والأرض، لأنه سيحدث بينهم تنازع فيقول أحدهم: هذا ملكي، ويقول الآخر: هذا ملكي، مثلما يحدث بين البشر حين يتنازعون في شيء من حطام الدنيا، فيفسد هذا الشيء، ولكن السموات والأرض قد استقرت على حالها الذي خلقها الله سبحانه وتعالى عليه ولم تفسد السموات ولا الأرض؛ فدلنا على أن الخالق واحد سبحانه لا ينازعه أحد أبداً في ملكه سبحانه وتعالى. ولما ذكر السنة والنوم ذكر السموات والأرض حتى تذهب بعقلك فتنظر إلى السموات والأرض لماذا لم تضطرب؟ لأن الذي خلقها حافظ لها سبحانه وتعالى، يدبر أمرها، ولو كانت تأخذه سنة أو نوم لتدمرت السموات والأرض وفي هذا آيات للذين يعلمون أن الذي خلقها هو الحي القيوم الذي لا ينام سبحانه. وقد قال الله: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم:22] وعقب بعدها: (منامكم) فالذي خلق السموات والأرض لا ينام سبحانه وتعالى، ولكن أنتم تنامون وتحتاجون إلى النوم وأنتم فقراء إلى الله قال: {مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [الروم:23] فيعتريكم النوم أصلاً بالليل ولكن قد ينام بعضكم بالنهار، وابتغاؤكم من فضله بالليل وبالنهار وإن كان الغالب أن الليل للنوم والنهار للمعاش والتكسب, وتبتغون: تطلبون من فضله سبحانه، فأنتم فقراء إلى الله والله هو الغني الحميد. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [النحل:65] الإنسان وهو نائم يغلق عينيه فلا يرى شيئاً، والذي يوقظ الإنسان وهو على هذه الحال سمعه. لذلك عقب الله بهذه الكلمة العظيمة: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [يونس:67] ومعنى يسمعون أي: أنهم يسمعون القرآن فيعقلونه ويفهمونه فينتفعون بهذا السمع.

تفسير قوله تعالى: (ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا)

تفسير قوله تعالى: (ومن آياته يريكم البرق خوفاً وطمعاً) {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم:24] هذه آية أخرى من آيات الله سبحانه في الكون, فإنك إذا رأيت البرق طمعت في إنزال المطر من السماء، وخفت من أن يكون فيه صواعق أو فيه شيء يؤذيك، وقد قال الله سبحانه وتعالى في سورة النور: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ * يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ} [النور:43 - 44]، فالسحاب الذي يأتي البرق من خلاله هو السحاب المتراكم بعضه على بعض الذي يسمونه بالسحاب الركامي، ويتكون من ماء يتبخر من الأرض ثم يجتمع بعضه مع بعض فيكون سحابة وسحابة أخرى وثالثة ورابعة، يزجي الله سبحانه وتعالى أي: يحرك ويسوق ويدفع هذه السحابات بعضها إلى بعض، وحين يجتمع بعضها مع بعض يسلك من خلالها تياراً هوائياً يشفط السحاب إلى أعلى، فيتراكم السحاب بعضه على بعض، فيسمونه بالسحاب الركامي، وهذا التعبير العظيم الذي في الآية من أين عرفه النبي صلى الله عليه وسلم وهو لم يركب الطائرة، ولم ير السحاب يتراكم بعضه فوق بعض، ولم ير أن شكلها من أعلى مثل الجبال؟! وقد عبر عن هذه الله سبحانه وتعالى في هذه الآية: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا} [النور:43] أي: بعضه فوق بعض كالجبال، وبينما هو على هذه الحالة ينزل المطر من خلال هذا السحاب فترى الودق يخرج من خلاله، {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ} [النور:43] وهذا هو السحاب الوحيد الذي ينزل منه البرد, فالسحاب ينزل منه المطر والسحاب الركامي ينزل منه البرد سواء كانت كبيرة أو صغيرة {فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ} [النور:43] وقالوا: السحاب الركامي فقط هو الذي يكون داخله البرق، فيخرج منه شحنات كهربائية معينة الله عز وجل يخلقها فيها تفريغات كهربائية فتعمل الشرر الذي تراه كالبرق, {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ} [النور:43]، قد يقول الإنسان: نحن نرى البرق فلماذا لم تذهب عيوننا؟ لكن الذي يراقب البرق من المراصد ويدقق فيه مرة وراء مرة وراء مرة يعمى، والذين يراقبون البرق في المراصد والطيارون يظهر عليهم البرق في وقت من الأوقات فيقول العلماء: قد يتلاحق حدوث البرق في سلسلة تكاد تكون متصلة أربعين تفريغاً في الدقيقة الواحدة، فيذهب ببصر الراصد من شدة الضياء، وهذا هو عين ما يحدث للملاحين والطيارين الذين يخترقون عواصف الرعد في المناطق الحارة, وقالوا: قد يكون الطيار يلاحق البرق بنظره فيعمى فتسقط الطائرة بمن فيها, إذاً: هناك خوف حقيقي من البرق، وليس كل إنسان يشعر بهذا الشيء، فيمكن لإنسان أن يرى البرق ويفرح بنظره إليه، ويمكن لإنسان آخر ينظر إلى البرق فيفقد بصره منه، فالله عز وجل يريكم البرق خوفاً وطمعاً في رحمته وفي نزول المطر من السماء. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم:24] فاعتبروا يا أولي الألباب. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الروم [24 - 27]

تفسير سورة الروم [24 - 27] من آيات الله الدالة على قدرته ورحمته وأنه المستحق للعبادة وحده أنه يري خلقه البرق خوفاً وطمعاً، وينزل لهم من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها، ويدبر أمر السماء والأرض، والكل خلقه، والكل راجع إليه سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا)

تفسير قوله تعالى: (ومن آياته يريكم البرق خوفاً وطمعاً) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الروم: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم:24]. يخبرنا ربنا سبحانه وتعالى في هذه الآية وما قبلها عن آياته العظيمة، التي يجب على كل إنسان يسمع ويعقل ويعلم ويبصر أن يتفكر فيها، ولذلك ختمها سبحانه وتعالى بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21]. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم:22]. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [الروم:23]. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم:24]. وكأنه يقول: تفكر يا عالِم واسمع يا عاقل، لقد ختم بهذه الأوصاف التي ينبغي أن تكون في كل إنسان فيه عقل خلقه الله سبحانه وتعالى، فيتفكر بهذا العقل الذي أعطاه الله سبحانه؛ ليعلم أن هذا الخلق العظيم خلق الله سبحانه وتعالى، فيستحق الله وحده العبادة دون غيره. كذلك يستمع إلى آيات الله، يسمعها فيعقل ويفهم عن الله سبحانه ما يقول، فإذا به يدخل في هذا الدين بتفكره، وبسمعه، وبعقله، وبعلمه، ويعلم ما الذي يريده الله عز وجل من خلق هذا الإنسان، فيعبده فيكون من المؤمنين.

البرق بين الرحمة والعذاب

البرق بين الرحمة والعذاب قال سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الروم:24] آية من آيات رب العالمين سبحانه كما ذكرنا في الحديث السابق، يريكم البرق فتخافون أن يخطف أبصاركم، فتخافون أن ينزل بعده ماء من السماء شديداً فيغرقكم. يقول العلماء عن البرق: إنه تفريغ شحنات كهربائية، فإذا ذهبت هذه الشحنات مع قوة ما فيها من ضوء قد يخطف أبصار من ينظر إليه. فالناس يخافون من ذلك، ويطمعون حين يرون ذلك في فضل الله ورحمته، ويطمعون في المطر الذي ينزل من السماء رحمة من عند رب العالمين؛ لأنه غذاء لهذه الأرض. انظر إلى هذا البرق، وإن كان يخيف وإن كان شحنات كهربائية في الجو، ولكن العلماء يقولون: إن في هذا البرق رحمة عظيمة جداً، فهو يقوم بجعل الأكسجين يتحد مع النيتروجين الموجود في الجو، مما يتولد منهما حامض النيتريك، فينزل إلى الأرض فيكون أسمدة نيتروجينية للأرض، وهذا من فضل الله ورحمته. شحنات كهربائية في السماء تنزل إلى الأرض تصير غذاءً للأرض، ينبت لكم به الله عز وجل النبات، من الذي عرف ذلك؟ أليس العالمون هم الذين عرفوا ذلك فأخبرونا عن رحمة الله وعن فضله سبحانه؟ فهذا البرق الذي نراه قد ينظر إليه الإنسان على أنه ضوء يطلع في السماء، لكن ما هو الذي يكون من وراء هذا الضوء؟ أهل العلم يعرفون ما وراء هذا البرق الذي يكاد يخطف الأبصار فيخافون منه، ويرجون من ورائه رحمة الله سبحانه وتعالى. ثم قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أهل العقل وأهل التفكير الحق ينظرون فيعقلون فيعبدون الله وحده لا شريك له.

إنزال المطر رحمة من الله ومتعلق بمشيئته سبحانه

إنزال المطر رحمة من الله ومتعلق بمشيئته سبحانه قال تعالى: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [الروم:24] أي: المطر. قوله: (وَيُنَزِّلُ) هذه قراءة جمهور القراء، ويقرؤها ابن كثير والبصريان: أبو عمرو ويعقوب: (وَيُنْزِلُ من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها). فالماء الذي ينزل من السماء رحمة من الله عظيمة واسعة، فمن رحمته سبحانه وتعالى أن أنزل ماءً من السماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام، أنزل المطر من السماء ليثبت أقدام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم بدر في لقائهم مع المشركين، وأذهب عن قلوبهم رجز الشيطان، وما ألقاه الشيطان من تخويف لهم، وقد نام بعضهم بالليل فاحتلم وأصبح يريد الجهاد في سبيل الله سبحانه، وإذا بالشيطان يوسوس له، كيف تجاهد وأنت على جنابة؟ فإذا بعقله يتفكر كيف كيف؟ فإذا بالله يقطع عنه ذلك الوسواس، وينزل من السماء ماءً فيغتسلون ويصلون ويعرفون فضل الله ورحمته في إنزال الماء من السماء. ينزل الله الماء من السماء رحمة بعباده، لينبت لكم به من كل الزروع والثمار، ويخرج لكم من هذه الأرض الميتة غذاءً تتفكهون به وتقتاتون عليه، رحمة من رب العالمين سبحانه. حين يتفكر الإنسان أن الأرض فيها الماء المالح وفيها الماء العذب وفيها الماء النظيف وفيها الماء الرديء، ومن هذا الماء يتبخر هذا الماء بفضل الله سبحانه وتعالى، ويصعد لدرجات معينة يتكثف فيها هذا الماء بعضه على بعض، ثم ينزل عليكم مطراً. وهذا الماء الذي طلع من هذه البحار، وتكثف حتى صار سحاباً، يرسل الله الرياح ليجري هذا السحاب، وهذه الرياح مأمورة بأمر الله سبحانه وتعالى بأن تذهب به إلى الأرض الفلانية، التي يريد الله عز وجل أن تمطر فيها هذه السحب، رحمة من رب العالمين سبحانه. فالناس ينتظرون فضل الله وإذا بالله ينشئ السحاب ويوجهه إلى حيث يشاء وينزله على الناس. كذلك هذا الماء الذي قد يكون متبخراً من المجاري، وصعد إلى السماء فإنه لا يصعد بالقذر الذي فيه والنتن الذي فيه؛ لأن الله سبحانه وتعالى ينقيه، فلا يتبخر إلا الماء الطاهر، أما ما فيه من نجاسة، فإنه لا يصعد إلى السماء، إلا أن يشاء الله شيئاً سبحانه، وإذا بهذا الماء الطاهر يتوجه حيث يوجهه الله سبحانه، وينزل على المكان الذي يريده الله سبحانه! آية من آيات الله سبحانه، وإنزال هذا المطر ليس للإنسان دخل فيه ولا شأن فيه، ولكن الله سبحانه هو الذي ينشئ هذا السحاب، وهو الذي يرسل والذي ينزل من السماء ماءً ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان، وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام، وليريكم من آياته ومن فضله ومن رحمته سبحانه وتعالى. ثم قال: ((فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا)) فإذا نظرت إلى أهل الصحراء حين ينتظرون نزول المطر من السماء، فإذا نزل الماء هللوا وفرحوا وكبروا؛ لأن رحمة ربنا نزلت على العباد، فينبت لهم أرضاً كانت قاحلة ومجدبة لا زرع فيها، فإذا بالله ينزل المطر وسرعان ما يخرج النبات على وجه الأرض، وتخضر الأرض بفضل الله وبرحمته {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم:24]. فالذي يعقل ويتفكر في هذه الآيات يعلم أن الله سبحانه الملك الحق، وهو الذي يستحق العبادة وحده لا شريك له.

تفسير قوله تعالى: (ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره)

تفسير قوله تعالى: (ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره) قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم:25] أي: يقول للشيء: كن فيكون، فكل شيء قائم به سبحانه، وكل شيء يدبر أمره الله سبحانه وتعالى، فما قامت السماوات وعلت في مكانها، وكل ما فيها من شموس وأقمار ونجوم وأفلاك ومجرات كلها قائمة مستقرة في مدارها وفي مكانها كل ذلك بأمره سبحانه، قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا} [فاطر:41] يمسكهما، فالسماء في مكانها والأرض في مكانها، حتى إذا جاء أمر الله سبحانه وتعالى أزال وغير وبدل وقلب ما شاء سبحانه. {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم:25] أي: إذا جاء أمر الله سبحانه انشقت السماء فهي يومئذ واهية، وتهاوت النجوم والشموس والأقمار: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير:1 - 6] وانقلبت موازين كل شيء بأمر الله سبحانه وتعالى. إذاً: فهو القائم المدبر لكل شيء، فإذا أمر الله سبحانه بالنفخ في الصور نفخة البعث والنشور قام الخلق من القبور بين يدي الله سبحانه وتعالى. ((ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ)) أي: كنتم في الأرض جثثاً هامدة وكنتم تراباً، فإذا بأمر الله يأتي فينزل الطل من السماء فتنبت الأجساد، ثم نفخ في الصور فقاموا واستقاموا لرب العالمين سبحانه. وقوله: {إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم:25] أي: تخرجون من هذه الأرض كما بدأكم تعودون.

تفسير قوله تعالى: (وله من في السماوات والأرض كل له قانتون)

تفسير قوله تعالى: (وله من في السماوات والأرض كل له قانتون) قال الله تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [الروم:26] سبحانه وتعالى وله كل شيء، واللام لام الملك، يعني: الله يملكه ويخلقه ويتولى أمره ويدبره. و (من) يعبر به عن العاقل، وقد يدخل غير العاقل بالتبع فيه، أي: كل من في السماوات ملك لله سبحانه، فهؤلاء العقلاء الذين يعقلون عبيد لله فكيف بمن لا يعقل؟ فالكل عبيد لله سبحانه وتعالى. ثم قال: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} أي: كلهم قنتوا لله سبحانه، وخضعوا وذلوا وأذعنوا لأمر الله سبحانه، فمنهم من فعل ذلك طوعاً، ومنهم من فعل ذلك كرهاً، فكثير من الناس يعبدون الله سبحانه، وكثيرون حق عليهم العذاب، والكل خاضعون لله سبحانه. والخضوع الذي يفعله الإنسان بإرادته لله عز وجل هذا الذي يثاب عليه، والخضوع الذي يأتيه عنوة وقهراً عليه فهذا الذي لا يثاب عليه بشيء، ويكون من أهل النار في النهاية إذا كان كافراً بالله سبحانه. فخضع الإنسان بمعنى ذل لرب العالمين، فالمؤمن خاضع لقضاء الله وقدره ولشرعه سبحانه وتعالى. يقول الله: {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة:117] أي: إذا أمر الله بأمر كوني نفذ على عبده، لكن عندما يأمره بأمر شرعي، كأن يقول له: صل، صم، افعل المعروف، انه عن المنكر، فإن استجاب فهو مطيع لله سبحانه، راضٍ بمشيئة الله الكونية القدرية والشرعية الإرادية، أما الكافر فيعصي الله ويتبجح ويقول: لا إله، ولا يعبد شيئاً، أو يقول: الطبيعة خلقتني، أو يكذب على الله سبحانه ويزعم أن معه إلهاً، حاشا لله سبحانه وتعالى، فهنا يعصي ربه سبحانه في أمره الشرعي، أما في أمره الكوني القدري فمستحيل أن يعصي الله سبحانه، فهو خاضع ذليل لرب العالمين. فقوله: ((كُنْ فَيَكُونُ)) لو قال للإنسان: امرض يمرض، نم ينام، فهو إذا أتته مصيبة وبلية من الله عز وجل لا يقدر أن يدفعها عن نفسه، فهنا هو خاضع ذلول لأمر الله الكوني القدري سبحانه وتعالى. فالكل خاضع لله عز وجل، سواء أرادوا أم لم يريدوا ذلك. فقوله: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [الروم:26] أي: منقادون لأمر الله، مطيعون لقضاء الله وقدره، لا يستطيعون أن يعترضوا على ذلك. وقوله: ((كُلٌّ)) التنوين هنا تنوين عوض، يعني: كل واحد منهم لله عز وجل قانت خاضع ذليل بين يدي ربه سبحانه، مطيع لأمره الكوني القدري.

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده)

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده) قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم:27] قوله: (وهو) هذه الكلمة في القرآن كله فيها قراءتان، فهي تقرأ: (وهْو) وهي قراءة قالون عن نافع وقراءة أبي جعفر وأبي عمرو والكسائي، وباقي القراء يقرءونها (وهُو). قوله: ((وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ)) أي: الله سبحانه بدأ خلقكم ليس غيره، فهو الذي فطركم وأنشأكم أول مرة، ولم يكن لكم مثال قبل ذلك، ليفعل الله ذلك على هذا المثال السابق حاشا له سبحانه، وإنما هو يبدع وينشئ الخلق الذي لم يكن لهم مثال سابق قبل ذلك سبحانه، فهو فطركم وخلقكم وصوركم وبرأكم وأنشأكم وابتدع خلقكم سبحانه. ((وَهُوَ الَّذِي)) بدأ الخلق من ساعة ما خلق آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وتناسل آدم وتناسلت ذريته، فبدأ خلق الإنسان من طين، وكل إنسان خلقه من نطفة في قرار مكين، ثم جعل هذه النطفة علقة، فخلق العلقة مضغة، فخلق المضغة عظاماً، فكسا العظام لحماً، بدأ طوراً بعد طور حتى صار هذا الإنسان العاقل. كذلك النبات ابتدأه الله بذرة صغيرة ثم تنبت ثم تصير فيها سنبلة ويصير فيها حبوب. فالإنسان بعدما أحياه الله أماته سبحانه، ثم يعيده مرة ثانية، مثل ما فعل في هذه البذرة التي بدأها الله سبحانه فصارت نباتاً، وصارت في النهاية حبة، وهذه الحبة لو وضعتها في الأرض فإن الله سيعيدها مرة ثانية وتصير سنبلة، وكذلك النواة تصير هذه النخلة وتأخذ منها نواة مرة ثانية. خلق هذا الإنسان وبدأه الله سبحانه وتعالى على ذلك، ثم يعيده بأن يأمر الأرض أن تجمع ما فيها، مهما تفرق الإنسان في أي مكان كان، فالله بأمره سبحانه كن فيكون ويجمعه، فقد علمنا قصة الرجل الذي أوصى أولاده بأنه إذا مات أن يحرقوه ثم يسحقوه، ثم ينظروا في يوم شديد ريحه فيذروه في البر وفي البحر، فيا ترى أيهرب هذا الإنسان بذلك؟ فهو أعمل عقله في حيلة يمكن أن يهرب من الله، فأمرهم أنه إذا مات أن يحرقوه حتى يصير تراباً، وقال عند موته: (والله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين). هذا المسكين أراد أن يهرب من الله، فإذا بالله عز وجل يأمر البحر: أن اجمع ما فيك منه، هل يقدر البحر أن يعصي الله سبحانه؟! فاجتمع ما في البحر من جسد هذا الإنسان ومن تراب هذا الإنسان، وأمر البر: أن اجمع ما فيك من هذا الإنسان، فيجتمع، فيقول له: كن فيكون، فرجع الرجل مرة ثانية كما كان، فسأله الله سبحانه: (لم فعلت ذلك؟ قال: من خشيتك يا رب، فغفر الله له سبحانه وتعالى). فهل هذا أعجز الله سبحانه بهذا الذي فكر فيه؟ مهما تقطع الإنسان وتمزق إرباً، ومهما أكلته الطير وطارت به في أماكن وماتت هذه الطيور في أرجاء متفرقة؛ فإنه لا يهرب من رب العالمين. ثم قال: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27] أي: إعادة الإنسان أمر هين ويسير على الله سبحانه وتعالى، وهذا كأنه يضرب لكم المثل من أنفسكم، فالذي يصنع منكم شيئاً فإنه يستطيع أن يصنعها مرة ثانية، أليس هذا أسهل عليه؟ ولله عز وجل المثل الأعلى، وليس عند الله شيء اسمه سهل والآخر أسهل منه، كل شيء على الله عز وجل يسير، وإنما يخاطبكم بما تفهمون في أموركم وفي عاداتكم: أن الذي يصنع شيئاً فإنه أسهل عليه أن يصنعه مرة ثانية، والله عز وجل كلٌ عليه هين، ليس عنده أسهل وأسهل، بل الكل على الله يسير. فقوله: ((وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ)) أي: هين يسير على الله أن يعيدكم مرة ثانية. قوله: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [الروم:27] أي: إذا ضرب مثلاً مما عندكم فيما بينكم فليس معناه أنه مثلكم، لا، فالله عز وجل لا مثيل له سبحانه وتعالى؛ لأن له الأوصاف العالية العظيمة، {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل:74] فالله يضرب لكم الأمثال ليقرب ذلك إلى عقولكم، ولكن لا تضرب أنت لله عز وجل الأمثال، {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:74]. فقال هنا: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الروم:27] أي: له الوصف العظيم والأعلى في كل مكان سبحانه وتعالى، فهو الأعلى والأعظم سبحانه وتعالى. وقوله: ((وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى)) قالوا من معانيها: له أعظم وصف وهو لا إله إلا الله، يعني: لا يستحق العبادة غيره سبحانه وتعالى. قوله: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم:27] أي: الغالب، وهذا مناسب لما قبله، يعني: إذا قال الله عز وجل: كن، فلا ممانع لقضاء الله وقدره؛ لأن الله قاهر وغالب وعزيز لا يغالب سبحانه وتعالى، وهو الحكيم في خلقه، الحكيم في إنزاله كتبه، الحكيم في صبره على عباده، الحكيم في تشريعه سبحانه، وكل شيء بحكمة بالغة من الله سبحانه. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الروم [28 - 30]

تفسير سورة الروم [28 - 30] يضرب الله عز وجل الأمثال للخلق لتقريب المعلومة إلى الذهن، ومن باب إقامة الحجة عليهم، وقد ذكر تعالى في هذه السورة مثلاً عظيماً، وهو إلزام للمشركين بترك الشرك بالله، وهذا المثل هو أنهم يأنفون أن يشاركهم عبيدهم الذين هم ملك لهم في أموالهم، وهم مع ذلك يشركون مع الله غيره، وهم عبيد له وحده، ولله المثل الأعلى، فكأنه يقول: كيف تجعلون لله الأنداد من خلقه؟!

تفسير قوله تعالى: (ضرب لكم مثلا من أنفسكم)

تفسير قوله تعالى: (ضرب لكم مثلاً من أنفسكم) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الروم: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم:28]. ذكر الله سبحانه وتعالى لنا في هذه السورة سورة الروم مثلاً من أنفسنا فضربه للعباد، ولله عز وجل المثل الأعلى، والقرآن يضرب الأمثال تقريباً للمعلومات في الذهن، فالله سبحانه يقرب الشيء الذي يريد الإنسان أن يفهمه، عن طريق ضرب الأمثال، وعن طريق التبيين والتوضيح والتفصيل، وعن طريق التكرار للمعنى بصور مختلفة، حتى يفهم الإنسان، ويعقل عن الله سبحانه وتعالى ما الذي يريده منه، ويقيم الله سبحانه وتعالى الحجة على العباد بذلك، ولا يستحي ربنا سبحانه أن يضرب لنا الأمثال بأقل الأشياء أو بأعلى الأشياء، قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26] فيضرب لنا المثل بالبعوضة وبالذبابة وبالشيء الكبير، ويضرب لنا المثل في أنفسنا ومن أنفسنا، وقال لنا: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] فهنا في أنفسنا عبرة نعتبر بها، فاعتبروا يا أولي الأبصار. قال تعالى: ((ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ)) حتى تعرفوا أنكم أنتم البشر يأنف أحدكم ويرفض أن يكون من هو أقل منه شريكاً له، فالإنسان الذي له متجر وله محل وعنده عامل أجير يعمل في هذا المحل يأنف صاحب المحل أن يكون هذا الأجير شريكه في المحل، هذا في الأجير الذي هو حر فكيف لو كان هذا عبداً تملكه وقد اشتريته بمالك؟! لا ترضى أبداً أن يقال: هذا العبد شريك لك في مالك، تأنف وترفض ذلك، وتقول: كيف يكون شريكاً لي وأنا اشتريته بمالي وهو ملك لي، ومن حقي أن أبيعه؟! ترفض ذلك، فالله عز وجل ضرب لنا هذا المثال: {هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [الروم:28] أي: من العبيد الذين هم عندكم، {مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} [الروم:28] أي: العباد كلهم سواء، السيد الغني والعبد الذي لا يملك شيئاً والحر الفقير، الكل سواء في رزق الله سبحانه لا يرزقون أنفسهم، بل الله عز وجل هو الذي يرزق الجميع، فإذا كان الرزق ليس رزقك وليس مالك ولم تخلقه ولم تأت به، ولكن الله بكرمه أعطاك هذا المال الذي جعلت خليفة ومستخلفاً عليه، ومع ذلك ترفض أن يقال: هذا شريك لك في هذا المال، مع أنكم جميعاً سواء في رزق الله؛ لأن الله يرزقكم أنتم ومن تملكون؛ فكيف تدعون لله سبحانه أن يكون له شريك في ملكه سبحانه وهو الذي خلق العباد وخلق كل شيء سبحانه وتعالى؟! قال الله سبحانه: {فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} [الروم:28] أي: تخافون من عبيدكم هؤلاء كما تخافون من أنفسكم، تخافون أن ينقصوا عليكم الرزق، فأنت خائف على هذا الرزق الذي أعطاك الله سبحانه وتعالى. فأنت تخاف من هذا العبد أن ينفد هذا المال الذي في يدك، وترفض أن يكون عبدك شريكاً لك، فكيف تضرب لله عز وجل الأمثال؟ وكيف تزعم أن له الصاحبة والولد وله الند والشريك وهو الذي خلقكم وخلق أموالكم ولا يخاف شيئاً ولا يخشى أحداً سبحانه وتعالى؟ قال: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم:28] أي: كهذا التفصيل العظيم نفصل الآيات لقوم يعقلون، وتفصيل الشيء يكون بتكراره وتوضيحه وتبيينه، فكذلك فصلناه وبيناه بياناً يعقله كل ذي عقل وكل ذي بصيرة.

تفسير قوله تعالى: (بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم)

تفسير قوله تعالى: (بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم) قال الله تعالى: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [الروم:29] قوله: ((بَلِ)) بل للإضراب يعني: اضرب عن هذا فمهما أتيتهم بحجج الله سبحانه فهم لا يريدون أن يفهموا أصلاً، ((بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ)) فإذا كان الإنسان صاحب هوى وجلست معه لتقنعه بالشيء الواضح، فمهما حاولت أن توضح له فلن يقتنع إلا بالذي في دماغه، فها هم المشركون لما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله سبحانه كانت عقولهم في شركهم وأوثانهم، فقالوا: أنت تريد أن تأخذ منا الرئاسة، وتريد أن تأخذ منا المكانة، فلن نقبل منك الذي تقوله، {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ} [الإسراء:90 - 93] كل هذا: {وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه} [الإسراء:93]. أي: لن نؤمن بعد هذا كله حتى تأتينا بكتاب من السماء مختوم من رب العزة سبحانه ونقرؤه ونجد فيه رسوله! ويقول له بعضهم: وحتى لو فعلت ذلك ما أظن أنني أؤمن بك! يعني: صاحب الهوى لا يؤمن ولا يستجيب، بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم، فهم أصحاب هوى مهما أقنعتهم لا يقتنعون في الظاهر، وإنما في الباطن، هم يعرفون الحق فيعاندون ويستكبرون، لذلك قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم في سورة الأنعام: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ} [الأنعام:33] أي: لا تحزن على ذلك، {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33] يعني: هم لا يعتقدون أنك كذاب، كيف وهم يلقبونك بالصادق الأمين، بل هؤلاء يجحدون، أي: يكتمون الحق مع تيقنهم بأنه حق، فهؤلاء المشركون لا يكذبون النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعتقدون أنه كاذب، بل يعتقدون أنه صادق عليه الصلاة والسلام، ولكن كما قال أبو جهل: كنا وبنو هاشم كفرسي رهان، أطعموا الحجيج فأطعمنا، وسقوا الحجيج فسقينا، وكلما عملوا من الخيرات عملنا، ثم زعموا أن فيهم نبياً فأنى لنا بنبي؟! إذاً: تكذيبهم للنبي صلى الله عليه وسلم بسبب الحسد، فهم يعترضون على أمر الله سبحانه أن اختار النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره. بل يصرحون: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] أي: لماذا نزل هذا القرآن على الوليد بن المغيرة من مكة أو على عروة الثقفي من ثقيف من الطائف؟ لماذا نزل عليك أنت هذا القرآن؟ فالحسد للنبي صلوات الله وسلامه عليه هو الذي جعلهم يعترضون على نبوته، قال الله عز وجل له ولهؤلاء الناس: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:54] وقوله هنا: ((النَّاسَ)) المقصود به النبي صلى الله عليه وسلم. وقال سبحانه في سورة الروم: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الروم:29] أي: ليس عندهم آثار من علم، وليس عندهم دليل من رب العالمين يسوقهم ويقودهم إلى ما يزعمونه من كلام باطل. قال: {فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} [الروم:29] أي: مستحيل أن الله عز وجل يهدي إنساناً استحق هذه الضلالة، {فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل:37] أي: لا يهدى من يضله الله سبحانه وتعالى، والذي يضله الله سبحانه هو من علم الله سبحانه أنه لا يستحق إلا النار، فيختم على قلبه ويطبع على قلبه فلا يستجيب ولا يفهم ولا يعقل. فقوله: ((فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ)) أي: لا أحد يهدي من أراد الله به الضلالة؛ لعلم الله عز وجل أن هذا يستحق ذلك. قوله: ((وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ)) يعني: في ظلمهم واتباعهم أهواءهم ومحاربتهم النبي صلى الله عليه وسلم، ليس لهم ناصر ينصرهم لا في الدنيا ولا في الآخرة، فالله ينصر دينه وقت ما يشاء سبحانه، ويخذل الشرك والمشركين وما لهم من ناصرين.

تفسير قوله تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفا)

تفسير قوله تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفاً) يأمر الله نبيه صلوات الله وسلامه عليه بأن يقيم وجهه للدين حنيفاً فقال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30] أي: قوم نفسك ووجه وجهك وتوجه إلى ربك، وإلى شرع الله سبحانه، وسر على الصراط المستقيم، فإقامة الوجه هو تقويم الطريق والمقصد والقوة على الجد في أعمال دين الله سبحانه وتعالى. وخص وجه الإنسان بالذكر؛ لأن أشرف ما في الإنسان وجهه، والإنسان إذا وجه وجهه إلى شيء سيسير إلى هذه الوجهة التي توجه إليها. قوله: ((فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ)) أي: دين رب العالمين. قوله: ((حَنِيفًا)) أي: كن مستقيماً على هذا الدين، وسيكرر لنا مرة ثانية ويصف هذا الدين أنه الدين القيم العظيم فأقم وجهك للدين القيم. إذاً: قوله: ((فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا)) أي: توجه إلى دين رب العالمين سبحانه حنيفاً، وأصل الحنف: الميل، ورجل أحنف بمعنى أن ساقيه مائلتان، ووصف إبراهيم بأنه حنيف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أي: مائل عن كل من على الأرض من مشركين بالله سبحانه وكفرة، فإبراهيم عليه الصلاة والسلام هو وحده الذي كان على التوحيد، فمال عن جميع الأديان الباطلة وأعرض عنها وابتعد عنها، فسمي بالحنيف، والحنيف هو المائل المبتعد عن الباطل. ثم صارت هذه الكلمة دليلاً على الاستقامة، فأصبحت كلمة الحنيف على المعنى الشرعي أنه المستقيم على دين الله عز وجل. فقوله: ((فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا)) أي: معتدلاً مائلاً عن الزيغ وعن الهوى وعن جميع الأديان المحرفة المنسوخة. قوله: ((فِطْرَةَ اللَّهِ)) يعني: هذا الدين فطرة الله سبحانه وتعالى، الذي هو دين الإسلام دين الفطرة، وكأنه قال: فأقم وجهك للذي فطرك الله سبحانه وتعالى على هذا الدين العظيم. وقوله: ((فِطْرَةَ اللَّهِ)) كلمة (فطرة) هذه مصدر، المعنى أنها نائب عن المفعول المطلق، كأنه فطر الله فطرة، وجاء بالمفعول المطلق الذي منها فقال: ((فِطْرَةَ اللَّهِ)). وكلمة (فطرة) عند الوقف عليها هي مكتوبة بالتاء في المصحف، فإذا وقفت قرأت: (فطرت) بالتاء، هذا على قراءة الجمهور، ويقف عليها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب بالهاء (فطرة).

معنى الفطرة

معنى الفطرة قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] الفطرة خلقة الإنسان، والفطرة بدء خلق الإنسان، والله فاطر سبحانه وتعالى بمعنى مبتدئ الخلق، لم يكن قبل ذلك خلق فأوجده الله، وفطره وابتدعه وخلقه سبحانه وتعالى. أما فطرة الإنسان فيعبر بها عن الإسلام، ويعبر بها عن خصال الإسلام، ويعبر بهذه الكلمة (الفطرة) عن أصل الخلقة والدين الذي عليه الإنسان الذي أوجده الله عز وجل في قلبه، فقلبه السليم فطر على حب دين الله عز وجل، إلا أن يدخل فيه شيء يوجهه شمالاً أو يميناً، ولذلك جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة، -وفي رواية: على الملة- فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟)، فهنا في هذا الحديث أن كل مولود يولد على الفطرة، لو أنه ترك وحده بدون تدخل من الأبوين، لتوجه إلى دين رب العالمين سبحانه وتعالى؛ لأن في قلبه ما يدعوه إلى ذلك، فالله عز وجل خلق العباد قبل أن يوجدهم في هذه الدنيا، وأخذ عليهم وهم في ظهر آدم الميثاق، فهو سبحانه استخرج ذرية آدم من ظهره كأمثال الذر، ثم أشهدهم على أنفسهم، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:172] أي: لئلا تقولوا يوم القيامة: إنا كنا عن هذا غافلين. إذاً: يوجد في قلب كل إنسان التعرف على ربه سبحانه وتوحيد ربه سبحانه وتعالى، ولم يترك الله عز وجل العباد لذلك فقط، وإنما بعث إليهم الرسل عليهم الصلاة والسلام وأنزل الكتب؛ ليهدي عباده، وجعل في قلوبهم ما يدلهم على ربهم سبحانه وتعالى، وأنشأهم حين يولدون على هذه الفطرة: معرفة الله وتوحيده سبحانه وتعالى، فإذا بالعبد ينمو على ذلك، وإذا بأبويه يتدخلان في ذلك، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، وفي رواية: (أو يشركانه) يعني: الإنسان يولد على الفطرة، ثم الأم تعلم الولد أو الأب يعلم الولد النصرانية أو اليهودية أو غير ذلك من الملل الكفرية، لكن لو ترك على ما في داخل قلبه لصار إلى طريق الإسلام، كما ذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة). وضرب لنا مثلاً فقال: (كما تنتج البهيمة جمعاء) أي: الناقة والبقرة والشاة كل هذه الأنعام خلقها الله عز وجل مكتملة الخلق، (هل تحسون فيها من جدعاء؟) يعني: هل يوجد من البقر أو من الغنم أو من الإبل ما تكون إذنها مشقوقة؟ لا يحدث إلا أن تكون أو نادرة من النوادر؛ ليرينا الله عز وجل آياته، فكذلك الله عز وجل خلق الإنسان مكتملاً، وخلق في قلبه ما يدعوه إلى توحيد ربه سبحانه، ولكن إذا تدخل البشر أضلوا هذا الإنسان. وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا، قال عز وجل: كل مال نحلته عبداً فهو حلال). أي: هذه الأموال التي يرزقكم الله سبحانه هي حلال لكم، طالما أنها حلال وطالما أنكم سعيتم فيها من وجه حلال فهي مباحة لكم، ثم قال: (وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم) يعني: على الدين وعلى الفطرة وعلى توحيد الله على الإسلام العظيم، ثم قال: (وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم). (فاجتالتهم) يعني: استخفوا بهم وأذهبوهم عن دينهم، وجالوا معهم في الباطل، فالشيطان لا يترك الإنسان بل يستخف به شيئاً فشيئاً حتى تعتريه الخفة والطيش والتهور ويبتعد عن الله سبحانه وعن طريق الهداية: وفي رواية: (فاختالتهم الشياطين). وكأنها بمعنى الحبس عن دين الله سبحانه وتعالى، والصد عن دين الله سبحانه، ثم قال في هذا الحديث: (وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، قال الله سبحانه: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [المائدة:103]). فربنا سبحانه لم يحرم الواصلة ولا الحامي ولم يحرم الذي حرمه أهل الجاهلية من أشياء، فيقول سبحانه: ((مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ)) بحروا أي: شقوا أذنها، فالناقة إذا أتت بأنثى وبعدها أنثى فجزاء لها ألا نذبحها ولا نأكلها، بل نتركها معززة مكرمة، هذه البحيرة، أما السائبة فهي التي ولدت وولدها كبر حتى ولد فيتركونها ولا يذبحونها. من الذي حرم عليكم أن تأكلوها؟ {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [المائدة:103]، فيكذبون على الله سبحانه! وقال هنا: إن الذي أمرهم بذلك الشياطين، اجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الروم الآية [30]

تفسير سورة الروم الآية [30] خلق الله عز وجل الخلق على الفطرة الربانية التي فطرهم عليها، إنها فطرة التوحيد والإيمان والاعتراف بالله بألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، ولكن الشياطين حرفوا الفطر، وغيروا العقول، واجتالوا العباد إلى عبادة غير الله سبحانه وتعالى، وقد أمر الله نبيه أن يستقيم على ملة إبراهيم عليه السلام فقد فطر الله الخلق على هذه الملة السمحاء التي لا يعلمها كثير من الناس.

تفسير قوله تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفا)

تفسير قوله تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفاً) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30]. هذا أمر من الله سبحانه تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين تبعاً بإقامة الوجوه لدين الله سبحانه وتعالى، {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} [الروم:30] أي: أقم وجهك معتدلاً متوجهاً إلى دين الله سبحانه وتعالى. والحنيف بمعنى: المستقيم، وأصله من الحنف وهو الإماله أو الميل، فكأنه يقول: ابتعد ومل عن هذه الأديان الباطلة إلى طريق الله عز وجل المستقيم وإلى دينه القويم.

الإسلام فطرة الله في خلقه

الإسلام فطرة الله في خلقه {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ} [الروم:30] أي: أقم وجهك إقامة عظيمة واستقم على فطرة الله سبحانه تبارك وتعالى التي هي داخل قلب كل إنسان، وذكره فطرة الله كأن فيه إشارة إلى أنها ضمن كلمة أقم وجهك، وعليه فيكون المعنى: توجه إلى الوجهة التي فطرك الله عليها، أو كأنه يقول: اتبع فطرة الله، أو أقم وجهك متبعاً فطرة الله التي فطر الناس عليها، والفطرة تأتي بمعنى: الدين والإسلام، وبمعنى: بدأ خلق الله عز وجل للإنسان، ومنه: فطره على الشيء أي: بدأ خلقه عليه وجعله مستقراً في قلبه. فالله عز جل خلق عباده كلهم حنفاء يعني: على دين الله، فلو تركوا وما في قلوبهم لاستقاموا على دينهم الحق، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه). فلو ترك هذا المولود على ما فطره الله عز وجل عليه لاستقام على دين الله سبحانه، ولكن أبواه هما اللذان يوجهانه إلى الخير أو إلى الشر، فإما أن يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، أو يتركانه على الأصل وهو هذا الدين المستقيم، فالأصل في الإنسان أنه على الإسلام. ولذلك تجد أصحاب الأديان الأخرى لابد أن يحولوا أولادهم إلى دينهم؛ لأنه خلاف الأصل والفطرة، فيعمدونهم بأن يأخذونهم إلى الكنيسة عند الكاهن حتى يعمده، وكأنهم يعترفون أنه على غير ما هم عليه، فيحتاجون إلى أن يتحولوا فينصرونه أو يهودونه على غير ما خلق عليه، أما في الإسلام فالإنسان مولود على الفطرة، ويشب على هذا الدين الذي فطره الله عز وجل عليه وأوجده في قلبه. فليس في الإسلام مسألة تعميد؛ لأن المولود مفطور على دين الله عز وجل، أما في غير الإسلام فلابد أن يحولوه، وكأنهم يعترفون ضمناً أنه مولود على غير ما هم عليه، فيحتاج أن يتحول إلى اليهودية أو إلى النصرانية.

عبث الشياطين بالمشركين في تحريم ما أحله الله وتحليل ما حرمه الله

عبث الشياطين بالمشركين في تحريم ما أحله الله وتحليل ما حرمه الله جاء في صحيح مسلم عن عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: (ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا، كل مال نحلته عبداً حلال)، يعني: ما أعطيت لعبادي من رزق ومن مال فالأصل أنه حلال، (وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم) يعني: مائلين عن الباطل مستقيمين على الحق، وفي قلوبهم ما يدعوهم إلى الله عز وجل وإلى عبادته سبحانه وتعالى، ولكن كما قال: (وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم) أي: إذا بالشياطين تحول العباد عن هذا الدين وتفتنهم عنه، وفي الرواية الأخرى: (فاختالتهم عن دينهم). قال في الحديث: (وحرمت عليهم ما أحللت لهم) أي: أن الله أحل للعباد أرزاقهم فإذا بالشياطين توهم الناس أن هذا حلال وأن هذا حرام، فيقسمون أرزاقهم التي جعلها الله عز وجل لهم فيقولون: هذا لله وهذا لشركاء الله عز وجل، فما كان لله فهو يصل إلى شركائه، وما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله، فجاءوا بأشياء يخترعونها ويبتدعونها بعقولهم، ويقول هؤلاء المشركون إذا حصدوا الثمار: الجزء هذا لله، والجزء هذا للشركاء، فإذا اختلط ما لله عز وجل بما للشركاء يقولون: نجعله كله للشركاء وربنا غني عن ذلك. فيقال رداً عليهم: إذا علمتم أن الله غني عن ذلك فلم تعبدون هؤلاء الشركاء وأنتم تعرفون أنهم فقراء وليسوا بأغنياء عن ذلك؟ فتعطونهم ما لله وتقولون: إن الشركاء محتاجون لهذا النصيب، فما كان لشركائكم فلا يصل إلى الله، وما كان لله فهو يصل إلى شركائكم ساء ما تحكمون. قال تعالى: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام:138 - 139] وقد قسم لهم هذه القسمة الشياطين، فضحكت عليهم بها وخدعتهم فقسموا هذه القسمة، وقالوا لهم: هذه أنعام وحرث حجر، أي: محجورة فلا أحد يأخذها إلا من نريد! {وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا} [الأنعام:138] أي: ممنوع أن يركب عليها أحد؛ مكافئة لهذه الأنعام؛ لأنها أنجبت وأنجب خلفها، فيمنع الناس من ركوبها وذبحها مع أن الله قد خلقها رزقاً لعباده، وأباح لك أن تأكلها أو تعطيها غيرك يركبها أو تركبها أنت، أو تعطيها غيرك صدقة يأكلها، ولا تترك سائبة تمشي بين الناس، ولا أحد يتعرض لها، حتى تكون هرمة وتموت من غير أن ينتفع بها أحد. فيقال لهم: من الذي أمركم بتحريم أكل هذه الأنعام وتركها لنفسها هكذا؟ فالله لم يأمركم بذلك، ولكن العقول الخائبة والأديان الباطلة تعمل ذلك، فهؤلاء يعبدون غير الله والشياطين تستهويهم وتجتالهم عن دينهم، وهم أطاعوا الشياطين في معصية الله عز وجل، قال سبحانه: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ} [المائدة:103] ولكن الشياطين هم الذين يوحون إلى أوليائهم ذلك فيجادلون به. {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ} [المائدة:103]، يقال بحيرة: أي: بحرت بطنها وولدت أنثى وبعدها ولدت أنثى أيضاً، فيكافئونها بأن لا يركبها أحد ولا يستخدمها، وتترك هكذا. {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ} [المائدة:103] يقول أحدهم: لله علي نذر، أو ينذر لغير الله عز وجل إذا شفى الله مريضي أو نحوه فسأترك الجمل سائباً لا يركبه ولا يأكله أحد! فلا هو انتفع به ولا غيره انتفع به، وقد جعله الله عز وجل حلالاً يؤكل فإذا بهم يحرمون أكله. {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ} [المائدة:103] الوصيلة: هي التي وصلت بطناً ببطن، يعني: خلفت مرة وأخرى وثالثة، فتستحق أن لا تركب بعد ذلك ولا تؤكل. {وَلا حَامٍ} [المائدة:103]، وهو الذكر إذا لقح ولد ولده، يعني: أن الجمل إذا خلف جملاً، فنتج منه جمل آخر فيبقى عنده حفيده ولا أحد يتعرض لهذا الجمل الجد.

أساليب عصرية في محاربة العقيدة من قبل الأعداء

أساليب عصرية في محاربة العقيدة من قبل الأعداء إن الإنسان إذا بعد عن الله عز وجل إذا بعقله يحل أشياءً ويحرم أشياءً، ويبقى عقله ضائعاً، والذي ينظر إليه يعرف غباءه، فأهل الجاهلية كانوا يعبدون الأحجار، يصنع أحدهم الحجر بيده من تراب وماء، ويصنع منه صنماً، ثم يعبده من دون الله سبحانه وتعالى، أو يصنع تمثالاً من عجوة وإذا جاع أكله، وإذا شبع عبده من دون الله! أية عبادة هذه التي يفعلونها؟! إنها عقول تافهة توجد في كل زمان، ومثل ذلك الذين يصنعون التمائم، لكي يكسبون المباراة في لعبة الكرة، والمسلمون يقلدون في هذا الشيء، ويصنعون ما يجعلهم يشركون بالله سبحانه، فيزعمون أن النصر من هذه التميمة التي صنعوها، وتكون ميدالية أو تمثالاً أو صورة، ويقولون: هذه تجلب لنا الفأل الحسن. فيكفرون بالله سبحانه ويشركون به، وهم يصنعونها أو يقرونها بمدح مثل هذا الشيء، ويعملون تمثيليات وأفلاماً تكون سبباً لانتشار هذا الشيء، كما تسمع عن تمثيلية تحكي عنها الجريدة أن شخصاً اشترى حذاءً؛ ليلعب به الكرة، يقوم فيغلب، وكلما يلعب به يغلب الآخرين، وعندما يترك هذا الحذاء ويلعب بدونه لا يغلب، والمقصود بهذا الشيء إقرار عقيدة باطلة في نفس الإنسان، فيأتي الشاب الصغير الذي لا يفهم العقيدة، فيذهب لشراء حذاء جديد؛ ليلعب به، فإذا غلب يقول: إن الحذاء هو الذي جعلني أغلب، وينسب النصر لهذا الحذاء! انظر إلى هذا الغباء وهذه العقول! إن هذه العقائد هي التي يريدون أن يغرسونها في نفوس الناس، والمسلمون ينساقون وراء ذلك، وكما رأيتم فيلم المسيح، فكم من المسلمين الآن يشاهدون هذا الفيلم في كل مكان؟! بدعوى أن فيه نكاية بإسرائيل، وهو يقرر في أذهان المسلمين أن المسيح صلب، والله عز وجل سبحانه يقول: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157]، فلم يقتل المسيح، ولم يصلب وإنما رفع المسيح إلى السماء، وصاحب هذا الفيلم يقول: أنا لا أرضى حتى يتنصر كل الناس بسبب هذا الفيلم! وإذا بالمسلمين في بلادهم ينشرون هذا الفيلم على دور السينما لكي يشاهدونه، ويرون في الفيلم أنه صلب المسيح، وأنه وضع الشوك على رأسه، وأن المسيح قتل ولا حول ولا قوة إلا بالله! والله عز وجل يقول: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ} [النساء:157] والمسلمون تذهب عقولهم وتضيع وراء فلم من الأفلام، وإن كان فيه دعوة للنصرانية، وإذا بالجرائد تنشر مقالات مثل: آخر لحظات المسيح، ويقال فيها: انظروا إلى اليهود طوال عمرهم يعملون الشر، فهم الذين قتلوا المسيح! مع أن الله عز وجل يقول في القرآن {وَمَا قَتَلُوهُ} [النساء:157]. وهذا هو الكفر الذي لا يقوله مسلم؛ لأنه يخالف ما جاء في القرآن، فينشرون عقيدة النصارى، ويقررون في قلوب المسلمين الشرك بالله سبحانه، والتكذيب لكتاب الله سبحانه تبارك وتعالى، والمسلمون لجهلهم يضعون المصاحف في بيوتهم للزينة، وبعضهم يضعها تحت رأسه وهو نائم حتى لا تأتي له رؤيا مفزعة، أما أن يقرأ ما في كتاب الله سبحانه ويتعلم ما فيه فلا، إلا من رحم الله سبحانه تبارك وتعالى. وأيضاً الأب يرسل ابنه إلى مدرسة ليتعلم الإنجليزي وغيره، وآخر شيء يفكر فيه تعليم القرآن وكتاب الله سبحانه تبارك وتعالى! فلابد للمسلمين من التوعية بعقائد الإسلام، قال الله سبحانه تبارك وتعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، وقال لنا في هذا الحديث القدسي الصحيح: (إني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً). فلما وصل أهل الأرض إلى طاعة الشيطان والشرك بالله سبحانه فسيكون جزاؤهم المقت، فإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم جميعاً عربهم وعجمهم، والمقت أشد البغض، فقال سبحانه في هذا الحديث: (وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب)، ولم يقل: إلا أهل الكتاب، لأن أهل الكتاب كانوا وراء الدنيا قبل النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن كان منهم بقايا ممن عرفوا التوحيد وممن وحدوا الله سبحانه، وكانوا ينتظرون النبي صلوات الله وسلامه عليه، وقد تعلم على أيدي هؤلاء البقايا سلمان الفارسي، وعبد الله بن سلام.

قصة إسلام سلمان الفارسي

قصة إسلام سلمان الفارسي إن سلمان تعلم عند بقايا من النصارى الذين كانوا يوحدون الله سبحانه، وكان كل إنسان منهم يوصي سلمان: أن اذهب إلى فلان وتعلم عنده، وهكذا حتى قال له آخرهم: لا أجد أحداً على الأرض على ما أنا عليه، ولكن قد أظلك زمان يبعث فيه نبي، وهذا آخر راهب كان معه سلمان الفارسي رضي الله عنه، وسلمان كان فارسياً مجوسياً، وكان أبوه موقد النيران لقومه، ولما هرب سلمان من عند أبيه وأمه وجد راهباً يعبد الله سبحانه، فتعلم منه، ثم حبسه أبوه، ثم هرب بعد ذلك وتوجه ليعبد الله سبحانه ويترك هذه الديانة الباطلة، فدلوه على عبادة الله سبحانه، وكان كلما يذهب إلى راهب من الرهبان يلازمه حتى تحضر الراهبَ الوفاة، فيقول له سلمان: إلى من توصي بي؟ فيقول له: اذهب إلى فلان في القطر الفلاني فهو على التوحيد، فهؤلاء هم بقايا أهل الكتاب الذين كانوا على التوحيد. فلما وصل سلمان رضي الله عنه إلى آخر هؤلاء، وكان قد قرب عهد النبي صلوات الله وسلامه عليه وجاءت الوفاة لهذا الراهب، فقال لـ سلمان: اذهب إلى أرض العرب فإنه سيبعث فيها نبي في هذا الزمان، وسلمان لا يعرف طريق الذهاب إلى أرض العرب، فوجد جماعة من العرب فأعطاهم ماله حتى يوصلوه إلى أرض العرب، فأخذوا منه المال وخانوه وغدروا به وصيروه عبداً! وبذلك صار سلمان الفارسي الذي كان أبوه من الكبراء عبداً من العبيد في يوم من الأيام، حتى أعانه النبي صلى الله عليه وسلم ففك رقه وصار عتيقاً بعد ذلك. والغرض أن سلمان عرف النبي صلى الله عليه وسلم بالوصف الذي قاله له هؤلاء البقايا من أهل الكتاب الذين كانوا على التوحيد، وكانوا يعرفون الله سبحانه، ويؤمنون بالله الواحد ولم يقولوا: الله ثالث ثلاثة، ولم يقولوا: إنه اتخذ صاحبة أو ولداً، فـ سلمان تعلم منهم ذلك، ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم عرفه بوصفه الذي حدثوه به.

الحكمة من بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم

الحكمة من بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم قال صلى الله عليه وسلم هنا في الحديث: (إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك) أي: بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم ليختبره ويختبر الخلق به صلوات الله وسلامه عليه. قال: (وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء، تقرؤه نائماً ويقظاناً)، إنما بعثتك لأبتليك ابتلاء، فهل تصبر على الرسالة أو لا تصبر؟ وأبتلي بك الناس وأختبرهم هل يستجيبون لك ويؤمنون بك حينما يروا الآيات والمعجزات معك أو لا يؤمنوا؟ فأنت مبتلى وهم مبتلون. قال: (وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء)، وهذا الكتاب العظيم القرآن الكريم، فقد كانت الكتب السابقة تكتب فقط ولا يوجد من أصحاب الديانات السابقة من يحفظ كتاب الله سبحانه، إلا ما يكون من الأنبياء المعصومون عليهم الصلاة والسلام، ولكن سائر أصحاب الأديان ما كانوا يحفظون كتبهم، وإنما الكتب تكتب بالأحبار، فإذا أرادوا أن يبدلوا أو يغيروا مسحوا وكشطوا وكتبوا ما يريدون، إلا هذا القرآن العظيم فلا يغسله الماء أي: أن هذه معجزة من معجزات هذا القرآن العظيم، وهي أن المسلمين يحفظونه من عهد النبي صلوات الله وسلامه عليه، يأخذه اللاحق عن السابق حفظاً ومشافهةً وكتابةً أيضاً، فإذا محي من الكتب فهو محفوظ في الصدور لا يمحى منها إلا بأن يقبض الله عز وجل العلماء كما جاء في الحديث أو عند قرب الساعة فمن العلامات الكبرى أنه يرفع كتاب الله عز وجل، نسأل الله العفو والعافية.

بذل الأسباب تأتي بعده معونة الله تعالى

بذل الأسباب تأتي بعده معونة الله تعالى قال صلى الله عليه وسلم: (وإن الله أمرني أن أحرق قريشاً) يعني: أقاتل قريشاً بعد أن أدعوهم إلى الله عز وجل، فإن لم يستجيبوا أقاتلهم، قال: (فقلت: ربي! إذاً: يفلقوا رأسي فيدعوه خبزاً) يعني: يكسروا رأسي كما يكسر الخبز ويصير خبزة واحدة؛ لأني وحيد، وهم كثر! فإذا بالله عز وجل يطمئن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (استخرجهم كما استخرجوك، واغزهم نغزك، وأنفق فسننفق عليك) أي: كما أخرجوك فأخرجهم، قال: (واغزهم نغزك) أي: قاتلهم وسنعينك عليهم، (وأنفق فسننفق عليك) أي: فلا تخف من النفقة أو من الغزو أو من الإخراج، فإن الله عز وجل معك، فابعث جيشاً نبعث خمسة مثله، وفي هذا كله يرينا الله أن النصر من عنده سبحانه، وأنه يعين عباده المتقين. فالمؤمن يأخذ بالأسباب ويأتي من عند الله عز وجل النصر، قال: (وقاتل بمن أطاعك من عصاك).

من صفات أهل الجنة وأهل النار

من صفات أهل الجنة وأهل النار قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: (وأهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق)، فهؤلاء من أهل الجنة، ذو سلطان يحكم المسلمين بالعدل ويتصدق، ويوفقه الله عز وجل للطاعة وللحكم بالعدل. (ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم)، وهنا الثاني ليس له سلطان، ولكنه رجل من المسلمين من صفاته أنه رحيم رقيق القلب، أي: في قلبه مودة ورقة وحنان لكل ذي قربى ومسلم، فهو رحيم بكل ذي قربى وكل مسلم. والثالث: (عفيف متعفف ذو عيال)، وهذا ليس إنساناً طماعاً، فلا ينظر إلى ما في أيدي الناس بل أعف نفسه عن الناس وتعفف عما في أيديهم، وحصن نفسه من الوقوع في الحرام، مع أن هذا الإنسان عنده عيال ويحتاج للإنفاق عليهم ولكنه عفيف متعفف. نسأله أن يجعلنا من أهل جنته وأن يجعلنا من أهل ناره. قال: (وأهل النار خمسة)، وبدأ بالضعيف من أهل النار، وهنا يظهر أن الضعيف من أهل النار غير الضعيف من أهل الجنة، فالجنة قالت لله عز وجل: (فيّ الضعفاء)، فمن أهل الجنة ضعفاء المؤمنين وأهل الفقر والحاجة والضعفاء والمرضى الذين رضوا بهذا الشيء وأطاعوا الله سبحانه وتعالى. وذكر من أهل النار: (الضعيف الذي لا زبر له) أي: الذي لا منع له، والمقصود به هنا العقل، فليس له عقل يزجره عن معصية الله سبحانه وتعالى، وهو ضعيف ومع ضعفه لا يركن إلى الله بل يركن إلى الأقوياء من الناس، يقولون له: اعمل كذا فيعمل، استهزئ بفلان فيستهزئ، فيعصي الله ويكفر بالله؛ ليرضي سادته في الدنيا، قال عن أمثاله: (الذين هم فيكم تبع لا يبتغون أهلاً ولا مالاً)، لا يبتغون أي: لا مال معهم لزواج ولا غيره، بل يعيش متطفلاً على الناس، يمد يده للناس ويأخذ من هذا ويسرق ويعمل المعاصي التي حرمها الله سبحانه وتعالى، ويعمل ما يريد في الدنيا، ليس له قيمة عند الله عز وجل، ولا عند الناس، ولا في نفسه. قال: (والخائن) أي: من أهل النار (الذي لا يخفى)، يخفى من الكلمات المتضادة فلها معنيان متضادان، خفي الشيء بمعنى: اختفى، وخفى أيضاً بمعنى: ظهر، فهنا الذي لا يخفى بمعنى: الذي لا يظهر له شيء، (وإن دق إلا خانه) يعني: في طبيعته الخيانة، فأي شيء يظهر له وإن كان ليس له قيمة يخون ويسرقه، فالإنسان الذي في طبعه الخيانة من أهل النار. قال: (ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك وعن مالك)، فهو من أصحاب الخديعة، وهو الإنسان الذي يخادع في أي شيء، فيستطيع أن يضحك على الناس وعلى زوجته، أو على بناته وعلى عياله، فهو يضحك على أي إنسان فيخدعه في ماله وفي أهله، وهذا من أهل النار. قال: (لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك)، وأصبح هؤلاء اليوم كثر، فتجد الإنسان يتعرف على صديقه ثم يخونه في زوجته، أو يخونه في ابنته، يمسي ويصبح وهو على هذا الحال، وقد يكون متزوجاً، وقد يصلي مع الناس في الجماعة، ولكنه يخون الناس ويخدعهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. قال: (والشنظير)، وهو الإنسان البخيل الذي يمنعه بخله عن التصدق وعن الإنفاق الواجب عليه في أهله وعياله ويمنعه عن الزكاة ونحو ذلك، وكذلك هو الإنسان الكذاب، فهؤلاء من أهل النار الذين ذكرهم النبي صلوات الله وسلامه عليه. ثم ذكر راوي الحديث أنه سأل التابعي الذي روى له هذا الحديث، قال: أفيكون ذلك يا أبا عبد الله؟ وهو مطرف بن عبد الله فقال: (لقد أدركتهم في الجاهلية، وإن الرجل ليرعى على الحي وما به إلا وليدته يطأها) أي: قد أدركت مثل ذلك، وهو أن الرجل يكون راعياً، والناس يأمنونه على الغنم وعلى المكان الذي يرعى فيه الغنم، فإذا به يجد الوليدة الأمة فيزني بها والعياذ بالله، وهذا من الخديعة التي يكون بها صاحبها من أهل النار. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الروم [30 - 34]

تفسير سورة الروم [30 - 34] التوحيد هو الذي من أجله بعث الله الأنبياء والرسل، وأنزل الكتب، وهو فطرة الله التي فطر الناس عليها، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى، وهو الدين القيم الذي لا اعوجاج فيه، فعلى كل مسلم أن يستقيم على هذا الدين، ولا يتبع سبيل المشركين، ويلزم جماعة المسلمين، ويلجأ إلى الله في كل وقت وحين.

تفسير قوله تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفا)

تفسير قوله تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفاً) الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الروم: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ * وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الروم:30 - 34]. يأمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلوات الله وسلامه عليه والمؤمنين بإقامة الوجوه لهذا الدين الحنيف، الدين القيم دين الإسلام، وهذه فطرة الله التي فطر الناس عليها سبحانه. فهم مولودون على ذلك، فقد جعل الله عز وجل في قلوبهم هذه الفطرة والاستقامة على دين الله سبحانه، فالقلوب مهيأة لقبول هذا الدين، والخلق مفطورون على ذلك، (ولكن أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، كما جاء في حديث النبي صلوات الله وسلامه عليه. قال: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] أي: خلقهم على ذلك، فقلوبهم سليمة تقبل التوحيد ودين الإسلام، وتقبل ما يأتيها من شرع رب العالمين سبحانه وتعالى، فهم مفطورون منشئون مخلوقون على ذلك، قال سبحانه: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30]. ثم قال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} [الروم:30] أي: استقم على هذا الدين، ووجه وجهك إليه وإلى شرع الله سبحانه مطيعاً منفذاً أوامر الله سبحانه، مبتعداً كل البعد عن الباطل، وعن الشرك بالله سبحانه، وعن الأديان الباطلة ومعصية الله سبحانه، حنيفاً مستقيماً على شرع الله سبحانه، وهو كما قال تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30].

تفسير قوله تعالى: (لا تبديل لخلق الله)

تفسير قوله تعالى: (لا تبديل لخلق الله) ثم قال: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30] أي أن: (كل مولود يولد على الفطرة)، فلا أحد يقدر على تغيير خلق الله سبحانه وتعالى، ولن يلعب الإنسان بهذه الفطرة فيغيرها، هذا يولد على الإسلام وذاك يولد على النصرانية، مع أن كل مولود مفطور على ذلك، وقد ابتدأه الله سبحانه وأنشأه على قلب مستقيم، وهذا مثلما تولد البهيمة فيراها الإنسان سليمة، ثم بعد ذلك يقطع أذنها وأنفها ويدها أو رجلها، فهو في الحقيقة من يبدل ويغير فيها، وكذلك المولود ولله المثل الأعلى. أما دين الله سبحانه فلن يقدر أحد أن يغيره من قلب المولود الذي يولد إلا أن يكبر هذا المولود، ثم بعد ذلك يهوده أبواه أو ينصرانه أو يمجسانه، أما أنه يولد على غير هذه الملة وهذا الدين فلا، وهذه فطرة الله ولا تبديل لخلق الله. وقد قيل في قوله تعالى: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30] يعني: لقضاء الله وقدره، وهذا صحيح أيضاً، وإن كان المعنى الأول أقرب، فإذا قدر الله شيئاً فلن يقدر أحد أن يغير قدر الله سبحانه، فقد خلق الجنة وخلق لها أهلها، وخلق النار وخلق لها أهلها؛ لأن الله أعلم بما كانوا عاملين، فهؤلاء للجنة وهؤلاء للنار، وحين يولد يكون الإنسان في بطن أمه، ويبعث الله عز وجل الملك ليكتب عمره وعمله وأجله وشقاوته وسعادته ورزقه؛ فإن هذه الأشياء تحدث قبل أن يعمل الإنسان أي عمل بعد، ولكن الله -بعلمه المحيط سبحانه- علم أن هذا سيعمل بالشر فيكون من أهل الشر والشقاوة في الآخرة، ولم يطلع الله سبحانه وتعالى العبد على ما هو عامله؛ ولذلك فليس للعبد أن يحتج على الله سبحانه وتعالى، فإذا احتج وقال: يا رب كتبت علي ذلك! فإنه يقال له: ومن أعلمك أن الله كتب عليك ذلك؟ (إن العبد يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، ويعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. إذاً: فأمر القضاء والقدر لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، وقد يرى الإنسان وهو في غاية الشقاوة، ثم إذا بالله سبحانه وتعالى يقلب حاله في آخر عمره فيصير من أهل السعادة مطيعاً لله ويموت على ذلك، والعكس كذلك. فليس للإنسان أن يحتج في حال معصيته ويقول: إن الله قدر علي ذلك وجعلني على هذه الحالة، فنقول له: غير أنت من نفسك، وانظر هل سيثبتك الله على هذا الباطل أم لا؟ فأنت ترى نفسك مختاراً وأنت تعمل، وتشعر بأنك مختار، وتؤمن أن الله هو الذي أعانك على رفع هذه اليد، ولكنك تعرف في نفسك أنك أنت الذي تمد اليد وتقبضها، فالله عز وجل قدر أن تمدها وأن تقبضها، وأعطاك في نفسك اختياراً، فاخترت لنفسك المد واخترت القبض، فاخترت أن تسلك طريق السعادة، واخترت أن تسلك طريق الشقاوة، ولا يوجد أحد يعمل المعصية وهو يشعر في نفسه أنه مدفوع ومكره عليها، فعند اختيار العبد يكون تكليفه وجزاؤه وحسابه عند الله سبحانه وتعالى، مع الإيمان بأن كل شيء تحت تقدير الله عز وجل، وقد كتب عنده سبحانه مصير هذا العبد وإلى أي باب يكون، هل إلى باب الجنة أم إلى باب النار؟ فلذلك قال الله سبحانه وتعالى: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30] يعني: لقضاء الله وقدره، فلا أحد يقدر أن يتدخل في ذلك فيغير ما كتب عند الله في اللوح المحفوظ سبحانه وتعالى، {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30]. وقد يكون المعنى كذلك أنه من أوامر الله سبحانه ونواهيه، فنقول: إياك أن تبدل في خلق الله! أي: إياك أن تغير أو تتلاعب في الفطر التي فطر الله عز وجل العباد عليها، كأن يقوم الإنسان إلى البهيمة يشق أذنها، والله عز وجل حرم عليه أن يصنع ذلك. والحق أن الإنسان هو من يغير في خلق الله سبحانه وتعالى، فتجد الرجل يتخنث ويتأنث، وتجد المرأة تترجل وتريد أن تكون كالذكور، (وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال). قال: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30] فإياكم أن تتدخلوا في خلق الله، وأن تغيروا شيئاً مما خلق الله عز وجل العباد عليه! فيكون على هذا المعنى الثالث نهياً من الله سبحانه وتعالى للعباد عن أن يتدخلوا في الخلق بتغيير أو تحريف لما فطر الله عز وجل عليه الإنسان.

معنى قوله تعالى: (ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون)

معنى قوله تعالى: (ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) قال: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم:30] أي: أن هذه الأوامر والنواهي، وهذه المعتقدات التي يذكرها الله عز وجل إنما هي ذكر لكم في دينكم، {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم:30] أي: المليئ بالقيم، فكله عظمة من عند رب العالمين سبحانه، {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم:30] يعني: المستقيم الذي لا انحراف فيه ولا اعوجاج. قال: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم:30] قالوا: الدين بمعنى: الشريعة، وقالوا أيضاً الدين بمعنى: الجزاء، ومنه قول الله عز وجل: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]، ولذلك فإن الدين القيم هنا بمعنى: الشريعة المستقيمة، وقد يكون أيضاً بمعنى: هذا الجزاء من الله عز وجل الذي يجازي به خلقه يوم القيامة، فهو الجزاء العادل من الله سبحانه وتعالى، أو هو ذلك الحساب البين من الله سبحانه. قال: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30]، وإن علموا فعلمهم بلا عمل، فتجد الإنسان يعلم بالجنة ويعلم بالنار ثم لا يعمل من أجل الجنة ولا يخاف من النار، فهذا هو العلم غير النافع، وهو كالإنسان الذي تعلم أشياء في الدراسة ودخل الامتحان ولم يكتب شيئاً، فإنه لا ينفعه هذا العلم أبداً. فلذلك يقول: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30]، وقال لنا في أول السورة: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم:7] إذاً: فعلم الإنسان عن الآخرة مجرد سماع، أما اليقين الذي يدفعه إلى العمل ويمنعه من الزلل فليس بموجود حتى في قلوب أكثر الناس، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30]. فالعلوم التي يتعلمونها هي علوم الحياة الدنيا، فيعرفون كيفية الزراعة والحصاد، ومتى تكون مواسم الزراعة، ومواسم كذا، ومواسم كذا، فهم يعرفون ويتعلمون أمور الدنيا، فتجدهم يتخصصون أدق التخصصات، لكنهم إذا جاءوا إلى العقيدة وإلى رب العالمين سبحانه إذا بهم يلعبون، ولا يعرفون شيئاً، فلا ينفعهم علمهم هذا بشيء في الآخرة، قال: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30].

تفسير قوله تعالى: (منيبين إليه واتقوه)

تفسير قوله تعالى: (منيبين إليه واتقوه) قال الله تعالى: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} [الروم:31]، وهذا بعد أن قال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} [الروم:30]، فكأنه أمر له صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بالتبع، ولذلك جمع بعد ذلك وقال: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} [الروم:31]، إذاً: فأقم وجهك أنت والمؤمنين في حال كونكم منيبين إلى الله، راجعين إليه، تائبين إلى الله سبحانه. فقوله: (مُنِيبِينَ) الإنابة: هي الرجوع بالتوبة وبالإخلاص لرب العالمين سبحانه، والإقبال على الله بطاعته، أي: راجعين، خاضعين، خاشعين له سبحانه وتعالى. ومن معاني الإنابة أيضاً: التوبة من الذنوب، يقال: أناب إلى الله أي: رجع إلى الله، ومن معاني الإنابة: الانقطاع عن المعصية، ومنه سمي ناب الإنسان ناباً؛ لأنه يقطع به، فكأن الإنابة مأخوذة من ذلك، فالإنابة بمعنى: الانقطاع عن المعصية، والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى. قال: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ} [الروم:31] أي: واتقوا غضب الله سبحانه وتعالى، واتقوا نار الله، وافعلوا الطاعات التي تقيكم من عذاب رب العالمين سبحانه. قال: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الروم:31] (فاتقوه): عموم، أي: اتقوا الله في كل شيء، ومن تقوى الله سبحانه ما خصه هنا بإقام الصلاة، وبالنهي عن الشرك بالله سبحانه. قال: {وَاتَّقُوهُ} [الروم:31] أي: خافوه وامتثلوا ما أمركم به، {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الروم:31]، ونلاحظ أنه كلما جاء في القرآن الأمر بالصلاة قال لك: (أقيموا الصلاة)، (أقم الصلاة)، وليس مجرد الأمر بالصلاة فقط، فيكون أي إنسان صلى أي صلاة وانتهى فقد صلى! بل عندما يقول: (أقيموا الصلاة)، (أقم الصلاة)، فيكون أصلها هنا من الاستقامة والاعتدال، والاطمئنان في الصلاة، فتصلي صلاة مودع، وكأنها آخر صلاة تصليها، فإذا صليت صلاة فأحسن هذه الصلاة واعتدل فيها، وهو كقولهم: خذ العود وقومه حتى ينفع ويكون رمحاً قوياً، فتأخذ العود وتعدله على النار شيئاً فشيئاً إلى أن يصير مستقياً، فعندما ترميه لا يحيد عن هدفه ولا يعوج. وكذلك يجب عليك أن تقوم الصلاة لتصعد إلى السماء ولا ترد عليك، وكم من إنسان يصلي صلاة فلا تقبل منه، وقد تقبل منه بعض الصلاة دون بعضها؛ ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (فيخرج أحدكم من صلاته ليس له إلا عشرها)، وأين ذهبت الأعشار الباقية؟! فقد ضيعها في السهو واللهو والتفكير والبيع والشراء والسوق إلى آخره، وإذا بالشيطان يختلس منه الصلاة شيئاً فشيئاً إلى أن يضيع على الإنسان صلاته، فيخرج أحدكم من صلاته ليس له منها إلا عشرها، إلا تسعها، إلا ثمنها، إلا سبعها، إلا ثلثها، إلا خمسها، إلا ربعها، إلا نصفها، والغالب من الناس يخرج وليس له إلا نصفها، والقلة من الناس من يخرجون ولهم صلاة كاملة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر هذا الحديث الذي في سنن أبي داود بدأ من العشر ووصل إلى النصف ولم يزد على ذلك، وكأن ذلك هو الأغلب من أحوال الناس، فلذلك ينبغي على المسلم أن يحسن صلاته قدر المستطاع، ولا يكلف الله نفساً إلى وسعها، بالإضافة إلى أنه يكثر من النوافل؛ لكي يجبر النقص الحاصل في الفرائض فإن ذلك ينفعه يوم القيامة. قال: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الروم:31] يعني: استقيموا في صلاتكم، وصلوا لله عز وجل صلاة تكونون فيها خاشعين لله سبحانه، مستحضرين فيها قلوبكم وعقولكم وبصائركم.

تفسير قوله تعالى: (ولا تكونوا من المشركين)

تفسير قوله تعالى: (ولا تكونوا من المشركين) احذروا من الشرك بالله كما قال: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الروم:31] أي: لا توجهوا العمل لغير الله رياءً أو سمعةً، أو عبادة أنداد مع لله سبحانه وتعالى، فلا يكون هناك شرك أكبر أو أصغر أو خفي، ولكن توجهوا لله سبحانه وتعالى ولا تشركوا به شيئاً، قال: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} [الروم:31 - 32] أي: لا تكونوا من المشركين الموصوفين بهذه الصفة، فكأن من المسلمين من يقلدون المشركين في ذلك، فالله سبحانه وتعالى يحذرنا من أن نكون كالمشركين في شركهم، وكذلك من أن نكون مثلهم في بدعهم وفي تفرقهم شيعاً. وفيها قراءتان: {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} وهذه قراءة الجمهور، وقراءة حمزة والكسائي: ((من الذين فارقوا دينهم))، وهذا كاليهود والنصارى، فإن الدين جاءهم من عند رب العالمين، فعرفوه ثم بدلوه وحرفوه، ففارقوا بذلك دين رب العالمين سبحانه، فاحذروا أن تبدلوا وأن تحرفوا دينكم فتكونوا كهؤلاء المشركين. أما الصورة الأخرى: فهي أنهم انقسموا وافترقوا في دينهم على ملل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هم؟ قال: من كانوا على مثل ما أنا عليه وأصحابي). إذاً: فقد افترقت اليهود والنصارى، وافترق المسلمون كذلك إلى فرق أكثر من اليهود والنصارى إلى ثلاث وسبعين فرقة، والفرقة الوحيدة الناجية: هي التي تتمسك بكتاب الله عز وجل وبسنة النبي صلوات الله وسلامه عليه، ولا تفرق دينها. والفرقة الناجية هم: أهل السنة والجماعة، الذين اعتصموا بحبل الله سبحانه، واقتدوا برسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فلا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم، فابتدعوا فيه، وجعلوا هؤلاء فرقة، وهؤلاء فرقة، وهؤلاء فرقة، فحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، وأخبرنا أنه كائن وسيكون ذلك، كما قال الله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} [الروم:32] أي: فرقاً. قال: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:32]، والمصيبة أن الإنسان إذا بعد عن دين الله سبحانه فعصى الله سبحانه وهو يعرف أنه عصى، فلعله يتوب يوماً من الأيام؛ لأنه يعرف أنه في معصية، لكن المبتدع يظن أنه على خير وطاعة، ويظن أنه أتى بما لم يأت به أحد قبله، فيكون سعيداً فرحاً بما هو عليه، فمن البعد بمكان أن يرجع أو يتوب إلى الله، وكيف يتوب وهو يظن أنه متقرب إلى الله عز وجل بذلك؟! قال: {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:32]، فيأخذون بما عندهم، ولا شأن لهم بالذي عندك ولو كان حقاً. وكم من أهل البدع على ذلك، فإذا قلت لإنسان من أهل البدع: تعال لنتناقش معك في الكتاب والسنة، قال لك: وأي سنة هذه التي ترجع فيها لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم؟ فأنتم مخترعون لهذه الأحاديث، حتى إن بعض هؤلاء الحمقى والمغفلين عندما تقول له: هذا الحديث في صحيح البخاري، يقول: أنتم الذين ألفتم البخاري! هذا من جهله وحماقته، فلم يطلع هو على البخاري ولا على غيره، ولكنه سعيد بما هو عليه من الباطل والبعد عن دين الله تعالى، فإذا قلت له بالحجة رفضها، ورفض الرجوع إلى كتاب الله، قال الله عز وجل: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:32]، فإذا فرح الإنسان بما عليه من البدع صار من البعيد جداً أن يراجع نفسه، أو أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى، إلا من رحم الله.

تفسير قوله تعالى: (وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه)

تفسير قوله تعالى: (وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه) قال الله سبحانه: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [الروم:33] المس: أقل من اللمس، أما الإذاقة فمأخوذة من التذوق الذي يكون باللسان، فكأن التعبير بالمس والذوق يدل على الشيء القليل؛ لأن الدنيا بمصائبها مهما زادت فلن تساوي بجوار عذاب رب العالمين في النار شيئاً، وإنما هي كالمس وكالإذاقة في يسره وقلته. ولك أن تقارن بين الذوق وبين بلع الطعام، فالذوق بالنسبة للصائم لا يفطر بعكس الأكل الذي يفطره، وهنا يقول: {ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ} [الروم:33]، فإذا ابتلي الإنسان بشيء يسير من عذاب رب العالمين تاب ورجع إلى ربه وأعطى بذلك العهود والمواثيق كما قال سبحانه: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} [الروم:33] يعني: وحدوا الله سبحانه وتعالى وأنابوا ورجعوا إليه. قال: {ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً} [الروم:33]، وقد عبر بالذوق هنا كأن الرحمة التي في الدنيا لا تساوي شيئاً بجوار رحمة رب العالمين يوم القيامة، فقد خلق الله الرحمة وقسمها إلى مائة جزء، فجعل في الدنيا رحمة واحدة، وجعل الباقي ليوم القيامة، فرحمة الله عظيمة واسعة سبحانه وتعالى. ثم إذا أذاق الإنسان منه رحمة، بأن أعطاه قليلاً من المال أو الغنى بطر به وأشرك وكفر، فلا يكون لأمثال هذا قيمة يوم القيامة، ولك أن تنظر إلى آخر أهل الجنة دخولاً الجنة وخروجاً من النار، وهذا الرجل من عصاة الموحدين، الذين ماتوا على لا إله إلا الله، واستحق بسبب كثرة ذنوبه أن يدخل النار، ثم في النهاية يقول الله عز وجل له: تمن، فيتمنى، ثم يذكره الله عز وجل، فيتمنى ثم يذكره الله إلى أن يعجز عن التمني، فإذا بالله سبحانه وتعالى يقول: أما ترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا؟ فيفرح العبد بذلك، فيقول الله عز وجل: لك مثله ومثله ومثله، وعشرة أمثاله، فيكون أقل أهل الجنة نصيباً، فلا تساوي الدنيا بأسرها أقل نصيب لأقل إنسان في الجنة! وقد جاء في الحديث أن هذا الإنسان يقول عندما يتجاوز الصراط (لقد أعطاني الله ما لم يعط أحداً من العالمين). إذاً: فمهما كان نعيم أهل الدنيا واسعاً فإنه لا يقارن بنعيم أهل الجنة عند رب العالمين سبحانه. قال: {ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً} [الروم:33] أي: شيئاً من رحمة رب العالمين، {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [الروم:33] أي: يرجعون للكفر مرة أخرى، وهو كفر النعمة والجحود، فالإنسان بطبعه يطغى إذا جاءه المال، فينسى ربه سبحانه وتعالى، ويعترض عليه سبحانه ثم يستكبر على الخلق؛ لأن الله أعطاه قليلاً من المال فظن أن لا أحد فوقه.

تفسير قوله تعالى: (ليكفروا بما آتيناهم)

تفسير قوله تعالى: (ليكفروا بما آتيناهم) قال الله تعالى: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الروم:34] أي: فسوف ترون العذاب يوم القيامة؛ لأنكم كفرتم بما أعطاكم الله من المال والغنى، واللام هنا: إما لام الأمر فيكون معناه: التهديد والوعيد من الله سبحانه وتعالى، وإما أن تكون لام العاقبة أو الكيد فيكون معناه: إن الله إذا أنعم عليهم كان عاقبة ذلك منهم {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [الروم:33]؛ لتكون العاقبة أنهم في النار والعياذ بالله، {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} [الروم:34]، فالكفر بما آتاهم الله سبحانه هو العاقبة لهم. {فَتَمَتَّعُوا} [الروم:34] أي: في الدنيا، فمهما تمتعتم بها {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء:77]، قال: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الروم:34]. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الروم [33 - 37]

تفسير سورة الروم [33 - 37] من الواجبات على المسلم أن يلجأ إلى الله تعالى في سرائه وضرائه، لا أن يلجأ إلى الله في حال الشدة والكرب فقط كما هو حال المشركين، ثم ينقلبون إلى الشرك بمجرد أن ينجيهم الله من الكرب الواقع بهم، فإذا لجأت إلى الله تعالى في حال الشدة والرخاء معاً فتح لك من أبواب خزائنه التي لا تنضب، وبسط لك رزقه من حيث لا تعلم.

تفسير قوله تعالى: (وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه)

تفسير قوله تعالى: (وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الروم: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ * وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم:33 - 39]. في هذه الآيات من سورة الروم يخبرنا ربنا سبحانه وتعالى عن طبيعة الإنسان فيقول سبحانه: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [الروم:33]، ففي وقت نزول البلاء، وفي وقت نزول الشدة والمصائب، وفي وقت قحط المطر وشدة الناس في طعامهم وشرابهم يبتليهم الله سبحانه وتعالى، فإذا بهم يرجعون إلى الله ويدعونه وحده لا شريك له، قال: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ} [الروم:33]، والتعبير بالمس دال على أقل شيء يمسه من الضر، فإذا بهم يدعون ربهم ويرجعون إليه سبحانه وتعالى متأدبين منيبين راجعين تائبين من ذنوبهم، والإنسان في وقت بلائه يفعل ذلك، ويرجو أن يكشف الله عز وجل عنه ضره، قال: {ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [الروم:33]، ورحمة الله عظيمة واسعة، وأعظم ما تكون يوم القيامة، فقد قسم الله عز وجل الرحمة مائة جزء، فجعل منها جزءاً واحداً في الأرض يتراحم منه الخلق جميعاً، الإنس والجن والبهائم، وأبقى عنده تسعة وتسعين جزءاً ليرحم به الخلق يوم القيامة، ويضيف إليهم هذا الجزء الذي كان بينهم في الدنيا، فهنا إذا أذاقهم شيئاً من رحمته سبحانه وتعالى إذا بهم يشركون، والمفترض بالإنسان إذا ذاق البأساء والضراء، وذاق كيف تكون الشدة في الدنيا، ودعا ربه وأناب إليه، فمن المفترض أن يظل على ذلك دائماً، فيدعو الله عز وجل تائباً إليه مستقيماً على الصلاة. ولكن الإنسان معوج بطبيعته لا يستقيم، فإذا أذاقه الله عز وجل شيئاً من الرحمة، وعبر: بأذاقه، وكأنه مهما أوتي من شيء في هذه الدنيا فهو قليل، لكن أن يطعمك حقيقة فهذا في الجنة، ويوم القيامة، لكن في الدنيا يذيقك ويمسك فيعطيك شيئاً يسيراً، وإن كانت رحمة الله عز وجل كلها عظيمة. قال: {ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [الروم:33]، والفريق الآخر مستمرون على التوحيد، وفريق يكفرون بالله سبحانه، ويجحدون نعم الله عز وجل، إما كفراً أكبر فيخرجون من دين الإسلام، وإما كفر جحود، كأن يقال لأحدهم: إن الله أعطاك فاحمد الله، فيقول: قد وقعت بي مصيبة ووقع لي كذا! فيجحد، وكأنه يحتقر نعمة الله سبحانه وتعالى عليه، فهذا من كفر الإنسان وجحوده، قال الله عز وجل: {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات:6] أي: جحود، {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} [العاديات:7]، فسيشهد على نفسه بذلك، {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ} [العاديات:8] أي: المال، {لَشَدِيدٌ} [العاديات:8] يحب المال كثيراً، ويحب أن يعطيه الله عز وجل الرزق الواسع العظيم، وينسى الدار الآخرة، فلذلك يقول تعالى هنا: {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [الروم:33] أي: ينسبون الفضل إلى غير الله سبحانه، فتجد الإنسان يعطيه الله مالاً ثم يقول: فلان أعطاني كذا، وينسى الله سبحانه وتعالى! فيشكر فلاناً، وينسى أن يحمد الله سبحانه ويشكره على ما أعطاه. يقول هنا: {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [الروم:33]، والتعبير بالفريق هنا يدل على عدم شرك الفريق الآخر، وهم أهل التوحيد، أهل الإيمان الخالص، عباد الرحمن سبحانه، الذين يعبدونه ويرجونه في السراء والضراء، فإن أنعم عليهم الله عز وجل وخافوا، وإن أنزل بهم من بأسه وضرائه إذا بهم يجأرون إلى الله في كل وقت بالدعاء حامدين شاكرين صابرين محتسبين شاكرين ربهم سبحانه وتعالى، أما الفريق الآخر من العباد فهم الذين يشركون، وهذا الصنف هو الأكثر غالباً، كما قال سبحانه وتعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13]، فالذين يشكرون الله سبحانه وتعالى حق الشكر ويحمدونه حق الحمد قليلون، والكثيرون يقولون: الحمد لله، وقد يقولها بلسانه ولكن قلبه لا يوافقه على ذلك، فتجد الإنسان إذا أتته نعمة فقلت له: احمد الله تعالى، قال لك متذمراً: نحن نحمد الله دائماً! وكأنه معترض على الله، ولو لم يقل ذلك لكان أفضل له، فيقولها معترضاً على ربه سبحانه، ولكن المؤمن يحمد الله سبحانه، ويعلم أن وراء البلية خير عظيم عند الله سبحانه وتعالى، فإذا ضيق عليه يقول: الحمد لله وسيعوضني الله يوم القيامة، فالمحصلة والمخزن والحصالة حقي عند الله سبحانه تبارك وتعالى يدخر لي ذلك، فالإنسان المؤمن يرجو فضل الله ورحمته سبحانه فيشكره، وقليل من عباد الله الشكور.

تفسير قوله تعالى: (ليكفروا بما آتيناهم)

تفسير قوله تعالى: (ليكفروا بما آتيناهم) قال الله: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الروم:34]، واللام هنا: إما لام الأمر وإما لام كي، وكأنه أمر للتهديد والوعيد، كقوله سبحانه: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت:40]، فأين ستذهب من الله؟ فلام الأمر هنا تفيد التهديد والوعيد، ولام كي تفيد التعددية، وكأن المقصود بها هنا: العاقل، أي: لتكون عاقبتهم أن يكفروا بالله سبحانه وبما آتاهم، فيعاقبهم الله يوم القيامة على ذلك. قال: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا}، يقول للعباد: تمتعوا بما آتيناكم في هذه الدنيا، {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}، أي: سترون يوم القيامة أن هذه الدنيا كانت تافهة لا قيمة لها، إذ إنكم فرحتم بها وضيعتم الآخرة.

تفسير قوله تعالى: (أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون)

تفسير قوله تعالى: (أم أنزلنا عليهم سلطاناً فهو يتكلم بما كانوا به يشركون) يقول سبحانه: {أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} [الروم:35]، والمقصود بالسلطان: كتاب وعلم من عند الله سبحانه، يعني: هل آتيناهم كتاباً يتكلمون به ويحاجونك به يا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه؟! وهل يتكلم هذا الكتاب الذي عندهم بما كانوا به يشركون؟ فليس عندهم أثارة من علم على ذلك، وليس للكفار شيء إلا الهوى، وليس عندهم إلا الباطل والكذب، والاستفهام هنا معناه: النفي، أي: ليس عندهم كتاب ولا حجة ولا برهان من الله سبحانه، فالسلطان هنا مأخوذ من التسلط، والتسلط قد يكون بالقوة، وقد يكون بالحجة والبيان، فالمعنى هنا: هل معهم ما يتسلطون به عليكم ويحاجونك ويجادلونك به من عند رب العالمين؟ والجواب لا، ليس عندهم ذلك، فلم يكذبون ويكذبون؟ قال تعالى: {أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} [الروم:35] يعني: هل هذا السلطان والكتاب والعلم يخبر {بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} [الروم:35]؟ A لا.

تفسير قوله تعالى: (وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها)

تفسير قوله تعالى: (وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها) قال سبحانه: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم:36] أي: إذا أذقنا الناس رحمة منه سبحانه، ورحمة الله عظيمة واسعة، فرحمته في الدنيا: ما يراه الإنسان من صحة وعافية، ومن مال وسعة في الرزق، ومن مطر ينزل عليه من السماء، فرحمات الله عز وجل عظيمة على عباده. فإذا أذاق الإنسان رحمة من خصب وسعة، من عافية ومطر، من أمن ودعة، إذا أعطاهم شيئاً من ذلك فرحوا به. قال: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم:36]، والسيئة هنا: بمعنى المصيبة والبلية التي هي من بليات الدهر والزمان، فالله عز وجل يبتليهم بها، قال: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [الروم:36]، فما أصابك من مصيبة فبما كسبت يداك، وما ابتلاك الله سبحانه وتعالى به فهو ناتج بما جرت به يدك من آثام ومعاص، فيذيق الله عز وجل العباد بسببها عقوبتهم في الدنيا. قال: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} [الروم:36]، أي: ما يسوءهم بسبب ما اكتسبوه من المعاصي، {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم:36]، والقنوط: بالطاء اليأس، وفيها قراءتان: قراءة الجمهور {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} بفتح النون، وقراءة أبي عمرو ويعقوب والكسائي: {إِذَا هُمْ يَقْنِطُونَ} بكسرها، وليس فيها (يقنُطون) بالضم، فهي ليست قراءة ولا لغة فيها. قال: ((إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ))، أي: ييئسون إذا أصابتهم المصيبة، وهذه عادة الإنسان إذا مات له قريب، أو حبيب يحبه، فإنه يقنط وييئس ويتضايق، ولا يطيق أحداً، وبل يظل على ذلك عمراً طويلاً في يأسه وفي ضيقه بسبب هذا الأمر الذي نزل به، فجاء دين رب العالمين ليجعل لنا حدوداً لا يجوز تجاوزها، فإن حزنت فلا تتجاوز الحدود فتيئس من رحمة الله، كما قال تعالى: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87]، فلا تقنط ولا تيئس ولا تعترض على أمر الله تعالى وقدره. وهنا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا)، وهذا لما مات ابنه إبراهيم، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يحزن وتدمع عيناه ولا يمنعه ذلك من أن ينصح الناس، فالناس يقولون: خسفت الشمس لموت إبراهيم، فإذا به مع شدة حزنه يقول للناس: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تنكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة)، فهو يعلمهم مع أنه صلوات الله وسلامه عليه حزين وفي قلبه الرحمة على ابنه، لكنه لا يعترض على أمر الله سبحانه وتعالى، وقد أخبر أن لـ إبراهيم مرضعة عند الله عز وجل تكمل رضاعه، فهنا النبي صلى الله عليه وسلم يخبر أن لابنه عند الله ما هو خير له مما في هذه الدنيا، وقد مات النبي صلى الله عليه وسلم بعد ابنه بشهور عليه الصلاة والسلام. فالإنسان قد يأخذه الحزن الشديد فيجب عليه ألا ييئس، فهذا النبي صلى الله عليه وسلم مات ابنه وحزن عليه صلى الله عليه وسلم ثم مات بعده بشهور، فإذا مات لك قريب أو إنسان حبيب فلا تحزن عليه جداً؛ لأنك لا تدري لعلك تلحقه بعد ذلك، فإذا اعترضت على أمر الله سبحانه ثم مت على هذا الاعتراض فإنها مصيبة في الدنيا ومصيبة في الآخرة، ولكن المؤمن يصبر على أمر الله سبحانه، ويرضى بقضاء الله وقدره، فإذا بكى بكى بصوت هادئ، فلا يصيح ولا يعترض على قضاء الله فليس له ذلك، (فالنائحة من النساء تأتي يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب)، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كانت هذه النائحة من النساء فما بالك بالرجال الذين يفعلون كالنساء؟! فالغرض أنك لا تعترض على الله سبحانه، بل للإنسان الإحداد على الميت ثلاثة أيام فقط وليس له أكثر من ذلك، بل إذا كان أقل من ذلك فهو أفضل؛ لكي لا يظهر الحزن والجزع؛ لأن هذا شيء في القلب، وإذا دمعت العين فلا شيء في ذلك، أما المرأة فإنها تحد على الزوج أربعة أشهر وعشراً، فيجب على الإنسان ألا يتجاوز الحد المحدود له شرعاً، وألا يزيد في أمر البكاء وتهييج المشاعر بحيث يصل به الحال إلى الاعتراض على الله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء)

تفسير قوله تعالى: (أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء) يقول سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الروم:37] (أو لم يروا) أي: أفلا ترون ذلك؟ أن الله يعطي ويمنع، يرفع ويضع، يبسط ويوسع، يقدر ويضيق، فيبسط لمن يشاء ويضيق على من يشاء، ولا يعني أن من بسط له في الرزق أن الله يحبه، فالله عز وجل يضيق على من يشاء، ويوسع لمن يشاء لحكمة يعلمها هو، فقد ضيق على النبي صلى الله عليه وسلم في حياته كلها عليه الصلاة والسلام، حتى فتحت له في آخر حياته الفتوح فلم يستمتع بها صلى الله عليه وسلم، بل توفي عليه الصلاة والسلام ولم يستمتع من الدنيا بشيء، ولذلك كان بعض الصحابة يأكل خبز الشعير وخبز القمح ويقول لمن حوله: إن النبي صلى الله عليه وسلم ما شبع من خبز الشعير ثلاثة أيام، صلوات الله وسلامه عليه، ونحن نأكل خبز القمح ثم ننام -كما نزعم- جائعين مع ذلك! وهو صلى الله عليه وسلم لم يشبع من الخبز الحاف، فضلاً عن خبز القمح، فما ذاقه النبي صلى الله عليه وسلم، إنما كان يأكل خبز الشعير عليه الصلاة والسلام، وكان يضع الحجر على بطنه من شدة الجوع ليلة وراء ليلة، وهو لا يجد ما يأكله صلى الله عليه وسلم، فلما فتحت عليه الدنيا وفتحت له الفتوح عليه الصلاة والسلام إذا به يقول: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة)، فهذا المال ليس لي ولا لأهلي من بعدي، بل هو مال الله عز وجل، فليس لي من مغانمكم أموالكم إلا الخمس، قال: (والخمس مردود عليكم) أي: وحتى الخمس الذي له صلوات الله وسلامه عليه مردود على الناس، يعطيه للضيف ولابن السبيل ونحوهما، هذا هو النبي صلوات الله وسلامه عليه، وقد قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الروم [38 - 39]

تفسير سورة الروم [38 - 39] إن الله تعالى هو الرازق وحده لا شريك له، ومن حكمته أن جعل بعض الناس غنياً وبعضهم فقيراً، وقد أمر أهل الغنى أن يتصدقوا على ذوي القرابة والمساكين وابن السبيل، فهؤلاء لهم حق من أموال الأغنياء، فمن أعطاهم حقهم ضاعف الله له الأجر وخلف عليه في الرزق، ولا يجوز استغلال حاجة الفقراء بأن يتعامل معهم الإنسان بالربا، ومن فعل ذلك يريد كثرة ماله فلن يكثر ماله عند الله، بل يمحقه الله وينزع منه البركة، فيخسر صاحبه الدنيا والآخرة.

تفسير قوله تعالى: (فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل)

تفسير قوله تعالى: (فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الروم: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ * اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الروم:38 - 40]. في هذه الآيات من سورة الروم يأمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالتبع بإيتاء ذوي القربى حقوقهم وكذلك المساكين وأبناء السبيل، قال: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} [الروم:38]، فبدأ بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه الأسوة والقدوة الحسنة صلوات الله وسلامه عليه، ثم قال: {ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ} [الروم:38]، فجمع، فدل على أن ما في أول الآية ليس المقصود النبي صلى الله عليه وسلم وحده، إنما المقصود المؤمنون من بعده. قال: {ذَلِكَ خَيْرٌ} [الروم:38] (خير) أفعل تفضيل بمعنى أخير، أي: أفضل للذين يبتغون وجه الله سبحانه وتعالى، والمؤمنون الذين يخلصون لله لا يريدون حطام الدنيا بأعمالهم التي يتقربون بها إلى الله عز وجل، وهؤلاء هم المفلحون الذين يؤتون الحقوق لأصحابها. قال: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} [الروم:38]، فهؤلاء لهم حقوق، والإنسان يجب عليه حق في بدنه، ويجب عليه حق في ماله، فحق البدن لله عز وجل ما يقوم به من عبادات لله سبحانه، يبذل لله في صلاته، في صومه، في حجه، فيتقرب إلى الله سبحانه بأعمال بدنية يبتغي بها وجه الله سبحانه وتعالى كالجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وغير ذلك من أعمال بدنية يبتغي بها وجه الله سبحانه. كذلك الأعمال المالية يتقرب بها العبد إلى الله، بالزكاة المفروضة، بالصدقة، بالإنفاق الواجب على نفسه وعلى زوجه وعلى عياله وعلى رقيقه وعلى أبيه وعلى أمه، وعلى من يحتاج من أقاربه إذا لزمه أن ينفق عليهم، قال سبحانه معمماً ذلك: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى} [الروم:38] أي: أعط كل ذي حق حقه، وهذه الآيات من سورة مكية، ولكن جاء التفصيل بعد ذلك في السور المدنية في أمر الزكاة وما ينبغي فيها، وجاء تفصيلها في سنة النبي صلى الله عليه وسلم. فمما جاء في القرآن في بيان هذه الزكوات قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} [التوبة:60] فريضة افترضها الله سبحانه، والذي قسمها ووزعها الله سبحانه وتعالى، فهنا أجمل في هذه الآية المكية فقال: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى} [الروم:38] يعني: كل من كان قريباً لك واحتاج أو وجبت عليك النفقة على هذا الإنسان أو كان معك زكاة ويلزمك أن تخرج هذه الزكاة فالقريب أولى بالمعروف من غيره، وقد جاء في أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يبين فيها أن إيتاء الزكاة لذوي القربى وإيتاء الصدقات لذوي القربى أنفع للإنسان في الدنيا وفي الآخرة، حيث يصل رحمه بذلك، ويحبه قريبه، والإسلام يدعونا للتعارف مع الغرباء قال الله: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13]، فيتعارف المؤمن مع غيره فكيف بالقريب؟! فمن باب المودة والرحمة أن تعطي الزكاة لهذا القريب، وتعطيه النفقة، وتعطيه الصلة، فيحبك هذا الإنسان القريب، وإذا زادت المحبة وجد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن كان بين القريب وقريبه محبة، يقول له: لا تعمل هذا؛ فهو حرام، فيستحيي منه ولا يفعل هذا الشيء، لكن لو لم توجد بينهما مودة يقول لك: لست علي رقيباً! فالإسلام الدين العظيم يأمر الناس بالتعارف، والتعارف وسيلة لإقامة دين الله عز وجل في الأرض. ولا يجوز للإنسان إذا رأى من يعمل شيئاً من المنكرات أن يقول: ما لي دخل، ربنا سيحاسبه، له أفعاله ولي أفعالي! ولا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر؛ فتشيع الفواحش بين الناس بسبب ترك هذه الفريضة.

فضل الصدقة على ذوي القربى

فضل الصدقة على ذوي القربى قال الله: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الروم:38]، جاء في حديث ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنها أنها اعتقت وليدة، بعد أن عرفت الثواب العظيم في العتق، وأن الذي يعتق رقبة يفك الله عز وجل بكل عضو منها عضواً منه من النار، فتقربت إلى الله عز وجل وأعتقت وليدة كانت عندها، فلما أعتقتها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: قد أعتقت فلانة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أو قد فعلت؟ قالت: نعم. قال: أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك) يعني: أنت تصدقت لله سبحانه، وأعتقت هذه الرقبة ولك أجر عظيم، لكن أخوالك كانوا محتاجين لها، فلو أنك بدل ما تعتقيها أعطيتيها لهم؛ لكان أعظم من أن تعتقي هذه الأمة. وفي الحديث الصحيح عن أم كلثوم بنت عقبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح) أي: المخاصم لك والذي يبغضك، فالصدقة عليه فيها أجر الصدقة وصلة الرحم وإزالة البغضاء والعداوة التي بينكما. وعن سلمان بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان صدقة وصلة). فعندما تريد أن تتصدق انظر، فإن وجدت فقراء مساكين غرباء، ووجدت قريباً لك فقيراً، واستوى الاثنان في الحاجة، فقدم القريب، وإن كان الإنسان الغريب أشد حاجة من القريب، ويريد شيئاً يعيش به وإلا سيموت، والقريب عنده قوته لكن يريد الزيادة؛ فهنا الغريب يكون أولى بالصدقة، لتنقذ نفساً من التلف، ولكن إذا استوى الغريب مع القريب في الحاجة فالقريب أولى، ولك أجر الصدقة وأجر الصلة. وكل نفقة تنفقها لك فيها أجر من الله سبحانه وتعالى، إذا ابتغيت الأجر، حتى اللقمة تجعلها في فيّ امرأتك لك فيها أجر، وعندما يطعم الإنسان عياله له الأجر على ذلك، وإذا أعطى ذي الرحم الكاشح النفقة أو أعطاه الصدقة، فله الأجر المضاعف من الله عز وجل.

الترغيب في الصدقة من رزق الله

الترغيب في الصدقة من رزق الله قال الله: {َإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الروم:36 - 37] لماذا تقنط؟ ولماذا تفرح وتفتخر بهذا الشيء على غيرك؟ فالذي يبسط الرزق والذي يقدر الرزق ويضيقه هو الله سبحانه وتعالى، فإذا أتاك الرزق الواسع لا تظن أن الله أعطاك هذا الرزق؛ لأنه يحبك ولكن احمد ربك سبحانه وتعالى وخف من الفتنة في هذا الرزق الواسع، وإذا ضيق عليك الرزق فلا تظن أنه لا يحبك، فتضييق الرزق أو توسيع الرزق ليس دلالة على حب الله عز وجل أو بغضه للعبد. فالمؤمن إذا آتاه الله عز وجل مالاً ورزقاً يشكر ربه سبحانه، ويحمد الله سبحانه، ويعطي الحقوق لأصحابها، ويخاف على نفسه الفتن في هذا المال. وإذا ضيق الله عز وجل عليه في الرزق، يحسن الظن بالله سبحانه، فيقول: الله سبحانه فعل ذلك ليدخر لي الأجر عنده يوم القيامة، لكن الكافر إذا أعطاه الله عز وجل المال يفرح بهذا المال، ويقول: الله يحبني؛ لأنه أعطاني هذا المال، ويطغى على غيره من الخلق، فإذا أصابته المصيبة يقنط من رحمة الله وقد ينتحر؛ لأنه يائس من رحمة الله سبحانه. وهذا الدين العظيم يعلمنا أن متاع الدنيا قليل، ومهما أوتيتم فيها فحطام الدنيا لا يساوي شيئاً، فالمؤمن يعبد الله سبحانه، ويبتغي الأجر في الآخرة. ثم ذكر الله أنه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، وهذا تمهيد لما بعدها وهو قوله: {َآتِ ذَا الْقُرْبَى} [الروم:38]. ومن أسباب بسط الرزق أن تخرج النفقات وتعطيها لأهلها، (وما نقص مال من صدقة)، مهما تصدقت فالله يزيد لك من هذا المال، فكن على يقين بما عند الله سبحانه، ورزق ربك خير وأوسع وأعظم. {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} [الروم:38]، فأعط المسكين حقه من الزكاة الواجبة، ولابن السبيل كذلك.

الإخلاص في الصدقة

الإخلاص في الصدقة قال الله: {ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} [الروم:38] أي: ذلك الإعطاء والإيتاء خير للذين يريدون وجه الله، ما قال: ذلك خير للناس كلها، فيوجد إنسان يعطي يبتغي الدار الآخرة، وإنسان يعطي من أجل الدنيا، فمن ابتغى الدار الآخرة فهذا الذي له الخير، ومن يبتغي الدنيا قد يحصل له ما يريده وقد لا يحصل له، وهذا يوضحه الآية التي تليها، والقرآن في تسلسل الآيات عجيب وعظيم وجميل، تجد الآية مرتبطة بما قبلها وما بعدها! فانظر إلى التمهيد الذي ذكره الله عز وجل في أنه هو الذي يعطي، وهو الذي يبسط الرزق، وهو الذي يقدر الرزق، والإنسان طبيعته أنه كنود، إذا أعطاه الله المال فرح، وإذا ضيق عليه حزن وجزع، فهنا يقول لك: أعط هذا المال ولا تخف؛ فإن الله هو الذي يبسط الرزق، وهو الذي يضيق على من يشاء. فالذي يبتغون وجه الله بالإعطاء أولئك هم المفلحون، ينجحون النجاح الأبدي، وفرق بين نجح وأفلح، النجاح قد يكون في الدنيا وقد يكون في الآخرة، ولكن الفلاح لا يكون إلا في الآخرة، الفلاح هو النجاح الدائم الذي لا خسران بعده أبداً، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من المفلحين.

تفسير قوله تعالى: (وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس)

تفسير قوله تعالى: (وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس) قال الله تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم:39] هذه الآية متعلقة بما قبلها، انظروا كيف بدأ الله سبحانه يذكر أن الإنسان عندما يعطيه الله رحمة من عنده سبحانه من مال ومن خير يفرح به ويفخر على غيره، وإذا ضيق الله عز وجل عليه يقنط، فكأن الله يقول: ظن بالله ظن الخير، وأحسن إلى الخلق، فالله يعطي والله يمنع، الله يقبض والله يبسط، {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ} [الروم:38]، سواء ضيق الله عليك أو وسع عليك، أعط رزقك، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]. قوله سبحانه: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا} [الروم:39] الربا حرم في سورة البقرة وهي مدنية، وهذه الآية مكية، وهنا ذكر الربا وكأنه تمهيد لتحريمه، وقد كان المنع من الربا نهائياً في خطبة الوداع حين قال صلى الله عليه وسلم: (وكل ربا الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين، وأول رباً أضعه ربا العباس)، فكان يوجد ربا للعباس رضي الله عنه في الجاهلية يتعامل به، فلما أسلم كان لا يزال يتعامل به، حتى حرم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في خطبة حجة الوداع. وقول الله: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا} [الروم:39] لها معنيان: معنى الربا المعروف، ومعنى آخر مقصود وهو المقدم هنا في هذه الآية، فالربا أصله من الزيادة، فقالوا: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا} [الروم:39] هي الهدية، وما هو وجه الربا في هذه الهدية؟ قال ابن عباس: الربا نوعان: ربا حلال وربا حرام، الربا الحلال: هو الذي لا أجر لك فيه عند الله سبحانه وتعالى، وهو ما يفعله الناس فيما بينهم من هدايا، يعطي إنسان لأخيه هدية، أو يعطي ابنه إذا نجح هدية، وهذا هو الذي ذكره الله سبحانه وتعالى هنا، وهو المقصود بهذه الآية، وأكثر المفسرين من الصحابة والتابعين على هذا المعنى، {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ} [الروم:39] يعني: ليس لك أجر فيه عند الله سبحانه، تعطي هدية وتنتظر جزاءها، وبعض الناس ينتظر مثلها، وبعض الناس ينتظر أعظم منها، فالغني إذا أعطي هدية بجنيه، قد يرد بهدية بمائة جنيه، فهذا من أبواب الربا الذي ليس بحرام إلا على النبي صلى الله عليه وسلم، فهو محرم على النبي صلى الله عليه وسلم كما قال له الله في سورة المدثر: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6] يعني: لا تعط هدية تبتغي أكثر منها، لا تعط عطاءً تنتظر الرد أعظم منه، بل إذا أعطاك إنسان عطاء فأعطه مثله ومثليه وعشرة أمثاله، فالنبي صلى الله عليه وسلم مأمور أن يعطي أكثر مما يأخذ عليه الصلاة والسلام، أما غير النبي صلى الله عليه وسلم فبعضهم قد يعطي الهدية للقريب أو لغيره وينتظر عليها ما هو فوقها وما هو أعظم منها، وهذه الهدية ليس للإنسان أجر فيها، أما إذا أعطيت الهدية تبتغي بها وجه الله سبحانه وتعالى، وتبتغي صلة الرحم، فلك الأجر عند الله، وإذا ابتغيت أن يؤدى لك أكثر منها فليس لك أجر، وليس هذا حراماً عليك، ولكنه حرام على النبي صلى الله عليه وسلم فقط، ولكن ائتس بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أعطيت هدية فلا تنتظر الرد أعظم منها. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الروم [39 - 41]

تفسير سورة الروم [39 - 41] يحث الله المؤمنين على الصدقة والإنفاق في سبيله، والمتصدق مآل ماله إلى الزيادة والنماء، بخلاف المرابي فإن الله يتلف أمواله ويمحقها، والله هو الذي خلق الخلق وأعطاهم الرزق والأموال، ولا يستطيع أحد من المعبودات من دون الله أن يفعل شيئاً من ذلك، ومع هذا فأكثر الناس يجحد نعم الله سبحانه ويفسد في الأرض بالمعاصي والذنوب.

تفسير قوله تعالى: (وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس)

تفسير قوله تعالى: (وما آتيتم من رباً ليربو في أموال الناس) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الروم: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ * اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:39 - 41]. يخبرنا الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات أن الإنسان مهما أتى من مال يبتغي به الدنيا فالله عز وجل قد يعطيه وقد لا يعطيه، فمن كان يريد الحياة الدنيا يعجل الله عز وجل له فيها ما يشاء لمن يريد سبحانه تبارك وتعالى كما قال تعالى: {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:18]. فليس كل من طلب الدنيا نالها وأخذها: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:18] وكأن طالب الدنيا قد يطلبها ويعطيه الله عز وجل وليس له في الآخرة نصيب، وقد يطلبها ولا يعطاها ولا يأخذ شيئاً من الدنيا، وكذلك ليس له في الآخرة من نصيب. أما طالب الآخرة فلا يحرم أبداً، لا يحرم من ابتغى وجه الله سبحانه، ومن أراد بعمله الصالح الثواب والدار الآخرة فهذا لا يحرم أبداً، ويعطيه الله رحمة في الآخرة من فضله ورحمته سبحانه. قوله: (وما آتيتم من رباً) ذكرنا أن الربا قسمان: ربا نزلت الآيات في تحريمه، قال الله سبحانه في سورة البقرة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:278 - 279]، وقال: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276] إلى غير ذلك مما ذكر الله عز وجل في أمر الربا، فآكل الربا يستحق حرباً من الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، ويستحق أن يمحق الله عز وجل عنه البركة في الدنيا، وأن يكون من أصحاب الكبائر في الآخرة، فهذا آكل الربا، والإنسان الذي يعطي الصدقة له الفضل عند الله سبحانه والأجر العظيم، وانظر كيف قرن بين الربا وبين الصدقات؛ لأن الناظر إلى الربا بنظرة دنيوية يرى أن الربا يزيد المال، فيقول: سندينك ألفاً فتقضينا ألفين، وسندينك عشرة فتعطينا خمس عشرة، فينظر بهذه النظرة أن هذا الربا سيزيد المال، وربنا سبحانه تبارك وتعالى يقول: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} [البقرة:276]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الربا عاقبته إلى قلة) وإن كثر فعاقبته إلى قلة، إلى النقصان، فمال الربا مال ضائع في النهاية على صاحبه، فيبتدئ الله عز وجل صاحبه إما بمحق ماله وإما بتحسيره على هذا المال، فيتحسر عليه وهو يضيع منه، أو لا يستطيع أن ينتفع به، أو تنزع منه بركته، أو ينظر في حسرته وما يكون من أمره يوم القيامة. أما الصدقة وإن كان الناظر إليها في الدنيا يظن أن فلاناً يضيع ماله، كل وقت وهو يخرج صدقة وراء صدقة، وسينتهي ماله، ولكن الله عز وجل يذكر لنا أنه يمحق الربا ويربي الصدقات، والربا: أصله الزيادة والنماء، فلما أراد الإنسان الزيادة والنماء بالحرام محقه الله سبحانه، ولما أراد أن ينفق ماله ويصرف هذا المال في طاعة الله نماه الله وبارك له فيه، وزاد له هذا المال، لذلك قرن الله بين الاثنين: الربا والصدقة فذكرهما في هذا الموضع من سورة البقرة قال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة:276]. وهنا صورة أخرى من صور الربا، ولكنها ليست بالصورة المحرمة على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرناها في الحديث السابق، وهو نوع من أنواع الزيادة في المال، وهي الهدية، أن أعطيك هدية تساوي كذا فتعطيني أحسن منها، فهذه جائزة بين الناس، ولكنها ليست محمودة، ولذلك نهي عنها النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له ربه: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6] يعني: لا تمن بالعطاء لتطلب استكثارًا من أموال الناس. يقول الله سبحانه: (وما آتيتم) وهذه فيها قراءتان، وما (آتيتم) هذه قراءة الجمهور بالمد، وقراءة ابن كثير (وما أتيتم)، فإذا وصل ابن كثير يقول (وما أتيتمو من ربا) بمعنى: جئتم، كأنه هذا الشيء يؤتى فذهبتم إليه، هذا على قراءة ابن كثير، وقراءة الجمهور بمعنى: ما أعطيتم من هدية تطلبون عليها هدية أحسن منها في الدنيا، فعلى ذلك هذا من الربا غير المحرم، وإنما هو صورة من الصور، وهذا مكروه وليس محرماً، إذا فعله إنسان لا يأثم، وكثير من الناس يفعلون هذا، يعطي أحدهم هدية إلى إنسان وينتظر أن يعطيه أحسن منها. قوله: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} [الروم:39] (ليربو) هذه قراءة الجمهور، و (لتربوا في أموال الناس) قراءة نافع وأبي جعفر ويعقوب، يعني: لتزيدوا، وهنا فيها معنيان: المعنى الأول: ليربوا في أموال الناس يعني: أنت أعطيت من مالك لأجل أن يزيد عند فلان، حيث يرد لك أحسن منه، وهذا يسمى الإثابة على الهدية، والإثابة: هي أن يعطيه الإنسان ثواب هذه الهدية، وهذا مثلما تذهب إلى شخص في العيد، فتعطي كل واحد من عياله خمسة جنيه، وتنتظر أن يأتي فيعطي عيالك عشرة جنيه لكل واحد منهم، فهذا ليس حراماً، ولكن يكره هذا الشيء. وبعض العلماء كـ ابن عباس وغيره يقول: هذه آية نزلت في هبة الثواب، ويذكر بعضهم مثل الشعبي يقول: معنى الآية ما خدم الإنسان به أحداً وخف له لينتفع به في دنياه. ويقول ابن عباس أيضاً: نزلت في قوم يعطون قرابتهم وإخوانهم لأجل نفعهم وتمويلهم والتفضل عليهم ليزيدوا في أموالهم، وكأنها هنا صورتان: الأولى: يعطي الشخص لأجل أن يعطيه أكثر، والصورة الثانية يعطي أقرباءه من المال لأجل أن يظهروا أنهم أغنياء، فيفتخر بأن أقاربه أغنياء، فهذا عطاء للدنيا ليس فيه ثواب؛ لأنهم طلبوا هنا المظهر، وهنا فرق بين أن يعطي الأقارب ويريد أنه يبقى عندهم مال، ليس للمظهر وإنما لأجل أن ينفق القريب على عياله، حتى لا يبقى عالة يمد يده للناس، فهذا له أجر عظيم عند الله سبحانه، الفعل واحد، والنية تخالف بين عمل وعمل آخر، فقد تعطي أقرباءك تبتغي النفع لنفسك، فتقول في نفسك: إما أن أعطيهم لأجل أن يعطوني بعد ذلك، وإما أن أعطيهم حتى يكونوا تبعاً لي، فأكون أمشي وهم يمشون ورائي، وأتكلم فيسمعون لي، لأنني أعطيهم مالاً، فهذا كله لا أجر فيه في الآخرة، إنما الأجر في الآخرة أن تعطي دون مقابل، ولذلك كانت الصدقة على ذي الرحم الكاشح أفضل من الصدقة على ذي الرحم المواصل؛ لأنك أعطيت شخصاً تستجلب فيه المودة، وليبقى بينك وبينه إحسان، فإذا أعطيت الرحم الكاشح كان خيراً لك من إعطاء غيره. وهذه الآية: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ} [الروم:39] تمهيد لتحريم الربا، فإن ربنا سبحانه وتعالى يحذر في هذه الآية المكية من الربا، وكأنه يقول: إننا سنحرمه بعد ذلك، فالربا لا يربو عند الله سبحانه، والربا معناه: أن تعطي إنساناً نقداً، ثم تطلب منه أكثر من ذلك قضاءً، كإنسان يقرض قرضاً فيطلب عليه فائدة، فهذا هو الربا.

معنى قوله تعالى: (وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله)

معنى قوله تعالى: (وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله) قوله: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} [الروم:39] في سورة البقرة قرن الربا بالصدقة، وهنا قرن الربا بالزكاة، والحكمة هناك وهنا قريبة من المعنى، فالزكاة إيتاء وإعطاء وإنفاق، ولا تنتظر مقابلة رداً ولا زيادة، فتخرج زكاة مالك وتعطيها للفقير، ولا تنتظر من الفقير أن يعطيك عليها شيئاً، ولكن انتظر من الله سبحانه تبارك وتعالى، والربا: أن تعطي ليرد إليك الأصل وزيادة، فالربا في نظر المعطي سيزيد المال، وعند الله عز وجل يمحق المال، والزكاة في نظر المعطي تنقص من ماله، ولكن عند الله عز وجل يضاعف لك هذا المال، فيقرن بين الربا وبين الزكاة ليريك الفضل من الله سبحانه، ولتنفق من أجله، قال تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ} [الروم:39] بشرط: {تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} [الروم:39] فقد يعطي الإنسان الزكاة يبتغي بها وجه الله، وقد يعطيها وهو مكره على ذلك، فيأتي الحاكم يأخذها منه غصباً عنه، فتسقط عنه الزكاة ولا أجر له! قد نقول: إن العبادة صحيحة، ولكن قد لا يؤجر عليها صاحبها، ومعنى صحيحة: أنه لا يلزمه أن يعيدها مرة ثانية، فإذا أخذت منه زكاة ماله قهراً فقد برئت ذمته، ولكن هل له فيها أجر؟ لا يكون الأجر إلا لما يبتغي به وجه الله عز وجل. قال تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم:39] (المضعفون) أي: كأنهم أصحاب الأضعاف المضاعفة عند الله سبحانه تبارك وتعالى، فيقال: رجلٌ مضعِّف يعني: له أجر مضاعف عند الله سبحانه، ويقال: رجل مسمن يعني: عنده إبل مسمنة، ورجل معطش يعني: عنده إبل عطاش أو عنده أناس عطاش، فكأن هذا الذي هو مضعف يضاعف له الخير عند الله عز وجل، ويضاعف له الثواب عنده، كما قال الله سبحانه: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة:245] فإذا أقرضت الله وأعطيت لله فإن الله يضاعف لك الأجر عنده. وكذلك قال: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} [البقرة:265] آتت أكلها ضعفين هذا من رحمة الله وفضله، أن يضاعف الثواب لمن يبتغي وجه الله سبحانه، وفي الحديث: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى).

تفسير قوله تعالى: (الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم)

تفسير قوله تعالى: (الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم) لما ذكر الله أمر الربا والزكاة قال بعد ذلك: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [الروم:40]. وانظر إلى ارتباط الآيات قبلها، فذكر أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، وأن المال مال الله سبحانه، يعطيه من يشاء، ويمنعه من يشاء سبحانه، ويوسع ويبسط على من يشاء، ويقدر ويضيق على من يشاء، فالمال مال الله، ثم ذكر آية الربا والزكاة، ثم ذكر بعدها أن المال مال الله، والخلق خلق الله سبحانه تبارك وتعالى، فانظر إلى هذا الترتيب البديع الجميل! قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [الروم:40]. فتنظر بدء الخلق كيف كنت في بطن أمك، من الذي يطعمك ويسقيك وأنت بداخل أحشاء أمك؟! الله سبحانه تبارك وتعالى الذي قال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الروم:54]. الله المعبود سبحانه تبارك وتعالى، والخلق من أفعال الربوبية، فكونه رباً يخلق سبحانه، وكأنه أشار هنا إلى إلهية الله سبحانه، وأنه الإله الذي يستحق العبادة، فهو الله العظيم سبحانه المعبود الذي خلق فاستحق أن يعبد سبحانه، فهو لم يخلقكم ويترككم سبحانه، وإنما رزقكم وأنتم في بطون أمهاتكم أطفالاً صغاراً، ورزقكم وأنتم كبار، ورزقكم حتى تموتوا، قال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [الروم:40]. فذكر بعد الخلق الرزق، ثم يميت الله عز وجل العباد، ثم يبعثهم ويحييهم للجزاء سبحانه، الذي فعل ذلك هل غيره سبحانه يفعل ذلك؟! {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الروم:40]. فالله هو المعبود وحده سبحانه، وهؤلاء الذين تعبدونهم من دون الله من أصنام وأوثان وإنسان أو جان هل يفعلون كما يفعل الله؟ حاشا لله سبحانه تبارك وتعالى. قال الله تعالى: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الروم:40] تنزيهاً لله وتقديساً له سبحانه أن يقال عنه ذلك، وتمجد سبحانه عما يشركون ويقولون عنه الكذب. (الله الذي خلقكم) هذه قراءة الجمهور، وقرأها أبو عمرو: (الله الذي خلقْكُّم) بالإدغام فيها، ويقرؤها ابن كثير وقالون وأبو جعفر: (الله الذي خلقكموا ثم رزقكموا ثم يميتكموا ثم يحييكموا).

تفسير قوله تعالى: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس)

تفسير قوله تعالى: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس) يقول سبحانه: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41]. الله خلقكم وتكفل لكم برزقكم، ولم يترككم كل شخص يرزق الثاني، لا، وإنما الله هو الذي يرزقكم، فإذا بالإنسان لطمعه وجشعه يقطع عن نفسه رزقاً حلالاً، ليأخذ من الشيء الحرام، فيعاقبه الله عز وجل بالتقتير والتقدير عليه: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41]. ظهور الفساد في البر والبحر بسبب العباد، فظهرت المعاصي، وأعظم وأفظع المعاصي الشرك بالله سبحانه، وما دون ذلك من كبائر وصغائر، فلما ظهرت هذه الأشياء ظهرت نتائجها، فظهور الفساد له سبب وراءه، فالعباد عندما يعصون الله سبحانه سلط عليهم غيرهم وأنفسهم، بدءوا بالفساد فكانت النتيجة فساداً أشد، أفسد العباد فصاروا يشركون بالله، ويرجون غير الله سبحانه، ويعصون الله سبحانه، ويأكلون الربا والمحرمات، ويواقعون الفواحش، وتتبرج النساء، ويقعون فيما يغضب الله سبحانه تبارك وتعالى، فهذا فساد في البر وفي البحر. يفسد العباد بقطع الطريق في البر والبحر، وبالظلم لبعضهم بعضاً، ويضيق بعضهم على بعض، ويحارب بعضهم بعضاً، فإذا بالله يعاقبهم على ذلك، فيقلل عنهم المطر، وتأتي الرياح الشديدة، وتأتي الأمطار وتنزل في الصحراء فلا ينتفعون بها! فيمنع عنهم شيئاً من رحمته سبحانه تبارك وتعالى، ويضيق عليهم في رزقهم، ويذهبون للبحار ليصيدوا فبعدما كانت البحار تطلع أسماكاً كثيرة لا يجدون إلا القليل، فالذي ضيق عليهم أرزاقهم هو معاصيهم وما كسبت أيديهم، فضيق الله عليهم فأقحطهم ومنع عنهم المطر، وضيق عليهم في أرزاقهم فكسدت تجارتهم. يقول الله: {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ} [الروم:41] هذه قراءة الجمهور، وقراءة قنبل بخلفه وقراءة روح (لنذيقهم) بنون التعظيم لله عز وجل فهو يقول: نذيق هؤلاء عذاباً في الدنيا دون عذاب الآخرة. قوله: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} [الروم:41] سبحان الله! هذا من رحمة رب العالمين سبحانه، لعل العباد يتوبون ويرجعون إلى الله، قال: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41]. فلو أصابهم بكل ما عملوا لأفناهم سبحانه تبارك وتعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:45]، ما ترك على ظهر هذه الأرض من دابة، ولكن يؤاخذهم ببعض ذنوبهم لعلهم يرجعون إلى الله، فإذا لم يرجعوا إلى الله بقيت المؤاخذة ببعض الذنوب في الدنيا، والمؤاخذة الحقيقة والجزاء والعذاب عند الله يوم القيامة. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الروم [41 - 42]

تفسير سورة الروم [41 - 42] ظهر الفساد في كل مكان بسبب ذنوب العباد وما أكثرها! ليذيقهم الله جزاء بعض أعمالهم لعلهم يرجعون إلى ربهم، فعلى المسلم أن يحذر من الذنوب، وأن يعتبر بمن كانوا قبلنا أكثر أموالاً وأولاداً وأشد قوة، فلما عصوا ربهم أهلكهم في الدنيا قبل الآخرة.

تفسير قوله تعالى: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس)

تفسير قوله تعالى: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الروم: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} [الروم:41 - 42]. يخبرنا الله سبحانه تبارك وتعالى عن جزاء جازى الله عز وجل به العباد بما كسبت أيديهم، وبما أفسدوا في الأرض فقال: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الروم:41] والسبب هو معاصي العباد، أشركوا بالله سبحانه، وكفروا به، وعصوا الله سبحانه تبارك وتعالى، ووقعوا في الفواحش، ووقعوا في الذنوب والموبقات؛ فاستحقوا أن يرسل الله عز وجل عليهم ما هم فيه، كانوا في نعمة من الله، فانقلبت نعمتهم نقمة، بسبب تبديلهم، بدلوا وغيروا فانقلب عليهم الحال، فبعدما كان لهم صار عليهم، فظهر الفساد في البر والبحر، فمنع الله عز وجل عن أناس المطر، وجعل أناساً يعيشون في مجاعة، وكسدت تجارات الناس، وفسدت أسواق الناس، وفسدت ذممهم، وكثرت فيما بينهم الفتن، وظلم بعضهم بعضاً، واستمرءوا الظلم؛ فعاقبهم الله عز وجل بأن سلط بعضهم على بعض بسبب ما كسبت أيديهم، ولا يظلم ربك أحداً، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]، وكل ما يجازى به العباد، وكل ما يظهر فيهم، إنما هو بما كسبت أيديهم، والله لا يظلم أحداً شيئاً سبحانه وتعالى. قال الله: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ} [الروم:41] أي: بسبب {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} [الروم:41]، أي: ليذيقهم الله عز وجل شيئاً من العقوبة على ذنوبهم، وباقي العقوبة مدخرة ليوم القيامة، إلى أن يتوبوا إلى الله سبحانه تبارك وتعالى. فظهر هذا الفساد وكثر في العباد بسبب ما كسبت أيديهم، وظهرت النتيجة فيهم من عقوبة رب العالمين سبحانه تبارك وتعالى، يظلم الإنسان غيره فيسلط الله عز وجل على الظالم ظالماً آخر يظلمه ويأخذ ما بيده، ويسلط عليهم الأمراض، ويسلط عليهم الأوبئة، ويسلط عليهم أنفسهم، ويسلط عليهم الشياطين، ويسلط عليهم أولادهم ونساءهم كما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:14]، فلما طغى الإنسان وبغى، ولما ابتعد عن الله سبحانه تبارك وتعالى ومشى في طريق الفساد وسعى، أذاقه الله سبحانه بعض ما كسبت يداه، ورحمة الله عظيمة واسعة، ولو شاء لعاجلهم بالعقوبة، ولو شاء لجازاهم بكل ما أذنبوه، وكل ما وقعوا فيه. عاد النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من أصحابه وقد مرض مرضاً شديداً وصار كالفرخ، من شدة ما ابتلاه الله عز وجل به من أمراض وغيرها! فالنبي صلى الله عليه وسلم تعجب لحاله ثم سأل الرجل: (لعلك دعوت على نفسك بشيء؟ فالرجل قال: نعم، دعوت الله سبحانه أنه ما كان معاقبي به يوم القيامة فليعاقبني به في الدنيا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سبحان الله! لا تطيقه) يعني: لماذا تدعو على نفسك بهذا الشيء؟! فنهاهم أن يدعو على أنفسهم إلا بخير، وأخبره أنه لا يطيق ذلك، وأن رحمة الله عز وجل عظيمة واسعة، فهذا رجل بلغ من تقواه وخوفه من الله أن يسأل الله عز وجل أنه ما سيعاقبه به يوم القيامة فليعاقبه به الآن، ورفض منه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، ولو كل إنسان دعا على نفسه بذلك فابتلى الله عز وجل العباد، فهذا إنسان تقي وأصيب بذلك، فالشقي كيف سيكون؟! قال الله: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [النحل:61]، والتأخير له حكمة من الله سبحانه تبارك وتعالى، لعل العباد يتوبون إلى الله، ويرجعون إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، ويراجعون أنفسهم، فإن تابوا تاب الله عز وجل عليهم، وانظروا إلى قوم يونس قال الله سبحانه: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:98]، فيونس النبي على نبينا وعليه الصلاة والسلام دعا قومه فترة طويلة فلم يستجيبوا، فحذرهم من عقوبة رب العالمين، فظلوا على ما هم عليه، وأصروا على طغيانهم؛ فخاصمهم وخرج من عندهم بعدما هددهم بأن العذاب سيأتيهم بعد ثلاثة أيام، فلما غادر القرية وخرج مغاضباً لقومه إذا بهؤلاء القوم يفيقون ويراجعون أنفسهم، فقالوا: النبي الذي كان فينا خرج وتركنا فالعقوبة آتية لا محالة، فإذا بهم يفرقون بين الرجل وبين امرأته، وبين الابن وبين أمه، ويبتهلون إلى الله أن يكشف عنهم ما سيأتيهم به من العذاب، فإذا بالله عز وجل يتجاوز عنهم. وركب يونس على نبينا وعليه الصلاة والسلام البحر تاركاً قومه ليدعو أناساً آخرين، ولكنه أخطأ حيث لم يستأذن ربه سبحانه تبارك وتعالى في ذلك، وذهب مغاضباً لقومه، قال الله: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء:87] أي: ظن أن الله لن يضيق عليه، كما قال الله: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد:26] أي: يضيق، فظن أن الله لن يضيق عليه، وأرض الله واسعة، فذهب إلى أرض أخرى يدعو أهلها، وهذا أمر مباح لأي داع إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فليس من حق النبي أن يخرج من مكان إلى مكان إلا بإذن الله سبحانه تبارك وتعالى، فهذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام خرج وظن أن الله لن يضيق عليه في ذلك، وظن أن في الأمر سعة، فلما خرج إذا بالسفينة التي ركبها لا تجري بهم في البحر، وكادت أن تغرق! فإذا بالقوم يتعجبون مما حصل في السفينة، فقالوا: فيها عبد آبق، فعلم أنه قد خرج بغير إذن الله عز وجل فحكمه حكم العبد الهارب من مولاه، وقالوا: لا بد أن ينزل من هذه السفينة، فقال: أنا أنزل من هذه السفينة، فرفضوا، كيف ينزل نبي الله عليه الصلاة والسلام؟ فقالوا: نعمل قرعة، فقرعوا فإذا القرعة تطلع عليه ثلاث مرات، فألقى بنفسه في البحر، فإذا بالله عز وجل يرسل حوتاً فيبتلعه، ويأمره الله سبحانه تبارك وتعالى أن يحافظ عليه ولا يأكله، فإذا به يدعو ربه سبحانه، وقومه كانوا يدعون هنالك، فكشف الله عز وجل عنهم العذاب، وهو يدعو في بطن هذا الحوت، وفي الليل المظلم، وفي ظلمات البحر، {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]، اعترف بأنه أخطأ في ذلك. فإذا بالله سبحانه يرحمه ويأمر الحوت أن يلقيه على الشاطئ، قال الله: (فنبذناه بالعراء وهو سقيم) وهو سقيم مريض، بسبب كونه داخل الظلمات وتحت ضغط الماء في الداخل، فخرج وهو مريض في ذلك المكان، {وَهُوَ مُلِيمٌ} [الصافات:142] يعني: آت بما يلام عليه، لامه الله عز وجل على ما صنع، قال الله: {وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ} [الصافات:146]، شجرة من القرع، يأكل من ثمرها، ويستظل بظلها، ويشرب من مائها، فمكث تحت هذه الشجرة، ويونس النبي عليه الصلاة والسلام ليس هيناً على ربه سبحانه، ولكن الله سبحانه تبارك وتعالى يرينا كيف يؤدب أنبياءه وأولياءه سبحانه تبارك وتعالى، وكيف يؤدب خلقه، عفا عن هؤلاء لما غيروا وتابوا، {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، والله رحيم بالعباد سبحانه تبارك وتعالى، لذلك عفا عن هؤلاء لما تابوا إلى الله عز وجل، ويونس بقي على شاطئ البحر، وأنبت عليه شجرة من يقطين، وكان في حالة ضعف شديدة، فكان يأكل منها وترجع إليه القوة في جسده، وإذا بالله سبحانه ييبس هذه الشجرة بعد أن كانت مورقة، فإذا به يبكي ويحزن على هذه الشجرة، وهنا يعطيه الله عز وجل الحكمة من عنده سبحانه، فقال له: حزنت على شجرة أن أهلكت ولا تحزن على قومك وهم ألوف أن نهلكهم في لحظة! انظروا إلى رحمة رب العالمين سبحانه تبارك وتعالى. فلذلك ربنا يخبرنا أنه إذا ظهر الفساد في الأرض فراجعوا أنفسكم، فأنتم السبب في هذا الفساد، تتركون أوامر الله سبحانه، وتفعلون مناهي الله سبحانه تبارك وتعالى. فالإنسان إذا بدل وغير في شرع الله سبحانه، وفي أحكام الله سبحانه، وفي طاعته لله، فبعدما كان مطيعاً صار عاصياً؛ لا ينتظر من الله عز وجل إلا أن يعاقبه على ذلك، لكن الله سبحانه يؤخرهم لعلهم يرجعون ويتوبون إلى الله سبحانه، ويذيقهم شيئاً من العقوبة كما قال هنا سبحانه: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41]. فالله عز وجل يعاقب العبد لعله يراجع نفسه، ويؤخر عنه العقوبة الشديدة والهلاك لعله يرجع إلى الله، وإذا استمر على عناده فإن سبحانه يأخذه أخذ عزيز مقتدر.

تفسير قوله تعالى: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل)

تفسير قوله تعالى: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل) قال سبحانه لعباده: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} [الروم:42]، انظروا وتأملوا وادرسوا وتعلموا، انظروا كيف فعلنا بالسابقين، والناس الآن يقولون لك: هذا عالم في الجيولوجيا، وهذا عالم في الأرض، في الحفريات، يحفر في الأرض ويقول: هنا كان يوجد أمم في المكان الفلاني، وكان في المنطقة الفلانية حضارات، وكان كذا وكذا، فعرفوا هذه الأشياء، لكن هل اعتبروا بذلك؟! الله عز وجل يقول: (فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل)، فبدلاً من أن تفتخر وتقول: كان أجدادنا يبنون ويعملون كذا، انظر إلى عاقبتهم، انظر إلى عقوبتهم، فلا تمش في نفس المسار الذي ساروا فيه، يفتخر الإنسان الأحمق الغبي فيقول: أجدادنا كانوا فراعنة، وينسى أن الفراعنة كانوا كفاراً يعبدون غير الله، يؤلهون أنفسهم، وعصوا المرسلين، وأراد فرعون قتل رسل الله عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، فإذا بالله عز وجل يخزيهم، فهذا فرعون أهلكه الله، وجعله آية، قال: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} [يونس:92]، فالله يرينا الآيات، فالفراعنة أخرجوهم من الأرض، ووضعوهم في المتاحف، والذهب الذي سرقوه من الناس، واحتفظ به الملوك لأنفسهم؛ ظهر هذا الذهب كله، وهل نفعهم هذا الشيء؟ جعلوه معهم في القبور وداخل الأهرام، من أجل أن يلاقوا الذهب حقهم مرة ثانية، فهل انتفعوا بذلك؟ انظروا وتأملوا واعتبروا، فلا تقولوا: نحن أحفاد الفراعنة الذين بنو الأهرام، وعملوا كذا! فهم كفروا بالله سبحانه، فلا تنتسب إلى الكفار، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (انتسب رجلان على عهد موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فقال أحدهما: أنا فلان بن فلان بن فلان بن فلان، فمن أنت لا أبا لك؟! فقال الآخر المؤمن: أنا فلان بن فلان بن الإسلام)، يكفيني فخراً أني مسلم مع النبي موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فأوحى الله للنبي موسى عليه الصلاة والسلام: (أن قل لهذا: أنت افتخرت بتسعة آباء كفار أنت عاشرهم في النار، وأنت افتخرت بالإسلام فأنت في الجنة)، فهذا الضعيف الذي قال: أنا أفتخر بدين الإسلام دخل الجنة. نسى الناس الآن دين رب العالمين، وصرنا نسمع كثيراً التقاليد الفرعونية، الغناء الفرعوني، التمثيل الفرعوني، فراعنة في فراعنة! نسوا أن الفراعنة كفار، وكأنهم يقولون عن أنفسهم: إنهم متبعون للكفار! أين العقول؟! الله سبحانه تبارك وتعالى يقول: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا} [الروم:42] تأملوا وتدبروا كيف صنعنا بهم، هل نفعهم مالهم؟ هل نفعتهم قوتهم؟ بنوا أهراماً يتعجب الناس كيف بنوها؟ وكيف رفعوا الحجارة؟ قال الله: {كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ} [التوبة:69]، استمتعوا بحظهم في الدنيا، وأنتم استمتعتم بحظكم في الدنيا، عصوا الله وكفروا، وأنتم عصيتم الله سبحانه تبارك وتعالى، فما تنتظرون غير العقوبة التي أصابت هؤلاء السابقين؟! فالإنسان المؤمن لا بد أن يتعلم، ولا بد أن يعتبر، ولا بد أن ينصح أولاده، لا تترك أولادك جهلة تعلمهم الصحف، ويلقنهم التلفزيون أشياء باطلة، ويتعلمون الكفر بالله سبحانه، يعلق تميمة من أجل رد العين، يلبس حذاء من أجل اللعب الفلاني، يعمل تسريحة فلانية نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم، يمشي في طريق الباطل ويقلد الشياطين ويفتخر بذلك، ويقول لك: نحن الشياطين الحمر! افتخروا بالكفار، وافتخروا بالشياطين، كيف سيكون مصير أصحاب هذا الافتخار؟ ألا يخشون أن يكونوا من أصحاب النار والعياذ بالله؟! والذين يفعلون ذلك يتسمون بأسماء المسلمين، يقول لك: أنا مسلم، وإذا سمع من يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: اتركوا هذه الكتب الصفراء! ويأتي الصحفي من هؤلاء فيفتي ويتكلم في الدين، وما أحد يرد عليه بشيء، وهو لا يفهم من دين الله عز وجل شيئاً، وبعضهم يسأل الصحيفة: أنا أحلق على الموضة فما رأيك في هذا الشيء؟ لا يسأل الشيخ، وإنما يسأل الصحيفة، وترد عليه فتقول: ما فيها شيء، وأنتم أعلم بشئون دنياكم، وإذا نهى عن ذلك عالم يقولون له: أنت إنسان متزمت، أنت إنسان متعصب، أنت إنسان كذا! فعندما غير الناس ما بأنفسهم أذاقهم الله عز وجل الذل، انظروا إلى الذل الذي في بلاد المسلمين، كل البلاد في ذل، لا يتواضعون لله، ويتواضعون لغير الله سبحانه، جعلوا الدين وراء ظهورهم، لا يعلمون أولادهم دين الله سبحانه، والأسر المسلمة في بلاد الكفر يهتمون بلغة الكفار، وهم أسر مسلمة كثيرة، ويصرون أن يتكلموا بالإنجليزي مع بعض، وهم مسلمون عرب، حتى داخل بيته يتكلم بالإنجليزي، ويفتخر أن كل أهل البيت يتكلمون بالإنجليزي وليس بالعربي! فهؤلاء كيف يتعلمون دين الله عز وجل؟ ومتى يتعلمون كتاب ربهم وسنة نبيهم صلوات الله وسلامه عليه؟ {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:19]، فإذا نسي الإنسان ربه سبحانه فلا ينتظر إلا الوبال، ولا ينتظر من الله إلا العقوبة التي نراها الآن في أبناء المسلمين وفي أسر المسلمين، ومن ذلك تسلط الكفار على المسلمين لما نسى المسلمون دين ربهم، فإذا أرادوا أن يرجعوا إلى العز الذي في الإسلام فليرجعوا إلى دين رب العالمين، فلينصروا الله لينصرهم {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الروم [42 - 45]

تفسير سورة الروم [42 - 45] أمر الله عباده أن يقيموا وجوههم للدين، ويتمسكوا به برغبة وجد، قبل أن يموت أحدهم وتقوم قيامته، ثم يأتي يوم القيامة فيفوز من يفوز، ويندم من يندم، ومن فاز بالجنة فقد فاز الفوز العظيم، ومن خسرها ودخل النار فقد خسر الخسران العظيم.

تفسير قوله تعالى: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل)

تفسير قوله تعالى: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل) الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الروم: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ * فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ * مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ * لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِين * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الروم:42 - 46]. يأمر الله سبحانه وتعالى عباده في هذه الآيات بأن يسيروا في الأرض ويعتبروا فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل, أين ذهب قوم عاد, وقوم نوح, وقوم ثمود, وقوم إبراهيم, وأصحاب مدين, والمؤتفكات, وقوم فرعون؟ أين ذهب هؤلاء؟ ما صنعوا؟ وكيف صنع بهم؟! {فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} [الروم:42] كفروا بالله سبحانه، وأشركوا معه غيره, عبدوا غير الله, وزعموا أنهم يقربونهم إلى الله زلفى, والله غني عنهم وعن عبادتهم, قال الله: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك, من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) فالله الغني الحميد سبحانه وتعالى, وهؤلاء كذبوا وكفروا فاستحقوا الوعيد الذي توعدهم به ربهم. قال الله: {فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} [الروم:42] هنا النظر بمعنى الاعتبار, اعتبروا يا أولي الألباب, اعتبروا يا أولي الأبصار, انظروا إلى ما صنع بهم وإلى صنيعهم، وانظروا إلى أعمالكم، ولا تقلدوهم في ذلك فيصبكم مثلما أصابهم.

تفسير قوله تعالى: (فأقم وجهك للدين القيم)

تفسير قوله تعالى: (فأقم وجهك للدين القيم) قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ} [الروم:43] أمر الله العباد أن يسيروا وينظروا ويعتبروا, وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيم وجهه لهذا الدين القيم، والأمر له وللمؤمنين معه بالتبع، أي: أقيموا وجوهكم إلى هذا الدين, أقم وجهك واقصد إلى هذا الدين العظيم, أقم قصدك واجعل وجهتك اتباع هذا الدين القيم العظيم دين الإسلام {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} [الروم:43]، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو إلى الله {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125]، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يجاهد في سبيل الله سبحانه {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج:78]، فهو والمؤمنون مأمورون أن يتوجهوا إلى دين الله سبحانه. {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} [الروم:43] وجه الإنسان أشرف ما فيه، فإذا وجهه إلى شيء توجه بدنه إليه {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} [الروم:43] أي: استقم بتوجهك إلى دين رب العالمين سبحانه، وكذلك المؤمنون معك، ووضحوا الحق، وبالغوا في الإعلان إلى الحق, وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يشتغل وينشغل بما هو فيه من دعوة إلى الله سبحانه، ولا يشغل نفسه بالحزن عليهم كما قال: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل:127] فهم يمكرون ويمكر الله عز وجل بهم, لكن إذا تفرغ للحزن عليهم فسيضر نفسه كما قال الله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:3] , وقال: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6]، فستقعد تحزن عليهم إلى أن تميت نفسك عليهم, وهم لا يستحقون ذلك، وليست هذه وظيفتك، إنما وظيفتك أنك نذير وبشير، تنذر من يعصي ربه سبحانه, وتبشر من يطيع ويؤمن بالله سبحانه وتعالى، وبلغ {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:54]. {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} [الروم:43] اعمل لهذا اليوم وحذرهم قبل أن يأتي هذا اليوم الذي {لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} [الروم:43]، من يرده إذا أراد الله عز وجل أن يأتي بيوم القيامة؟ هو آت لا ريب فيه, ولا يرده الله سبحانه وتعالى عن هؤلاء لا بدعائهم ولا بغيره, فإذا جاء يوم القيامة لا يقدر الإنسان أن يؤخره, ولو دعا ربه لن يؤخره سبحانه وتعالى, فلن يرده الله سبحانه عن موعده, فهو وعد حق من الله، وميعاد محدود من الله، لابد أن يأتي هذا اليوم, ولا يرده أحد، ولو دعا الإنسان ربه سبحانه أن يرده عنه فلن يرده. وهذه الكلمة (لا مرد له) يقرؤها حمزة بالمد وإن كان ليس فيها همزة، وهذا نوع من أنواع المد للمبالغة في النفي, مثلما قرأ: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:2] فيمد (لا) مبالغة في نفي الشك عن هذا الكتاب, ومن الأشياء اللطيفة في المدود أن القراء الذي يقصرون المد المنفصل مثل {لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [الصافات:35] وهم قالون وابن كثير وأبو عمرو وحفص وشعبة عن عاصم وغيرهم، فهم يقصرون المد، فإذا قصروا مدوا في هذه الكلمة (لا إله إلا الله) ويسمونه المد للتعظيم, أي: لتعظيم الله سبحانه, فهم يقصرون كل مد منفصل فإذا جاءوا في لا إله إلا الله مدوا (لا إله إلا الله) للتعظيم, فيجوز عندهم فيها المد ويجوز القصر، وإن كان الأصل فيها القصر مثل المد المنفصل، ولكن يمدون في هذه الحالة للتعظيم, وكذلك يمد هنا حمزة، وإن كان حمزة يمد المد المنفصل والمتصل وغير ذلك, ولكن هذا المد ليس له علاقة بالهمزات، وإنما المد هنا للمبالغة في النفي. قوله: ((مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ)) أي: فلا يقدر أحد أن يرده، ولا يرده الله سبحانه وتعالى عنهم لا بتوسلهم ولا بدعائهم، فلا يرد هذا اليوم إذا جاء. قال الله: {يَوْمَئِذٍ} [الروم:43] أي: في يوم القيامة {يَصَّدَّعُونَ} [الروم:43] , يقال: تصدع البنيان بمعنى تشقق، فالتصدع هو التشقق والتفتت، ومنه الصداع الذي يصاب به الإنسان، وكأنه يفرق شعب رأس الإنسان, وكأنه سيشق دماغه، فهذا اليوم يصدعون فيه، وهنا التشديد يدل على هم هذا اليوم وعظمه، والأصل فيها يتصدعون, فأدغم وثقل لثقل هذا اليوم الفظيع, نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة, فقال هنا: {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} [الروم:43]، وقال: {يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} [الروم:14]، فالناس يخرجون من قبورهم ويردون إلى الموقف يوم القيامة فيقفون بين يدي الله عز وجل خمسين ألف سنة ثم يتفرقون ويتصدعون, فريق في الجنة وفريق في السعير, فلذلك قال هنا سبحانه: {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} [الروم:43].

تفسير قوله تعالى: (من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون)

تفسير قوله تعالى: (من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحاً فلأنفسهم يمهدون) قال الله: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [الروم:44] تصدع أهل الكفر وساقتهم الملائكة إلى النار, فمن كفر فعليه هذا الكفر, فكفره لن يضر به ربه سبحانه, فالله غني عن العباد وعن عبادتهم, فهؤلاء الذين كفروا وبال كفرهم عليهم, (من كفر فعليه كفره) أي: جزاء كفره عليه {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الجاثية:33]. {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا} [الروم:44] المؤمنون الأتقياء أهل العمل الصالح {فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [الروم:44] المؤمن يمهد لنفسه, والتمهيد بمعنى التوطيء، ومهد الشيء بمعنى جعله موطأ يمكن أن يقعد عليه وأن يمشي عليه، فقد جعله مذللاً سهلاً, فكأن المؤمن ييسر لنفسه بفعله وبعبادته طريقاً إلى الجنة, وطريق الجنة في هذه الدنيا سهل على من وفقه الله سبحانه وتعالى إليه, وإن كان ظاهره أنه صعب، وفي الحديث: (حفت النار بالشهوات، وحفت الجنة بالمكاره) فطريق الجنة لا بد للإنسان أن يجاهد نفسه عليه, ويجاهد شيطانه, ويجاهد هواه, ويجاهد الكفار, ويجاهد المنافقين, فيأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر, أشياء كثيرة تكون صعبة على الإنسان, ولكن عندما يستعين بالله سبحانه وتعالى فإن الله يسهلها عليه، فالمؤمن طريقه سهل, فأنت تقوم وتصلي الفجر كل يوم، وقد تعودت على ذلك, وانظر إنساناً آخر ليس متعوداً على ذلك إذا قلت له: قابلني غداً في صلاة الفجر فتأتي وهو لا يأتي, فتسأله فيقول: ضبطت المنبه على الأذان ولم أقم, لكن أنت تفرح عندما تسمع أذان صلاة الفجر, فتتوضأ وتمشي إلى المسجد وأنت تتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)، فيصير الأمر سهلاً عليه، فيصلي الفجر كما يصلي الظهر والعصر, والأمر عنده سهل يسير, مع أن فيها مشقة ولكن من اعتاد على الخير يسره الله سبحانه وتعالى عليه, ويأتي شهر رمضان وأنت مشتاق لهذا الشهر، وإن كنت تصوم كل اثنين وخميس فيكون صوم شهر رمضان سهلاً جداً, وينتهي رمضان فتحزن على فراقه، وإنسان آخر ليس متعوداً على الصوم قبل رمضان، فيصعب عليه صومه، فإذا جاء شهر رمضان يصوم يوماً أو يومين وبعد ذلك يأخذ السيجارة في فمه ويترك الصيام والعياذ بالله! فالذي ييسر العبادة على العباد هو الله سبحانه وتعالى, وأنت تمهد لنفسك بالطاعة طريق الجنة, فابدأ أنت بالسبب والنتيجة على الله سبحانه وتعالى, فطريق الجنة طويل, ولكن أنت ابدأ فإذا بالله عز وجل يسهله, فالإنسان في الدنيا يجد اليوم الذي فيه طاعة يوماً جميلاً يذوق حلاوته, واليوم الذي فيه معصية يجده يوماً صعباً شديداً يذوق مرارته, والعاصي لا تهمه طاعة ولا معصية فلا فرق عنده، ولكن المؤمن يطيع الله فيجد حلاوة الطاعة وحلاوة الإيمان في قلبه. قال الله: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [الروم:44] أي: كل من علم صالحاً، فالجميع قد مهدوا لأنفسهم, (يمهدون): أي يوطئون لأنفسهم في الآخرة فراشاً ومسكناً وقراراً في الجنة بالعمل الصالح, ومنه مهد الصبي, وضعه في المهد, فتعمل له سريراً وحده, وتعمل له فراشاً ليناً لهذا الصبي الذي ستضعه فيه, وكذلك أنت تمهد لنفسك طريق الجنة بطاعتك ربك سبحانه وتعالى, فالتمهيد بمعنى تسوية الأمر, وإصلاح الأمر, ومن التمهيد التمكن، كأنك تمكن لنفسك مكاناً وموضعاً في جنة رب العالمين سبحانه, وكذلك قالوا: يمهدون لأنفسهم في قبورهم، وسواء مهد لنفسه في قبره أو مهد لنفسه يوم القيامة, فأول منازل الآخرة القبر, فإذا كان له خير في القبر فيوم القيامة يجد خيراً عظيماً من رب العالمين سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله)

تفسير قوله تعالى: (ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله) قال الله: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ} [الروم:45] لتكون العاقبة للمؤمنين والجزاء الحسن من رب العالمين. قال: {مِنْ فَضْلِهِ} [الروم:45] فالله سبحانه لن يعطيك من فضل أحد آخر, بل من فضله سبحانه, فيجزي المؤمن الجزاء الذي يليق به، وهذا تفضل منه، فإذا تفضل رب العالمين على العباد فإنه يجازيهم بالحسنة عشرة أمثالها, ومن هم بسيئة فلم يعلمها كتبها الله له حسنة كاملة, وهذا إذا خاف من الله سبحانه وتعالى بعدما كاد أن يفعلها، فقال: لن أعملها، واستغفر الله, وتاب إلى الله، ولم يقع في هذه السيئة؛ فتكتب له حسنة كاملة, ومن هم بالسيئة فعملها كتبت عليه سيئة واحدة, ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة واحدة, ومن هم بحسنة فعملها كتبت له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة لا يعلمها إلا الله, ولذلك هنا يخبرنا الله أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجزيهم الجزاء العظيم منه سبحانه وتعالى، الجزاء الذي يليق بهم من فضل الله سبحانه وتعالى. {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [الروم:45] فالله يحب المؤمنين, ويحب المحسنين, ويحب الصابرين, ويحب الصالحين, ويجزي هؤلاء من فضله, أما الكافرون فلا يحبهم الله سبحانه وتعالى، ويكون مصيرهم إلى النار. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الروم [46 - 47]

تفسير سورة الروم [46 - 47] آيات الله الكونية كثيرة، وقد أمر عباده أن يتفكروا فيها؛ لأنها تدعوهم إلى الإيمان بالله، ومعرفة صفاته العلى، وتوحيده جل وعلا، ومن هذه الآيات العظيمة: الرياح، فليتفكر المسلم في كيفية إرسالها وفوائدها وآثارها، وأعظم منها آية المطر، فليتفكر المسلم في كيفية بسط السحاب في السماء وجعله قطعاً، وخروج المطر من خلاله وفوائده وآثاره، وكيف يحيي الله به الأرض بعد موتها.

تفسير قوله تعالى: (ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات)

تفسير قوله تعالى: (ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات) الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الروم: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:46 - 47]. هذه آيات من آيات الله العظيمة يذكرها لنا سبحانه وتعالى في هذه الآيات من سورة الروم، وآياته كلها عظيمة سبحانه، وهذه الآيات مثل النعم لا تحصى أبداً، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الروم:46]، فهذه الآيات يذكركم الله بها لعلكم تشكرون الله سبحانه وتعالى عليها. والآية هي المعجزة التي تدل على عظيم القدرة، ((وَمِنْ آيَاتِهِ)) أي: ومن أعلام كمال قدرته سبحانه {أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ} [الروم:46]، فالرياح آية من آيات الله سبحانه، لا يدري الإنسان كيف تتكون هذه الرياح، وكيف ترسل، ومتى ترسل، ومتى تسير، فالله عز وجل الذي يدبر هذا كله، والإنسان يرى علامات، وعليه أن يعتبر بهذه العلامات التي يراها، فالذي يرسل الريح والذي يمسك الريح هو الله سبحانه وتعالى، فمن آياته العظيمة أن يرسل الرياح مبشرات، أي هذه الرياح تبشر من يشعر بها ويحس بها بقرب نزول المطر. {وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الروم:46]، رحمة الله عظيمة واسعة، فمن رحمة الله وروحه سبحانه أن يرسل الرياح فتنزل المطر، فيأتي الغيث فيغاث به العباد، ويخرج الله عز وجل النبات، فيكون الخصب للعباد، وكذلك الرياح يستروح بها الإنسان، فهي راحة للإنسان في يوم صائف حين تهب فيستشعر الإنسان رحمة رب العالمين سبحانه وتعالى. وكذلك يرسل الرياح في البحر فيستبشر أصحاب السفن وتسير السفينة بهذه الرياح بفضل الله سبحانه وتعالى، وغير ذلك مما استغل العباد فيه هذه الرياح في منافعهم التي سخرها الله عز وجل لهم بالرياح، وسخر لهم العقول لتستفيد من هذه الرياح، فمن الريح يصنعون طواحين هوائية، ويصنعون مراوح من الريح، ويولدون الكهرباء والتيار، ويستشعرون فضل الله سبحانه وتعالى عليهم. وقوله: {وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الروم:46] أي: بعضاً من رحمته، تستشعرون بها كيف أن الله بعباده رءوف رحيم سبحانه. {وَلِتَجْرِيَ} [الروم:46] بهذه الرياح: {الْفُلْكُ} [الروم:46] السفن العظيمة والمراكب في البحار {بِأَمْرِهِ} [الروم:46]، فهو الذي يسخر، وهو الذي ييسر، وهو الذي يسير سبحانه وتعالى، فيرسل الريح فتسير هذه المراكب وهذه السفن بمنافع العباد؛ ليحمدوا الله سبحانه، ويشكروه على نعمه. {وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [الروم:46] تجري الفلك بأمر الله سبحانه وتعالى، يسير الإنسان في البحر راكباً مركباً، وإذا بالريح توافقه وتواتيه، فيفرح بهذه الريح، وإذا وقفت الريح يقف مكانه، وينتظر رحمة الله سبحانه، ولعلها تعاكس الإنسان وتأتي على غير المكان الذي يريده، ولعلها تعصف بالإنسان وبما يركبه، ولعلها تقصف به فتغرقه، فالريح التي يرسلها الله تكون نسيماً وتكون ريحاً طيبة، وقد تكون عاصفة وقد تكون قاصفة، وهذا من أمر الله سبحانه، فلا ترسل إلا بأمره، فيأذن ويأمر فيكون أمره سبحانه على ما يريد. {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [الروم:46] في البر والبحر، بفضل الله وبرحمته سبحانه، فالرياح يرسلها الله سبحانه فتحمل أشياء أنت لا ترى هذه الأشياء، تحمل حبوب اللقاح من أشجار إلى أشجار أخرى، فتلقحها، فإذا بالله يخرج منها الثمار التي يأكلها الإنسان ويستلذ بها ويتفكه بها؛ ليشكر الله سبحانه وتعالى على ذلك. والريح يستروح بها الإنسان، وترطب عليه، وتأتيه بالمطر، وتحرك السحاب من مكان إلى مكان، وتلقح الأشجار، أشياء عجيبة! هذا أمر الله سبحانه، وهذا من قدرته وكماله سبحانه وتعالى. {وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [الروم:46]، هذا من فضل الله سبحانه، فبهذه الريح تتنقلون في السفر من مكان إلى مكان بالسفن {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} [إبراهيم:32]، وقال: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:8]، فخلق للعباد ما علموا من أشياء ركبوها، وما لم يعلموا فاستحدثوها، صنعوا الفلك التي تجري في البحر بأمره سبحانه، وصنعوا الطائرات التي تصعد فوق الرياح في الهواء، وهذا كله بأمر الله سبحانه، وتسخير من الله سبحانه، ليبتغوا من فضل الله، ومن رزق الله، ويسافرون من بلد إلى بلد، ويبتغون رزق الله سبحانه وتعالى، وينقلون بضائعهم، وينقلون القوت من بلد إلى بلد، وهذا من فضله سبحانه. قال: {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الروم:46] فعلى الإنسان أن يشكر عندما يستشعر نعم الله سبحانه، وعادة الإنسان أنه كنود جحود كما قال الله سبحانه: {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات:6] أي: جحود، ينسى هذه النعم، فإذا هاجت الريح قليلاً بعواصف ورمال يشتم ويسب الريح، وينسى فضل الله سبحانه ورحمة الله وآيات الله، وأن هذه آية من الآيات، فالذي أثارها هو الذي يهدئها، فارجع إليه، وادعه سبحانه وتعالى، واطلب من رحمته سبحانه، ولا تضجر بأمر الله سبحانه وتعالى. يقول: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الروم:46] يعني: تشكرون الله على هذه النعم بتوحيدكم ربكم سبحانه، وبحسن عبادتكم إياه، وبطاعتكم له، وباجتنابكم معاصيه.

تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم)

تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا من قبلك رسلاً إلى قومهم) يذكر الله النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأنه أرسل الرسل من قبل النبي صلى الله عليه وسلم، وليس هو أول الرسل عليه الصلاة والسلام، قال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ} [الروم:47]، فكل رسول كان يرسل إلى قومه، وخص نبينا صلى الله عليه وسلم بميزة عظيمة جداً فضل بها على كل الرسل، فلم يرسل إلى قومه فقط، ولكن أرسل إلى الخلق جميعهم، إنسهم وجنهم، فهو رحمة للعالمين صلوات الله وسلامه عليه. {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ} [الروم:47] هؤلاء الرسل جاءوا أقوامهم بالبينات، وجاءوهم بالمعجزات، وبالحجج النيرات، وبالآيات العظيمات من رب العالمين، وكل نبي بعثه الله سبحانه وتعالى معه آية من الآيات، فإبراهيم من أعظم آياته عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أنه ألقي في النار ولم تحرقه النار، وهي آية تناسب طبيعة قومه عباد الأصنام وعباد الكواكب وعباد النيران، ومن عبد شيئاً يظن أن هذا الشيء يحميه، ويدفع عنه ضره، وهذا عدوهم إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، أججوا النار التي يظنون أنها تنفعهم وتضر إبراهيم، فألقوا إبراهيم فيها من مكان بعيد، فإذا بالنار تكون برداً وسلاماً على إبراهيم! لم تنفعهم نارهم، ولم تنفعهم عبادتهم غير الله سبحانه، قال الله عز وجل: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} [الأنبياء:69 - 70]، فهم أسفل ما يكون وأخسر ما يكون عندما أرادوا الكيد بإبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام. فهذه آية من آيات رب العالمين سبحانه، يري هؤلاء أن ما تعبدون لا تنفعكم، بل تضركم في الدنيا وفي الآخرة. وهذا موسى النبي عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام يبعثه الله سبحانه وتعالى إلى قومه، وولد في السنة التي يقتل فيها الصبيان، وكان أخوه هارون أكبر منه قيل: بثلاث سنوات، ففي السنة التي ولد فيها هارون لم يكن يقتل فيها الصبيان، فعاش هارون عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، والسنة التي ولد فيها موسى كان فرعون يأمر بقتل الصبيان، وإذا بالله ينجي موسى في بيت فرعون! وهذا الأمر العجيب من آيات رب العالمين سبحانه وتعالى. ينشأ موسى عليه الصلاة والسلام في وسط هؤلاء القوم الذين يظنون أن السحر ينفعهم، وأنهم يكيدون لأعدائهم بالسحر، فيجمع فرعون السحرة من كل مكان، ويقوي بهم دعائم ملكه. وعندما شب موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، منَّ الله سبحانه وتعالى عليه بالرسالة، ويأتي إلى فرعون ليدعوه إلى رب العالمين، وإذا فرعون يتعاظم ويتعالى ويقول: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23]، ما هو رب العالمين الذي جئت تدعو إليه؟ {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء:26 - 28]، فأنتم لكم عقول، فلا تقولوا عني: مجنون، فأنتم تعرفون أن الذي خلق المشرق والمغرب وما بينهما هو الرب سبحانه وتعالى. وفرعون يأتي بالسحرة، وموسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام يأتيهم بآية من آيات الله سبحانه، وسحر السحرة أعين الناس حتى موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فإذا بموسى ينظر إلى عصي السحرة وحبال السحرة، فيخيل إليه من سحرهم أنها تسعى، فيأتي من الله عز وجل التثبيت لموسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، اثبت إنك أنت الأعلى، سنعليك وننصرك عليهم، {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:69]، فجاءهم ربهم سبحانه بآية من جنس ما يصنعون، أنتم تخيلون للناس ولا تقدرون على قلب الأشياء حقيقة، ولكن الله عز وجل يجعل هذه العصا التي في يد موسى ثعباناً حقيقياً وأنتم لا تقدرون على ذلك، فبهت هؤلاء الكفار، {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} [الأعراف:120]، فكانت معجزة من أعظم المعجزات التي تفيد مع هؤلاء القوم. وعيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام جاء إلى قوم اشتهروا بصناعة الطب، والطبيب لا يستطيع أن يشفي من ولد أكمه أعمى، فإذا بالمسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام يدعو له فيشفيه الله سبحانه وتعالى بإذنه، قال الله عنه: {وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران:49]. ويتجاوز ذلك إلى أن يدعو ربه فيحيي على يديه الموتى بإذن الله سبحانه وتعالى! فهل تقدرون بطبكم وسحركم أن تفعلوا هذا الشيء؟! فكانت آية ومعجزة من جنس ما يصنعون، فأنتم علماء في الطب، وهذا يفوقكم بشيء تعجزون عنه. وجاء نبينا صلى الله عليه وسلم من عند ربه بأعظم الآيات وهو هذا القرآن العظيم المعجز، فالعرب كانوا أهل فصاحة وأهل بلاغة وأهل شعر وأهل خطابة، ويتنافسون في ذلك ويرتجلون ذلك، فإذا بالله سبحانه وتعالى ينزل على نبيه صلى الله عليه وسلم هذا الكتاب، ويتحداهم أن يأتوا بسورة من مثله، والتحدي يدفعهم إلى العصبية وقبول التحدي مهما كان هذا التحدي؛ فلا يقدرون أن يقبلوا هذا التحدي، ويخنعون ويذلون ويسكتون عن ذلك. وعندما افترى أحدهم ليأتي بمثل القرآن ضحك الناس منه، وقيل له: إنك تعلم أنا نعلم أنك كاذب! فهذا القرآن هو المعجزة العظمى الذي نزل على النبي صلوات الله وسلامه عليه، وإعجازه من وجوه كثيرة، من وجه بلاغته وفصاحته، ومن وجه إخباره عن أشياء غائبة لا يعرفها الناس، فتكون كما قال، كما في أول هذه السورة: {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم:2 - 4]، فكان الأمر على ما قال الله سبحانه، وإن كان ذلك في نظر الناس مستحيل أن يغلب الروم فارس، ويخبر الله أنه ليس مستحيلاً، وسيكون خلال سنين قليلة، فكان كما قال الله سبحانه وتعالى. ومن الإعجاز الذي في كتاب الله سبحانه أشياء تختص بعلم الفلك، وبعلم الرياح والسحاب، وبعلم الجيولوجيا والأرض، وغير ذلك من الآيات العظيمة؛ ليعلمنا أن هذا كتاب رب العالمين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس بدعاً من الرسل، ولكن هذا رسول من عند رب العالمين، جاءكم بالآية العظمى كما جاء الأنبياء من قبله بآيات إلى قومهم. {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا} [الروم:47] إذا جاءوا أقوامهم بالبينات، فمنهم من صدقوا ومنهم من كذبوا، فإذا بالله ينتقم من المجرمين، ويجازيهم على إجرامهم وعلى تكذيبهم وكفرهم. {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47] هذا وعد من الله سبحانه وتعالى، أنه ينصر المؤمنين، والله لا يخلف الميعاد أبداً، وإذا رأى المسلمون أنهم لم ينتصروا فليرجعوا إلى أنفسهم ليعرفوا أسباب ذلك، فالسبب من أنفسهم، أما الله عز وجل فوعده الحق، {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]. نسأل الله عز وجل أن ينصر الإسلام والمسلمين في كل مكان، وأن يخذل الكفرة والمشركين. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الروم [48 - 51]

تفسير سورة الروم [48 - 51] ما أنعم الله على الناس بنعمة إلا وكان الواجب عليهم أن يشكروها، وإن مما أنعم عليهم إنزاله الأمطار بعد أن يكونها وينشئها في السماء، فيجعل منها جبالاً من برد وثلج، ويجعل منه ما هو أقل من ذلك فينزل منه القطر والمطر، فيفرح الناس بذلك ويُسروا وإن كانوا من قبل لفي ضيق وقنوط.

تفسير قوله تعالى: (الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا)

تفسير قوله تعالى: (الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الروم: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ * فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ * فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [الروم:48 - 52]. يخبرنا ربنا سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن رحمته في إرساله الرياح وإنزاله الأمطار بفضله وكرمه سبحانه، ويخبر عن تكوينها فيقول: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ} [الروم:48]، و (الله) هو الإله المعبود الذي خلق ورزق، والذي يرسل الرياح سبحانه وتعالى. وقوله: (الذي يرسل الرياح) أي: هو الرب الفاعل القادر سبحانه وتعالى، وهو الصانع المربي، فالله كونه إلهاً فهو يستحق أن يعبد سبحانه وتعالى، فيعبر بلفظ الجلالة (الله) يعني: المعبود المستحق للعبادة، ويعبر عن ذلك بصفات الرب سبحانه وتعالى، فكونه رباً مقتضاه: أنه يخلق ويرزق، وأنه يفعل ما لا يقدر أحد على فعله إلا الله سبحانه وتعالى، فمن مقتضى ربوبيته أنه يرسل الرياح، وأن هذه الرياح تثير السحاب، وأن الله يبسط هذا السحاب في السماء كيف يشاء بقضائه وقدره. قال تعالى: {وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} [الروم:48] فهكذا يكون التكوين للأمطار بقدرة الرب سبحانه وتعالى، فالرب الذي يصنع هذا يستحق أن يعبد دون غيره من آلهة تعبدونها، لا يستطيعون أن يصنعوا شيئاً فهم اتخذوا من دون الله آلهة، فإذا سئلوا: هل هذه الآلهة تخلق وترزق؟ يقولون: لا، لا تصنع شيئاً، وإذا سئلوا من الذي يصنع ذلك؟ يقولون: الرب الذي في السماء سبحانه وتعالى يصنع ذلك، فيقال لهم: كيف يكون الرب هو الذي يصنع وترجون رحمته سبحانه أن ينزل عليكم المطر من السماء، وأن ينبت لكم الزروع والثمار، وأن يعطيكم أرزاقكم سبحانه، ثم تؤلهون غيره، فتدعون إلهاً غير الله، أو تشركون مع الله سبحانه وتعالى أحداً غيره؟! فعبر ربنا بقوله: (الله) أي: الإله الذي يستحق العبادة هو الذي يصنع ذلك، وهو الذي يرسل الرياح. والرياح هي التي تثير السحاب، وتحرك السحاب من مكان إلى مكان، وهي التي تكون هذا السحاب بأمر الله سبحانه وتعالى. فمياه الأمطار تكون على الأرض منها البحيرات، وهذه البحار الموجودة وغيرها من المياه تصعد إلى السماء بالتبخر، وتحملها الرياح شيئاً وشيئاً حتى تصعد إلى السماء كما عبر الله سبحانه وتعالى هنا، وعبر في سورة النور فقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ} [النور:43]. وهذه من دلائل قدرة الله سبحانه وتعالى مع تذكيره الناس بقضائه وقدره، فالله يقدر ما يشاء ولا شيء يكون إلا بقدره وتقديره سبحانه، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فالسحاب يمتلئ بالمياه، ويشاء الله أن ينزل منها المطر فيكون ذلك، وقد يصرفه عمن يشاء، فتكون السحابات قد غيمت وامتلأت، والناظر ينظر إليها في السماء ملآنة بالمطر، فيظن نزول المطر فإذا بالسحابات تنصرف إلى مكان آخر، ولا ينزل المطر على هذا المكان الذي ظن أهله أن ينزل عليهم المطر، لذلك ليس كون السحابة مغيمة أو ممتلئة بالماء بلازم أن تنزل في هذا المكان، ولذلك يقول الله تعالى: {فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ} [النور:43]، فالأمر راجع إلى قضاء الله وقدره، وقد ينظر الإنسان إلى الشيء في متناول اليد، فيذهب ليأخذه فيضيع منه هذا الشيء، فالله يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، وكم من إنسان يرفع اللقمة إلى فمه، فتقع اللقمة على الأرض فما يأكلها مرة أخرى، {فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ} [النور:43] سبحانه تبارك وتعالى. فالإنسان ينظر في حكمة الباري سبحانه وفي قدرته وفي آياته العظيمة، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وعبر الله عن السحاب في هذه الآية بقوله: (يجعله كِسَفاً)، وقال في سورة النور: {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} [النور:43]، والودق بمعنى المطر، يعني: قطرات المطر تخرج من خلاله.

الفرق بين الريح والرياح

الفرق بين الريح والرياح يقول لنا سبحانه وتعالى: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ} [الروم:48] وهذه قراءة الجمهور، وقرأها ابن كثير وحمزة والكسائي وخلف (الريح)، فقرءوا: ((الله الذي يرسل الريح فتثير سحاباً)). ومن هنا قد يعبر بـ (الريح) عن (الرياح)، وبـ (الرياح) عن (الريح)، وهذه القراءة في كل القرآن على ذلك. وذكر بعض أهل العلم ومنهم: أبو عمرو البصري أن الله سبحانه وتعالى يعبر بـ (الريح) ويعبر بـ (الرياح)، قال أبو عمرو: كل ما كان بمعنى الرحمة فهو جمع، وما كان بمعنى العذاب فهو موحد، هذا كلام أبي عمرو البصري ولم يصح ذلك عن النبي صلوات الله وسلامه عليه. وكلام أبي عمرو البصري بناءً على قراءته هو، فهو يقرأ (الرياح) في مواضع، و (الريح) في مواضع، فيقول بناءً على ما فهمه مما قرأه من القرآن ومن كلام العرب: كل ما كان بمعنى الرحمة فهو جمع، يعني: كلمة (الرياح) جمع، فتكون بمعنى (الرحمة)، و (الريح) مفردة تأتي بمعنى العذاب، هذا كلامه، وواضح أن هذا الكلام ليس له نصيب من الصحة، وإن كان أخذ به بعض المفسرين؛ لأن الذي يتتبع القراءات في القرآن سيجد القرآن يعبر بـ (الريح) ويعبر بـ (الرياح) في الموضع نفسه، فيقرأ البعض من القراء (الريح)، ويقرأ البعض الآخر (الرياح)، فلا تغتر بهذا الكلام، فإن قراء القرآن لم يفرقوا بين هذا وذاك؛ لأن الآية واحدة والقراءة فيها قراءتان (الريح)، و (الرياح)، وعلى ذلك الريح تنزل الأمطار، والرياح كذلك تنزل الأمطار.

كيفية تجمع السحب

كيفية تجمع السحب قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا} [الروم:48] إثارة الشيء دفعه ونشره، وهنا: الرياح تثير السحاب فتكونه شيئاً وراء شيء، قال تعالى: {فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا} [الروم:48] أي: تكون السحابات متفرقة في السماء في كل مكان، ثم يجعله كسفاً، أي: قطعاً تكبر السحابة، و (كسفاً) كأنه الجمع، سواء قرئت {كِسَفًا} [الروم:48] أو (كِسْفاً) ففي الحالتين هي جمع، ولذلك ففيها قراءتان: {وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا} [الروم:48] قراءة الجمهور، والأخرى: (ويجعله كِسْفاً) بالسكون قراءة أبي جعفر وابن عامر بخلف هشام فيها، فالقراءتان بمعنى الجمع، والمفرد منها: كِسْفة، هذه المفرد، والجمع (كِسفاً) أي: قطعاً مجموعة يجمع بعضها إلى بعض. قال تعالى: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} [الروم:48] أي: ينزل المطر من خلال هذا السحاب، والآية الأخرى عبرت عن ذلك في سورة النور بتعبير أوضح فقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} [النور:43]، فقوله: (يزجي) بمعنى: الدفع والتقريب شيئاً فشيئاً، وكأنه يسوق هذا السحاب سوقاً خفيفاً، فأنت لا ترى السحاب تجري وتلتحم بالأخرى فجأة، بل تراها تسير سيراً خفيفاً وكأنها لا تمشي، فقوله تعالى: (يزجي) أي: يدفع برفق شيئاً فشيئاً، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} [النور:43] أي: يجمع بينه سبحانه وتعالى. قوله تعالى: {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا} [النور:43]، وقال في سورة الروم: {وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا} [الروم:48] أي: قطعاً، وهناك ذكر أن هذه القطع تتراكم بعضها فوق بعض، فترى: سحابة فوقها سحابة وفوقها سحابة، ولذلك يقول العلماء: إن السحابات إذا تراكمت بعضها فوق بعض تولد خلالها من الرياح ما يسحب هذه السحاب حتى يرتفع بعضها على بعض ويتجمع ويتكاثف إلى أن تصير كالجبال، لا يراها إلا من ركب الطائرة، فينظر إلى هذه السحابات كالجبال. قال تعالى: {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} [النور:43]، الودق هو المطر ينزل من خلاله. قال تعالى: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ} [النور:43] أي: أن الذي ينزل الثلج والبرد من السحاب إنما هو نوع واحد فقط من السحاب الذي يكون مثل الجبال، أما غيره فينزل الودق ولا ينزل البرد، وهذا يقول به العلماء الذين اكتشفوا ذلك، فقالوا: السحاب الركامي الذي كهيئة الجبال هو وحده الذي ينزل منه قطع البرد، أي: قطع الثلج، أما غيره من السحاب فينزل منه رذاذ، وينزل منه قطرات المطر.

أثر الأمطار في إدخال السرور على الناس

أثر الأمطار في إدخال السرور على الناس يقول سبحانه: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الروم:48] هذه نعمة رب العالمين سبحانه، فالناس إذا كانوا في جدب يطلبون من الله المطر، فيبذر بذره ثم ينتظر رحمة رب العالمين، ومن يذهب إلى البلدان التي يعتمد أهلها على المطر يرى حال الناس ونظرهم إلى السماء راجين نزول القطر من السماء، وينتظرون رحمة الله سبحانه، فينزل المطر من السماء فإذا بالأرض تنبت وتخرج ما أودعه الله سبحانه وتعالى بداخلها، قال تعالى: {إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الروم:48]، أي: إذا أصاب به من يشاء من عباده {إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الروم:48]. وقد جاء حديث في صحيح مسلم يخبرنا فيه النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء من هذه الرحمة العظيمة من فضل الله سبحانه وتعالى، يخبر عن رجل يسير ويرى سحابة فوقه ويسمع فيها صوتاً، اسق أرض فلان -ويسمع الرجل الصوت من السحابة- اسق أرض فلان، فيتعجب هذا الإنسان! وينظر إلى السحابة ويراقبها فإذا بها تسير والرجل يسير وينظر أين ستسقي هذه الأرض، إلى أن رأى السحابة تتجمع في مكان بين مكانين مرتفعين، وتنزل المطر على هذا المكان، فيجتمع المطر في مكان واحد، ثم يسيل كله والرجل يمشي وراءه ويتتبعه حتى وصل إلى أرض إنسان يسقي هذا الماء من ماء المطر، فيذهب إلى صاحب الأرض ويسأله: ما اسمك يا عبد الله؟ يقول: أنا فلان، لم تسألني عن اسمي؟ قال: لأني سمعت في هذه السحابة الذي هذا ماؤها صوتاً يقول: اسق حديقة فلان، فتتبعته فوجدته إلى هنا، ما الذي تصنع فيها؟ يقول الرجل: أما إن قلت لي ذلك، فإني أزرع أرضي وآخذ ما يخرج منها فأقسمه أثلاثاً: ثلثاً أتصدق به، وثلثاً آكل منه أنا وعيالي، والثلث الثالث أجعله في الأرض، فهذا الرجل كان يقسم الأرض بينه وبين ربه سبحانه وبين الأرض نفسها، فثلث يرجعه في الأرض يزرعه مرة أخرى، وثلث ينفقه على الفقراء والمساكين لله عز وجل، وثلث ينفقه على نفسه وعياله، ومن كان بهذا الشأن لا يضيعه الله سبحانه وتعالى، ولقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ما نقص مال من صدقة)، فالله عز وجل جعل له هذه الآية العظيمة؛ ليرينا آية من آياته سبحانه وتعالى. قال تعالى: {فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الروم:48] أي: تأتيهم البشرى فتراهم يفرحون، ويظهر عليهم أثر هذه البشارة من سعادة وفرح.

تفسير قوله تعالى: (وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين)

تفسير قوله تعالى: (وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين) قال تعالى: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} [الروم:49] أي: قبل هذه البشارة وقبل الفرح كانوا منتظرين المطر في عبوس وضيق وكادوا يقنطون، قال تعالى: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ} [الروم:49] أي: من قبل أن ينزل عليهم هذا المطر، وهذه قراءة الجمهور، وقرأها ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب: ((من قبل أن يُنْزَل عليهم من قبله لمبلسين))، وأبلس الإنسان أي: صار يائساً قانطاً، فقوله تعالى: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} [الروم:49] أي: آيسين من هذا المطر، فإذا به ينزل فيفرحون ويستبشرون.

تفسير قوله تعالى: (فانظر إلى آثار رحمة الله)

تفسير قوله تعالى: (فانظر إلى آثار رحمة الله) قال تعالى: {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم:50] أي: انظر إلى الفرج من عند الله، وكيف يفرح العباد بذلك، فإذا فرحوا هلا شكروا الله سبحانه وتعالى أن أعطاهم ذلك، فلا تنس وأنت في غمرة فرحتك بنجاحك، أو برزقٍ أتاك الله عز وجل، أو بثمر أخذته من حديقتك، أو بزرع أخرجه حقلك، لا تنس في أثناء فرحك أن تشكر الله سبحانه، ولا تطغَ ولا تبغِ، ولا تكن من الباطرين الفخورين. قال تعالى: {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الروم:50] على الجمع قراءة ابن عامر، وحفص عن عاصم، وحمزة والكسائي وخلف، وباقي القراء يقرءونها: ((فانظر إلى أَثرِ رحمة الله)) وهو: نتيجة الغيث، ونتيجة رحمة الله سبحانه تبارك وتعالى، والبشرى في وجوه الخلق والزرع والنبات والثمار، وما يخرج لهم من الأرض. وكلمة (رحمت) مكتوبة بالتاء، ولذلك إذا وقف عليها الجمهور يقفون: ((فانظر إلى آثار رحمت)) فيقفون بالتاء، وهي تاء التأنيث هنا، ويقرؤها ابن كثير، وأبو عمرو ويعقوب، والكسائي في الوقف بالهاء {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ} [الروم:50]، والكسائي إذا وقف عليها فإنه يميل فيها ويقول: (رَحْمِةْ). قال تعالى: {كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم:50] أي: انظروا إلى الأرض وقد ماتت وأجدبت، وإذا بالله يهزها ويحييها، وينمي فيها ما كان بداخلها بفضله ورحمته، فإذا رأيت كيف أحيا الله هذه الأرض، أفلا يحييك أنت وأنت منها؟! فالذي أحيا الأرض بعد موتها {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:40]، {بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأحقاف:33]. وقال هنا: إن ذلك الإله العظيم الرب القدير سبحانه وتعالى لقادر على ذلك، {إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم:50]، فهو ليس على إحياء الموتى فقط قادر، بل هو قادر على إحياء الموتى وإماتة الأحياء وعلى كل شيء الله سبحانه وتعالى قدير.

تفسير قوله تعالى: (ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا)

تفسير قوله تعالى: (ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفراً) قال تعالى: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ} [الروم:51]، قوله تعالى هنا: ((رِيحًا)) لا توجد فيها إلا قراءة واحدة فقط وهي: (ريحاً) بالإفراد، و (الرياح) تأتي بالإفراد وبالجمع، و (الريح) هنا: مفردة. وقوله: ((رأوه)) الضمير هنا يجوز أن يكون راجعاً إلى الريح، وكأن الريح التي تسير التراب تختلط به فترى الريح كأن لونها أصفر من التراب، فيكون المعنى: فرأوا الريح، ويحتمل أن يرجع الضمير إلى الأثر، فيكون المعنى: رأوا الأثر من هذه الريح الاصفرار، فإذا بالنبات الأخضر يموت ويذبل ويصبح أصفر بعد ذلك، {فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا} [الروم:51]، ويحتمل أن يرجع إلى السحاب بمعنى: أنهم يعرفون أن السحابة السوداء يوجد فيها الرياح وتنزل المطر، أما السحابة الصفراء فإنها لا تنزل شيئاً، فقوله تعالى: (فرأوه) يحتمل أن يكون عائداً إلى هذه الرياح، أو إلى هذه السحابات والأثر الذي فيها أو إلى الزروع وأثر الاصفرار الذي فيها، فإذا رأوا رياحاً صفراء، أو رأوا سحابات صفراء، أو رأوا الزرع أصفر؛ يئسوا وقنطوا وحزنوا على ذلك، وظلوا من بعده يكفرون. وعجيب جداً حال الإنسان! إذا وجد الرزق والماء والطعام، ووجد من فضل الله ورحمته عليه في الدنيا، فإنه يفخر به، ويرتفع على غيره، ويكفر النعمة ولا يشكر الله سبحانه وتعالى، فإذا ضيق الله عز وجل عليه كفر نعمة الله عليه، وبدأ يشتكي من الله، فينسى أنه أعطاه قبل ذلك، وأنه سيعطيه بعد ذلك، ولكن يضيق سبحانه وتعالى على العبد حتى يلجئه إلى ربه، وحتى يجأر إليه، ويعرف النعم. ولولا أن الإنسان يصاب بشيء من الضيق، لما كان يعرف فضل رحمة رب العالمين سبحانه وتعالى، وانظر لو أن إنساناً في نجاح دائم، لبغى وكفر وشعر أنه لا يحتاج إلى أحد، لكن حين يأتي عليه وقت فيه ضيق، ووقت يرسب فيه، فإنه سيشعر أنه محتاج إلى الله سبحانه وتعالى، ولو أن إنساناً في صحة دائمة، لبغى وكفر وشعر أنه لا يحتاج إلى أحد أيضاً، لكن حين يأتي على الإنسان شيء من المرض فإنه يرجع إلى ربه سبحانه ويشكر هذه النعمة، لذلك يقولون: لا يعرف النعمة إلا فاقدها. فالذي يفقد النعمة يعرف نعمة رب العالمين سبحانه، فمن يتكلم لا يعرف نعمة الله عليه في الكلام إلا حين يفقد صوته، ومنهم من يعرف نعمة الصحة، فإذا أصابه المرض عرف أن هذا المرض شيء حجبه الله عز وجل عنه فترات ولم يشكر ربه سبحانه وتعالى على ذلك، فحين ابتلاه عرف هذا الشيء، والشيء يظهر حسنه ضده، ولذلك قالوا: الضد يظهر حسنه الضد وبضدها تتميز الأشياء فلولا السواد ما عرفت فضل البياض، ولولا المرض ما عرفت فضل الصحة وهكذا، فرحمة رب العالمين عظيمة، يبتلي العبد ويختبره حتى يرجع إليه، فيعطيه الله سبحانه وتعالى، فشكرك لنعمة الله أعظم عند الله من النعمة نفسها التي أنزلها عليك. فالنعمة من الله، والشكر نعمة أخرى من الله أيضاً، ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (ما أنعم الله على عبد من نعمة فشكره عليها، إلا كان شكره عند الله أحب إلى الله من النعمة نفسها)، فالنعمة التي أعطاك الله منه نعمة، والشكر نعمة من الله، هو الذي تفضل عليك بذلك، وأحب النعمتين إلى الله الشكر، فعود نفسك على شكر الله سبحانه، واحمد لله في السراء والضراء، فقد (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتته النعمة قال: الحمد لله رب العالمين)، وإذا حدث شيء وبلاء بالمسلمين قال: (الحمد لله على كل حال)، فحاله دائماً الحمد. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عباده الحامدين الشاكرين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الروم [52 - 54]

تفسير سورة الروم [52 - 54] الموتى لا يسمعون، ومثلهم الصم إذا ولوا مدبرين، وعمي البصائر لا يبصرون الحق، ولا يرى الحق ويتبعه إلا المؤمنون بآيات الله الكونية والشرعية، المستسلمون لأوامره وشريعته.

تفسير قوله تعالى: (فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء)

تفسير قوله تعالى: (فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الروم: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ * اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم:52 - 54]. في هذه الآيات يخبر الله سبحانه وتعالى نبيه صلوات الله وسلامه عليه بأنه لا يقدر على إسماع الموتى إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى. وإسماع الموتى يأتي على معنيين: إما الأموات غير الأحياء، وإما أموات القلوب أحياء الأبدان. والنبي صلى الله عليه وسلم لا يقدر أن يحول الناس من الكفر إلى الإيمان، وإنما الذي يقدر على ذلك هو الله سبحانه وتعالى. فإذا ماتت قلوب الناس لا يقدر النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره على إحياء هذه القلوب، إنما الذي يقدر على ذلك الله سبحانه وتعالى. وهذا هو معنى: لا حول ولا قوة إلا بالله، إذ المعنى لا حيلة لأحد ولا تحول لأحد عن أمر إلى أمر إلا بمشيئة الله سبحانه وتعالى، وقد يشكل على البعض قوله تعالى: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [الروم:52] وكون النبي صلى الله عليه وسلم خاطب قتلى المشركين في بدر وأخبر أنهم يسمعون كلامه! والصحيح أن الموتى على الحقيقة لا يقدر أن يسمعهم لا النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره إلا ما يشاء الله سبحانه، وأن إسماع النبي صلى الله عليه وسلم في يوم بدر لقتلى الكفار وقد ألقوا في قليب بدر ونداءه لهم وهو على رأس القليب: يا فلان، يا فلان، يا فلان، (هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ وتنبيه عمر للنبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ما تسمع من جيف لا تسمع)، وتأكيد النبي صلى الله عليه وسلم سماعهم بقوله: (ما أنتم بأسمع لما أقول منهم) يعني: كما أنكم تسمعونني كذلك هم يسمعون النبي صلى الله عليه وسلم في تأنيبه لهم، وفي تذكيره لهم؛ فهذا كان خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم، إذ العادة ألا يسمع الموتى كما أخبرت الآية إلا أن يشاء الله عز وجل؛ فأسمع الموتى نداء النبي صلى الله عليه وسلم بما يشاء الله سبحانه، وبذلك علم أن الأصل أن الأموات لا يسمعون نداء الأحياء، ولا يخاطبهم الأحياء فيفهمون أو يسمعون ما يقولون، ولكن إذا شاء الله عز وجل كان هذا الأمر. وعلى المعنى الثاني أنهم أموات القلوب، ويكون المعنى أن الكفار الذين ماتت قلوبهم، لم يذكروا الله سبحانه، ولم تنفعهم الموعظة، ولم ينفعهم شيء، وأنه مهما حاول النبي صلوات الله وسلامه عليه إسماعهم وهدايتهم ولم يشأ الله عز وجل لهم الهدى، فإنهم لن يسمعوا ولن يهتدوا. وفي قوله تعالى: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [الروم:52] إخبار أن هؤلاء ماتت قلوبهم فإذا بهم صم بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون وهم لا يعقلون، لا يرجعون قولاً ولا يفهمون ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم، ولعلهم يضحكون ويلعبون ويستهزئون بأشياء ليست محلاً لذلك، ولكن لجهلهم ولغباوة عقولهم، وللطبع والطمس على قلوبهم فإنهم لا يفهمون ما يقوله صلوات الله وسلامه عليه. وكالموتى الصم قال تعالى: {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} [الروم:52] أي: من كان أصم لا يسمع فكيف تسمعه نداءك؟! والمراد هنا الصمم عن سماع الحق، فالمعنى: آذانهم قد صمت عن نداء الحق، فلا يسمعون الحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يعقلون ما آتاهم به من حجج، ويريهم الله الآيات ومع ذلك لا يحاولون أن يعقلوا ما فيها! وأي آية أكبر مما رأوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في إحكام هذا القرآن العظيم وإعجازه؟! وفي قوله سبحانه في هذه السورة الكريمة: {غُلِبَتِ الرُّوم * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم:2 - 3] تحقق ما ظنوه مستحيلاً فوجدوه كما أخبر الله سبحانه ومع ذلك لم يؤمن كبار الكفار! ومن الآيات: ما سألوه من النبي صلى الله عليه وسلم: أن يشق لهم القمر، ووعدوه إن هو فعل ذلك فسوف يؤمنون، (فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يدعو ربه في ليلة من الليالي، ثم يشير إلى القمر بيده صلى الله عليه وسلم فينشق القمر) يقول الله سبحانه عن تلك الآية: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]، فيرون القمر فلقتين، فلقة أمام الجبل وفلقة خلف الجبل، ومع ذلك لا يؤمنون، ماتت قلوبهم فلا حياة لهذه القلوب، وصمت آذانهم فلا يعقلون ما يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم! وبمعنى قوله تعالى: {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} [الروم:52] قوله سبحانه عن هؤلاء: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [البقرة:18]. الإنسان الأصم هو: الأطرش الذي لا يسمع، قوله: (بكمٌ)، أي: لا ينطقون، وقوله: (عُميٌ)، أي: لا ينظرون، فلو أن إنساناً أصم لا يسمع، وأبكم لا ينطق بما يريد، وأعمى لا يبصر، قد اجتمعت فيه هذه الآفات كلها فهو كما قال الله سبحانه: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [الأنفال:22]، فإنه ولا شك يتعذر التواصل معه، فلا ينتفع بشيء، وهؤلاء قد صمت آذانهم فلا يسمعون نداء الحق. وعميت أبصارهم فلا ينظرون إلى الحجج، وذهبت عقولهم فلا يعقلون ولا يفهمون ما يقوله النبي صلوات الله وسلامه عليه، وبكمت ألسنتهم فلا ينطقون بحجة سليمة ولا برأي سديد. وفي قوله تعالى: {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} [الروم:52] قراءتان، الأولى: قراءة الجمهور وهي المتقدمة، وقرأ ابن كثير: (ولا يسمع الصم الدعاء) أي: أن الإنسان الأصم لا يسمع نداء من يناديه، وكيف يسمع وقد صمت أذناه؟! وما يؤكد أن الصمم في قوله تعالى: {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [الروم:52] ليس الصمم في خلقة الأذن، قوله تعالى: {إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [الروم:52] يدبرون عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهم لا يحاولون أن يفهموا أو يسمعوا ما يقوله عليه الصلاة والسلام إذا ناداهم، وليس ذلك فحسب، بل هم كذلك يستغشون ثيابهم، ويجعلون أصابعهم في آذانهم حتى لا يسمعوا منه ما يقول.

تفسير قوله تعالى: (وما أنت بهاد العمي عن ضلالتهم)

تفسير قوله تعالى: (وما أنت بهاد العمي عن ضلالتهم) قال سبحانه: {وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ} [الروم:53] أي: إذا كان العمى الذي هم فيه عمى الضلال فلا تستطيع أن تهديهم، وكيف ستهديهم وقد عميت أبصارهم؟! فكلما أشرت لهم: الطريق هنا وقد أغمضوا أعينهم فأنى يفقهون ما تقول؟ أو يدركوا إشارتك؟ بل قد ولوا مدبرين فطبع الله على قلوبهم. وقوله: {وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ} هذه قراءة الجمهور وقرأها حمزة: (وما أنت تهدي العميَ عن ضلالتهم). ثم أخبر الله أن المؤمنين هم الذين يستفيدون من الآيات فقال سبحانه: {إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} [الروم:53] (إن وإلا) أسلوب قصر، والمعنى: لا تسمع إلا هؤلاء فقط، فالمؤمنون المتقون هم الذين يسمعون منه صلى الله عليه وسلم فيستجيبون، فقوله: {إِنْ تُسْمِعُ} [الروم:53] إن هي النافية والمعنى: ما تسمع، {إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} [الروم:53] فالذين آمنوا، وصدقوا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، واستيقنوا أنه الحق من عند الله، قد سلموا أنفسهم لله سبحانه وتعالى، واستسلموا له، فهو يحكم فيهم بما يشاء ويقضي فيهم بما يريد سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (الله الذي خلقكم من ضعف)

تفسير قوله تعالى: (الله الذي خلقكم من ضعف) ذكر الله مننه على خلقه ونعمه عليهم، وبين مدى حاجتهم إليه فقال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم:54]. قوله: ((اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ)) يدل لفظ الجلالة والفعل الذي يليه على توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية، ويؤكد أن الله الإله المستحق للعبادة وحده لا شريك له، وأنه هو وحده، إذ الخلق مقتضى أنه رب سبحانه وتعالى، ولكونه رباً فهو وحده الذي يخلق، وهو وحده الذي يرزق، وهو وحده الذي ينفع ويضر، ويعطي ويمنع سبحانه وتعالى. وفي الآية إشارة إلى توحيد الرب سبحانه في العبادة، إذ إنه ما دام أن الخالق واحد لا شريك له، فهو وحده الذي يستحق أن يعبد. كما أن قوله سبحانه: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} [الروم:54] يبين المنحنى الذي يعيش فيه الإنسان، فهو في هذا المنحنى بدأ من الصفر، ثم أخذ يكبر شيئاً فشيئاً إلى أن يصل إلى أوج القوة والكمال، ثم بعد ذلك ينحني إلى الأسفل إلى أن يصل إلى الصفر مرة أخرى ويموت الإنسان! فالله خلق الإنسان من ضعف، ثم أوصله إلى القوة، ثم عاد به إلى الضعف مرة أخرى، ولذلك لا ينبغي أن يغتر الإنسان بما أعطاه سبحانه وتعالى في هذه الدنيا، بل لابد أن يستعين بما أعطاه الله سبحانه على طاعته، وما ينفعه في الدنيا وفي الآخرة. أما الإنسان الذي يغتر بما أعطاه الله من قوة، فهو جاهل مغرور لم ينظر إلى غيره، كيف كان في يوم من الأيام صغيراً، ثم صار شاباً، ثم صار شيخاً، وتتابعت مراحل عمر الإنسان لتؤذن برحيله؛ لذا لابد أن يدرك أن الذي فعل بغيره ما فعل الذي يفعل بك ما يفعل بالغير، وقد قالوا: السعيد من وعظ بغيره. وفي قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [الروم:54] قراءتان فقراءة الدوري عن أبي عمرو وخلف بالإدغام: (الله الذي خلقكُّم). وقوله: {مِنْ ضَعْفٍ} [الروم:54] الضعف الأول هي المرحلة التي كان عليها الإنسان في بطن أمه من نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم صار حملاً، وتتبعها مرحلة الطفولة التي تبدأ من نزول الإنسان من بطن أمه صبياً صغيراً إلى أن يكبر ويشب. قوله سبحانه: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} [الروم:54] أي: بعد مرحلتي الجنين والطفولة تأتي مرحلة الشباب والفتوة والاكتمال. ثم قال سبحانه: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} [الروم:54] والضعف الأخير بسبب الشيخوخة والهرم كما بينت الآية. وتنقل الإنسان بين هذه المراحل بدون اختياره يدل أن هناك قدرة مدبرة ذات مشيئة وإرادة، قال تعالى: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الروم:54] سبحانه وتعالى، كما أن ضعف الإنسان ملازم له لا ينفك عنه، فإن كان ضعيفاً فالذي يرزقه هو الله سبحانه وتعالى، وإن كان قوياً فالذي يرزقه هو الله سبحانه وتعالى، ولذا ينبغي على الإنسان أن يكون دائماً وأبداً متوكلاً على ربه سبحانه، وليثق بالرب الذي أطعمه وهو في بطن أمه، وأطعمه وهو صبي صغير، فهو الذي يعطيه حتى يتوفاه سبحانه وتعالى. وقرئت الآية على هذا النحو: (الله الذي خلقكم من ضُعْفٍ ثم جعل من بعد ضُعْفٍ قوة ثم جعل من بعد قوةٍ ضُعْفَاً وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير) وهذه قراءة عاصم، وقراءة عاصم في هذا الموطن بخلاف قراءة حفص، وإن كانت القراءة بالضم هي اختيار حفص عن عاصم، وذكر عن حفص أنه ما خالف عاصماً في شيء إلا في هذه الكلمة لحديث عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها، فكان الأشهر من قراءة حفص عن عاصم: (الله الذي خلقكم من ضُعْفٍ ثم جعل من بعد ضُعْفٍ قوة ثم جعل من بعد قوة ضُعْفَاً وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير)، كما أنها أيضاً قراءة حمزة، وسبب اختيار حفص لهذه القراءة ما رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن عطية العوفي قال: قرأت على عبد الله بن عمر: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ}، فقال ابن عمر رضي الله عنهما: (الله الذي خلقكم من ضُعْفٍ ثم جعل من بعد ضُعْفٍ قوة ثم جعل من بعد قوة ضُعْفاً وشيبة) ثم قال له: قرأتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قرأتها عليّ فأخذ عليّ كما أخذت عليه. فـ عبد الله بن عمر قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم: (الله الذي خلقكم من ضَعْف) فأقرأه النبي صلى الله عليه وسلم: (من ضُعْفٍ) وإن كانت هذه قراءة صحيحة وهذه قراءة صحيحة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بعض أصحابه بقراءة والبعض الآخر بقراءة، والكل كلام رب العالمين سبحانه، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أنزل القرآن على سبعة أحرف)، فكلا القراءتين جائز، ولكن الغرض بيان: سبب اختيار حفص لهذه القراءة على القراءة الأخرى؟ فعلمنا أن اختيارها كان بسبب الحديث المتقدم، والحديث حسنه الترمذي وأيضاً حسنه الألباني. قال العلماء: الضعف يكون بالضم: الضُعف، ويكون بالفتح: الضَعف، على الخلاف الذي بين القراءتين، فالضعف بالفتح يكون في الرأي، وبالضم يكون في الجسد، وهذا صحيح، وإن كان كلٌ منهما يعطي المعنى الآخر، فالمعنى على القراءة بالفتح: كنتم في ضَعف، أي: في العقول وفي الآراء، إذ المعلوم أن الصبي الصغير لا عقل عنده، وإن كان فيه عقل يميز ولكنه لا يكلف بهذا العقل قطعاً؛ لأنه غير سوي وغير مكتمل، وهو ما نعني بالضعف، وعلى ذلك ستخُصَ القوة في قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} [الروم:54] بالقوة في الرأي، والمعنى: صار بالغاً عاقلاً مكلفاً يفهم الأشياء، ذا خبرة في الحياة. ثم بعد ذلك يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً، أي: يصل إلى مرحلة الهرم والشيخوخة ويبدأ عقل الإنسان بالضعف، فما كان يحفظه ينساه، والأشياء التي كان يتذكرها إذا به ينسى الكثير منها، وكان واسعاً في مداركه وتفكيره فإذا به ضيق الأفق، وهو معنى الضعف الثاني على القراءة بالفتح ضعف. وعندما يتأمل المرء في هذه المراحل العجيبة يدرك أنه ينبغي عليه أن يحاول قدر المستطاع أن يستفيد من قوته وشبابه، عملاً بوصية ابن عمر حيث يقول: خذ من قوتك لضعفك، وخذ من صحتك لسقمك، وخذ من حياتك لموتك، ولذا ينبغي على الإنسان أن يستغل فرصة قوته وصحته في عبادة الله سبحانه وتعالى، فإذا كنت في صحة بحيث تقدر على الصلاة قائماً، فأكثر من الصلاة قبل أن يأتي عليك الضعف والمرض فتصلي وأنت قاعد. ومن الفروق بين مرحلتي الضعفين اللذين ذكرهما الله سبحانه، أن الإنسان إذا كان في الضعف الأول وهو صغير يحبه أبوه وتحبه أمه، أما في الضعف الثاني الذي يأتي وهو كبير يضيق به من حوله، لذلك ينبغي على الإنسان أن يكون ودوداً إلفاً مألوفاً، فإذا وصل إلى هذه المرحلة؛ إذا بالناس كلهم يحبونه، ففرق بين إنسان في شبابه مغرور، فهو يغتر على الناس، ويتقوى عليهم بقوته، ويستعرض عليهم بعضلاته، فإذا كبر وشاخ ضاق به الناس وتمنوا موته، وآخر كان ودوداً للناس، خيراً مع الناس، إلفاً مألوفاً؛ فإنه إذا كبر في السن لقي كل من حوله يحبه، والكل يحاولون أن يخدموه، وكذلك الآباء مع أبنائهم فالأب الذي مع أولاده يخدمهم، ويعطف عليهم، ويرحمهم، وملئ بالحنان والشفقة، ويؤدبهم ويعلمهم دين الله سبحانه؛ يطيعه أبناءه في الشيخوخة أتم الطاعة، ويبذلون قصارى جهدهم في خدمته. أما الأب القاسي على أولاده، الذي لا يحبهم، ولا ينفق عليهم، ويؤذيهم ويؤذي أمهم، فإنه إذا وصل إلى الشيخوخة تجدهم كلهم تاركين له، لا أحد يسمع له، وقد يتمنون موته، فالذي قدمه في يوم من الأيام جناه بعد سنين من عمره، أو بعد ما وصل إلى أرذل العمر؛ لذلك قدم لنفسك، ولا تنظر إلى اليوم وانظر إلى الغد ما الذي يكون فيه؟ فالله سبحانه يخلق ما يشاء وهو العليم بخلقه سبحانه، القدير على تغيير أحوالهم {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم:54].

تفسير سورة الروم [50 - 60]

تفسير سورة الروم [50 - 60] بقيام الساعة تنكشف الحقائق، وينجلي الزيف، ويدرك المفتونون عظيم خسارتهم وفداحة جرمهم، فمرة ينكرون طول مكثهم في الدنيا، وأخرى ينكرون شركهم ويقسمون على إنكاره، وثالثة يطلبون العودة حين لا عودة، وهم لا يستعتبون ولا يعتبون، فقد بين الله لهم تمام البيان بكتابه فضرب للناس فيه من كل مثل لعلهم يهتدون، إلا أن قلوبهم طبع عليها بظلمهم فلا تنتفع بالآيات.

تفسير قوله تعالى: (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة)

تفسير قوله تعالى: (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في آخر سورة الروم: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ * فَيَوْمَئِذٍ لا يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ * وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ * كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم:55 - 60]. يذكر الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات أمر الساعة وقيامها، وما الذي يحدث في هذا اليوم العظيم الذي ذكره الله عز وجل في مواضع كثيرة من كتابه، ونزل هذا القرآن العظيم ليحذر الناس من هذا اليوم العظيم، فهو يوم يقومون بين يدي رب العالمين سبحانه ليسألهم: هل عبدوه -وقد أمرهم بعبادته- أو لم يعبدوه؟ وليسألهم: ماذا كنتم تعملون في هذه الحياة الدنيا؟ وحين جاءتكم الآيات هل أخذتموها مأخذ الجد فعملتم بها أم أنكم اتخذتم هذا القرآن وراءكم ظهرياً، وتركتموه وسخرتم بأنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام؟ قال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} [الروم:55] في السياق تفخيم وتهويل لهذا اليوم العظيم، بما يجعل السامع يتسائل: ما الذي يكون يوم تقوم الساعة؟ فيجد الإجابة أمامه: {يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} [الروم:55] حين تأتي على كل إنسان ساعته، وتأتي القيامة الكبرى، فيموت من على هذه الأرض قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن:26] ثم يأمر الله سبحانه بعد ذلك بالنفخ في الصور؛ فيبعثون من القبور ويقفون بين يدي رب العالمين سبحانه تبارك وتعالى، وحينها ينظر الناس في أعمالهم، ويتساءلون عن لبثهم كم كانت مدته؟ قال تعالى: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} [المؤمنون:112] واختلف في السائل، فقيل: يسألهم ربهم سبحانه، وقيل: تسألهم الملائكة، وقيل: يسأل بعضهم بعضاً: كم لبثنا في هذه الحياة الدنيا؟ والأولى حمل الآية على الجميع، وهم حين يسألون: {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} [المؤمنون:112] يجيبون كما ذكر الله عنهم: {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون:113] والعادون: من كانوا يحسبون ويعدون أيامهم ولياليهم، بل ويعدون حتى أنفاسهم، وفي الآية إشارة إلى جهلهم بمدة لبثهم. وفي قوله سبحانه: {يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم:55] يخبر عن المجرمين إذا قاموا من القبور أنهم يقسمون أنهم ما لبثوا غير ساعة، وهذا اللبث إما أن يكون المقصود به في الدنيا كما سئلوا: {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [المؤمنون:112 - 113] أي: على ظهر الدنيا أو في باطنها، فإذا كان يوم القيامة إذا بهم ينظرون إليه أنه لا شيء، وأن لبثهم فوق الأرض -وإن عاش أحدهم ستين سنة أو مائة سنة أو حتى ألف سنة- لا شيء إذا قورن بيوم القيامة، فهو يوم واحد قدره خمسون ألف سنة، فلذلك قالوا: {لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون:113]. ثم يبين الله مدى استحقارهم لتلك الفترة التي لبثوها في الدنيا فيقول سبحانه: {يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ} [الروم:55] إذاً يحلف المجرمون يوم القيامة أنهم ما لبثوا غير ساعة، وهذا في توهمهم وظنهم، وإن كان الأمر أنهم عمروا سنيناً من سنين الدنيا، ولكن لما نظروا إلى طول الموقف قالوا: {لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [المؤمنون:113]، وعلى أن اللبث الذي أخبروا عنه في القبور يكون المعنى: أنهم حين يموتون، ويكونون في القبور، والقبر إما روضة من رياض الجنة وإما حفرة من حفر النار، ثم يقومون منها يقيسون ما كانوا فيه على ما يكون يوم القيامة، فيظنون أن ما فات كان أهون، وأنه كان شيئاً يسيراً، ويزعمون أنهم ما لبثوا في القبور إلا يوماً أو بعض يوم، أو يقولون: ما لبثنا غير ساعة، كما في هذه الآية، وهذا الظن الذي يقسم عليه المجرمون باطل في الحقيقة. والمجرمون هم الذين وقعوا في الجرم، أي: في المعاصي والفواحش الكبرى، ونعتوا بذلك؛ لأنهم عصوا الله سبحانه تبارك وتعالى، وخرجوا عن طاعته وعن دينه، وفي الآية إشارة إلى أنهم يوم القيامة يكونون في حالة ذعر شديد، حتى يقسم أحدهم على الشيء وهو خلاف ما يقسم عليه، قال تعالى: {يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} [الروم:55]. قوله: ((كَذَلِكَ كَانُوا)) الإشارة هنا إلى ما هم فيه من انصراف عن الحق وبعد عن الصواب، والمعنى: كذلك كانوا في الدنيا، فهم كانوا في الدنيا وفي الآخرة على هذا الحال من البعد عن الحق. ومن البعد عن الصواب. وقوله: ((يُؤْفَكُونَ)) يؤفك الإنسان بمعنى: يصرف عن توحيد الله، ويصرف عن الحق، وهو حين ينصرف عن الحق يقع في الكذب، وحديث الإفك أي: حديث الكذب، وإفكهم في الدنيا أي: أنهم كانوا يصرفون عن الخير، ويصرفون عن الصدق، ويبتعدون عن تصديق رسل الله عليهم الصلاة والسلام، فهم كما كانوا في الدنيا منصرفين عن الحق فكذلك يوم القيامة لا ينطقون بشيء ينفعهم، ولا يتكلمون بشيء فيه صواب، فكما صرفوا في الدنيا صرفوا يوم القيامة. فقوله سبحانه: ((كَذَلِكَ)) أي: كذلك الذي تسمع في هذه الآية من أنهم يقولون: لبثنا ساعة، ويقسمون على ذلك، وكذبوا وما صدقوا كما كذبوا الآن وأقسموا وقالوا: والله ما لبثنا في الدنيا إلا ساعة واحدة، فكهذا الكذب كانوا يصرفون في الدنيا عن توحيد الله وعن طاعة الله سبحانه تبارك وتعالى، فيكذبون في الدنيا على الله، وعلى رسل الله عليهم الصلاة والسلام، فكذبوا في الدنيا وكذبوا في الآخرة. بل قام المنافقون بين يدي الله سبحانه تبارك وتعالى يحلفون قال تعالى: {فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} [المجادلة:18]، فهم لجرأتهم يكذبون على الله سبحانه يوم القيامة، والله يملي لهم، ويتركهم ليكذبوا، وذلك ليذوقوا أشد العذاب وأشد الويل يوم القيامة، فيحلفون لله سبحانه كما يحلفون في الدنيا: والله ما عصينا، والله ما أشركنا، والله ما عملنا كذا، قال تعالى: {فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [المجادلة:18]، وقد تركهم الله فحلفوا وتركهم فكذبوا وأخرسهم فنطقت عليهم جوارحهم تكذبهم فبهتوا وخذلوا، فكانوا إلى النار بل إلى الدرك الأسفل من النار والعياذ بالله. وككذب المنافقين وحلفهم يحلف هؤلاء، قال تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23] أي: أنهم عندما يقفون بين يدي الله عز وجل ويسألهم: أأشركتم بي؟ فيقولون: والله ما كنا مشركين، ويحلفون لله سبحانه تبارك وتعالى يوم القيامة ويكذبون ليكون ذلك زيادة في عذابهم يوم القيامة.

تفسير قوله تعالى: (وقال الذين أوتوا العلم والإيمان)

تفسير قوله تعالى: (وقال الذين أوتوا العلم والإيمان) قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الروم:56] أي: أن أهل العلم وأهل الإيمان يوم القيامة من رسل الله عز وجل، ومن أولياء الله، ومن ملائكة وغيرهم يردون على هؤلاء الكذابين فيقولون: {لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} [الروم:56] أي: لبثتم في حكم الله سبحانه إلى يوم البعث، فقد مضت عليكم فترة طويلة، وعشتم في الدنيا سنيناً ثم نقلتم إلى القبور فلبثتم فترة طويلة، حتى بعثكم الله عز وجل الآن. فهم نظروا إلى الفترة التي من ولادتهم إلى أن بعثوا يوم القيامة، فزعموا أنها ساعة واحدة فقط، وقد تكون هذه الفترة آلاف السنين؛ ولذا يجيبهم الذين أوتوا العلم فيقولون: بل إنكم قد لبثتم في حكم الله سبحانه منذ أن خلقتم إلى أن يبعثكم الله سبحانه. قوله: {فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ} [الروم:56] أي: هذا يوم بعث الإنسان، حيث خرج من موت في قبره إلى حياة ونشور، {وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الروم:56] فمع أن الرسل بلغوا هؤلاء المجرمين، وحذروهم من هذا وأقاموا عليهم الحجة كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، إلا أن علمهم كان كلا علم، بل علمهم محصور على ما ذكر سبحانه تبارك وتعالى في أول هذه السورة فقال: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7]، فمع أنهم علموا من الرسل بوقوع يوم القيامة إلا أنهم لم يستيقنوا، ولم يدخل الإيمان في قلوبهم، فكان علمهم كجهل، حيث لم ينتفعوا به، فيكون معنى قوله تعالى: {وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الروم:56] أي: لا تعلمون علماً ينفعكم حيث لم تستيقنوا، ولم تصدقوا الرسل، فكان علمكم معرفة، عرفتم أن هناك يوم قيامة فلم تعملوا له.

تفسير قوله تعالى: (فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم)

تفسير قوله تعالى: (فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم) بين الله عدم جدوى اعتذارهم يوم القيامة فقال سبحانه: {فَيَوْمَئِذٍ} [الروم:57] أي: يوم القيامة، {لا يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [الروم:57]، وقراءة الكوفيين عاصم وحمزة والكسائي وخلف: (لا ينفعُ)، وأما قراءة الباقين فهي: (لا تنفع) على التأنيث، والمعذرة يجوز أن تذكر فيقال: (لا ينفع)، ويجوز أن تؤنث فيقال: (لا تنفع). وإذا كان الاعتذار والاستعتاب والرجوع إلى رب العالمين ينفع الإنسان في الدنيا ولا ينفع في الآخرة؛ لأن الدنيا دار تكليف، أما الآخرة فهي دار جزاء، ولا ينفع أن يقول فيها الإنسان: آمنت وصدقت. فقد صار الغيب شهادة. قوله: {لا يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الروم:57] أي: ظلموا أنفسهم في الدنيا بشركهم بالله سبحانه، وظلموا غيرهم. وقوله: {مَعْذِرَتُهُمْ} [الروم:57] أي: اعتذارهم. {وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [الروم:57] أصل الاستعتاب: طلب إزالة العتب، يستعتب أي: لا يطلب منه إزالة العتب، يقال: استعتبني فأعتبته، يعني: طلب مني إزالة العتب فأزلته عنه، والمعنى: استرضاني فوافقته على ذلك. فهؤلاء لا يستعتبون أي: لا يطلب منهم إزالة غضب الله عليهم بالطاعة، أو لا يطلب منهم ولا يقال لهم: ارضوا ربكم الآن، إذ إن طلب الرضا كان في الدنيا، أما في الآخرة فلا يطلب منهم ذلك، إذ الآخرة ليست بدار تكليف وإنما هي دار جزاء وحساب، فلا ينفعهم فيها الاعتذار، ولا يطلب منهم أن يتوبوا إلى الله، ويرجعوا إليه، ويزيلوا الغضب الذي من الله عليهم.

تفسير قوله تعالى: (ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل)

تفسير قوله تعالى: (ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل) قال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} [الروم:58] بين الله سبحانه تبارك وتعالى هذا القرآن العظيم بكل طريقة من شأنها أن تنفع الإنسان فيفهم ما فيه، وحتى لا يكون له عذر عند الله عز وجل يوم القيامة، فقد ضرب المثل بأقل الأشياء، فذكر البعوضة، وذكر الذبابة، وضرب المثل بأعظم الأشياء فذكر الجبال، وذكر السماوات، وذكر الأرضين، وضرب الأمثلة بالأحياء والأموات، فضرب من كل مثل لعل الناس يتذكرون ويعتبرون، قال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ} [الروم:58].

معنى قوله تعالى: (ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون)

معنى قوله تعالى: (ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون) قوله سبحانه: {وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ} [الروم:58] أي: مما طلبوا من الآيات، والله أعلم سبحانه تبارك وتعالى يعلم، بطبيعة هؤلاء، فكم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم من آية، فقالوا: نريد آية ونؤمن بما أتيتنا به من هذا القرآن، وبأنك رسول رب العالمين، على أن تكون هذه الآية كعصا موسى، أو تحيي الموتى كما كان يصنع عيسى عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، وقد جاءهم بآيات عظيمة صلوات الله وسلامه عليه، ولكن لم تكن هذه الآيات آيات عامة؛ لأنه لو جاء بآية عامة يراها الجميع أمامهم فكذبوا لأتاهم العذاب من عند رب العالمين. فكان يطلع على الآية من الآيات جموع منهم تتراوح بين العشرة والمائة والألف، ولكن لا يطلع عليها جميعهم في وقت واحد، وهذا من رحمة الله سبحانه تبارك وتعالى بهذه الأمة، فمن آياته التي جاء بها صلوات الله وسلامه عليه: أنه شُق القمر بدعائه صلى الله عليه وسلم وبإشارته إليه، فرأى ذلك عشرات من أهل مكة، كما رآها مسافرون كثيرون ورجعوا وأخبروا بذلك ولم يؤمنوا، ولو كانت هذه آية عامة يتحدى بها النبي صلى الله عليه وسلم الجميع ثم كذبوا بعدها؛ لأهلكهم الله سبحانه، ولكن جعلها بالليل يراها البعض ولا يراها الجميع حتى لا يهلكهم جميعهم سبحانه تبارك وتعالى بتكذيبهم. ومن الآيات ما رآه المؤمنون من النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية إذ وضع في البئر سهمه صلوات الله وسلامه عليه، ودعا ربه سبحانه؛ فجاشت البئر بالماء، وشرب منها الجيش كله! وفي غزوة أخرى من غزواته صلى الله عليه وسلم أُتي بكوز ماء لا يكفي لوضوئه صلى الله عليه وسلم فوضع يده في هذا الكوز، فنبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، فشرب الجيش كله مع النبي صلى الله عليه وسلم، وسقوا إبلهم، وتزودوا بهذا الماء الطيب الطاهر في سفرهم! وغيرها من الآيات رأوها من النبي صلوات الله وسلامه عليه، ومع أنها كانت آيات، إلا أن الله لم يعدها من الآيات في قوله تعالى: {وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ} [الروم:58]؛ لأن المراد بالآية هنا هي الآية العامة التي طلبوها كما طلب الحواريون من المسيح عليه الصلاة والسلام أن ينزل عليهم مائدة من السماء، فهم يريدون أن يروا آية عامة، لكن الله منعهم إياها، وجعل القرآن الكريم هو الآية العظمى، أما غيره من الآيات فكان يراها البعض ولا يراها الجميع. ثم يخبر سبحانه بما سيكون منهم لو أعطوا آية عامة وهو أعلم فيقول سبحانه: {وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ} [الروم:58]، فالله رحيم بعباده سبحانه تبارك وتعالى، وهو يعلم أنه لو جاءهم بآية كما طلبوا حيث قالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا} [الإسراء:90 - 92]؛ لكذبوا بها، ولم يؤمنوا، فتكون النتيجة أن يهلكهم الله سبحانه بسبب تكذيبهم. والمبطلون في قوله تعالى: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ} [الروم:58] جمع مبطلٍ والمبطل: هو المتبع للباطل، فيقال: هذا مبطل: كأنه صانع للباطل ومتبع له. كأنهم إذا جاءهم بالآية التي طلبوها سيكذبونه، ويدعون أن ما جاء به سحر كما قالوا في انشقاق القمر، ولذلك الله لم يأتهم بما طلبوا.

تفسير قوله تعالى: (كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون)

تفسير قوله تعالى: (كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون) قال سبحانه: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:59]. قوله: ((كَذَلِكَ)) أي: كهذا الطبع الذي تراه على قلوب هؤلاء فلم يفهموا آيات الله سبحانه، ولم يتدبروا موعظته وكتابه؛ يطبع الله على كل قلب لا يستيقن بالله سبحانه ولا يصدق المرسلين. قال سبحانه: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:59] قوله: (لا يعلمون) أي: الذين لا يعلمون علماً ينفعهم فيتعظون به.

تفسير قوله تعالى: (فاصبر إن وعد الله حق)

تفسير قوله تعالى: (فاصبر إن وعد الله حق) قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم:60] أي: اصبر إذا كذبوك، فـ {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [الروم:60] أي: أن القيامة آتية، والساعة لا ريب فيها. ثم نهاه أن يستخفه المشركون فقال: {وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم:60] الاستخفاف من الخفة، يقال: فلان أغضبني فاستخفني بمعنى: استفزني، فلما استفزني صار بي خفة، وطيش، وتهور، وكأنه يقول: لا تتهور، ولا تطيش، ولا يذهب عقلك بسبب ما يصنع هؤلاء في إجرامهم، فالله سبحانه يثبت النبي صلى الله عليه وسلم ويعظه: ألا تخرج عن حدك، ولا عن طبعك، ولا عن إيمانك العظيم، ولا عن هدوئك الذي أنت فيه، ولا يستخفنك هؤلاء بباطلهم؛ فإنهم لا يوقنون. وهذه الآية قرأها رويس: (ولا يستخفنْك الذين لا يوقنون)، وباقي القراء: ((وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ)) بمعنى: الذين لا يستيقنون بما جاء في هذا الكتاب العظيم.

لقمان

تفسير سورة لقمان [1 - 5] القرآن العظيم كتاب الله تعالى الذي أنزله لهداية الناس، وإقامة الحجة عليهم، ولذلك جاء محكماً في آياته وسوره وتشريعاته وحكمه وكل أموره، فلا عوج ولا خلل فيه، وقد تحدى الله عز وجل به أرباب الفصاحة وجهابذة البلاغة فما وقفوا أمامه، وقد حاء القرآن جديداً في نظمه عما ألفوه، فابتدأ بعض سوره بالحروف المقطعة التي أذهلتهم، وأثارت دهشتهم، وجاء القرآن مبيناً لصفات أهل الإيمان ومرغباً فيها، ومبيناً لصفات أهل النار ومحذراً منها، لكيلا يكون على الناس حجة أمام الله تعالى.

نبذة مختصرة عن سورة لقمان

نبذة مختصرة عن سورة لقمان الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة لقمان: بسم الله الرحمن الرحيم {الم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [لقمان:1 - 5]. هذه السورة هي الحادية والثلاثون من كتاب الله سبحانه وتعالى، وهي سورة لقمان، وآياتها أربع وثلاثون آية، وكلها مكية -وفيها خصائص السور المكية- إلا ثلاث آيات جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها آيات مدنية، منها: قول الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان:27]، وقوله تعالى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان:28]، وباقي آيات السورة مكية.

الكلام حول الحروف المقطعة

الكلام حول الحروف المقطعة وهذه السورة من السور التي بدأها الله سبحانه وتعالى بالحروف المقطعة {الم} [لقمان:1] وقد جاءت هذه الحروف في سورة البقرة، {الم} [البقرة:1]، وآل عمران: {الم} [آل عمران:1]، وكذلك في سورة العنكبوت والروم ولقمان والسجدة فكل هذه السور بدأها الله عز وجل بقوله: ((الم)). وهذه من فواتح السور تحدى الله عز وجل بها الخلق أن يأتوا بمثل هذا القرآن الذي هو من جنس لغتهم ومن جنس كلامهم ومن جنس حروفهم، فهذا القرآن مركب من الحروف التي ينطق بها العرب ويصيغون بها خطبهم وكتاباتهم وأشعارهم، فتحداهم بأن يأتوا بسورة مثل هذا القرآن من مثل هذه الحروف. وقد اختلف المفسرون في معنى هذه الحروف: فمن قائل: إن (الألف) إشارة إلى الله، و (اللام) إشارة إلى اللطيف، و (الميم) إشارة إلى الملك. وهذا ليس عليه دليل مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم يفيد أن هذه إشارات إلى ذلك، ولكن ورد في كلام العرب من يعبر أحياناً بحرف ويقصد به كلمة أو جملة، ولكن هنا لا بد من وجود نص عن النبي صلى الله عليه وسلم يبين أن هذا هو المقصود، وطالما أنه ليس فيه نص، فيبقى هذا على وجه الاحتمال فقط. فهذا احتمال فقط أن يكون إشارة إلى أسماء الله الحسنى، أو إشارة إلى تسمية السورة نفسها، أو أن المقصود جذب انتباههم لسماع القرآن، فعندما يقرأ النبي صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم {الم} [لقمان:1]، ينصتون؛ لأنهم غير معتادين على هذا الكلام، فهو شيء غريب عليهم، فيشد انتباههم لكلامه، فيقرأ عليهم القرآن بعد ذلك.

تفسير قوله تعالى: (تلك آيات الكتاب الحكيم)

تفسير قوله تعالى: (تلك آيات الكتاب الحكيم) قال تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [لقمان:2]، وهذا إشارة إلى هذا القرآن العظيم، وإلى آياته، وعبر باسم الإشارة (تلك) التي يشار بها إلى البعيد، أما لأنه بعيد المكانة أو المنزلة. وقال تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة:2]، يعني: الكتاب الذي في يدك أنت، فهو ليس بعيداً، ولكن المقصود بُعد المكانة وعظمة المنزلة، فعبر باسم الإشارة (ذلك). قال تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2]، وقال هنا: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [لقمان:2]، أي: هذه الآيات العظيمة التي تسمعها هي آيات الكتاب الحكيم. و (الكتاب) هو القرآن، (الحكيم) بمعنى: المحكم، قال تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1]، فالله هو الحكيم، وكتابه الحكيم، والمحكم، تقول: هذا بناء محكم أي: لا خلل فيه ولا ثغرة، فكتاب الله عز وجل عظيم لا خلل فيه، ولو كان فيه شيء يخالف ما يعرفونه من لغتهم أو ما يعرفونه من نظمهم أو ما يعرفونه من إتقان كلامهم لاعترضوا عليه وقالوا: هذا لا يمكن أن يكون كلام رب العالمين سبحانه؛ لأن اللغة التي فيه لغة ركيكة، ولكنهم عرفوا أنه كلام متين وعظيم؛ ولذلك لم يقدروا على قبول التحدي وأن يأتوا بسورة من مثله، وقد ذكر لنا ربنا سبحانه أن هذا القرآن آياته محكمات، أي: حكيمة أحكمها الله سبحانه وتعالى وأتقنها. قال تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [لقمان:2]. وأيضاً: (الحكيم) من الحكمة، أي: أنه يحوي الحكم العظيمة من الرب الحكيم سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (هدى ورحمة للمحسنين)

تفسير قوله تعالى: (هدى ورحمة للمحسنين) قال تعالى: {هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ} [لقمان:3]، بالنصب، وقرأها حمزة بالضم: (هدى ورحمةٌ للمحسنين). فأما معنى النصب فعلى الحال. أي: أنه كتاب حكيم، وحاله أنه هدى، أي: يهدي به الله عز وجل من يشاء من خلقه، وأيضاً حاله أنه رحمة للعالمين وللمحسنين، أي: يرحم الله عز وجل به من يشاء من خلقه، فهو محكم وهو حكيم، فحاله أن فيه الهدى وفيه الرحمة لعباد الله المحسنين. وأما على قراءة حمزة: (هدى ورحمةٌ للمحسنين) فكأنها خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير هو: (هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ) أو أنه خبر ثاني لقوله: (تِلْكَ) فيكون قوله: ((تلك آيات)) مبتدأ وخبر، وقوله: ((هدى)) خبر ثاني لـ (تِلْكَ)، فتقرأ {هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ} [لقمان:3] و ((هدىً ورحمةٌ للمحسنين))، و (المحسنين) جمع المحسن، وهو الإنسان الذي يحسن عمله ويخلصه لله سبحانه، وأفضل ما يفسر به ما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل: (ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك). فالمحسنون هم الذين يعبدون الله سبحانه، ويحسنون في عبادته حتى يصلوا إلى درجة أنهم يستحضرون خشية الله سبحانه، والخوف منه، حتى كأنهم يرونه أمامهم سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (الذين يقيمون الصلاة)

تفسير قوله تعالى: (الذين يقيمون الصلاة) قال تعالى عن صفات هؤلاء المحسنين: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [لقمان:4]، والإحسان درجة عالية، وأقل منها درجة الإسلام، فيكون الإنسان أولاً مسلماً، ثم يرتقي فيكون مؤمناً، ثم يرتقي فيكون محسناً، وقد جاء في حديث جبريل: (الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، قال: فأخبرني عن الإيمان قال: الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره). فالإسلام أعمال يعملها الإنسان، وقد تكون متفقة مع ما في قلب هذا الإنسان، وقد يكون في قلبه شيء آخر غيرها. والإيمان هو الشيء الباطن الذي يطلع عليه الله سبحانه وتعالى، وما كان في باطن الإنسان من خير فهو أعظم من ظاهره؛ لأن الظاهر يحتمل ويحتمل، وأما إذا كان الباطن موافقاً لهذا الظاهر فهذا هو الإيمان. إذاً: المؤمن هو الذي يأتي بأركان الإسلام الظاهرة مع وجود الإيمان في قلبه. وأما المحسن فهو الذي حصل الإيمان والإسلام ووصل لدرجة استحضار خشية الله سبحانه كأنه يراه أمامه سبحانه وتعالى، فهؤلاء المحسنون: مسلمون مؤمنون عابدون لله مخلصون له، كأنهم يرونه سبحانه. ومن أوصفاهم: أنهم يقيمون الصلاة، قال تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [لقمان:4]، يعني: يؤدون الصلاة على الوجه الذي يرضى به الله عز وجل عنهم، وعلى الوجه الذي يحبه سبحانه، فيؤدونها بأركانها وبشروطها، وبهيئاتها وبسننها وبمستحباتها، ويأتون بها على الوجه الذي يرضي ربهم سبحانه وتعالى. وقوله: {يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [لقمان:4] من أقام الشيء بمعنى: رفعه، أي: أن هذه الصلاة ترفع إلى الله سبحانه وتعالى، لا أنها مجرد تأدية ونقر وانتهى الأمر، وإنما هي إقامة لها كما قال تعالى: {يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [لقمان:4]. قال تعالى: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [لقمان:4]، أي: يؤدون هذه الزكاة، والإيتاء: هو الإعطاء، وهو: إخراج المال ودفعه للفقير، والزكاة: إيتاء مال خاص لمستحقه، وهي ليست عوضاً. وهذه الآية وغيرها من الآيات في الأمر بأداء الزكاة وإيتائها تبين خطأ من يقول: إذا كان لشخص على آخر ديناً فلهذا الأخير أن يخصم من الدين مالاً ويقول: هو زكاة المال؛ بل لا بد من إعطائه لمن يستحقه ممن هو من أهل الزكاة؛ ليرفع عنه ما هو فيه من حاجة وفاقة. وقد سميت الزكاة زكاة من زكى الشيء، بمعنى: نما وطهر، فالزكاة تطهير للمال وتنمية له، فأداؤك للزكاة عبارة عن تطهير لنفسك ومالك، وأيضاً تنمية لمالك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما نقص مال من صدقة). قال تعالى: {وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [لقمان:4] أكد ذلك بأم هؤلاء هم بالآخرة هم يوقنون، أي: أن يقينهم بالله عز وجل عظيم وشديد، فهم محسنون ومستحضرون لعظمة الله، ومستحضرون ليوم القيامة، ومن كان مستحضراً ليوم القيامة فلا يقع في خطأ، ولا في الخطيئة، وإذا وقع في شيء من ذلك تاب بسرعة إلى الله عز وجل ورجع إليه؛ لأنه يخاف من الحساب يوم الدين. قال تعالى: {وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [لقمان:4]، فهم ليسوا عارفين فقط، وإنما موقنون، أي: اليقين الذي يدفع للعمل، والإنسان الذي يعرف وجود الله غير الذي يستيقن بوجود الله، فالذي يستيقن بوجود الله يخاف منه سبحانه، ويستحضر عظمته، ويعمل له ويراقبه في كل مكان سبحانه وتعالى؛ لأنه يعلم أن الله معه، وأنه يراقبه وسيحاسبه، فيكون خائفاً من الله عز وجل، هذا هو اليقين بالله سبحانه. وكذلك اليقين باليوم الآخر، فإنه يستحضر طول الموقف بين يدي الله عز وجل، فإذا قام في الصلاة وتعب في قيامه فيها تذكر القيام خمسين ألف سنة يوم القيامة بين يدي الله عز وجل، وإذا شق عليه الصوم في اليوم الحار الشديد الحر وظمأ وعطش وجاع، تذكر يوم القيامة، وتذكر أن الشمس تدنو من رءوس الناس وهم قيام بين يدي الله سبحانه وتعالى، وأنهم يعطشون في هذا اليوم عطشاً شديداً، فذلك اليوم هو يوم العطش الأكبر، وأن الله عز وجل يروي فيه من يشاء من خلقه سبحانه وتعالى، فيخاف من شر ذلك اليوم، ويدفع شره عنه بالعمل الصالح من صلاة وصيام وزكاة، وقد جاء عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: أنه سمع وهو في سفينة صوتاً ينادي عليهم: (يا أهل السفينة! قفوا أخبركم بقضاء قضاه الله على نفسه)، ولم يروه في الظلام فقالوا: (قل: فإنا نسمع، فقال: إن الله قضى على نفسه أنه من عطش نفسه في يوم أو من صام في يوم شديد الحر، كان حقاً على الله أن يرويه في يوم العطش الأكبر) يعني في يوم القيامة. قال تعالى: {أُوْلَئِكَ} [لقمان:5]، أي: الذين يفعلون ذلك، {عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [لقمان:5]، أي: هداهم الله سبحانه وتعالى، والهدى من الله عز وجل، فيهدي من يشاء سبحانه وتعالى متفضلاً عليه، ويضل من يشاء سبحانه، وله الحكم والقضاء والتقدير، وهو الحكم العدل سبحانه. قال تعالى: {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [لقمان:5]، أي: هداهم وبين لهم وأخذ بأيديهم إلى طريق الخير، فكانوا على هدى من ربهم، {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [لقمان:5] والفلاح: النجاح الذي لا خسران بعده أبداً، فهم الذين يفلحون في الآخرة فلا يخسرون أبداً. قال تعالى: {لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62]. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة لقمان الآية [6]

تفسير سورة لقمان الآية [6] حرم الإسلام الغناء الفاحش المصحوب بالآلات الموسيقية؛ لما فيه من فحش وفجور وتكسر ودياثة، ولما فيه من تهييج للغرائز وإثارة للشهوات؛ وقد كان مذموماً حتى في الجاهلية، فلم يكن هناك حر يرضى لنفسه ولا لأهله بذلك، وقد جاء تحريمه في العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وأقوال علماء الأمة، ومن زل منهم في إباحته فقد رد عليه العلماء خلفاً عن سلف، وبينوا عوار قوله، وسوء مقاله، وردوا عليه بالنصوص الواضحة الجلية في هذه المسألة.

تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث)

تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث) الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة لقمان: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان:6]. في هذه الآية من سورة لقمان يخبر الله سبحانه وتعالى عن بعض الناس الذين يشترون لهو الحديث ليضلوا به عن سبيل الله سبحانه وتعالى، وهذا الضلال الذي يضلون به بغير علم، وقعوا فيه بسبب جهلهم بالله سبحانه وتعالى وبدينه، وعدم سماعهم لنصح الناصحين، وعدم تأدبهم بكتاب رب العالمين، ولا بهدي النبي صلوات الله وسلامه عليه؛ بل إنهم يتخذون ما هم فيه من اللهو واللعب حجة لهم فيما يفعلونه من الباطل والمنكر، بدعوى الترويح عن أنفسهم، فإذا استمعوا إلى كتاب الله عز وجل اتخذوا آيات الله هزواً، فيسخرون ويلعبون ويبتعدون عن دين الله سبحانه، قال تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان:6] وفي هذه الآية عموم وهو أنه من اشترى اللهو وترك ذكر الله سبحانه فقد توعده الله سبحانه بالعذاب المهين.

القراءات الواردة في الآية، ومعنى الآية

القراءات الواردة في الآية، ومعنى الآية وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ} [لقمان:6]. هذه قراءة الجمهور، على الفعل الرباعي من أضل، فيكون فعلاً متعدياً، تقول: أضل الإنسان غيره. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ورويس عن يعقوب: (لِيَضِلَّ عن سبيل الله)، من الفعل الثلاثي اللازم، تقول: ضل فلان يضل، وأما الفعل الرباعي فهو أضل يضل. وعلى القراءتين يكون المعنى: أن هؤلاء اشتروا اللهو وطلبوه، إما شراءً حقيقياً، فيدفع فيه الثمن كما هو واضح الآن، وإما في الماضي فقد كان بعض المفسرين يستبعد مسألة الشراء، ويقول: يمكن أن يكون المعنى: يسمع اللهو؛ لأنه لا يمكن أن يشتري اللهو، أما الآن فهو واضح تماماً، فإن الرجل يشتري اللهو في أشرطة التسجيل، ويتفرج على ما فيها من لهو ولعب ومن أشياء حرمها الله سبحانه وتعالى، ويستمع فيها إلى ما حرم الله، وهذا شراء حقيقي يدفع فيه مالاً، ويشتري بهذا المال لهو الحديث؛ لِيَضِلَّ ولِيُضِلَّ عن سبيل الله. والمعنى: كي يضل. فيكون هو في ضلال، ويضل غيره، ويدعوه إلى الضلال وإلى الباطل وإلى المتعة المحرمة.

دلالة الآية على تحريم الغناء

دلالة الآية على تحريم الغناء وهذه الآية واحدة من ثلاث آيات في كتاب الله عز وجل يستدل بها العلماء على المنع من سماع الغناء، إلا فيما أباحه الشرع الحكيم، وهي دليل على تحريم الموسيقى والمعازف، والغناء بهما. والآية الثانية: قول الله عز وجل: {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} [النجم:61]، أي: لاهون لاعبون في غناء ورقص وبعد عن الله سبحانه وتعالى، وعن ذكره سبحانه وتعالى. قال ابن عباس في قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} [النجم:61] هو: الغناء بالحميرية. والآية الثالثة: في سورة الإسراء، قال الله عز وجل لإبليس: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [الإسراء:64]. فإن الشيطان توعد آدم وذريته، وقال للرب سبحانه وتعالى: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا * قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:61 - 62]، فالشيطان توعد آدم أن يحتنك ذريته، أي: يضلها ويستولي عليها إلا القليل منهم، فتوعده الله سبحانه وتعالى بقوله: {قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [الإسراء:63 - 64]. فقال للشيطان: افعل ذلك، وسترى مصيرك وعذابك الذي يكون يوم القيامة، قال تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [الإسراء:64] أي: هذه هي مكائد الشيطان وحيله مع الإنسان، فهو يستفزه بصوته، قال مجاهد: صوت الشيطان: الغناء والمزامير والملاهي، وآلات الرقص وآلات الغناء والموسيقى، يستفز بها الإنسان ليخرجه عن وعيه وعن شعوره، فإذا استمع الإنسان إلى ذلك وغنى وطرب، فلعله يدخل على ذلك شرب الخمر فيها، فيرقص وهو في غاية اللهو واللعب والبعد عن الله سبحانه وتعالى. فهذه ثلاث آيات في كتاب الله عز وجل، ذكر أهل العلم أنها دليل على المنع من الغناء.

الأدلة من السنة على تحريم الغناء

الأدلة من السنة على تحريم الغناء وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم ذكر المعازف وأن الناس سوف يستبيحونها، ففي صحيح البخاري قال صلى الله عليه وسلم: (ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)، ومعنى: يستحلون هذه الأشياء: أنها محرمة فيستبيحونها بعد ذلك بأفعالهم وأقوالهم. والحر: الفرح، أي: يستحلون ذلك، والحرير أي: يلبس الرجال الحرير، ويضربون بالنهي الشرعي عرض الحائط، فيستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف، وقد علموا أن الله عز وجل حرمها، ومع ذلك يستبيحونها إما بفعلهم وإما بقولهم، وكذلك المعازف. يقول الإمام القرطبي رحمه الله: إن هذه الآية نزلت في الغناء، وقد صح ذلك عن ابن مسعود وعن ابن عباس رضي الله عنهما، بل قد أقسم ابن مسعود ثلاث مرات أن هذه الآية نزلت في ذلك، وجاء عن ابن مسعود وابن عباس وجابر بن عبد الله وغيرهم أنهم فسروا هذه الآية بأن المقصود منها: الغناء. يقول الإمام القرطبي: قال أبو الصهباء: سئل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان:6] فقال: الغناء؛ والله الذي لا إله إلا هو.

رأي ابن حزم في الغناء والرد عليه

رأي ابن حزم في الغناء والرد عليه وابن حزم هو الوحيد من العلماء الذي أباح ذلك، فقد أباح الموسيقى، وألف رسالة في الملاهي، وقال: لم يصح شيء من ذلك عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وناقض نفسه في كتابه المحلى، فقد ذكر أن ذلك صح عن ابن مسعود وعن ابن عباس رضي الله عنهما، ثم زعم بعد ذلك أن هذا قول صحابي، وقوله ليس بحجة، وإنما الحجة فيما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتغافل رحمه الله عن أن المفسر إذا ساق سبب النزول فهو قطعي الدخول في الآية، فإذا منع الله عز وجل شيئاً وقال أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الآية نزلت في كذا، وصح ذلك عنه، فكأنه يبين الشيء القطعي الذي يدخل تحت هذه الآية. فقد أقسم ابن مسعود أن هذه الآية نزلت في الغناء والمعازف والملاهي، فعلى ذلك قول ابن حزم: إن هذا قول ابن مسعود وقول ابن عباس خطأ، فإن هذا ليس من قولهما. وإنما قالا: إن الآية نزلت في هذا، ويكفي أن الأئمة الأربعة: أبا حنيفة ومالكاً والشافعي وأحمد مجمعون على المنع من المعازف، وعلى تحريمها. وقد جاء أيضاً عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: الغناء ينبت النفاق في القلب. وقال مجاهد مثل ذلك، وزاد: وإن لهو الحديث في الآية الاستماع إلى الغناء، قال: وإلى مثله من الباطل. وكذلك جاء عن الحسن البصري أنه لما ذكر هذه الآية قال: المعازف والغناء. وقال القاسم بن محمد: الغناء باطل، والباطل في النار. وقال ابن القاسم: سألت مالكاً، فقال: قال الله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} [يونس:32]. أفحق هو؟! قال: لا. فواضح كلام الإمام مالك رحمه الله أنه منع من ذلك. وقد ترجم الإمام البخاري باب: كل لهو باطل إذا شغل عن طاعة الله، ومن قال لصاحبه: تعال أقامرك، وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا} [لقمان:6]. فقوله: (إذا شغل عن طاعة الله عز وجل) قصد به قول الله سبحانه: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [لقمان:6]. وإن كان اللهو بمعنى الغناء إلا أن العبرة بعموم اللفظ، فكل لهو باطل، وكل شيء يصد عن ذكر الله وعن سبيل الله فهو داخل تحت هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان:6].

سبب نزول الآية

سبب نزول الآية كان بعض الكفار إذا سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن يأخذ غيره من الناس ويقول لهم: تعالوا، أنا أحدثكم أحسن من هذا الحديث. وكان منهم رجل من كبار المجرمين من الكفار يقال له: النظر بن الحارث، وقد أنزلت فيه آيات في كتاب الله عز وجل تتوعده على ما كان يصنعه مع النبي صلوات الله وسلامه عليه، وكان قد اشترى كتباً للأعاجم فيها قصص رستم وأسفنديار من ملوك الأعاجم، فكان يجمع المشركين ويحدثهم ويقول: حديثي خير أم حديث محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ فكان يزعم أن حديثه خير من حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان يجتمع الكفار يستمعون له كنوع من العصبية؛ لأنه كافر منهم، وإلا فقد كان سماعهم للقرآن سماعاً آخر، وكان كبيرهم يقول عن هذا القرآن: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر، وقد سمعت الجن هذا القرآن ورجعت إلى قومها تدعوهم إلى دين الله سبحانه وتعالى، وكانوا قبل ذلك شياطين يجولون في الأرض يبحثون عن سبب إلقاء الشهب عليهم من السماء عندما كانوا يسترقون السمع. فالغرض: أن هذا الرجل كان يقول للكفار: تعالوا اسمعوا إلي، ويحدثهم بهذه الأحاديث، ففيه نزل ذلك. ومن ضمن أفعاله: أنه كان يشتري المغنيات، ومهنة الغناء في الجاهلية لم تكن مهنة الأحرار، ولم يكن يوجد حر يرضى لنفسه بذلك، ولا أن يكون صاحب موسيقى ومعازف، ولم تكن امرأة حرة ترضى لنفسها ذلك، وإنما كانت مهنة العبيد والإماء، فكانوا يشترون الأمة من أجل أن تغني، وكانوا يشترون القينات، والقينة: هي الأمة المغنية. وقد كان النضر بن الحارث يشتري المغنيات، فإذا علم أن إنساناً يريد الدخول في الإسلام مع النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى هذه المغنية التي عنده وقال لها: انطلقي إلى فلان! فأطعميه وأسقيه وغنيه. ويقول لهذا الإنسان: هذا خير مما يدعوك إليه محمد صلى الله عليه وسلم. يعني: الغناء والمعازف خير مما يدعوك إليه محمد صلى الله عليه وسلم من الصلاة والصيام، وأن تقاتل بين يديه، فيقول للكافر: أيها الأحسن؟ أن تذهب تصلي وتصوم وتقاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم، أو تسمع الموسيقى والأغاني وأغديك وأعشيك وأسقيك خمراً؟ فينظر الإنسان للشهوة فيذهب معه على هذا الأمر، فنزلت فيه وفي أمثاله هذه الآية. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي رواه الترمذي عن جابر بن عبد الله ورواه ابن ماجة وغيره بمعناه: (لم أنه عن البكاء). وهذا قاله في آخر حياته صلى الله عليه وسلم لما مات ابنه إبراهيم، فقد مات قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشهر أو بأربعة أشهر، فهذا من آخر ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم. فقد بكى النبي صلى الله عليه وسلم لموت ابنه، وكان من الموجودين عبد الرحمن بن عوف، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (أتبكي يا رسول الله؟! قال: إنما هذه رحمة. ثم قال: لم أنه عن البكاء، وإنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نعمة مزمار شيطان ولعب)، أي: إذا حصل للإنسان نعمة من الله فطرب وفعل ما نهى الله عز وجل عنه، أو استمع للنغمات وللموسيقى وطرب ولعب مع الناس ومع الشيطان فصوته هذا أحمق فاجر، قال صلى الله عليه وسلم: (صوت عند نعمة مزمار شيطان ولعب، وقال: وصوت عند مصيبة، خمش وجوه وشق جيوب ورنة شيطان)، أي: إذا مات قريب له رفع صوته ولطم وخمش وجهه، فهذا هو الصوت الفاجر الثاني. فانظر كيف جعل النبي صلى الله عليه وسلم الصوت الذي عند نعمة الإنسان وفرحه، وإتيانه الموسيقى والأغاني واللعب والرقص صوتاً فاجراً أحمقاً، والصوت الثاني: في حالة الموت والبكاء والصراخ والعويل، فهذان صوتان نهى عنهما النبي صلى الله عليه وسلم، وفي حديث آخر أنه سماه: (رنة الشيطان).

أقوال الأئمة الأربعة في تحريم الغناء

أقوال الأئمة الأربعة في تحريم الغناء وقد جاء عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أقوال كثيرة في هذا المعنى، وكذلك جاءت أقوال عن الأئمة رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، كالإمام مالك، والإمام أبي حنيفة، والإمام الشافعي، والإمام أحمد، فقد جاء عنهم تحريم ذلك. قال الإمام القرطبي: قال العلماء بتحريم الغناء الذي تصاحبه الموسيقى، قال: وهو الغناء المعتاد عند المشتهرين به، وهو الذي يحرك النفوس ويبعثها على الهوى والغزل والمجون الذي يحرك الساكن، ويبعث الكامن. فهذا النوع إذا كان في شعر يشبب فيه بذكر النساء، ووصف محاسنهن، وذكر الخمور والمحرمات لا يختلف في تحريمه، والموسيقى والأغاني الآن فيها كل هذا؛ من الكلام على النساء، وأوصافهن، والحب الباطل، والمقصود عند الناس من الحب هو الفجور، فالرجل إذا أحب المرأة فإنه يغازلها ويفجر بها، وهذا هو الحب الذي يقصدونه، ويورون به عن الفجور والوقوع في الزنا، والعياذ بالله! فهم يقولون الآن الكلمة التي شاعت بين الناس: إنه يمارس الحب؛ حتى لا يظهر أمام الناس أنه يفعل الحرام، فيعلفونها بكلمة أخرى من أجل أن يبعدوا الناس عن معرفة شرع رب العالمين سبحانه وتعالى، فهذا مما حرمه الله سبحانه، وضيع الناس فيه أمر الله وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول الإمام القرطبي رحمه الله: فأما ما سلم من ذلك -أي: من غناء ليست فيه معازف وموسيقى، وسلم من هذه الأشياء التي فيها الغزل وذكر النساء، وذكر الحب ونحوه- فيجوز القليل منه. فلا يشغل المسجل طول النهار يسمع أغاني وأناشيد إسلامية، ويترك القرآن والسنة ودروس العلم، ويلهو عن ذلك، ويقول: نسمع أشياء ليست فيها موسيقى؛ فإنه لما أباح العلماء هذا أباحوه على وجه القلة، بشرط ألا يكون مصحوباً بآلات الموسيقى. يقول القرطبي رحمه الله: فأما ما سلم من ذلك، فيجوز القليل منه في أوقات الفرح، كالعرس والعيد، وعند التنشيط على الأعمال الشاقة، كما كان في حفر الخندق، وحدو أنجشة وعامر بن الأكوع، فأما ما ابتدعته الصوفية اليوم -وهذا في زمن القرطبي رحمه الله- يقول: ما ابتدعته الصوفية اليوم، أي: في أيامه، ومن قبل ذلك ابتدعوا الأناشيد الدينية التي فيها المعازف، والتي يقومون ويتقفزون فيها ويرقصون بدعوى الوجد الذي حصل لهم من سماع هذا الشيء، ويهتزون ويرقصون، يقول القرطبي رحمه الله: فأما ما ابتدعته الصوفية اليوم من الإدمان على سماع الأغاني بالآلات المطربة من الشبابات والطرب والمعازف والأوتار فحرام. قال ابن العربي: فأما طبل الحرب فلا حرج فيه، يعني: ما يكون في الحرب من إثارة الناس وتحفيزهم على القتال، يقول: لأنه يقيم النفوس، ويرهب العدو، والدف مباح، والضرب على الدف -يعني: في العيد وفي الفرح- والدف: هو الطار المفتوح من أحد جانبيه، ويجوز الضرب عليه في الفرح وفي العيد. يقول القشيري: ضرب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم يوم دخل المدينة فهم أبو بكر بالزجر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعهن يا أبا أبكر حتى تعلم اليهود أن ديننا فسيح)، وهذا الحديث ليس كما ذكر، وإنما الذي صح فيه الحديث الذي رواه ابن ماجه عن أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر ببعض بيوت المدينة، فإذا هو بجوار -جمع جارية، والجارية: الفتاة الصغيرة السن، أي الطفلة، أو هي التي عمرها عشر سنين أو أقل من ذلك- وهن يضربن بدفهن، ويقلن: نحن جوار من بني النجار يا حبذا محمد من جار). صلوات الله وسلامه عليه، فقد كان المدح والحب للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يعلم الله أني أحبكن). يقول الإمام القرطبي رحمه الله: واشتغاله بالغناء على الدوام سفه ترد به شهادته. قال: فإن لم يدم على ذلك لم ترد الشهادة. وقال الإمام مالك رحمه الله وقد سئل عن ذلك: إنما يفعله عندنا الفساق. فأهل الغناء والمعازف يعتبرهم الإمام مالك فساقاً. وقال أبو الطيب الطبري: أما مالك بن أنس فإنه نهى عن الغناء وعن استماعه. وقال: إذا اشترى جارية ووجدها مغنية كان له ردها بالعيب، وهو مذهب سائر أهل المدينة، يعني: المنع من ذلك. قال: أما مذهب أبي حنيفة فإنه يكره الغناء ويجعل سماع الغناء من الذنوب. وهو مذهب سائر أهل الكوفة، ومنهم إبراهيم النخعي والشعبي وحماد والثوري وغيرهم. وقال الإمام الشافعي: الغناء مكروه يشبه الباطل، ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته. وهذا الغناء هو الذي ليس فيه موسيقى ولا شيء آخر، وإنما غناء فقط، قال: إنه مكروه، ومن ثم الذي يستكثر منه وأصبح يداوم عليه فترد شهادته. قال: ثم ذكروا عن الشافعي رحمه الله فيمن يفعل ذلك، ويكثر منه، قالوا: إنه شدد في ذلك، وذكر أنه من الدياثة، والعياذ بالله! وأما الإمام أحمد رحمه الله فقد جاء عنه أنه سئل عن إنسان يتيم عنده جارية مغنية، إذا باع هذه الجارية على أنها مغنية تباع بثلاثين ألفاً، ولو باعها على أنها ليست مغنية تباع بعشرين ألفاً؟ قال: يبيعها على أنها ساذجة. أي: ليست مغنية. وحرم الزيادة على كونها تتعلم الغناء وتتعلم الطبل والزمر ونحو ذلك. فهؤلاء الأئمة الأربعة أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد منعوا من ذلك، وكلامهم منشور مشهور في المنع والتحريم للغناء، فليتق الله كل إنسان مؤمن يبيح لنفسه ما حرم الله عز وجل في كتابه، وعلى لسان نبيه صلوات الله وسلامه عليه. والله أعلم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة لقمان [6 - 9]

تفسير سورة لقمان [6 - 9] ما أحل الله للناس من شيء إلا وفيه الخير والنفع لهم، وما حرم عليهم من شيء إلا وكان فيه الضر والشر، وإن مما حرم الله على عباده الغناء والموسيقى؛ فإنها تجر إلى سوء الأخلاق، والمعاملة السيئة مع الآخرين، وتؤدي إلى البعد عن الله تعالى والتعلق بها، فيضل الإنسان عن طريق الخير ويضل غيره معه.

حكم الغناء والموسيقى

حكم الغناء والموسيقى الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ * خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [لقمان:6 - 9]. يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات من سورة لقمان: أن من الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم. وصح عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما أن هذه الآية نزلت في الغناء، فقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان:6] هو الغناء والموسيقى والمعازف.

الغناء سبب في الضلال والإضلال

الغناء سبب في الضلال والإضلال قال تعالى: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [لقمان:6] وفي قراءة ((ليَضل عن سبيل الله)) أي: يتبع هذا الطريق ليكون حاله أنه في ضلال عن طريق الله سبحانه، فيضل نفسه ويضل غيره، وهذا معلوم مشاهد فيمن يتعاطى ذلك، والذي يتعامل بالموسيقى والغناء تجد ليله ونهاره ضائعاً، ففي الليل السهر والحفلات والمجون والمعازف والرقص وغيره، وفي النهار النوم والبعد عن الله سبحانه وتعالى، لا شيء يحبه إلا هواه وشهوته، فلا يزال على هذا الأمر حتى يبتعد عن طريق الله سبحانه، فيضل في نفسه ويضل غيره بهذا الذي يصنعه ويفعله. ويتخذ آيات الله سبحانه وسبيله {هُزُوًا}، قال الله سبحانه: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [لقمان:6] أي: بشرائه لهذا اللهو، فكأنه اشترى الدنيا ودفع الثمن الآخرة والدين، فضيع صلاته، وضيع أمر ربه سبحانه وتعالى، فضل في نفسه وأضل غيره بذلك. قال تعالى: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [لقمان:6] وإن زعم أنه على علم، ولكنه علم كلا علم، بل هو علم كجهل، فيتعلم أشياء بعيدة عن أمر الله سبحانه، بل هي مما نهى الله سبحانه وتعالى عنه، فعلى ذلك هو ليس على علم، وليس على هدى من الله، ولم يتعلم لا كتاباً ولا سنة، وإنما تعلم لهواً وباطلاً. قال تعالى: {وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا} [لقمان:6]، الهاء هنا عائدة على سبيل الله عز وجل، والمعنى: ضل هو عن سبيل الله، وأضل غيره عن سبيل الله، واتخذ سبيل الله هزواً، وما تتبع إنسان سبيل الغناء والمعازف ونحوها إلا وكان بعيداً عن أمر الله، ونحن نرى أنه لا يذهب إلى التلفزيون والسينما وغيرها إلا أهل الفسوق والضياع، فيأتي عليه وقت الصلاة وهو ينظر إلى التلفزيون، ولا يؤدي صلاته، فيُضل غيره عن سبيل الله سبحانه وتعالى. وإذا كان هذا الإنسان هو في هذا الضلال، فكيف بمن يُتفرج عليه من ممثلة وممثل، ومغنية ومغنٍ، وعازفة وعازف وغيرهم؟! وكيف تكون حياة هؤلاء؟ بل كيف يكون أكلهم وشربهم في معاصي الله سبحانه وتعالى؟ فطعامهم وشرابهم، وأرزاقهم التي يأخذونها من أجور على باطل يأتونه كلها حرام وإثم، فهؤلاء يَضلون ويُضلون، ويوجهون الناس إلى طريق النار والعياذ بالله، ويحسب أن عمله هذا فن، فيغني الشيء الذي يُعجب به الناس في شهواتهم، ويغني لهم عن الحب والضياع، ويغني لهم في لعن القضاء والقدر وسبه وسب الدهر، وغير ذلك، فيَضلون عن سبيل الله، ويُضلون عن سبيل الله، ولقد سمعنا التي تغني وتقول: قدر أحمق الخطى! وهذا القدر هو قدر الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء:224]، فبعض الشعراء يضل ويبتعد عن طريق الله، ويتكلم في أي شيء، حتى إنه ليذم قضاء الله وقدره سبحانه وتعالى، ولقد سمعنا من يقول: لا أسلم بالمكتوب، ولا أرضى أبيت مغلوباً، يعني: إنه لن يسلم بقدر الله سبحانه، ولن يرضى بقدر الله سبحانه، ثم يأتي المغني فيغني بذلك، فيسمع الناس ويطربون بذلك، وإذا بالناس في ضلال مبين، لا يفهمون كالبهائم، وإذا بهم يرددون هذا الشيء، فإذا أتى على أحدهم قضاء الله عز وجل، أو مصيبة من المصائب، فإذا به يقول: لن أسلم للأمر، والثاني يأتيه مرض من الأمراض ويقول: إنه سيقاوم هذا المرض وسيقضي عليه بالعزيمة والإرادة، وليس عارفاً أين قضاء الله عز وجل وقدره، فهو يريد أن يغلب ويهزم المرض، وقد كان أهل الجاهلية يريدون أن يغالبوا دين الله سبحانه وتعالى، فشن عليهم حسان رضي الله تعالى عنه وقال: زعمت سخينة أن ستغلب ربها وليغلبن مغالب الغلاب فالله سبحانه وتعالى أخبر عن هؤلاء أهل الضلال أنهم يَضلون ويُضلون عن سبيل الله، وكانوا يقولون: الموسيقى فيها خير وشر، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن جمعيها، وانظر إلى الغنى كيف بدأ وإلى أي شيء صار؟! فما كان يقال فيما قبل: فلانة مغنية، وفلانة رقاصة، أو فلان مغن، وفلان رقاص، أما الآن فيقال: مغنية ورقاصة، وتراهم يجلسون مع بعض، ويصلون إلى الفجور والعهر، والبعد عن دين الله سبحانه وتعالى، تتعرى المرأة وتقول: لا يوجد عيب حتى أستره! فيضلون عن سبيل الله، ويُضلون عن سبيل الله، وهذا الذي أداهم إليه هو بعدهم عن دين الله، ومن يفتيهم بأن هذا حلال، أو بأن هذا جائز لا يوجد فيه شيء، أو أن الموسيقى فيها وفيها، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن جميعها لهو، وأنها كلها ممنوعة، إلا ما كان من ضرب بالدف في العرس أو في العيد فقط. وإننا لنرى من الناس اليوم من يتلهى عن أمر الله سبحانه، ويسمع الموسيقى والأغاني حتى تنسيه الهموم والأحزان، ولا يعلم أنها تنسيه الله سبحانه، فترى هذا يسمع عند مذاكرته، وهذا عند عمله، وهذا يزعج غيره، وإذا بالناس يفقد عندهم الدين والرحمة والأخلاق الحسنة، وترى الإنسان يشغل الأغاني ويزعج الجيران ولا يهمه نوم أحد أو مرضه، وقد يقف أمام المسجد وهو على هذا الأمر فلا يستحيي من الله، ولا يستحيي من أحد من الخلق.

حكم الاستهزاء بدين الله وأوليائه

حكم الاستهزاء بدين الله وأوليائه قال سبحانه: {وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا} [لقمان:6]، فقوله: (ويتخذها) قرأها بالنصب حفص عن عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف، ويعقوب، وباقي القراء يقرءونها ((ويتخذُها هزواً)) بالضم على الاستئناف. أما كلمة (هزواً)، فيقرؤها حفص فقط من غير همز، وباقي القراء يقرءونها بالهمز: ((هُزُءاً)) ويقرؤها حمزة (هُزْءاً) وإذا وقف عليها قرأها (هُزاً) أو (هُزْواً). والغرض أن الله سبحانه وتعالى يخبر عمن طريقه اللهو واللعب والتفريط والتضييع أنه يتخذ سبيل الله هزواً ويستهزئ به؛ لأنه يريد من الناس أن يفرحوا به، فيمزح ويضحك كثيراً، ويستهزئ حتى يضحك الناس، ويسخر من أهل الله سبحانه ليضحك الناس عليهم، فيتخذ سبيل الله هزواً، قال الله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان:6]، أي: هم في هوان دائم، فيهينهم الله سبحانه وتعالى كما صنعوا بأوليائه ودينه، ويخزيهم في الدنيا والآخرة، ذل المعصية على وجوههم مهما قالوا: إن لهم المرتبة العالية، أو المرتبة الراقية، فهم يستشعرون الذل في أنفسهم. ولقد اجتمع ذات مرة شخص من هؤلاء مع نقابة الموسيقى، فقال لهم النقيب: نحن فوق الناس، فقال له هذا الرجل: كيف تطرحنا فوق الناس ونحن أقذر خلق الله؟! فهم في أنفسهم يعرفون ما هم فيه من بعد عن الله سبحانه وتعالى، وإن قالوا: نحن أرق الناس حساً، يقول الله تعالى عنهم: {لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان:6]، وهم في أنفسهم يستشعرون هذا الهوان لبعدهم عن ذكر الله، وعن طاعة الله سبحانه وتعالى، ويوم القيامة لهم عذاب مهين بما استهزءوا بدين الله سبحانه وسخروا منه. فالآية وإن كانت نزلت في هذا السبب لكن العبرة بالعموم، فكل من يتلهى عن دين الله سبحانه، ويشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله، وبهدف اللهو واللعب والبعد عن دين الله سبحانه، فهذا له عذاب مهين عند الله سبحانه وتعالى. فليحذر المؤمن أن يضل الخلق عن ربهم سبحانه وتعالى. وانظر إلى واقعنا اليوم، حيث تجد هؤلاء يستقطبون الشباب على المقاهي لشرب الشاي أولاً، ثم يأتي لهم بالشيشة وما شابهها، ثم ينقلهم إلى التلفاز وإظهار الصور العارية، وكل هذا {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}، وأنت ترى المقاهي ملأت الدنيا أكثر من عدد المصانع أو غيرها من الأشياء التي تنفع الناس، فإذا بالإنسان في ضلال دائم، سهر بالليل، ونوم بالنهار، وجيفة بالليل صخاب بالنهار، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

الغناء والموسيقى سبب في الإعراض عن كتاب الله

الغناء والموسيقى سبب في الإعراض عن كتاب الله يقول الله سبحانه وتعالى في هؤلاء: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا} [لقمان:7]، ونرى اليوم كثيراً من الشباب يسمع القرآن بعد قيامه من النوم قليلاً، ثم يجعل يومه كاملاً في بعد عن الله تعالى، ويرى أن الاستمرار عليه من الحزن والكآبة، ولهذا فهو يغير القرآن قاصداً اللهو واللعب، ولا يدري أنه يبتعد عن الله سبحانه بذلك، وهكذا حال الإنسان الذي لا يعرف ربه، إلا إذا نزلت به مصيبة من المصائب. قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا} [لقمان:7] أي: لا يعتبر ولا يتعظ بما يسمع من كلام رب العالمين سبحانه. {كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} [لقمان:7] أي: كأن في أذنيه صمماً فلا يسمع شيئاً من كلام الله سبحانه، يسمع الآية ولا يستحيي ولا يعتبر من كلام رب العالمين سبحانه، ولقد أمر ربنا بالتدبر فقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء:82]. وقوله تعالى: {كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لقمان:7] أي: صار له العذاب المهين، وصار له العذاب الأليم ببعده عن الله سبحانه، وبشرائه اللهو، وضلاله عن سبيل الله سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم وهو العزيز الحكيم)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم وهو العزيز الحكيم) يقول سبحانه في عكس اللاهين المفرطين: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ} [لقمان:8]، وكأن الله يسلي المؤمنين ويصبرهم على هذا الدين، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يأتي على الناس زمان يكون القابض على دينه كالقابض على الجمر)، إذ أن الفتن في كل مكان، وهو متمسك بدينه، ويكاد الشيطان لا يعرف له طريقاً يدخل إليه، فيسلط عليه هذا، ويسلط عليه هذا، وهو متمسك بدينه، وكأنه يحترق في ذلك كالذي يقبض على جمر فيحرق يديه، ولكن تمسكه بدين الله يواسيه في ذلك نظره إلى المستقبل والمآل. فهنا ربنا سبحانه وتعالى يخبر عن هؤلاء المؤمنين أن لهم جنات النعيم، فأنتم أيها المؤمنون لكم عند الله النعيم المقيم، والموسيقى التي تحرم نفسك منها في الدنيا ستسمع أفضل منها في الجنة من أصوات الملائكة وأصوات الحور العين، وأشياء لم تسمع قبل ذلك مثلها أبداً، وما عليك إلا أن تصبر حتى تتعدى هذه الدنيا، والدنيا حقيرة قليلة يسيرة، تجد الإنسان يعيش فيها ستين أو سبعين سنة، ويمر عليه يوم وفاته شريط الذكريات وشريط العمر كأنه يوم أو بعض يوم، وتقعد مع إنسان وهو في آخر حياته، فيحكي لك: كنا نقعد كذا ونعمل كذا، فيفكر بالماضي وكأنه شريط يمر في رأسه، فاحذر من هذه الدنيا، وخذ من شبابك لهرمك، ومن صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك، وحاسب نفسك في هذه الدنيا؛ لأن أمامك الجنة، فأنت مثل إنسان يسير في صحراء وأمامه آبار من المياه فيها كدورة، فصبر نفسه وواساها وأملها بنبع صافٍ يقدم عليه، ومنع نفسه عن الشرب من تلك المياه خوفاً من أن تسممه أو تؤذيه، فلا زال يصبر نفسه شيئاً فشيئاً حتى وصل إلى بر الأمان، وإلى مكان النبع الصافي. كذلك الإنسان المؤمن يصبر نفسه، كما قال الله عز وجل: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} [آل عمران:200]، وكما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم فقال له: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف:28]، وهنا قال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ} [لقمان:8]، أي: الجنة التي يتنعمون فيها بنعم الله سبحانه، وبفضله عليهم. قال تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا} [لقمان:9] وهنا يوجهك الله إلى مقارنة بين الدنيا والآخرة، وأنه مهما كان في الدنيا من لهو ولعب فإنه لن يدوم، فمصائب الدنيا وابتلاءاتها كثيرة، أما يوم القيامة في جنة الخلد فلا بلاء ولا خوف ولا حزن ولا تعب ولا نصب ولا مرض، ولا شيء مما يكدر على الإنسان أيامه ولياليه. يقول الله سبحانه: {خَالِدِينَ فِيهَا} [لقمان:9] أي: لن يخرجوا من الجنة أبداً، {وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا} [لقمان:9]، أي: هذا وعد، وليس هو وعد المخلوق، بل وعد الخالق سبحانه وتعالى، القادر على الوفاء. يقول سبحانه: {وَهُوَ الْعَزِيزُ} [لقمان:9]، أي: الغالب المنيع الجانب سبحانه تبارك وتعالى، {الْحَكِيمُ} [لقمان:9] أي: الذي له الحكمة في أن حرم هذه الأشياء وإن اشتهتها نفوس الناس، فالشخص يشتهي أن يسمع الموسيقى، أو يسمع الغناء، فيأتي حكم الله بأن هذا ممنوع في الدنيا وهو لك في الجنة، والشخص في الدنيا يريد أن يلبس الحرير، أو يلبس الذهب، فيقال له: ممنوع عليك في الدنيا، وفي الجنة ستلبسها، ويحذره بقوله: لو لبستها في الدنيا لضاعت عليك في الجنة، ولو استمعت لهذا الشيء في الدنيا لم تستمع له في الجنة، فيقارن الإنسان المؤمن بين هذه الدنيا الفانية وبين الجنة التي فيها النعيم المقيم، فيختار الباقية على الفانية. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، والبعد عن محارمه. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة لقمان [10 - 11]

تفسير سورة لقمان [10 - 11] في هذه الآيات يخبر الله سبحانه عن عظمته وقدرته، وأنه خلق السماوات من غير أعمدة، ووضع في باطن الأرض وظاهرها جبالاً خشية أن تضطرب الأرض بسكانها، وخلق فيها من كل دابة سواء علمها الإنسان أو لم يعلمها، وأنزل من السماء ماء فأنبت به كل نوع طيب، فهذا هو خلق الله وحده فأين خلق الآلهة التي يعبدونها من دون الله؟ لا يوجد لها أي خلق، فدل هذا على أن من عبدها من دون الله فهو ظالم لنفسه، حيث عبد من لا يستحق العبادة وترك عبادة من يستحق العبادة.

تفسير قوله تعالى: (خلق السموات بغير عمد ترونها)

تفسير قوله تعالى: (خلق السموات بغير عمد ترونها) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة لقمان: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ * هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [لقمان:10 - 11]. يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن قدرته العظيمة، وعن آياته في هذا الكون، التي يجب على كل إنسان عاقل أن ينظر فيها، وأن يتأملها؛ ليعرف قدرة الله سبحانه وتعالى، وليستيقن من عظمته سبحانه، وتقديره لكل شيء. قال الله: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [لقمان:10] آية من آيات الله سبحانه، أن رفع هذه الكواكب، والشمس، والقمر، والنجوم، وغيرها من أفلاك، ورفع المجرات في هذا الفضاء العظيم بغير عمد ترونها. فليس هناك عمود تراه بين السماء والأرض يرفع الله عليه السماء، أو يضع عليه الأرض، ولكن كل شيء في فلكه يدور بأمر الله وقضائه، وقدره، وبحكمته، وحكمه، وإتقانه، وبديع صنعته سبحانه وتعالى. وكلمة (تَرَوْنَهَا) إما أن المحل فيها على الكسر فتكون وصفاً لما قبلها، فيكون قوله: (بِغَيْرِ عَمَدٍ) أي: بغير أعمدة تَرَوْنَهَا، فيكون المعنى على ذلك، هناك أعمدة غير مرئية، لا ترونها أنتم. وهذا ما يسميه علماء الفلك: قوة التجاذب بين الكواكب، وبين المجرات، وبين الشمس والقمر، فكأنه يخرج من مركز الشمس مع القمر ومع المجموعة الشمسية التي حولها أعمدة من التجاذب لا يراها الإنسان، فهذه مجذوبة إلى هذه، في فلكها تدور، فيدور القمر حول الأرض، والقمر والأرض مع بعضهما يدوران حول الشمس مع باقي مجموعة الكواكب الشمسية التي تدور حولها مرتبطة بها، لا تنفك عن جاذبيتها، فكأن معنى (بغير عمد): ليس هناك أعمدة كالتي تتخيلونها، عموداً بين الأرض وبين السقف، يرتفع عليه السقف، فترى عموداً، فليس الأمر كذلك، ولكنه شيء آخر من قدرة الله سبحانه، جعله من تجاذب بين هذه مع هذه، فلو زادت كمية الجذب لدخلت المجموعة الشمسية بداخل الشمس فأحرقتها، ولو ضعف هذا التجاذب لابتعدت عنها، وتاهت في الفضاء، وضاعت، ولما لم يحدث شيء من ذلك دل على قدرة الله العظيمة في ربط هذه الأشياء بعضها ببعض، هذا على النطاق الضيق. والمجرات مليارات، وكل منها يحتوي على مليارات المليارات من الشموس والأقمار والنجوم، وكلها تدور في هذا الفضاء الواسع العظيم، فيرينا الله سبحانه آياته العظيمة، فلا توجد أعمدة مرئية كالتي تتخيلها، ولكن الله يخلق ما يشاء مما لا ترون يجذب هذه إلى هذه، فتدور هذه حول هذه، ويحرك هذه بطريقة، وهذه بطريقة، وكل في فلك يسبحون في هذا الكون العظيم. إذاً قوله سبحانه: {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [لقمان:10] جملة (تَرَوْنَهَا) إما أنها وصف للأعمدة، أي: بغير عمد مرئية، أو هي على الحال من السموات، فيكون المعنى: خلق السموات حال كونكم ترونها بغير عمد، أي: لا أعمدة حقيقة موجودة فيما بينها، وكلا المعنيين صحيح. فليست أعمدة على الوجه الذي نعرفه ونتخيله، أنك ترفع سقفاً وتضع أربعة أعمدة حتى تضع عليه السقف، فليس الأمر كذلك أبداً، بل إن الله سبحانه وتعالى خلقها بنظام معين، من قوة شد وجذب بين هذه الكواكب، الله قدرها وخلقها سبحانه وتعالى على غير ما تعرفه أنت مما اعتدت عليه.

عظمة خلق الله تعالى للأرض

عظمة خلق الله تعالى للأرض {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ} [لقمان:10] والتعبير بـ (في)، غير التعبير بـ (على)، فقوله: (وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ) الرواسي فوق الأرض، ولكن الباحثين في علوم الأرض وطبقاتها يقولون: الجبل ليس فوق الأرض، الجبل جزء منه فوق الأرض وباقي الجبل تحت الأرض، فخمس الجبل فوق الأرض وأربعة أخماس الجبل تحت الأرض. فالتعبير القرآني العظيم حين يعبر عن الجبال أنها أوتاد للأرض: {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [لقمان:10] هو تعبير عظيم ودقيق يذهل ويعجز العلماء حين ينظرون فيه. فالجبال داخل الأرض وفوق الأرض، وصفة هذه الجبال أنها أوتاد -جمع وتد- والوتد هو الذي تجعله للخيمة، فتدق في الأرض أعمدة من خشب تجعلها وتداً في الأرض، وتربط فيها الخيمة حتى لا تميل ولا تتحرك. كذلك الجبال تثبت الأرض بعضها في بعض، والقشرة الأرضية العليا التي قد يكون سمكها من خمسمائة متر إلى الألف والألفين متر تحتها سوائل منصهرة في باطن الأرض، وفيها مياه جوفية، وفيها أشياء لو لم توجد الجبال لاضطربت الأرض ومالت القشرة الأرضية كالسفينة على الماء. ولكن الله عز وجل ثبت هذه القشرة العليا في باطن الأرض بهذه الجبال الرواسي، فتتحرك الأرض وتدور حول نفسها، وتجري الأرض بحسب ما قدر الله عز وجل لها، ولا يحدث اهتزاز أو تحرك، والإنسان يركب حافلة مثلاً، ويشعر بأن الحافلة تتحرك، أما في حال دوران الأرض فلا يشعر بها، مع أن الأرض تتحرك بسرعة أعظم بكثير من سرعة القطار ومن سرعة الحافلة. قال هنا سبحانه وتعالى: {أَنْ تَمِيدَ بِكْم} [لقمان:10] أي: لئلا، أي: كراهة أن تميد، والميد: هو الاضطراب، ومعنى تمور الأرض وتميد: تضطرب وتتحرك، كما تضطرب السفينة فوق الماء، فلم يجعل الله الأرض على هذا الحال، ولكنه ثبتها لكم لتستقروا فوقها بفضله وقدرته العظيمة سبحانه. {وَبَثَّ} [لقمان:10] أي: نشر سبحانه وتعالى. {فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} [لقمان:10] ويخلق ما لا تعلمون، فقد بث في الأرض من كل دابة سواء اكتشفتم هذه الدواب أو لم تكتشفوها التي جعلها الله عز وجل على الأرض. والإنسان قد أوتي من العلم شيئاً، ويظن أنه عرف كل شيء، وهو يجهل أشياء كثيرة موجودة على الأرض، ويجهل الحكمة من خلق الله عز وجل لهذه الأشياء، ولكن الله سبحانه لا يخلق شيئاً إلا بعلم وبحكمة سبحانه وتعالى. وقد تكلمنا في سورة العنكبوت عن حشرة ضعيفة صغيرة ذكرها الله عز وجل، قال الله: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} [العنكبوت:41] وهذه الحشرة التي يحتقرها الإنسان يقول بعض العلماء: إنه لو انقرضت هذه الحشرة من على وجه الأرض لفني الإنسان، فلا يكون للإنسان بقاء مع عدم وجود هذه الحشرة، وكأن هذه الحشرة تقضي على أعداء للإنسان لا يقدر على القضاء عليها، والإنسان لا يدري ولا يعرف؛ بل إنه يحتقر هذه الحشرة. وكذلك النملة التي تقرص الإنسان ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن قتل النمل، وإذا كانت مؤذية فاقتل ما يؤذيك، ودع ما لا يؤذيك، فيقول العلماء: إن هذه النملة نافعة جداً للإنسان، تنفعه وتقضي على حشرات معينة لا يقدر على القضاء عليها. ولذلك ذكرنا أنهم في اليمن يبيعون النمل، يأخذونه من الغابات بفروع الأشجار، وينقلون هذه الفروع على الجمال من الغابة إلى مكان البيع في السوق، ليأخذها أصحاب حقول الموالح، ليضعوا هذه الفروع في أشجار الموالح التابعة لهم، فيصعد النمل على الأشجار ويقضي على ميكروبات أو جراثيم معينة موجودة تتلف الموالح: البرتقال واليوسف أفندي وغيرها مما يأكله الإنسان، فالنملة نافعة للإنسان، وحين نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها كان كثير من الناس لا يدرون ما الحكمة في ذلك، وأنت قد لا تعرف، ولكن غيرك يعرف، وعلم الله فوق كل ذي علم سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:8] فكل شيء له حكمة، والله عز وجل لم يخلق الذبابة عبثاً، ولم يضرب المثل بالبعوضة عبثاً، ولكن الله عز وجل يخلق الدواب ويضرب بها الأمثال، ليريك آيته وقدرته، فهل تقدر أن تصنع مثل ذلك؟ فانظر إلى آيات الله في خلقه من أصغر الأشياء إلى أكبر الأشياء! والبعوضة الصغيرة التي يقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26]، التي تطير فيضربها الإنسان بيده ليقتلها، هذه البعوضة التي تؤذي الإنسان وتقرصه عندما يتأملها العلماء يقولون عنها لها تقريباً ستة وثلاثون عيناً، فهي تنظر بنظر عجيب جداً، وترى ما حولها من كل مكان. والإنسان لا يقدر أن ينظر إلا إلى أمامه، أو يحرك عينه لليمين والشمال وفوق وتحت، لكن البعوضة تستطيع أن ترى ثلاثمائة وستين درجة، وكيف تقرص الإنسان هذه البعوضة؟ أنت عندما تذهب لتضرب إبرة تكون خائفاً وتقول: ضع لي شيئاً قبل أن تعطيني الإبرة، والبعوضة قبل أن تقرصك تبحث عن العرق الذي فيه دم؛ من أجل أن تسحبه، فترش قليلاً من البنج، وهو سائل موجود في داخلها، ثم تنزل إبرتها وأنت لا تحس بها، لكن تحس بشفط الدم، واللسعة تشعر بها وقت خروج الدم منك ودخوله في البعوضة، أما وخز الإبرة فلا تشعر بها، وأمهر مخلوق يضرب الإبر هي البعوضة. والجاهل لا يعرف شيئاً، فالبعوضة تأتي أمامه فيغتاظ: لماذا خلقها الله مع أنها تؤذينا?! والعالم يتأمل البعوضة ويشرحها، فالبعوضة لها أربعون ضرساً وأنت معك ستة وثلاثون ضرساً، فسبحان الخلاق العظيم! حيث يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً} [البقرة:26] لأنها خلق عظيم من خلق الله لا تقدر أنت ولا غيرك، ولو اجتمعت الإنس والجن على أن يخلقوا شيئاً ما استطاعوا أن يوجدوا ولا أقل الأشياء التي خلقها الله سبحانه وتعالى. فهنا يقول الله: أنه بث في الأرض من كل دابة، والدابة هي التي تدب على الأرض، وكل ما يدب على الأرض يسمى دابة سواء كان يمشي برجليه أو يطير بجناحيه. قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [لقمان:10] وقد عبر سبحانه وتعالى بنون العظمة هنا. فقوله: (خَلَقَ) الضمير عائد على الله سبحانه وتعالى، (وألقى) الضمير يعود على الله سبحانه وتعالى في الأرض رواسي أن تميد بكم، (وبث) ستجد الضمائر كلها عائدة على الله سبحانه وتعالى على الإفراد، وفي قوله: (وَأَنزَلْنَا) عبر بنون العظمة سبحانه وتعالى، وكأن هذه الأشياء السابقة لا يجرؤ الإنسان أن يقول فيها شيئاً، فلا يجرؤ أن يقول: أنا أخلق سموات، أو أنا أخلق أرضاً كهذه الأرض، أو أنا أخلق جبالاً، لا يقدر الإنسان أن يقول ذلك. وكأن الإنسان قد يتبجح ويقول: أنا سأنزل من السماء ماء، أنا سأوجه السحاب من مكان إلى مكان، وعندما تأتي سأفجر فيها بقنبلة أو بمدفع أو شيء آخر فتنزل الماء، وقد أراد الإنسان أن يصنع ذلك، وإذا بنون العظمة تقول: لا، لن تستطيع، فنحن الذين نتحكم في ذلك، لا تقدر أنت على ذلك، فالله وحده هو القادر على أن ينزل من السماء ماء، ويرسل الرياح فتثير سحاباً فيسيره الله سبحانه وتعالى إلى أي مكان شاء، ثم يقول له: كن فيكون، فينزل من السماء هذا الماء الذي يغيث الله عز وجل به عباده، فإذا بالعباد لا يملكون إلا أن يتضرعوا عندما يعجزون وييأسون: لم نستطع أن نحضر ماء، حركنا السحاب من مكان إلى مكان فلم نستطيع، انتظرنا حتى تأتي سحابة مليئة بالماء وفجرناها بقنبلة وبغيرها، ولم ينزل أي شيء، ولما نزل نزل رذاذ ولم نستفد منه، فعرفوا أنهم لا يقدرون على شيء فرجعوا إلى الله وقالوا: يا رب! ووقفوا يصلون صلاة استسقاء يطلبون من الله عز وجل أن ينزل عليهم من السماء ماء. قال تعالى: (وأنزلنا) فعبر بنون العظمة هنا، وكل أفعال الله سبحانه وتعالى عظيمة. قال تعالى: {فَأَنْبَتْنَا} [لقمان:10] عبر بنون العظمة أيضاً؛ لأن الإنسان قد يتبجح ويقول: أنا زرعت هذه الأرض، فالله سبحانه وتعالى هو الذي أوجد لك غذاءك وكساءك وماءك وشرابك، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ} [الواقعة:68 - 69] من الذي أنزل الماء من السماء؟! {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} [الواقعة:63 - 65]، فالله عز وجل هو القادر على كل شيء سبحانه. فهنا قال: {فَأَنْبَتْنَا} [لقمان:10] وهناك قال: {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} [الواقعة:64 - 65]، والإنسان يرى نفسه أنه يزرع، ولكن هل الفعل الذي فعلته هو الذي شق هذه الحبة التي في الأرض، وهو الذي أنبت بذرها، وأخرج ساقها، وأخرج ورقها، وأخرج ثمارها؟ A لا، فما أنت إلا سبب من الأسباب. قد تبذر الحب وقد لا تبذر، فتأتي الرياح على حبوب موجودة في مكان فتذروه الرياح فيطير ويقع على الأرض، فينزل المطر فيخرج من الأرض سنابل بقدرة الله سبحانه وتعالى، فالإنسان يجب عليه أن ينظر إلى نفسه أنه سبب من الأسباب، وأنه ليس خالقاً يخلق، وليس هو الذي يخرج الزرع وإنما الذي يخرجه هو الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} [لقمان:10] أي: أنبتنا في الأرض من كل زوج أي: من كل صنف، ومن كل نوع، ومن كل ما يشتهيه الإنسان من طعام، (كريم) وصفه الله عز وجل بأنه كريم، والكريم عكسه: اللئيم، فالزرع الذي ينبت لئيماً لا ينتفع به الإنسان، ويكون خبيثاً، و

تفسير قوله تعالى: (هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه)

تفسير قوله تعالى: (هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه) قال تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} [لقمان:11] أي: هذا الذي أراكم الله سبحانه هو خلقه البديع العظيم، {فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان:11]. والسورة مكية، والسور المكية تهتم بجانب التوحيد والعقيدة، وأن الله سبحانه وتعالى هو الخالق الذي يستحق أن يعبد وحده لا شريك له، كما تهتم بتوحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية. وتوحيد الربوبية: هو أنه لا رب إلا الله، ومقتضى ربوبيته أنه يخلق ويرزق، وينفع، ويضر، ويعطي، ويمنع، ويفعل ما يشاء سبحانه، والإله مقتضى ألوهيته أن يعبد سبحانه، لذلك يقرن بين الاثنين ليبين أن الرب هو وحده الذي يستحق أن يكون إلهاً معبوداً. والمشركون لم يتكلموا في أمر الربوبية، فلم ينكروا ربوبية الله سبحانه وتعالى، ولم يقولوا: نحن نخلق، ونحن نرزق؛ بل إنهم نسبوا الخلق والرزق لله سبحانه. لكن إذا قيل لهم من تعبدون؟ {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} [الشعراء:71]، نعبد أوثاناً صنعناها لتقربنا إلى الله، فالله عز وجل يقول: هذه الأوثان والأصنام هل خلقت؟! هل رزقت؟! هل خلقت السموات والأرض؟! أو أخرجت لكم غذاء أو ماء؟ فإذا كانت لا تفعل فلم تعبدوها؟ ولم تتوجهون إليها بالعبادة وتزعموا أنها آلهة؟! قال سبحانه: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} [لقمان:11] أي: هذا الخلق الذي خلقه هو الرب وهو الله سبحانه المستحق للتأليه، المستحق للعبادة. {فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان:11] والذين من دون الله هي هذه الآلهة التي تعبدونها، أي شيء خلقت؟ ثم أضرب عن هذا وقال: {بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [لقمان:11] فقد ظلموا أنفسهم، وظلموا غيرهم، فاعتقدوا غير ما هو حق، عرفوا الحق فأعرضوا عنه، وإذا بهم يعطون صفات الله عز وجل لغير الله سبحانه، فظلموا وبهتوا، ووقعوا في هذا الباطل الشنيع العظيم، فوصفهم بأنه ظالمون، والظلم هنا هو الظلم الأكبر وهو: الكفر بالله سبحانه وتعالى. والظلم: هو أن يضع الإنسان الشيء في غير مكانه، فإذا بهم بدلاً من أن يصرفوا العبادة لصاحبها صرفوها لغير صاحبها، وقد ضرب يحيى بن زكريا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام مثلاً للناس في أمر الشرك بالله سبحانه وتعالى: كمثل رجل بنى بيتاً وجعل حانوتاً واشترى عبداً بماله، وقال للعبد: هذا بيتي وهذا عملي، اعمل هنا وضع هنا، أي: اعمل في دكاني، وهات الأجر وضعه هنا في البيت، والبيت والدكان والعبد ملك لصاحبه، فإذا بهذا العبد يعمل في هذا المحل، ويعطي المال لإنسان آخر، فهل هناك أحد يرضى أن يعمل عبده في ماله ويعطي الربح لغير صاحبه؟ الإنسان لا يرضى بذلك، ويقول: هذا ظلم، فكيف إذا كان الأمر لكم قلتم: هذا ظلم؟ وإذا كان لله جعلتموه من الحق، وجعلتموه من العدل؟ فالله هو الذي خلقكم سبحانه، وسخر لكم ما في الأرض، وأنعم عليكم بنعمه، فإذا بكم تتوجهون إلى غيره بالعبادة، كعبد السوء هذا. فالله سبحانه وتعالى يقول: {بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ} [لقمان:11] وإذا تاه الإنسان وابتعد عن الحق فقد وقع في الضلال. وضل الإنسان بمعنى: تاه، فهؤلاء تائهون متحيرون، ابتعدوا عن ربهم سبحانه وتعالى، ولم يعرفوا الحق، أو عرفوا فأنكروا، فكانوا في ضلال مبين، ومعنى (مبين): بين واضح. نسأل الله عز وجل أن يهدينا صراطه المستقيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة لقمان الآية [12]

تفسير سورة لقمان الآية [12] إن لله سبحانه وتعالى نعماً على عباده لا تعد ولا تحصى، منها: الحكمة والتسديد في المنطق والرأي، فهذه نعمة ما بعدها نعمة، ولا بد من شكرها حتى تبقى وتدوم، وليس الشكر لحاجة الله إليه؛ فهو سبحانه لا تنفعه طاعة الطائع ولا تضره معصية العاصي، وإنما من شكر فإنما يشكر لنفسه، ومن كفر فلن يضر الله شيئاً، وإنما جنى على نفسه، وسيعرف شناعة وبشاعة هذه الجريمة يوم تبلى السرائر ويظهر المخفي في الضمائر، وممن أعطاهم الله تعالى الحكمة فشكروه عليها لقمان الحكيم رضي الله عنه.

ما جاء في صلاح لقمان وحكمته

ما جاء في صلاح لقمان وحكمته بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان:12]. يذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات أنه قد آتى لقمان الحكمة، ولقمان رجل من الصالحين، جعله الله عز وجل حكيماً من الحكماء وعالماً من العلماء، ولم يجعله نبياً من الأنبياء، فقد كان لقمان عبداً من العبيد، والنبوة لا تكون إلا لإنسان حر. فقد جعله الله عز وجل حكيماً، وآتاه الحكمة فينطق لسانه بها، وقد سميت السورة باسمه: سورة لقمان. قال سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} [لقمان:12] كان لقمان من أهل مصر من سودانهم، وكأن مصر والسودان كانتا شيئاً واحداً، فالجنوب من مصر هو السودان، فكانوا يقولون: هذا من سودان مصر، أي: من جنوبها. يقول سعيد بن المسيب: كان لقمان أسود من سودان مصر، أعطاه الله تعالى الحكمة ومنعه النبوة، وعلى هذا جمهور أهل التأويل، أي: أنه كان ولياً من أولياء الله سبحانه وتعالى، حكيماً من الحكماء، ولم يكن نبياً من الأنبياء، والله يعطي فضله من يشاء، يجعل من يشاء نبياً ويجعل من يشاء ولياً، فيجعل من يشاء على ما يشاء تبارك وتعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة:54]، فقد آتى لقمان الحكمة، فكان رجلاً حكيماً بحكمة الله تبارك وتعالى. قالوا: كان يقضي في بني إسرائيل، إذاً: فهو في عصر بني إسرائيل، وكان يقضي بينهم بالحكمة التي أعطاه الله تبارك وتعالى. ومعنى قضاؤه بينهم: أن يأتي إليه الناس يسألونه فيفصل ويقضي بينهم بحكمته، وبما أعطاه الله تبارك وتعالى من فقه ودين وعقل. وكانت لـ لقمان الحكيم حكم عظيمة وكثيرة جداً، ذكر أهل التفسير بعضها، وذكر لنا ربنا تبارك وتعالى في هذه الآيات ما يدل على ذلك.

أمر الله تعالى للقمان بالشكر

أمر الله تعالى للقمان بالشكر يقول سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} [لقمان:12] يعني: بما آتيناك من حكمة فاشكر لربك سبحانه عليها، وكل إنسان يعطيه الله سبحانه من نعمه ما يشاء، فالفرض على كل عبد من العبيد أن يشكر ربه على نعمه العظيمة. وكل نعم الله عظيمة، ومن أفضلها على العبد أن يجعله حكيماً، وأن يؤتيه العلم والسداد والحكمة؛ ولذلك قال ربنا سبحانه: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة:269] أي: من يؤت الحكمة فينطق بها، ويتفكر ويتعقل في الكلام وفيما خلق له، هذا من فضل الله عز وجل عليه. وقوله سبحانه: (أن اشكر لله) بكسر النون هذه قراءة عاصم التي نقرؤها وكذلك قراءة البصريين أبي عمرو ويعقوب، وهي قراءة حمزة، وباقي القراء يقرءونها: (أنُ اشكر لله) بضم النون. قوله سبحانه: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} [لقمان:12] وذلك لأن الإنسان إذا شكر لله عز وجل فسيحصل على الزيادة كما قال سبحانه: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7] فكلما شكرت الله كلما أعطاك زيادة عن هذا الذي شكرته عليه؛ لذلك كانت التجارة مع الله سبحانه رابحة فكلما أعطاك نعمة وقلت: الحمد لله، زادك الله عليها من فضله. فالإنسان الذي يفتح الله عز وجل عليه بالعلم يجب عليه أن يشكر ربه سبحانه على هذه النعمة العظيمة، التي يحتاج إلى أن يثبتها الله تبارك وتعالى له عنده، وأن يزيده منها؛ ولذلك علم الله النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو ربه بقوله: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114]. فقد أعطاه الله عز وجل النبوة والرسالة والحكم والحكمة والعلم عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك أمره أن يسأل فوق ذلك وأن يستزيد، فالإنسان الذي يتعلم لا يشبع من علم أبداً؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اثنان لا يشبعان: طالب علم وطالب دنيا) فطالب العلم لا يشبع من العلم، وطالب الدنيا لا يشبع من الدنيا. فلذلك الذي يؤتيه الله عز وجل العلم والحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً من فضل الله ومن رحمته سبحانه. وقوله سبحانه: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} [لقمان:12] أي: الذي يشكر فشكره عائد إلى نفسه، أي: فضل هذا الشكر وثوابه يرجع إلى هذا العبد ولن ينتفع الله تبارك وتعالى منه شيئاً. فالذي يعبد ربه هو الذي ينتفع، أما الله عز وجل فهو غني عن العالمين سبحانه، فلم يخلق العباد لحاجته إليهم سبحانه، ولكن لحاجة العباد إليه عز وجل، خلقهم لمقتضى رحمته؛ أي: ليرحمهم تبارك وتعالى، وليظهر فضله وعظمته وقدرته تبارك وتعالى. وقد أوجد الله العباد ليعبدوه سبحانه، كما قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]؛ أي: ليكونوا عباداً له تبارك وتعالى، فينعم عليهم بفضله وبرحمته سبحانه.

تخيير لقمان بين النبوة والحكمة

تخيير لقمان بين النبوة والحكمة ومما جاء عن لقمان أنه خير بين النبوة والحكمة كما يقول قتادة: خير الله تعالى لقمان بين النبوة والحكمة، فاختار الحكمة على النبوة، وهذا عجيب؛ لأن الإنسان إذا خير بين مرتبتين إحداهما أعلى من الأخرى فالمفترض أن يختار المرتبة العالية، فلم اختار لقمان المرتبة الدنيا؟ فلما سئل لقمان عن ذلك، أي: قيل له: كيف اخترت الحكمة على النبوة وقد خيرك ربك؟ فقال: إنه لو أرسل إلي بالنبوة عزمة لرجوت فيها العون منه، ولكنه خيرني فخفت أن أضعف عن النبوة. وهذه من حكمته، وهذا من الله عز وجل قضاء وقدر، والله علم ذلك، أي: أن هذا يصلح له أن يكون حكيماً لا نبياً. إذاً: فخيره الله فكان من حكمته أن اختار لنفسه ما وفقه الله عز وجل إليه، أي: اختار الحكمة، وترك النبوة، وكأنه قال: لو طلبت النبوة فلعلي لا أعان عليها؛ فسأختار ما هو أقل؛ ولذلك لما خير نبينا صلوات الله وسلامه عليه بين أن يكون ملكاً نبياً وأن يكون عبداً نبياً صلوات الله وسلامه عليه، فإذا به ينظر إلى جبريل وكأنه يقول له: ما الأمر؟ أو ما الذي أختاره؟ هل أكون ملكاً نبياً أم عبداً نبياً؟ فأشار إليه جبريل بيده أن تواضع، فاختار النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون عبداً نبياً؛ ولذلك كان يجلس صلى الله عليه وسلم جلسة المتخشع المتذلل بين يدي ربه سبحانه وتعالى، ويأكل على الأرض عليه الصلاة والسلام ويقول: (إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله)، ويقول: (آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد)، صلوات الله وسلامه عليه. ولو جعله الله عز وجل ملكاً نبياً كما جعل داود وكما جعل سليمان عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام لكان كذلك عليه الصلاة والسلام، ولكن لما خير فاختار الأقل عليه الصلاة والسلام رفعه الله عز وجل بذلك فوق جميع خلقه.

صنعة لقمان وصفته

صنعة لقمان وصفته اختلف في صنعة لقمان الحكيم، أي: ماذا كان يعمل؟ و A أنه كان عبداً نوبياً خياطاً، وقال سعيد بن المسيب: كان خياطاً، وكان رجلاً أسود. فاستغرب رجل قوله: أنه كان أسود، فقال سعيد بن المسيب لهذا الرجل: لا تحزن من أنك أسود؛ فإنه كان من خير الناس ثلاثة من السودان، أي: ثلاثة سود كانوا من خير الناس. فلون الإنسان ليس مقياساً على قلبه، فقد يكون فلان أسود اللون أبيض القلب، وعظيم العمل وأرفع درجة عند الله، وقد يكون آخر أبيض اللون أسود القلب، بل من أفسد خلق الله تبارك وتعالى، فاللون ليس مقياساً على ما في القلب، فيقول سعيد بن المسيب لهذا الرجل: لا تحزن من أنك أسود؛ فإنه كان من خير الناس ثلاثة من السودان: بلال ومهجع مولى عمر ولقمان. فهؤلاء ثلاثة كانوا سوداً ومع ذلك كانوا من خير الناس. أما الأول: فهو بلال مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكم عانى وقاسى من أهل الجاهلية، من عذاب وجر على الأرض ووضع للصخر على صدره في اليوم الحار القائض، مع سحبه على رمال الصحراء، ومع هذا كله تزيد قوة إيمانه ويقول: أحد أحد. فهذا بلال رضي الله تبارك وتعالى عنه، والأحاديث في فضله كثيرة، وهو يأتي يوم القيامة أرفع الناس عنقاً؛ لأنه مؤذن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه. وأما الثاني: فهو مهجع مولى عمر رضي الله عنه، وكان عبداً أعتقه عمر رضي الله عنه، وكان أسود شديد السواد. وكان أول شهيد يوم بدر رضي الله عنه، وكان شديداً مقاتلاً عظيماً، لم يكن يهرب عن القتال وإنما يقدم عليه ويقول للناس: أنا مهجع وإلى ربي أرجع، ثم يقاتل ويقدم ويضرب ويقتل الأعداء، حتى قتل شهيداً رضي الله عنه. وأما الثالث: فهو لقمان الحكيم رضي الله عنه، ومما جاء عنه: أنه كان يحتطب كل يوم لمولاه. وذات مرة كان رجل ينظر إلى سواده ويتعجب من شدته، فقال له: إن كنت تراني غليظ الشفتين، فإنه يخرج من بينهما كلام رقيق، أي: لا تعجب من منظري، أو من شفتي أنها غليظة، ولكن انظر إلى الكلام الذي يخرج منها، ثم يقول له لقمان: وإن كنت تراني أسود فقلبي أبيض.

سبب رفعة لقمان وعلو منزلته

سبب رفعة لقمان وعلو منزلته قيل: كان لقمان راعياً، فرآه رجل كان يعرفه قبل ذلك، فقال: ألست عبد بني فلان؟ أي: أما زلت عبداً عند بني فلان؟ فقال: بلى فقال: فما بلغ بك إلى ما أرى؟ أي: ما الذي جعل الناس يلتفون حولك، ويتعلمون منك وقد كنت عبداً من العبيد؟ فقال له لقمان: قدر الله، وأداء الأمانة، وصدق الحديث، وترك ما لا يعنيني، وهذه من الحكمة التي آتاه الله سبحانه وتعالى، فالإنسان الذي يؤتى الحكمة يجعله الله عز وجل يتأمل في ذلك ويحاول أن يقرب من مثل هذه الأخلاق العظيمة بمجاهدة نفسه. وما في قلب الإنسان يخرج من لسانه؛ ولذلك كانوا يقولون: إن قلب العاقل أمام لسانه، ولسان الأحمق أمام قلبه. فالإنسان العاقل قلبه كالحجر أمام لسانه، فإذا أراد اللسان أن يتكلم أحاط به القلب، أما الأحمق فقلبه وراء لسانه، كلما انفعل القلب خرج أثره على اللسان، فيقول لقمان رضي الله عنه: إن الذي بلغ به إلى ما يراه هذا الآخر ويتعجب من أمره قدر الله، ولا شك أن كل شيء بقضاء الله وقدره. فنستفيد من هذا: وجوب معرفة الفضل لصاحبه، فلم يقل لقمان: أنا الذي وصلت لذلك بنفسي، وإنما أشعره أن الله سبحانه وتعالى بفضله هو الذي أوصله إلى ذلك. ثم ذكر طرفاً من الأخلاق التي كان عليها فقال: وأدائي الأمانة، أي: أديت أمانة الله عز وجل التي أمرت بأدائها، فأديت ما علمت من العلم، وأعطيت الناس حقوقهم، وعلمتهم ما أرادوا مني بأمانة. ثم قال: وصدق الحديث، أي: أنه كان صادق الحديث، وكلما كان الإنسان صادق الحديث كلما أعطاه الله عز وجل من العلم والحكمة ما يشاء سبحانه، فيجاهد الإنسان نفسه بالامتناع عن الكذب، فيكون صادقاً في كلامه ومصيباً في رأيه واختياره. ثم قال لقمان: وترك ما لا يعنيني، وهذا من أهم ما يوصل الإنسان إلى رضا الله تبارك وتعالى، أي: ألا يتدخل فيما لا يعنيه، كما قالوا: ما لا يَعنيك يُعنيك، فالإنسان الذي يتدخل فيما لا يعنيه يتعب نفسه من غير فائدة. فالذي يتدخل في كل شيء لن يصل إلى كل شيء، لكنه يتعب نفسه في هذه الأشياء كلها ولن يصل إلى شيء، لكن العاقل هو الذي ينظر فيما ينفعه في دنياه وأخراه، فيؤتيه الله عز وجل الحكمة في ذلك وفي غيره.

أطيب ما في الإنسان وأخبث ما فيه

أطيب ما في الإنسان وأخبث ما فيه مما جاء عن خالد الربعي أنه قال: كان لقمان نجاراً فقال له سيده: اذبح لي شاة، وأتني بأطيبها مضغتين، فأتاه باللسان والقلب، فقال له: ما كان فيها شيء أطيب من هذين؟ فسكت، ثم أمره بذبح شاة أخرى ثم قال له: ألق بأخبثها مضغتين، فألقى اللسان والقلب! فقال له: أمرتك أن تأتيني بأطيب مضغتين فأتيتني باللسان والقلب، وأمرتك أن تلقي أخبثها فألقيت اللسان والقلب، فكأنه يقول: ما الحكمة في ذلك؟ و A أن الإنسان أطيب ما فيه لسانه وقلبه وهما أخبث ما فيه. فصاحب اللسان الطيب لا يخرج منه إلا الكلام الطيب، وكل إناء بما فيه ينضح، فاللسان دليل على ما في قلب الإنسان؛ لذلك قال لقمان رضي الله عنه: ليس شيء أطيب منهما -أي: القلب واللسان- إذا طابا، ولا أخبث منهما إذا خبثا. وهذا مصداق لما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)، فقلب الإنسان إذا صلح صلحت سائر جوارحه، وإذا فسد فسدت سائر جوارحه. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً: (من وقاه الله شر اثنتين ولج الجنة، ما بين لحييه ورجليه)، يقصد لسانه وفرجه، فإذا وقى الله سبحانه الإنسان شر لسانه وفرجه استحق أن يكون من أهل الجنة. فاللسان قد يكب الإنسان على منخره في النار والعياذ بالله؛ ولذلك جاء في حديث معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم). وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين)، وهذا من أثر اللسان، والمجاهر فسر بقوله عليه الصلاة والسلام: (وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر ربه)، فهذا المجاهر، السبب في أنه استحق عذاب الله عز وجل لسانه، فلعله عمل معصية فبات عليها، ولو أنه قام فتاب إلى الله سبحانه لتاب الله عليه، لكنه ذهب قائلاً: يا فلان عملت البارحة كذا، كأنه يفتخر بهذه المعصية فيجاهر بها، فاستحق عذاب الله سبحانه فلا يعافيه الله؛ لأنه فضح نفسه، فكان اللسان آفته فأوقعه في النار والعياذ بالله. وقد قيل لـ لقمان أي الناس شر؟ قال: الذي لا يبالي إن رآه الناس مسيئاً. وهذا هو معنى ما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين)، فالإنسان الذي يسيء ولا يبالي ليس عنده حياء، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)، وليس المعنى: أنه أمر بفعل ما يشتهيه من لا حياء له، لكنه تهديد، أي: أن اعمل وأنت قليل الحياء وانتظر عقوبة الله وناره يوم القيامة.

من حكم لقمان رحمه الله

من حكم لقمان رحمه الله قال وهب بن منبه: قرأت من حكمة لقمان أرجح من عشرة آلاف باب، يعني: أن من الكلام الحكيم الذي قاله لقمان ما جاء في كتب السابقين فقرأ وهب بن منبه منها أشياء من حكمته.

الصمت حكمة وقليل فاعله

الصمت حكمة وقليل فاعله مما جاء عنه: أنه دخل على داود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام وهو يسرد الدروع، وكان سيدنا داود عليه الصلاة والسلام ملكاً من الملوك ونبياً من الأنبياء، وكان مع ذلك لا يأكل إلا من عمل يده، فعلمه الله عز وجل صنعة الدروع التي يتقى بها الأعداء، وهي ما يلبسه الإنسان ليتقي بها الحرب، فدخل عليه لقمان وهو يسرد الدروع، أي: يصنعها، وقد لين الله تعالى له الحديد كالطين، فأسال له عين القطر وألان له الحديد، فإذا به يصنع الدروع بسهولة ويسر، فنظر إليه لقمان وهو يصنع، وكأنه يقول: يا ترى ما الذي يعمله داود عليه الصلاة والسلام؟ فأراد أن يسأله فأدركته الحكمة فسكت، ونستفيد من هذا: أنه ليس كلما رأى الإنسان حاجة يقول: ما هذه؟ بل اصبر قليلاً حتى تعرف، فلعل هذا الذي يصنع شيئاً يقول لك: هذا كذا، فهذا لقمان الحكيم أراد أن يسأل داود عن الذي يعمله ولكن أدركته حكمته فأمسك رضي الله عنه. فلما أتم صناعتها داود عليه الصلاة والسلام لبسها، أي: لبس الثوب الحديد، ففهم لقمان أن هذا ثوب يلبسه الإنسان يتقي به عدوه، ثم قال داود: نعم لبوس الحرب أنت، فلبسه داود وتكلم عليه الصلاة والسلام. فقال لقمان: الصمت حكمة، وقليل فاعله، فقال له داود: بحق ما سميت حكيماً. فيصبر الإنسان قليلاً ثم سيعرف الأمر الذي فيه، لكن الإنسان عجول كما قال الله: {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء:37] فيتعجل الإنسان فيضيع حكماً كثيرة، وعادة الإنسان أنه ملول، فإذا وجد إنساناً عجولاً مل منه وتركه وانصرف، وإذا وجد إنساناً صبوراً أعطاه وعلمه.

صبر ابن عباس وتأنيه في العلم

صبر ابن عباس وتأنيه في العلم ولذلك وصل ابن عباس رضي الله عنه إلى ما وصل إليه من العلم بصبره وحكمته رضي الله تبارك وتعالى عنه، فلم يقل: أنا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، علموني وأعطوني كذا، ولو قال ذلك فلعلهم يعلمونه ويعطونه لفضله ولقربه من النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه تأدب متعلماً، فأذل نفسه متعلماً فصار حبراً عالماً رضي الله تبارك وتعالى عنه، فكان يعرف أن حديثاً عند أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيذهب إليه في وقت الضحى، ويجلس عند بابه وينتظر حتى يخرج هذا الصحابي الفاضل، فإذا خرج سأله عبد الله بن عباس عن هذا الحديث. فيقول الصحابي: لو طرقت علي بابي؟ قال ابن عباس: لا، ولكن هكذا يتعلم العلم، أي: لا أطرق بابك بل أنتظر حتى أن تقول لي هذا الشيء، فهذا عبد الله بن عباس رضي الله تبارك وتعالى عنه الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمه الله التأويل ويفقهه في الدين، يريد العلم خلال فترة طويلة. وهو مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقريب منه، وهو يعرف أن عمر يعرف حديث المرأتين اللتين تظاهرتا على النبي صلى الله عليه وسلم، واللتان نزل فيهما قول الله عز وجل: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} [التحريم:4]. وكانتا السبب في أن النبي صلى الله عليه وسلم آلى من نسائه عليه الصلاة والسلام شهراً كاملاً، فإذا بـ ابن عباس ينتظر فرصة مناسبة من عمر، طال الوقت وهو ينتظر، حتى مر في سفر مع عمر رضي الله فسأله وهو يوضيه فقال: من المرأتان اللتان تظاهرتا على النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: ويحك يا ابن عباس! وذلك أن ابن عباس أخبره أنه بقي فترة طويلة منتظراً فرصة مناسبة ليسأل فيها عمر رضي الله عنه، حتى أخبره عمر بالحديث الطويل في ذلك. فالإنسان عندما يتأنى تكون السلامة في تأنيه، وعندما يتعجل تكون العجلة سبباً في تضييعه أشياء كثيرة قد يحتاجها، وهذا لقمان صبر فتعلم رضي الله تبارك وتعالى عنه.

وجوب شكر النعم والتحذير من كفرها

وجوب شكر النعم والتحذير من كفرها قال الله سبحانه: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان:12]. شكر الله عز وجل عكسه عدم الشكر وهو الكفر، أي: أن يكفر الإنسان النعمة. وعندما ينعم الله على العبد بنعمة هناك من يستقل هذه النعمة، ويقول: ربنا ما أنعم علي، ربنا ما أعطاني، ربنا حرمني، لماذا ربنا أعطى فلان وما أعطاني؟ فهذا يكفر نعم الله تبارك وتعالى عليه، فإذا شكرت أظهرت نعم الله عليك، فتقول: ربنا أنعم علي، ربنا أعطاني الكثير من فضله سبحانه فيزيدك الله. وقوله سبحانه: {وَمَنْ كَفَرَ} [لقمان:12] الكفر بمعنى الستر، والله ينعم على بعض العبيد فيجحد النعم ويسترها بقوله: ما أعطاني الله شيئاً، فهذا من الكفر، والمقصود به كفر نعم الله سبحانه. قال الله: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان:12] أي: إن الله غني عن عباده وعن شكرهم، وليس محتاجاً لشكرهم؛ ولذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تبارك وتعالى: يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي: لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً). فتقوى العباد لا تزيد ربنا شيئاً، وفجورهم لا ينقص شيئاً من ربنا تبارك وتعالى، ولكن الله يريد رحمة عباده، وأن يظهر مقتضى حلمه ورحمته وفضله وقوته وقدرته، فخلق العباد ليظهر قدرته سبحانه وعظمته. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة لقمان [13 - 15]

تفسير سورة لقمان [13 - 15] أمر الإسلام بالنصيحة وعظم شأنها، وجعلها الدين كله، وأعظم النصيحة نصيحة الأب لابنه في طاعة الله عز وجل وتقواه، وهذا فرض عليه من الله تعالى، فعلى الأب أن ينصح ابنه، ويوجهه نحو طاعة الله عز وجل، وما ينفعه في دينه ودنياه، ومن أعظم هذه النصائح ما سجله القرآن الكريم في هذه الآيات من نصيحة لقمان لابنه، ففيها النصح بكل خير، والبعد عن كل شر.

تفسير قوله تعالى: (وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه)

تفسير قوله تعالى: (وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة لقمان: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ * وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان:13 - 15]، يذكر الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات من مواعظ لقمان الحكيم لابنه، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ} [لقمان:13] وفرض على الأب أن ينصح أبناءه، وأن يعظهم ويذكرهم بالله سبحانه تبارك وتعالى.

النهي عن الشرك بالله سبحانه وتعالى

النهي عن الشرك بالله سبحانه وتعالى نصح الأب لابنه ما قصه ربنا سبحانه وتعالى علينا في هذه الآيات، وهذا لم يذكره الله عز وجل هنا لنسمعه ونضيعه، ولكنه ذكره لنا لنسمعه ونعيه ونفعل مثل ذلك، ولنقتدي بهذا الرجل الفاضل الحكيم رضي الله عنه، ونقول كما قال ونعظ أبناءنا وأهلنا ومن يلزمنا وعظهم، فننصح ونذكرهم بالله سبحانه وتعالى، فننصح الناس الأقربين ثم الأبعدين، وننصح من استطعنا أن ننصحه، وأول وأعظم ما ننصح به هو تقوى الله سبحانه وتعالى والبعد عن الشرك به سبحانه، وقد كان هذا أول نصائح لقمان لابنه، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]. فوعظه في أمر الشرك، وكأن في هذا إشارة -كما قال بعض المفسرين- إلى أن ابنه كان على شيء من الشرك، أو أنه كان مشركاً كافراً، فوعظه ونصحه حتى دخل في دين الله سبحانه وتعالى. والله أعلم. فقال له: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} [لقمان:13] فنهاه عن الشرك بالله. أن ابنه كان مسلماً فوعظه لقمان ونصحه أن يداوم على ما هو فيه من توحيد الله سبحانه، وحذره من الشرك بالله سبحانه وتعالى، فالله أعلم بأمره.

القراءات الواردة في هذه الآية

القراءات الواردة في هذه الآية قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ} [لقمان:13] (وهو) في كل القرآن تقرأ على وجهين: (وَهُوَ) وهي قراءة الجمهور. (وَهْوَ) وهي قراءة قالون عن نافع وقراءة أبي جعفر وأبي عمرو والكسائي. وقوله تعالى: {يَا بُنَيَّ} [لقمان:13] تكررت هذه الكلمة ثلاث مرات في هذه الآية وما يليها فقال تعالى: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} [لقمان:13] وقال: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ} [لقمان:17] وقال: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} [لقمان:16] فتكررت ثلاث مرات هنا. وقوله تعالى: (يا بُنَيَّ) تصغير ابن، والتصغير إما أن يراد به الحقيقة، أي: أن الابن صغير، والابن الصغير لا يوعظ بهذه الأشياء، فكأن التصغير هنا المقصود به التحنن، فالأب يتحنن على ابنه ويترفق معه، فيقول له: يا بني! وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينادي بها الحسن والحسين رضي الله عنهما، وكان يقولها لصغار أصحابه، صلوات الله وسلامه عليه، كـ أنس بن مالك وغيره ممن كانوا صغاراً في السن، وقد كان يقولها النبي صلى الله عليه وسلم لهم على وجه الترقيق لقلوبهم والتلطف بهم، صلوات الله وسلامه عليه. وهذه الكلمة (يَا بُنَيَّ) قرأها حفص عن عاصم في هذه الثلاثة المواضع بالفتح فيها. ووافقه ابن كثير في إحدى روايتيه في الموضع الثالث: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ} [لقمان:17] فقرأها البزي عن ابن كثير كما قرأها حفص عن عاصم، وأما باقي القراء فيقرءونها في هذه المواضع وفي غيرها من القرآن: (يا بني)، على الإضافة إلى النفس. وابن كثير خالف حفصاً في الموضع الأول والثاني، فقرأها في الموضع الأول: (يا بُنَيْ لا تشرك بالله)، بالتسكين فيها، وفي الموضع الثاني قرأها كقراءة الجمهور: (يا بُنَيِّ إنها إن تك). وفي الموضع الثالث: (يا بُنَيَّ إنها)، قرأها قنبل عن ابن كثير مثل قراءة الجمهور: (يا بُنَيَّ)، وقرأها البزي عن ابن كثير كما قرأها حفص عن عاصم. وكلمة: (وهو) يقف عليها يعقوب بهاء السكت، فيقرؤها: (وهوه) وأما باقي القراء فيقفون عليها إما (وَهُوْ) أو (وَهْوَ). وفي قوله تعالى: {لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} [لقمان:13] تحذير من الشرك بالله سبحانه تبارك وتعالى، وهذا التحذير مقصود في كتاب الله سبحانه، فقد نهى الله عن الشرك به، وذكر أنه لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، وكل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام جاءوا إلى أقوامهم بالأمر بالتوحيد والتحذير من الشرك بالله سبحانه وتعالى.

بيان أن أعظم الظلم الشرك بالله سبحانه

بيان أن أعظم الظلم الشرك بالله سبحانه قال تعالى: {لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] فبين أن الشرك ظلم عظيم، وأعظم الظلم الذي يظلم الإنسان به نفسه هو أن يقع في الشرك بالله تبارك وتعالى. ولما نزل قول الله سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82] فهم منها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم الذين لم يخلطوا إيمانهم بنوع من الظلم، فخافوا؛ لأن الظلم ظلمات يوم القيامة، فخاف الصحابة من الظلم؛ لأن مآل الظالم إلى النار، سواء ظلم نفسه أو غيره ظلماً أصغر أو أكبر، فالظلم ظلمان: ظلم أصغر، وظلم أكبر. فذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد شق عليهم ذلك، فقالوا: يا رسول الله! أينا لا يظلم نفسه؟ أي: أن الآية التي في سورة الأنعام والتي قال الله سبحانه فيها: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] معناها: أن الأمن والأمان يوم القيامة للمؤمنين الذين لم يظلموا أنفسهم، فشق ذلك على الصحابة وسألوا النبي صلى الله عليه وسلم: أينا لا يظلم نفسه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس هو كما تظنون، إنما هو كما قال لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]). فالإنسان قد يظلم نفسه، وقد يتجاوز ويعفو الله سبحانه وتعالى عنه. وظلم الإنسان لنفسه يكون بالوقوع في صغائر الذنوب، أو في كبائرها، ومنها الشرك بالله سبحانه. فالصحابة اختلط عليهم الأمر، ولم يفهموا المقصود بقوله تعالى: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82] فظنوا أنه أي ظلم يقعون فيه سواء كان صغيراً أو كبيراً أو شركاً بالله، وسواء كان ظلماً للنفس أو ظلماً للغير فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الآية ليس المقصود منها الظلم الأصغر، وهو الوقوع في صغائر الذنوب، وإنما المقصود منها الظلم الأكبر، وهو الوقوع في الشرك بالله، فوضح الآية بالآية الأخرى فقال: (إنما هو كما قال لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]).

بيان عدم مغفرة الشرك

بيان عدم مغفرة الشرك فالأمن والأمان يوم القيامة لمن جاء لا يشرك بالله سبحانه تبارك وتعالى شيئاً، وكذلك لمن لم يظلم نفسه ظلماً أكبر، ولم يقع في كبائر الذنوب، ومات تائباً إلى الله عز وجل. فإذا تاب الإنسان إلى الله من الشرك فما دونه تاب الله عز وجل عليه، وإن لم يتب منه جاء يوم القيامة وهو لا أمان له؛ لأن الله لا يغفر أن يشرك به. وإذا وقع في الذنوب كبائرها وصغائرها ولم يتب منها فهو في خطر المشيئة، فإن شاء الله عفا عنه، وإن شاء عذبه على ذلك. ولذلك هنا يفرق بين من أتى بالشرك بالله فلا يغفر له، وبين من أتى بصغائر الذنوب ولم يقع في الشرك بالله فلعل الله سبحانه وتعالى أن يتجاوز عنه عند وفاته، ولذلك قال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31]، وهذا وعد من الله سبحانه وتعالى بأن الإنسان إذا اجتنب الكبائر ولم يقع فيما حرم الله من كبائر الذنوب، مثل: الشرك بالله سبحانه وتعالى، والسحر، وعقوق الوالدين، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، والوقوع في السرقة، والوقوع في الزنا، والرشوة، وأكل السحت، وأكل الباطل، وغيرها من الكبائر التي نص عليها النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث التي رويت عنه، فإذا ابتعد عن هذه الكبائر، وجاءته وفاته وهو مجتنب لها؛ كفر الله عنه الذنوب الصغائر، وهذا من فضل الله ورحمته على عباده، ولذلك على المؤمن أن يحسن في دنياه ويجتنب الكبائر؛ حتى يكون هذا الاجتناب تكفيراً لصغائر ذنوبه. وإذا وقع العبد في كبيرة من الكبائر ثم تاب إلى الله عز وجل ومات تائباً فإن الله يتوب على من تاب، وأما إذا لم يتب العبد من ذنوبه فهو في خطر المشيئة، والله عز وجل إن شاء الله عفا عنه، وإن شاء عذبه على ذلك. وأما العبد الذي يأتي آمناً يوم القيامة فهو الذي لم يقع في الشرك بالله سبحانه وتعالى، ولم يكن في خطر المشيئة يوم القيامة على ما ذكرنا. إذاً: فقوله سبحانه: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] يبين أن أعظم الظلم وأكبر الظلم أن يقع الإنسان في الشرك بالله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن)

تفسير قوله تعالى: (ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن) قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14]. هذه الآية جملة معترضة بين وصايا لقمان، وكأن الله سبحانه تبارك وتعالى لما ذكر نصيحة لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} [لقمان:13] أراد أن يذكر بعدها وصيته هو بعدم عقوق الوالدين، والوصية من الله عز وجل بالوالدين تكررت مراراً في كتاب الله سبحانه، فهو سبحانه ينهى عن الشرك به، ويأمر الإنسان بأن يوحد ربه سبحانه وتعالى، وأن يشكر لله سبحانه، ويشكر بعد ذلك للوالدين. فالله هو الذي خلقك وأوجدك، وكان سبب وجودك في هذه الدنيا أن أباك تزوج أمك وكنت أنت نتيجة لذلك. فأمرك الله أن تشكر له عز وجل الذي خلقك، وتشكر لوالديك اللذين كانا سبب وجودك في هذه الدنيا، وهما اللذان ربياك كما أخبر الله سبحانه. قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا} [لقمان:14] فالوصية من الله سبحانه تبارك وتعالى. {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [لقمان:14] أي: بأبيه وأمه، {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان:14] وإن كان الأب قد أنفق على الابن ورباه، فإن الأم لها وصية زائدة من الله سبحانه وتعالى؛ لأنها حملته وهناً على وهن، فكانت الوصية بالأم أكثر من الوصية بالأب، ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله رجل: (من أحق الناس بحصن صحابتي؟ -أي: من أبر أكثر؟ - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك). فوصى بالأم ثلاثاً وبالأب مرة، فكأن الأم تستحق أن يرعاها ابنها ويتحنن عليها مرات ومرات، وإذا كان قد أوصاه الله عز وجل بالوالدين إلا أن الأم أقرب وتستحق من الرعاية ما هو أكثر، وإن كان مطلوباً من الابن أن يبر الاثنين الأب والأم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (أنت ومالك لأبيك) وكذلك الأم لها حق الرعاية، ولها نفقة واجبة عليك إن احتاجت إلى ذلك. قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا} [لقمان:14] الوهن: هو الضعف، فالأم كانت ضعيفة في حال حملها، وكلما كبر الحمل كلما ازداد ضعفها. قال تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} [لقمان:14] وهي صابرة على ذلك، ومحبة لهذا الذي في بطنها، ولا تتضجر من ذلك، بل تنتظره، فإذا خرج إلى هذا الوجود وإلى هذه الدنيا كانت أشد حناناً عليه، وأشد محبة له، مع كونه يؤذيها وقد يضرها، ومع ذلك فإنها تفدي ابنها بنفسها، فوصى ربنا سبحانه الابن بها، وذكره بمراحل خلقه. قال تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان:14] والفصال: هو الفطام، فهو يرضع من أمه عامين كاملين، وقد تتأذى به، ولكنها تفرح بتربيته وبقربه، وهو يبول ويتغوط عليها، وهي تحبه وتدلله. فأي رعاية وأي حنان بعد حنان الأم على ابنها؟! فلذلك أوصاه الله عز وجل بأمه وأوصاه بالوالدين، وأكد الوصية بالأم، فقال تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ} [لقمان:14] والفصال: المفارقة، يعني: أنها تفطمه بعد عامين.

الأمر بشكر الوالدين

الأمر بشكر الوالدين قال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:14]، فأمر الله عز وجل العبد بأن يشكر لله سبحانه، وأن يحمده ويثني عليه الثناء الجميل؛ لأنه سبحانه هو الذي خلقه، وكذلك يشكر لوالديه؛ لرعايتهما وتربيتهما له. قال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:14] فما دمت حياً فاشكر لله سبحانه الذي خلقك، واعبده سبحانه حق العبادة، وكذلك اشكر لوالديك أحياءً كانا أو أمواتاً، فإذا كان الأب والأم أحياء فاشكر لهما حسن صنيعهما معك، وتذكر لهما هذا الجميل، ولا تنساه أبداً، فمهما عملت للوالدين فلن توفيهما جميلهما معك. وانظر إلى الأب والأم عندما كان الابن صغيراً فقد كانا يرعيانه ويحملانه ويتعبان معه، وهما في ذلك في غاية الفرح بهذا الأمر، ويتمنيان حياة الابن، فإذا كبر الأب والأم واحتاجا إلى الرعاية من الأبناء فتجد الفرق الكبير بين رعاية الأب لابنه وبين رعاية الابن لأبيه، فقد كان الأب يتمنى حياة الابن، وإذا وصل الأب إلى الشيخوخة والهرم فإن الابن يتمنى وفاته. لقد كان الأب والأم يربيان الابن وهو صغير، ويفرحان به في صوابه، ويعلمانه في خطئه، وأما الابن إذا كبر أحد والديه فينعكس الأمر؛ فإنه يتضجر سريعاً مما يفعلانه في كبرهما. فالفرق كبير بينهما، فمهما فعل الابن مع أبيه وأمه فلن يوفيهما حقهما، فلذلك يجب على الابن رعاية أمه وأبيه والشكر لهما وإظهار الحب والملاطفة لهما، ولينظر في أحوال الصالحين السابقين كيف كانوا يصنعون مع آبائهم من رعاية، ومن تحنن، فقد كان أحدهم يبيت تحت قدمي أمه يرعاها ويخدمها، ويقول: هذا خير لي من قيام الليل، أي: السهر على أمه المريضة تحت قدمها فلعلها تحتاجه في شيء، يقول: هذا خير من قيام الليل، وكانوا يبرون والديهم طاعة لله سبحانه وحباً في هذه الطاعة، فليكن الإنسان المؤمن مقتدياً بالسلف الصالح في طاعتهم لله سبحانه وبرهم للوالدين. قال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14]، وهذه الآية فيها من التهديد ما فيها، فقال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي} [لقمان:14] وإذا لم تشكر فإنك سترجع إلي مرة ثانية وإذا لم ترع الوالدين فأين ستذهب؟ فمهما ذهبت ومهما علوت فسترجع إلينا مرة ثانية، فإن المصير والمرجع إلى الله سبحانه وتعالى. والإنسان إذا تذكر ذلك يسأل نفسه: إن عصيت ربي فأين سأذهب بهذه المعصية؟ وأي أرض تحملني؟ وأي سماء تظلني إذا كنت عاصياً لله سبحانه؟ وأين أذهب من الله؟ وأين أهرب منه سبحانه وتعالى؟ قال تعالى: {إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14] أي: سترجع إلي مرة ثانية.

تفسير قوله تعالى: (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم)

تفسير قوله تعالى: (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم) قال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [لقمان:15] فقد أوصى الله عز وجل الابن أن يكون رحيماً بوالديه، وأن يكون باراً بهما، حتى وإن كانا مشركين كافرين، ولكن إن جاهداك على الكفر بالله سبحانه وأمراك به أمر مجاهدة، أي: أمراً شديداً بالكفر بالله عز وجل وجاهداك على ذلك فإذا فاصبر عليهما، اصبر على أبيك واصبر على أمك، ولا تطعهما في معصية الله سبحانه. قال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [لقمان:15]، أي: إن أمراك بشيء من الشرك وأنت تعلمه ولم ينزل الله عز وجل به سلطاناً فدعه وانته عن الشرك بالله سبحانه، وأمرهما بالمعروف وانههما عن المنكر، وصاحبهما في الدنيا معروفاً، ولا تطعهما في ذلك، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الله سبحانه وتعالى، لا في شرك ولا في غيره، فلا تطعهما أبداً في معصية الله سبحانه، ولكن تلطف معهما، كما قال تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] أي: ومع ذلك صاحبهما في الدنيا معروفاً، ولا تعنفهما ولا تزجرهما، ولا تشتمهما، كما قال تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء:23]. والإنسان البار يُعرف ببره لوالديه، فتعرف الإنسان التقي من الشقي من معاملته مع أهله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي). فإذا كان صاحبك الذي تحبه يؤذي والديه فاعلم أنه لا خير فيه، ولا يستحق المصادقة والمصاحبة، فمره بالمعروف وانهه عن المنكر، ولا تطل المودة معه، فهو لا خير فيه لوالديه. وإذا أردت أن تعرف أن هذا الإنسان فيه خير أو لا فانظر إلى حاله مع أبيه وأمه وإخوانه وزوجته، فإذا كان خيراً مع هؤلاء فهو جدير بأن يكون خيراً معك، وإن كان مع هؤلاء سيء الخلق فلا تنتظر منه أن يكون خيراً معك، فلو كان فيه خير لبدأ بالخير مع والديه. وقد تجد إنساناً يرد على أبيه، ويشتم أمه، ثم يأتي إلى المسجد ويصلي! وتراه طيباً مع الناس، مع أنه لو كان فيه خير لكان خيراً مع والديه، فلذلك أمره ببر والديه، فإن الله عز وجل أمر بذلك، قال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:14]، أي: حتى ولو كانا يجاهدانك على الكفر بالله سبحانه تبارك وتعالى، وتجد الكثير من الناس طيبين وأخلاقهم حسنة مع الناس، وأما مع آبائهم وأمهاتهم فهم في غاية السفاهة، وهذا الذي يعملونه مع آبائهم وأمهاتهم سيعملونه مع أصدقائهم، فمرهم بالمعروف وذكرهم بالله سبحانه تبارك وتعالى.

سبب نزول الآية

سبب نزول الآية وقوله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15] نزلت في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، فقد كان باراً بأمه وكانت كافرة، وكان سعد رضي الله عنه يخاف أن يغضب أمه، فلما دخل في دين الله سبحانه وتعالى امتنعت عن الطعام والشراب، وحلفت ألا تأكل طعاماً ولا تشرب شراباً حتى يكفر بدين محمد، أو تموت فيقولون له: يا قاتل أمه؛ لأنك أنت الذي قتلتني بهذا الشيء. فامتنعت عن الطعام وعن الشراب، واحتار سعد ماذا يعمل معها؟ ولكنه تمسك بهذا الدين العظيم، وذهب إلى أمه وقال لها: لو كان لك عشرة أرواح فخرجت نفساً نفساً على أن أترك هذا الدين ما تركته، فكلي إن شئتِ أو دعي. أي: فأنتِ حرة في هذا الأمر، ولن أترك هذا الدين لأمرك أنت، ولكن أطيع الله سبحانه تبارك وتعالى، فنزلت الآية تطمئن سعداً في ذلك، قال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [لقمان:15] وإن شاءوا أن يأكلوا ويشربوا ليعيشوا أو يموتوا فهذا أمر آخر، ولكن لا تشرك بي، {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15] فتكون المصاحبة بالمعروف، وعدم الطاعة في معصية الله سبحانه وتعالى، وقد جعل لنا سبحانه قاعدة وهي: أن حق الوالدين أن تطيعهما إذا أمراك بطاعة أو بأمر مباح، فإذا أمراك بالبعد عن الله سبحانه وبترك دينه فاحذر من ذلك، فإنه: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق). ولذلك يقول العلماء: جملة هذا الباب: أن طاعة الأبوين لا تراعى في معصية رب العالمين سبحانه وتعالى، لا في فعل كبيرة، ولا في ترك فريضة من الفرائض، فإذا أمر الأب والأم ولدهما بعدم الصلاة أو بالبعد عن دين الله سبحانه، أو أمر الأب ابنته بالتبرج وحلف إن لم تخلع الحجاب الذي تلبسه فإنه سيخرجها من البيت وكذا، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، سبحانه وتعالى، (إنما الطاعة في المعروف)، فيطيع الابن أباه وأمه في طاعة الله سبحانه وفي المباح، وأما في ترك فرائض الله عز وجل فلا طاعة لأحد في ذلك. قال الله سبحانه: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان:15]، أي: من رجع إلى الله سبحانه. والمنيبون إلى الله هم رسل الله عليهم الصلاة والسلام، وكذلك أتباعهم من المؤمنين ومن الأتقياء ومن الأولياء. قال تعالى: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان:15] فالمرجع إلى الله عز وجل، وهذه الآية فيها من التحذير ما في الأولى، فإن المصير إلى الله والمرجع إليه، فاعملوا ليوم ترجعون فيه إلى الله سبحانه، ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة لقمان [13 - 17]

تفسير سورة لقمان [13 - 17] إن أعظم وصية يتواصى بها المسلمون فيما بينهم هي توحيد الله عز وجل في العبادة، ولذلك كانت هذه الوصية هي أول وصية أوصى بها لقمان ولده، ثم أوصاه بمراقبة الله عز وجل، وأشار له إلى علمه المحيط بكل شيء، ثم أوصاه بأعظم فريضة فرضها الله على عباده وهي الصلاة، ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأمره بالصبر على ما يصيبه في طريقه إلى الله، ولأهمية بر الوالدين والرفق بهما فقد جعله الله بين هذه الوصايا تنبيهاً على عظم حقهما على الإنسان.

وصايا لقمان لابنه

وصايا لقمان لابنه الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين: قال الله عز وجل في سورة لقمان: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ * وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان:13 - 17].

التحذير من الشرك بالله

التحذير من الشرك بالله يذكر الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات وصية لقمان لابنه، ووعظه له، فقال: (يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) فأول وصية يجب على الوالد أن يوصي بها ولده هي: أن يوحد الله سبحانه وتعالى، وألا يشرك به شيئاً، وأن يعلمه التوحيد والعقيدة. إن الإنسان الذي في قلبه عقيدة سليمة، بعيدة عن الشرك، فهو جدير بأن يبارك الله عز وجل له في عمله، وأن يلهمه الصواب، وأن يعينه في أمره. أما الذي يشرك بالله سبحانه فهو جدير ألا يعينه؛ لأنه أشرك بالله، فالله يتخلى عنه ويتركه؛ لأنه يتوجه إلى غير الله، والله أغنى الشركاء عن الشرك سبحانه وتعالى، فإذا أشرك العبد معه إلهاً غيره فدعا غير الله، وتوكل على غيره، وطلب المعونة من غيره تركه الله عز وجل مع هذا الغير، ثم لا ينفعه هذا الذي يدعوه من دون الله. إن الإنسان المؤمن يتعلم التوكل على الله سبحانه، وأن يوجه عبادته لله، فلا يدعو إلا الله، ولا يشرك بالله سبحانه وتعالى شيئاً، لا في ألوهيته، ولا في ربوبيته، ولا في أسمائه وصفاته، بل يكون على التوحيد حتى يلقى الله سبحانه تبارك وتعالى. فأول وصية يوصي بها لقمان ابنه ألا يشرك بالله، وهي وصية الأنبياء والمرسلين للخلق أجمعين، قال الله تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر:14]، {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]. قال الله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، فالإنسان الذي يقع في الشرك بالله سبحانه يظلم نفسه، ويضع العبادة في غير محلها، وفي غير موضعها، فبدلاً من أن يعطي لله حقه يعطيه لغيره سبحانه وتعالى، فهذا هو أعظم الظلم. وقد كان أهل الجاهلية يفعلون ذلك، قال الله عنهم: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام:136]، فيقسمون هذه القسمة العجيبة، ويتصدقون ببعض الأنعام ويجعلونها لله، وبعضها للأصنام وللأوثان، فإذا حصل اختلاط بين حق الله وحق غيره بزعمهم يقولون: اجعلوه كله لغير الله، فحتى القسمة الفاسدة التي قسموها يجورون بها، فإذا قيل لهم: لماذا تجعلونها لغير الله؟ قالوا: الله غني عن ذلك. فهم يعلمون أن الله غني، ولكنهم يعبدون غيره ويجعلون له شركاء سبحانه وتعالى، فعقولهم فارغة، وأقوالهم بعيدة عن الصواب. وكان أهل الجاهلية يدعون في رخائهم غير الله سبحانه وتعالى، يصنعون الأصنام ويدعونها ويعبدونها، فإذا جاء وقت الشدة والبلاء تركوها وتوجهوا إلى الله يدعونه وحده لا شريك له. ففي وقت الشدة يدعون الله، ويعتقدون أنه لا ينفع إلا هو، والسؤال هو: ما الذي جعله لا ينفع في وقت الرخاء حتى يدعون غيره سبحانه وتعالى؟! إنها قسمة عجيبة تدل على عقول لا تفكر إلا فيما تشتهيه وتهواه، فيعبدون الأصنام ويقولون: تقربنا إلى الله سبحانه وتعالى، وفي وقت الضر والشدة يتركون الأوثان والأصنام ويدعون الله عز وجل! وهذه التفرقة لا دليل عليها، ولكن من ابتعد عن الله سبحانه فالشيطان يضله ويلعب به. إن أول شيء يتعلمه الإنسان المؤمن هو توحيد الله سبحانه، وألا يشرك به شيئاً، فلا يدعو إلا الله، ولا يتوكل إلا على الله، ولا تكون ثقته إلا في ربه سبحانه وتعالى، وإذا نذر كان نذره لله سبحانه، فيعلم أن الذي ينفع ويضر هو الله سبحانه، وأن الذي يعز ويذل هو الله سبحانه وتعالى، فيكون قد ركن إلى ركن عظيم، إلى ربه سبحانه وتعالى، فإذا ركن إلى غير الله استحق أن يتركه الله، وألا يعينه لا في الدنيا ولا في الآخرة. فأول ما يتعلمه المؤمن ويوصي به أهله هو توحيد الله سبحانه وتعالى، وقد ذكر الله عز وجل هذه الوصية عن يعقوب (إسرائيل) عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام في وقت وفاته أنه أوصى أولاده بوصية إبراهيم لبنيه، كما قال الله تعالى عن إبراهيم أنه قال: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132]، أي: على الإسلام، وهو الاستسلام لله، وتوحيده سبحانه، ثم قال في وصية يعقوب: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا} [البقرة:133]، إن العبادة التي أمر الله عز وجل عباده بها، والتي وصى بها الأنبياء أقوالهم هي أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً.

الوصية بالوالدين

الوصية بالوالدين بعد هذه الوصية وصى ربنا سبحانه وتعالى الإنسان بوالديه، فذكر الله سبحانه الإنسان بفضل والديه عليه، فقال: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} [لقمان:14]، وتكرر معنى هذه الآية، كما في قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} [الأحقاف:15]، وقوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت:8]. وهذه وصية من الله عز وجل لكل إنسان بوالديه، فكما حملته أمه، ورباه أبواه فليوف لهما هذا الحق في وقت كبرهما. وقوله تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} [لقمان:14]، أي: ضعفاً على ضعف، والوهن على الوهن بمعنى: أطوار الحمل والتخليق للإنسان في بطن أمه، فكلما ازداد حجم الجنين في بطن أمه كلما ازداد ضعف الأم، وثقل بطنها، وازداد حملها، وإذا بها تضعف شيئاً فشيئاً إلى أن تلد، وتكون تلك الولادة أصعب شيء على الأم، حتى إنهم ليعدون هذا الحال حال موت، فهي إخراج روح من روح، ويحتمل أن تموت الأم، ويحتمل أن تعيش بعد ذلك، وفي هذا الوقت العصيب يكون أهم شيء عند الأم هو ابنها وجنينها الذي في بطنها، ولذلك وصى الله سبحانه وتعالى بالأم فقال: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ في عامين) والفصال: هو الفطام، وهو انفصال الابن عن أمه في أمر الرضاعة بعد عامين، فبعد أن ترضعه ينفصل عن الرضاع ويتغذى بغير لبن أمه. قال الله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14]، هذا أمر من الله للعباد أن يشكروه، ويؤدوا حقه من عبادة وصلاة وصيام، ومن أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، من طاعة لله، وثقة به، وحب لله سبحانه ولرسله عليهم الصلاة والسلام، وحب لدينه سبحانه، وبذل في سبيله، وجهاد وغير ذلك، فالإنسان المؤمن يجعل حياته كلها لله، كما قال الله سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163].

طاعة الوالدين بالمعروف

طاعة الوالدين بالمعروف ثم بين الله سبحانه أن طاعة الوالدين تكون بالمعروف فقال: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [لقمان:15]، فإذا أمر الوالدان الابن بالشرك بالله سبحانه، واتخاذ الأوثان والأنداد مع الله سبحانه، فهذا ليس له به علم، أي: لم ينزل الله عز وجل به من سلطان، فهو من الجهل بالله سبحانه وتعالى، فإذا أمراه بذلك فلا يطيعهما، ولكن مع ذلك يقول الله تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15] فلا يقسو عليهما، ولا يعاملهما بعنف، فقد قال الله سبحانه وتعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء:23]، وأكرم القول وأفصله وأحبه أن يقال لهما كما قال الله: {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء:23 - 24]، أي: كن معهما في غاية الذل، رعاية لحق الله عز وجل ثم لحقهما. قال تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15]، يصاحب أباه وأمه في الدنيا بالمعروف، وكأن المصاحبة في الدنيا شيء، والمصاحبة في الآخرة شيء آخر، ففي الدنيا تصاحبهما بحسن الرعاية، سواء كانا مسلمين أو كافرين، وفي الآخرة لا توجد مصاحبة إلا للمسلمين فقط: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37]. وادع لهما: {وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:24]. ففي الآخرة إذا كانا مسلمين فسوف يشفع الابن لأبيه ولأمه، والأب والأم لأبنائهما، أما الكفار فلا شفاعة بين المسلمين وبين الكفار. وقوله: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15]، هذه وصية من الله عز وجل بدوام المصاحبة بالمعروف، فلا تؤذهما، وإن طلبا منك مالاً أو غيره فأعطهما وأجزل للوالدين ثقة بالله أنه سيخلف عليك سبحانه. وقوله: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا} [لقمان:15]، أي: ما داموا في الدنيا فصاحبهما بالمعروف، وبعد الوفاة يكون البر بالوالدين بالدعاء، والإحسان إلى أصدقائهما، فإذا كان أبوك يحب فلاناً، أو كان صديقه، فأحب من أحبه أبوك، وأعطه وتصدق عليه، وهذا من برك لأبيك، وكذلك إذا كانت فلانة صديقة لأمك، وكانت أمك تحبها، أو كانت جارة لها، فلتكرمها براً بأمك، وهذا من البر بالوالدين في الدنيا وبعد الموت. ولذلك جاء عن ابن عمر رضي الله تبارك وتعالى عنهما أنه كان في سفر، وكان راكباً على بعير وكان معه حمار، فلقي أعرابياً، فإذا بـ عبد الله بن عمر ينزل ويسلم عليه سلاماً حاراً، ويهدي إليه، ويعطيه أحد الدابتين اللتين معه، فإذا بمن حوله يقولون: ما الذي تعمله؟! إن هذا أعرابي يرضى بدون ذلك، وبأقل من ذلك بكثير، لقد أعطيته ركوباً مما معك، ولو أعطيته أقل من ذلك لرضي، فقال: إنه كان من أهل ود عمر رضي الله عنه، وكان صديقاً له، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من البر بأبيك أن تبر أهل ود أبيك)، فـ ابن عمر ود هذا الأعرابي ليس لأنه صديق له، وإنما لصداقته لأبيه، فبره عبد الله بن عمر براً بأبيه بعد وفاته رضي الله تبارك وتعالى عنهما.

تذكير الله عباده بأن مرجعهم إليه

تذكير الله عباده بأن مرجعهم إليه وقوله تعالى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان:15] أي: اقتد وائتس، وسر على درب الذين أنابوا إلى الله، وكانوا في طريق الله من قبلك، وهم رسل الله عليهم الصلاة والسلام، وأولياء الله، والصالحون من عباد الله. قال تعالى: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان:15]، فالمرجع إلى الله، وسوف ينبئكم بكل ما كنتم تعملون، والإنباء: هو الإخبار بالغيب، وينبئك: يخبرك بما غاب عنك، والإنسان ينسى، ولكن الله لا ينسى فيحصي كل شيء سبحانه، ويوم القيامة: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:14]، فينبئ الله عز وجل العبد بما عمل، ومن نوقش الحساب يوم القيامة عذب لا محالة، ولذلك جاء في قول الله سبحانه: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:8]، عن السيدة عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نوقش الحساب يوم القيامة عذب)، فالذي يناقش الحساب سوف يعذب، فقالت: (أليس الله سبحانه يقول: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:8]، قال: ليس ذلك، ولكن هذا العرض). فالإنسان يعرض عليه كتابه يوم القيامة، وآخر يناقش في كتابه، وفرق بين من يقرأ الكتاب، وبين من يحاسب ويقال له: لم عملت كذا؟ ولم عملت كذا؟ ألم نعطك؟ ألم نربك؟ ألم ننعم عليك؟ ألم نجعلك رئيساً تحكم بين الناس؟ فما الذي صنعت في ذلك؟ هذا هو الذي يناقش الحساب، وهو المعذب كما قال النبي صلوات الله وسلامه عليه. وقوله تعالى: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان:15]، جملة معترضة بين وصية لقمان لابنه بألا يشرك بالله ووصية الله عز وجل للعباد بالوالدين وبين باقي الوصايا.

تذكير لقمان لابنه بعلم الله المحيط بكل شيء

تذكير لقمان لابنه بعلم الله المحيط بكل شيء يقول الله عن لقمان أنه قال لابنه: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا} [لقمان:16]، وهذه المرة الثانية التي يقول فيها: يا بني، وقد ذكرنا أن فيها قراءات: (يا بنيَّ) بالفتح، وهذه قراءة حفص عن عاصم فقط، وباقي القراء كلهم يقرءونها: (يا بنيِ). وقوله: (إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) هذه قراءة الجمهور، والمعنى: إذا وجد هذا المثقال الذرة من الخردل ثم اختفى في أي مكان من الأماكن، فاسم (كان) الضمير، والخبر: مثقال. وقراءة نافع وأبي جعفر: (إنها إن تك مَثْقالُ حبةٍ من خردلٍ) على أن مثقال اسم لكان. والخردل حبوب رقيقة وصغيرة جداً، أقل وأرفع من النملة، ووزنها شيء يسير، وهي التي يصنعون منها غاز الخردل السام المميت الذي يستخدم في الحروب. فقوله: (إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ) أي: هذه الحبة التي هي أقل حبة يعرفها الإنسان، إذا كانت هذه الحبة السوداء الصغيرة مختبئة بداخل صخرة، وهذه الصخرة مختفية بين السماء والأرض، فلا أحد يستطيع أن يبحث عنها، يقول الله سبحانه: (فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ) سبحانه وتعالى، مهما دقت أو صغرت فالله يعلمها ويأتي بها سبحانه. والمعنى أين ستهرب من الله أيها الإنسان إذا كان هذا المثقال من الخردلة التي لا تساوي شيئاً إذا اختفى في أي مكان في السماوات أو في الأرض أتى به الله؟ فكيف بالشيء الكبير؟ والمعنى: أنه لا تخفى عنه خافية سبحانه وتعالى، ومهما دق من عمل الإنسان، ومهما أخفى من سر، ومهما أخفى من نيته في عمله، فالله يعلمه، ويجازي به يوم القيامة. (إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) وهنا بيان للإنسان أن الله سبحانه لا يخفى عليه شيء، وأن رزقه الذي لا يراه فالله يراه، والذي لا يعلمه فالله يعلمه، والذي يبحث عنه في كل مكان فهو عند الله مقسوم، وسيأتيه في وقت قدره الله سبحانه وتعالى. وهنا بيان للإنسان، أن يعبد ربه وسيأتيه الفرج من عند الله من حيث لا يحتسب. فالإنسان يبحث عن الرزق، والله يوجد هذا الشيء الذي يبحث عنه، ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في أمر رزق العبد المقسوم عند الله سبحانه فيما رواه أبو نعيم في الحلية، ورواه ابن عساكر من حديث جابر مرفوعاً: (لو أن ابن آدم هرب من رزقه كما يهرب من الموت لأدركه رزقه كما يدركه الموت)، وهذا حديث حسن، وفيه: أن ابن آدم لو هرب من رزقه بحيث لا يريده فإنه سيأتيه. وكذلك العكس، فلو طلب العبد شيئاً لم يقدره الله عز وجل له، وجرى وأتعب نفسه حتى كاد يناله، فإنه سيفلت من يده، ولن يحصل عليه، فما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، فالله عز وجل مقدر الأرزاق والأقوات، فيأتي بالرزق من حيث لا يحتسب الإنسان {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]. وقال لنا هنا: {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان:16]، لطيف من اللطف، وهو دقة العلم، فالله لطيف يعلم ما خفي وما دق، ويعلم ما جل وما عظم، فيعلم كل شيء، ولطف الله سبحانه رحمته، ففي وقت يضيق الأمر بالإنسان، وتأتيه المصيبة العظيمة التي تكاد تفتك به، فإذا بلطف الله عز وجل يأتيه ويهدئ من روعه، ويجعله يصبر ويتصبر على هذا البلاء، فكأن اللطف يتعلق بدقة علم الله سبحانه، وبرحمته. (إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) فلطفه في رحمته، وخبرته في علمه سبحانه وتعالى، فهو عليم بكل شيء، فهذه خبرة الله سبحانه وتعالى.

وصية لقمان لابنه بإقامة الصلاة والأمر بالمعروف

وصية لقمان لابنه بإقامة الصلاة والأمر بالمعروف ثم قال لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ} [لقمان:17]، وهذه المرة الثالثة التي قال فيها: (يَا بُنَيَّ) وقد قرأها حفص عن عاصم: (يا بنيَ) ويوافقه فيها البزي عن ابن كثير. وقراءة قنبل عن ابن كثير: (يا بنيْ) بالتسكين فيها، وقراءة باقي القراء: (يا بنيِّ أقم الصلاة). والجمهور يقرءون: (الصلاَة) بترقيق اللام، ويقرؤها الأزرق عن ورش (الصلاّة) بتفخيم اللام. قال الله تعالى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان:17]، فأمره أولاً بالتوحيد، وهو حق الله عز وجل، ثم ذكر من حقوق الله عز وجل أعظم عبادة وهي الصلاة، التي تعتبر صلته بالله سبحانه وتعالى، فيؤديها ويوصي بها أولاده، فعلى الإنسان أن يؤديها ويوصي بها أولاده كما وصى لقمان ابنه؛ لتكون له خيراً ونوراً في الدنيا وفي القبر وفي الآخرة، نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة لقمان [16 - 18]

تفسير سورة لقمان [16 - 18] إن دين الإسلام ليس عبارة عن آيات تقرأ فقط ثم تنسى، وإنما هو واقع عملي حي، يتفاعل فيه أفراد المجتمع المسلم المبادئ التي جاء بها، ويطبقونها حياة حية، فيترجمونها من كلمات تقرأ إلى أفعال تشاهد، وقد جاء هذا الدين بمجموعة من الوصايا والأخلاق التي تشكل سلوك الفرد المسلم في حياته بين الناس، وقد وردت بعض هذه الوصايا على لسان لقمان في وصيته لابنه، تلك الوصايا التي سجلها القرآن وخلدها، نظراً لسموها وعظمتها وفائدتها للناس.

تفسير قوله تعالى: (يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل)

تفسير قوله تعالى: (يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة لقمان في وصية لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ * وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان:16 - 18]. هذه من وصايا لقمان الحكيم لابنه وهو يعظه، وأول موعظة وعظ بها ابنه وأوصاه بها: ألا يشرك بالله سبحانه وتعالى، وقد ساق الله عز وجل هذه الموعظة في كتابه سبحانه لتكون موعظةً خالدة إلى قيام الساعة، فينصح كل إنسان مؤمن أبناءه بمثل هذه الموعظة، فالمؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، فكيف بابنه! وكل إنسان يحب أن يكون أفضل من غيره، ولكنه يحب أن يكون ابنه أفضل منه، وهذا عادة في الناس، فكل إنسان يحب أن يكون أفضل من غيره، ويحب أن يكون ابنه أفضل منه وخيراً منه. ولقمان هنا يعظ ابنه بالموعظة التي تنفع الابن ويعود النفع على الأب؛ لأن الابن من كسب أبيه، فقال: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، ثم نصح ابنه في موعظته العظيمة له بأن يطيع الله سبحانه وتعالى ويخاف منه، فهو الذي يعلم ما دق وما عظم، ويعلم كل شيء، فقال: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان:16]. فهو يعظ ابنه بأن يخاف من الله سبحانه، الذي يعلم كل شيء، ويقول له: لو أنك أخفيت عملك في مكان لا يطلع عليه أحد من الخلق فالله يطلع عليك، ولو أنك أخفيت معصيتك في ظلمة الليل أو في ظلمة البحر أو في مكان تظن ألا يطلع أحد عليك، فيه فإن الله يعلم ما تفعل وسيحاسبك عليه. وذكر له هذا المثل وهو: لو أن هذا العمل كان عملاً يسيراً صغيراً بقدر مثقال حبة الخردل التي هي أقل الحبوب حجماً ووزناً، وأراد الإنسان أن يخفيه، فأخفاه في صخرة عظيمة كبيرة، وألقيت هذه الصخرة في مكان في السماء أو في الأرض؛ لم يخف ذلك على الله سبحانه وتعالى، فإنه مطلع على كل شيء ورقيب عليه، ولذلك قال: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان:16]. والسموات مأمورة، وكذلك الأرض، وكل شيء يأمره الله بقوله: كن فيكون، فلو خبأ الإنسان شيئاً في الأرض فإن الله عز وجل يأمر الأرض التي جمعت هذا الشيء في بطنها أو ظهرها أن تأتي به، فتأتي الأرض به مطيعة لله عز وجل، كما في قصة الرجل الذي أمر أولاده إذا مات أن يحرقوه ثم يسحقوه، ثم ينتظرون في يوم شديد ريحه فيذروه في البر والبحر، ففعلوا، وقد أمرهم بذلك لأنه خاف من الله، فأراد أن يهرب بهذا الطريق، فكان الأمر على الله في غاية السهولة، فأمر الله الأرض أن تجمع ما فيها، فجمعت الأرض ذرات هذا الإنسان وأتت به لربها سبحانه، وقال للبحر: هات ما فيك، فأتى البحر بما فيه، فجمع الله هذا الإنسان، وأحياه لينطق ويواجه ربه سبحانه وتعالى، فسأله: لماذا فعلت هذا؟ فإنك لا تقدر أن تعجز الله سبحانه وتعالى، فالله يعلم كل شيء، ويحفظ كل شيء، ولا يغيب عنه شيء. فعلى الإنسان أن يراقب ربه سبحانه، ويعلم أنه سوف يحاسبه، فلينظر بماذا سيرد على الله عز وجل فيما قال وفيما عمل، فإن الله لطيف في قضائه وقدره، خبير في علمه وتقديره سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف)

تفسير قوله تعالى: (يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف) قال تعالى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان:17] فجمع له الموعظة العظيمة في هذه الكلمات القليلة اليسيرة، قال: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ} [لقمان:17]، وهي أعظم أركان الدين، والصلاة صلة بين العبد وبين ربه سبحانه، وهي عبادة بدنية، ونور ينير بها الإنسان قلبه، وينير بها دنياه وقبره وطريقه إلى الجنة، فإذا قصر الإنسان وترك هذه الصلاة أظلمت عليه حياته، وأظلم عليه قبره، وأظلم عليه طريقه فوق الصراط، وظل وأخطأ طريقه إلى الجنة فسقط في النار والعياذ بالله. قال تعالى: (يا بني أقم الصلاة) أي: أقم صلاتك وعدلها وائت بها على الوجه المستقيم وعلى الوجه القويم الذي ترضي به ربك سبحانه وتعالى، وكما أمرك الله سبحانه: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] فقم إلى الصلاة وأنت غاية في النشاط، ومحب لهذه الصلاة، ومقبل على الله، حتى يقبلها الله سبحانه وتعالى منك، فقد قال تعالى في العبد الذي يتقرب إليه عز وجل: (وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت منه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة) فالإنسان الذي يمشي في طريق الله عز وجل وهو محب ومقبل على الله عز وجل فمستحيل أن يتركه الله سبحانه وتعالى وأن يبعده وقد دنا منه. فالعبد يحب الله فيحبه الله سبحانه وتعالى، ويكون حبيباً لله، ويكون له سبحانه وتعالى كما قال: (كنت يده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وسمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه)، فهو ولي الله سبحانه وتعالى، قد أقبل على ربه وأحبه فأحبه الله. والطاعات التي يتقرب بها إلى الله: أولها: توحيد الله سبحانه وتعالى وعدم الإشراك به. ثانيها: هذا الركن العظيم من أركان الدين: وهو الصلاة. ثالثها: فعل جميع الطاعات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والأمر بالمعروف يعني: بشرع الله سبحانه الذي بين أن هذا واجب، وهذا مستحب، وهذا حلال، وهذا مباح. فلا تأمر إلا بما أمرك الله عز وجل به، وأمر بما ائتمرت به أنت، واللام هنا للجنس، واللام في الأولى أيضاً للجنس.

الأمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على ذلك

الأمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على ذلك قال تعالى: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ} [لقمان:17] أي: بجنس المعروف، وبكل ما هو معروف، وبكل ما هو خير وطاعة لله سبحانه، فأمر وأتمر به. وكل ما هو منكر ومبعد عن الله سبحانه فانته عنه وانه غيرك عنه، فتكون النتيجة محبة الله عز وجل لهذا العبد الذي يصلي ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. قال الله تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17] فلا بد من البلاء، ولا يظن الإنسان المؤمن أبداً أنه سوف يعيش في الدنيا سالماً من البلاء، فمن المستحيل أن يكون الإنسان مؤمناً ولا يبتلى ولا يختبر، وقد قال الله عز وجل في أول العنكبوت: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]، فلا يمكن أن يكون الإنسان مؤمناً من غير أي بلاء أو فتنة أو اختبار، فإن الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام قد ابتلاهم الله واختبرهم وضيق عليهم، كما قال تعالى: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة:214]، وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف:110]. فالرسل جاءت عليهم أوقات عصيبة، واستيأس الرسل وكاد أنيدب اليأس في قلوبهم من إيمان قومهم، وظنوا أنهم قد كذبوا، فإذا بالفتح والنصر يأتيان في هذا الوقت من الله سبحانه، كما قال تعالى: {جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف:110]، فالله عز وجل بفضله وبرحمته ينجي من يشاء عندما تضيق الأمور على أهلها من المؤمنين. إذاً: فلا بد من البلاء، وقد ابتلي النبي صلوات الله وسلامه عليه فلما ابتلي قال: (رحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر)، فتأسى بمن كان قبله عليه الصلاة والسلام. وقد ابتلي أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام من الخلق، ابتلاهم الله عز وجل بهم -وهم رسل الله وأنبياؤه وأولياؤه وأحب الخلق إليه عز وجل- حتى إن بعض الأنبياء قد قتلوا، فقد قتل زكريا عليه الصلاة والسلام، وقتل ابنه يحيى عليه الصلاة والسلام، وأرادوا قتل المسيح عيسى بن مريم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157].

ابتلاء النبي صلى الله عليه وسلم

ابتلاء النبي صلى الله عليه وسلم وقد أرادت اليهود قتل النبي صلوات الله وسلامه عليه، فحينما جلس تحت حائط من حيطانهم أمروا أحدهم أن يصعد فوق الحائط ليرمي عليه حجراً؛ ليقتل النبي صلى الله عليه وسلم. وقد أوذي النبي صلى الله عليه وسلم أذى شديداً بالأقوال وبالأفعال، وقد أوذي من الإنس، ومن الشياطين عليه الصلاة والسلام، ثم نصره الله سبحانه، وأيد دينه ورفع ذكره عليه الصلاة والسلام، وأجره على صبره صلوات الله وسلامه عليه. وقد كان مرة يصلي فتفلت عليه شيطان وفي يده شعلة من النار أراد أن يحرق بها النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يوماً جالساً صلى الله عليه وسلم على حصير له فإذا بالشيطان يوعز لفأرة فتخطف شيئاً من النار وتأتي وتلقيه الحصير لتحرقه صلوات الله وسلامه عليه. ويمسك شيطاناً بيده صلى الله عليه وسلم، ويخنقه وهو يتفلت عليه في صلاته يريد أن يقطع على النبي صلى الله عليه وسلم صلاته، ويتذكر دعوة سليمان عليه الصلاة والسلام: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص:35] فيتركه النبي صلوات الله وسلامه عليه، فهؤلاء شياطين الجن، وأما شياطين الإنس فكان على رأسهم أبو جهل الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم عنه: (هذا فرعون هذه الأمة)، فقد كان يكيد للنبي صلى الله عليه وسلم كيداً عظيماً، وكان عمه أبو لهب يمشي وراءه في الطرقات يشتمه عليه الصلاة والسلام، فيقول: هذا كذاب، نحن أهله أعلم به، كان يمشي النبي صلى الله عليه وسلم في الطريق ليدعو الناس إلى الله عز وجل ووراءه عمه يقول: هذا كذاب، هذا ساحر، هذا كذا، حتى يتفرق الناس عن النبي صلوات الله وسلامه عليه، وكانت قريش إذا جاء أحد من خارج القبيلة قالوا له: لا تذهب إليه، إنه ساحر، إنه مجنون، إنه كذا، عليه الصلاة والسلام. وكانت امرأة أبي لهب حمالة الحطب العوراء أم جميل لعنة الله عليها وعلى زوجها، كانت تقف للنبي صلى الله عليه وسلم لتشتمه، عليه الصلاة والسلام، وكانوا يحرفون اسمه من محمد إلى مذمم، عليه الصلاة والسلام، ويشتمونه ويسبونه عليه الصلاة والسلام. هذا مما ابتلي به النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن به هوان على الله عز وجل حتى يبتلى ويشتم صلوات الله وسلامه عليه، ولكن كان له صلى الله عليه وسلم درجة عالية عظيمة عند الله لا ينالها إلا بذلك، وبالصبر على ذلك، فصبر صلى الله عليه وسلم حتى فتح الله عز وجل له ونصره سبحانه تبارك وتعالى، وقد كانوا يكيدون له صلى الله عليه وسلم، ولكن الله يحميه ويحرسه، وإن كان قد يؤذى وقد يناله من التعب ومن النصب، ومن إسالة دمه صلى الله عليه وسلم في حروبهم وقتالهم وغزوهم، ثم بعد ذلك يفتح الله عز وجل له من فضله ومن رحمته، ولما فتحت الدنيا للنبي صلى الله عليه وسلم وانتصر وجاء نصر الله سبحانه، وفتحت مكة في العام الثامن، لم يذهب يحج صلى الله عليه وسلم؛ لوجود المشركين في مكة يحجون بيت الله، وهم يشركون بالله، ويطوفون بالبيت عراة رجالاً ونساءً، فلم يذهب ليطوف مع هؤلاء الكفار المشركين العراة، وإنما أرسل أبا بكر في العام التاسع ينادي: ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، فانتهى الناس، فحج في العام العاشر صلوات الله وسلامه عليه ومعه الجم الغفير من خلق الله الذين وصل عددهم إلى حوالي مائة وثلاثين ألفاً من أصحابه عليه الصلاة والسلام، كلهم يأتمون به، فقد فتح الله عز وجل له القلوب والآذان، فقام يخطب في هذا الجمع العظيم في يوم عرفة، فأسمع الله الجميع خطبته صلوات الله وسلامه عليه، وكانت هذه الحجة الوحيدة التي حجها بعد هجرته صلوات الله وسلامه عليه، ومات بعدها بوقت يسير صلوات الله وسلامه عليه. إذاً: لما فتحت له الدنيا، وفتحت له الأسماع والقلوب، انتهت وظيفته عليه الصلاة والسلام، فهو لم يخلق ليجني ثماراً في الدنيا، ولا لينال منها، وإنما خلق كما قال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} [آل عمران:144] وقد بلغت الرسالة، فالآن نقبضك، حتى لا تتمتع من الدنيا بشيء، وليكون نصيبك موفراً كاملاً وحظاً عظيماً عند الله سبحانه وتعالى.

سنة الله في الابتلاء

سنة الله في الابتلاء إذاً: فأي إنسان يقول: أنا مؤمن صابر على أمر الله ولا يريد أن يأتيه شيء من قضاء الله عز وجل وقدره، ولا يريد أن يأتيه شيء من البلاء، فهو لم يفهم هذا الدين العظيم الذي جاء من عند الله سبحانه، ولم يفهم دين رسل الله، فإن الإسلام أن تسلم نفسك وقلبك وتوجه وجهك إلى الله سبحانه، وتسأل الله سبحانه أن يعينك على الآخرة في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة بين يدي الله عز وجل، ثم ترى مصيرك بعد ذلك إما إلى الجنة وإما إلى النار، فالإنسان المؤمن إذا قام يصلي تذكر هذا الموقف العظيم، فيهيء نفسه للدار الآخرة، وللقيام بين يدي الله عز وجل في هذا اليوم العظيم. ولذلك لم تكن نصيحة لقمان لابنه بادخار الدنيا، أو جمع المال في الدنيا، والعمل لهذه الدنيا، وإنما قال له: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} [لقمان:13]، {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ} [لقمان:16 - 17]. وإذا فعلت ذلك فإن الناس سوف يعادونك؛ لأن الناس لا يحبون من ينصحهم ويقول لهم: هذا حرام، وهذا لا يجوز، فإذا ابتليت بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فكن حليماً وحكيماً وعلى علم، وكن لطيفاً مع الخلق، وادعهم إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وحتى وإن كنت على ذلك فلن يرضى عنك الخلق حتى تقول لهم في أخطائهم وفيما هم عليه: أنتم على صواب، فهم لا يحبون النصيحة، وإن تحرص على الناس أن يكونوا مؤمنين فلن تقدر أن تحولهم عما هم فيه إلا أن يعينك الله عز وجل على ذلك، قال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103]، وقال: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116]. إذاً: لا بد من الصبر، وقد قال ربنا سبحانه وتعالى للمؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200] فاصبر حتى على نفسك وصابرها واضغط عليها إن تململت، حتى تقوم لله عز وجل في هذه الدنيا بأمر دينه، قال تعالى: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} [آل عمران:200] فاربط نفسك على طريق الله سبحانه وتعالى مثابراً مصابراً على هذه الطاعة، واتق الله ما استطعت، قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، وقال هنا: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان:17]، أي: فهذا الأمر الذي يخبرك الله عز وجل عنه من الصبر هو من عزائم الشريعة، ومن الواجبات في هذه الشريعة العظيمة، يقول ابن عباس: إن من حقيقة الإيمان: الصبر على المكاره قال تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان:17]. ويقول ابن جريج: أي: مما عزمه الله وأمر به، والمعنى واحد، أي: صبرك على أمر دين الله وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذا مما شدد الله عز وجل فيه، وألزمك به، فاصبر وصابر ورابط، وأمر بالمعروف وانه عن المنكر بكل صورة ووسيلة، حتى يفتح الله عز وجل قلوب الخلق على يديك، فاصبر لأمر الله فإن ذلك من عزم الأمور، أي: مما أمر الله به أمر عزيمة وشدد فيه، فادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، ولا تقل: قد دعوت مرة وانتهى الأمر، وإنما اصبر على ذلك مرةً ومرتين وثلاثاً؛ لعل الله سبحانه يهدي على يديك أقواماً، ولا تدري متى يفتح الله عز وجل لك، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم -وهو الأسوة والقدوة في دعوته وصبره- أنه قال: (لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس)، وعلى كم تطلع الشمس من إنسان ومن حيوان ومن ملك لله عز وجل! فخير لك من أن تأخذ هذا الملك العظيم الذي تطلع عليه الشمس ويكون ملكاً لك أن يهدي الله عز وجل على يديك رجلاً واحداً.

تفسير قوله تعالى: (ولا تصعر خدك للناس)

تفسير قوله تعالى: (ولا تصعر خدك للناس) يقول لقمان لابنه: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان:18]. التصعير: من الصعر، يقال: هذا الجمل فيه صعر، وفيه صعار، أي: التوت عنقه عندما يصيبه مرض معين من الأمراض في رقبته فتلتوي رقبته وتعوج. فهذا مثل وصورة للإنسان المغرور المتكبر الذي يلوي رأسه متكبراً متعالياً معوجاً له؛ لأنه يفكر في نفسه أنه أعظم من غيره، فهذا الصعار الذي تصاب به الدواب هو مرض في الدواب، وهو مرض في قلب هذا الإنسان الذي عوج نفسه عن الخلق وتعالى عليهم، ونسي نفسه، وهو أذل وأحقر ما يكون في هذا الحال، أي: حال استكباره. قال تعالى: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} [لقمان:18]، وهذه قراءة الجمهور، وقرأها نافع، وأبو عمرو وحمزة والكسائي وخلف: (ولا تصاعر خدك للناس)، والمصاعرة: الميل بالخد، بمعنى: أن يكون أحد خديه عالياً والآخر منخفضاً، فيصعر رقبته على الناس متعالياً مستكبراً، وهذا الإنسان المتكبر يكون أحقر وأذل وأخسر الخلق عند الله سبحانه تبارك وتعالى، ويكفيه خسراناً أن نار جهنم يخرج منها يوم القيامة عنق يصرخ في الناس: وكلت بمن يشرك بالله، وكلت بالجبارين والمتكبرين، وكلت بالمصورين الذين يضاهئون بخلق الله سبحانه. فهو موكل بثلاثة أصناف من الناس منهم: المتكبرون، فيخطفهم من الموقف في القيامة إلى النار والعياذ بالله! فليحذر الإنسان من التكبر ومن الغرور، ولا يرى نفسه أنه أعلى من الناس وهو في حقيقته أذلهم، فالإنسان الكريم الطباع الحلو الشمائل الحسن الخلق يرى نفسه أنه مثل الخلق، وأنه ليس بأحسن من أحد، بل قد يكون الناس كلهم أحسن منه، فينظر إلى الناس كذلك، ويتواضع، فكلهم خلق الله سبحانه، وقد هيأ الله كل إنسان لما يصلح له. والإنسان المتكبر ما تكبر إلا لأنه يشعر أنه ناقص، فيريد أن يعلو على الغير ويتعالى عليهم من أجل أن يداري العيب الذي فيه، والنقص والهوان الذي يشعر به. فتجد الإنسان الجاهل يكلم الناس وكأنه عالم، ويحاول أن يعود لسانه على ذلك حتى لا يعرفوا حقيقته، فهذا الإنسان يشعر بالنقص في نفسه، ويحب أن يداريه بالتعالم على الخلق بكثرة الجدل، وأما الإنسان العالم فلا يجادل؛ لأنه يعرف حقيقة الأمر، ولا يحتاج إلى جدل فيه، وأما الجاهل فهو الذي يريد أن يجادل حتى يري نفسه ويظهرها، من أجل أن يتعالى على غيره. ولذلك فهذا الإنسان يستحق أن يكون في النار يوم القيامة؛ لأنه مراءٍ بعمله، ويريد أن يظهر للناس أنه أفضل منهم. فهنا يقول لقمان لابنه: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} [لقمان:18]، أي: لا تستكبر على الخلق، {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا} [الإسراء:37]، والمرح المقصود به هنا: الفرح الذي يفرحه الإنسان، ويحس أنه يطير على الأرض، وأنه أحسن من غيره، وأغنى من غيره، وأنه فوق الناس كلهم، فيشعر الإنسان في نفسه أنه مبسوط زيادة، ويمشي يدوس على الناس كلهم ويسير بفرح، ولا يهمه غيره، وإنما يهمه أن يفرح ولو آذى الناس كلهم. وهذه علامة المستكبرين، فلا يراعون حقاً لغيرهم أبداً، ومرحهم فيه الآثر والبطر والطغيان على الخلق، ومجاوزة الحد مع الخالق سبحانه وتعالى، وإذا أعطاهم الله نعمة سلطوها في المعاصي من حشيش ومخدرات وغيرها. قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7] فهو مرح وفخور بنفسه متعال على الخلق، يريد أن يفرح ويعيش وينسى أن وراءه الموت بعد ذلك. قال تعالى: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا} [لقمان:18] أي: لا تمش تضرب الأرض برجلك، ولا تمش على الأرض مرحاً، فإن عباد الرحمن يمشون على الأرض هوناً، أي: مشياً خفيفاً ومتواضعاً، وليس معنى ذلك أنهم يتماوتون في مشيتهم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم سريعاً في مشيه، ولكن فيه هدوء وطمأنينة عليه الصلاة والسلام، وفيه إسراع لقضاء حاجته عليه الصلاة والسلام، والمؤمن هين لين، فيه لطف ورفق ومودة للخلق، قال الله عز وجل هنا على لسان لقمان لابنه: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ} [لقمان:18]، أي: لا يحب من يختال بنفسه ويعجب بها ويعجب برأيه، فهذا فيه الخيلاء والكبر، وهو فخور مفتخر بنفسه وماله، وهو بغيض إلى الله. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة لقمان [17 - 19]

تفسير سورة لقمان [17 - 19] في وصية لقمان لابنه آداب لا بد للمؤمن أن يلتزم بها، منها: إقامة الصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه الأمور قد أوجبها الله عز وجل، ومنها: النهي عن تصعير الخد وعن التكبر، والأمر بالتواضع مع الناس، والاقتصاد في المشي، وخفض الصوت عند الكلام؛ لأن أنكر الأصوات صوت الحمير.

تفسير قوله تعالى: (يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر)

تفسير قوله تعالى: (يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة لقمان في وصية لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ * وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ * أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [لقمان:17 - 20] ذكر الله سبحانه وتعالى وصية لقمان الحكيم لابنه وهو يعظه، وهذه الوصية عظيمة ينبغي على المسلم أن يتعلمها وأن يوصي أبناءه بمثلها، وأول الوصية: الوصية بتقوى الله سبحانه، وبتوحيده والخوف منه سبحانه وتعالى, قال تعالى: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} [لقمان:13] أي: اتق غضب الله سبحانه في أعظم الأشياء وهو التوحيد، لا تشرك بالله، واجتناب الشرك بالله سبحانه معناه: إثبات التوحيد لله سبحانه وتعالى في العبادة، وعقيدة الإنسان المؤمن أن الله وحده هو الرب الذي يخلق، وهو الإله الذي يستحق أن يعبد، وهو القوي القادر العليم سبحانه، ولذلك أكد هذه المعاني لقمان عليه السلام حين قال لابنه: {لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان:16]. إذاً: عقيدة الإنسان المؤمن فيها توحيد الله سبحانه وتعالى، وفيها العلم واليقين بصفات الله العظيمة سبحانه وتعالى, وأنه يعلم ما ظهر وما اختفى، ويعلم ما قل وما كثر، ما عظم وجل وما قل، كل ذلك يعلمه الله سبحانه ويقدر عليه، وهذا معنى قول لقمان عليه السلام: (إنها إن تكن مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأتِ بها الله) ولن يأتي بها إلا وقد علم مكانها سبحانه وتعالى، فهنا إثبات العلم لله عز وجل والقدرة، علم لا يخفى عنه خافية، وقدرة لا يحتجب عنه شيء سبحانه وتعالى ولا يمانعه شيء، فإذا كان هذا المثقال الصغير الذي يخفى على كل مخلوق يعلمه الله سبحانه وإن كان مثل حبة الخردل؛ فالله يعلم كل شيء، ويقدر على كل شيء، ولطيف خبير سبحانه وتعالى. ثم جاء الأمر بأركان هذا الدين العظيم، قال تعالى: (يا بني أقم الصلاة) فيأمره بأعظم أركان هذا الدين بعد التوحيد وهو إقامة الصلاة، ولاحظ هذه الوصية من لقمان التي تخللتها وصية الله لكل عبد بالوالدين إحساناً، قال الله سبحانه قولاً معترضاً في وسط كلام لقمان الحكيم عليه السلام: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [لقمان:14] إذاً: لقمان أوصى بعبادة الله، والله أوصى الأبناء برعاية الوالدين. قال تعالى: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17] فالعبادة أن تصلي لله سبحانه وتعالى، والصلاة كما قال سبحانه في سورة العنكبوت: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] فإذا أقمت الصلاة ونهتك صلاتك عن الفحشاء والمنكر فأنت مهيأ لأن تأمر غيرك بإقامة الصلاة والانتهاء عن الفحشاء والمنكر، وأمر غيرك بالمعروف، ونهيه عن المنكر، فإذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، تعرضت لإيذاء الناس وللضرر وغير ذلك، فاصبر على ذلك, فإنك لن تأمر بالمعروف وتنجو من الناس وتسلم، ولن تنهى عن المنكر فتنجو من شر الناس، بل لا بد من بلاء في ذلك، ولابد من صبر على ما أصابك، وذلك مما عزم الله عز وجل عليك ومما شدد فيه، قال تعالى: (إن ذلك من عزم الأمور)، أي: من عزائم أمور هذا الدين ومن الواجب في هذا الدين، ومما أمر الله عز وجل به في هذا الدين أمراً مؤكداً، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على الأذى في ذلك من أمر الله سبحانه الذي أمرك به.

تفسير قوله تعالى: (ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض فرحا)

تفسير قوله تعالى: (ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض فرحاً) إذا كان الإنسان يتعرض للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعله قد يستشعر في نفسه أنه أعلى من غيره وأنه أفضل من غيره، وتحدثه نفسه بالعجب والخيلاء والاستكبار على الخلق، فتأتي النصيحة التالية: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان:18] أي: لا تعوج على الخلق وتظن في نفسك أنك خير من الناس، فلعل هذا الذي تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر يكون خيراً منك في يوم من الأيام, وكم من إنسان قليل في علمه يدعو إنساناً جاهلاً لا يعرف شيئاً، فإذا بهذا الإنسان الجاهل يتوب ثم يتعلم ويفوق هذا الذي دعاه إلى الله سبحانه وتعالى؛ لذلك لا تغتر ولا تتكبر على الخلق، ولا تظن أنك أنت الذي هديت فلاناً، إنما الهدى بيد الله سبحانه يهدي من يشاء فضلاً منه سبحانه، ويضل من يشاء عدلاً منه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن العبد ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها). لذلك الإنسان المؤمن يخاف من الله عز وجل، فتراه يدعو الخلق إلى الله سبحانه، ويتمنى لهم أن يؤمنوا وأن يثبتوا وأن يثبت معهم هو على هذا الدين، ولا يرى لنفسه فضلاً على أحد أبداً، أما الإنسان المغرور إذا دعا إنساناً يستشعر أنه هو الذي سينجيه من النار، وأنه هو الذي بيده أن يحوله من ضلال إلى هدى، وأن له فضلاً على غيره، وأنه يستحق أن يكون من أهل الجنة, فليحذر المؤمن -وخاصة الذي يتحكم بالأمر بمالعروف والنهي عن المنكر- من الغرور، ومن أن يصعر خده للناس. والتصعير والصعار: داء يصيب الإبل فيعوج رقبة الجمل، فكذلك الإنسان المغرور يعوج رقبته على الناس، يرفع شيئاً من عنقه على الناس متعالياً مستكبراً مختالاً فخوراً بنفسه. قال تعالى: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا} [لقمان:18] قالوا في معناها: لا تمل خدك للناس كبراً عليهم وإعجاباً بنفسك واحتقاراً للخلق، هذا تأويل ابن عباس رضي الله عنهما وجماعة من أهل العلم. وقيل في معناها أيضاً: (تصعر خدك للناس) أي: أن تولي شدقك إذا ذكر الرجل عندك كأنك تحتقره، فكل إنسان له قدر عند نفسه، وله قدر عند خالقه سبحانه وتعالى، والله أعلم بهذا الإنسان، فلا تحتقر أحداً من الخلق، ولكن ادع إلى الله سبحانه وتعالى، وظن الخير في غيرك، لعل هذا الذي تنظر إليه بازدراء واحتقار يكون أفضل منك في يوم من الأيام. فعامل الناس بالصورة التي تحب أن يعاملوك بها، وانظر للذي تأمره وتنهاه وضع نفسك مكانه، إذا كنت أنت مكانه في هذه المعصية وهو يأمرك، فإنك تحب أن يأمرك باللين، فكن ليناً أنت معه، وأمره بالطريقة التي تحب أن يأمرك هو بها في يوم من الأيام، عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به. يقول الإمام القرطبي رحمه الله: فالمعنى: أقبل على الناس متواضعاً مؤنساً مستأنساً، وإذا حدثك أصغرهم فاصغ إليه حتى يكمل حديثه، وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، ومن هذا المعنى: ما جاء في حديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تباغضوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخواناً) يعني: لا تتعاطوا أسباب البغضاء فيما بينكم، بل أبعد هذه الأسباب التي تفسد العلاقة بينك وبين أخيك, ولا تعط دبرك -أي: ظهرك- لأخيك وتنصرف من الناحية الأخرى، لأن هذا قد يكون من باب المخاصمة، ومن باب الكبر والغرور، حيث إنه يرى نفسه أفضل منه. وليس معنى ذلك: أن الإنسان يهين نفسه، فلم نؤمر في الشريعة بأن يهين أحدنا نفسه، فإن بعض الناس إذا ذهبت إليه قد يسخر مني، ولم تأمرني الشريعة أن أذهب إليه حتى يسخر مني, وقد أرى الإنسان الذي عنده غرور عجب بنفسه أني إذا تكلمت معه نزل علي وأزرى بشأني، فإن هذا لا يستحق أن يتكلم أحد معه، فالشريعة لا تأمرنا بأن نهين أنفسنا، ولا تأمرنا بأن نترفع على الخلق، فلا بد أن تكون مع الناس لطيفاً رءوفاً رحيماً كما كان النبي صلوات الله وسلامه عليه. ولا مانع من تأديب الإنسان، كأن يكون الإنسان معلماً يعلم غيره، ويؤدبهم بكتاب الله سبحانه وتعالى، ويزجر من يستحق أن يؤدب وأن يزجر، وليس في هذا شيء من الغرور، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يزجر من يستحق ذلك من أصحابه عليه الصلاة والسلام، فقد جاء عمر بن الخطاب بصحيفة من التوراة قد ترجمت له وفيها مواعظ، فأراد أن يقرأها على النبي صلى الله عليه وسلم، فتعجب منه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (ما هذا يا ابن الخطاب؟!) والعادة منه صلى الله عليه وسلم أن يقول: يا عمر، أما في هذه المرة فقال: (ما هذا يا ابن الخطاب) والخطاب أبو عمر مات كافراً فكأن عمر عندما يأتي بصحيفة من التوراة ويقرؤها يعود إلى الكفر، فقال عمر: (يا رسول الله! صحيفة من التوراة أتيت بها حتى أزداد بها علماً، والذي نفسي بيده لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني)، أي: لو كان موسى حياً في وجود النبي صلى الله عليه وسلم فلا يحل له أن يقرأ في التوراة، بل يلزمه أن يتابع النبي صلوات الله وسلامه عليه، فهذا من تأديبه صلوات الله وسلامه عليه، وقد أدب كعب بن مالك، وأدب غيره ممن تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وهجرهم النبي صلى الله عليه وسلم، حتى تأدبوا الثلاثة، وكانوا عبرة وعظة لهم ولغيرهم. إذاً: التأديب والزجر للإنسان ليس معناه: الغرور عليه، فالدين يأمرنا أن نهجر أهل المعاصي، فإن لم يكن في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنك تلجأ إلى الزجر والتأديب، وفيه هجر لهذا الإنسان حتى يرجع إلى دين الله، ويراجع الصواب. فقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تباغضوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا) أي: لا تتعاطوا أسباب ذلك، أسباب الهجر، وأسباب القطيعة، وأسباب الحسد، وأسباب البغضاء، فالمسلم يرى نفسه أخاً لأخيه المسلم، ويحب لأخيه ما يحب لنفسه، فإذا أمر بالمعروف كان أمره بالمعروف معروفاً، وإذا نهى عن المنكر لم يكن فاحشاً ولا بذيئاً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه) فيكون الإنسان المؤمن رءوفاً رحيماً لطيفاً رفيقاً مع من يأمرهم من الناس، ويتمنى أن يتركوا ذلك الشيء السيئ قبل أن يأتيهم، وشتان بين إنسان تواضع لله وأخلص النية لله، وإنسان آخر أراد أن يقال عنه: فلان كذا، وفلان كذا.

نهي المسلم عن المرح والخيلاء والكبر

نهي المسلم عن المرح والخيلاء والكبر قال تعالى: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا} [الإسراء:37] المرح: هو التبختر، أن يمشي الإنسان متخبترا مستكبرا يختال في مشيته، ففي الأثر عن غضيف بن الحارث قال: أتيت بيت المقدس أنا وعبد الله بن عبيد بن عمير، فجلسنا إلى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، فسمعته يقول: إن القبر يكلم العبد إذا وضع فيه، يقول: يا ابن آدم! ما غرك بي ما غرك بي؟ ألم تعلم أني بيت الوحدة؟ ألم تعلم أني بيت الظلمة؟ ألم تعلم أني بيت الحق؟ يا ابن آدم ما غرك بي؟ لقد كنت تمشي حولي فداداً. هذه الموعظة ليس حديثاً مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هي من قول عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تبارك وتعالى عنه, فلما قال: لقد كنت تمشي حولي فداداً، قال غضيف: ما الفداد يا أبا أسماء؟ قال: كبعض مشتيك يا ابن أخي! فالفداد: أن يمشي المرء مختالاً متكبراً، يدق برجليه على الأرض ويقفز، وهذا من أدبه رضي الله عنه حين قال: كبعض مشيتك يا ابن أخي! فلم يقل له: كمشيتك دائماً، وإنما قال: أحياناً. ومشية الفداد أصلها مشية أصحاب الإبل، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الفخر والخيلاء في الفدادين من أصحاب الإبل؛ فعندما يكون فوق الجمل يحس أنه أعلى من الناس, والرقة والتواضع في أهل الغنم، كذا ذكر النبي صلوات الله وسلامه عليه. فالغرض: أن الإنسان حين يكون معه مال، ومراكب عالية فارهة يستكبر على الخلق، ويمشي بينهم مرحاً باختيال وفخر، فحذر الله سبحانه وتعالى من ذلك، قال تعالى: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان:18] ويأبى الله عز وجل أن يدخل الجنة إنساناً في قلبه مثقال ذرة من كبر، فكيف بالإنسان المستكبر! فالكبر من خصوصيات الله سبحانه وتعالى، وهي صفة لا تليق إلا به سبحانه، فالكبر لله عز وجل، والعظمة لله؛ لأنه يستحق ذلك سبحانه وتعالى، أما المخلوق الضعيف الذي خلق من طين، وخلق من تراب يداس إذا مشى الناس فوقه ما الذي يدعوه إلى الاستكبار وهو ضعيف؟! بل إذا كان ذا غنىً وقوة فإنه يرجع إلى الضعف مرة أخرى، فالكبر لله عز وجل، وهي صفة جلال له سبحانه وتعالى وحده ولذلك يقول الله سبحانه في الحديث القدسي: (الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني في واحدة منهما أدخلته النار) فالله سبحانه تبارك وتعالى له العزة، والمؤمن له عزة، بأن يعزه الله سبحانه وليس لأصله، ولكن الله يعز المؤمنين بإيمانهم، إذاً: العزة صفة جلال وكمال لله سبحانه وتعالى، فالكبرياء والعظمة والعزة له سبحانه وتعالى، فإذا كان الإنسان يتعزز على خالقه ويستكبر على الخلق وعلى الخالق، فإنه يستحق أن يكون في النار. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ} [لقمان:18] أي: يختال ويعجب بنفسه وبرأيه وحسنه، ويعجب بأن حوله أنصاراً وأولاداً، فهو معجب بنفسه، مختال فخور مكاثر للخلق في المال والولد والجاه والوجاهة والذكاء، ويظن أنه أفضل من غيره، قال تعالى: (إن الله لا يحب كل مختال فخور) فارجع الأمر إلى صاحبه سبحانه وتعالى وقل: اللهم وفقني إلى كذا، قال تعالى: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88] فالتوفيق بالله سبحانه وليس بذات العبد في نفسه. فمن وصية لقمان لابنه: (إن الله لا يحب كل مختال فخور) وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة) فإذا كان الإنسان يمشي وثوبه إلى الأرض لا ينظر الله عز وجل إليه لا في الدنيا وهو يصلي ولا في الآخرة، فإذا كان هذا محله عند ربه سبحانه الاحتقار والازدراء، فليس من الممكن أن يكون هذا الإنسان من أهل الجنة؛ بل إن هذا يستحق أن يكون في النار.

تفسير قوله تعالى: (واقصد في مشيك واغضض من صوتك)

تفسير قوله تعالى: (واقصد في مشيك واغضض من صوتك) يقول لقمان لابنه: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:19] أي: لا يكن مشيك اختيالاً، وليكن مشيك فيه قصد وسكينة، وليس معناه: أنك لا تسرع، فهناك فرق بين إنسان مستعجل في حاجة من حوائجه، وبين إنسان يقفز على الأرض، يسرع فرحاً بنفسه معجباً، فلا بد أن تقصد في مشيك كعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً، وقد كانت مشية النبي صلى الله عليه وسلم بحسب حاجته، فكان هادئاً في مشيته، ولكن كان يسرع كالذي ينزل من على جبل. قال تعالى: (واغضض من صوتك) أي: عود نفسك على ذلك، فلا يكن صوتك عالياً؛ لأن الصوت العالي صوت الحيوان, فالحيوان في الغابة إذا رفع صوته يغيظ غيره، فالحمار ينهق، والأسد يزأر، والنمر يصرخ لكي ينبه غيره أنه موجود في المكان، والإنسان ليس حيواناً فلماذا يرفع صوته؟! فلا بد للإنسان أن يغض من صوته فيتلكم بصوت خفيف سواء كان رجلاً أو امرأة، فاغضض صوتك فإنك لا تخاطب أصم، وارفع صوتك بالقدر الذي تسمع به غيرك. يقول الله سبحانه وتعالى على لسان لقمان: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:19] إن الصوت المنكر الفاحش هو صوت الحمير، فالإنسان يغض من صوته سواء كان في درس علمي أو خطبة أو توضيح أو كلام مع الناس على القدر الذي يسمعك به فقط ليس أكثر من ذلك. قال تعالى: {إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:19] فقد جعل الله عز وجل صوت الحمار أقبح صوت، ومثله الذي يرفع صوته في الناس، وهنا لعل هذا التنبيه الذي يذكره الله لأن العرب في الجاهلية اعتادوا على رفع الأصوات ظناً منهم أن رفع الصوت من التغلب على الغير، فجاء الإسلام وعلمنا التعقل؛ لأن بالعقل تغلب غيرك وليس بعلو صوتك، قيل: إن العرب كانوا يعتبرون من هو أشد صوتاً فيهم أعز نفس فيهم، ومن هو أخفض صوتاً يكون أذل رجل فيهم، يقول شاعرهم: جهير الكلام جهير العطاس جهير الرواء جهير النعم ويعدو على الأين عد الظليم ويعلو الرجال بخلق عمم والظليم: الضبي سريع الجري، والأين: هو الإنسان الذي أصابه الإعياء، ومعناه: أنه يلحق الذي أصابه الإعياء ويجري إليه ليعينه، ويعلو الرجال بخلق عمم، أي: أنه أعلى من الرجال في الخلق، طويل عريض أعلى من غيره، هذه هي الأشياء التي يكون الإنسان عزيزاً بها عندهم، لكن الإسلام علمنا أن الإنسان قد تحتقر منظره ويكون عند الله أعظم من جبل أحد، فإن الصحابة لما رأوا عبد الله بن مسعود وهو على شجرة يجني ثمارها ضحكوا، فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم: (مم تضحكون؟ قالوا: نعجب من دقة ساقيه) فرجلاه رفيعتان جداً، نضحك عليه لذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لهي عند الله أعظم من جبل أحد) أي: هاتان الرجلان اللتان لا تعجباكم وتضحكون منها هي عند الله أوزن وأثقل من جبل أحد في ميزانه رضي الله عنه. نسأل الله عز وجل أن يعلمنا ديننا وأن يفقهنا فيه، وأن يرزقنا العلم والحلم وحسن الخلق. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة لقمان [20 - 22]

تفسير سورة لقمان [20 - 22] يعدد الله عز وجل في آياته القرآنية ما أسبغ على عباده من النعم الوفيرة، فقد سخر لهم ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما، ولكن بعض الناس يقابل نعمة الله بالجحود والنكران، وآيات الله بالجدال والعناد بغير علم ولا دليل ولا بينة، اتبع الآباء والأجداد في العبادات والطاعات، وأعرض عن رب الأرض والسماوات، والناجي والفائز بجنة الله هو من أسلم وجهه لله وأحسن إسلامه لربه.

نعم الله عز وجل في السماوات والأرض

نعم الله عز وجل في السماوات والأرض الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة لقمان: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ * وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [لقمان:20 - 22]. في هذه الآيات من سورة لقمان يخبر الله سبحانه وتعالى عباده عن قدرته العظيمة في خلق السماوات والأرض، وتسخيره لعباده ما في السموات وما في الأرض لنفعهم. وهذه الآيات مرئية أمام الإنسان، ولذا يقول الله عز وجل لعباده: {أَلَمْ تَرَوْا} [لقمان:20]، أي: هلا تدبرتم ونظرتم في خلق السموات والأرض، وما سخر الله عز وجل لعباده فيها، فعرفتم كيف خلق الله سبحانه، وكيف منح وتفضل على خلقه بأن نفعهم بذلك. {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ} [لقمان:20] أي: لنفعكم، فجعل الله سبحانه وتعالى هذه الأشياء مسيرة بقضائه وقدره وقدرته، وسخرها: سيرها كما يريد سبحانه وتعالى، فينتفع الخلق بما خلق سبحانه، وقوله: {سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [لقمان:20] أي: ما في السماوات من شمس وقمر ونجوم وملائكة لمنفعة العباد، وأنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها، وأرسل الرياح على العباد فيها النسيم وفيها منافع للخلق، لو نظروا وتأملوا فيها لعرفوا بديع خلق الله سبحانه، وعرفوا رحمة الله بعباده. وسخر لكم ما في الأرض من نعم الله سبحانه في الجبال، وفي الأشجار، والثمار، وفي البحار والمحيطات والأنهار، وغيرها من الأشياء التي خلقها الله في الأرض فيرى الإنسان كيف سخرها الله سبحانه وتعالى لينتفع العبد بها. قال الله تعالى: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ} [لقمان:20]، فنعم الله عظيمة، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34]، والله بالناس رءوف رحيم سبحانه، حيث أنعم عليهم بالنعم العظيمة والكثيرة الجليلة الوفيرة، ومع هذا فالعباد في بعد عن الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال: {إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34]، أي: ظالم لنفسه، كنود جحود لنعم الله سبحانه وتعالى عليه، قال تعالى: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ} [لقمان:20]، الإسباغ: الإكمال والإتمام والإحاطة بنعمة ربنا سبحانه وتعالى، فقد أحاطنا بنعمه العظيمة، ففي الليل والنهار نرى نعم الله عز وجل علينا وعلى أهلينا، وفي أرضنا وديارنا، في كل مكان نرى نعم الله سبحانه وتعالى، وفي كل شيء له آية ونعمة وفضل، فأسبغ، أي: أتم النعمة وأكملها بفضله سبحانه وتعالى.

أقوال المفسرين في النعم الظاهرة والباطنة

أقوال المفسرين في النعم الظاهرة والباطنة قال الله تعالى: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان:20]، (نعمه) جمع نعمة، وقد قرئت بالإفراد، وقرئت بالجمع، فقراءة الجمع قراءة نافع وأبي جعفر وأبي عمرو البصري، وقراءة حفص عن عاصم: نعمه ظاهرة وباطنة، فبالإفراد قرأ جمهور القراء: ((وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَة ظَاهِرَةً وَبَاطِنَة))، و (نعمة): جنس، من باب قول الله عز وجل: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ} [إبراهيم:34]، أي: نعم الله سبحانه، فالجنس يعبر فيه بالإفراد عن الجمع، وجنس النعمة منه سبحانه، والمفسرون يذكرون النعم الظاهرة والباطنة على اختلاف الروايات واختلاف تفسيرها، وإن كان المعنى لا يختلف، ولكن كل يذكر شيئاً من هذه النعم العظيمة. يقول ابن عباس: النعمة الظاهرة الإسلام، وما حسن من الخلق، وهذه نعمة ظاهرة على الإنسان، فالله سبحانه أنزل هذا القرآن العظيم، فهدى به العباد ظاهراً بدينه سبحانه، فظهر الإسلام في الأرض، وهداهم بفضله سبحانه وتعالى، فحسنت أخلاقهم، وظهرت أمام الخلق كنعمة ظاهرة من الله سبحانه. كذلك أتم على العباد نعمة الخلق، فجعل الإنسان سوياً معتدلاً، يمشي على رجليه، ويقف على قدميه، فمن فضل الله سبحانه تبارك وتعالى. أن خلق الإنسان فسواه فعدله وهذه نعمة ظاهرة. قال ابن عباس: والباطنة ما ستر عليك من سيئ عمل، وذلك أن العبد قد يقع في السيئات، والله يسترها عليه، ولا يفضحه بفضله سبحانه وتعالى وبرحمته. ويقول بعض العلماء: النعمة الظاهرة: الصحة وكمال الخلق، فالله جعل الإنسان سوياً معتدلاً كاملاً، ينطق ويتكلم، ليس أعجمياً لا يجيد النطق، ولكن ينطق ويعبر عن نفسه، وليس كالحيوان الأعجم، والنعمة الباطنة: المعرفة والعقل، فالله أعطى الإنسان معرفة في قلبه، وعقلاً يعقل به ويفهم، وهذه من النعم الباطنة. وقالوا أيضاً: النعم الظاهرة نعم الدنيا، وما يحصله الإنسان من الدنيا من نعم الله سبحانه، والنعم الباطنة أي: الخفية، مما يكون في الدار الآخرة، فالعبد يعمل الصالحات -وهذه نعمة من الله سبحانه وتعالى- ويأخذ الثواب، وهذه نعمة خفية باطنة مستترة عنه؛ فهو لم ير الثواب ولكنه يوم القيامة سوف يجده. كذلك قالوا: النعمة الظاهرة: ما يرى بالأبصار من المال والجاه والجمال، وتوفيق الله عز وجل لعباه في الطاعات، والنعم الباطنة: ما يجده الإنسان في نفسه وقلبه من العلم بالله سبحانه، ومن حب الله سبحانه، ومن المودة في الله والإخاء فيه، ومن حسن اليقين به، وغير ذلك مما يدفعه الله سبحانه عن العبد من الآفات، فهذه بعض نعم الله الظاهرة والباطنة.

معنى قوله تعالى: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير)

معنى قوله تعالى: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير) إذا كانت نعم الله عز وجل على العباد بهذه الصورة العظيمة، فلم يجادل الإنسان بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير؟ ولم يكثر من الجدل فيضيع عمره في المناقشة وفي الهراء، ولا يريد أن يشكر نعمة الله سبحانه وتعالى عليه؟ قال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [لقمان:20]، أي: يجادل في أمر الله سبحانه، كما قالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مجنون، وساحر، وكذاب، وهم أدرى الناس بكذبهم وأنه صلى الله عليه وسلم ليس بمجنون ولا ساحر ولا كذاب، ولكنهم يفترون على الله ورسوله الكذب، ويجادلون بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، أي: بغير آثار من العلم، وبغير كتاب نزل من عند الله سبحانه وتعالى، وبغير علم عقلي، ففي عقولهم غباء، فهي غائبة عن الحق ولذلك يجادلون بالباطل. وقوله: {وَلا هُدًى} [لقمان:20]، أي: ولا هداية، بل هم في ضلال. وقوله: {وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [لقمان:20] أي: كتاب منزل من عند رب العالمين سبحانه. هؤلاء الذين يجادلون في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، إذا قيل لهم: اتبعوا ما أنزل الله، وهذا العلم الذي جاء من عند الله، كان A { بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [لقمان:21]، وكأن الآباء هم أعلم الناس بكل شيء، وكأنهم كانوا على هدى، فهم يتبعونهم فيما هم فيه من الباطل، فاتبعوا آباءهم ليس لكونهم على هدى وإنما لعصبية جاهلية، فكما صنع الآباء صنعوا بغير نظر إلى الدليل ولا إلى البرهان، فيعبدون الأصنام والأحجار لأن آباءهم كانوا يفعلون ذلك، فهم يقلدونهم بغير تفكير ولا علم ولا هدى ولا كتاب منير، وعندما يناقشون أمراً من الأمور فكأنهم بلا عقول.

صورة من صور الجدال بغير علم

صورة من صور الجدال بغير علم إن أوضح مثال على الجدال بغير علم تلك المناقشة التي دارت بين الكفار وبين النبي صلوات الله وسلامه عليه، فقد جاء في حديث رواه أبو يعلى عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: اجتمعت قريش للنبي صلوات الله وسلامه عليه يوماً، فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل، وهذا هو العلم الذي يزعمونه، فهو إما سحر أو شعر أو كهانة، فهم يريدون أحداً منهم عنده علم بهذه الأشياء ويجادل النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا، وشتت أمرنا وعادى ديننا، فليكلمه ولينظر ما يرد عليه، فبحثوا عن أعلم الناس بالشعر والسحر والكهانة، فوجدوا واحداً منهم، وهو عتبة بن ربيعة، رجل من كبار المشركين، وكنيته أبا الوليد، فقالوا: أنت يا أبا الوليد أعلم الناس بهذه الأشياء، فاذهب إلى محمد فانظر ماذا يقول، فذهب عتبة بن ربيعة -وهو أحد قتلى بدر هو وأخوه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة، كلهم قتلوا في يوم بدر كفاراً- فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم -والغرض هو بيان كيف يناقش هذا الرجل- فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد! أنت خير أم عبد الله؟ وهذه من المناقشات الغبية التي ليس فيها فائدة، فكما أنهم يقدسون آباءهم ويتبعونهم بحق أو باطل من غير تفكير، كذلك يريد أن يقول للنبي صلى الله عليه وسلم. فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يرد على هذا الكلام الفارغ؛ لأنه لا يستحق أن يرد، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الرجل: يا محمد! أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الرجل: إن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي نعبد. وهو يريد أن يوصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى نتيجة معينة، فالعادة أن الإنسان يستحي إذا قيل له: أنت أحسن أو أبوك؟ فيقول: بل أبي أحسن، فيقال له: إذا كان أبوك أحسن فإنه عبد الأصنام، فلماذا لا تعبدها؟ ولذلك فقد وفق الله النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجب على هذا الجاهل. فإذا بالرجل يفترض له الافتراض الجدلي الباطل، ويريد أن يلزم النبي صلى الله عليه وسلم بأمر من أمرين: أما أن يكون هو خيراً أو أبوه، وإذا كان أبوه وجده خيراً منه فلماذا لا يعبد الآلهة التي كانوا يعبدونها؟ ولماذا يعيبها؟ وإذا كان هو خيراً منهم فليقل ذلك. وكأن هذا الأحمق الجاهل الغبي لم يسمع بهذا القرآن، ولم يسمع شيئاً مما قاله النبي صلى الله عليه وسلم عندما كان يدعوهم ويقرأ عليهم القرآن، وهم يعرضون عنه ولا يريدون أن يسمعوه، ثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم، تكلم حتى نسمع قولك، أما والله ما رأينا سخلة أشأم على قومك منك، فرقت جماعتنا، وشتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب، حتى طار فيهم أن في قريش ساحراً وكاهناً، والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى بأن يقوم بعضنا لبعض بالسيوف حتى نتفانى. كل هذا يقوله للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى: أنت السبب في هذا كله، فلم يبق إلا أن نقتل بعضنا بعضاً بسببك أنت، يقول هذا الكلام من غير تعقل ولا تفكير، فهو وقومه لا يفهمون ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فقد طمس الله على قلوبهم وعقولهم، وعلى بصائرهم وأبصارهم. ثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كان إنما بك الحاجة -أي: إذا كنت تفعل ذلك لأنك فقير محتاج- جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أغنى قريش رجلاً، وإن كان إنما بك الباءة -أي: تريد أن تتزوج- اخترنا لك من نسائنا -أي: نساء قريش- فنزوجك عشراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفرغت)؟ أي: هل أكملت كلامك؟ -فقال: نعم، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {حم * تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت:1 - 5]، حتى بلغ قول الله سبحانه وتعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:13]، فقال عتبة: حسبك حسبك)، أي: يكفي، فهو لا يريد أن يسمع أكثر ذلك. ثم رجع إلى قريش، فقالوا: ما وراءك؟ أي: ما الذي عملته مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما تركت شيئاً أرى أنكم تكلمونه به إلا كلمته، أي: قلت له كل ما تريدونه قوله له، قالوا له: فهل أجابك؟ قال: نعم، ثم قال: والذي نصبها بنية -يحلف برب الكعبة- ما فهمت شيئاً مما قال، غير أنه قال: أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، فقالوا له متعجبين: ويلك! رجل يكلمك بالعربية فلا تدري ماذا يقول! مع أنهم بحثوا عن أعلم رجل بالشعر والسحر والكهانة ليذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: لا والله ما فهمت شيئاً مما قال غير ما ذكر من الصاعقة. هذا هو حالهم وتفكيرهم وجدلهم مع النبي صلوات الله وسلامه عليه، فهم لا يعقلون شيئاً، وصدق الله العظيم سبحانه حيث قال فيهم: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة:7]، فهذا حالهم في الدنيا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} [الحج:3]، فليس عنده علم عقلي، ولا هو على هداية، ولا على كتاب من عند رب العالمين سبحانه حتى يعرف الحق من الباطل.

تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله)

تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله) قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [لقمان:21]، أي: إن الذي كان يعبده آباؤنا سوف نعبده نحن، فيعبدون الأصنام والأحجار، وإذا قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: هذه الأحجار والأصنام لا تنفعكم، إن الذي ينفعكم هو الله الذي في السماء، فلماذا تعبدون هذه الأحجار؟ قالوا: إنها تقربنا إلى الله زلفى إنهم لا يعقلون ولا يفكرون، ومهما أوتوا من علم دنيوي من تجارة، أو صناعة أو غيرها، فهم في غفلة عن الخالق سبحانه وتعالى، وهذا حال الكفار، يعبدون غير الله سبحانه، ويهرفون بما لا يعرفون. إن أحد الأطباء سافر إلى اليابان لتحضير الدكتوراه في المخ والأعصاب، عندما تكلم عن اليابانيين وعن المستوى العلمي والراقي الذي وصلوا إليه، وأنهم فاقوا أهل الدنيا في العلم وجراحة المخ والأعصاب وغيرها من العلوم، هذا الدكتور الذي تعلم هناك يحكي عن الأساتذة اليابانيين أنه عندما يأتي وقت العبادة -مع هذا الرقي العظيم في العلم الدنيوي- يذهبون إلى المعبد ليعبدوا بوذا، وهو تمثال كبير من حجر، وعندما يدخلون المعبد يدقون الجرس حتى يصحوا بوذا من النوم، فهو راقد كسلان، فإذا قام من النوم عبدوه!! إن هؤلاء لا عقول لهم، وقد طبع الله على قلوبهم وختم على عقولهم وأبصارهم، فلا يفهمون شيئاً، حتى إن الإله الذي يعبدونه يحتاج إلى من يوقظه من النوم! قال الله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255]، فالله سبحانه لا نوم يأخذه ولا حتى غفلة يسيرة، فهو سبحانه كما يقول: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:41]، فلو نام الإله كما يزعمون لزالت السموات والأرض، فهو الذي يقوم عليها ويمسكها سبحانه وتعالى، ومع ذلك يعبدون آلهة من دونه، ويتعجبون من النبي صلى الله عليه وسلم، ويقولون: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]، أي: كيف تكون الآلهة هذه إلهاً واحداً فقط؟ وهذا من جهلهم وغيهم، وعدم معرفتهم. يقولون: إن الذي ينفع ويضر هو إله واحد في السماء، ومع ذلك فإنهم يعبدون آلهة كثيرة، وعندما يقول لهم النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله هو الخالق سبحانه، وهو الذي يستحق العبادة، يتعجبون ويصفقون بأيديهم وأرجلهم، ويقولون: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]، ومما يدل على أن هؤلاء لا عقول لهم أن أبا جهل وغيره عندما يدعون يقولون: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} [الأنفال:32]، بمعنى: يا رب! إذا كان هذا الذي جاء به محمد حقاً فأنزل علينا حجارة من السماء! مع أن الإنسان العاقل يقول: يا رب! إذا كان هذا حقاً فاهدني إليه، ويقولون كذلك: {رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص:16]، أي: أنهم يستعجلون إنزال العذاب قبل يوم القيامة، ولذلك يقول الله سبحانه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [لقمان:21]، وفي الآية الأخرى: {مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [البقرة:170]، أيي: ما وجدنا عليه آباءنا، قال الله تعالى: {أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [لقمان:21]، الشيطان يدعوهم إلى نار الجحيم الملتهبة، فهم قد أغمضوا أعينهم وساروا إلى نار السعير بغير هدى ولا بصيرة ولا تعقل، {أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [لقمان:21]، أي: هلا تفكروا في ذلك؟ فالنبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى رحمة رب العالمين سبحانه، والشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير، وهم وراء الشيطان حتى يلجوا معه النار.

تفسير قوله تعالى: (ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن)

تفسير قوله تعالى: (ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن) إن المؤمنين يسلمون وجوههم لرب العالمين، ولذلك مدحهم سبحانه فقال: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [لقمان:22]، إن (المسلم) كلمة عظيمة سمانا بها ربنا سبحانه، فلا نرضى بغيرها بديلاً عنها، فنحن المسلمون، والمؤمنون، وعباد الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كونوا عباد الله كما سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله)، قال الله سبحانه: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78]، فملة أبينا إبراهيم هي ملة الإسلام، والله سمانا المسلمين من قبل، ولم نسم أنفسنا، وقوله تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ} [لقمان:22] يدل على أن وجه الإنسان أشرق ما فيه، فإذا أسلم وجهه لله فباقي الأعضاء تبع له. وقوله تعالى: {وَهُوَ مُحْسِنٌ} [لقمان:22]، قيد لمن يكون هذا حاله، وهو أن يحسن في العمل ويتقرب إلى الله كأنه يراه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في درجة الإحسان: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، فالذي يسلم وجهه إلى الله ويحسن في العمل ويخلص لله سبحانه، فيعبده كأنه يراه؛ فهو المستمسك بالعروة الوثقى، قال الله تعالى: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [لقمان:22]، والعروة هي الحلقة التي تدق في الحائط ويشد عليها الحبل حتى تصل إلى الشيء المراد ربطه. فهذه العروة الوثقى هي التي توصل الإنسان إلى طريق كلمة لا إله إلا الله، أو دين الإسلام العظيم، والعروة الوثقى في جنة رب العالمين سبحانه، ودين الإسلام حبل طرفه بيد المسلم، فعلى الإنسان أن يستمسك بالعروة الوثقى حتى يصل إلى جنة رب العالمين سبحانه، وقوله: {وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [لقمان:22] أي: مرجع الأمور. نسأل الله سبحانه حسن المرجع والمآب والإخلاص والإحسان. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة لقمان [22 - 28]

تفسير سورة لقمان [22 - 28] يخبر الله سبحانه في هذه الآيات أن من استسلم وانقاد له وأحسن فإنه قد استمسك بلا إله إلا الله، وبدين الإسلام، وأنه سيثبته على ذلك حتى يلقاه، ثم يقول لبنيه عليه الصلاة والسلام: لا تحزن على من كفر بالله ولم يؤمن به حزناً يهلكك فلا تستطيع بسببه أن تدعو إلى الله سبحانه وتعالى، وقد حزن عليهم النبي صلى الله عليه وسلم لأن قلبه مملوء بالرحمة، وهؤلاء أمرهم إلى الله فهو الذي سيحاسبهم ويعاقبهم على كفرهم.

تفسير قوله تعالى: (ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى)

تفسير قوله تعالى: (ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة لقمان: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ * وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [لقمان:22 - 28]. يخبر الله سبحانه وتعالى أن المؤمنين هم الذين يسلمون أنفسهم ويوجهون وجوههم إلى الله سبحانه وتعالى، فهم مستسلمون لله في أمره ونهيه وبقضائه وقدره، راضون بشرعه سبحانه، محسنون يعبدون الله كأنهم يرونه سبحانه وتعالى ويخافونه ويستيقنون أنه معهم سبحانه، فهؤلاء الذين تمسكوا بالعروة الوثقى، وأخذوا بحبل الله سبحانه الذي ينجيهم الله عز وجل به ويوصلهم إلى جنته قال تعالى: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [لقمان:22] وهي قول لا إله إلا الله، وهي دين الإسلام، تمسكوا به فثبتهم الله عز وجل عليه حتى يلقوه {وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [لقمان:22] أي: مرجعها.

تفسير قوله تعالى: (ومن كفر فلا يحزنك كفره)

تفسير قوله تعالى: (ومن كفر فلا يحزنك كفره) يقول الله عز وجل لنبيه صلوات الله وسلامه عليه في شأن الكفار {وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} [لقمان:23] ولا بد أن يحزن النبي صلى الله عليه وسلم على هؤلاء الذين لا يؤمنون، وفرق بين حزن وحزن، فقد حزن النبي صلى الله عليه وسلم على هؤلاء حزناً يكاد يصل بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يهلك نفسه من شدة أسفه وحزنه عليهم، وهذا هو الذي نهاه الله عز وجل عنه، أما أن يحزن على كفر هؤلاء ويرجو من الله عز وجل أن يهديهم إلى دين الله سبحانه فلا بأس، وقد أبوا وأصروا على ما هم فيه من كفر، فحزن صلى الله عليه وسلم لأن قلبه ملئ بالرحمة، قال الله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] ولم يقل: للمسلمين، فقد كان رحمة للخلق جميعهم، فهو يتمنى الإيمان لجميع الخلق حتى ينجوا من النار، والحزن له مقدار معين، وإذا زاد عن هذا المقدار ربما أهلك صاحبه، قال تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6] (لعلك باخع نفسك) أي: مهلك نفسك (ألا يكونوا مؤمنين) أي: ليس المطلوب منك أن يشتد حزنك عليهم حتى تموت حزناً عليهم، فهم لا يستحقون ذلك، ووظيفتك ليست إدخال هؤلاء وتحويلهم عن دينهم، ولكن وظيفتك أن تبلغ {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة:99] فاهتم بوظيفتك وهي تبليغ رسالة الله سبحانه وتعالى، ولا يشتد بك الحزن فيمنعك عن الدعوة إلى الله سبحانه. فمن كفر من هؤلاء فلا يحزنك كفره، ولا تكن في ضيق مما يمكرون فالله معك: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] فالله بنصره وبقوته يؤيد المؤمنين، فهو مع المتقين ومع المحسنين، وهو معك يا رسول الله! وقراءة الجمهور: (فلا يحزنك كفره) وقرأها نافع: (فلا يُحزنك كفره) من أحزن الرباعي والثانية من الثلاثي (حزن). (إلينا مرجعهم) أي: سيرجعون إلينا لنحاسبهم ونعاقبهم على ما فعلوا {فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [لقمان:23] لقد كذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا وكذبوا على الناس ولكن إذا جاءوا إلى ربهم يوم القيامة يوم الفزع الأكبر لن يقدروا على الكذب؛ فإن الله سيفضحهم بما كانوا يفعلون، فإن الله عليم بما أخفته نفوسهم وبما دار في صدورهم.

تفسير قوله تعالى: (نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ)

تفسير قوله تعالى: (نمتعهم قليلاً ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ) قال الله: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا} [لقمان:24]، المسلم حين ينظر إلى الكفار وقد تمكنوا ويرى المسلمين في ضعف وقلة، والأعداء في كثرة وفي قوة وفي غناء حينما يرى ذلك يحزن، فالله عز وجل يقول لا تحزن؛ فإن هذا متاع الحياة الدنيا ومتاع الحياة الدنيا قليل (نمتعهم قليلاً) وأين سيذهبون منا (ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ) إلى عذاب النار وبئس المصير، إلى عذاب شديد، فليس عذاباً سهلا هيناً يزول عنهم؛ بل إن عذابهم لا يزول، وهو عذاب غليظ يغلظه الله سبحانه وتعالى على الكفار. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله عز وجل يغلظ جلود الكفار) فجلد الإنسان في الدنيا له سمك معين، وجلد الكافر في نار جهم أضعاف مضاعفة فهو سميك جداً، ومعلوم أن أشد الإحساس في الإنسان يكون في جلده لما فيه من أعصاب كثيرة وفي عظمه أيضاً، فيكثف الله عز وجل ويغلظ جلودهم حتى تستوعب العذاب الشديد في نار جهنم والعياذ بالله! وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن ضرس الكافر كجبل أحد) إذاً: رأسه كيف سيكون؟ وجسده كيف سيكون؟ والمقصود هو أن ينال كل جزء من جسده عذاباً شديداً، والمؤمن يكون على خلق آدم ثلاثين ذراعاً في السماء، ولكن فرق بين المؤمنين وبين هؤلاء الكفار الذين يجعلهم الله سبحانه وتعالى على هيئة عظيمة ليذلهم فيرون أنهم مهما كبرت أجسادهم فإن النار تستوعبهم وتقول: هل من مزيد، ويغلظ عليهم العذاب في نار جنهم، ولا حياة كريمة في النار، ولا موت يريح هؤلاء الكفار. قال الله سبحانه: (نمتعهم!) أي: في الدنيا (قليلاً)، ومهما عمروا في الدنيا فلابد أن يرجعوا إلى الله عز وجل {(ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} [لقمان:24]، (نضطرهم) أي: نلجئهم إلى عذاب غليظ، فيدفعون إلى نار جهنم دفعاً ولا يقدرون على الهرب مع أحجامهم الضخمة يوم القيامة، فالكافر الذي يكون في الدنيا شيئاً عظيماً أمام الناس لا يزن عند الله جناح بعوضة في ميزان الحسنات والسيئات.

تفسير قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله)

تفسير قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله) قال الله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25] تعجب من حال هؤلاء واحمد ربك على ما أنت فيه من نعمة، فهؤلاء الكفار إذا سئلوا من ربكم؟ من الذي خلقكم؟ يقولون: الله، فإذا سئلوا: من تعبدون؟ قالوا: الأصنام! أي عقول هذه العقول؟! يعرفون أن الله سبحانه هو الخالق ويوجهون الشكر والعبادة إلى غير الله سبحانه، (قل الحمد لله) على ما أنت فيه من نعمة، (بل أكثرهم لا يعلمون)، وإن علموا من الدنيا لكن علمهم بالله وهو أعظم العلوم وعلمهم باليوم الآخر لا شيء. فليس عندهم خوف من الله، وليس عندهم علم يقيني ينجيهم من النار، ولكن أنت أيها النبي صلوات الله وسلامه عليه والمؤمنون معه عندكم العلم العظيم علم كتاب الله عز وجل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد عرفوا ربهم سبحانه بقدرته وبعظمته وبعلمه وبحكمته، عرفوا الله سبحانه وتعالى بآياته المرئية في الكون والمتلوة في كتاب الله سبحانه، فعبدوا الله ولجئوا إليه سبحانه وعلموا العلم الذي ينفعهم {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [لقمان:25] (الحمد لله) أي: الثناء الحسن على الله سبحانه بما يستحقه وبما يليق به سبحانه وتعالى وبجلاله وكرمه وصفاته العظيمة، واشكر ربك سبحانه على ما أنعم عليك من نعمة الإسلام وكفى بها نعمة، وأهل الجنة حين يدخلون الجنة يقولون {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا} [الأعراف:43] فالهدى العظيم هدى الله يهدي به من يشاء.

تفسير قوله تعالى: (لله ما في السموات والأرض)

تفسير قوله تعالى: (لله ما في السموات والأرض) قال الله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [لقمان:26] يعني: هؤلاء الكفار المغترون بقوتهم وهم ضعفاء، المغترون بكثرتهم وهم قلة، المغترون بأموالهم ويظنون أنهم أغنى خلق الله سبحانه، يقول الله: لله ما في السموات والأرض، فكل ما في السموات وكل ما في الأرض بما في ذلك هؤلاء وما يملكون، كل ذلك ملك لله الغني سبحانه، فهو وحده لا شريك له الغني بذاته وما سواه مخلوق ومفتقر إليه سبحانه وتعالى، فمهما أعطي المخلوق من مال فإنه يخاف الفقر ويخاف أن يضيع منه المال، ويشعر أنه لا بد أن يحرس المال حتى لا يذهب من بين يديه، ولكن الله الغني الغنى الكامل بذاته، عطاؤه كلام ومنعه كلام، إذا أراد شيئاً إنما يقول له كن فيكون، خزائن الله ملأى لا تنقصها نفقة سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق الخلق حتى تقوم الساعة فإنه لم ينقص شيء مما في خزائنه سبحانه وتعالى، وهو الذي يقول: (لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر) فلو أن كل خلق الله سبحانه قاموا مرة واحدة وسألوا الله فأعطى كل واحد منهم أمنيته، فلن ينقص مما عند الله إلا شيء بسيط كما تجعل الإبرة في البحر فانظر بما تخرج من ماء {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [لقمان:26] أي: المحمود المستحق للحمد، المستحق لثناء الجميل سبحانه وتعالى على صفاته العظيمة وإحسانه على عباده.

تفسير قوله تعالى: (ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام)

تفسير قوله تعالى: (ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام) يقول تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان:27] ذكرنا أن هذه السورة مكية ولكن فيها أربع آيات مدنية هذه منها؛ لأن سبب نزولها اليهود، واليهود لم يكونوا بمكة وإنما كانوا بالمدينة، يقول ابن عباس: إن اليهود قالت يا محمد! كيف عنينا بهذا القول: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85] أي: كيف يذكر الله عنا ذلك وقد آتانا التوراة فيها كلام الله وفيها أحكام الله، وفي القرآن أن الله أنزل التوراة فيها أحكام كل شيء وهي تبيان لكل شيء، قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} [المائدة:44]، هذا كلام اليهود، فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان:27]. فالتوراة كلام من كلام الله عز وجل، والله يتكلم بما يشاء وقت ما يشاء سبحانه وتعالى، فلو أن الله قضى أقضية كثيرة فكتب قضاء الله سبحانه، ولو أنه تكلم سبحانه وتعالى بكلامه العظيم الجليل فقطعت الأشجار إلى أقلام والبحار التي في الأرض جميعها كل بحر يمده من ورائه سبعة أبحر تحولت إلى مداد، فكتب بهذه الأقلام وكتب بهذا المداد، والله يتكلم بقضائه وقدره وبكتبه سبحانه؛ لتكسرت الأقلام ونفدت ونفد المداد ولم تنفد كلمات الله سبحانه وتعالى وحكمه وقضاؤه وقدره! قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان:27] وانظر للمناسبة العظيمة بين الآيات وختام الآيات، فحين يتكلم عن عطاء الله سبحانه وتعالى وما يملكه الله سبحانه يختم بقوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [لقمان:26] وكل شيء ملك لله سبحانه، فهو الغني الذي يعطي من غناه سبحانه، وهو المستحق للحمد تبارك وتعالى. (إن الله عزيز) أي: منيع الجانب غالب قاهر سبحانه وتعالى، (حكيم) ينزل ما يشاء بحكمة، ولو شاء لجعل القرآن العظيم الذي بين أيدينا مجلدات كثيرة فهو على كل شيء قدير، ولكن من يطيق ذلك؟ ومن يقدر أن يحفظ ذلك؟ فالله لرحمته بعباده أنزل هذا الكتاب العظيم على هذا القدر الذي فيه تفصيل كل شيء وفيه النفع بأحكامه، فما أنزله إلا بحكمته سبحانه وبعلمه.

تفسير قوله تعالى: (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة)

تفسير قوله تعالى: (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة) قال سبحانه: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان:28] وهذه آية مدنية أيضاً، وكأن الناس تعجبوا من قيام الساعة، فبعد أن فني البشر وأكلتهم الأرض وصاروا تراباً كيف سيبعثون يوم القيامة؟ وكيف سيعرف أن في هذه الأرض فلاناً وفي هذه الأرض فلاناً وقد اختلطت الأجساد وصارت تراباً في البر وفي البحر؟ وكيف يجمعها الله سبحانه؟ فيقول: إن الأمر أسهل مما تفكرون فيه، إن خلق الجميع وبعث الجميع كخلق النفس الواحدة، فإن أمر الله تعالى أن يقول للشيء: كن فيكون، هذا أمره سبحانه وتعالى، والله على كل شيء قدير، وأمر الموت وأمر القيامة بقول من الله عز وجل، فيأمر الله عز وجل بالنفخ في الصور فيصعق من على هذه الدنيا من بشر، ويأمر سبحانه بالنفخة الأخرى فيقوم الناس من القبور. قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [لقمان:28] والله يسمع كل شيء، ويرى كل شيء سبحانه وتعالى، ولا يخفى عليه شيء من أصوات وحركات وأشياء يقولها الإنسان ويخفيها ويسرها، فالله يعلم كل شيء. فقد ذكروا في هذه الآية وغيرها أن الكفار كانوا يتعجبون: كيف خلق الله عز وجل الخلق أطواراً؟ وتسأل الكفار في مكة وفي المدينة وفي غيرها النبي صلى الله عليه وسلم: كيف أن الله خلق الإنسان أطواراً من تراب ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة، ثم جعل المضغة عظاماً وكسى العظام لحماً، ثم أنشأه خلقاً آخر؟ كل هذه المراحل مر بها الناس، ثم سيخرجهم الله مرة واحدة من القبور، فيقول الله سبحانه: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان:28] أي: كما هو يسير على الله سبحانه أن يخلق نفساً واحدة كذلك يسير عليه أن يخلق الجميع ويبعث الجميع من قبورهم مرة واحدة، فالله على كل شيء قدير، ولا يصعب عليه شيء. وقد ورد أن مجموعة من الكفار سألوا النبي صلى الله عليه وسلم هذا السؤال منهم أبي بن خلف ومنهم رجل اسمه أبو الأشدين، سألوا النبي صلى الله عليه وسلم متعجبين من هذا الأمر، وأبو الأشدين رجل من كفار مكة، ولذلك من يقول: إن هذه الآية مكية يقول: أبو الأشدين رجل من كفار مكة، والأشد مبالغة من الشديد، تقول: فلان شديد وفلان أشد، وأبو الأشدين كان فيه قوة عظيمة جداً، فقد كان يأخذ السجادة ويضع رجله عليها ويقول لعشرة: شدوها من تحت رجلي، وإذا قدرتم فخذوا كذا وكذا، فلا يقدرون، وتتمزق السجادة تحت رجله ورجله ثابتة فوقها، وكان كافراً، وكان يكيد للنبي صلى الله عليه وسلم كيداً شديداً، وفيه نزل قول الله عز وجل: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} [البلد:5]، وكان رجلاً كذاباً، فإذا سئل عن شيء قال: أنفقت مالاً كثيراً في كذا وفي كذا، والله عز وجل قد كذب هذا الرجل، فإنه لما سمع قول الله عز وجل في نار جهنم {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:30] اغتر وقال للناس: جهنم عليها تسعة عشر، أنا أكفيكم تسعة واكفوني الباقي، أكفيكم خمسة على ظهري وأربعة بيدي، واكفوني بقيتهم ونغلب محمداً بهذا الشيء! لقد كان مغروراً، لقد قاس الملائكة على الناس، ولم يعرف أنه في حماقته وغبائه وجهله لا يفهم شيئاً، فأين هذا المجرم الآن؟ وكم من مجرم مثل هذا الإنسان اغتر بقوته وظن بغبائه أنه قادر على ذلك، فيعجب الله عز وجل الخلق من مثل هذا الأحمق المغرور الغبي ثم يرينا نهايته، فإنه مات كافراً مجرماً، فإذا ذكر ضحك الناس على غبائه وأتبعوه لعنة إلى يوم القيامة، لعنة الله عليه وعلى أمثاله. فليحذر الإنسان المؤمن أن يغتر بهؤلاء الكفار وبما أعطاهم الله من قوة ومال؛ فإن هذا كله مسلوب من هؤلاء، وسيرجعون إلى ربهم مهما تمتعوا في الدنيا يوماً من الأيام، وسوف يرينا في الدنيا عواقب هؤلاء الكفار، وعواقبهم غير محمودة، فيرينا كيف أنه إذا أعطاهم شيئاً سلبه منهم شيئاً فشيئاً، صحةً وقوةً وغنى، وفجأة يضيع منه كل هذا ليرينا أن الحياة الدنيا مهما استمتع فيها الإنسان فما هي إلا متاع الغرور. نسأل الله عز وجل أن يهدينا وألا يضلنا، ونسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة لقمان [28 - 31]

تفسير سورة لقمان [28 - 31] من آيات الله الدالة على قدرته وعظمته ووحدانيته: تعاقب الليل والنهار، الناتج عن دوران الأرض حول نفسها، والشمس والقمر يجريان بنظام موزون وتقدير محكم، فيشرقان من المشرق ويغربان من المغرب، إلى أن يأتي اليوم الموعود فيختل نظام الكون وتشرق الشمس من مغربها، وذلك يوم لا ينفع نفساً إيمانها، وكل ذلك دليل على أن الله هو الحق سبحانه وتعالى.

كلمات الله لا تحصى

كلمات الله لا تحصى الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة لقمان: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [لقمان:28 - 31]. يخبرنا الله سبحانه وتعالى عن عظيم قدرته التي بين شيئاً منها في هذه الآيات وما قبلها، فيخبر أنه سبحانه وتعالى يتكلم بما يشاء من حكمته، ومن علمه سبحانه، فيكلم عباده، وينزل عليهم كتبه، ولو أن كلام الله سبحانه سجل وكتب بأقلام، وهذه الأقلام من جميع أشجار الأرض، ولو أن كل ما في الأرض من شجرة صارت جميعها أقلاماً، والبحر كله صار مداداً وحبراً تمد به هذه الأقلام ويكتب به، والبحر ليس وحده ولكن من ورائه سبعة أبحر تمده، وتكلم الله سبحانه بأمره ونهيه، وشرعه سبحانه، وعلمه، وحكمته، لنفد هذا كله من أشجار وأقلام، ومن مداد وغيره، ولا تنفد كلمات الله سبحانه وتعالى، فالله عزيز غالب سبحانه، وهو حكيم لا يفعل شيئاً إلا بحكمة منه سبحانه وتعالى، يتكلم وقتما يشاء سبحانه بما يشاء، كيفما يشاء، بحكمته وبعلمه، وبقدرته سبحانه وتعالى. ويسمع من يشاء، فقد أسمع في هذه الدنيا موسى النبي عليه وعلى نبيا الصلاة والسلام، فكلمه سبحانه، وأسمع نبينا صلى الله عليه وسلم وهو فوق السماوات، وهو عند سدرة المنتهى، ويوم القيامة يكلم خلقه سبحانه، ويدخل المؤمنين الجنة ويرونه ويكلمهم بما يشاء سبحانه وتعالى، فالله عزيز وحكيم سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة)

تفسير قوله تعالى: (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة) يقول الله تعالى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان:28]، فالله القدير سبحانه، والسميع البصير، خلق العباد ثم يبعثهم، خلق آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ونفخ فيه من روحه سبحانه، ثم جعل من ذريته هذا الكم الهائل العظيم الذي بثه ونشره وذرأه سبحانه على هذه الأرض، ثم وقتما ما يشاء يقبض الجميع، ثم يأمر بالنفخ في الصور ويقول: {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة:117]، فيرجع العباد مرة ثانية على وجه الأرض ليسألهم ربهم سبحانه، ويجازيهم على أعمالهم. وقد تعجب الكفار من ذلك: كيف يبعثهم الله مرة واحدة؟ فقال الله سبحانه: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان:28]، أي: أن الأمر هين على الله، وكم يرى الإنسان من خلق الله بالليل والنهار! فالله يخلق ما يشاء، وفي اليوم الواحد يولد على وجه الأرض آلاف من البشر، ويموت الألوف والألوف من البشر، فالذي أحيا هؤلاء وأمات هؤلاء أليس قادراً على أن يحييهم مرة ثانية بعد أن يهلكهم سبحانه؟ فالله سميع لما يقوله هؤلاء المكذبون لرسل الله عليهم الصلاة والسلام، والله بصير بأعمالهم وما يفعلون وما يكيدون لرسل الله عليهم الصلاة والسلام، وسوف يأتون إلى ربهم ليسألهم بعد أن يبعثهم يوم القيامة.

تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل)

تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل) {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} [لقمان:29] فمن خلقه العظيم البديع أنه يولج أي: يدخل الليل في النهار، {وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [لقمان:29]، فهذه قدرة عظيمة من الله سبحانه وتعالى، وهذه تعبيرات دقيقة في كلامه سبحانه وتعالى، وقد جاء هذا القرآن على النبي صلوات الله وسلامه عليه والعرب لا يفهمون أن يقال لهم: الأرض كالكرة، ولو قيل لهم ذلك لم يصدقوا هذا الشيء، ولسان حالهم: كيف تكون كرة ونحن نراها مبسوطة أمام أعيينا؟ هذا بعيد. والكتب التي نزلت على أهل الكتاب من عند رب العالمين قد حرفت، ولا يذكر فيها أن الأرض كروية، فيجيء أهل الكتاب ويكذبون ويقولون: الأرض ليست كروية، ويجيء العرب ويقولون: نحن لا ننظر هذا الشيء، والتعبير القرآني لا يقول: الأرض كرة، ولكن يسوق لنا آياته لتفهم، وكلما جد قرن من القرون كلما جاء أناس وفهموا ما لم يفهمه السابقون، ووجدوا في هذا القرآن الدليل على صدق ما يقول الله سبحانه، وكلما اكتشفوا شيئاً وجدوه في القرآن، وذلك في تعبيرات عظيمة من كلام رب العالمين سبحانه تصدق الأولين ولا تخالف ما وجده واكتشفه المتأخرون، بل يجدون ذلك الذي اكتشفوه في كتاب ربهم سبحانه وتعالى. وهنا آية من آيات الله سبحانه يقول فيها: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ}، وفي آية أخرى يقول: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} [يس:37]، وفي آية أخرى يقول: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا} [الشمس:1 - 3]، وفي آية أخرى يقول: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40]، وفي آية أخرى يقول سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:62]. فالذي ينظر إلى هذه الآيات يرى أن الأرض بحسب هذه التعبيرات جميعها لا تكون إلا كرة، ومن المستحيل أن تكون ثابتة، فلا بد أنها تتحرك في هذا الكون، فينتج عن حركتها الليل والنهار، ولا بد أن يخلف أحدهما الآخر، وليس معنى ذلك أن يأتي الليل والنهار، بل هم مع بعض في وقت واحد يتعاقبان، فهذا يخلف هذا، وهذا يخلف ذاك، وهذا ينسلخ من هذا، والآخر ينسلخ منه، فالتعبيرات القرآنية جميعها تدل على أن هذه الأرض عبارة عن كرة في هذا الفلك الدوار الذي خلقه الله سبحانه. قال تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس:38]، والأرض تدور في هذا الفلك حول الشمس، الشمس مع مجموعة تجري في هذا الكون، فالأرض تدور حول نفسها، وتجري في هذا الكون بقضاء الله عز وجل وقدره سبحانه، ويجيء الليل والنهار ويتعاقبان فيها كما يشير الله سبحانه وتعالى بقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ}، فالأرض هي بشكلها الكروي، يأتيها الليل ثم يدخل فيه النهار، والنهار يأتي على منطقة أخرى، ويسلخ الليل خلفه، يقول العلماء: إن الكون كله مظلم، إلا المنطقة التي من الأرض المقابلة للشمس، وهي الغلاف الخارجي الذي خلق الله فيه أشياء تعكس ضوء الشمس على هذه المنطقة فقط، فالقشرة الخارجية من الأرض حين تقابل الشمس إذا بالشمس تتضح عليها. وانظر إلى التعبير الدقيق في قوله سبحانه: {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا} [الشمس:3]، فالذي لا يفهمه قد يقول: إن الشمس هذه تجلي النهار، وتوضحه، والعجيب أن التعبير القرآني يدل على أن النهار يجلي الشمس؛ لأن النهار عبارة عن غلاف رقيق حول الكرة الأرضية، فيه أتربة، وأشياء دقيقة، فإذا واجه الشمس انعكست عليه وظهرت الشمس في هذا المكان، فهو الذي يجليها، ولذلك هذا الغلاف نفسه عندما يتحرك مع حركة الأرض يكون بعيداً عن الشمس، فلا تظهر الشمس في هذا المكان وإنما يظهر الليل الذي حوله، ولذلك فالمراكب والسفن الفضائية عندما تخرج خارج غلاف الأرض يجد من بداخلها أن الكون كله مظلم، وكأن هذا الغلاف هو الذي وضح الشمس بداخل الأرض، فإذا خرجوا عنه يرون كوناً مظلماً. قال الله سبحانه: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} [يس:37]، فالكون كله ظلمة ليل، والجزء المواجه للشمس -وهو الغلاف الجوي- يظهر هذه الشمس فتنعكس عليه فيأتي النهار، فإذا دارت الأرض إذا بها تتحرك ويبتدئ المكان يظلم شيئاً فشيئاً إلى أن يصير ليلاً مظلماً، والجزء الآخر المواجه لهذه الشمس مضيء، ولا يزال الأمر على ذلك، يخلف أحدهما الآخر، فالأرض تدور حول نفسها، ويكون الليل في المكان البعيد عن الشمس، والنهار في الوجه المواجه لهذه الشمس، ولا يزال الأمر هكذا، فقد جعل الله تعالى الليل والنهار خلفة، أي: يخلف أحدهما الآخر. قال الله تعالى: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40].

تحرك الكون ودورانه

تحرك الكون ودورانه فالله عز وجل يخلق في هذا الكون ما يشاء، والكون يتحرك وكل شيء متحرك فيه بحركة عجيبة، فالكواكب تدور حول نفسها بحركة معينة، وحول مركز الكون بحركة معينة، وكل الكون يدور بطريقة لا يشبهه فيها إلا المسلمون فقط، وذلك عند الكعبة، فالطواف حولها عكس حركة الساعة، وكل الكون يدور بهذه الطريقة؛ الشمس والقمر والنجوم، وكل شيء، فإذا انعكس هذا النظام عرف أن آية من الآيات الكونية ستكون قريبة، وهي شروق الشمس من مغربها، بعد أن كانت كل يوم تشرق من المشرق، وتغرب من المغرب، وبعد أن كانت الأرض تدور عكس عقرب الساعة سيجيء في يوم من الأيام تقل سرعة الأرض إلى أن تقف في مكانها، وبعد ذلك تتحرك بعكس ما كانت تتحرك عليه، في هذا اليوم تشرق الشمس من مغربها كما أخبر النبي صلوات الله وسلامه عليه. وهذه الآية العجيبة التي لم يصدقها البعض قد اكتشفها علماء الفلك، حيث يقولون: إنه في يوم من الأيام ستقل سرعة الأرض، وهذا قد حدث لكوكب المريخ حيث أشرقت الشمس من مغربه، وهذه آية من آيات الله سبحانه، فالمريخ يدور بطريقة معينة كالأرض، ثم قلت سرعة دورانه حتى وقف في مكانه، وانعكست حركته فلف حول نفسه من الناحية الأخرى يوماً واحداً ورجع ثانية إلى الحركة الأولى، فكذلك يوم القيامة تكون من علاماته الكبرى أن تشرق الشمس من مغربها، فكل يوم تستأذن الشمس ربها أن تشرق من المشرق، وفي هذا اليوم الوحيد تأتي الشمس ويؤخرها الله عز وجل، ولا يأذن لها، فإذا بالشمس تقف في مكانها، فتقل سرعة الأرض، ثم تدور إلى الناحية الأخرى فيكون مشرق الشمس من مغربها، وفي هذا اليوم لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانا خيراًَ، وهذه علامة من العلامات الكبرى للساعة، وبعد ذلك تشرق الشمس من مشرقها كالعادة، فهو يوم واحد يحدث فيه هذا الشيء، فآمن من آمن، وكفر من كفر، وعلم الناس أن هذا مؤمن، وهذا كافر، وانتهى أمرهم على ما طبع الله عز وجل عليهم، ثم تقوم الساعة بعد ذلك حسب ما يشاء الله سبحانه وتعالى. والغرض: بيان أن الله يرينا قدرته العظيمة، فيأتينا بالليل ويأتينا بالنهار سبحانه وتعالى: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} [يس:40]. وآية النهار هي الشمس، وآية الليل القمر، وكل في فلك يسبح، ويمشي في المكان الذي قدر له، حتى يأتي يوم القيامة فإذا بالشمس تكور وإذا بالقمر يخطفه الله سبحانه وتعالى، وإذا بالنجوم تنكدر وتأتي الآيات الكبرى للساعة. قال الله تعالى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} التسخير: هو تسيير جبري، فالله سخر الشمس، فهي في مدارها الذي خلقها الله عز وجل فيه، {تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس:38]، حتى يأتي أمر الله سبحانه وتعالى في يوم من الأيام، وسخر القمر، فجعله يدور مع الأرض حول هذه الشمس، ويدور حول الأرض، فيأتي الليل ويأتي النهار، ونرى آية الليل وآية النهار.

حال الشمس والقمر يوم القيامة

حال الشمس والقمر يوم القيامة قال الله تعالى: {كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [لقمان:29]، أي: ليس إلى الأبد بل إلى أجل مسمى، وإلى أن تأتي القيامة، والشمس قد عبدها أناس، والقمر عبده أناس، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (الشمس والقمر ثوران عقيران في النار)، فالشمس تكون يوم القيامة كالثور المعقور المذبوح في نار جهنم، والقمر كذلك، والشمس هذا الكوكب المشتعل الملتهب الذي تبلغ درجة حرارة غلافه الخارجي فوق الستة آلاف درجة، وفي باطنه تتجاوز الستة ملايين درجة، فهذه الشمس المشتعلة وهذا القمر سيكونان يوم القيامة مشتعلين في نار جهنم، زيادة في التسعير على أهل النار من الكفار الذين عبدوا الشمس والقمر. فيقال لهم: من كان يعبد شيئاً فليتبعه. فيقولون: بلى، فإذا بالله عز وجل يصور لهم هذه الشمس فيرونها فتجري ويجري عبادها وراءها إلى نار جهنم، فيحرقون بها وبنار جهنم والعياذ بالله، والقمر كذلك، يجري ويجرون وراءه إلى النار، وهذا ليس تعذيباً للشمس ولا القمر، بل هو تعذيب لمن كان يعبدهما. قال تعالى: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} [لقمان:29]، تقول: هذا مسخر، أي: ذليل خاشع مطيع مسير، لا يقدر أن يعترض، {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ} [لقمان:29] منهما {يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [لقمان:29]، إلى أن يأتي يوم القيامة، قال تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} [التكوير:1 - 3]، إلى آخر الآيات التي ذكرها الله عز وجل فيما يكون في يوم القيامة. قال تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [لقمان:29]، الخبرة: دقة العلم، فالله سبحانه خبير بما تعلمون، فهل عبدتم الله أم عبدتم الشمس والقمر؟

تفسير قوله تعالى: (ذلك بأن الله هو الحق)

تفسير قوله تعالى: (ذلك بأن الله هو الحق) قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} [لقمان:30] أي: ذلك الذي ذكرناه من فعل الله سبحانه وتعالى، ومن قدرته وعظمته سبحانه وتعالى، وقوله: (بأن الله)، الباء هنا للسبب؛ أي: لأنه سبحانه وتعالى هو الحق، وما سواه باطل، فهو الإله الحق، الخالق، الرب وحده لا شريك له، وكل آلهة من دون الله عز وجل باطلة، وقوله: {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} [لقمان:30]، أي: ما يعبدون من دون الله عز وجل باطل، {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [لقمان:30]، سبحانه، فالإنسان عندما ينظر إلى الشمس وهي عالية، فالله أعلى وأجل سبحانه وتعالى. في يوم أحد لما وقف أبو سفيان يشمت بالمسلمين ويقول: اعل هبل، اعل هبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين: (ألا تجيبون؟)، هذا الكافر المجرم يقف في هذا اليوم ويقول ما يقول -وهذا قبل إسلامه- فيقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: (ماذا نجيبه؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل)، سبحانه وتعالى. إذا نظر الإنسان إلى آية من الآيات سيجد أنها كبيرة جداً، ولكن الله أكبر سبحانه وتعالى، ولذلك تدخل في صلاتك بقول: الله أكبر، لتقطع كل شواغل الدنيا عن نفسك، فإذا كان من مشاغل الدنيا شيء كبير كالعمل والتعب والمصائب فاقطعها عن نفسك، وكان من الحكمة إذا صعدت جبلاً والكون يصغر من حولك فتقول: الله أكبر، فكان من سنة النبي صلى الله عليه وسلم إذا صعد مكاناً مرتفعاً أن يقول: الله أكبر، وهذا مناسب لهذه الحال، فالإنسان يرى الجبل عالياً كبيراً، والله أكبر، وإذا نزل الإنسان من مكان منحدر إلى أسفل يستشعر أنه ينخفض فيقول: سبحان الله، فكل شيء في الكون يعلو وينخفض، ولكن الله العلي الكبير سبحانه منزه عن أي نقص سبحانه وتعالى، قال: ((وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ)) والْعَلِيُّ: البائن من خلقه، المستوي على عرشه سبحانه، فوق سماواته وفوق خلقه.

تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله)

تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله) يقول الله لعباده: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ} [لقمان:31]. وهنا آية من آيات الله سبحانه وتعالى، كقوله تعالى: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ} [غافر:81] أي آية من هذه الآيات تنكرونها؟ فقوله: ((أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي)) الفلك: هي السفن، تجري في البحر بنعمة الله، أي: بفضله سبحانه سيرها، وسخرها، وسخر الماء، وسخر الرياح، وسخر العقول التي يخترعون بها هذه الآلات، وهذه نعمة من نعم الله عز وجل. قال سبحانه: ((تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ)) أي: آية الليل والنهار وآية البحار والرياح والسحاب والاهتداء في الطريق في البر والبحر، وآية العقول التي تصنع بها هذه الأشياء، ويسخر الله عز وجل بها ما يشاء، ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ)) لمن؟ لمن يتدبر الآيات، {لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [لقمان:31]، فالإنسان المتهور المندفع لا يفهم، يتكلم كلاماً ولا يفهم ما يقول، كما كان الكفار يفعلون، لكن الإنسان الذي يصبر ويفكر ويتأمل يصل في النهاية إلى حب الله سبحانه، وإلى عبادة الله، وإلى شكر الله، فالصبار من كان عنده صبر ويقين بالله سبحانه وتعالى، وعنده شكر؛ لأنه رأى النعم فشكر الله عز وجل على نعمه. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة لقمان [31 - 33]

تفسير سورة لقمان [31 - 33] نعم الله سبحانه على العباد كثيرة، ولأنها تنسى مع طول المداومة يذكر الله بها بين الفينة والفينة في كتابه، ويبين عجز الإنسان لتظهر عظيمة منته سبحانه على عباده؛ ولأن الإنسان قد لا يتذكر بالوعظ فقد يبتلى بخوف أو مرض أو غيره ليعود إلى ربه، ويتذكر ما أعده له، وما سيلاقيه يوم القيامة من أهوال، ومدى حاجته إلى الحسنة الواحدة فيعمل للنجاة في ذلك اليوم العظيم.

تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الفلك تجري في البحر ولا يغرنكم بالله الغرور)

تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الفلك تجري في البحر ولا يغرنكم بالله الغرور) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة لقمان: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:31 - 33]. يذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات لعباده نعماً من نعمه العظيمة، وما أكثر نعم الله سبحانه! فيقول: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ} [لقمان:31]، إن تيسير الانتقال في البحر نعمة من نعم الله سبحانه للعباد، وإذ كان في البحر قد يسر لهم الفلك، فإنه في البر خلق لهم ما يقوم بذات المهمة قال تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:8]، فالله سبحانه يلهم الإنسان، ويرزقه من فضله وكرمه سبحانه، فقد ألهم الإنسان صنع السيارة لتحمله في الأرض، وألهمه صنع الباخرة لتحمله على البحر، وألهمه صنع الطائرة لتسبح به في الهواء، وغير ذلك مما يمن الله عز وجل على العباد فيصنعون، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس:22]، فكل ما ينتفع به الإنسان محض نعمة من نعم الله سبحانه، ولا شأن لنا في تسخيره، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ} [لقمان:31]، أي: ليس بقوتكم، ولا بتسخيركم ولكن الله يسخر ما يشاء سبحانه، وهو الحافظ لها ولو شاء لأوقفها، أو لأغرقها، ولكنه سبحانه يمن على العباد مما يشاء من فضله، ومن نعمه، فإذا بالإنسان إذا وجد نفسه مستغنياً قد أغناه الله سبحانه يستكبر ويتعالى، فإذا بالله سبحانه تبارك وتعالى يذيقه من البلاء ما يجعله يرجع إلى ربه ويقول: يا رب! يا رب! ولذلك لما ذكر لنا النعمة ذكر بعدها النقمة، فذكر ما يحدث للإنسان إذا غشيه موج البحر كالظلل، وذلك لأن الإنسان يحتاج دائماً إلى التذكير، فإذا لم يتذكر بالقول وبالنصيحة، احتاج إلى أن يبتليه الله سبحانه وتعالى، ويذيقه شيئاً من بأسه عله أن يراجع نفسه، ويرجع عن غروره الذي هو فيه. وقد صنع الإنسان يوماً من الأيام لنفسه الطائرة العظيمة التي تقله كما تقل الجيوش والمعدات، إلا أنه حين يستشعر الكبر والغرور أنه في السماء طائر فوق غيره ويفعل ما يشاء، فإذا بالله يبتليه فيحطم طائرته، ويجعلها سبباً لهلاكه، وفي ذلك عبرة لأهل الأرض بما رأوا ألا تغتروا، كما صنع الإنسان سفينة عظيمة لينتفع بها لكنه لم يطلب المنفعة فحسب؛ بل صنع ما بزعمه أنها تتحدى الأقدار وأسماها (تيتانيك)، أي: الجبارة، جاهلاً أنها قد تغرق، ومبالغة في الزهو يركب على هذه السفينة المليونيرات للنزهة على البحر ناسين الله سبحانه وتعالى، فإذا بها في أول رحلة لها في البحر تغرق بمن فيها، فقد قصمها الله سبحانه وتعالى، وهو قاصم الجبابرة. فهذه الجبارة التي صنعها الإنسان وظن أنه فاق كل شيء، يريه الله عز وجل ويري جميع عباده من آياته سبحانه وتعالى، فيقول: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ} [لقمان:31]، أي: بسبب نعمة الله وقدرته سبحانه. وكلمة (نعمت) مكتوبة بالتاء المفتوحة، فالجمهور إذا وقفوا عليها يقولون: (بنعمت) بالتاء، والبعض من القراء مثل ابن كثير، وابن عامر، ويعقوب، والكسائي إذا وقفوا عليها يقولون: (بنعمه) بالهاء. وقوله: {لِيُرِيَكُمْ} [لقمان:31]، اللام للتعليل، أي: أنه يجري السفن في البحر ليريكم من نعمه سبحانه، ويريكم من آياته العظيمة الباهرة، وقدرته الفائقة القاهرة. والآية: العلامة، وقد تأتي بمعنى: المعجزة، وقد تعرف بأنها: الشيء العظيم الذي ينظر فيه الإنسان فيقول: سبحان الله ما أعظم هذا! وعادة ما يعجب الإنسان حينما يرى سفينة تطفو على البحر، لكنه قد لا يتذكر الله حين يراها، فلذا الله عز وجل يذكره: أن لست أنت الذي خلقت هذا البحر، ولا أنت الذي أجريت هذه الرياح، ولا أنت الذي تمكنت بفضل نفسك من صنعها، ولكن الله من عليك بهذا كله سبحانه وتعالى. ثم بين سبحانه من يستفيد من الآيات فقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [لقمان:31]، أي: علامات يعتبر بها كل صبار شكور، وقوله: (صبار) مبالغة من صابر، أي: صبر على قضاء الله وقدره، وصبر نفسه فنظر في آيات الله واعتبر بها، وعلم أن الله هو صاحب الفضل العظيم، وهو الذي من على الإنسان بكل نعمة، فالإنسان الصبار هو الذي ينظر بصبره ويتأمل فينتظر قضاء الله سبحانه، ويشكر ربه على نعمه سبحانه، فيصبر في البلاء، ويشكر في الرخاء. وإنما خصت الآية هذا الإنسان لأنه هو الذي يعتبر بها، أما غيره فلا يعتبر حتى يكون هو العبرة لغيره، فنرى الإنسان المستكبر لا يعتبر بآيات الله سبحانه وتعالى، ويظل مستكبراً إلى أن تأتي الآية فتقصمه فيكون عبرة لغيره، ويتحدث عنه الناس ويصبح حديثهم، فمن شامت يذكر ما كان يفعل من أفعال تدل على الكبر كالتطاول والاستكبار، ومن معتبر بما صنع به قاصم الجبابرة سبحانه وتعالى، وكيف أرى الله العباد فيه آية من آياته سبحانه وتعالى، فقد أراهم كيف صنع بفرعون الذي استخف قومه فأطاعوه، وكانوا يظنون أن فرعون من المخلدين، فقد أعطاه الله من العمر والقوة والملك الشيء العظيم، فلما استخف قومه وقال: أنا ربكم الأعلى، وأطاعوه فيما قال؛ أغرقه الله سبحانه، وأذله وهو خارج أمام الناس بجيوشه ليأتي بموسى ومن معه، وقد قيل: إن عدد من كان مع موسى ستمائة ألف، وقيل أكثر، وقيل أقل من ذلك، والله أعلم، فلما نظر إليهم فرعون أخذ يقول: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} [الشعراء:54] ففهم من قوله أن جيشه جيش عظيم؛ لأنه إذا كان من مع موسى شرذمة قليلون، وعددهم ستمائة ألف، فإن جيش فرعون قطعاً سيكون أكثر من ذلك بكثير، ولذا نظر إليهم مستكبراً فقال كما أخبر الله عنه: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:54 - 56]، فكان الكبر في فرعون هو الذي دفعه لقتالهم، فمع أنهم لم يؤذوا فرعون ولا قومه بأي نوع من أنواع الأذى، وهم فقط إنما آمنوا بالله وكفروا بالطاغوت؛ إلا أن فرعون أبى إلا قتالهم، فإذا بالله عز وجل يملي له لينتقم منه ويكيد به، وهذه هي سنته في المتكبرين قال تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183]، ورأى فرعون أمامه الآية التي يعتبر بها كل من يعتبر، إلا أنه إذا جاء القضاء والقدر عمي عن الإنسان البصر، فلم ينظر إلى البحر العظيم وقد انفلق، وموسى وقومه يمشون في يبس من الأرض، ويؤمن أن هؤلاء على حق، بل قد رأى قبل ذلك تسع آيات بينات في بلاده، ولم يعتبر، وهذا هو ديدن الجبابرة لا يعتبرون حتى يكونوا هم العبرة لغيرهم، فأصر فرعون على المضي خلف موسى، فلما توسط البحر انطبق عليه البحر وأغرقه الله، وحينها قال فرعون: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ} [يونس:90]. وأصبح عبرة للناس في مقالته، ومثالاً للإنسان الجبان الذي يرى القوة من حوله فيقول: أنا مثل هؤلاء، أنا مع هؤلاء؛ فإن فرعون كان يقول: أنا ربكم الأعلى، وبعد أن أغرقه الله قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ} [يونس:90]، أي: أنا مثل هؤلاء، أنا مع هؤلاء. ويجيبه ربه فيقول: {آلآنَ} [يونس:91] أي: آلآن تقول: آمنت؟ ثم ذكره بمعصيته فقال: {وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:91]، أي: لقد كنت كافراً مفسداً جباراً عنيداً، ثم يجعله الله عبرة لمن خلفه، قال تعالى: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:92]. وهكذا فالجبابرة لا يعتبرون، إنما يعتبر كل صبار شكور، فالذي يصبر على قضاء الله وعلى بلاء الله سبحانه وتعالى، وينتظر الفرج من الله ولا يعاند ربه أبداً، بل يشكر في حال الغنى والرخاء أهل لأن يعطيه الله سبحانه العقل فيتفكر، ويعطيه القلب فيتدبر ويؤمن ويستيقن، ويعطيه النعمة منه سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (وإذا غشيهم موجد كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين)

تفسير قوله تعالى: (وإذا غشيهم موجد كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين) ذكر الله الناس بالأوقات التي تمر بهم فيلجئون إليه فيها قال تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [لقمان:32]، قوله: (إذا غشيهم) أي: غطاهم، والموج هياج البحر، وقوله: (كالظلل) الظلل: جمع ظلة، والظلة: ما يغطي الإنسان، وقد يطلق لفظ الظلل على السحابة، كما يطلق اللفظ على الجبال؛ لأنها أعلى من الإنسان فتظله، والمعنى: أنهم إذا دخلوا البحر وعلتهم الأمواج كالجبال، عرفوا أن الله حق، ورجعوا إليه، ونادوه: يا رب! يا رب! قال تعالى في سورة يونس: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [يونس:22]. فإن الإنسان يستكبر وهو بعيد عن الهلاك، ويظن نفسه بمنأى عن عذاب الله سبحانه، فإذا جاءه العذاب رجع إلى الله، وقد صور الله سبحانه وتعالى لنا هذه الصورة الصادقة العظيمة التي لم يرها النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد معه من العرب ليدل ذلك على أن القرآن كلام رب العالمين سبحانه وتعالى. وهذه الصورة التي ذكرها القرآن إنما يعرفها علماء البحار الآن؛ لأنها لا تصور إلا بالطائرات والأقمار الصناعية؛ لأن من كان يصل إلى هذا المكان لا يرجع، فكان الذي عبر عنه الله سبحانه وتعالى رداً على الكفار الذين يقولون: أن النبي صلى الله عليه وسلم ألف هذا القرآن؛ إذ كيف يأتي بهذه الصورة وهو لم يركب البحر صلوات الله وسلامه عليه، ولا رأى أحد من أصحابه ركبوا في مثل هذا المكان، كما أن أحدهم لو كان في هذا المكان لم يرجع! فلم يكن لديهم وسائل تنقذهم من موج على هذه الصورة، فالمحيط العميق الغريق هو الذي يأتي فيه الموج كالجبال من كل مكان، ويسميها علماء البحار الآن الدوامة، ويقرون أنه لا أحد ينجو من الدوامة؛ لأن الموج فيها يأتي من كل مكان، والعادة أن الناظر إلى البحر يرى الموج آت من مكان واحد فقط، أما في الدوامة التي تحدث غالباً في المكان العميق من البحر فإن الموج يأتي من كل مكان، ويحيط بالإنسان حتى يغرق، سواء كان الإنسان في مركب صغيرة، أو كان في سفينة كبيرة، فإنه ما دام دخل في هذا المكان فلا بد أن يغرق. فإذا بالله يصور هذا المكان الذي يغرق فيه الإنسان ولا يرجع ليحدث بما وقع له، ويذكر الله عز وجل أنه في هذا المكان يظل الناس يرددون: يا رب! يا رب! يا رب! وقد يأخذهم الله عز وجل ويغرقهم سبحانه، إلا من يشاء فينجيهم على الندرة، وقد ذكر تعالى مدى إخلاصهم في الدعاء فقال: {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [لقمان:32]، وقد كان هذا سبب إيمان عكرمة بن أبي جهل ابن فرعون هذه الأمة، أبي جهل لعنة الله عليه، فقد كان عكرمة على دين أبيه وقومه، وكان بعيداً عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يطيق أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة هرب وترك مكة، يريد ألا يرى النبي صلى الله عليه وسلم، فركب البحر، فلما كان في البحر إذا بالأمواج تعلو، وإذا بالسفينة تضطرب، وشعر كل من في السفينة أنهم سيغرقون، فقال لهم ربان السفينة: إنه لا ينجيكم الآن إلا الله، فاتركوا آلهتكم هنا. وإذا بالإيمان ينسل في قلب هذا الرجل الذي كان كافراً فيفكر: سبحان الله! إن الذي ينقذنا الآن في هذا الضنك الذي نحن فيه والكرب الذي نحن فيه هو ربنا، ونحن نظل ندعو غيره لا والله، لئن أنجاني الله من هذا الأمر لأرجعن، ولأؤمنن، ولآتين النبي صلى الله عليه وسلم، ولأضعن يدي في يده، ولأجدنه رءوفاً رحيماً، فكانت هذه اللحظة سبب إيمان هذا الرجل. قوله: {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ} [لقمان:32]، أي: تاركين لكل الآلهة، متوجهين بالعبادة له وحده، والإخلاص من أخلص الشيء بمعنى: نقاه وصفاه، فهم أخلصوا عبادتهم من كل شوائب الشرك بالله سبحانه، ودعوا الله وحده، {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ} [لقمان:32]، أي: كتب لهم النجاة مما هم فيه آمن بعضهم، قال تعالى: {فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} [لقمان:32]. وقد ذكر الله عز وجل أن العباد أقسام ثلاثة، قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر:32]، فالسابقون بالخيرات: هم المؤمنون المحسنون، والظالم لنفسه: الكافر، والفاجر، والفاسق، وأما المقتصد فهو الذي يمشي في طريق الخير ويقع في شيء من الفساد والشر. فقد سمى الله بعض الناجين مقتصدين فقال: {فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} [لقمان:32]، ومعنى مقتصد هنا أي: يوفي بما عاهد الله سبحانه وتعالى عليه، وقيل: مقتصد أي: أنه يرجع لطاعة الله سبحانه، وإن لم يكن مثل السابق بالخيرات الذي آمن أول الأمر ولم يحتج لمثل هذا الشيء حتى يتذكر ربه سبحانه، بل إنه متذكر لربه دائماً في الخير وفي الضير يشكر الله، ويحمده سبحانه. ثم بين الله أن من يجحد بآيات الله ونعمه هو المتكبر فقال: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} [لقمان:32]، فالذي يجحد آيات الله وهو يراها في البر، وفي البحر، وفي نفسه هو الختار، والختار من الختر وهو أسوأ الغدر، والمعنى: الإنسان الذي فيه غدر وعري قلبه من الخير، فهو يرى النعمة وينقلب من ورائها، وإذا أمنه الإنسان على نفسه فقد يمكر به ليغتاله ويقتله. ولم يسمه الله سبحانه بالغدر فحسب بل وسمه بالكفر أيضاً فقال: {خَتَّارٍ كَفُورٍ} [لقمان:32] والكفور بمعنى: جحود لآيات الله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده) تأتي التذكرة من الله سبحانه وتعالى في ندائه لعباده جميعهم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [لقمان:33]، وهو يدعو الجميع إلى العود إلى الله سبحانه وتقواه، فيقول: {اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} [لقمان:33]، والرب: هو الخالق سبحانه وتعالى، وهو الذي يفعل ما يريد، ويحكم بما يشاء سبحانه وتعالى. وقوله تعالى: (اتَّقُوا)، أي: اجعلوا وقاية بينكم وبين غضبه وعذابه، ومنه قول القائل: أنا أقي نفسي من حر الصيف بأن أضع شمسية على رأسي، أو أجلس في البيت، أو آتي بمكيف، وقد يقول: أقي نفسي من برد الشتاء بأن ألبس الصوف أو أعمل كذا من الوقاية، أخذاً بالأسباب لتدفع عن نفسك الضر. والنداء هنا: اتق ربك، واتق غضبه، وخذ بالأسباب لتدفع عن نفسك عقوبة الله سبحانه، إذ إن عقوبته هي النار. ثم أمرهم بأن يخافوا عذاب اليوم العظيم فقال تعالى: {وَاخْشَوْا يَوْمًا} [لقمان:33] وقد نكر اليوم للتعظيم، أي: يوماً عظيماً، قال عنه تعالى: {يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:7]. وشرع سبحانه يبين بعض مواقف ذلك اليوم فقال: {وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} [لقمان:33]، ففي يوم القيامة يفر كل إنسان من أقرب الأقربين إليه، قال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:34 - 36]، فالكل يقول: نفسي نفسي، حتى أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام يقولون ذلك، قال تعالى: {يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} [لقمان:33]، وهذا معنى قوله سبحانه: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، أي: لن تأتي نفس آثمة محملة بالأوزار والذنوب يوم القيامة لتقول لغيرها: احمل معي قليلاً مما أحمل، ويستجاب لها، حتى الأب لا يقول ذلك لابنه، ولا الابن يقول ذلك لأبيه، على أنه في الدنيا قد يفعل الإنسان الكثير مع أبيه ومع ابنه، فالأب في الدنيا عندما يجد ابنه مريضاً يود لو يفديه بنفسه، وكذا الابن يود لو يفدي أباه بنفسه، أما يوم القيامة فتظهر الأمور على حقيقتها، فإن نار الله العظيمة المستعرة تجعل الإنسان يفر من أقرب الناس إليه. وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لآل بيته ذلك فقال: (يا فاطمة بنت محمد قي نفسك النار، فإني لا أغني عنك من الله شيئاً)، أي: خافي على نفسك من النار، واهربي منها فإني يوم القيامة، أقول: قد أبلغتكم، والحق أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ وقال لكل الناس: قوا أنفسكم من النار، ثم قال سبحانه: {وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} [لقمان:33]، أي: لا الابن يحمل من أوزار الأب، ولا الأب يحمل من أوزار الابن، {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [لقمان:33]، أي: إن يوم القيامة وعد من الله، وهو آت لا محالة، فالله لا يخلف الله الميعاد. ثم حذر من الاغترار بالدنيا فقال: {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [لقمان:33]، وفي الآية بيان أن الإنسان قد يؤمن، وقد يصدق، ولكن لا يعمل، فقد حمله الغرور على ترك العمل، فإذا رأى نفسه بصحة وعافية سوّف وأخذ يقول: ما زال أمامي عمر طويل، وقد يرى أمامه رجالاً ونساء يموتون ولا يعتبر، ظناً منه أنه سيظل مخلداً ولن يموت؛ فيقول الله عز وجل له: {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [لقمان:33]، قد يخدع الإنسان نفسه، أو يخدعه الشيطان، أو بالأمل المكذوب، فيرى نفسه صغيراً فيسوف التوبة ويقول: سأتوب غداً بعد أن أعمل كذا، فالله يقول له: لا تغتر؛ فإن تكليفك من ساعة بلوغك، فمذ بلغت كتبت عليك آثامك، وستظل تكتب حتى يتوفاك الله سبحانه وتعالى. وكما ينهاك الله عن أن تغر نفسك أيضاً لا تخدع غيرك، فالأب ينبغي أن يأمر أبناءه بالمعروف، ولا يقول: الولد ما زال صغيراً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر الأب فقال: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر)، فينبغي أن تأمر الابن أن يصلي لسبع سنوات، فإن السبع السنوات هي سن التمييز ويكتب له فيها الثواب، أما إذا وصل عمره العشر السنوات فمره بالصلاة، واضربه على تركها، حتى إذا بلغ كان عابداً لله سبحانه وتعالى، ذا تقوى ودين، فلم تحتج أن تأمره وأن تنهاه. ولم يحذر الله من غرور الدنيا فحسب بل حذر أيضاً من غرور الشيطان، قال تعالى: {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:33]، والغرور هو الشيطان وفي هذه الآية قراءة واحدة فقط وهي: (الغرور) وهو بمعنى: الشيطان، وإن جاء في غيرها (الغُرور) بالضم، أي: المصدر الذي يغر الإنسان من خداع أو باطل، أو من زينة وزخرف، أما: (الغَرور) على وزن فَعول فإنه بمعنى: الشيطان، يعني: احذروا من الشيطان، قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6]. والإنسان عادة إذا عرف عدوه فاتخذه عدواً حذر منه، إذا مر في طريق وفي طريق آخر، وهكذا ينبغي ألا تمشي مع الشيطان، ولا تغر نفسك؛ فإن الموت آت ويوم القيامة قريب.

تفسير سورة لقمان [33 - 34]

تفسير سورة لقمان [33 - 34] نداء من الرحمن يتردد صداه في قلب كل مؤمن، يأمر فيه عباده بالتقوى، ويحذرهم من يوم القيامة وأهواله، ويبين لهم كيف أنهم من شدة تلك الأهوال يهرب كل قريب عن قريبه، بل لا يحمل أحد عن أحدٍ شيئاً، نداء يحذرهم من الاغترار بالدنيا وزينتها، ويحذرهم من الشيطان وتلبيساته، وإذا كان الأمر كذلك فإن وقت الساعة غير معلوم قد استأثر الله بعلمه، كما استأثر بعلم نزول الغيث، وعلم ما في الأرحام، وعلم ما يكسب الإنسان في غده، وعلم متى وأين يموت الإنسان، وهو سبحانه العليم الخبير.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة لقمان: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:42 - 34] في هاتين الآيتين يأمر الله عز وجل عباده بتقواه، وأن يخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً، وهذا متحقق يوم القيامة، وهو يوم عظيم ذكره الله عز وجل في القرآن وسماه بأسماء متعددة فهو يوم القيامة، وهو الطامة الكبرى، وهو الصاخة، وهو الحاقة، فهو يوم عظيم تدل أسماؤه على ما فيه، وهو يوم تقوم فيه الساعة، وقد أخفاها الله سبحانه وتعالى على جميع خلقه فلا يعلمها إلا هو، فإذا أمر ينفخ الصور مات كل من على هذه الدنيا، ثم يأمر الله سبحانه وتعالى بعد ذلك بإحياء الخلق فيرجعون مرة أخرى: ((يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار)). من أسماء يوم القيامة: الطامة، والطامة هي المصيبة العظيمة، وسميت طامة لأنها تطم وتعم، والصاخة؛ لأنها تصخ الآذان بهول الصحية التي تكون يوم القيامة، والحاقة؛ لأن الله عز وجل يحق فيه الحق، ويظهر للإنسان فيه ما كان يكتمه في الدنيا، كما ذكر الله عز وجل أن يوم القيامة فيه شر عظيم، قال تعالى: {وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:7]، أي: منتشراً عظيم الانتشار. وفي هذه الآية يحذر الله عز وجل العباد منه قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا} [لقمان:33] وقد ذكر طول هذا اليوم في القرآن، قال تعالى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] فمهما عمر الإنسان في الدنيا واستشعر بطول العمر فيها لأنه عاش ثمانين سنة، أو عاش مائة سنة، أو عاش ألف سنة، فسيأتي يوم القيامة ليجد هذا اليوم يوماً عظيماً طويلاً عبوساً قمطريراً، حتى يقول بعض الناس لربهم سبحانه يوم القيامة من شدة ما يعانونه في هذا اليوم: ربنا اصرفنا ولو إلى النار، يظنون أن النار أهون من هذا اليوم؛ لما يرونه في هذا اليوم من أصناف العذاب. فيرون عذاب الإنسان الذي منع زكاة ماله، إذا كان ماله من غنم، أو من بقر، أو من إبل، فإنه يفرش لهذه الأشياء في قاع قرقر أي: منبسط واسع فسيح كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تأتي عليه إبله فتطؤه بأخفافها، وتعظه بأنيابها، وتظل تدور عليه في هذا اليوم الطويل حتى يرى مصيره إما إلى النار وإما إلى الجنة، ويؤتى بالإنسان الذي كان يكنز الذهب والفضة في الدنيا ولا يخرج زكاتها فتصفح له صفائح الذهب والفضة من نار يكوى بها وجهه وظهره وجنبه في هذا اليوم الطويل العبوس القمطرير، حتى يرى مصيره إما إلى النار وإما إلى الجنة. لقد حذرنا الله عز وجل منه فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} [لقمان:33] أي: لن يأتي رجل يوم القيامة ليقول: أنا أفدي ابني، بل يقول: نفسي نفسي {وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شيئاً} [لقمان:33] وكذا لن يقول الابن: أنا أحمل عن أبي، أو أدخل مكانه النار، بل كل إنسان يقول: نفسي نفسي، ونكر (شيئاً) في الآية، والنكرة في سياق النفي تفيد العموم، أي: أي شيء ولو دق ولو قل، ثم أكد وقوع هذا اليوم فقال: ((إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ)) فقد وعد بأن يكون حساب وجزاء، فكان وعد من الله حق، ((إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا)) أي: لا يغرنكم الأمل، ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه أمر أصحابه وأمر المؤمنين أن يزوروا المقابر، فإنها تذكر الآخرة؛ فإن الإنسان عندما يذهب إلى القبور وينظر إليها وهي حفرة في الأرض صغيرة عميقة يدفن فيها الميت ويغطى، ولعله يتذكر كم كان الإنسان يلعب في هذه الدنيا، وكم كان يمرح ويجري ويضحك بملء فيه وهو لا يدري ما الذي يختبئ له في قبره، ولا يدري ما الذي يدخره له ربه سبحانه من حساب على أعماله التي عملها في الدنيا، وهو توجيه للمغرور: أن انظر إلى القبور، وانظر إلى الحفرة التي ستنزل فيها وهي بضيقها حيث لا تتجاوز نصف متر عرضاً في مترين ونصف طولاً، مكان لضيقه لو نزله الإنسان فيه حياً فلن يستطيع الحركة. أيها المغرور! تذكر كم من الناس دفنوا فيها؟ لو عدو لبلغوا الملايين، كلهم نزلوا في هذه القبور وأكلتهم الأرض وفنوا، وانتهى أمرهم، ثم يظلون فيها حتى يبعثهم الله عز وجل يوم القيامة، فالإنسان في غفلة عن الموت، في غفلة عن القبر، في غفلة عن هذا المكان الذي يسأل فيه: من ربك؟ ما دينك؟ ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فإذا كان الإنسان في لهو ولعب وغفلة عن القبور، فإنه يأتي في قبره فلا يحير جواباً، فيقول: هاه هاه لا أدري، هاه هاه لا أدري، كما كان يضحك في الدنيا، ويسخر في الدنيا، إلا أنه في الدنيا كان يضحك من قلبه، أما في قبره فإنه يقول: هاه هاه بصوته فقط، بل ببكاء مرير وخوف عظيم. {وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:33] أي: لا يفتننكم الشيطان الذي غركم وخدعكم في الدنيا فاقتتلتم فيها، وسلبتم أموالكم ظلماً وزوراً وعدواناً، لقد مكر بكم الشيطان حتى أرداكم، فلما متم ودفنتم في القبور وجدتم نتيجة هذه الأعمال، أما المؤمن فإنه يجد في قبره من يعينه على أن ينطق؛ لأن الله يثبته سبحانه وتعالى، فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلوات الله وسلامه عليه، قال تعالى يخبر عن تثبيته لهم: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27]، كما أن هذا القبر الضيق الذي لا يكفي أن يتكئ الإنسان فيه، يأمر الله أن يتسع له القبر مد بصره، وينور له في قبره، ويفرح الإنسان بما يرى، ويفتح له باب إلى الجنة، ويقال: هذا منزلك، وحين يفرح العبد يقول: يا رب! أدخلني فيها أدخلني منزلي، فيقال له: نم نومة العروس التي لا يوقظها إلا أحب الناس إليها، ثم ما زال أمامك وقت حتى تبعث يوم القيامة. أما الإنسان الفاجر والكافر الذي لا يدري من ربه وما نبيه وما كتابه، فيقول: لا أدري، فيقال: لا دريت ولا تليت، ويضرب بمرزبة من حديد لو ضرب بها جبل لصار تراباً، ويصرخ صرخة عظيمة فظيعة في قبره يسمعه كل شيء إلا الثقلين الإنس والجن، فتسمعه الهوام والدواب والحيوان والملائكة، ولا يسمعه الإنس والجن؛ لأنهم لو سمعوا هذا الصوت لصعقوا ولتابوا إلى ربهم وأنابوا، ولكن الله شاء أن يجعل الدنيا دار ابتلاء ودار امتحان، ودار غرور، لينظر أيكم أحسن عملاً، وينظر من يصدق ربه سبحانه ومن يكذب ويعرض عن الله سبحانه وتعالى. ويحذر الله سبحانه من الدنيا مع أنه زينها، قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [آل عمران:14] فقد زينها الله سبحانه وتعالى فتنة لعباده، وقال: احذروا من هذه التي زيناها لكم، فإنما أريناكم كيف نزينها حتى تعرفوا أن في الدار الآخرة الجنة وهي أجمل من هذه، فاتركوا هذه الدنيا للجنة، فالله سبحانه وتعالى أرى عباده ما يكون في الجنة بشيء مما أراهم في الدنيا؛ حتى يرجعوا إلى الله سبحانه وتعالى. لقد حذر الله عباده من الشيطان فقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6] فقد أخبرنا الله سبحانه في كتابه كيف يمكر الشيطان بالعبد، ويسخر منه، وبين موقف الشيطان حين يلجأ الإنسان إليه فيتبرأ الشيطان منه ويقول كما أخبر الله عنه: {إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:48] فالشيطان ينزع يده من الإنسان بعد أن يرديه في النار ويوقعه في معصية الله سبحانه، فليحذر المرء أن يغره بالله الغرور.

تفسير قوله تعالى: (إن الله عنده علم الساعة)

تفسير قوله تعالى: (إن الله عنده علم الساعة) لقد اختص الله سبحانه نفسه بعلم أشياء لم يطلع أحداً من الخلق عليها ذكرها الله تعالى في قوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} [لقمان:34]، وهذه من جملة مسائل العقيدة التي يؤكدها لنا الله سبحانه في هذه السورة المكية وفي غيرها من سور القرآن، ولكنها أكثر تأكيداً في السور المكية، وإنما يركز على أمر العقيدة لأنها تربية للإنسان المؤمن، إذ يربى المؤمن من خلالها على حب الله سبحانه، وطاعته وتوحيده وعدم الشرك به سبحانه، والخوف منه، والإيمان بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، والاستعداد ليوم النشور، كما قال الله سبحانه {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285] فهذه خمسة من أصول الإيمان، يتبعها أصل الإيمان بالقضاء والقدر، قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] وبذلك تمت الستة الأصول من أصول الإيمان التي يركز القرآن على بيانها وتوضيحها، وذلك حتى يؤمن العبد بأصول الإيمان، فيؤمن بربه، ويؤمن بالأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، ويؤمن باليوم الآخر، وفي الآية التي بين أيدينا يذكر الله تعالى إحدى مسائل الإيمان.

اختصاص الله تعالى بعلم الساعة

اختصاص الله تعالى بعلم الساعة قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان:34] أي: أن الله اختص نفسه بعلم الساعة فلا يعرف أحد متى تكون الساعة، وإن كان الله سبحانه قد أخبرنا على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم أنها تقوم في يوم جمعة، إلا أننا قطعاً لا ندرك أي جمعة من الجمع ستقوم فيها، وقد أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم كذلك أن قبل الساعة علامات صغرى وعلامات كبرى، أما العلامات الصغرى فقد رأينا الكثير منها، ومن ذلك ما يراه الإنسان من معاص لله سبحانه وتعالى، ومن الفساد في الأرض، ومن نزع الأمانة من قلوب الرجال حتى يقال عن الرجل: ما أظرفه وما أعقله، وما في قلبه مثقال ذرة من إيمان، ومنها أيضاً: أنك ترى الناس قد تركوا دين الله عز وجل وراءهم، وضيعوا الأمانة، فترى المتبرجات ضيعن أمانة الله سبحانه وتعالى وانتشرن في الأرض يغوين ويضللن عن سبيل الله. أما العلامات الكبرى فإنها إذا جاءت فإن الساعة على وشك أن تقوم كما ذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر نبينا صلى الله عليه وسلم تلك العلامات لأمته، ومنها: ظهور الدابة، والدجال، وطلوع الشمس من مغربها، وثلاثة خسوفات: خسف في المشرق، وخسف في المغرب، وخسف في جزيرة العرب، ونار تحشر الناس إلى أرض المحشر، فهذه العلامات إذا وقعت، عرف الناس أن الساعة قريبة، ومع ذلك فإنها تظل مبهمة حتى يأتي أمر الله فجأة، فتقوم الساعة وليس على الأرض من يقول: الله، الله، إذ إنها تقوم على شرار الخلق، وقد نسوا ربهم سبحانه، فلا أحد يقول الله، إلا عجائز من الناس يذكرون أنهم سمعوا من أجدادهم من يقول ذلك، كما تقوم الساعة والناس يتهارجون في الأرض كتهارج الحمر، فيكثر الزنا في الأرض حتى يرتكبه صاحبه في أي مكان كما تفعل الحمير، وكون الإنسان يدرك أن الساعة تكون قريبة لما يرى لها من علامات صغرى وكبرى، فهذا واقع، لكنه لا يدري متى تكون ساعته هو، كما لا يدري متى تكون القيامة الكبرى. كما أن الله سبحانه قد يري أنبياءه عليهم الصلاة والسلام أشياء لا يطلع عليها غيرهم، كما يذكر: أنه يكون كذا في يوم كذا، فيخبر النبي عليه الصلاة والسلام بما غيبه الله سبحانه وأطلع عليه نبيه عليه الصلاة والسلام، وقد يري الله سبحانه وتعالى رؤيا يكون فيها أنه سيموت في اليوم الفلاني ويحدث هذا الأمر، وهذا لا يقدح في علم الله، فالله عنده علم ساعة العبد، فهو الذي أطلعه على ميقاتها، كما أطلع نبياً من الأنبياء على شيء من علمه سبحانه وتعالى الذي غيبه، وليس معنى ذلك أنه يعلم صلى الله عليه وسلم متى تقوم القيامة، فيعلم في أي يوم تقوم، وإن كان قد علم أنه في يوم جمعة، لكنه لا يعلم صلى الله عليه وسلم أي جمعة من الجمع تقوم فيها، بل كان يقول في المسيح الدجال (إن يظهر وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم)، فكان يظن عليه الصلاة والسلام أن المسيح الدجال قد يظهر وهو حي، صلوات الله وسلامه عليه، ولم يظهر في حياته ولا بعد وفاته إلى الآن، ولكن لا شك أنه سيظهر في يوم من الأيام. وبذلك يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم علم العلامات التي تكون قبل الساعة، أما أنه علم متى تظهر هذه العلامات فهذا أمر لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.

اختصاص الله تعالى بإنزال الغيث وعلم ما في الأرحام

اختصاص الله تعالى بإنزال الغيث وعلم ما في الأرحام قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} [لقمان:34] الغيث: هو المطر العظيم العميم الذي يغيث الله عز وجل به العباد، فيخرجهم به من العطش ومن المحل ومن القحط ومن الجدب إلى الري وإلى الخصب وإلى النماء والرواء من فضله سبحانه وتعالى، وهذا الغيث يدرك العباد برحمته بعدما كادوا ينقطعون؛ إذ إنه لا يقدر على إنزال الغيث من السماء إلا الله سبحانه وتعالى، ثم قال سبحانه: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} [لقمان:34] أي: يعلم أن هذا ذكر أو هذه أنثى، فالله عز وجل كما أخبر في آية أخرى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد:8] فإنه سبحانه يزيد الرحم شيئاً فشيئاً حتى يكون هذا الجنين في الشهر التاسع، ثم يخرج هذا الجنين إلى الدنيا، وقوله: {وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ} [الرعد:8] أي: ما تكون عليه من نطفة تحولت إلى علقة، ثم تحولت إلى مضغة، وجاء القدر فنزلت في حيض المرأة، وغاض الرحم وذهبت لأمر الله سبحانه وتعالى، والإنسان معلوم أنه لا يعرف ما يكون من شأن هذه النطفة، فلا يعرف هل سوف يعيش جنينها أم يموت؟ وإذا عاش هل سيكون شقياً أم سعيداً؟ وإذا كتب له الحياة فكم سوف يكون عمر هذا الإنسان في هذه الدنيا؟ وكيف سيكون عمله فيها؟ وكيف سيأتيه أجله؟ وهل يوم القيامة سيكون من أهل الجنة أم من أهل النار؟ ولذا فإن علم الله سبحانه تبارك وتعالى لما في الأرحام هو العلم المحيط بكل شئونها، ولا يقال أن الأطباء يعرفون بالأشعة التلفزيونية أن هذا ذكر أو هذه أنثى! نعم قد يعلم الأطباء بما علمهم الله عز وجل أن هذا ذكر أو هذه أنثى في المراحل المتأخرة من الحمل، ولكن العلم المحيط بكل أمور الحنين علم الله وحده لا شريك له سبحانه، فهو وحده يعلم ما في الأرحام، ويعلم كل شيء عن هذا الذي كون في رحم المرأة.

اختصاص الله تعالى بعلم ما في المستقبل

اختصاص الله تعالى بعلم ما في المستقبل ثم قال سبحانه: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان:34] قوله: (نفس) نكرة في سياق النفي تفيد العموم أي: أي نفس، فكل نفس لا تدري ما الذي تكسبه في غدها؟ وكسب الإنسان عام في كل كسب، فهو لا يعلم كسبه من حسنات ومن سيئات، ولا يعلم كسبه من أموال ومن أعمال، وقد يعد الإنسان نفسه بأنه في الغد سيفعل كذا وكذا، ولا يأتي عليه الغد إلا وقد مات، وقد يأتي عليه وهو حي لكنه لا يفعل شيئاً من هذه الأشياء، كأن يفجأه مرض فيمنعه من القيام بما وعد به نفسه، أو يطرأ عليه نسيان، أو تأتي عليه حوادث الدهر من باب المسجد وهو يفكر: سأذهب إلى البيت لكي أعمل كذا وأعمل كذا، فلا يذهب إلى البيت، بل يذهب إلى مكان آخر، أو يذهب إلى البيت ولا يعمل ما فكر فيه، فالله عز وجل هو الذي يقدر هل سوف يكون هذا الشيء أم لا يكون، وبذلك يعلم أنه لا تدري النفس ما الذي تكسبه في الغد من حسنات ومن سيئات، ومن أقوال ومن أعمال، ومن أموال وغيرها.

اختصاص الله تعالى بعلم موعد أجل الإنسان ومكانه

اختصاص الله تعالى بعلم موعد أجل الإنسان ومكانه ثم قال سبحانه: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34] قد يذهب الإنسان إلى مقبرة من المقابر ويشتري تربة ويجهزها تحسباً إذا مات أن يحمل إليها، لكن الله قد قدر شيئاً آخر، كأن يسافر إلى مكان آخر فيموت فيه ويدفن فيه، فالله سبحانه أخفى عن العباد مواقيت موتهم وأمكنتها، وأمرهم بالإيمان به سبحانه، وهو لا يقدر لهم إلا الخير، فاختيار أمر الله سبحانه، والرضا به، والرضا عنه سبحانه وتعالى دليل الإيمان، وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الطبراني والإمام أحمد من حديث أبي هريرة كما جاء من حديث أبي عزة الهدجي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله تعالى قبض روح عبد بأرض جعل له إليها حاجة فلم ينته حتى يقدمها، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان:34] إلى قوله {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34]). قد يظل الإنسان عمره كله في بلده الذي ولد فيه، فلا يسافر خارجها مطلقاً، وفجأة يأتي أمر من الأمور، كأن يحتاج لحاجة من الحاجات، أو يظن أن رزقه في المكان الفلاني، ثم يترك بلده ويذهب إلى هذا المكان لقضائه وقدره، فما أن يصل إلى هذا المكان حتى يقبضه ملك الموت، فيموت في هذا المكان الذي لم يكن يخطر بباله أن يذهب إليه يوماً من الأيام، وبذلك تتجلى حكمة الله سبحانه وتعالى، أنه هو الذي قدر الأقدار، وأنه وحده الذي اطلع على الغيب، فهو يعلم كل شيء خفي عن العباد سبحانه وتعالى. ولعلنا قد ذكرنا قبل ذلك قصة المليونير اللبناني الذي بنى لنفسه مقبرة ضخمة كبيرة، ثم أتى بزملائه من الناس الذين يحبهم وأصدقاء السوء الذين كانوا معه وقال لهم: أنا عندما يقدر أن أموت سأدفن في هذا المكان، وطلبي منكم أن تقيموا لي حفلة في كل سنة، وتحضروا فيها الموسيقى وترقصوا وتلعبوا حولي في هذا المكان لكي تؤنسوني في قبري، فإذا بالله عز وجل يري الناس في هذا الإنسان آية، فيركب هذا الإنسان الطائرة مع غيره من أصدقائه، وبينما تطير الطائرة فوق البحر تتعطل لتغرق في البحر، ويشاء الله أن تطفوا جثث زملائه إلا هو، فمع أنه أراد لنفسه الدفن في مكان وسخر من الموت بهذه الصورة، إلا أن الله عز وجل أهلكه، فأكلته أسماك البحر أو أخذه الله عز وجل حيث شاء سبحانه. وليحذر المسلم من الاستهزاء أو السخرية بأمور الغيب، فإنه أمر الله عز وجل الذي قدر كل شيء، وقد جاء في حديث رواه البخاري من حديث ابن عمر قال: صلى الله عليه وسلم: (مفاتيح الغيب خمسة لا يعلمها إلا الله: لا يعلم ما تغيط الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غدٍ إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله) وجاء في الصحيحين من حديث عمر رضي الله عنه أن جبريل سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وان محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت. قال له: صدقت، ما الإيمان؟ قال: الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر وخيره وشره، قال: صدقت، فما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: صدقت، فأخبرني متى الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل) فحين سأله عن وقت قيام الساعة أجابه بما معناه: أنا وأنت في عدم العلم سواء فأنت لا تعلم وأنا كذلك، (قال: فأخبرني عن أمارتها)، أي: ما هي علامات الساعة؟ قال: (أن تلد الأمة ربتها -أو ربها- وأن ترى الحفاة العراة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان). وقوله: (أن تلد الأمة ربتها أو ربها)، أي: يكثر بيع الإماء، فتباع الأمة التي لها الولد، ويصير ابنها حراً وهو لا يعرف من أمه، وفي يوم من الأيام إذا به يشتري أمه لتصير أمة عنده وهو لا يدري أنها أمه، وهذا أحد تفاسير هذه الكلمة من هذا الحديث، وقوله: (وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان)، أي: الفقراء الذين كانوا لا يجدون ما يأكلون، بل هم من شدة فقرهم يمشون حفاة لا يجدون ما ينتعلون به، وعراة لا يجدون ما يلبسون، يصيرون أغنى الأغنياء ويتطاولون في البنيان، ولم يكن الصحابة يفكرون أن المباني ستبلغ الأدوار ذوات العدد، وأقصى ما كانوا يرونه بيتاً يتكون من طابقين، فكانوا لا يتطاولون في البنيان، ولم يكن في فكرهم هذا الأمر إلا علماً قاله النبي صلوات الله وسلامه عليه لهم، فإذا الذي كان في يوم من الأيام غنياً وآباؤه أغنياء قد أصبح فقيراً ممن لا يجدون شيئاً، وإذا بالفقراء الذين كانوا لا يجدون شيئاً قد أعطاهم الله عز وجل العطاء الجم، فالله سبحانه يغير ويبدل، ويري العباد من الآيات ما يعتبرون بها. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:34] أي: عليم بكل شيء، فعلمه سبحانه محيط بما كان وما سيكون ومالم يكن لو كان كيف يكون، (خبير) والخبرة: دقة العلم، فالله عز وجل علمه دقيق يعلم ما لا يعلمه أحد، ويرى ما لا يراه أحد سبحانه وتعالى.

السجدة

تفسير سورة السجدة [1 - 3] القرآن العظيم كتاب الله عز وجل، أنزله لهداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور، ولينذر الكفرة والمخالفين والعصاة بالعذاب الأليم، وليبشر المؤمنين بجنات النعيم.

تعريف عام بسورة السجدة

تعريف عام بسورة السجدة الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة السجدة: بسم الله الرحمن الرحيم: {الم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [السجدة:1 - 3]. هذه هي السورة الثانية والثلاثون من كتاب الله سبحانه تبارك وتعالى وهي سورة السجدة, وهي من السور المكية التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، ما عدا آيات ذكر أهل العلم أنها نزلت بالمدينة، وهذه الآيات هي: قول الله عز وجل: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [السجدة:18 - 19] إلى آخر ثلاث آيات أو إلى خمس آيات. وقوله عز وجل: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:16] إلى قوله: {الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [السجدة:20]. وأغلب آياتها مكية، وفيها خصائص السور المكية، والتذكير باليوم الآخر، والتفصيل لما يكون في يوم القيامة، وهي مناسبة جداً ليوم الجمعة، ويوم الجمعة هو اليوم الذي تقوم القيامة فيه، وفيه خلق آدم، وفيه أنزل إلى الأرض، وهو يوم عيد للمسلمين.

الحكمة من قراءة سورتي السجدة والإنسان يوم الجمعة

الحكمة من قراءة سورتي السجدة والإنسان يوم الجمعة إذا كانت القيامة ستكون في يوم الجمعة، ونحن لا ندري متى تكون، إلا ما أخبرنا به النبي صلى الله عليه وسلم عن علاماتها التي تكون قبلها, فمن المناسب جداً أن تقرأ هذه السورة في كل يوم جمعة؛ ليتذكر الإنسان يوم القيامة, وما يكون فيه من حساب وعذاب، وما يكون فيه من جنة ونار؛ فلذلك كان يقرأ النبي صلى الله عليه وسلم هذه السورة وسورة الإنسان في يوم الجمعة. فقد جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفي صحيح مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في يوم الجمعة في صلاة الفجر ((الم * تَنزِيلُ)) -هذه السورة- السجدة، و ((هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ)) الإنسان). وقراءة هاتين السورتين مقصودة، فأما السجدة فقد ذكر فيها خلق آدم وكيف بدأ الله عز وجل خلقه من طين، {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة:8 - 9]، ثم ذكر كيف يكون مصير هذا العبد عند ربه يوم القيامة، وكيف يجازيه ويحاسبه على ما ذكر في هذه السورة. وهذا واضح في سورة الإنسان من أول السورة، قال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1]-أي: هذا الإنسان الذي يستكبر ويتعالى على ربه سبحانه تبارك وتعالى هلا تذكر أنه أتى عليه يوم من الدهر لم يكن شيئاً ولم يكن حتى تراباً؟! فقد كان عدماً ثم أوجد الله عز وجل هذا التراب، وخلق منه الإنسان. فهلا تذكر الإنسان ذلك فانتفع بهذه التذكرة؟ ثم ذكر الله عز وجل في سورة الإنسان أمر الكافرين، وكيف يفعل الله عز وجل بهم، فقد أعد لهم سلاسل وأغلالاً وسعيراً. وذكر كيف يفعل بالمؤمنين، وأنه يدخلهم جنات، {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ} [الإنسان:15]. {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [الإنسان:19]. إلى آخر ما ذكره الله سبحانه في هذه السورة. فهاتان السورتان مناسبتان ليوم الجمعة، فيقرؤهما المصلي في صلاة الفجر أو يسمعهما، لما فيهما من التذكير بأن يوم الجمعة وإن كان عيداً للمسلمين الآن إلا أن الساعة ستقوم فيه، ومن التذكير بأن بدء خلقه كان في هذا اليوم، وأن إنزالهم من الجنة إلى الأرض كان في هذا اليوم، فيتذكر يوم الجمعة وما يكون فيه.

الحكمة من قراءة سورة السجدة عند النوم

الحكمة من قراءة سورة السجدة عند النوم سورة السجدة كان يقرؤها النبي صلى الله عليه وسلم قبل نومه؛ لما فيها من العبر والتذكير بالموت وبالبعث يوم القيامة وبالجزاء وبالحساب. ومن المناسب للإنسان عند نومه أن يتذكر ما الذي صنعه في هذا اليوم، ويتذكر أنه راجع إلى الله سبحانه، فينوي نية حسنة إذا أحياه الله عز وجل في اليوم التالي أن يؤدي الحقوق لأصحابها، وأن يعمل الخير ويزيد في صلاح نفسه بما يشاء الله عز وجل له. فيتذكر بهذه السورة وما فيها. فقد جاء عند الترمذي من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ ((الم * تَنزِيلُ)) السجدة، و ((تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ))). فعلى ذلك يستحب قبل النوم أن المسلم يقرأ سورة السجدة ويقرأ سورة تبارك، فقد جاء في فضل سورة تبارك أنها المنجية من عذاب القبر، وأن عبداً كان يقرؤها في كل ليلة، فلما مات جاءت هذه السورة تدفع عنه عذاب القبر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سورة ثلاثون آية شفعت لصاحبها في قبره حتى دفعت عنه العذاب).

ذكر الاختلاف في عدد آيات سورة السجدة

ذكر الاختلاف في عدد آيات سورة السجدة بدأ الله سبحانه تبارك وتعالى هذه السورة بقوله: {الم}، بالحروف المقطعة الثلاثة. وعدد آيات هذه السورة ثلاثون آية حسب عد أكثر القراء. والبصريون يعدونها تسعة وعشرين آية. فالخلاف في هذه الآية الأولى وهي: {الم} هل هي آية وحدها أم مع غيرها؟ فعدها أكثر القراء وحدها، وعدها البصريون مع قوله: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [السجدة:2] آية واحدة. وخلاف آخر في قوله سبحانه: {أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة:10]، فوقف عليها أكثر القراء وقالوا: إنها رأس آية، ولم يقف عليها الباقون، وقالوا: إنها ليست رأس آية.

الكلام حول الحروف المقطعة

الكلام حول الحروف المقطعة الحروف المقطعة التي في أوائل السور من أسرار القرآن، ومهما تأمل الإنسان فيها وخرج منها بحكمة من الحكم فليس معنى هذا أن هذه هي الحكمة التي قصدها الله عز وجل. وقد حاول العلماء أن يعرفوا لماذا ذكر هنا ألف لام ميم؟ ولماذا ذكر هنا ص؟ ولماذا ذكر كذا؟ وذكروا أنه من ضمن ما وصلوا إليه: أن الحرف الذي يأتي في أول السورة أو الأحرف التي تأتي في أول السورة تكون أكثر الحروف تكراراً في هذه السورة، وليس معنى ذلك أن أكثرها تكراراً في السورة لابد أن يكون هو الأكثر، لا، ولكن هو من أكثر ما يكون في السورة. فمثلاً الذي يعد الحروف في هذه السورة سوف يجد أن الألف وهو أول حرف بدأه الله عز وجل في السورة تكرر مائتين وتسعين مرة تقريباً، فهو أعلى حرف تكرر في هذه السورة، واللام تكرر فيها مائة وواحداً وخمسين مرة، فهو من أعلاها وليس الأعلى؛ لأن حرف النون تكرر فيها حوالى مائة وثمانية وخمسين مرة، فهو أعلى منه, والميم أيضاً من أعلا الحروف التي تكررت في هذه السورة. فكأنه إذا افتتح السورة بأحرف معينة فإن هذه الحروف تكون من أعلا ما يتكرر في هذه السورة. فكأنه يقول: هذه الحروف من جنس ما تنطقون به، وقد ألفنا منها هذا القرآن، وجمعناه منها، فأتوا بقرآن مثله إن كنتم تقدرون على ذلك، فلم يقدروا على ذلك. والغالب في كتاب الله عز وجل أنه إذا بدأ بأحرف مقطعة فإنه يذكر بعدها مباشرة أو بعدها بقليل إشارة إلى هذا القرآن العظيم. فهنا قال: {الم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ} [السجدة:1 - 2]، فذكر هذا الكتاب الذي هو حروف من جنس ما تنطقون به وأنه منزل من عند رب العالمين سبحانه تبارك وتعالى. وأيضاً ذكر العلماء أن هذه الحروف في بداية السور تسمى بها السورة، كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه كان يقرأ ((الم تنزيل))). فسميت سورة السجدة بسورة ((الم تنزيل)) السجدة. وذكروا غير ذلك من الحكم التي أنزل الله عز وجل هذه الفواتح فيها. ومما ذكروه أنها لجذب الانتباه؛ لأن العرب لم يكونوا معتادين عليها. فإذا أراد أحد أن يكلم أحداً فإنه يكلمه بكلمة، وأما أن يكلمه بحرف فهذا نادر. فعندما يأتي القرآن يقول لهم: ((الم))، ويقرؤها آية، والقرآن له طريقة في القراءة بالتجويد وبالترتيل، فعندما يسمعونه يتسألون: ماذا يقول؟! فينتبهون لما يقول، فيقول بعدها: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [السجدة:2]، فكأن من ضمن الحكم جذب الانتباه، وشد الناس الذين ليسوا معتادين على هذا الشيء، فيستمعون له. وأيضاً ذكروا من ضمن الحكم أنها نزلت إشارة إلى أسماء الله الحسنى. فقالوا: (الألف) من اسم الله، و (اللام) من اسم الله اللطيف، و (الميم) من اسم الله المجيد. وهذا محتمل. وجاء عن ابن عباس رضي الله عنه مثل ذلك. ولكن لا نقدر أن نقول هذا هو السبب الذي من أجله أنزل الله عز وجل هذه الأحرف في أوائل السور. وغاية ما يمكن أن يقال: إن هذه أحرف مفرقة مقطعة في أوائل السور، والغرض منها تعجيز الخلق، وهي من أسرار كتاب الله سبحانه تبارك وتعالى.

القراءات الواردة في قوله تعالى: (الم)

القراءات الواردة في قوله تعالى: (الم) قال تعالى: ((الم)) [السجدة:1]. قرأها الجمهور بالوصل فيها مع مد اللام والميم، وقرأها أبو جعفر بالوقف على كل حرف من الأحرف الثلاثة، فيقول: ألف. لام. ميم. والغرض من ذلك: بيان أنها ليست كلمة واحدة، ولكنها ألف ولام وميم. وكذا في كل فواتح السور. ومنها نعرف أن طه ليس اسماً، ولكنه حرفان؛ لأن أبا جعفر يقرؤها: ط ها، فيقف على الطاء ويقف على الهاء. وكذلك ياسين ليس اسماً، ولكنه حرفان؛ لأن أبا جعفر يقرؤها: ي سين، فيقف على الياء ويقف على السين؛ لبيان أن الياء حرف وأن السين حرف، وأنهما حرفان في أول السورة. وأما لحديث الذي جاء مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: (لي عند ربي عشرة أسماء، فذكر منها: طه وياسين). فلا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم.

تفسير قوله تعالى: (تنزيل الكتاب لا ريب فيه)

تفسير قوله تعالى: (تنزيل الكتاب لا ريب فيه) قال تعالى: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [السجدة:2]. قوله: (تنزيل) مرفوع على الابتدأ أو على الخبر؛ فعلى الخبر يكون المعنى: هذا تنزيله, وعلى أنه مبتدأ يكون الخبر: ((لا رَيْبَ فِيهِ))، أو ((مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ)). وقوله: (تنزيل) أي: منزل من السماء من عند رب العالمين، وفيه إشارة إلى أن الله سبحانه فوق سماواته سبحانه تبارك وتعالى، فنزل الكتاب من عنده سبحانه على النبي صلى الله عليه وسلم، فهو ليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وليس من كلام الملائكة، وإنما هو كلام رب العالمين نزله سبحانه كتاباً إلى السماء الدنيا، ثم نزله منجماً على النبي صلى الله عليه وسلم، ففي كل حادثة من الحوادث ينزل من القرآن ما يحكم الله عز وجل فيه بين خلقه. قال تعالى: ((تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ)) أي: لا شك في هذا التنزيل ولا شك في أنه كتاب رب العالمين سبحانه. وجمهور القراء على عدم المد في اللام، ووجه عند حمزة أنه يمده مداً متوسطاً، فيقول: (لآ ريب فيه). وهذا المد المقصود منه المبالغة في النفي, وكأن مده مبني على حكمة من الحكم، مثل كثير من القراء الذين ينقصون في مد الهمز المنفصل فإذا جاءوا عند كلمة: لا إله إلا الله يمدونها، ليس من أجل المد المنفصل، وإنما مبالغة في التعظيم الله سبحانه تبارك وتعالى، ونفي الشريك عنه سبحانه تبارك وتعالى، وحمزة العادة في المد عنده أنه يمد مداً طويلاً ست حركات، ولكنه هنا يمد مداً متوسطاً على أحد الأوجه عنده، فيقول: (لآ ريب فيه من رب العالمين). وأيضاً كلمة (فيه) يقرؤها ابن كثير بإشباع كسرة الهاء التي في آخرها، ويقرؤها باقي القراء بالكسر فقط من غير إشباع. والرب سبحانه هو الخالق المالك المدبر سبحانه تبارك وتعالى، الذي يفعل ما يشاء ويحكم بما يريد، وهو المشرع الذي يشرع لخلقه. فله الخلق وله الأمر وهو الرب سبحانه تبارك وتعالى. والفرق بين الإله والرب أن الإله بمعنى: المعبود، والرب بمعنى: الخالق والصانع والفاعل سبحانه تبارك وتعالى. ومقتضى الرب أن يعبد سبحانه تبارك وتعالى؛ لكونه يخلق ويرزق ويفعل أفعالاً يستحق بها أن يعبده الخلق فيؤلهوه. والألوهية مقتضاها عبادة الخلق للرب سبحانه تبارك وتعالى؛ لأنه مستحق لذلك، فالربوبية مقتضاها أفعال من الرب سبحانه من أنه يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويدبر الأمر، وينبني على ذلك أنه يستحق أن يؤلَّه وأن يعبد وحده لا شريك له. قال تعالى: ((رَبِّ الْعَالَمِينَ)) والعالمين: كل ما سوى الله سبحانه تبارك وتعالى، فالإنس عالم، والجن عالم، والدواب عالم، والحشرات عالم، وعالم علوي، وعالم سفلي، فكل واحد منها عالم من العوالم، والله سبحانه هو الرب للجميع، وهو ملك الملوك سبحانه تبارك وتعالى، ورب العالمين. قال تعالى: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [السجدة:2]. وهذه إذا وقف عليها يعقوب ومثلها الأسماء المجموعة جمع مذكر سالم يقول: العالمينه، بهاء السكت. ومثلها في الفاتحة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، إذا وقف عليها أبو جعفر ويعقوب فيقرآنها بهاء السكت في آخرها. وقوله تعالى: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [السجدة:2] يرد على من يقول: إنه سحر أو إفك مفترى أو شعر أو كهانة أو أساطير الأولين، فهو يرد عليهم ويقول: إن هذا كتاب رب العالمين سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (أم يقولون افتراه)

تفسير قوله تعالى: (أم يقولون افتراه) قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [السجدة:3]؟ أم هنا يسمونها بأم الإضرابية المنقطعة، كأنه يقول: أضرب عن هذا، وأنتقل من حديث إلى حديث آخر. فكأنه يقول: إن هذا القرآن نزل من عند رب العالمين، ثم قال: انتظر ننتقل إلى شيء آخر، بل أيقولون: أفترى هذا القرآن؟! فالله عز وجل يخبر عن هذا الكتاب أنه نزل من عنده، ثم بعد ذلك يقول: أهؤلاء الكفار يزعمون أنك افتريت هذا القرآن علينا؟! فأم هنا تقدر ببل وبهمزة الاستفهام بعدها، بل أيقولون افتراه؟ أي: اختلقه وألفه من عنده عليه الصلاة والسلام، وحاشا له. قال تعالى: {بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} [السجدة:3]. فالقرآن كلام حق، وهو كلام رب العالمين نزل من عنده. قال تعالى: (بل هو الحق من ربك {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ} [السجدة:3]. وتنذر: تعلن مخوفاً. والنذير: المعلن الذي يأتي ليخبر ويهدد ويخوف. وقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم بشيراً ونذيراً، مبشراً أهل التقوى وأهل الطاعة والإيمان بالجنة، ومنذراً ومخوفاً ومهدداً لأهل المعاصي والكفر والشرك بعذاب الله سبحانه. قال تعالى: {مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} [السجدة:3]. فمن أيام المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم حوالى ستمائة سنة لم يأت نذير في خلال هذه الفترة. فاندرس دين إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ولم يعلم هؤلاء الكفار عنه شيئاً، فكانوا أهل فترة، فنزل القرآن ليهديهم إلى سبيل الله سبحانه. قال تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [السجدة:3]. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة السجدة [4 - 5]

تفسير سورة السجدة [4 - 5] يذكر الله تعالى قدرته العظيمة على خلق الأشياء وإيجادها، فقد خلق السماوات السبع والأرضين السبع وما يبنهما، فهذا يدل على أنه وحده الذي يستحق أن يعبده الخلق، وهو الذي يتنزل أمره من أعلى السماوات إلى أقصى تخوم الأرض السابعة، وترفع الأعمال إلى ديوانها فوق سماء الدنيا.

تفسير قوله تعالى: (الله الذي خلق السموات والأرض)

تفسير قوله تعالى: (الله الذي خلق السموات والأرض) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} [السجدة:4]. يذكر الله سبحانه وتعالى قدرته العظيمة وخلقه للسماوات وللأرض وللإنسان، وكيف أن هذا من بديع قدرة الله سبحانه وتعالى، التي تدل على أنه وحده الذي يستحق أن يعبده الخلق، ولا يعبدون من لا يملك لهم شيئاً لا ضراً ولا نفعاً. فالله سبحانه الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش سبحانه. وهو المعبود وحده الذي يستحق أن يعبد وحده، وهو الرب الذي مقتضى ربوبيته أنه يخلق، فخلقه كله عظيم، كله حسن، وكله متقن ومحكم، فيرينا من آيات خلقه السماوات والأرض، فالإنسان يعيش فوق هذه الأرض، وإن كانت الأرض عند السماوات لا شيء، ولكن لكون الإنسان فوق الأرض يعيش عليها، والإنسان يحاسب على ما يصنع فيها، وفي هذه الأرض آيات للموقنين، فالله عز وجل يذكر الإنسان بأنه خلق هذه الأرض وما عليها، وخلق غيرها من الكواكب والنجوم والشموس والأقمار، ولكن الإنسان يعيش على الأرض فيرى آيات الله عز وجل فيها، من جماد ونبات وحيوان وإنسان وطير، مما خلق الله عز وجل وذرأ وبث فيها، فيرى آيات قدرة الله سبحانه، ويتدبر ويتأمل في هذه السماوات وما فيها وما فوقها وما تحتها، والأرض وما فوقها وما تحتها، وما بين السماوات والأرض هذا كله خلق الله سبحانه وتعالى، فقد خلق هذا الخلق العظيم كله في ستة أيام، وهنا لم يذكر لنا أنها من أيام الدنيا أو من أيام الآخرة، أيام الدنيا معلومة عندنا، وأيام الآخرة كل يوم بألف سنة مما نعد، ولكن كون ربنا سبحانه خلق السماوات وخلق الأرض في ستة أيام فكأنها من أيام الله عز وجل التي كل يوم عنده بألف سنة مما تعدون. فيكون خلق السماوات والأرض في هذا القدر، في ستة أيام من أيام الله سبحانه وتعالى، وهو قادر على أن يخلق كل شيء في لحظة بقوله: كن، فيكون كل شيء كما أمر، ولكن أراد أن يرينا حكمته وصبره وحلمه، انظروا كيف خلق آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وترك آدم وهو من تراب ومن طين حتى مرت به الملائكة وتستعجب ما هذا؟ وآدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام مر به إبليس فرآه وهو أجوف، فأضمر في نفسه: لئن سلطت عليك لأغوينك. ولو شاء سبحانه لخلق آدم بقوله: كن فكان آدم، ولم يتركه لا أربعين سنة ولا أقل ولا أكثر من ذلك، ولكن لحكمة من الله عز وجل يرينا مقتضى أسمائه الحسنى، وأنه الحليم، وأنه الحكيم، وأنه العليم، وأنه الصبور سبحانه وتعالى، فيحلم ويحكم الله سبحانه بعلمه وقدرته سبحانه، فيخلق ما يشاء ويمهل سبحانه وتعالى، وهو القادر على أن يوجد في لحظة واحدة. قوله: ((الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ)) وفصل لنا سبحانه وتعالى في سورة فصلت: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [فصلت:9]، وهنا خلق الله عز وجل هذه الأرض في يومين، ودبر أمر هذه الأرض جعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين. إذاً: إيجاد الأرض كان في يومين، وتدبير أمر الأرض كان في أربعة أيام بما فيها الخلق. وقال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} [فصلت:11 - 12]. يعني: الأرض هذا الكوكب الصغير دبر أمره وأوجده الله عز وجل في أربعة أيام، وكان قادراً أن يقول: كن، فيكون في لحظة. وهذه السماوات التي هي أعظم بكثير من الأرض، الأرض بجوار هذه السماوات كحلقة في فلاة، وعلماء الكون والفلك لما نظروا إلى هذه الأرض قالوا: هذه الأرض صغيرة جداً بجوار المجرة التي نحن فيها وتسمى بمجرة درب التبانة، هذه المجرة التي فيها الشمس وفيها القمر وفيها النجوم الموجودة التي اطلع العلماء على بعض ما فيها، قالوا: فيها أكثر من أربعمائة ألف مليون كوكب مثل هذه الأرض وأعظم منها، وفيها النجوم وغيرها من الأشياء. ومنذ فترة قالوا: فيها مائة ألف مليون، والآن يقولون: فيها أربعمائة ألف مليون، والله أعلم بعد هذا ماذا سيقولون! هذا في هذه المجرة وحدها، فكم عدد المجرات التي في الكون؟! يقولون: هناك مليارات مثل هذا العدد من الكواكب الموجودة في هذه المجرة التي نحن فيها، ويقولون: عدد المجرات مثل ذلك، فيكون العدد مهولاً جداً من المجرات! إذاً: ما هي الأرض بجوار ما خلق الله عز وجل من كواكب وشموس وأقمار ومجرات؟ وخلق الله سبع سماوات، وقدر في كل سماء أمرها وتدبيرها. وهذه المجرات التي نتكلم عنها هي تحت السماء الدنيا، وإذا تخيلنا أن الكون كله كأنه كرة، فكلما خرجنا إلى خارج اتسع واتسع، فهذه السماوات العظيمة أوسع بكثير من الأرض، فالسماء الثانية أوسع من السماء الدنيا, والثالثة أوسع، والرابعة والسابعة، وفوق ذلك سدرة المنتهى، هذا كون عظيم جداً خلقه الله عز وجل، وأرانا كيف أن هذا الكون كبيراً والله العلي الكبير سبحانه وتعالى وحده، فهو يرينا آيات لنستدل بها على عظمته سبحانه وتعالى، فهو العلي الكبير. إذاً: خلق هذه السماوات العظيمة في يومين اثنين، وخلق الأرض هذا الكوكب الصغير في أربعة أيام! إذاً: هناك حكمة من خلق هذا الكوكب الذي يعيش عليه الإنسان، ليبتلى فيه هذا الإنسان، ثم بعد ذلك يصير إلى الجنة أو إلى النار.

إثبات صفة الاستواء لله على عرشه كما يليق بجلاله

إثبات صفة الاستواء لله على عرشه كما يليق بجلاله قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [السجدة:4] أي: الله خلق العرش، فكما أن السماوات مخلوقة، والأرض مخلوقة، والكائنات كلها مخلوقة، فكذلك العرش مخلوق، والله استوى على العرش استواء يليق به من غير تشبيه ولا تكييف ولا تمثيل ولا تحريف ولا تأويل ولا تعطيل، نثبت له سبحانه وتعالى صفاته كما أثبتها لنفسه. إذا تكلمنا على الخلق نقول: استوى الملك على كرسي عرشه، فيكون المعنى: أن الملك يستوي على سريره ويستوي على عرشه، وكل مخلوق من مخلوقات الله عز وجل يستوي على ما يجلس عليه بما يليق به أنه مخلوق، أما الخالق سبحانه وتعالى فلا يحتاج إلى شيء، وهو مستغن عن العرش وما دونه، وهو فوق كل شيء سبحانه ومحيط به، وهو سبحانه يمسك السماوات أن تزولا، فالله سبحانه استوى على العرش كما يليق به، فلا نقول: كيف استوى على العرش؟ وإنما نقول: استوى استواء يليق به سبحانه وتعالى. ولا نحرف هذه الكلمة كما تحرفها المعتزلة وغيرهم، يقولون: استوى على العرش يعني: استولى على العرش، وهذا كلام باطل؛ لأننا لو قلنا: استوى بمعنى استولى لكان له خصم، وهذا الخصم يريد أن يأخذ منه هذا الشيء، فهو يستولي على هذا الشيء بقهره لخصمه، وحاشا لله عز وجل أن يكون له شريك في ملكه سبحانه، أو من ينازعه ملكه سبحانه، نقول: استوى بالمعنى الذي يفهمه كل إنسان من استواء الإنسان على عرشه على كرسيه، ولكن لا نكيف ولا نمثل ولا نقول: استواء الله على عرشه كاستواء الإنسان على كرسيه، لا، وإنما نقول: استوى استواء يليق به سبحانه، الكيف لا نعلمه، أما معنى الاستواء فمعروف.

معنى قوله (ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع)

معنى قوله (ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع) قال تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} [السجدة:4] يعني: الله سبحانه وتعالى الذي خلق هذا كله، فهو يرينا كمال قدرته وعظيم قوته، فهو القوي العزيز سبحانه، فكيف تلجأ إلى غيره سبحانه وتعالى؟ وكيف تطلب النصر من غيره؟ قال: ((مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ)) الولي أصلها من الولي وهو القرب، ومنها: الولاية أي: ولاية الإنسان مع الآخر، تقول: هذا وليي وهذا مولاي، فالمولى والولي بمعنى القريب وبمعنى ابن العم، ويطلق عند العرب على هذا المعنى، فكأن المعنى هنا: ((مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ)) يعني: من قريب نسيب يتولى أمركم فينازع ويخاصم فيكم ربكم سبحانه وتعالى، وليس لكم مخلوق يشفع لكم عند الله سبحانه. والشفيع من الشفع عكس الوتر، فالإنسان يأتي وحده يوم القيامة فلا يأتي معه من يشفع به ويشفع له، فأنت تقف وحدك أمام الله سبحانه ليس لك شفيع، إلا حين يأذن الله عز وجل لمن يشاء من خلقه بالشفاعة، أما قبل ذلك فالإنسان يكون وحيداً ليس له من دون الله عز وجل من يشفع له أو ينفعه. ثم قال: ((أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ)) التذكر عكس النسيان، ويأتي بمعنى التدبر وبمعنى العظة، فهلا اتعظتم بذلك؟! كل إنسان أتى إلى هذا الكون وهو وحده، ويموت وحده، ويبعث يوم القيامة وحده، ويحاسب وحده، وهذا الإنسان إذا كان في قبره يأتيه الملكان فيجلسانه ويسألانه، وهو الذي يجيب وحده، لا أحد معه يلقنه ويقول له: قل كذا، إلا رحمة رب العالمين سبحانه وتعالى، فهلا اتعظتم بذلك وتذكرتم فعبدتم الله وأخلصتم له دينكم؟!

تفسير قوله تعالى: (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض)

تفسير قوله تعالى: (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض) قال الله تعالى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:5]. قوله: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ} [السجدة:5] التدبير: هو القضاء والقدر، أي: يقدر سبحانه فيدبر ملكوته في السماوات وفي الأرض، ويأمر بالأمر فتنزل الملائكة من السماء بأمر الله سبحانه، إلى الأرض، فهم ينزلون في يوم واحد من السماء إلى الأرض، هذا اليوم لو أن مخلوقاً من المخلوقات بقدرته كمخلوق أراد أن يقطع هذه المسافة بين السماء والأرض، بما آتاه الله عز وجل من قوة من دواب ومن صواريخ ومن طائرات وغير ذلك لسار فيها ألف سنة لا يقدر أن يقطع هذه المسافة، والإنسان مستيقن من ذلك، ويعلم أن بينه وبين بعض النجوم التي في السماء مقدار خمسة آلاف سنة ضوئية. السنة الضوئية مسافة يقيس بها الإنسان، عندما يتعذر أن يقيس بالكيلومتر وأن يقيس بالميل فإنه يقيس ذلك بالسنة الضوئية، يقول: السنة ثلاثمائة وستون يوماً، واليوم بمقدار أربعة وعشرين ساعة، والساعة فيها ستون دقيقة، والدقيقة فيها ستون ثانية، والثانية يقطع فيها الضوء مسافة ثلاثمائة ألف كيلو متراً في الثانية الواحدة، فإذا كان في الثانية الواحدة يقطع فيها ثلاثمائة ألف كيلو متراً، فكم يقطع في الساعة؟ وكم يقطع في اليوم؟ وكم يقطع في السنة؟ فالإنسان لا يستطيع ولا يقدر أن يقطع هذه المسافة الطويلة؛ لأن المقدار الذي بين نجم من النجوم وبين الأرض طويل جداً فكيف بالسماء التي فوق ذلك؟ وكيف بالسماء السابعة؟ ومع ذلك فأمر الله ينزل من السماء، ينزل به جبريل أو ميكائيل أو إسرافيل أو ملك من الملائكة في يوم واحد، ولو أنكم قطعتم هذه المسافة لما أدركتموها ولا في ألف سنة بما آتاكم الله عز وجل من آلات ومن قدرات، قال الله عز وجل: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن:33] يعني: بأمر الله سبحانه وتعالى، فلا تقدرون أن تتجاوزوا قدركم ولا ما آتاكم الله عز وجل من أشياء، وهو يدبر أمره وينزل هذا الأمر الذي دبره وأحكمه وقضاه وقدره سبحانه وتعالى من السماء إلى الأرض. ثم تعرج الملائكة إلى الله عز وجل فيخبرونه: تم كذا وتم كذا وعملنا كذا ورأينا عبادك وأتيناهم وهم يصلون، كل هذا والله أعلم به سبحانه وتعالى، وتأتي الملائكة لتشهد للخلق، لتكون شاهدة لهم أو عليهم يوم القيامة، فيقضون أمر الله في الأرض ويرتفعون إلى السماء في يوم واحد، وبين السماء والأرض مسافة خمسمائة عام، ولو أن الإنسان مشاها أو جراها كان بهذا المقدار، ولكن الملائكة في نصف يوم تنزل ونصف يوم تصعد إلى السماء، وتبيت فيكم ملائكة بالليل في وقت العصر ثم إذا كانوا في الفجر جاءت ملائكة أخرى من السماء وصعدت هذه التي باتت فيكم لتخبر ربها وهو أعلم سبحانه وتعالى، فيقول لمن أتوه: (كيف تركتم عبادي؟ يقولون: أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون) أي: نزلنا في صلاة العصر وهم يصلون وتركناهم الفجر وهم يصلون، فتشهد الملائكة عند الله. وقوله: ((ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ)) أي: تعرج إليه الملائكة أو من نزلوا بهذا الأمر من السماء إلى الأرض ((فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ)) يعني: من سنينكم؛ لأن السنة عند الله غير السنة التي عند الإنسان، اليوم الذي عند الإنسان مقدر بطلوع الشمس وغروبها، أما اليوم الذي عند الله سبحانه فهو بألف سنة من هذه السنين ومن هذه الأيام التي تعدونها عندكم، فالله سبحانه يرينا كيف أنه دبر ملكوته سبحانه، وكيف أن الكون عظيم جداً، فكيف بخالق الكون وعظمته، فاعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئاً. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة السجدة [5 - 7]

تفسير سورة السجدة [5 - 7] يبين الله عز وجل عظيم قدرته وخلقه، ومن أعظم دلائل قدرته أنه خلق السماوات السبع دون عمد، وخلق الأرض والجبال، وخلق الإنسان من ماء مهين، وكان أصل خلقته من تراب، كل ذلك خلق العزيز الرحيم الذي خلق كل شيء فأحسن خلقه، وصوره في أجمل صورة.

تفسير قوله تعالى: (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض)

تفسير قوله تعالى: (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة السجدة: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة:6 - 7]. لما ذكر الله سبحانه تبارك وتعالى في الآيات السابقة كيف أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام، ثم استوى على العرش، فذكر من خلقه العظيم السماوات والأرض والعرش، ثم ذكر أنه ليس للخلق من دونه من ولي ولا شفيع، إذا كانت هذه مخلوقات الله سبحانه تبارك وتعالى، خلقها وسخرها وسيرها وألزمها بما يريده سبحانه تبارك وتعالى، فأتت ربها طائعة خاشعة لله كما قال سبحانه: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72] فهذه السماوات وهذه الأرض وهذه الجبال أقوى من الإنسان بكثير. ولذلك يقول الله سبحانه: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [النازعات:27 - 33]. فذكر أن الإنسان ضعيف بأصله وخلقته، ضعيف بما آتاه الله عز وجل من قوة، فهو ضعيف إذا قارن نفسه بهذه الأرض التي يعيش فوقها، والتي يموت فيدفن بداخلها، فلو أنه ضرب بقدمه الأرض ما استطاع أن يخرق الجبال، ولذلك قال الله عز وجل للإنسان: {إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء:37] مهما أوتيت من قوة، ومهما أوتيت من شيء لن تقدر على أن تخرق الأرض إذا ضربتها بقدمك، بل تتقطع قدمك ولا تستطيع أن تخرقها، ولو أنك تطاولت ورأيت نفسك أطول من غيرك لن تبلغ طول الجبال، فارجع إلى نفسك وتب إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، ولا تغتر بنفسك. وهنا يذكر خلق السماوات والأرض وخلق العرش العظيم، ثم يقول: مالكم من دون الله سبحانه من ولي ولا شفيع، والولي: القريب الذي يدافع عنك من أعمام أو إخوة أو بني أعمام ونحو ذلك، مالكم من دونه من ولي ولا أقرباء يناصرونكم، ولا شفعاء يأتون فيسترحمون من أجلكم إلا أن يأذن الله لمن يشاء، فتذكروا واعتبروا واتعظوا بذلك، أفلا تتذكرون قدرة الله سبحانه ومخلوقاته فتعرفون قدر ربكم سبحانه؟! {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر:67]. ثم ذكر أنه سبحانه: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:5]. ((يُدَبِّرُ)) يقضي ويقدر وينزل سبحانه تبارك وتعالى. قوله: ((الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ)) فتنزل الملائكة بأمر الله سبحانه وتدبيره في كونه يأمرهم: افعلوا كذا وافعلوا كذا وأتوا بكذا فتنزل الملائكة بأمر الله، ويتعاقبون فيكم بالليل وبالنهار، فتعرج ملائكة الليل وتنزل ملائكة النهار، فهؤلاء يقضون النهار مع البشر، وهؤلاء يقضون الليل مع البشر، ويعرج كل منهم إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، فهذا النزول بأمر الله، وهذا العروج بالإخبار لله سبحانه تبارك وتعالى، وهذا القدر الذي ينزلون فيه لو أن مخلوقاً من مخلوقات الله عز وجل -غير الملائكة-أراد أن ينزل وأن يصعد بما آتاه الله عز وجل من سرعة ما قدر على ذلك في ألف سنة، ولكن الله جعل للملائكة القدرة على أن ينزلوا ويصعدوا في مقدار يوم واحد، فينزلون بالليل والنهار فيما لا يقدر عليه الخلق في مدة ألف سنة قال تعالى: ((ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ)).

تفسير قوله تعالى: (ذلك عالم الغيب والشهادة)

تفسير قوله تعالى: (ذلك عالم الغيب والشهادة) قال تعالى: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [السجدة:6] (ذلك) اسم إشارة للبعيد، والمقصود منه هنا التعظيم والإشارة للبعيد، فإذا أراد الإنسان أن يتكلم إما أن يقصد البعيد في مكان، وإما أن يقصد التعظيم، فقد يتكلم الإنسان عن شخص قريب منه فيقول: هذا، فإذا أراد تعظيمه يقول: ذلك، وهو قريب منه، فالله عز وجل يعبر عن نفسه سبحانه بـ (ذلك) لأنه الخالق العظيم سبحانه تبارك وتعالىز و (عالم الغيب والشهادة) قدم الغيب على الشهادة لأن الغيب خفي، فلا يدري الإنسان عن الغيب شيئاً إلا بما يعلمه الله سبحانه تبارك وتعالى، فـ (ذلك عالم الغيب) أي: ما غاب عنكم من أشياء غيبها الله سبحانه تبارك وتعالى فما غيبه الإنسان في ضميره وأخفاه فإن الله يعلمه سبحانه، يعلم ما سيفعله الإنسان ولم ينوه بعد فعلم الله علم غيب، يعلم ما كان في الماضي، وما سيكون في المستقبل، بل وما لم يكن، الشيء الذي لم يوجد يعلم أن لو كان كيف سيكون سبحانه تبارك وتعالى، فيعلم كل شيء، يعلم ما أسره الإنسان لغيره، وما أخفى من السر وغيبه في نفسه ولم يقله لغيره، وما هو أخفى من ذلك مما لم يعلمه الإنسان بعد، وسيعلمه وسيفعله بعد ذلك، فأنت لا تعلم ما الذي ستكسبه في الغد والله أعلم بذلك، وأنت لا تعلم متى ستموت؟ وأين تموت؟ وكيف تموت؟ والله يعلم ذلك سبحانه، فهو عالم الغيب والشهادة سبحانه تبارك وتعالى. والشهادة: هي الشيء المشاهد، ما يشاهده الإنسان أمامه، والله يعلمه ويراه سبحانه تبارك وتعالى، وما خفي عن الخلق فالله عز وجل يعلمه، فهو عالم الغيب والشهادة (العزيز الرحيم)، هذا الاسم العظيم العزيز مناسب لما قبله، وكذلك الرحيم، فعالم الغيب لا يخفى عليه شيء مهما أراد الإنسان أن يخفيه ويغالب في إخفائه، فالله مطلع عليه لا يغلبه أحد أبداً، فالله هو الغالب الذي لا يغلب، والعزيز القاهر فوق عباده سبحانه الذي إذا قضى أمراً فإنما يقول له: كن، ولابد أن يكون بأمر الله سبحانه، وهو العزيز الذي يقضي الشيء ولابد أن يكون على ما قضاه الله، فمستحيل أن يتخلف الشيء عما أراده الله عز وجل له، لا شيء يغالب الله سبحانه تبارك وتعالى، ولا شيء يمتنع على الله سبحانه. الله عز وجل رءوف ولطيف بعباده، فإذا ذكر ما يفيض القوة والشدة ذكر ما يفيض رحمته العظيمة سبحانه تبارك وتعالى، فهو عالم الغيب والشهادة، اطلع على غيب كل مخلوق، واطلع على ما يفعله ويشاهده غيره سبحانه تبارك وتعالى، فيحاسب كل إنسان على ما يفعله، والله هو العزيز الغالب يحاسب الكافر والظالم فيأخذه أخذ عزيز مقتدر، والله هو الرحيم يحاسب المؤمنين فيسترهم سبحانه تبارك وتعالى ويغفر لهم، ويتكرم عليهم بفضله ورحمته سبحانه، فهو عزيز رحيم سبحانه تبارك وتعالى، والرحيم صفة لله عز وجل فيها رحمته، وهو صيغة مبالغة، فهو الرحمن الرحيم، الرحمن: ذو الرحمة العظيمة الجليلة، والرحيم: ذو الرحمة العظيمة الجليلة، فالرحمن يختص بالرحمة العامة العظيمة من الله عز وجل لكل خلقه، فيدخل فيها المؤمن والكافر بأن يعطيه ويرزقه ويتفضل سبحانه تبارك وتعالى على خلقه بالهداية ويمن وينزل عليهم كتابه، ويرسل إليهم رسولاً فيبين للإنسان الخير والشر، ويبين للجميع سبحانه تبارك وتعالى، فهو الرحمن سبحانه، ولما طلب إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام من ربه قال: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [البقرة:126] أهل البيت {مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ} [البقرة:126] فيرزق الله عز وجل الجميع، فهذا من رحمته سبحانه، فلم يخلق الخلق ليأتوا إلى الدنيا فلا يجدوا ما يأكلون، وإنما خلق هذا وهذا. إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام طلب الرحمة للمؤمنين، وطلب الرزق لهم، فالله عز وجل أخبر أنه يرزق الجميع مؤمنين وكافرين، وهذا مقتضى رحمته سبحانه تبارك وتعالى، يرزق جميع خلقه، ويبين لجميع خلقه سبحانه تبارك وتعالى رحمته. وهو الرحيم برحمة خاصة للمؤمنين في الدنيا والآخرة، فإن رحم الجميع في الدنيا بأن بين ورزق وأعطى لكن في الآخرة لا تكون رحمته إلا للمؤمنين {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43] سبحانه تبارك وتعالى، فيرحمهم ويدخلهم الجنة، وأما الكافر فإن أعطاه الله رحمة في الدنيا فيوم القيامة مصيره إلى جهنم؛ لأنه لم يرع ذلك، ولم يقدر ربه سبحانه حق قدره، ولم يعبد ربه، بل أشرك بالله مع ما أعطاه فاستحق أن تكون نهايته في نار جهنم والعياذ بالله قال تعالى: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [السجدة:6].

تفسير قوله تعالى: (الذي أحسن كل شيء خلقه)

تفسير قوله تعالى: (الذي أحسن كل شيء خلقه) قال الله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة:7] كل خلق الله حسن، وكل خلق الله يليق بما خلقه الله عز وجل له، فخلق الإنسان وسواه فعدله، وجعله يمشي على رجلين منتصباً قائماً، وجعل الإنسان على هيئة معينة تليق بهذا الإنسان الذي كرمه الله سبحانه تبارك وتعالى، وخلق الحيوان على هيئة معينة تليق بهذا الحيوان، وخلق الطير والدواب والحشرات وكل مخلوق من خلقه سبحانه خلقهم فأحسن خلقته سبحانه على ما يليق بهذا المخلوق. {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} إذا رأى الإنسان شيئاً قبيحاً فيقال له: هذا وإن كان قبيحاً هل تقدر أن تخلق مثله؟! الله عز وجل له في كل شيء آية، فيخلق الخير والشر سبحانه، ويخلق الشيء الدميم والقبيح، لولا وجود القبيح ما علم الإنسان قيمة الجمال، فلو كل شيء جميل في نظرك ما عرفت قيمة هذا الشيء الجميل إلا بأن يخلق الله عز وجل ضده، ولا عرفت قيمة الصحة التي أنت فيها إلا أن يخلق الله عز وجل المرض، ولا عرفت قيمة البياض وجماله إلا أن يخلق الله عز وجل السواد، فتقارن بين هذا وذاك, ولذلك يقولون: والضد يظهر حسنه الضد (وبضدها تتميز الأشياء)، فالشيء لا يتميز عن غيره إلا بالضد الذي يوجد، فيعرف الإنسان قيمة هذا وقيمة هذا. الله سبحانه تبارك وتعالى قد خلق هذا كله فأتقن كل شيء خلقه وأحكمه وأحسن فيه، فكل خلق الله سبحانه بإضافته إلى الله فهو حسن، وكل خلق الله عز وجل بإضافته إلى الله فهو خير من الله سبحانه تبارك وتعالى، وإن كان في الدنيا هذا خير وهذا شر، الكافر هذا شر، ولكن الله عز وجل خلقه لخير يعلمه سبحانه تبارك وتعالى، يخلق هذا الكافر ليبتلي به المؤمن ويرتفع في درجات الجنة، وإلا فكيف سيبتلى إن لم يوجد هذا الكافر ليؤذي المؤمن وليجاهده ويكتسب الثواب والحسنات والدرجات عند الله؟! فيكون الله عز وجل هو الذي خلق هذا وخلق هذا، فهذا خير من هذا. قوله: ((الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ)) هذه قراءة الكوفيين، وقراءة نافع أيضاً، وهذا فعل، وقراءة بقية القراء ((الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ)) ف (خَلَقَهُ) فعل، و (خَلْقَهُ) مصدر، وكأن المعنى على الأول: الذي أحسن كل ما خلقه عز وجل، فقد أحسنه أي: أتقنه وأحكم في صنع هذا الشيء الذي أوجده سبحانه وتعالى. إذاً: أحسن كل شيء في الخلق والإيجاد من العدم، فكل شيء أوجده الله سبحانه تبارك وتعالى فقد أحسن في إيجاده، وقد ينظر الإنسان في الشيء ويقول: لماذا هذا الشيء خلقه الله عز وجل هكذا؟! وهو لا يدري أن هذا فيه نفع للإنسان من حيث يدري ومن حيث لا يدري، فكل مخلوق في هذا الكون إنما هو مخلوق لحكمة من الله سبحانه تبارك وتعالى، حتى إن بعض علماء الحشرات من أكابر العلماء يقولون: لولا وجود العنكبوت لفني الإنسان ومات! فوجود هذا العنكبوت يعمل توازناً في البيئة التي هو موجود فيها هذا الإنسان، فهو لا يدري إلا فيما يشاهده أمامه هذا عنكبوت يؤذيني ويضايقني ويعمل كذا ولكن لا يدري أن هذا مخلوق خلقه الله عز وجل لحكمة منه سبحانه، ولنفع أراده الله سبحانه، أنت اطلعت عليه أو لم تطلع عليه، فإن الله هو عالم الغيب والشهادة سبحانه وتعالى، فالإنسان يحتاج إلى هذا الشيء، وإذا قضى عليه سيجد أنه خسر أشياء أخرى من ورائه، فهذا العنكبوت يقضي على أشياء كثيرة تؤذي الإنسان، والعنكبوت يتكفل بأمر الله عز وجل بأن يقضي عليها. كذلك الإنسان ينظر إلى النمل على أنه مؤذ فيزيله ويبعده، والله عز وجل يخلق الشيء لحكمة من الحكم سبحانه تبارك وتعالى، وينهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل النمل، ويقول العلماء: إن هذه النملة من فوائدها التوازن البيئي، فيقضي على أعداء للإنسان بحيث يأكلها، ويقضي على أشياء من فطريات تصيب طعام الإنسان فتؤذيه، ولعل عدم وجود هذا النمل يفسد على الإنسان أطعمة كثيرة جداً، كان النمل سبباً في أنه يقضي على ما يتلف هذه الأطعمة. وقد ذكرنا أن أهل اليمن يأتون بالنمل من الغابات، يقطعون فروع الشجر المليئة بالنمل وينقلونها على ظهور الجمال إلى الحدائق التي فيها البرتقال واليوسفي وغيرها من الفواكه؛ وذلك لأجل أن يقضي النمل على أشياء من فطريات موجودة في هذه الأشجار التي تؤذي الإنسان وتفسد عليه الفواكه، فالنمل يقضي على أعداء هذه الفواكه فيستفيد الإنسان من طعامه وشرابه. فهذه حكم عظيمة من حكم الله سبحانه، والإنسان قد يعرف بعضها، وقد يغيب منه الكثير من هذه الأشياء فيقول: لماذا خلق الله عز وجل هذا الشيء؟ والله يقول: (لا يسأل عما يفعل) سبحانه تبارك وتعالى، فلا تسأل الله عز وجل لماذا خلقت؟! وإنما تقول: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285] فالله هو الذي أحسن كل شيء خلقه. ورد أن عبد الله بن مسعود صعد إلى شجرة من أشجار الأراك يجني من ثمارها للنبي صلى الله عليه وسلم فنظر إليه الصحابة وضحكوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهم: (علام تضحكون؟ قالوا: نعجب من دقة ساقيه) عبد الله بن مسعود كان قصيراً ونحيفاً جداً، فتعجب الصحابة من نحافته وضحكوا، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم أن خلق الله كله حسن سبحانه تبارك وتعالى، وأخبرهم لعل هذه القدم التي تنظرون إلى نحافتها أثقل من جبل أحد. رجل آخر جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد لبس ثوباً يجره على الأرض، فأمره برفع ثوبه إلى أنصاف ساقيه، فالرجل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني حمش الساقين أي: فيها شيء من الاعوجاج، فكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم: (كل خلق الله حسن) خلق رجليك نحيفة أو معوجة فكل ما خلقه الله فهو حسن، افعل ما أمرك الله به من ألا تجعل ثوبك سابغاً، فإن الله لا يقبل صلاة إنسان قد أطال ثوبه حتى وصل إلى الأرض. الله {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة:7] سبحانه تبارك وتعالى، والله هو الذي بدأ خلق الإنسان من طين، وأصل الإنسان هو آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وآدم خلق من طين، فبدأ خلق الإنسان من طين بعد أن كان عدماً، وخلق الله من آدم هذا الإنسان الذي يخاصم ويجادل ربه سبحانه تبارك وتعالى بالباطل، قال: {وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة:7] ثم جعل نسل هذا الإنسان الذي هو آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام من سلالة من ماء مهين. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة السجدة [6 - 7]

تفسير سورة السجدة [6 - 7] إن الله تعالى له العلم المطلق سبحانه، فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، يعلم كل ما غاب ويعلم كل ما حضر سبحانه، فعلمه بخلقه دقيق، ولذا كان كل خلقه حسن، وكان الإنسان المخلوق من طين أحسن الخلائق على وضاعة أصله، فسبحان الله الخالق الحكيم!

تفسير قوله تعالى: (ذلك عالم الغيب والشهادة)

تفسير قوله تعالى: (ذلك عالم الغيب والشهادة) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة السجدة: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [السجدة:6 - 8]. يخبر الله سبحانه تبارك وتعالى عن نفسه سبحانه أنه: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}، الذي يعلم ما خفي عن الخلق وما ظهر لهم، الذي يعلم كل شيء ظاهراً وباطناً سبحانه، وأخبر أنه {الْعَزِيزُ}، الذي يقدر على كل شيء، ولا يعجزه شيء، ولا يمتنع منه شيء، وأنه (الرحيم) الذي يرحم من يشاء من خلقه سبحانه. قال سبحانه عن سعة رحمته: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156]، فهو الرحيم الذي يسع برحمته كل شيء، وقد خلق آدم وذريته، ليري عباده مقتضى أسمائه الحسنى وصفاته العلى، فإنه هو الذي يخلق، وهو الذي يرزق، وهو الذي يحيي، وهو الذي يميت، وهو الذي يرشد ويهدي، وهو الذي يضل من يشاء، ويهدي من يشاء، ثم يميتهم ثم يبعثهم من قبورهم، ويحاسبهم يوم القيامة على أعمالهم. مقتضى أسماء الله الحسنى سبحانه تبارك وتعالى أفعال وصفات له سبحانه يفعلها الله عز وجل فيرينا قدرته الباهرة وعظمته القاهرة، ولو سئل العبد عن ذلك كله؟ يجيبه القرآن: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [السجدة:6].

تفسير قوله تعالى: (الذي أحسن كل شيء خلقه)

تفسير قوله تعالى: (الذي أحسن كل شيء خلقه) قال تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة:7]، كل خلق لله عز وجل حسن، وكل خلق الله عز وجل إذا تأمله العبد وجد القدرة العظيمة، والخلق البديع له سبحانه تبارك وتعالى، يجد ذلك في الصغير والكبير؛ في القليل والكثير، في الشيء الذي يراه الإنسان كبيراً عظيماً أو صغيراً حقيراً، فقدرة الله عز وجل ظاهرة في كل شيء، فهو {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة:7] فالطين هو أصل الإنسان، منه خلق آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام بعد أن كان عدماً، فقد أوجد الله عز وجل الماء ثم أوجد التراب ثم أوجد الطين، ومنه خلق آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، والله عز وجل يباين بين خلقه أصلاً وشكلاً ونوعاً وكماً، فهو يخلق خلقه مما يشاء، فقد خلق الملائكة من نور {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن:15]، وخلق آدم من تراب، ثم خلق ذريته منه، وقد وصف الله سبحانه آدم عليه السلام في أكثر من موطن في القرآن الكريم منها قوله سبحانه: {مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون:12]، وقوله: {مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر:26]، وقوله: {مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن:14]، وقوله: {وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ} [السجدة:7] أي: جنس الإنسان. وقد ذكر الله عز وجل في القرآن، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم في السنة أن الله عز وجل خلق آدم بيده، وأنه نفخ فيه من روحه سبحانه تبارك وتعالى. فبيان القرآن وبيان السنة يدل على أن آدم عليه السلام معجزة من المعجزات العظيمة، وآية من الآيات الباهرة التي تشهد بقدرة الخالق العظيم سبحانه تبارك وتعالى. وإذا كان كل إنسان مخلوق من أبوين: أب وأم، فقد يرينا الله عز وجل قدرته العظيمة بأن يجعل من البشر من يخلق بغير أب كالمسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فهو مخلوق من أم فقط، فأرانا الله عز وجل في خلقه آية من عظيم آياته. وإذا تعجب الإنسان من أن الله عز وجل خلق المسيح عليه الصلاة والسلام من أم فقط فإن الله عز وجل يقول: إن هذا ليس بأعجب من خلق آدم، فقد خلقته من غير أب ولا أم!

شبهة القول أن لآدم أبا والرد عليها

شبهة القول أن لآدم أباً والرد عليها من العجب ما تسمعه من بعض المتحذلقين الذين يتكلمون في خلق آدم عليه السلام ويقولون: إن آدم له أب وأم قبل ذلك، وكأنه ينكر ما يقوله القرآن! ومما يزيد الأمر عجباً أن الذي يتكلم بذلك رجل من الدكاترة وأستاذ في القراءات! وصدق معاذ رضي الله تبارك وتعالى عنه حين كان يقول: اتقوا زيغة الحكيم، فقد يكون الإنسان عالماً من العلماء وفجأة يخترع شيئاً من الأشياء العجيبة التي لم يقلها أحد قبله، فتعجب! ويقول قولاً يعارض القرآن كقول من يقول: إن آدم له أب وأم معارضاً قوله عز وجل: {بَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة:7]، والإنسان الذي خلق من طين هو آدم عليه السلام، وهو الذي خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه سبحانه تبارك وتعالى، كما يدل على أنه لم يكن قبله بشر، وإنما خلق قبل آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام الملائكة والجان، ويدل على أن الجن خلقوا قبل الإنس أنه لما أراد الله أن يخلق آدم أعلم الملائكة بذلك، فاعترضت وقالت لربها: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30]، فقد ذكر أهل التفسير أن الجن سكنوا الأرض قبل الإنس وسفكوا الدماء وكان هذا سبب اعتراض الملائكة كما تقدم، ولكنهم في اعتراضهم لم يذكروا أن إنساناً جديداً قد قطن الأرض، فلا حاجة لخلق إنسان آخر. ثم بعد أن خلق آدم عليه السلام من الطين من غير أب ولا أم خلق حواء من ضلع من أضلاعه، وليس معنى أنه خلق حواء من ضلع من أضلاع آدم أن يكون الذكور نقص من أضلاعهم ضلع، ولكن خلقت من ضلع من أضلاع آدم، وكيف خلقت منه؟ هذا أمر الله عز وجل لم يطلعنا عليه، وليس بالضروري أنه إذا خلقت من ضلع من أضلاع آدم أن يكون نقص من آدم ومن ذريته شيء! إذ لم يثبت في ذلك شيء. ومن الأدلة على أن حواء خلقت من آدم ما جاء في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة وفي صحيح مسلم أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (استوصوا بالنساء فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء)، هذا لفظ البخاري ولفظ مسلم قال: (إن المرأة خلقت من ضلع لن تستقيم لك على طريقة، فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج)، فهذا حديث في الصحيحين، ومن ينكر مثل هذا الحديث ويقول: إنه عالم في القراءات، لنا أن نسأله من أين أخذ علم القراءات إلا من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، كما أن الذي روى القرآن هو الذي روى لنا حديث النبي صلى الله عليه وسلم. فإذا جاء إنسان ينكر أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: لم يصح هذا الحديث نقول: هذا يشكك في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والذي يشكك في السنة يشكك بعد ذلك في القرآن؛ لأن الذين رووا لنا السنة هم الذين رووا لنا القرآن، فكيف يأخذ بهذا ويترك بهذا؟ لذلك نقول ما قاله معاذ رضي الله عنه: اتقوا زيغة الحكيم، وهذا الأثر رواه أبو داود بإسناد صحيح عن أبي إدريس الخولاني - واسمه عائذ الله - عن يزيد بن عميرة وكان من أصحاب معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كان معاذ لا يجلس مجلساً للذكر حين يجلس إلا قال: الله حكم قسط، هلك المرتابون المتشككون في دين الله سبحانه تبارك وتعالى، قال معاذ بن جبل يوماً: إن من ورائكم فتناً يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن، وهذا أثر عجيب لا يقال من قبل الرأي، فإذا قاله معاذ فإنه لا يقوله من قبل رأيه، فإنه لا يعرف الغيب لكي يقول هذا الشيء، وبذلك علم ضرورة أنه سمع من النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى فساقه معاذ رضي الله عنه، والإسناد صحيح إلى معاذ بن جبل وهو سلطان العلماء رضي الله عنه، وسابق العلماء إلى الجنة. قال معاذ رضي الله عنه: إن من ورائكم فتناً يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن حتى يأخذه المؤمن والمنافق، والرجل والمرأة، والصغير والكبير، والعبد والحر. وفيه أن الله عز وجل يفتح على الناس من المال، ويفتح عليهم بحفظ القرآن حتى يحفظ القرآن الصغير والكبير، والرجل والمرأة، والحر والعبد، قال: فيوشك قائل أن يقول: ما للناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن؟! ما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره، فإياكم وما ابتدع! قد يكون الإنسان حافظاً للقرآن ذا علم به، فحينما يرى الناس لا تتبعه، يفكر في إحداث شيء يلفت انتباههم إليه، كأن يغني لهم القرآن بطريقة من طرق الألحان التي لا تعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه في قراءة القرآن. يقول معاذ: فإياكم ما ابتدع، فإن ما ابتدع ضلال، وأحذركم زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق، يعني: أن إنساناً قد يكون حكيماً، إلا أنه يسقط أو يهوي في براثن شبهة من الشبه، فيحدث أمراً ما جاء قبل ذلك في دين الله عز وجل، ويظن أنه أتى بشيء حسن، وقد يقع العكس فقد يكون الإنسان منافقاً، ويتكلم بالحق مرة فجأة. يقول الراوي عنه: قلت لـ معاذ: ما يدريني -رحمك الله- أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة، وأن المنافق قد يقول كلمة الحق؟ قال: بلى اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات، يعني: قد يكون الإنسان عالماً من العلماء، وفجأة يأتي بقول جديد ما قيل قبله، كهذا الدكتور الذي ظهر علينا فجأة ليقول: آدم كان له أب وأم قبل، هل له أن يرينا أين هذا في القرآن؟ فإن قال: القرآن ما نفى، نقول: ولم يثبت القرآن ما تقول، والأصل في العلم الإثبات وليس النفي، فإذا كان القرآن لم ينف ذلك لكنه لم يثبت هذا، فنقول: القرآن سكت عن هذا أو تكلم فيه، أي هل القرآن ذكر قبل آدم وجود أب وأم لآدم قبل ذلك أم سكت عنه؟ فإذا قال: تكلم فيه، نقول له: أين في القرآن ما تكلم به؟ فإذا قال: سكت القرآن عن ذلك، نقول: إن سكت القرآن أفلا يسعك أنت السكوت، وإذا كان القرآن لم يتكلم في ذلك، أفتتكلم أنت في ذلك بغير علم أم أنك تتكلم في هذا للشهرة؛ لكي يقول الناس: قال الذي ما قيل وأتى بالذي ما أُتىَ به قبل ذلك؟ فهذا أتى بشيء في الدين لم يقله الله عز وجل، ولم يقله النبي صلى الله عليه وسلم، فوقع في مخالفة الكتاب والسنة ووقع في الضلال، وإني لأتساءل ما الذي يدفع المسلمين إلى ذلك؟ وإذا كان من يقول ذلك من علماء المسلمين فكيف بآحاد الناس، وكيف بالمستشرقين الذين لا يألون جهداً في الطعن في كتاب الله وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم؟ لقد اتبع الناس بعضهم في دين الله عز وجل، وتركوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا جاء العلماء بالبدع فقد ضاع دين الله ولا حول ولا قوة إلا بالله! يقول معاذ رضي الله عنه: اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات التي يقال لها: ما هذه؟ ولا يثنينك ذلك عنه، والمراد بالمشتهرات الشيء الذي يشتهر به بين الناس ولم يقله أحد قبله، يقول معاذ: التي يقال لها: ما هذه؟ أي: التي تنكرها القلوب، وينكرها أصحاب العقول، ثم يقول: ولا يثنينك ذلك عنه فإنه لعله أن يراجع، وتلقى الحق إذا سمعته فإن على الحق نوراً أو كما قال رضي الله تبارك وتعالى عنه. فقد ذكر الله آدم في مواضع كثيرة من كتابه سبحانه، ولم يذكر سبحانه أن لآدم أباً ولم ينفه عنه إنما ذكر أن بدء الخلقية من البشر آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وأنه أول من علمه الله سبحانه أسماء كل شيء، وليس هناك ما يثبت ما يقوله دكتورنا المتحذلق وغاية ما يستدل به قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ} [آل عمران:33] حيث يزعم أن آدم كان في مجموعة ثم اصطفى الله منهم آدم، والرد على ذلك أن نقول: اصطفى آدم من البشر كبشر، فكل البشر إذا جاءوا يوم القيامة يجدون آدم قد اصطفاه الله عز وجل وفضله على غيره، كما تدل الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وليس معناه إن آدم كان موجوداً في مجموعة من البشر ثم اصطفاه الله من هذه المجموعة، بل خلقه الله عز وجل من التراب كما أخبر سبحانه، وأخبر أنه علمه الأسماء فقال: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:31]. فالملائكة لا تعلم إلا ما علمها الله سبحانه، وقد فضل الله آدم عليها وعلمه أسماء الأشياء، ولو كان قبله أب وأم لكان أبوه وأمه هما اللذان علماه هذه الأسماء كما يعلم البشر آباؤهم وأمهاتهم، ولكن لكون آدم لم يكن قبله لا أب ولا أم فقد اصطفاه الله وعلمه، فالله هو الذي خلقه من تراب وجعله آية من آياته، وهو الذي علمه أسماء كل شيء سبحانه فقال للملائكة: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:31 - 33]. ثم ذكر الله عز وجل في القرآن ابتلاء آدم عليه السلام فقال: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ} [البقرة:35]، فلو كان لآدم أب لتساءلنا أكانوا في الجنة أم كانوا في الأرض أم كانوا في كوكب من الكواكب الأخرى؟ كيف عاشوا وكيف جاء آدم منهم؟ وكيف انفصل آدم عنهم على نبينا وعليه الصلاة والسلام؟ لم يذكر لنا القرآن مثل هذه الأشياء، وإنما الذي ذكره القرآن أن الله عز وج

تفسير سورة السجدة [6 - 9]

تفسير سورة السجدة [6 - 9] إن الله يعلم كل ما غاب عن المخلوقات، ويعلم ما يشاهدونه من باب الأولى، وهو العزيز الذي لا يغالب، الرحيم بعباده المؤمنين، والله سبحانه أتقن كل شيء خلقه، وخلق أبا البشر آدم من طين ثم جعل نسله من ماء مهين محتقر، ثم شرفهم بأن نفخ فيهم من روحه، وجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة، وقليل من عباد الله هم الذين يشكرون الله عز وجل على هذه النعم العظيمة.

تفسير قوله تعالى: (الذي أحسن كل شيء خلقه)

تفسير قوله تعالى: (الذي أحسن كل شيء خلقه) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة السجدة: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة:6 - 9]. ذكر الله سبحانه وتعالى من صفاته أنه عالم الغيب والشهادة وأنه العزيز الرحيم، والله هو الذي خلق والذي رزق وهو رب العالمين سبحانه ومن صفاته، أنه يعلم الغيب أي: ما غاب عن الخلق، ويعلم الشهادة أي: ما يشاهده المخلوقون، فالله يعلم ويطلع على ذلك كله، ويجازي على ما يعمله الإنسان وعلى ما ينويه، والعزيز هو الغالب، والرحيم هو الذي يرحم عباده، ويرحم المؤمنين برحمته العظيمة الواسعة. وهنا ذكر الله سبحانه من صفاته العزة والرحمة سبحانه والعلم، والله بعلمه خلق كل شيء، وبقدرته سبحانه وهو العزيز الغالب الذي لا يقهر أوجد كل شيء وسخر كل شيء ودبر كل أمر. وهو الرحيم الذي يرحم عباده إذا جازاهم بفضله وبرحمته سبحانه وتعالى، وهو بالمؤمنين رءوف رحيم. والله عز وجل أحسن كل شيء خلقه، فهو العزيز أمره أن يقول للشيء: كن فيكون على النحو الذي يريده سبحانه، لا يتخلف عما يريده الله سبحانه، ولا يكون على شيء آخر خلاف ما أراده سبحانه، فهو الذي أحسن أي: أتقن صنع كل شيء أوجده وخلقه. {وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة:7] أي: بدأ خلق آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام من طين.

تفسير قوله تعالى: (ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين)

تفسير قوله تعالى: (ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين) قال الله تعالى: {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [السجدة:8] أي: ذريته. {مِنْ سُلالَةٍ} [السجدة:8] إذاً آدم خلق من طين، ونسل آدم من سلالة، من ماذا هذه السلالة؟ قال: {مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [السجدة:8]. والسلالة هو الشيء الذي يسل من الشيء، وسل الشيء من شيء أي أخرج منه، ودائماً تطلق على الشيء الذي يكون مائعاً وليس بجامد فإذا وضعت في يدك ماء انسل من بين أصابعك، فكذلك خلق الإنسان فقد خرج من المني الذي يخرج منساباً من ظهر الإنسان بأمر الله سبحانه وقدرته، فيطلق على الشيء الذي يخرج خروجاً رقيقاً من شيء آخر سلالة. فيقول العلماء: إن السلالة هي التي سل منها الأشياء، فالإنسان مخلوق من تربة الأرض، آدم مخلوق من طين، وذرية آدم فيهم من هذا الطين، وكل إنسان مخلوق من تربة معينة فإذا مات الإنسان رجع إلى التربة التي خلق منها، فالله عز وجل خلق الإنسان من تربة من الأرض في البلد الفلانية، فإذا جاءت وفاة هذا الإنسان لابد وأن يموت في هذا المكان الذي كانت منه أصل تربته كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث، فكأن كل إنسان مأخوذ من تربة معينة من الأرض ومن مكان معين، فمن الناس من هو صعب ومنهم من هو سهل بحسب ما أخذ من تراب هذا الإنسان، من جبل صعب، من مكان وعر، من مكان سهل، فيكون خلق الإنسان على ما خلق منه من تراب هذه الأرض فمنهم السهل ومنهم الصعب، ومنهم الطيب ومنهم الرديء، ومنهم الحلو ومنهم الخبيث، بحسب ما أخذ من تراب الأرض التي خلق منها، فكأن السلالة بمعنى التراب الذي خلق منه يسل من كل مكان وبمعنى المني؛ لأنه ينسل من الإنسان ويخرج منه خروجاً رقيقاً وقالوا: السلالة ما سل من صلب الرجل ومن ترائب المرأة، يعني من مني الرجل ومن بويضة المرأة، خرج هذا فانسل من هنا وهذا من هنا فالتقيا فكان الإنسان كما يسل الشيء من شيء آخر. كذلك يطلق على الإنسان أنه سليل، بمعنى مسلول فيقال: للإنسان هذا سليل كذا يعني من نسل كذا، ومعنى السليل؛ أنه خلق من سلالة وهو الماء الذي يسيل والمقصود منه المني، فقد أوجد الله سبحانه وتعالى هذا الخلق ودبر أمر نسله. {مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [السجدة:8] يعني: من المني الذي يعتبره الإنسان شيئاً حقيراً لا يهتم له، فإذا خرج منه وأصاب ثوبه لزمه أن يغتسل من المني ويغسل ثوبه منه لأنه يستقذره، فأصل خلقة الإنسان هو ما يستقذره من نفسه وهو المني.

تفسير قوله تعالى: (ثم سواه ونفخ فيه من روحه)

تفسير قوله تعالى: (ثم سواه ونفخ فيه من روحه) قال الله: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة:9] أي: الله سبحانه وتعالى {وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} [السجدة:9] فالله الخالق البارئ المصور سبحانه وتعالى. والخالق يقدر الشيء لأنه المقدر، والإنسان حين يتكلم عن صنع شيء بين البشر يقول: المبنى الفلاني اعمل فيه كذا واعمل كذا واعمل كذا، هذا الخلق بمعنى التقدير. ثم البرء الإيجاد، ثم إعطاء الصورة لهذا الشيء ولله المثل الأعلى سبحانه وتعالى فهو الخالق البارئ المصور سبحانه. والخالق هو الذي يقدر الشيء فيكون على ما قدره سبحانه، ومستحيل أن يتخلف عما قدره الله، الإنسان هذا طويل وهذا قصير، هذا أبيض وهذا أسود وهذا أحمر، هذا فيه كذا وهذا فيه كذا يقدر الشيء فيقول: كن فيكون على ما قدره الله سبحانه، فهو الخالق. البارئ الذي أوجد الشيء من عدم. المصور الذي أعطى للمخلوق الصورة التي هو عليها، هذا صورته كذا وهذا صورته كذا، فإذا جاءت كلمة الخالق وحدها فإنها تعني هذه المعاني كلها، فإذا جمعت هذه الأسماء له سبحانه الخالق البارئ المصور ففيها المعاني التي ذكرنا خلق، قدر، برأ، أوجد من عدم، صور، أعطى الصورة للمخلوق فجعله على هيئته التي أراد الله سبحانه وتعالى. جعل الإنسان سوياً يمشي على قدميه، منتصباً في قامته، مستوياً في خلقته، جميلاً، فالله هو الذي سواك فعدلك سبحانه. {وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} [السجدة:9] نفخ في آدم من روحه سبحانه، ونفخ في بني آدم من روحه، فكل إنسان يوجده الله سبحانه يخلق في بطن أمه فيمكث نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم يحوله الله سبحانه وتعالى إلى عظام وإلى لحم على هذه العظام، ويرسل الملك فيأمره بنفخ الروح في هذا المخلوق. فشرف الله عز وجل الإنسان بأن نفخ فيه من روحه، ونسب الروح إليه سبحانه وتعالى، وكل شيء ينسب خلقه إلى الله سبحانه، فهذه سماؤه سبحانه، وهذه أرضه، وهذا مسجده، وهذا بيته، وهذا يختص بالله سبحانه وتعالى وهذا عبده أي: أنه عبد لله سبحانه وتعالى. إذاً المقصد أن كل شيء خلقه الله فهو مختص بربه سبحانه وتعالى، فينسب إلى ربه سبحانه، وسماء الله يعني السماء التي أوجدها الله وخلقها الله، وأرض الله يعني: الأرض التي أوجدها الله وجعلها للبشر يعمرونها ويعيشون فوقها وينتفعون بما فيها، ونسبت إلى الله سبحانه لأنه هو الذي خلقها، وهو الذي أوجدها، فهذا خلق عظيم أوجده الله سبحانه فشرفه بنسبته إليه سبحانه. كذلك روح الله سبحانه معناه: روح أوجدها الله وخلقها الله وجعلها سراً من أسراره لا يطلع عليها أحد أبداً، ولذلك قال في سورة الإسراء: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85] أي: مستحيل أن تصل إلى معرفة ما هي الروح؟ فالروح من الله سبحانه خلقة، ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أن أوجدها وجعلها حيث شاء، فهذا آدم وهذه ذريته فيهم من روح الله أي من الروح التي أوجدها وخلقها سبحانه وشرفها بهذه النسبة روح الله سبحانه وتعالى. والمسيح ابن مريم من ذرية آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، نفخ الله عز وجل فيه من روحه سبحانه، فليست له مزية على غيره في أمر الروح، آدم نفخ فيه من روح الله، والبشر نفخ فيهم من روحه سبحانه، والمسيح نفخ فيه من روحه، فليس في هذا حجة للنصارى الذين قالوا: عندكم في كتابكم أن المسيح هو روح الله، فإن في كتابنا أن آدم نفخ فيه من روح الله، وأن البشر نفخ الله عز وجل فيهم من روحه، وليس المسيح وحده، فليس لهم حجة في قولهم: المسيح هو الله حيث نفخ فيه من روحه، وهو كلمته، فهو ابن الله، وهو من الله عز وجل إذاً هو ثالث ثلاثة، وهو خالق وليس مخلوقاً! فنقول لهم: في القرآن ذكر الله عز وجل أن آدم نفخ الله فيه من روحه، وذكر البشر أنه نفخ فيهم من روحه، وذكر المسيح أنه نفخ فيه من روحه فلا مزية لأحد على أحد فكلهم فيهم من روح الله سبحانه وتعالى.

ذكر الروح في كتاب الله

ذكر الروح في كتاب الله وقد ذكر الله عز وجل الروح في مواضع من كتابه، منها قوله سبحانه في سورة الحجر {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ * وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر:26 - 29]. فأبو البشر آدم خلقه الله من صلصال، ثم نفخ فيه من روحه سبحانه وتعالى، قال: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر:29] أي من روح عندي خلقتها وشرفتها وأكرمتها وطهرتها وجعلت فيها من رحمتي وأودعتها في هذا الإنسان المخلوق. كذلك في سورة ص ذكر الله عز وجل مثل ذلك، قال الله عز وجل: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [ص:71 - 72] فإذا جاء ذكر المسيح مرة أنه روح الله سبحانه فقد جاء ذكر آدم مرات أنه نفخ فيه من روحه سبحانه وتعالى. كذلك كلمة الروح في القرآن تأتي بمعنى جبريل الملك، يقول الله سبحانه: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل:102]، فجبريل روح من الله، خلقها الله سبحانه وتعالى وقدسها فأضاف هنا والإضافة هي من إضافة الموصوف إلى صفته، يقول الله في جبريل عليه السلام {نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ} [النحل:102] أي الروح المقدسة المطهرة التي طهرها الله، وكل الملائكة قد طهرهم الله سبحانه عن المعاصي وعن الأدناس وعن الأكل والشرب وغير ذلك، فالملائكة خلقهم الله سبحانه وتعالى كما يشاء، خلقهم من نور، وسمى جبريل بروح القدس، وفي موضع آخر في سورة الشعراء يقول سبحانه: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء:192 - 193] وجبريل عليه السلام روح الله سبحانه وتعالى أي روح خلقها الله وشرفها وطهرها وقدسها، فهذا جبريل روح من عند الله سبحانه، وهو مخلوق من مخلوقات الله سبحانه وتعالى. كذلك يسمي ربنا سبحانه الوحي الذي نزل من السماء روحاً من الله سبحانه؛ لأن به حياة الخلق، فقد كانوا ميتين في الضلالة، بعيدين عن ربهم، منغمسين في الكفر كالأموات، فأحياهم الله عز وجل بهذا الوحي العظيم الذي نزل من السماء، قال سبحانه: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ} [غافر:14 - 15] الروح هنا هو الوحي المنزل بأمر الله عز وجل على من يشاء من عباده سبحانه. كذلك ذكر جبريل في سورة النبأ فقال: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ:38] فسماه ووصفه بأنه روح، والملائكة كذلك يقومون لرب العالمين سبحانه وهم مخلوقون خلقهم الله لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً. والمرة الوحيدة التي ذكر المسيح فيها على نبينا وعليه الصلاة والسلام بأنه روح من الله في سورة النساء فقال سبحانه {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء:171] فذكر أنه روح من الله سبحانه وتعالى. ولما ذكر آدم قال: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر:29] ولما ذكر المسيح قال: {وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء:171] أي من عنده سبحانه وتعالى، فإذا احتجوا بأن المسيح روح من الله نقول: التعبير بروحي أخص من التعبير بروح منه أي من عنده سبحانه وتعالى، فهذه معناها أوضح في أنه روح من الأرواح أوجدها الله سبحانه وتعالى وخلقها فجعل منها المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام. ثم في الآية بعدها من سورة النساء يقول الله سبحانه: {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ} [النساء:172] هذا الروح الذي خلقه الله عز وجل لن يستكبر أن يكون عبداً لله سبحانه وتعالى، فليس المسيح كما يقولون: هو الله أو هو ابن الله أو هو ثالث ثلاثة! بل هو عبد لله والآيات ذكرت ذلك، فالذي يحتج بالآية الأولى يحتج عليه بالآية الثانية التي يذكر الله سبحانه وتعالى فيها أن المسيح عبد لله سبحانه وتعالى. كذلك ذكر الله سبحانه كلمة روح فقال عن المقربين يوم القيامة {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ} [الواقعة:88 - 89] على قراءة، و (رُوح) على قراءة ثانية، روح أي: استرواح وراحة عند الله سبحانه من شقاء الدنيا وتعبها، فروح وريحان أي رحمة من الله سبحانه وتعالى، فالروح يعبر بها عن رحمة رب العالمين سبحانه، ويعبر بها عن الوحي الذي ينزل من السماء، ويعبر بها عن الملائكة وعن جبريل عليه السلام، ويعبر بها عن شيء خفي وسر من أسرار الله عز وجل خلقه سبحانه ولم يطلع أحداً عليه، قال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85] يعني: لن تصلوا أبداً إلى معرفة حقيقة الروح ولا كنه هذه الروح التي خلقها الله سبحانه وتعالى.

معنى قوله تعالى: (وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة)

معنى قوله تعالى: (وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة) قال سبحانه: {ثُمَّ سَوَّاهُ} [السجدة:9] أي آدم، وخلقه قال: {وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} [السجدة:9] إن نعم الله عظيمة فلا تقدر بمال أبداً, ومن نعم الله: السمع، والبصر، والقلب، والفؤاد والسمع نعمة من الله يعرف هذه النعمة من فقد سمعه، والإنسان الأصم قد يدفع ثروته كلها لمن يرد إليه سمعه، فتراه يضع سماعة لكي يسمع ويفعل ما يستطيع عليه لكي يسمع. والبصر نعمة لا يعرف قدر هذه النعمة إلا من فقد نعمة البصر، والإنسان الأعمى يتمنى أن ينظر نظرة واحدة ويدفع مقابلها جميع ما يملك, هذه النعمة التي ينسى الإنسان أن يشكر ربه سبحانه وتعالى عليها. والفؤاد قلب الإنسان وعقله {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]، فقلب الإنسان الذي يعقل به والذي يبصر به نعمة من الله سبحانه وتعالى يجب على العباد أن يشكروها. لكن {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات:6] أي: جحود لنعم الله سبحانه، ينسى النعم العظيمة وينظر في أشياء قليلة وحقيرة فيقول: الله ما أعطاني مال، وينسى هذه النعم التي لا تقدر بمال {قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة:9] أي: شكركم قليل، فاشكروا الله سبحانه {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7] نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم, وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة السجدة [10 - 13]

تفسير سورة السجدة [10 - 13] كان المشركون يستبعدون المعاد ويقولون: إذا تمزقت أجسادنا، وتفرقت في أجزاء الأرض، فكيف نعود بعد تلك الحال؟! وهو بعيد بالنسبة إلى قدرة الإنسان لا بالنسبة إلى قدرة الله الذي بدأهم وخلقهم من العدم، وإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له: كن فيكون، وهؤلاء المشركون يوم القيامة يكونون حقيرين ذليلين، ناكسي رءوسهم من الحياء والخجل والخزي والعار والندم على ما فرطوا في الدنيا.

تفسير قوله تعالى: (وقالوا أئذا ضللنا في الأرض)

تفسير قوله تعالى: (وقالوا أئذا ضللنا في الأرض) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل: {وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} [السجدة:10]. في هذه الآية يخبرنا الله سبحانه وتعالى عمن أنكروا البعث من الكفار والمشركين، الذين قالوا: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24] أي: لا نعيش إلا في هذه الحياة الدنيا، ولدنا هكذا ونموت هكذا، ولا بعث ولا نشور، ولا قيام من القبور، ولكن كما خلقنا نرجع إلى الأرض مرة ثانية، وينتهي الأمر على ذلك. لذلك اغتروا بهذا الذي يقولونه، فظلموا واستمرءوا الظلم، فإذا ببعضهم يظلم بعضاً، ويريد أن يحصل من الدنيا ما يستطيع تحصيله منها؛ لأنه لا يؤمن بالبعث يوم القيامة، ولا يؤمن بأن الله سيجازيه على ما فعله في هذه الدنيا. قال تعالى عنهم: {وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ} [السجدة:10]، قوله: (ضللنا) بمعنى: غبنا، وضل الشيء بمعنى غاب، وبمعنى تاه وانمحى أثره، فلم يوجد ولم ير، كما نقول: ضل السمن في اللبن، أي: اختفى السمن بداخل اللبن، فصرت لا ترى هذا السمن الذي في اللبن؛ لأنه بداخله مختلط به، وهنا ضل الشيء في الشيء، بمعنى غاب فيه وتاه فيه فلم يوجد له أثر، فكأنهم يقولون: أئذا متنا وأهلكنا الله عز وجل وصرنا تراباً بداخل هذه الأرض، فهل سنرجع مرة ثانية؟! هم استبعدوا هذا الشيء، وكأنهم لم ينظروا إلى بدء خلقهم، وهم يرون في كل يوم أناساً يحييهم الله وأناساً يميتهم الله، ويرون النبات يحييه الله ويميته الله، ويرون الحيوان يحييه الله ويميته الله سبحانه وتعالى، وكأنهم لم يعقلوا ذلك، وقد قال الله في الآية التي قبلها مبيناً خلق الإنسان: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} [السجدة:7 - 9]، هذه حواس الإنسان، فالله تعالى جعل للإنسان سمعاً وبصراً وفؤاداً، حتى يعي وحتى يفهم وحتى يعقل وحتى يستيقن من الأشياء التي حوله، {قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة:9]، مع وجود أسماعهم يسمعون، ولكن سمع من لا يعقل، مع وجود أبصارهم يبصرون ولكن بصر من لا يهتدي، مع وجود قلوبهم فهم لا يعقلون ولا يفهمون، ولذلك قالوا هذا القول الذي قالوه واستبعدوا الرجوع مرة أخرى، ونسوا أن الله أوجدهم من عدم، وأنهم كانوا لا شيء، قال عز وجل: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1]. إذاً: فقوله: ((وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ)) أي: غبنا في الأرض وتهنا في الأرض وصرنا تراباً وهلكنا فيها. قوله: ((أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)) أي: سنرجع مرة أخرى عظاماً ولحماً وآدميين حتى نجازى؟! قال سبحانه: ((بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ)) أي: هم مكذبون وجاحدون بالبعث يوم القيامة، ولذلك الإنسان عندما ينسى الحساب وينسى أن الله يبعثه يوم القيامة، أو يتناسى ذلك أو يتغافل عنه؛ يظلم، ويأكل مال غيره، ويغتصب حق غيره، ويفعل ما يحلو له وما يشاء، طالما أنه قادر على الناس.

أهمية الإيمان باليوم الآخر والغيب وثمراته

أهمية الإيمان باليوم الآخر والغيب وثمراته الله سبحانه وتعالى يذكر الخلق بيوم القيامة وبيوم الحساب، وأنهم سيرجعون إلى الله ليجازيهم على أعمالهم، فالمؤمن يخاف من الله سبحانه، وإن وجد لقطة إذا به يأخذها حتى يعيدها إلى صاحبها؛ لأنه أمين مؤتمن على ذلك، وهو يخاف من الله ليس من الناس، وفي قلبه ما يدفعه إلى فعل الخير، وفي قلبه من الخوف ما يمنعه من فعل الشر. فالمؤمن يخاف من الله؛ لأن الخوف ثمرة من ثمرات الإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالبعث، لذلك أصول الإيمان هي: إيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وهذا الإيمان له ثمرات في قلب المؤمن تظهر في أفعاله، فالمؤمن آمن بالله وبأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وعرف قدر الله سبحانه، وعرف أفعال الله العظيمة, وعرف ربه سبحانه، فإذا به يخاف من الله سبحانه، ويأخذ من الله عز وجل شريعته، ويمشي على منهاجه، فهذا يحبه الله سبحانه وتعالى. إذاً: ثمرة معرفة الله سبحانه تبارك وتعالى تكون في قلب الإنسان خوفاً من الله مع حب لله سبحانه، ولا يجتمعان لأحد سواه سبحانه وتعالى، كمال الخوف من الله مع كمال الحب لله سبحانه وتعالى، يخافه ويخشاه ويحبه ويرجوه، هذا من معرفة الله سبحانه واليقين به، وثمرة من ثمرات ذلك. كذلك يؤمن الإنسان باليوم الآخر، وأن هناك رجوعاً إلى الله سبحانه، فطالما هناك رجوع، وأن الله سيسأل: لماذا فعلت كذا؟ فلابد أن نعد لهذا السؤال جواباً من الآن فلا أخطئ، فلا أقع في الحرام، ولا آخذ حق غيري. والإنسان المؤمن يعلم أنه واقف يوماً من الأيام بين يدي الله عز وجل، وهذا اليوم يوم طويل، {يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:7] أي: كان شره عظيماً مستطيراً فظيعاً، ويوم القيامة قدره خمسون ألف سنة، لذلك المؤمن يتذكر الإيمان بالله سبحانه، والإيمان بملائكة الله، وكيف أن هذه الملائكة تحيط بالخلق يوم القيامة، ولا أحد يستطيع أن يهرب من الله عز وجل، أو أن يهرب من نار الله سبحانه، هناك ملائكة على نار جهنم يعذبون أهلها: {عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، فيؤمن الإنسان بالملائكة ويخاف، وهذه الملائكة ستعذب الإنسان في نار جهنم، ولن يستطيع أن يدفع لها رشوة، أو أن يطلب منها شيئاً فتستجيب له؛ لأن الملائكة تفعل ما يأمرها الله سبحانه وتعالى. والمؤمن يؤمن بالغيب: يؤمن بالجنة وبالنار، ويعرف ما في النار من عذاب، ويعرف قدر نار جهنم: (ناركم التي في الدنيا جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم)، انظر أشد نار في هذه الدنيا، لو أوقد الإنسان أشد ما يكون من النيران، فهذه النار لا تساوي إلا جزءاً من سبعين جزءاً من نار جهنم، والعياذ بالله. كيف تكون هذه النار في الآخرة التي وقودها الناس والحجارة؟! في الدنيا نطفئ النار بالحجارة، لكن إذا اشتعلت الحجارة فهي أشد ما يكون من النار، فتكون الحجارة وقوداً لنار جهنم وكذلك الناس. فإذاً: الإنسان يؤمن بالغيب: يؤمن بالجنة وبالنار، فيطلب الجنة ويهرب من النار. إن ثمرة الإيمان بالغيب: العمل الصالح في الدنيا والبعد من المعاصي، أما هؤلاء المشركون الذين ينكرون البعث فلا آمنوا ببعث ولا آمنوا بجنة ولا بنار، ولكن قالوا: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24] أي: سنعيش ونموت وينتهي الأمر على ذلك، لذلك كانوا يفعلون ما يحلو لهم، فقال الله سبحانه: ((بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ)) أي: جاحدون بلقائه يوم القيامة، ومنكرون ومكذبون. فكفر هؤلاء المشركون المنكرون للبعث، وهم لم ينكروا قدرة الله سبحانه؛ لأنهم يعرفون قدرة الله؛ ولذلك شهد الله عليهم بقولهم، فقال سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25]، فهم معترفون أن الله قادر وأن الله يخلق. قال سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9]، فهم يعرفون أن الله عزيز غالب عليم سبحانه، ويعرفون أنه قادر؛ لكنهم بلقاء ربهم كافرون، ويقولون: لا يوجد بعث، ويقولون: نعلم أن الله خلقنا لكن لن يحيينا مرة أخرى، فيكذبون بالبعث يوم القيامة.

تفسير قوله تعالى: (قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم)

تفسير قوله تعالى: (قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم) قال الله تعالى: {قل يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} [السجدة:11] هو ملك من ملائكة الله سبحانه وتعالى، جعل الله له قوة وقدرة عظيمة، يقدر على أن يأخذ أرواح البشر ويتوفاهم، والتوفي هو القبض، تقول: استوفيت حقي من فلان، أي: قبضته وأخذته وافياً، والله سبحانه يتوفى وملك الموت يتوفى، قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر:42]، فالله يتوفى وملك الموت يتوفى، لكن هناك فرق بين أن يتوفى الله سبحانه وتعالى وبين أن يتوفى ملك الموت، والله يخلق ويحيي سبحانه، وهو الله عز وجل يتوفى الأنفس حين موتها، والله سبحانه هو الذي خلق الموت والحياة، وهو الذي يحيي ويميت. وملك الموت يتوفى الأنفس ولا يفعل إلا ما يقدره الله سبحانه وتعالى عليهم، فإذا خلق الله عز وجل الخلق، بأن أوجد الجنين في بطن أمه، وصار بأطوار: طور النطفة والعلقة والمضغة، فالله عز وجل يأمر فيكون عظاماً، ثم يأمر فتكسى هذه العظام لحماً، بعد ذلك ينشئ الله نشأة أخرى، فيبعث الملك ويأمره بنفخ الروح، والروح خلقها الله سبحانه وتعالى، والملك سينفخ هذه الروح فقط، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ} [الإنسان:30] أي: لا يقدر الملك على شيء إلا أن يقدره الله سبحانه وتعالى عليه. فإذاً: الله أعطى هذا الملك القدرة، والله خلق الروح، والله جعل هذه النفس قابلة لهذه الروح وهو المدبر سبحانه وتعالى. وهو جعل السبب والوسيلة الملك، فهو ينفذ أمر الله سبحانه وتعالى، والله الفاعل حقيقة سبحانه وتعالى، فهذا الجسد أحياه سبحانه، وأوجده، فإذا جاءت الوفاة أرسل ملك الموت وله قدرة عظيمة، يقدره الله على ما يشاء سبحانه، هذا مخلوق من مخلوقات الله سبحانه، قدره أن يقبض نفوس أناس في هذا المكان، وفي مكان آخر، وفي أقصى الدنيا وفي أدنى الدنيا، في وقت واحد يقبض الجميع، كيف يتواجد هنا وهنا وهنا؟ نحن لا نقيس الملك علينا نحن؛ لأن الله عز وجل جعل للإنسان قدرة معينة يتصرف فيها، وعقولنا لا تستوعب أن تفكر فيما هو أعلى مما خلقت له هذه العقول، فلذلك الإنسان لا يستطيع أنه يستوعب كيف يتحرك ملك الموت هنا وهنا وهنا، ويقبض هذا ويقبض هذا ويقبض هذا في وقت واحد، هذا أمر الله سبحانه، فما عليك إلا أن تثق في الله عز وجل وتستيقن من قدرة الله وأن الله على كل شيء قدير. فالملك يقبض الأرواح، لكن الذي يزهق هذه الروح هو الله سبحانه وتعالى، كما أدخلها فهو الذي يخرجها، وملك الموت ما عليه إلا أن يأخذ هذه الروح وينتزعها، فمن الذي أعطاه القدرة على النزع؟ إنه الله سبحانه الذي دبر له ما يصنعه. وملك الموت معه أعوان لا يدعونها في يده طرفة عين، فإذا كانت نفساً مؤمنة تقية إذا بهؤلاء ينزلون بأكفان معهم من الجنة وحنوط من الجنة، فلا يدعونها في يده طرفة عين، بل يأخذونها مباشرة ويصعدون بها إلى السماء، فلا يمرون على ملأ فيما بين السماء والأرض إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة؟ يقولون: فلان بن فلان بأطيب أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، فإذا كانت النفس خبيثة، يخرجها ملك الموت وينزل الله عز وجل ملائكة من النار ومعهم أكفان من النار، ومسوح من النار والعياذ بالله، انظر الفرق بين الاثنين! فحين يقبض الملك الروح يقول: اخرجي أيتها الروح الخبيثة، فتخرج الروح ولا تقدر على التمنع، وإن كانت تتشعب في الجسد وتتفرق في الجسد من شدة الرعب والخوف، فإذا به ينتزعها كما ينتزع السفود -أي: السيخ- من الصوف يستخرجها وقد تقطع منه العروق والعصب، فتأتي ملائكة من النار ولا يدعونها في يده طرفة عين، فيأخذونها ويصعدون بها، فلا تمر على أحد فيما بين السماء والأرض إلا قالوا: ما هذه الروح المنتنة الخبيثة؟ فيقال: فلان بن فلان، بأخبث أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا. إذاً: ملك الموت يتوفاكم ويقبض النفوس وافية، لا يترك منها شيئاً، فيخرج بهذه الروح إما إلى مستقرها في أعلى عليين أو في أسفل سافلين، والكل عند الله سبحانه وتعالى موقوف، حتى يأتي يوم الحساب ليحاسبه الله سبحانه ويجازيه على أعماله. وقوله تعالى: ((قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ)) أي: هو وكيل في ذلك، وكله الله سبحانه على كل إنسان فلن يتركه حتى يأخذ روحه. ىجاء في بعض الآثار أن اسم ملك الموت عزرائيل أي: عبد الله، ولم يصح في ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في التسمية، لكن جاءت بعض الآثار في هذا المعنى. قوله: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة:11] أي: المرجع إلى الله سبحانه وتعالى، ترجعون إليه للجزاء وللحساب.

تفسير قوله تعالى: (ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم)

تفسير قوله تعالى: (ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم) قال الله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12] يقول تعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: إعجب لما تراه من أمر هؤلاء، لو أنك ترى كيف يكون موقفهم عند الله عز وجل وكيف يصنعون وكيف يصنع بهم لرأيت العجب العجاب!! قوله: ((إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ)) المجرمون جمع مجرم، والمجرم هو الإنسان المخطئ الآثم صاحب الخطيئة، الذي كفر بالله عز وجل والذي أشرك بالله والذي أتى الكبائر من الذنوب، يعني: أجرم في حق الخلق وفي حق الخالق سبحانه وتعالى، ولو ترى هؤلاء المجرمين إذ هم يوم القيامة قد نكسوا رءوسهم من الذل والغم والحزن والحياء من الله عز وجل، قد طأطئوا رءوسهم في ذل يوم القيامة بين يدي الله عز وجل قائلين: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12] أي: رأينا النار والعذاب والموقف، وأيقنا من هذا الشيء، وسمعنا الوعيد وسمعنا التهديد وسمعنا التوبيخ، وعرفنا الحق الآن، فارجعنا إلى الدنيا، وقد قضى الله سبحانه أن الإنسان يعيش في الدنيا مرة واحدة، ولا يرجع إليها أبداً، فهؤلاء يطلبون المستحيل، فقالوا: ((فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ)) يعني: إذا أرجعتنا إلى الدنيا سنعمل العمل الصالح ونحن على يقين أن هذا وعد حق، ونحن لن نكذب، ولن نخلف، والله يعلم أنهم كذابون، ولذلك قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:28]، يعلم أنهم كذابون، وأنهم إذا رجعوا للدنيا مرة ثانية لرجعوا إلى التكذيب. إذاً: الله سبحانه أراد أن يكون هناك جنة ونار، وأراد أن يكون للجنة أهل وللنار أهل، فخاطب هؤلاء وقال: أنتم رجوعكم للدنيا لن يفيدنا شيئاً، لا إيمانكم يفيدنا ولا كفركم يضرنا، ولكن أريناكم قدرتنا على أن نثيب المطيع ونعذب العاصي.

تفسير قوله تعالى: (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها)

تفسير قوله تعالى: (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها) قال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة:13] أي: لو شئنا لأعطينا كل نفس هداها، ولأوجدنا في القلوب الإيمان والهدى، ولأوجدنا في العقول التفكير والتبصر والنظر في آيات الله سبحانه، لو شئنا لفعلنا ذلك، ولكن مشيئة الله سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن:2]، هذا تقديره سبحانه وتعالى، فهو سبحانه خلقكم وأعطاكم العقول، وأنزل عليكم الكتب، وأرسل إليكم الرسل، وأقام عليكم الحجة، والآن الجزاء يكون يوم القيامة: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة:13]، {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]، فقد بين للناس، وقد أعذر من أنذر، وما قصر من بصر. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة السجدة [12 - 14]

تفسير سورة السجدة [12 - 14] أخبر الله سبحانه عن المجرمين الذين كانوا يستكبرون في الدنيا، ويسخرون من المؤمنين، بأنهم يوم القيامة سينكسون رءوسهم في خزي وذل وحقارة بين يدي ربهم سبحانه على ما فرطوا وقصروا، وأنهم سيطلبون العودة إلى الدنيا، لكن هيهات! فلن يمكنوا من ذلك أبداً، ولو شاء الله لهدى الناس جميعاً، ولكن حكمته اقتضت أن يخير عباده بين طريق الخير وطريق الشر، فمن اختار الأولى فله الجنة، ومن اختار الثانية فله النار.

تفسير قوله تعالى: (ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم)

تفسير قوله تعالى: (ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة السجدة: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ * وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [السجدة:12 - 14]. في هذه الآيات من سورة السجدة يحذرنا الله عز وجل من عقوبة الظلم والإجرام والكفر بالله سبحانه، فإن الإنسان الظالم في حق الله سبحانه وفي حق الخلق تراه يوم القيامة قد نكس رأسه من شدة ما هو فيه من الغم، والذل، والحزن، والخزي، والخجل، والحياء بين يدي الله سبحانه وتعالى على ما فرط فيه وقصر. ترى الكافر في الدنيا يرفع رأسه شامخاً متعالياً معجباً بنفسه مستكبراً على الخلق، فإذا قام يوم القيامة بين يدي الله سبحانه طأطأ رأسه ووقف ذليلاً حقيراً مخزياً، فلو قد رأيت هذا الموقف لعلمت كيف نجازي هؤلاء على ما فعلوا، ولعلمت أننا لم ننس ما فعل هؤلاء وإنما نؤخرهم لهذا اليوم وهو يوم القيامة حتى يعلم الجميع أن هؤلاء يستحقون عقوبة رب العالمين سبحانه، {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} [آل عمران:178]، ولهم عند الله يوم القيامة العذاب المهين والعذاب العظيم. قال: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183]، فيملي الله سبحانه وتعالى للظلمة ويتركهم {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:15]، فيستكبرون في الدنيا ويعلون فيها، فإذا جاءوا يوم القيامة كانوا أحقر من الذر، وأحقر من النمل، ولا يزنون عند الله سبحانه وتعالى شيئاً. قال الله: {لَوْ تَرَى} [السجدة:12]، أي: لو رأيت المجرمين وقد نكسوا رءوسهم عند ربهم يوم القيامة لعلمت كيف نجازيهم وهم يقولون لربهم {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} [السجدة:12]، يعني: قد استيقنا الآن {فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا} [السجدة:12]، لقد طلبوا أن يعودوا إلى الدنيا وهم في مواقف القيامة في غاية الخزي والذل والندم فيقولون: ربنا أرجعنا! يتحايلون ويطلبون من الله سبحانه ويستغيثون به وبالملائكة وبالمؤمنين، ولا مغيث لهم، يصرخون في نار جهنم ويدعون، فيقول بعضهم لبعض: لقد صبر المؤمنون فنالوا فاصبروا لعلنا ننال من الله عز وجل رحمة، فيصبرون في النار فيطول صبرهم، ويجزعون فيقولون: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم:21]، فينادون مالك خازن النار، {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] أي: ليريحنا مما نحن فيه بالموت فيقول لهم مالك خازن النار: {قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77] أي أنتم قاعدون في هذه النار فلا موت يريحكم ولن تخرجوا منها أبداً، ويستغيثون بربهم {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:37]، {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:107]، فلا يزالون يسألون ويطلبون ويستغيثون حتى يرد عليهم رداً يفزعهم يقول لهم: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]، وكلمة: اخسأ تقال للكلب إذا زجر، فقيل لهم ذلك لأنهم كلاب أهل النار والعياذ بالله {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]. لماذا؟ {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا} [المؤمنون:109 - 110]، فقد سخروا من المؤمنين في الدنيا، وتعجبوا من إيمانهم، فجازاهم الله عز وجل هذا الجزاء يوم القيامة على ما سخروا، وعلى ما تهكموا، وعلى ما ضحكوا بملء أفواههم في الدنيا ساخرين من المؤمنين. أما المؤمنون فيقول عنه: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون:111]، ثم قال لهؤلاء: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} [المؤمنون:112]، كم مكثتم في الدنيا؟ {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون:113]، العمر الذي عمره أحدهم في الدنيا يقول عنه يوم القيامة: لم يكن إلا يوماً أو بعض يوم فإذا كان يوماً أو بعض يوم فلم لم تعمل في هذا الشيء اليسير عملاً ينجيك من النار وتحصل بذلك الجزاء الأبدي عند الله عز وجل في جنة الخلد؟ لم لا تعمل في فترة حياتك القليلة ما ينفعك كثيراً؟ فإذا ضيعت فلا تلومن إلا نفسك. {وَلَوْ تَرَى إِذْ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12]، أي: لو رأيت المجرمين وقد نكسوا رءوسهم عند ربهم يوم القيامة لعلمت كيف نجازيهم وهم يقولون لربهم {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} [السجدة:12]، يعني: قد استيقنا الآن {فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا} [السجدة:12]، لقد طلبوا أن يعودوا إلى الدنيا وهم في مواقف القيامة في غاية الخزي والذل والندم فيقولون ربنا أرجعنا يتحايلون ويطلبون من الله سبحانه ويستغيثون به وبالملائكة وبالمؤمنين، ولا مغيث لهم يصرخون في نار جهنم ويدعون، فيقول بعضهم لبعض: لقد صبر المؤمنون فنالوا فاصبروا لعلنا ننال من الله عز وجل رحمة فيصبرون في النار فيطول صبرهم، يجزعون فيقولون: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم:21] فينادون مالك وهو خازن النار، {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77]، أي: ليريحنا مما نحن فيه بالموت فيقول لهم مالك خازن النار: {قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77]، أي أنتم قاعدون في هذه النار فلا موت يريحكم ولن تخرجوا منها أبداً، ويستغيثون بربهم {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:37]، {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:107]، عنهم فلا يزالون يسألون ويطلبون ويستغيثون حتى يرد عليهم رداً يفزعهم يقول لهم: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]، وكلمة: اخسأ تقال للكلب إذا زجر، فقيل لهم وذلك لأنهم كلاب أهل النار والعياذ بالله {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]. لماذا؟ {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا} [المؤمنون:109 - 110]، فقد سخروا من المؤمنين في الدنيا، وتعجبوا من إيمانهم فجازاهم الله عز وجل هذا الجزاء يوم القيامة على ما سخروا، وعلى ما تهكموا، وعلى ما ضحكوا بملء أفواههم في الدنيا ساخرين من المؤمنين. أما المؤمنون فيقول عنه: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون:111]، ثم قال لهؤلاء: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} [المؤمنون:112]، كم مكثتم في الدنيا؟ {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون:113]، العمر الذي عمره أحدهم في الدنيا يقول عنه يوم القيامة، لم يكن إلا يوماً أو بعض يوم فإذا كان يوماً أو بعض يوم فلم لم تعمل في هذا الشيء اليسير عملاً ينجيك من النار وتحصل بذلك الجزاء الأبدي عند الله عز وجل في جنة الخلد؟ لم لا تعمل في فترة حياتك القليلة ما ينفعك كثيراً؟ فإذا ضيعت فلا تلومن إلا نفسك.

تفسير قوله تعالى: (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها)

تفسير قوله تعالى: (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها) قال سبحانه: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة:13] أي: لو أردنا ذلك لجعلنا الجميع مؤمنين ولخلقناهم كالملائكة لا يعصون الله سبحانه، ولكن شاء الله سبحانه أن يخلق خلقاً من خلقه يختبرهم في الدنيا، لهم عقول وقلوب وأسماع وأبصار وأفئدة، ويجعل الله عز وجل أمامهم طريقين: طريق الخير وطريق الشر، وقد علم قبل أن يخلقهم من يستحق أن يكون في الجنة ومن يستحق أن يكون في النار، فإن علمه شامل ومحيط بكل شيء، فلو شاء الله لخلقهم كالملائكة، ولكن شاء أن يختبر صنفاً من عباده وهم الإنس والجن فخلقهم ثم هداهم بأن أرشدهم، قال سبحانه: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] أي: طريق الخير وطريق الشر، ثم هم يكتسبون في هذه الدنيا قال: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286]. فنفس المخلوق تكتسب إما الخير وإما الشر، وعلى هذا الكسب الذي يكتسبه المخلوق يحاسبه الله عز وجل ويجزيه يوم القيامة، فهو يفعل الفعل وهو يشعر أنه قادر على فعله أو تركه، وكل إنسان مطيع يشعر بالقدرة على الفعل والترك، وكل إنسان عاص يشعر بالقدرة على الفعل والترك، فأنت حين تذهب إلى الصلاة تشعر أنك مريد لهذه الصلاة، وأنك ذاهب بإرادتك، ولا تشعر أنك مجبور أو أن هناك أحداً يجرجرك من البيت إلى المسجد وإن كنت أتيت بمشيئة الله عز وجل، وأمر المشيئة إلى الله سبحانه وتعالى، فأنت مطلوب منك أن تفعل بإرادتك وأن تختار، وعلى هذا الاختيار يحاسبك الله عز وجل يوم القيامة. فأهل الجنة يرسلهم إلى جنته بفضله وبرحمته جزاء بما كانوا يعملون، وأهل النار يدخلهم النار بعدله جزاء بما كانوا يعملون، إذاً: هؤلاء عملوا فاستحقوا رحمة الله عز وجل، فزادهم من فضله الثواب العظيم، والأجر الكبير منه سبحانه، وهؤلاء استحقوا العقوبة بجنس أعمالهم، وعصيانهم لله سبحانه، ولو شاء الله لآتى كل نفس هداها، ولأرشد كل نفس ففعلت الخير وكانت من أهل الخير، ولكن تركهم سبحانه وتعالى لينالوا ما يستحقون. قال: {وَلَوْ شِئْنَا} [السجدة:13]، وهذه قراءة الجمهور، وقرأها الأصبهاني عن ورش وأبو عمرو وبخلفه حمزة -إذا وقف عليها- وأبو جعفر (ولو شينا لآتينا كل نفس هداها) أي: لأعطينا كل نفس ما تسترشد به وتستدل وتستيقن به فتستحق رحمة رب العالمين سبحانه، ولكن حق القول من الله عز وجل أن يختبر هؤلاء في الدنيا، وأن يجعل لهم اختياراً فيختارون بإرادتهم هذا الطريق أو ذاك الطريق، بعد أن يبين الله سبحانه وتعالى لهم، ولن يخرجوا عن مشيئته سبحانه، قال: {لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:119]، فالله خلق الجنة ووعدها أن يملأها، وخلق النار ووعدها أن يملأها، فحق القول من الله عز وجل أن يملأ هذه وتلك {لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ}، وكلمة جهنم: تعني النار المشتعلة الحمراء المتلهبة، ولذلك تطلق هذه الكلمة على الشيء المشتعل المتقد، أو العين الشديدة الغضب التي تتقد من شدة غضبها، ولذلك يطلق على عين الأسد جهنم؛ لأن فيها اتقاداً حين ينقض على فريسته، حيث تحمر عيناه من الغضب، فكأن النار كهذا والعياذ بالله أي: شديدة وغاضبة على أهلها ومستعرة ومشتعلة. قال: {لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:119] فمن الجن من سيدخلون النار، ومن الإنس من سيدخلون النار، لقد حق القول من الله سبحانه بذلك ووعده الحق سبحانه وتعالى ووعيده ينفذه فيمن يشاء.

تفسير قوله تعالى: (فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا)

تفسير قوله تعالى: (فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا) قال سبحانه: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [السجدة:14] أي: يقال لهؤلاء المجرمين الذين عصوا الله وكفروا به سبحانه واستهزءوا بالمؤمنين {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ}، أي: هؤلاء نسوا الله سبحانه فأنساهم أنفسهم فجعلهم في نار جهنم.

من معاني النسيان

من معاني النسيان والنسيان يطلق على معان منها: أولاً: عدم التذكر، وإذا لم يتذكر الإنسان شيئاً فهو معذور، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه). ثانياً: التغافل عن الشيء، فالإنسان الذي يعرف الكتاب، ويعرف السنة لكنه تارك لهما ومتغافل عنهما وهذا من النسيان المتعمد، وهو بمعنى: الترك، ومنه قول الله عز وجل في آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه:115]، فقد عهد الله عز وجل إلى آدم فترك العهد، قال الله: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:35]. ولو فرضنا أن آدم نسي فقد ذكره الشيطان بقوله: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف:20]، فالشيطان ذكر آدم أن الله نهاه عن الشجرة، لكنه أتاه من باب آخر وهو سبب النهي فقال له: لو أكلت منها ستكون خالداً، فإذا بآدم ينسى عهد الله سبحانه وتعالى فكان فيه شيء من التعمد؛ لأن الشيطان ذكره أن الله نهاه عن أكل الشجرة لكن أتى له من باب آخر وهو أنه إذا أكل منها سيكون خالداً، فإذا بآدم يأكل مما نهى الله عز وجل عنه {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه:115] أي: على العهد الذي أخذ عليه من الله سبحانه وتعالى. فكأن النسيان الذي يجازى عليه الإنسان هو ما فيه تعمد للإتيان بالمعصية وتغافل عن عقوبة الله سبحانه وتعالى، والله سبحانه لا ينسى شيئاً، ولكن للمشاكلة اللفظية، والمقصود: عاملناكم معاملة المنسيين أي: تركتم طاعتنا فتركناكم واستحققتم العقوبة بذلك {إِنَّا نَسِينَاكُمْ} أي: أدخلناكم النار وتركناكم فيها كالمنسيين، ينادون الله سبحانه وتعالى وهو يسمعهم ويراهم لكن لا يجيبهم فإذا أجابهم أجابهم بقوله: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]. إذاً الله سبحانه لا ينسى أحداً، وإنما يعاملهم وهم في النار معاملة المنسيين {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [السجدة:14]، أي: تغافلتم عن هذا اليوم فتركتم العمل فاستحققتم أن تعاملوا معاملة المنسيين وأن تتركوا في النار ولا يؤبه لدعائكم. {وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ} [السجدة:14] الخلود إما خلود في الجنة، وإما خلود في النار، والخلود هو أن يمكث فيها أبد الآبدين إلى ما لا نهاية، وأهل الجنة خالدون في الجنة لا يخرجون منها أبداً، ولا تفنى، وأهل النار خالدون فيها لا يخرجون منها، فقد أصحبوا أهلها وأصحابها والعياذ بالله، قال: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [السجدة:14]. إذاً: العذاب لن يخفف عن أهل النار المشركين، أما الموحدون من المسلمين الذين يدخلون النار بسبب ذنوبهم فهم يمكثون فيها ما شاء الله سبحانه، ولكن ينفعهم توحيدهم يوماً من الدهر، وهم إنما استحقوا دخول النار والخلود فيها بسبب بعض الذنوب والكبائر كالذي يقتل نفسه أو يقتل غيره أو يقتل ولده فهذا خالد في نار جهنم. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في قاتل نفسه قوله: (من شرب سماً فتحساه فسمه في يده في نار جهنم يتحساه خالداً مخلداً فيها أبداً)، فهذا الذي انتحر وقتل نفسه دخل النار خالداً مخلداً فيها أبداً، هذا إذا كان من الموحدين ولم يمت على الكفر بالله سبحانه، ولم يشرك بالله سبحانه وتعالى، ولكن خلود هذا دون خلود الكافر، فالكافر خلوده لا ينتهي، وهذا خلوده بمعنى: طول العذاب في النار أمداً طويلاً وأبداً عظيماً، وبعد ذلك تدركه رحمة رب العالمين يوماً من الدهر وإن أصابه قبل ذلك ما أصابه. وقد قال الله في الذي يقتل نفساً مؤمنة {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93]، وإن قتله لكونه مؤمناً فهو كافر مستحق للخلود في النار؛ لأنه قتل المسلم لكونه مسلماً، أما إذا قتله لدنيا فهذا خالد في النار إلى ما شاء الله من أمد بعيد، ثم بعد ذلك تدركه رحمة رب العالمين، لقوله: لا إله إلا الله، فتنفعه يوماً من الدهر أصابه قبل ذلك ما أصابه، ففرق بين خلود أهل الكفر والشرك، وبين خلود أهل التوحيد. نسأل الله عز وجل أن يتوفانا مسلمين، وأن يجعلنا من الموحدين. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة السجدة [15 - 16]

تفسير سورة السجدة [15 - 16] من صفات المؤمنين الصادقين التي امتدحهم الله بها: قيام الليل، ففيه يظهر الخضوع والتواضع من هؤلاء المؤمنين لربهم سبحانه، ولذلك فقد حث الله تعالى نبيه والمؤمنين على قيامه، ورتب عليه فضائل عظمية، ومزايا كثيرة، منها: قربه جل وعلا لهم في الثلث الأخير منه، ومنها أنه جعله سبباً لدخول الجنة والثبات على دين الله، ولهذا فقد شمر إليه الصحابة الكرام والنبي من قبلهم، فكان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، تقرباً وشكراً لربه سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا)

تفسير قوله تعالى: (إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجداً) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة السجدة: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:15 - 17]. ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات صفات المؤمنين بالله سبحانه وتعالى، والذين أعد لهم {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَار} [النساء:57]، وفيها (ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]. فإيمانهم هو الذي منعهم من المعاصي، ودفعهم لطاعة الله سبحانه وتعالى، ولجنة الله سبحانه. وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الأنفال:2 - 3]. وفي سورة السجدة ذكرهم الله سبحانه بأنهم إذا ذكروا بآيات رب العالمين سبحانه أقبلوا إلى ربهم سبحانه، وخروا على وجوههم ساجدين له سبحانه وتعالى، مسبحين حامدين الله سبحانه، غير مستكبرين على ربهم، ولا مستكبرين على الطاعة، قال تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا} [السجدة:15]، أي: سجدوا لله سبحانه وتعالى، {وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة:15]، فهم مؤمنون خاشعون لله متواضعون، لا يستكبرون على طاعة الله سبحانه وتعالى، والاستكبار أمره خطير، وهو أول جريمة وقع فيها مخلوق، وفعلها إبليس لعنه الله إذ أبى واستكبر أن يسجد لآدم، فكان مصيره الطرد من رحمة رب العالمين سبحانه وتعالى، وكذلك كل إنسان يستكبر على الله فمصيره النار، وأبى الله عز وجل أن يدخل الجنة إنساناً في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر، بل الله سبحانه وتعالى يعذبه ويدخله جهنم بما كان يستكبر عليه سبحانه ويستكبر على خلقه، فالمؤمنون متواضعون لا يستكبرون.

تفسير قوله تعالى: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع)

تفسير قوله تعالى: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) قال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:16]. هذه الآية فيها أن من صفات المؤمنين أنهم تتجافى جنوبهم، تجافي جنب الإنسان بمعنى: ارتفع جنبه عن فراشه، أو تنحى عن الفراش، فإذا نام لا ينام نوماً طويلاً، وليس ليله كله نوماً وإنما ينام جزءاً ويقوم لله سبحانه وتعالى ما تيسر من الليل. وقد جاء في قيام الليل من الآيات ما يفيد أنه ينبغي على المؤمن أن يكون بهذه الصفة؛ ليرضي الله سبحانه وتعالى. ولقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بقيام الليل فقال: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل:1 - 4]، فقام النبي صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه عليه الصلاة والسلام، وكان ذلك فرضاً عليه وعلى المؤمنين حتى أنزل الله سبحانه: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل:20]، فبعد أن أمر بالقيام الطويل أمر بقراءة ما تيسر للإنسان، وصار نافلة بعد أن كان فريضة. ومن الأحاديث التي جاءت في قيام الليل حديث رواه الترمذي عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم)، وهذا من النبي صلى الله عليه وسلم حث وتحريض وإغراء لقيام الليل، وواضح أن القيام أصله: أن تقوم على قدميك واقفاً للصلاة، وإن رخص الله في النافلة أن تصلي قائماً أو قاعداً، سواء كنت قادراً على القيام أو غير قادر، فلك أن تقوم ولك أن تقعد في قيام الليل وفي النوافل، ولكن الأجر العظيم يكون على القيام، ولذلك قال تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] أي: قياماً طويلاً بين يدي الله سبحانه وتعالى. (فإنه دأب -أي: عادة- الصالحين قبلكم، وهو قربة إلى ربكم) أي: يقربكم من الله سبحانه وتعالى، وأقرب ما يكون العبد من ربه سبحانه وهو ساجد، فقيام الليل قيام عظيم، فإذا سجد العبد في جوف الليل الآخر كان قريباً من ربه سبحانه، وكان جديراً بإجابة الله سؤاله. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ومكفرة للسيئات) أي: أن القيام يمحو السيئات، (ومنهاة عن الإثم) أي: يعين الإنسان على اجتناب الآثام والمعاصي. وروى الترمذي من حديث عمرو بن عبسة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر)، فالليل أجزاء: ثلث أول، وثلث أوسط، وثلث أخير، وجوف هذا الثلث الأخير أقرب ما يكون العبد من ربه سبحانه، والرب من عبده سبحانه، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن) أي: إن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فحاول قدر ما استطعت و {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وذكر الله سبحانه بأن تصلي لله سبحانه وتعالى، سواء كانت صلاة طويلة أو صلاة قصيرة، وبأن تذكر الله سبحانه وتعالى فيه، ويدخل تحت الذكر كلما صدقت عليه هذه الكلمة، وسواء كان الشخص جالساً يذكر الله سبحانه بالتسبيح أو بالتهليل أو بالتكبير أو بقراءة القرآن، أو بقراءة حديث النبي صلى الله عليه وسلم، أو بالانشغال بطلب العلم، أو بغير ذلك مما هو ذكر لله عز وجل فكله ذكر، قال صلى الله عليه وسلم: (إن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة -يعني من آخر الليل- فكن)؛ لأنك تكون قريباً من ربك سبحانه.

أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في قيام الليل

أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في قيام الليل جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: (أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه) أي: تتشقق قدماه صلوات الله وسلامه عليه من طول القيام. فقالت عائشة رضي الله عنها: (لم تصنع هذا -يا رسول الله- وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟!) وهذا يدل أنه عمل ذلك صلى الله عليه وسلم بعد أن نزلت عليه سورة الفتح وفيها: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح:1 - 2]. فالله سبحانه مَنَّ على النبي صلى الله عليه وسلم بأن جعله مغفوراً له ذنبه المتقدم والمتأخر عليه الصلاة والسلام، فعصمه الله سبحانه من أن يقع في الذنوب، ومَنَّ عليه بأنه لو حدث منه شيء فالله سبحانه وتعالى يغفر له ما تقدم وما تأخر، وسورة الفتح نزلت بعد صلح الحديبية في السادس من ذي القعدة سنة ست من هجرته صلى الله عليه وسلم، وبعد أن دعا إلى الله سبحانه وتعالى تسع عشرة سنة، حيث دعا إلى الله سبحانه في مكة ثلاث عشرة سنة، وفي المدينة ست سنوات حتى نزلت هذه السورة فأخبره الله عز وجل بقوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1]، وكان قبل ذلك صلوات الله وسلامه عليه لا يعلم ما الذي يدخره له ربه سبحانه وتعالى، ولذلك جاء عنه في حديث أن السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها قالت عن صبي قد توفي: (طوبى له، عصفور من عصافير الجنة، فقال: وما يدريك؟ فإني وأنا رسول الله -عليه الصلاة والسلام- لا أدري ما يفعل بي)، فأعلمه الله عز وجل بعد ذلك بفترة طويلة عليه الصلاة والسلام أنه مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهذه السورة كانت قبل وفاته بأربع سنوات عليه الصلاة والسلام. فتبين أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك في آخر حياته عليه الصلاة والسلام، فكان استفسارها وتعجبها هو أن الذي يصلي كثيراً، ويقوم كثيراً، ويتعب نفسه كثيراً، هو الذي يطلب المغفرة، أما أنت فقد غفر لك الله فلماذا تقوم؟ وكان الجواب منه صلى الله عليه وسلم أن قال: (أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً) عليه الصلاة والسلام، وقوله: (عبداً) فيه مقام عظيم وهو مقام العبودية لرب العالمين، وهو مقام النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقوم الليل لله، وهو قريب من الله سبحانه، فالعبد يتشرف بأنه عبد لله سبحانه، فهذا النبي صلى الله عليه وسلم يذكره ربه في القرآن في مقامات شريفة بأنه عبد عليه الصلاة والسلام، وفي مقام ذكر الله، وتلاوة القرآن، والمحاجة بهذا القرآن، حيث يقول للكافرين: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة:23] عليه الصلاة والسلام. وفي مقام تشريف النبي صلى الله عليه وسلم برفعه إلى السماء عليه الصلاة والسلام في الإسراء والمعراج يقول: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1] عليه الصلاة والسلام. وفي مقام التبليغ والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى يقول: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن:19] عليه الصلاة والسلام. فهذا أشرف مقامات العبد بين يدي الله سبحانه. والإنسان في نفسه ما يدفعه إلى العبودية، وما يدفعه إلى الخضوع، فإما أن يوجه ذلك إلى الله عز وجل، وإما أن يأنف عن ذلك فيوجهه الله عز وجل إلى أحقر خلقه، فيصير عابداً للهوى، وعابداً للشيطان، وعابداً للإنسان، وعابداً للجان؛ لأنه أنف واستكبر عن عبادة الله سبحانه، وتطاول عن أن يعبد الله سبحانه، وظن أنه حر في نفسه يعمل ما يشاء دون تقيد بأحد، فنقول لمن كان هذا حاله: أنت لست حراً على الله سبحانه وتعالى ولكنك عبد لله، فإما أن ترضى بذلك كما رضي رسل الله الكرام عليهم الصلاة والسلام والملائكة الكرام عليهم السلام، وإما أن تأنف فتكون كالشيطان، فيكون مصيرك مصيره، فانظروا إلى المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام إذ يقول الله سبحانه عنه: {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء:172]، بل الكل عبيد لله سبحانه، قد رضوا بذلك فأرضاهم الله سبحانه وتعالى. كذلك نبينا صلى الله عليه وسلم يقول: (أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً؟)، تقول عائشة رضي الله عنها: (فلما كثر لحمه صلى جالساً) عليه الصلاة والسلام أي: لما أسن وكبر في سنه صلى الله عليه وسلم فصار عظمه لا يحمل بدنه صلى الله عليه وسلم، وقد ورد ما يفسر ذلك في حديث آخر وفيه: (لما بَدَّن أو لما بَدُن) يعني: صار ثقيلاً عليه الصلاة والسلام حتى إن عظامه لا تحمل جسده صلى الله عليه وسلم في القيام الطويل، ليس معنى ذلك أنه صار سميناً، بل المعنى: أنه صلى الله عليه وسلم كان قيامه لليل في وقت طويل جداً، يستغرق صلاته الليل عليه الصلاة والسلام قائماً على قدميه، فلما تعب صلوات الله وسلامه عليه صار يقوم جزءاً من الليل ويقعد جزءاً، فيصلي صلاة طويلة قائماً، ثم يقعد ويصلي قاعداً، ثم يقوم صلى الله عليه وسلم ويكمل قائماً بحسب ما يستريح عليه الصلاة والسلام. تقول: (فلما كثر لحمه صلى جالساً، فإذا أراد أن يركع قام فقرأ ثم ركع صلوات الله وسلامه عليه).

قيام الليل سبب لدخول الجنة

قيام الليل سبب لدخول الجنة روى الترمذي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأصبحت يوماً قريباً منه ونحن نسير، فقلت: يا رسول الله! أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار؟) وهذا السؤال من معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه سؤال عظيم، حيث تعلم معاذ وتعلم غيره من هذا السؤال العظيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد سألتني عن عظيم) أي: سألتني عن شيء عظيم (وإنه ليسير على من يسره الله عليه: تعبد الله ولا تشرك به شيئاً)، فأمره بالعبادة ونهاه عن الشرك بالله سبحانه، (وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت). فالنصيحة هي: إن كنت تريد دخول الجنة فهات هذه الفرائض التي فرضها الله عز وجل عليك وهي أركان الإسلام الخمسة. ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة) وهذا باب من أبواب الخير، (والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل) وهذا باب عظيم من أبواب الخير حيث تقوم بالليل مصلياً لله سبحانه، (ثم تلا صلى الله عليه وسلم: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [السجدة:16])، فذكر هذه الآية، (ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر كله وعموده وذروة سنامه؟ قال: قلت: بلى يا رسول الله! قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد. ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟) أي: ما تملك به هذا كله؟ (قال: قلت: بلى يا نبي الله! -عليه الصلاة والسلام- فأخذ بلسانه وقال: كف عليك هذا) أي: أمسك بلسانه وقال: (هذا ملاك الأمر) أي: تملك أمر نفسك بأن تملك لسانك، فلا تنطق إلا بالخير، وتسكت عن الشر، فإذا ملكت لسانك وفقك الله عز وجل لكل الطاعات، فقال معاذ رضي الله عنه: (يا نبي الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟) أي: كل شيء نتكلم به يحاسبنا عليه ربنا؟ قال صلى الله عليه وسلم: (ثكلتك أمك يا معاذ!) وهذه كلمة ليس المقصود بها الدعاء عليه، وإن كان أصلها أن الأم الثكلى: هي التي فقدت ابنها بأن مات، حيث أصله دعاء على الإنسان بالموت، وهنا ليس المقصود الدعاء عليه، بل التعجب من قول القائل والتوجع لكونه لم يفهم ما الذي قاله، فقال له صلى الله عليه وسلم: (ثكلتك أمك) يعني: عجباً لك يا معاذ! (وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم) أي: ما يكب إنسان على وجهه في نار جهنم إلا ما يحصده اللسان، وما يجمعه من شر. والغرض أن الإنسان إذا أمسك لسانه وفقه الله سبحانه لجميع خصال الخير، ومن أفضل خصال الخير كما جاء في الأحاديث قيام الليل. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من هؤلاء القائمين المخلصين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة السجدة [15 - 17]

تفسير سورة السجدة [15 - 17] من صفات المؤمنين: أنهم يستجيبون لله تعالى عند سماع كلامه، فما أن يسمعوا بأمر الله إلا وبادروا إلى تنفيذه رغبة فيما عنده سبحانه، وطلباً للأجر والثواب، وما أن يسمعوا بنهي الله إلا واجتنبوه وابتعدوا عنه خوفاً من عقاب الله سبحانه، فتراهم مقبلين على طاعة ربهم من صلاة فريضة ونافلة، وقراءة قرآن وجهاد وقيام ليل وصدقة وذكر، وغير ذلك من أنواع الطاعات.

تفسير قوله تعالى: (إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها)

تفسير قوله تعالى: (إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة:15]. في هذه الآية وما بعدها من سورة السجدة يخبرنا الله سبحانه وتعالى عن عباده المؤمنين، وكيف تكون استجابتهم لله رب العالمين عند سماعهم كلام الله سبحانه، حين يقرءون القرآن يستجيبون ويؤمنون ويزدادون إيماناً، وإذا ذكروا بآيات الله سبحانه أقبلوا عليها، فتفهموا وتدبروا وخروا لله سجداً في صلاتهم وفي غير صلاتهم، فهم إذا مرت بهم آية سجود سجدوا لله سبحانه وتعالى على جباههم، وكانوا معظمين لآيات الله سبحانه وخائفين من ربهم سبحانه ومعظمين له. قوله: ((إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا)) (إنما) أداة قصر، والمعنى هؤلاء فقط الذين قد آمنوا بالله سبحانه وتعالى، الذين امتلأت قلوبهم خشية وخوفاً منه سبحانه وتعالى. قوله: ((الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا)) أي: هؤلاء إذا ذكروا بالله سبحانه وأمروا بالسجود وأمروا بالطاعة أقبلوا إلى ربهم سبحانه، وخروا له ساجدين في صلاة وفي غير صلاة، فهم يسجدون لله خاشعين مخبتين منيبين متواضعين لرب العالمين، أذلوا أنفسهم؛ ليعزهم الله سبحانه يوم القيامة. قوله: ((خَرُّوا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ)) يعني: قالوا هذا الذكر الذي يكون في السجود والذي يكون في الركوع، قالوا: سبحان الله والحمد لله أو قالوا: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أو قالوا: سبحان ربي العظيم، سبحان ربي الأعلى، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر الركوع وفي ذكر السجود، وسبحوا وحمدوا الله سبحانه وتعالى، أو أنهم في حال ما يحمدون الله فهم مسبحون له، وفي حال تسبيحهم لله فهم حامدون له عز وجل، فسبحوا حامدين وحمدوا ربهم مسبحين. قوله: ((وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ)) أي: لا يستكبرون على ربهم، ولا يستكبرون على النصيحة، فإذا نصحهم إنسان استجابوا للنصح، ورجعوا إلى ربهم وأنابوا، وأقبلوا عليه وسجدوا له سبحانه وتعالى مستجيبين مطيعين.

تفسير قوله تعالى: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع)

تفسير قوله تعالى: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) قال الله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:16] أي: هؤلاء المؤمنون بالله سبحانه يسمعون الأذان فيهرعون إلى الصلاة؛ ليخروا لله سجداً، كذلك إذا جاء عليهم الليل ناموا ثم إذا بهم يستيقظون لصلاة الفجر، ويستيقظون قبل ذلك لقيام الليل، فيقومون لله سبحانه مصلين مستمتعين بالعبادة. قوله: ((تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ)) من الجفوة كأنهم يجافون الفرش عن جنوبهم، يرتفعون عن الفرش، وتنبو جنوبهم عنها، فهم يتجافون عنها. قوله: ((عَنِ الْمَضَاجِعِ)) مضجع الإنسان مكان نومه، فالمؤمنون إذا جاء الليل ناموا ما كتب لهم، ولكن لا ينامون الليل كله، وإنما يقومون جزءاً من الليل مصلين لله سبحانه وتعالى، فإذا ناموا واستشعروا الراحة في النوم فإنهم يعتبرون بما يكون يوم القيامة، من الراحة الكبرى، الراحة التي تكون في الجنة حيث لا عمل ولا تكليف فيها، فيستعدون لهذا؛ وذلك بأن يتعبوا أنفسهم بالقيام بين يدي الله عز وجل مصلين لله سبحانه، ذاكرين يوم القيامة يوم الوقوف بين يدي الله عز وجل، وهم يطلبون الراحة من رب العالمين في ذلك اليوم، يوم أن يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ويطلبون أن يبعد الله عز وجل عنهم نار جهنم يوم القيامة، وأن يخفف عليهم الموقف الطويل والحساب العسير يوم القيامة، فلذلك تتجافى جنوبهم عن المضاجع ويقومون مصلين لله رب العالمين بالليل. قوله: ((يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا)) أي: يدعون ربهم في صلاتهم وفي جميع أحوالهم، فهم يكثرون من الدعاء، ومن ذكر الله سبحانه، ويدعونه في وقت البلاء وفي وقت الرخاء، وهم يدعون الله خوفاً من عقابه وطمعاً فيما عنده سبحانه. وهذا حال الإنسان المؤمن الذي عرف فضل الله فطمع في فضل الله سبحانه، فهو يعبد ربه خوفاً وطمعاً، رجاء فيما عند الله وهرباً مما عند الله سبحانه وتعالى. فالمؤمن يطلب الله من فضله؛ لأنه علم أن الله الغني وأنه الكريم والجواد سبحانه، وأن الله رحمن رحيم، والله لا يعظم عليه شيء، فمهما طلب الإنسان ومهما سأل الله، فإنه يعطيه؛ لأنه حيي كريم يستحيي من عبده أن يرفع يديه فيردها صفراً بدون شيء، والله يحب من عبده أن يسأله، فهو يحب الذين يسألون، ويطلبونه سبحانه: يا رب أدخلنا جنتك، يا رب نسألك الفردوس الأعلى من الجنة، يا رب نسألك الخير، اللهم اغفر لنا ذنوبنا. إذاً: المؤمنون يسألون الله دائماً؛ لأنهم علموا أن الله يحب من عبده أن يسأله، وعلموا أن الله جواد كريم يحب أن يعطي عبده سبحانه وتعالى، ولما علموا ذلك سألوه من فضله وألحوا عليه في السؤال، فأعطاهم الله سبحانه ما أرادوه، وأمنهم مما يخافون منه يوم القيامة. إذاً: الخوف والرجاء من الله سبحانه، والمؤمن دائماً في الدنيا خائف من الله راج لله سبحانه، فهم خائفون الخوف الذي لا يؤدي إلى اليأس من الله سبحانه، ولكن الخوف الذي يمنع العبد من المعاصي، كالشرك بالله سبحانه وغيره، والخوف الذي يدفع العبد للعمل الصالح، لا الخوف الذي يؤدي إلى أن ييئس من روح الله: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87]. فهم مع شدة خوفهم هم في غاية الرجاء فيما عند الله سبحانه وتعالى، يرجون كرمه وفضله، ويرجون الثواب منه سبحانه، ويرجون مغفرة الذنوب، فهم يخافون من الذنوب وهم يرجون من الله أن يغفر الذنوب سبحانه وتعالى. ولذلك العبادة لا تكون إلا بذلك: غاية الخوف من الله عز وجل مع غاية الرجاء فيما عند الله سبحانه. قوله: ((وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)) أي: أن العبادة تكون بالدعاء وبالصلاة وبالنفقة، يعني: عبادة بدنية وعبادة مالية، فهم ينفقون في سبيل الله سبحانه، فمهما أعطيناهم من كثير أو قليل فحالهم أنهم ينفقون لله سبحانه وتعالى مما قل أو كثر.

تفسير قوله تعالى: (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين)

تفسير قوله تعالى: (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين) قال الله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] أي: لا تعلم أي نفس من النفوس، لا ملك مقرب ولا رسول ولا غيره ما أخفاه الله لهؤلاء المؤمنين في الجنة، إلا من شاء أن يطلعه سبحانه، وهذا يدل على أن هذا الشيء الذي أخفي شيء عظيم جداً وشيء غال جداً، شيء يليق بعظمة الله سبحانه وتعالى، فمهما أراد إنسان أن يتخيل ومهما تخيلت ما الذي عند الله للمؤمنين فلن تصل إلى كنه ذلك؛ فهو أعظم بكثير مما تتخيل، فلا تعلم نفس خلقها الله سبحانه وتعالى أن تعلم ما الذي أخفاه الله سبحانه لهؤلاء من قرة أعين، أي: العين القريرة، والعين القارة، والعين الباردة، فالإنسان في حال فرحه تقر عينه وتستريح عينه، فإذا بكى من الفرح تكون دموع البكاء من الفرح باردة بخلاف الحزن، وإذا حزن الإنسان وخاف وبكى من حزنه نزلت دموع الحزن حارة، فهناك فرق بين الفرح والحزن، فهؤلاء قرت أعينهم بفرحهم وباطمئنانهم بالله سبحانه وتعالى، فإذا اشتد فرحهم وبكوا من الفرح كانت دموعهم قارة باردة وليست دموعاً حارة ساخنة، فهم في فرحهم بالله سبحانه وفي رجائهم بالله سبحانه قد قرت أعينهم. قوله: ((جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) أي: بسبب ما كانوا يعملون، فسبب دخولهم الجنة أعمالهم، والأعمال سبب لدخول الجنة وليست ثمناً للجنة؛ لأنه الجنة عظيمة غالية.

فضل قيام الليل

فضل قيام الليل قال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16]، هذا في قيام الليل، أي: يقوم الإنسان لله سبحانه وتعالى فيصلي بالليل، وجاءت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة في ذلك، وكان الصحابة ينتهزون الليل؛ ليقوموا بين يدي الله سبحانه، بل ينتهزون أيضاً زيادة ما بين المغرب والعشاء؛ ليقوموا لله عز وجل، فقد كان قيامهم بين يدي الله عز وجل بالليل يطول، وكانوا يتأولون هذه الآية، كما جاء في الحديث عند أبي داود وعند الترمذي (عن أنس بن مالك في هذه الآية: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16] قال: كانوا يتيقظون ما بين المغرب والعشاء يصلون)، وهذا حديث صحيح وفيه أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يصلون ما بين المغرب والعشاء، ويعتبرون ذلك من قيام الليل. وكان الحسن يقول: قيام الليل، أما قيام الليل بعد العشاء فقد جاءت فيه أحاديث كثيرة عنه صلى الله عليه وسلم منها: ما رواه الترمذي عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عليكم بقيام الليل) أي: الزموا قيام الليل، وهذا إغراء، كأنه يحفز ويحث ويحرض المؤمن على أن يقوم من الليل ولو بالشيء اليسير، ولو بأن تقرأ الفاتحة و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، فأنت إذا قرأت عشر آيات من كتاب الله سبحانه لا تكتب من الغافلين، فلا تكن من الغافلين، وإذا قمت من الليل ولو وقتاً يسيراً قبل الفجر تصلي ركعتين بعشر آيات أو ما فوقها، تكون ممن ذكر الله سبحانه ولم تكن من الغافلين، قال صلى الله عليه وسلم: (عليكم بقيام الليل؛ فإنه دأب الصالحين قبلكم) أي: عادة الصالحين قبلكم، فقد كانوا يقومون بين يدي الله عز وجل بالليل، وقيام الليل عظيم جداً، فكونك تتشبه بالصالحين تكون منهم، كما ورد في الحديث: (ومن تشبه بقوم فهو منهم). ثم قال: (وهو قربة إلى ربكم) أي: تتقربون لله عز وجل بقيام الليل. وقال: (ومكفرة للسيئات) قوله: (مكفرة) هذا مصدر ميمي، معناه: أنه تكفير للسيئات. (ومنهاة عن الإثم) يعني: ينهى صاحبه عن الإثم. كذلك ورد في قيام الليل في القرآن: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:6]. الناشئة: هي الارتفاع، يعني: بعدما نام الإنسان على فراشه ارتفع عن فراشه وقام لله عز وجل ليصلي، فالناشئة هي القيام بعد المنام، قوله: {هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا} أي: مواطأة بين اللسان وبين القلب، فأنت تقرأ بلسانك ما يستقر في قلبك، فهناك موافقة بين الاثنين، لكن في أحوال العبد في النهار وانشغاله بمعاشه تجده يقرأ ما يقرأ، ويسهو عما يقرأ وينسى أشياء بسبب ما ينشغل به، ولكن إذا قام لله عز وجل بالليل اجتمع قلبه، فينطق بلسانه ما يعيه قلبه، فيتفكر ويتدبر ويدعو ربه سبحانه مخلصاً لله عز وجل. قوله: ((وَأَقْوَمُ قِيلًا)) أي: يقول قولاً مستقيماً في ذلك، ويقول أرضى الأقوال لله سبحانه وتعالى، للموافقة بين القلب واللسان. فإذاً قيام الليل يكفر الله عز وجل به عن العبد السيئات، وقيام الليل ينهى صاحبه عن الإثم، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45]، وخصوصاً قيام الليل، وقيام الليل يقوي العبد على اجتناب المعاصي والآثام، ولذلك أفضل العباد هم الذين يواظبون على صلاة الفجر والعشاء في جماعة، والذين يقومون لله عز وجل من الليل ولو شيئاً يسيراً، فهؤلاء يكون لهم الأجر العظيم والقربى من الله، ولذلك ورد في حديث عمرو بن عبسة عند الترمذي أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر؛ فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن) أي: إذا قدرت أنك تكون من الذاكرين الله في آخر الليل فافعل. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم, وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة السجدة الآية [15]

تفسير سورة السجدة الآية [15] من صفات عباد الله عز وجل المؤمنين: أنهم يسجدون لربهم بكرة وعشياً، ولا يستكبرون عن ذلك ولا يستنكفون، والسجود أنواع، فمنه السجود في الصلاة، ومنه السجود عند التلاوة، سواء كانت التلاوة في الصلاة أو خارجها.

تفسير قوله تعالى: (إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا)

تفسير قوله تعالى: (إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجداً) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة السجدة: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:15 - 17]. في هذه الآيات كما قدمنا في الدروس السابقة ذكر الله سبحانه من صفات المؤمنين بالله سبحانه وتعالى أنهم مقبلون على كتابه؛ فإذا ذكروا بآيات ربهم سبحانه يخرون لله عز وجل سجداً، فهم في طاعة الله سبحانه، فيسمعون الذكر ويطيعون ربهم ويقبلون إليه، ويسمعون الأمر بالسجود لله سبحانه فيسجدون في الصلاة وفي غير الصلاة، وذكر الله عز وجل من صفاتهم: أنهم تتجافى جنوبهم عن المضاجع. إذاً: هم يقبلون على تلاوة كتاب الله سبحانه، ويسجدون لله سبحانه سواء في الصلاة أو في غيرها، ويسبحون حامدين ربهم سبحانه، ولا يستكبرون عن طاعة الله وعن عبادته، ويقومون لله بالليل، فتتجافى جنوبهم عن المضاجع وهم يدعون ربهم سبحانه، سواء في القيام أو في غيره، يدعون ربهم خوفاً وطمعاً، فهم يكثرون من الدعاء خوفاً من الله سبحانه، فيستجيرون به من عذابه ومن ناره، ويستغيثون به سبحانه، وكذلك يطمعون في رحمته وفي جنته، فيسألون الله الجنة، ويتعوذون بالله من النار، وينفقون مما رزقهم الله تبارك وتعالى.

حكم سجود التلاوة

حكم سجود التلاوة قوله: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا} [السجدة:15] آية من آيات السجدة في كتاب الله سبحانه، وعدد آيات السجود في كتاب الله عز وجل خمس عشرة سجدة، فتوجد خمس عشرة آية في القرآن فيها السجود، وبعضها بصيغة الأمر، وهي في ثلاثة مواضع من كتاب الله سبحانه: في قوله سبحانه في سورة الحج: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج:77]. وكذلك في خاتمة سورة النجم: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم:62]. وكذلك في سورة العلق في آخرها أمر الله سبحانه تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: {كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:19]. وباقي الآيات فيها الإخبار عن السجود فالعلماء يقولون: هذه الآيات الخمس عشرة التي في كتاب الله عز وجل يستحب السجود عند قراءتها سواء في الصلاة أو في غير الصلاة، وقد قرأ بها النبي صلى الله عليه وسلم وسجد فيها. ومن الإخبار بالسجود المأخوذ من الآيات ومن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ومن الآثار عن الصحابة أخذ جمهور العلماء أن السجود ليس فرضاً واجباً عند سماع هذه الآيات أو عند تلاوتها، وإنما هو مستحب متأكد الاستحباب، فهي من عزائم السجود، أي: من العزائم التي يعزم على الإنسان فيلزم بها، ولكن ليس إلزام الوجوب، وذهب الأحناف إلى أنه يجب السجود عند هذه الآيات عند سماعها أو عند تلاوتها. والجمهور أخذوا بأن الآيات نفسها التي ذكر فيها السجود فيها ثلاث آيات بصيغة الأمر التي في الحج وفي النجم وفي العلق، وهذه الثلاث اختلف العلماء هل يجب السجود لها أو لا يجب؟ قالوا: فعلى ذلك باقي الآيات التي بصيغة الإخبار هي أولى بأن لا يلزم السجود فيها. والإمام البخاري في صحيحه قال: باب: من رأى أن الله عز وجل لم يوجب السجود. وقيل لـ عمران بن حصين: الرجل يسمع السجدة ولم يجلس لها، قال عمران رضي الله عنه - وهو صحابي فاضل-: أرأيت لو قعد لها؟ كأنه لا يوجبه عليه، يعني: أن السائل يقول: لو أن واحداً سمع السجدة ولم يأت من أجل أن يستمع القرآن، وإنما جاء لحاجة، فهل يلزمه أنه يسجد لما سمع التالي يقرأ آية السجود، فـ عمران بن حصين رضي الله عنه قال: أرأيت لو قعد لها؟ يعني: هل تظن أنه لو قعد لها كان يجب عليه السجود؟ فكأنه يرى أنه لا يجب السجود عند تلاوة هذه الآيات، إنما هو مستحب. كذلك سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: ما لهذا غدونا، فقد جاء في الأثر عند عبد الرزاق عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: مر سلمان على قوم قعود فقرءوا السجدة فسجدوا، فقيل له، فقال: ليس لهذا غدونا، والمعنى: أنهم قاعدين يقرءون القرآن فمروا بسجدة فسجدوا، لكن سلمان يقول: نحن لسنا نقرأ معهم ولا نسمع معهم، بل نحن نمشي لحاجة، فهم سجدوا، ونحن لا يلزمنا أن نسجد؛ لأننا لم نقعد معهم للسجود أو للتلاوة، إنما نحن مارون. والغرض من هذا: بيان أن الصحابة رضوان الله عليهم ذكروا هذا السجود، وذهبوا إلى أنه ليس فرضاً واجباً كالذي يجب على الإنسان من ركوع وسجود في الصلاة، فالسجود للتلاوة يتأكد استحبابه، ولكن لا يصل إلى الفرضية. قال عثمان رضي الله عنه: إنما السجدة على من استمعها، هذا ذكره الإمام البخاري. وجاء عن عثمان رضي الله عنه أيضاً في مصنف عبد الرزاق: أنه مر بقاص فقرأ سجدة ليسجد معه عثمان، فقال عثمان: إنما السجود على من استمع، ثم مضى ولم يسجد، وكأن عثمان رضي الله عنه وهو أمير المؤمنين مر بالمسجد والقاص يذكر الناس، ولما نظر عثمان رضي الله تبارك وتعالى عنه أنه قرأ آية فيها السجدة من أجل أن يسجد هو ومن معه ومن أجل أن عثمان أيضاً يسجد معهم، فلم يسجد معهم رضي الله عنه، ومر وانصرف، وقال عثمان رضي الله عنه: إنما السجود على من استمع، يعني: أن القاعد معك الذي يسمع هو الذي عليه أن يسجد، لكن أنا مار ولست بجالس معكم. ففيه أن سيدنا عثمان رضي الله عنه لم ير أنه يلزمه أن يسجد حتى ولو استمع لمن يقرأ السجدة، طالما أنه لم يجلس للسماع، وكذلك رأى سلمان الفارسي وعمران بن حصين. فالغرض: أنهم لم يروا وجوب السجود، فالراجح أن سجود التلاوة مستحب متأكد الاستحباب وليس فرضاً واجباً. ومن أقوى الأدلة على عدم الوجوب كما ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله: ما رواه الإمام البخاري عن ربيعة بن عبد الله بن الهدير التيمي عما حضر ربيعة من عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قرأ يوم الجمعة على المنبر بسورة النحل، حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه، أي: لما جاء عمر رضي الله عنه على آية فيها سجدة نزل وسجد، وسجد الناس وهم في أثناء الخطبة، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها، يعني: قرأ آية السجود في سورة النحل مرةً ثانيةً وهو رضي الله عنه على المنبر، قال: حتى إذا جاء السجدة قال: (يا أيها الناس! إنا نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه)، ولم يسجد عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه. إذاً: سواء كان في خطبة أو في غيرها يجوز أن الإمام أو القارئ ينزل إذا قرأ آية فيها سجدة ويسجد ويسجد الناس معه، ويجوز أنه يتم حديثه ويكمل ولا يجب عليه السجود، وهذا فعل عمر. وقد يقال: إن هذا فعل عمر، وهو فعل صحابي واحد، وقول الصحابي كما يقول البعض: ليس حجة، ولكن قول عمر رضي الله عنه لا يقال فيه ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا باتباع الخلفاء الراشدين المهديين، فقال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ) فـ عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه من هؤلاء. ويقال أيضاً: إن عمر كان يخطب، وكان الحاضرون يسمعون خطبة عمر، وكلهم من الصحابة ومن التابعين، ولم ينكر أحد على عمر رضي الله عنه فصار إجماعاً. إذاً: هنا إجماع من الحضور على موافقة عمر رضي الله عنه، ولو خالف أحد عمر في ذلك لرد عليه وقال له: يجب عليك أن تنزل وأن تسجد، ولكن لم يقل له أحد ذلك، فدل على أن فعل عمر كان بموافقة جميع من في المسجد، وهذا من أقوى ما يكون من الإجماع: أن يكون صحابي موجوداً في مجمع يصعب أن يقال: إنه لم يحضره صحابة، بل كانوا يحضرون مع عمر رضي الله عنه خطبة الجمعة، وهذا شاع عن عمر رضي الله عنه، فلو فرضنا أن البعض كان بعيداً عن عمر فلا بد أن يسمع ممن حضر من عمر ذلك، فلو كان هناك منكر لأنكر عليه ولم يسكت عن ذلك، فعلى هذا فهذا إجماع سكوتي من أقوى الإجماعات، فإنهم حضروا لـ عمر وسكتوا عما قال، فدل هذا على الموافقة.

عدد السجدات في القرآن الكريم

عدد السجدات في القرآن الكريم وعزائم سجود القرآن خمس عشرة سجدة جاءت في القرآن في مواطن من آخر سورة الأعراف إلى سورة العلق، وهذه الآيات ذكر الله سبحانه تبارك وتعالى فيها الإشارات في السجود في خمسة عشر موضعاً. قال العلماء: هي من عزائم السجود، والبعض قال: هي إحدى عشرة فقط، والبعض قال: هي أربع عشرة، وأخرج منها السجدة التي في سورة (ص) فقال: ليست من العزائم باعتبار أنها توبة نبي، يعني: أنه تعالى ذكر في سورة (ص) عن النبي داود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أنه خر راكعاً وأناب، فظن داود أنما فتناه، فذكر الله عز وجل أن داود ظن أن الله ابتلاه وامتحنه، فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب، فقالوا: هذه ليست من العزائم؛ لأنها فعل نبي عليه الصلاة والسلام، فعلها فسجد، وليس فيها أمر أو إخبار عن المؤمنين، إنما هي توبة نبي، لكن قد سجد فيها النبي صلوات الله وسلامه عليه فدل على أنها سجدة من ضمن السجدات التي يسجد فيها. والسجود في القرآن جاء عن أبي رافع في الصحيحين في البخاري ومسلم قال: (صليت خلف أبي هريرة -العتمة يعني: العشاء- فقرأ: ((إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ))) وهي من المفصل وفيها سجدة (فسجد فقلت: ما هذه السجدة؟ قال: سجدت بها خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم، فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه) فمن ضمن السجود في المفصل السجود في سورة الانشقاق عند قول الله عز وجل: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق:21] فسجد فيها النبي صلوات الله وسلامه عليه. أيضاً: في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في: ((إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ)) و ((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ))) يعني: كأنه يرد على من يقول: ليس في آخر المصحف في المفصل سجود؛ فهنا سورة الانشقاق وسورة اقرأ من المفصل، وكذلك سورة النجم سجد فيها النبي صلوات الله وسلامه عليه. وفي الصحيحين أيضاً عن عبد الله بن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (قرأ سورة النجم فسجد فيها وما بقي أحد من القوم إلا سجد) وسورة النجم مكية، وسجد فيها صلى الله عليه وسلم في مكة وسجد معه المسلمون، بل والكفار أيضاً سجدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فيها. وفي سورة (ص) ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد فيها، ففي سنن أبي داود عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر سورة (ص) فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه). إذاً: هنا لما قرأ عمر رضي الله عنه سورة النحل نزل وسجد اتباعاً لما في القرآن، ولما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، فالذي جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه خطب الجمعة وقرأ عليه الصلاة والسلام: سورة (ص) ولما بلغ السجود نزل وسجد فيها عليه الصلاة والسلام، قال: (فلما كان يوم آخر لعلها الجمعة التي تليها ولعلها بعد ذلك بفترة قرأها، فلما بلغ السجدة تنشز الناس للسجود) أي: لأن الناس سجدوا في المرة الأولى، وظنوا أنه سيسجد، فاستعدوا للسجود مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما هي توبة نبي، ولكني رأيتكم تنشزتم للسجود) فنزل عليه الصلاة والسلام فسجد بهم صلوات الله وسلامه عليه وسجدوا. وقوله: (إنما هي توبة) أي: أن السجود ليس واجباً، فمن الممكن أننا نسجد كما سجدنا في المرة السابقة، ومن الممكن أننا نقرأها ولا نسجد، وكذلك غيرها من السور يجوز فيها أن الإنسان يقرأ ويسجد، ويجوز أنه يكمل ما بعدها ولا يسجد. وفي سورة الحج سجدتان في أول السورة وفي آخر السورة.

حكم الوضوء لسجود التلاوة

حكم الوضوء لسجود التلاوة والساجد إما أن يكون في صلاة، وإما ألا يكون في صلاة، فإن كان في الصلاة فهو على وضوء صلاته، وإذا كان في غير الصلاة فلا يسجد إلا أن يكون على وضوء؛ لأنها هيئة من هيئات الصلاة، وهذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وفعل الصحابة رضوان الله عليهم، وإن خالف في رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنه، وجاء ذلك أيضاً عن واحد من التابعين، لكن جماهير أهل العلم على أنه لا بد أن يكون الساجد على وضوء؛ حتى يسجد سجدة التلاوة في غير الصلاة.

حكم التكبير لسجود التلاوة

حكم التكبير لسجود التلاوة إذا أراد أن يسجد يكبر ويقول: الله أكبر، ويسجد، ويرفع منها ويكبر؛ فإن جمهور العلماء ومنهم الأئمة الأربعة: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد على أنه إذا كان في الصلاة يكبر ويسجد، ويكبر ويرفع، لكن الخلاف هل يرفع اليدين أو لا يرفع اليدين إلا إذا كان في الصلاة؟ فالذين رأوا أنه لا يرفع اليدين قالوا: الأصل في الصلاة أن الهوي للسجود لا يرفع فيه اليدين، وأنت في الصلاة ترفع اليدين عند إرادة الركوع ففقول: الله أكبر وتركع، وترفع من الركوع وتقول: سمع الله لمن حمده، وترفع اليدين معها، فإذا نزلت للسجود فليس هناك رفع اليدين إلا على الندرة؛ فإن رفع اليدين جاء عنه صلى الله عليه وسلم في بعض الروايات، فأحياناً كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع اليدين مع السجود، فعلى ذلك إذا سجد وهو في الصلاة يكبر، وعليه الأئمة الأربعة كما ذكرنا، وإن شاء رفع اليدين، وإن كان الأغلب عدم رفع اليدين فيه، وأما في غير الصلاة هل يكبر أو لا يكبر؟ فيه خلاف؛ فذهب الإمام مالك رحمه الله وحده إلى أنه لا يكبر في غير الصلاة، فجاء عنه أنه قال: إذا كان في الصلاة كبر، واختلف عنه في غير الصلاة، يعني: البعض يروي عن مالك أنه يكبر، والبعض يروي عنه أنه لا يكبر. إذاً: إذا كان في الصلاة فالأئمة الأربعة على أنه يكبر إذا نزل لسجود التلاوة، ويكبر إذا رفع منها، وما هو دليلهم على التكبير؟ قالوا: إن كان في الصلاة فهذه هيئة من هيئات الصلاة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكبر في كل خفض في الصلاة ورفع، إلا ما استثني من الرفع في قوله: سمع الله لمن حمده، فليس تكبيراً، وعلى ذلك الأئمة الأربعة على أنه في الصلاة يفعل ذلك، أما ما جاء من حديث ابن عمر أنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا القرآن فإذا مر بالسجدة كبر وسجد وسجدنا معه) فهذا الحديث رواه الإمام أبو داود عن ابن عمر، والذي روى هذا الحديث اثنان من التابعين: أحدهما: عبد الله بن عمر العمري وهو ضعيف في حفظه، والآخر أخوه عبيد الله بن عمر العمري وهو ثقة، فـ عبيد الله لم يذكر (كبر)، وأخوه ذكرها، قال عبد الرزاق: كان الثوري يعجبه هذا الحديث، أي: يعجبه الحديث الذي فيه التكبير؛ لأن فيه التكبير، وإن كان راويه فيه ضعف في حفظه، قال أبو داود: كان يعجبه -يعني: الثوري - لأنه كبر. والحديث في سنده ضعف، ولكن يغني عن ذلك عموم حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر مع كل خفض ورفع)، وهذا صح عنه صلوات الله وسلامه عليه، فالحجة أنه كان صلى الله عليه وسلم يكبر مع كل خفض ورفع. إذاً: إذا كنت في الصلاة فكبر واسجد، وإذا كنت في غيرها فقياساً عليها أيضاً تكبر وتسجد، وتكبر وترفع إن كنت في الصلاة لحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر مع كل خفض ورفع).

أذكار سجود التلاوة

أذكار سجود التلاوة يقال في سجود التلاوة أذكار السجود في الصلاة: سبحان ربي الأعلى، ويقول: اللهم لك سجدت وبك آمنت وعليك توكلت، سجد وجهي للذي خلقه وصوره فأحسن صوره، وشق سمعه وبصره بحوله وقوته فتبارك الله أحسن الله الخالقين. إذاً: الأذكار التي يقولها في السجود يقولها أيضاً في سجود التلاوة. أيضاً: ثبت في حديث عند الترمذي وابن ماجة عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني رأيتني الليلة أصلي خلف شجرة، فقرأت السجدة -يعني: آية فيها سجدة- فسجدت، فسجدت الشجرة لسجودي) في هذه الرؤيا أن الرجل قرأ آية فيها سجدة فسجد، والشجرة أيضاً سجدت لسجود الرجل، فقال: (فسمعتها وهي تقول وهي ساجدة: اللهم اكتب لي بها عندك أجراً، وضع عني بها وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود). إذاً: الشجرة سجدت، وهذه رؤيا منامية رآها الرجل، وهي رؤيا حق، فقالت الشجرة في سجود التلاوة: (اللهم اكتب لي بها عندك أجراً، وضع عني بها وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود) قال الرجل: (فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم سجدة ثم سجد، قال ابن عباس: فسمعته يقول ما أخبره الرجل عن قول الشجرة)، فصارت سنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما ذكره الرجل عن الشجرة في المنام، فصارت سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه في سجود التلاوة يقال ذلك، والله أعلم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة السجدة (تابع) الآية [15]

تفسير سورة السجدة (تابع) الآية [15] يستحب للقارئ والمستمع لكتاب الله أن يسجد عند مواضع السجدات في القرآن العظيم، ولسجود التلاوة أحكام فصلها العلماء، ومن مواضع السجدات آية السجدة في سورة السجدة، فقد وصف الله بالإيمان من إذا ذكر بآيات الله سجد لله وسبح بحمده، وتراه يقوم الليل خوفاً من عذاب الله وطمعاً في جنته، فهؤلاء قد وعدهم الله عز وجل بما لا يخطر على قلوبهم من نعيم في الجنة.

أحكام سجود التلاوة

أحكام سجود التلاوة الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة السجدة: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:15 - 17]. آيات السجود في القرآن خمسة عشر آية، هذه الآيات ورد في بعضها الأمر بالسجود في ثلاث مواضع وفي باقي القرآن إشارة إلى السجود أو إخبار عن حال المؤمنين في سجودهم لله سبحانه وتعالى. وقد ذكرنا أن جمهور العلماء على أن هذه الآيات يستحب السجود عندها إذا سمعها الإنسان أو إذا قرأها القارئ سواء في الصلاة أو في غير الصلاة. فالذي يقرأ سواء كان في الصلاة أو في غير الصلاة يستحب له أن يسجد، والذي يستمع إذا قصد الاستماع فيسجد مع القارئ، وإذا كان في الصلاة وجب عليه أن يتابع الإمام في السجود. والسجود في غير الصلاة لابد أن يكون على طهارة، والذي يسمع الآية التي فيها سجدة لابد أن يكون على طهارة إذا أراد أن يسجد، وعلى ذلك جمهور أهل العلم. ويكبر إذا سجد، سواء في الصلاة أو في غير الصلاة على الراجح، ويجوز أن يرفع اليدين ويسجد، ويجوز عدم رفع اليدين في السجود، خاصة إذا كان في الصلاة؛ لأن سنة النبي صلى الله عليه وسلم في النزول إلى السجود عدم رفع اليدين إلا أحياناً كان يرفع اليدين، وهذا نزول إلى السجود، يعني: القارئ في الصلاة يقرأ آية السجدة وينزل إلى السجود، ويجوز أن يرفع اليدين، وإن كان الغالب من فعل النبي صلى الله عليه وسلم في نزوله إلى السجود أنه كان لا يرفع اليدين. وقد ذكرنا أذكار سجود التلاوة، وما كان يقوله النبي صلى الله عليه وسلم فيها، وذكرنا الذكر الذي سمعه الرجل من شجرة في رؤيا منامية، وذكره للنبي صلى الله عليه وسلم، وفيه: (اللهم اكتب لي بها عندك أجراً، وضع عني بها وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وتقبلها مني كما تقبلها من عبدك داود). فإن قيل: هل يستحب إذا كان في غير الصلاة أن يسلم بعد سجود التلاوة؟ ف A الراجح: أن هذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سلم فيه، فالذي في الصلاة سيسلم عند الانتهاء من صلاته، أما الذي في غير الصلاة فالمشابهة فقط في السجود، إذاً: يكبر ويسجد، ويكبر ويرفع، وليس فيها تسليم على الراجح.

حكم قراءة آية فيها سجدة في صلاة لا يجهر فيها

حكم قراءة آية فيها سجدة في صلاة لا يجهر فيها قراءة سورة السجدة في صلاة لا يجهر فيها، بعض أهل العلم كرهوا ذلك، كرهوا أن يقرأ الإمام سورة السجدة في صلاة الظهر أو في صلاة العصر؛ لأنه يربك المأمومين بذلك، والبعض الآخر رأى أنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فقد قرأ بسورة الانشقاق في صلاة الظهر صلوات الله وسلامه عليه. إذاً: يجوز للإمام أن يفعل ذلك ولكن لا يربك الناس، فلو أراد قراءة سورة فيها سجدة فلينبه الناس قبل الصلاة أنه سيقرأ هذه السورة وفيها سجدة وأنه سيسجد فيها مثلاً، أو أنه إذا وصل إلى هذه الآية فليرفع صوته حتى يسمع الناس وراءه أنه قرأ آية فيها سجدة وليسجد بعد تنبيههم أنه يسجد لسجود التلاوة. ولو فرضنا أنه لم يفعل ذلك جاز له، ولو أن الناس لم يدروا أن الإمام سجد سجود تلاوة، بل ظنوا أنه غلط الإمام، فعلى ذلك لو أنهم لم يتابعوه فلا شيء عليهم، أو أنهم ظنوا أن الإمام أخطأ فنزل إلى السجود بدلاً من الركوع فلا شيء عليهم في ذلك، هذه بعض الأحكام التي تتعلق بسجود التلاوة.

حكم الذي يقرأ آية السجدة وهو في سفر

حكم الذي يقرأ آية السجدة وهو في سفر إذا كان الإنسان في سفر، وقرأ آية فيها سجدة فله أن يومئ بالسجود، وإذا قرأ في المصحف آية فيها سجدة، فله أن يكبر وينحني بالركوع، ولا يلزم عليه أن ينزل على الأرض للسجود، وإذا فعل الركوع حسن، وإذا لم يفعل وأومأ بالسجود جاز له ذلك.

كراهة جمع آيات السجود واختصارها بسجدة واحدة

كراهة جمع آيات السجود واختصارها بسجدة واحدة يذكر العلماء أنه يكره اختصار السجود يعني: جمع الآيات التي فيها سجود، ويقرؤها كلها ويسجد فيها، قالوا: لم يفعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان يسجد إذا مر بسجدة التلاوة أثناء قراءة السورة، لكن أن يتعمد جمع ذلك بسجدة واحدة فهذا لم يفعله صلى الله عليه وسلم.

حكمة قراءة سورة السجدة فجر يوم الجمعة

حكمة قراءة سورة السجدة فجر يوم الجمعة في فجر الجمعة يستحب قراءة سورة السجدة، ولكن ليس قراءة سورة السجدة لأن فيها سجدة، بل كان يقرؤها النبي صلى الله عليه وسلم للتذكير بما في هذه السورة، فهي تشير إلى خلق آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وإلى نزول آدم إلى هذه الدنيا، وإلى ما فعله الشيطان بالإنسان، وفيها الإشارة إلى اليوم الآخر، وفيها إشارة إلى الجنة وإلى النار، وهذا كله في يوم الجمعة، خلق آدم فيها، ونفخ فيه الروح فيها، وأنزله من الجنة فيها، والبعث يكون يوم القيامة، والفناء لهذه الدنيا يوم القيامة يكون في يوم الجمعة، فهذا اليوم تقرأ فيه سورة السجدة للتذكير بيوم القيامة، والتذكير ببدء الخلق، وليس لكونها فيها سجدة، فالبعض في يوم الجمعة إذا لم يكن حافظاً لسورة السجدة يتعمد قراءة سورة أخرى فيها سجدة حتى يسجد فيها ظناً منه أنه أتى بالسنة، مع أنه لم يأت بالسنة بذلك، فإما أن يقرأ سورة السجدة وإما أن يقرأ غيرها من السور إذا كان لا يحفظها، ولكن لا يلزمه أن يقرأ آية فيها سجدة في يوم الجمعة. أيضاً يستحب للإمام إذا ظن أن الناس يتوهمون أن قراءة سورة السجدة واجبة في يوم الجمعة أن لا يقرأها أحياناً، إذا كان الناس لا يعرفون الحكم الشرعي، ويظنون أن قراءة سورة السجدة فرض يوم الجمعة، فهي ليست فرضاً وإنما هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا توهم الناس أنها فرض فيستحب له أنه لا يقرأ بها أحياناً؛ حتى لا يظن الناس أن هذا السجود فريضة في يوم الجمعة.

حكم سجدة التلاوة

حكم سجدة التلاوة سجود التلاوة ليس فرضاً، وإن كان عند الإمام أبي حنيفة رحمه الله واجب على قاعدته في التفريق بين الفرض والواجب، فهو يحتج بقول الله عز وجل: {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق:20 - 21]، فيقول: هذه الآية حجة في وجوب السجود للتلاوة. لكن جمهور العلماء يجيبون عن ذلك: بأن الله عز وجل ذم هؤلاء على ترك السجود؛ لأنهم لا يعتقدون فضله؛ لأنهم كفار، ولا يسجدون لله سبحانه تبارك وتعالى، ولا يعتقدون فضل ذلك، فذمهم على ذلك بقوله تعالى:: {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ * وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} [الانشقاق:20 - 23]. فهذه الآية في الكفار الذين لا يعتقدون فضل ذلك، لكن المؤمنين يقتدون بالنبي صلى الله عليه وسلم، فهو قد سجد وترك صلوات الله وسلامه عليه، وجاء عن عمر رضي الله عنه: أنه قرأ سورة النحل على المنبر، وأتى على السجدة ونزل فسجد فيها، وفي جمعة أخرى أتى على السجدة ولم ينزل ليسجد فيها. يسن السجود للتالي وللمستمع، وهناك فرق بين المستمع والسامع، المستمع: الذي جلس للاستماع، والسامع: الذي مر فسمع، ولم يجلس للاستماع، فالذي يقرأ والذي يجلس للاستماع يسن لهما السجود، والذي لم يقصد السماع لا يلزمه ذلك، كما قدمنا عن عثمان وعن ابن عباس وعن عمران بن حصين رضي الله عنهم. فالإنسان الذي يسمع الآيات التي فيها سجدة يسجد، ولا يغني الركوع عن السجود في غير الصلاة عند جماهير أهل العلم، فإما أن يسجد وإما أن يترك، لكن لا يركع بدلاً من السجود، فإن كان في الصلاة وقرأ السجدة وكان في آخر تلاوته، كأن يقرأ في سورة النجم مثلاً ووصل إلى قوله تعالى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم:62]، فإنه يجوز للإمام أن يكبر ويسجد، وبالتالي المأمومون معه يسجدون، ويجوز له أن يكتفي بالركوع؛ لأن السجود يكون بعده، وهذا ما عليه جمهور العلماء فيجوز له أنه يكبر ويركع، ويجوز له أن ينزل فيسجد، فإذا سجد ثم قام بعد ذلك فليقرأ آية ثم يركع للاستحباب، فلو أنه قام ولم يقرأ شيئاً ثم وقف ثم كبر وركع جاز له ذلك. وينبغي للمأموم أن يتابع الإمام وأن ينظر إلى الإمام هل سيسجد أم لا؟ حتى لا تحصل مخالفة بين المأموم والإمام. ولو فرضنا أنه حدث ذلك فلينبه المأموم بقول: سبحان الله ونحو ذلك، حتى يرجع المأموم ويدرك الإمام في ركوعه.

حكم سجود التلاوة في أوقات الكراهة

حكم سجود التلاوة في أوقات الكراهة حكم سجود التلاوة حكم صلاة النافلة، فإذا كان في أوقات تحريم صلاة النافلة فلا يسجد، وأوقات التحريم الثلاث، هي عند طلوع الشمس؛ لأنها تطلع بين قرني شيطان، وعند غروب الشمس؛ لأنها تغرب بين قرني شيطان، وكذلك قبيل الظهر بدقيقة أو دقيقتين، هذه أوقات تحرم فيها الصلاة لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة النافلة فيها؛ ولا يجوز تأخير الفريضة إليها. وإذا قرأ آية سجدة في هذه الأوقات فلا يسجد، لكن إذا كان في غيرها من الأوقات فله أن يسجد حتى ولو كان في أوقات كراهة الابتداء بالنافلة؛ لأن هذه الأوقات يجوز فيها صلاة ما له سبب، فإذا دخل الإنسان المسجد مثلاً بعد صلاة الفجر، فله أن يصلي تحية المسجد؛ لأنها صلاة سبب، فما له سبب من صلوات له أن يصليها. كذلك سجود التلاوة فهو سجود له سبب، فإذا صلى الفجر وجلس يقرأ القرآن ما لم يدخل في وقت التحريم، له أنه يسجد للتلاوة وله أن يترك سجود التلاوة، كذلك إذا صلى صلاة العصر وجلس يقرأ القرآن فمر بآية فيها سجدة تلاوة يجوز له أنه يسجد، ويجوز له أن لا يسجد، لكن إذا كان وقت التحريم وهو دقائق قليلة، فلا يجوز له أن يصلي فيه نافلة ولا أن يسجد سجود تلاوة، أما وقت الكراهة فوقته ممتد من العصر إلى غروب الشمس ومن بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس. ووقت التحريم أقل من ربع ساعة من وقت طلوع الشمس إلى أن ترتفع الشمس، فهذا تحرم الصلاة فيه، فلا يصلي فيه نافلة ولا يسجد فيه للتلاوة، وقبيل الظهر بمقدار ركعة قبل صلاة الظهر، هذا الوقت لا يصلي فيه نافلة؛ لأنه تسجر فيه جهنم، يقول عقبة بن عامر: (كان ينهانا صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن وأن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس، وحين تضيف للغروب، وحين يستقل الظل بالرمح) وهذه ثلاث أوقات قليلة لا يُصَلَّي فيها نافلة، وأيضاً لا يسجد فيها للتلاوة.

تفسير قوله تعالى: (إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها)

تفسير قوله تعالى: (إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها) قال الله عز وجل عن المؤمنين: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [السجدة:15] يعني: نزلوا على رءوسهم ساجدين على جباههم لله عز وجل، مسبحين الله سبحانه، حامدين له سبحانه. وقوله تعالى: {وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة:15] أي: وهم لا يستكبرون عن الطاعة ولا يستكبرون عن عبادته سبحانه وتعالى، كما استكبر أهل الكفر. قوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16] أي: ترتفع وتنبو عن المضاجع، وتتنحى جنوبهم عن المضاجع، يقومون لصلاة الليل، ولا ينامون نوماً طويلاً فيضيعون الصلاة. وهم {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة:16] يعني: في كل وقت يدعون الله خوفاً من الله، وطمعاً فيما عند الله من فضل ورحمة سبحانه وتعالى. قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:16]، فجمعوا العبادات البدنية والعبادات المالية، فهم يذكرون الله سبحانه وتعالى، وهم يقومون لله مصلين عابدين، وهم ينفقون لله سبحانه مما رزقهم.

تفسير قوله تعالى: (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين)

تفسير قوله تعالى: (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين) من الأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل قيام الليل حديث سهل بن سعد الساعدي قال: شهدت من رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلساً وصف فيه الجنة حتى انتهى ثم قال صلى الله عليه وسلم في آخر حديثه: (فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ثم قرأ هذه الآية: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:16 - 17]) رواه الإمام مسلم في صحيحه. فقوله تعالى: ((فلا تعلم نفس)) كل النفوس وأي نفس من النفوس مهما بلغت من العلم لا تعلم ما الذي ادخره الله عز وجل من ثواب عظيم جدير لعباده المؤمنين، ففي الحديث: (في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، إذاً: فيها: جمال عظيم، وفيها نعيم مقيم، والعين مهما رأت من نعيم في الدنيا فإنه لا يقارن بما في الجنة. وقوله صلى الله عليه وسلم: (ولا أذن سمعت) من أصوات جميلة، وموسيقى طيبة، ومن أشياء يسمعونها وينعمون بها، والله سبحانه وتعالى يفككهم بها في الجنة، لم يسمعوا قبل ذلك مثلها، وهذا يجعل الإنسان المؤمن يصبر على هذه الدنيا، ويصبر على أمر الله، ويصبر عما نهى الله عز وجل عنه، وهو يريد من الله سبحانه هذا الفضل العظيم، فيترك الدنيا لنعيم الجنة. وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا حسد إلا في اثنتين)، نهينا عن الحسد، ولكن يجوز الحسد وليس بمعنى الحسد الحقيقي، ولكن بمعنى الغبطة، يغبط الإنسان صاحبه، والحسد معناه: تمني زوال النعمة من الغير، لكن المقصود هنا: تمني أن يكون لي مثل ما لهذا الإنسان، قال: (رجل آتاه الله الكتاب، وقام به آناء الليل والنهار)، يعني: رجل علمه الله سبحانه وحفظه القرآن فقام يصلي بالليل، فيتمنى الإنسان أن يكون مثله، ويحاول أن يقلده في ذلك، والآخر: (رجل أعطاه الله مالاً فهو يتصدق به آناء الليل والنهار)، فيقول المسلم: يا ليت لي مثل فلان، وأنا أعمل مثل فلان، فيؤجر مثل عمل هذا الآخر. أيضاً مما جاء في الحث على قيام الليل: حديث رواه البخاري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرق الباب عليه وعلى فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم ليلاً، والله عز وجل أمر النبي صلى الله عليه وسلم: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه:132]، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتعاهد أهله عليه الصلاة والسلام بالصلاة وخاصة قيام الليل، وهم لا يتركون الفرائض، ولكن قيام الليل قد يكسل الإنسان عنه، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم لبيت ابنته فاطمة رضي الله عنها وعلي بن أبي طالب زوجها رضي الله عنه، فطرق الباب ثم قال: (ألا تصليان؟ وقام علي بن أبي طالب من النوم فقال: يا رسول الله! أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم الآية من سورة الكهف: {وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف:54])، وكان هذا تأديباً لـ علي بن أبي طالب أي: لا ترم كسلك على تقدير الله سبحانه وتعالى، وتقول: ربنا لو أراد أن نقوم لقمنا، كما أن كثيراً من الناس يقول لك: لو أراد الله أن نصلي لصلينا، فنقول له: اذهب وصلَّ، وانظر هل يمنعك من الصلاة أم لا؟ إذاً: لا تعلق الأمر على قضاء الله وقدره سبحانه، ولكن افعل ذلك، فالإنسان المؤمن يأخذ بالأسباب ليقوم الليل، وفرق بين إنسان يضبط المنبه ليقوم قبل الفجر ويصلي ركعتين، وبين إنسان أطفأ المنبه قبل أن ينام، ويقول: لو أراد الله أن أقوم لقمت! لا يستويان أبداً، فلو أن هذا الإنسان الذي أخذ بالأسباب، نام ولم يقم الليل، ولا حتى صلاة الفجر، وقام بعد الشروق فهذا مأجور، له أجر قيام الليل، وأجر صلاة الفجر؛ لأنه معتاد على ذلك، وتصدق الله عز وجل عليه بنومه ذلك، وأما الآخر لم يأخذ بالأسباب فضيع وفرط بتقصيره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ علي رضي الله عنه: {وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف:54]. والمعنى الآخر الذي ذكرناه في سنن أبي داود عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من امرئ تكون له صلاة بليل يغلبه عليها نوم، إلا كتب له أجر صلاته، وكان نومه عليه صدقة)، وهذا فضل من الله الكريم سبحانه وتعالى. نسأل الله من فضله العظيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة السجدة الآية [16]

تفسير سورة السجدة الآية [16] ذكر الله تعالى في هذه الآية أن من صفات المؤمنين أنهم يتركون أماكن النوم والراحة ويقومون الليل لله تعالى فيتهجدون ويذكرون الله تعالى، ويدعون ربهم خوفاً وطمعاً، وينفقون مما رزقهم الله تعالى. وقيام الليل سلاح المؤمن، وفوائده كثيرة ومنافعه عظيمة عاجلاً وآجلاً، ويسن للمؤمن أن يوقظ زوجته وأهله من أجل أن يقيموا الليل، ويكون لهم في ذلك الأجر العظيم عند الله تعالى، والمؤمن إذا صدق مع الله في قيامه بالليل فإن صلاته ستنهاه عن الفحشاء والمنكر.

تفسير قوله تعالى: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع)

تفسير قوله تعالى: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة السجدة: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:15 - 16]. مدح الله سبحانه تبارك وتعالى المؤمنين لأنهم يقبلون على ذكر الله سبحانه، ويخرون لله سجداً، ويسبحون بحمد ربهم وهم لا يستكبرون. كذلك {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16] أي: لا ينامون الليل كله ولكن يقسمونه أجزاء فينامون ويستريحون في جزء من الليل، ويقومون لله سبحانه في جزء آخر، فيصلون ويذكرون الله، ويطلبون العلم، فهم في قيامهم الليل في ذكر وفي فقه وفي علم وفي تعلم وفي خشية لله، وفي قراءة القرآن وسماعه وغير ذلك. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث في هذا المعنى، منها ما رواه الإمام البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام، وأحب الصيام إلى الله صيام داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، ويصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان لا يفر إذا لاقى عليه الصلاة والسلام). فأحب الصلاة إلى الله سبحانه صلاة داود، فكان يقسم ليله فنصفه ينام فيه فيستريح ثم يقوم ثلث الليل ثم ينام سدس الليل، فقسم الليل أسداساً فثلثين من الليل للنوم وثلث لقيام الليل. والمؤمن يقتدي بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وبفعل أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام، فنبي الله داود كان ينام ثم يقوم الليل ثم ينام، والنبي صلى الله عليه وسلم يخبر عن حاله أنه كان يقوم الليل وينام فيه عليه الصلاة والسلام، وأخبر عن رجل نام حتى أصبح، أي: نام الليل كله من أوله إلى آخره حتى جاء وقت صلاة الصبح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه). والشيطان لا يترك الإنسان أبداً، فيأتيه عند النوم ويعقد على قافيته كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد) وفي رواية أخرى: أنه يأتي بجرير وهو حبل فيعقده الشيطان على رأس الإنسان عند النوم ويعقد ثلاث عقد، ولذلك يتعلم السحرة من الشيطان هذا الشيء، {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:4] يعقدون الخيط وينفثون فيه بكلام يقولونه حتى يغووا خلق الله سبحانه تبارك وتعالى. فالمؤمن إذا نام جاء الشيطان عند رأسه فعقد على رأسه عند قفاه ثلاث عقد يضرب على كل عقدة ويقول: عليك ليل طويل فارقد، فيوهم الإنسان أن ما زال الليل أمامه طويلاً فينام، فكلما أراد أن يستيقظ ليصلي أو يذكر الله عز وجل قال له الشيطان: مازال الليل طويلاً، فينام حتى تطلع الشمس وضاع عليه الليل فلا قام الليل ولا صلى الصبح. فالشيطان يضحك على هذا الإنسان ويستهزئ به حتى أنه يبول في أذنيه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم يعرف ما لا نعرف، ويرى ما لا نرى صلوات الله وسلامه عليه. ولو قيل لإنسان: إن إنساناً يبول في أذنك لأنف عن ذلك وتغيظ وعادى هذا الذي يفعل ذلك، فكيف بهذا الشيطان الذي يتوعد الإنسان أنه سيبول داخل أذنيه، ومن يرضى لنفسه أن يستهين به الشيطان ويضحك عليه، ويسخر منه ويبول في أذنيه، فهذا الذي ينام الليل كله ويضيع ليله في النوم، والذي يضيع ليله سهران يتفرج على التلفزيون وعلى الدش وعلى كذا، فيا ترى ماذا سيعمل الشيطان بهذا الإنسان؟ وإذا كان الشيطان سخر من الذي لم يقم يصلي بالليل واستهان به واحتقره فتبول في أذنيه، فكيف بمن يقضي الليل في معصية الله سبحانه تبارك وتعالى، ويجلس يتفرج على الحرام، ويضيع وقته في الحرام ولا يذكر الله سبحانه تبارك وتعالى؟! لذلك الإنسان المؤمن علم من القرآن {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6] والشيطان يدعو أصحابه من بني آدم لكي يدخلوا النار؛ لأن آدم هو السبب في إخراج الشيطان من الجنة، وهو السبب في أنه لن يدخلها؛ لأن الشيطان لم يرض أن يسجد له، وعلى ذلك توعد الشيطان بني آدم كما قال تعالى عنه: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82]، وقال: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} [سبأ:20] أي: ظن إبليس ظناً وصدقه على أوليائه وعلى أتباعه، فإذا بهم يطيعون الشيطان، ويبتعدون عن طاعة الله، فيثقل عليهم أن يقوم أحدهم فيصلي ركعتين من الليل، ولو أنه قام في مكان لغير الصلاة، أو مشى ليلاً على البحر أو كان يلعب فإنه يمكنه هذا الشيء، لكن أن يصلي ركعتين فهذا ثقيل عليه، وقد يسهر الليل في ضحك وفي لهو أما أن يصلي لله عز وجل فهذا لا يمكن، والإنسان إذا أراد أن يصلي يأتي إليه الشيطان ويجعله يتعب من صلاته ويمل منها ويسرح فيها، بل يريد أن يخرج منها مباشرة، مع أن صلاة الليل من أجمل ما يكون من الصلاة، قال تعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:6]. فعلم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وحثهم على أن يقوموا من الليل، ولذلك جاءت أحاديث عنه صلوات الله وسلامه عليه فيها الحث على ذلك، منها هذا الحديث الذي يخبر أن الشيطان يقعد لكم بالمرصاد ويفعل ذلك. ويزيل المؤمن عن نفسه عقد هذا الشيطان بالعمل بقوله صلى الله عليه وسلم: (فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة) والإنسان أول ما يقوم بالليل فإنه يضبط المنبه على أن يقوم قبل الفجر بساعة أو بنصف ساعة أو أكثر أو أقل، فأول ما يسمع المنبه لا يطفئه ويكمل نومه، ولكن يستيقظ من نومه ويذكر الله سبحانه تبارك وتعالى، فيقول: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور، الحمد لله الذي عافاني في بدني، ورد علي روحي، وأذن لي بذكره. فيقوم ويجلس ويذكر الله ثم يتوجه فيتوضأ ليصلي لله سبحانه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقده أو عقدة فأصبح نشيطاً طيب النفس) الذي قام فصلى من الليل شيئاً وصلى الفجر يصبح نشيطاً طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان.

حديث: (لا تكن مثل فلان كان يقوم من الليل فترك قيام الليل)

حديث: (لا تكن مثل فلان كان يقوم من الليل فترك قيام الليل) من الأحاديث حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في الصحيحين أيضاً أنه قال: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عبد الله! لا تكن مثل فلان كان يقوم من الليل فترك قيام الليل). وجاء في حديث آخر لـ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه رأى رؤيا كأن النار أمامه، وكأنها بئر والبئر بعيدة عنه وجاء رجلان فأخذاه ولما وصلا به عند هذه البئر وجد من يمنعه عنها وقيل له: إنه ليس من أهلها، ووجدها مطوية ومقفولة فأصبح وقص الرؤيا على أخته فقصتها على النبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل) يعني: كأنه لم يكن يقوم من الليل في ذلك الوقت، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم الليل) أي: لم يكن يحصل له هذا الشيء الذي كان في الرؤيا وهو دخول النار فإنه بعيد عنها، فكان عبد الله رضي الله عنه لا ينام من الليل إلا قليلاً بعدما قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. فـ عبد الله بن عمرو قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تكن مثل فلان) وهذا من أدب الراوي أنه لم يذكره، ولعل فلاناً هذا قد تاب بعد ذلك، أو لعله كان لا يقوم من الليل ولم يفضحه الراوي الذي حدثهم عنه وهو عبد الله بن عمرو، ولعله النبي صلى الله عليه وسلم قال: فلان وذكره هكذا، ولعل النبي صلى الله عليه وسلم ذكره باسمه حتى يقال له: قال عنك النبي صلى الله عليه وسلم كذا، فيرجع ثانية إلى قيام الليل، فالغرض أن قيام الليل جاءت أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحث عليه.

صلاة الليل تنهى عن المعاصي

صلاة الليل تنهى عن المعاصي جاء في حديث رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أبي هريرة (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن فلاناً يصلي بالليل فإذا أصبح سرق) أي: يمد يده على حاجة فيأخذها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه سينهاه ما يقول)، والمعنى أن هذه الصلاة ستحدث في قلبه توبة وينتهي عن هذا الشيء. فالنبي صلى الله عليه وسلم يخبر أنه لا يمكن أبداً لإنسان يقوم الليل ويكون صادقاً في ذلك حتى لو كانت من عادته أنه يفعل شيئاً من المعاصي فإذا قام الليل قياماً صادقاً فإنه سيمنعه القيام من هذه المعصية التي هو فيها، وقد جاء في القرآن قول الله عز وجل: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] فإذا صدق الإنسان في صلاته أعانته على البعد عن معصية الله، لذلك الكثير من الشباب يشكو ويقول: أنا أعاهد ربنا أني أغض البصر، ويرجع مرة أخرى للنظر إلى ما حرم الله، أو أعاهد ربنا أني لا أشرب السجارة ويعود مرة ثانية ويشربها! فنقول له: قم الليل، واصدق مع الله سبحانه في صلاتك تمنعك عن هذا، ولكن ليكن عندك العزيمة الصادقة التي لا تعلق المعصية على القضاء والقدر، كأن تقول: لو هداني الله سأبطل السجاير، أو سأكون أفعل كذا، ولكن قم وادع ربك سبحانه، واعزم على هذا الشيء، فتجد صلاتك هذه تنهاك عن الفحشاء والمنكر. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

حديث: (إن في الجنة لغرفا يرى ظهورها من بطونها)

حديث: (إن في الجنة لغرفاً يرى ظهورها من بطونها) من الأحاديث العظيمة عنه صلوات الله وسلامه عليه حديث رواه الترمذي عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة لغرفاً يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها) الغرف جمع، والغرفة معناها الموضع العالي، وأشرف المواضع في البيت يسمى الغرفة، فالجنات العالية فيها غرف، وعرفنا من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم أن الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة، فليست من الطوب الذي عندنا، ولكن الحجارة التي في الجنة من اللؤلؤ والياقوت والذهب والفضة. ومع كونها من ذلك فقد بلغ النقاء في هذه الأشياء التي بنيت منها هذه الغرف أن صاحب الغرفة يرى ما بداخلها من خارجها، ويرى ما بخارجها من داخلها، فهي غرف عظيمة طيبة، فالأعرابي لما سمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم قام إليه فقال: يا رسول الله! لمن هي يا رسول الله؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هي لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى لله بالليل والناس نيام) أي: أربع خصال إن فعلتها وعودت نفسك عليها كانت لك هذه الغرف العظيمة الطيبة سواء للرجال وللنساء. قال صلى الله عليه وسلم: (هي لمن أطاب الكلام) والمعنى: أن كلامه طيب، وأسلوبه جميل في الكلام، وخلقه عظيم، فهو يتشبه بالنبي صلوات الله وسلامه عليه، وليس هو إنساناً نفوراً أو إنساناً يرفع صوته على الناس أو بذيء اللسان شتاماً سباباً، ومن صفات عباد الرحمن: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]، فالجاهل يؤذيه في الكلام، ومع ذلك فهذا العبد الصالح يرد عليه بطيب الكلام. وقوله صلى الله عليه وسلم: (وأطعم الطعام) يعني: أكثر من الصدقة والهدية، فيطعم الضيف والفقير والمحتاج ويعطي للجار. وقوله صلى الله عليه وسلم: (وأدام الصيام) أي: صام الشهر الذي فرضه الله سبحانه وأكثر من الصيام في غيره. وقوله صلى الله عليه وسلم: (وصلى لله بالليل والناس نيام) إذا كان الناس يقظى فإن الإنسان قد يصلي مثلما يحصل في رمضان في صلاة القيام، فإن الناس يشجع بعضهم بعضاً، فإذا رأى إنسان إنساناً يصلي فإنه يصلي معه غيرة منه، فهذا شيء طيب أن الإنسان يغار في الخير، ولكن أفضل من ذلك أن يقوم بالليل وحده لا يراه أحد من الناس. الإنسان وهو في بيته إذا قام بالليل والناس نائمون ومع ذلك لم يقل: أنه مثل الناس فينام مثلهم، ولكن قام لله عز وجل فصلى والناس نيام واستمتع بذلك؛ فهذا من أهل هذه الغرف التي يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها.

فوائد صلاة الليل

فوائد صلاة الليل صلاة الليل تنير قلب المؤمن، وتنير وجهه، وتجعل المؤمن محباً للخير، محباً للطاعة، والذي صلى من الليل وصلى الفجر في جماعة أصبح وقد حفظه الله وحرسه الله سبحانه، فهو في حفظ الله سبحانه وفي كلئه، ويتوعد ربنا سبحانه من يؤذي الذي يصلي الفجر؛ لأنه في حفظ الله سبحانه، ويتوعد من يعاديه ومن يؤذيه؛ لأنه صلى لله عز وجل الفجر فكان في حفظ الله سبحانه تبارك وتعالى فيصبح طيب النفس. وإذا ضيع صلاة الليل وضيع صلاة الفجر وكانت عادته ذلك فإنه يصبح خبيث النفس كسلان، ويقوم من النوم ويريد أن ينام مرة أخرى، ولا يريد أن يشتغل، لأنه تعبان ومتضايق، ولا يريد أن يكلم أحداً ويقوم من النوم ثم يمشي ولا يسلم على أحد، ولا حتى يرد عليه السلام، ولو أنه قام لله عز وجل بالليل ثم صلى الفجر لجعل الله عز وجل نفسه راضية طيبة، ووجهه منيراً من صلاته، ويجعل الله عز وجل عليه الرضا وفيه الرضا، وتجده طيب النفس، والإنسان الذي لا يفعل ذلك تجد منه التكشير والعبوس والبعد والنفور، وهذا نتيجة للكابوس الذي كان عليه طول الليل في نومه وبعده عن ربه سبحانه تبارك وتعالى. قال صلى الله عليه وسلم: (فإن صلى انحلت عقدة فأصبح نشيطاً طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان).

فضل الرجل إذا أيقظ أهله من الليل فصليا ركعتين

فضل الرجل إذا أيقظ أهله من الليل فصليا ركعتين من الأحاديث العظيمة التي جاءت عنه صلوات الله وسلامه عليه ما رواه أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته). فصلاة الليل ليست مقصورة على واحد من البيت هو الذي يقوم الليل، ولكن يقوم الليل ويدعو زوجته أن تصلي ولو في آخر الليل، ولو أن تصلي ركعتين من آخر الليل، وبعد ذلك يرددان الأذان ثم يصليا صلاة الفجر فيكسبا الأجرين بذلك. ويدعو النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل ويدعو لامرأته، فيقول: (رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء) يعني احتال حيلة لكي يصحي زوجته، ونضح بمعنى رش، ولم يأت بماء وصبه عليها، والنضح بمعنى رش الماء اليسير بحيث يعينها على أن تقوم لتصلي، ودعا للمرأة أيضاً فقال: (ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فإن أبى نضحت في وجهه الماء) إذاً: البيت فيه تعاون بين الرجل وبين المرأة على قيام الليل، وعلى ذكر الله سبحانه وعلى حبه، فهل يدخل الشيطان بيتاً مثل هذا؟ وهل يكون في هذا البيت من وساوس ومن بعد عن الله سبحانه؟ A لا، طالما الرجل يخاف الله ويحب الله والمرأة كذلك، فتجد البيت بيتاً طيباً، والكل يحرص على العبادة، والكل يحرص على أن يقوم لله سبحانه تبارك وتعالى بالليل. أما فضل ذلك فقد روى أبو داود أيضاً عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصليا أو صلى ركعتين جميعاً كتبا في الذاكرين والذاكرات). وقال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:35]، فانظر للترقي فبدأ بالمسلمين، فالإسلام اشترك فيه الجميع، ثم يرقى درجة وراء درجة، وأعلى درجة يصل فيها الإنسان أن يكون من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، فهؤلاء الذين أتوا بكل الطاعات يجعلهم الله من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، وطاعة الله سبحانه منها قيام الليل، أن يقوم الرجل ويوقظ امرأته فيصليا، فذكر في الحديث صلوات الله وسلامه عليه أنهما صليا ركعتين جميعاً، ركعتين ركعتين، حتى لو أن الرجل أم بامرأته فقرأ بها الفاتحة وقل هو الله أحد في ركعتين اثنين، فهذا من أقل ما يفعله المسلم مع زوجته، وكتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، ومع المداومة والمواظبة على ذلك تصير عادة للإنسان ويحب هذا الشيء. وقوله صلى الله عليه وسلم: (فصليا أو صلى) أي: سواء أن كل واحد منهما صلى لوحده أو هما الاثنان صليا معاً، فيكتبان من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات الذين أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً.

تفسير سورة السجدة [16 - 22]

تفسير سورة السجدة [16 - 22] إن المؤمنين الصالحين لا يستوون مع الفاسقين الظالمين، فلكل فريق جزاء، فجزاء المؤمنين الصالحين الجنة، وجزاء الفاسقين الظالمين النار، والكافر له عذابان: عذابٌ في الدنيا، وعذاب في القبر ويوم القيامة.

تفسير قوله تعالى: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع)

تفسير قوله تعالى: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة السجدة: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:16 - 19]. يذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات وما قبلها صفات المؤمنين الصالحين الذين يؤمنون بآيات الله سبحانه ويقبلون عليها خاشعين متدبرين، ويخرون لله سبحانه سجداً مسبحين بحمده، لا يستكبرون عن عبادته، قال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16]، فيقومون لله عز وجل ليلاً طويلاً يصلون، أو بحسب ما يقدرون عليه. قال تعالى: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة:16]، يعني: في جميع أحوالهم يدعون الله سبحانه وتعالى وليس في الصلاة فقط، ولكن الدعاء في اليوم كله ما استطاعوا، فيدعون الله سبحانه، ويسألونه من فضله، ويتعوذون به من عذابه، ويدعون ربهم خوفاً من ناره، ومن أن يحرموا من جنته سبحانه، وطمعاً في فضله وفي كرمه وفي رحمته وفي رضوانه، وينفقون لله سبحانه وتعالى من أموالهم ومما رزقهم الله، فالفضل من الله أولاً وآخراً، هو الذي أعطى الإنسان المال وأعطاه الصحة وأعطاه حياته، فهو الذي أعطاه من فضله ومن كرمه سبحانه، وهو الذي هداه ووفقه، فهم ينفقون مما رزقهم الله، ومما تفضل به عليهم، ولم يبخلوا وقد علموا أن المال مال الله سبحانه، والرزق رزقه سبحانه، وأن المال لا تنقصه الصدقة أبداً، فهم مما رزقهم الله عز وجل ينفقون، قال تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:16]. وفي هذه الآية إشارة إلى أن المال ليس مال العبد، وإنما هو رزق الله سبحانه، وفيه أيضاً أن الإنسان ينفق من القليل ومن الكثير، (مما) أي: من كل ما أعطاهم الله سبحانه، أعطاهم شيئاً يسيراً، أو آتاهم شيئاً كثيراً، فهم مما أعطاهم ينفقون، فيخرجون زكاة أموالهم، وينفقون النفقة الواجبة عليهم، ويتصدقون من أموالهم، فيزيد الله عز وجل لهم أموالهم، فلا ينقص مال من صدقة أبداً.

تفسير قوله تعالى: (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين)

تفسير قوله تعالى: (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين) هؤلاء جزاؤهم عند الله جزاء عظيم، ولا يتخيل الإنسان عظمة هذا الثواب وفضل الله سبحانه وتعالى في ذلك، فلا تعلم نفس مهما أوتيت من علم: {مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]. قراءة الجمهور: {مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}، وقراءة حمزة والكسائي ويعقوب: ((مَا أَخْفَي)). على الماضي، والأولى على المبني للمجهول، أي: ما قد أخفي لهم، فبنى الفعل للمجهول، والمعنى: تعظيم هذا الشيء الذي قد أخفي لهم، والذي أخفاه هو الله سبحانه الذي خلقه، فقد أخفى عنهم ذلك ليعملوا بالغيب وللغيب، فهذا غيب الثواب، والجنة غيب، والنار غيب، فالإنسان يعبد ربه وهو مستيقن بهذا الغيب، ومستيقن بثواب الله سبحانه، فيستحق هذا الثواب الذي أخفاه الله سبحانه وآمن به العبد، فهؤلاء يؤمنون بالغيب، ويؤمنون بالجنة ولم يروها، ويخافون من النار ولم يروها، فلذلك استحقوا هذا الثواب من الله سبحانه وتعالى. والقراءة الأخرى: (مَا أُخْفِيَ لَهُمْ) أي: ما أخفيه على الفعل المضارع، أي: الذي أخفيه لهؤلاء من الثواب العظيم عندي. وقوله تعالى: {مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}، أي: مما تقر به أعينهم وتستقر وتفرح وتطمئن به، وتطمئن القلوب من قرة الأعين، فداخل الجنة يكون قرير العين، يعني: فرحان في غاية الفرح، يقال لهم: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32]، فهم في جنة يحبرون، ينعمون، ويسرون، وقال تعالى في سورة يس: {فَاكِهُونَ} [يس:55]، فرحون مسرورون، لا أحزان في الجنة، ولا خوف فيها، قال تعالى: {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:38]. هذا الجزاء من الله بسبب ما كانوا يعملون، بسبب العمل الذي عملوه في الدنيا، إذ عاشوا في الدنيا يعبدون الله سبحانه بالمعنى الأعم للعبادة، بصلاة، وصيام، وزكاة، وحج، وأمر بالمعروف، ونهي عن منكر، وجهاد في سبيله سبحانه، فهم يعبدون الله بأعمالهم وتقواهم، ويتقنون أعمالهم ويتقربون بها إلى الله سبحانه بكل ما فرضه الله عز وجل عليهم وحثهم عليه، واستحبه منهم، فهم يفعلون ما يرضي ربهم سبحانه، فجازاهم الله بالجنة، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها. وفي الحديث: قال الله عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (واقرؤوا إن شئتم: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16]، إلى قوله سبحانه: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]). أيضاً جاء في صحيح مسلم عن المغيرة بن شعبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (سأل موسى عليه السلام ربه فقال: يا رب! ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ فقال الله عز وجل: هو رجل يأتي بعد ما يدخل أهل الجنة الجنة فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: أي رب! كيف وقد نزل الناس منازلهم، وأخذوا أخذاتهم؟! فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا؟)، هذا أقل أهل الجنة منزلة، يقال له: (أترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت رب)، ويرضى بأقل من ذلك (فيقول: لك ذلك ومثله، ومثله ومثله معه، ومثله ومثله ومثله، فيقول في الخامسة: رضيت رب، فقال: هذا لك وعشرة أمثاله!) يعني رضي بالشيء الواحد مثل ملك من ملوك الدنيا، فقال: مثله ومثله، ومثله ومثله، ومثله خمس مرات، قال: رضيت رب، قال: وعشرة أمثال هذا أيضاً، هذا لأقل أهل الجنة منزلة. قال: (ولك ما اشتهت نفسك، ولذت عينك، فيقول: رضيت رب، قال: رب فأعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الذين أردتهم، غرست كرامتهم بيدي) غرست، يعني: ما أكرمهم به في الجنة أنا بيدي فعلت لهم ذلك، قال: (غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها) يعني: أغلقتها وأخفيتها فلا يراها أحد أبداً، قال: (فلم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر). قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ومصداقه من كتاب الله: قوله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17])، هؤلاء أعلى أهل الجنة منزلة، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم.

تفسير قوله تعالى: (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون)

تفسير قوله تعالى: (أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون) قال الله سبحانه: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ} [السجدة:18]، هل الإنسان الذي آمن بالغيب وآمن بالله، وآمن بالجنة، وآمن بالنار، وآمن بوعد الله الحق، وآمن بكتابه، وآمن برسله، وآمن بقضاء الله وقدره، خيره وشره، حلوه ومره، يستوي مع الفاسق؟ أي: خلع عن نفسه عباءة الإسلام، وخرج من دين الله سبحانه وتعالى، وخرج عن طاعة رب العالمين سبحانه، وإن زعم أنه على الإسلام، هل يستوي هذا المؤمن الذي يعمل مع هذا الفاسق الذي يفجر، والذي يبتعد عن شرع رب العالمين، والذي لا يريد دين الله سبحانه، والذي يعصي الله ليل نهار؟ هل يستويان؟ فالله هو الحكم العدل سبحانه وتعالى، ومن حكمته سبحانه أنه خلق الخلق ليريهم آياته، وليدخل من يشاء منهم جنته، ويعذب من يشاء منهم بناره، فهل يستوي المطيع مع العاصي؟ قال تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ} [السجدة:18]، فلا يستوي المؤمن مع الفاسق لا في الدنيا ولا في الآخرة.

تفسير قوله تعالى: (أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون)

تفسير قوله تعالى: (أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلاً بما كانوا يعملون) فصل الله سبحانه وتعالى عدم الاستواء فقال: {أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:19]، هذه أعمالهم، إنسان آمن بالله، وصدق واستيقن وعمل، هذا هو المؤمن، وقوله: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}، أي: كل الأعمال الصالحة وكل عمل يرجى به رحمة رب العالمين سبحانه، قال تعالى: {فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى} [السجدة:19] يؤويهم الله سبحانه، كما آواهم في الدنيا إلى بيوتهم، كما آواهم في الدنيا وأطمعهم وسقاهم، كذلك يؤويهم يوم القيامة فيدخلهم جنات عدن، فهي جنة مأوى، وجنة إقامة دائمة، يقيمون فيها فلا يظعنون منها، ولا يخرجون منها. وقوله تعالى: {نُزُلًا} [السجدة:19] أي: كرامة من الله، وضيافة منه سبحانه، والنزل: أصله طعام الضيف، والمعنى: ننزلهم هذه الجنة ليقيموا فيها إقامة دائمة، ونحن نطعمهم، ونحن نسقيهم، ونحن نعطيهم هذا النزل، ليس من عند أحد من البشر، وليس من عند أحد من الملائكة، ولكن منا نحن، {نُزُلًا}. وقوله تعالى: {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:19] أي: ثواباً من الله سبحانه وتعالى، وما يهيأ لهم من الضيافة هذا من الله سبحانه جزاء على أعمالهم.

تفسير قوله تعالى: (وأما الذين فسقوا فمأواهم النار)

تفسير قوله تعالى: (وأما الذين فسقوا فمأواهم النار) قال الله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمْ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [السجدة:20]، هذا القسم الثاني: الإنسان الكافر الفاسق الذي يستكبر، والفاسق: الإنسان العاصي وإن كان مسلماً، فلا يستوي المؤمن مع الفاسق أبداً، سواء كان فسقاً أكبر مخرجاً من الملة، أو فسقاً ليس مخرجاً من الملة، فلا يستوي المؤمن مع الفاسق، ولا يستوي المطيع مع العاصي، ولا يستوي البر مع الفاجر، ولا يستوي التقي مع الشقي، قال الله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} [السجدة:20]، هذا مكان الإيواء الذي يؤويهم، والذي لا يخرجون منه إلا ما شاء الله سبحانه وتعالى. قال الله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة:20]، كأنهم توهموا أنهم يخرجون، والنار سوداء مظلمة والعياذ بالله، تدور بهم النار فتفور بهم، فإذا فارت صعدوا إلى أعلاها فظنوا أنهم يخرجون منها، فيريدون الخروج فتهوي بهم مرة ثانية، قال تعالى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا} [السجدة:20]، والعياذ بالله: ((أُعِيدُوا فِيهَا)). وقال تعالى: {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} [الحج:21]، {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج:22]، والمقامع: ما يقمع به الإنسان من مرازب من حديد، ومرزبة حديد يعني: مقلاع من حديد، يضربون بها على رءوسهم فيعادون إلى أسفل النار والعياذ بالله، قال تعالى: {وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [السجدة:20].

تفسير قوله تعالى: (ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر)

تفسير قوله تعالى: (ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر) قال الله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ} [السجدة:21] أي: لنذيقنهم في الدنيا، {مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}، والعذاب الأكبر: في القبر، ويوم القيامة، لكن في الدنيا لا بد أن يعذب الله عز وجل الكافر بما يبتليه من مصائب في الدنيا، ويبتليه بالحرمان، ويبتليه في الدنيا بعدم الاطمئنان، ويبتليه في الدنيا بعدم الراحة، وعدم الركون إلى الله سبحانه وتعالى، فإذا بالكافر لا يستريح، فمهما أعطاه الله عز وجل في الدنيا من مال وبنين ففي قلبه عدم الراحة، وهذا عذاب في الدنيا، فأنت تلاقي الكافر يعطيه الله أموالاً جمةً، وأشياء كثيرة ولا يُحَصِّل السعادة المنشودة، وفي النهاية ينتحر؛ لأنه لا يستشعر بالراحة التي يستشعرها الفقير المسلم، فالإنسان المؤمن بالله سبحانه يستشعر بالطمأنينة مع ربه سبحانه، يقول: يا ربي! يا ربي! يقول: لا إله إلا الله، يصلي لله سبحانه، ويستشعر بأنه في راحة عظيمة جداً، ولذلك كان يقول العباد من المؤمنين: نحن في نعمة لو علم بها الملوك لقاتلونا عليها، فالمؤمنون في نعمة وفي راحة، وفي طمأنينة وفي سعادة، لو علم بها الملوك لقاتلوهم عليها، وراحة القلب تكون بذكر الله سبحانه، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]، فالمؤمن يطمئن قلبه بذكر الله، يقول: الله، فيستريح بذلك قلبه، ويقول: لا إله إلا الله ويعلم أنه يعبد إلهاً واحداً، هو الذي ينفعه، وهو الذي يضره سبحانه تبارك وتعالى، وهو الذي يقدر على كل شيء، فيطمئن قلبه ويركن إلى ربه، ويتوكل عليه سبحانه، فيستريح من كل شيء. يقول الله سبحانه تبارك وتعالى في هؤلاء الكفار: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى} [السجدة:21]، قالوا: هي مصائب الدنيا، وأسقام الدنيا مما يبتلى به العبيد، وأيضاً مما يذيق الله به الكفار من عذاب في الدنيا في جهاد مع المسلمين وغير ذلك. وقوله تعالى: {دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ} [السجدة:21] عذاب النار وعذاب يوم القيامة. قال تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة:21] أي: لعلهم يتوبون إلى الله بما أذاقهم في الدنيا ويرجعون إليه.

تفسير قوله تعالى: (ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه)

تفسير قوله تعالى: (ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه) قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} [السجدة:22]، فالإنسان الذي يذكر بالله سبحانه، ويرى أمامه هذه الآيات، ومع ذلك يعرض عن الله سبحانه، من أظلم منه؟ A لا أحد أظلم منه، بل هذا أظلم الظلمة؛ لأنه عرف الحق ولم يتبعه وحاد عنه. قال الله سبحانه: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} أي: سننتقم من هؤلاء الفجرة الكفرة الذين أعرضوا عن ذكر الله سبحانه، ننتقم منهم في الدنيا وفي الآخرة، قال سبحانه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124]، يذيقه في الدنيا الحياة الضنك الشديدة التي يسأم منها ويمل، من كثرة ما يبتليه الله سبحانه وتعالى حتى ولو أعطاه المال، ولكن يذيقه عذاب الدنيا وفتنها وبلاءها. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة السجدة [23 - 30]

تفسير سورة السجدة [23 - 30] يذكر الله عز وجل عباده أنهم سيقفون يوم القيامة بين يديه فيحاسبهم على أعمالهم، ويفصل بينهم فيما كانوا فيه من خلاف في هذه المعبودات، وكما أن هذه الأرض تموت ثم يرسل الله عليها الأمطار فتحيا وتخرج خيراتها، فكذلك الإنسان سوف يموت ثم يحييه الله مرة أخرى للحساب والجزاء.

تفسير قوله تعالى: (وجعلنا منكم أئمة يهدون بأمرنا)

تفسير قوله تعالى: (وجعلنا منكم أئمة يهدون بأمرنا) قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] (منهم) تبعيض {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة:24] وكلمة (أئمة) يقرؤها الكوفيون بهمزتين وكذلك يقرؤها هشام عن ابن عامر بهمزتين، أما باقي القراء فيسهلون الهمزة الثانية، ومبنى ذلك على اللغة العربية، فإن العرب في الغالب لا تجمع همزتين مع بعض كما في لفظ: آدم بهمزة وبعدها مد، فعلى ذلك قرءوها هنا بتخفيف الهمزة والتسهيل، فأكثر القراء ومنهم قالون وورش بخلفه، وابن كثير ورويس وأبو عمرو يقرءون: (أئمة) بتحقيق الهمزتين وغيرهم يقرءونها بالتسهيل هرباً من جمع همزتين مع بعض فيصعب النطق بها، ولهم في هذه الكلمة: (أئمة) أربع قراءات. قوله: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة:24] فالله عز وجل جعل من هؤلاء أئمة يقتدى بهم، فهؤلاء الأئمة من بني إسرائيل كيف وصلوا إلى هذه المرتبة؟ قال الله عز وجل: {لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة:24] لأنهم جاهدوا أنفسهم، وجاهدوا الخلق حتى وصلوا إلى درجة عظيمة من الصبر، فاستحقوا أن يتقدموا غيرهم، وأن يكونوا أئمة للخلق، فلم يكونوا كلهم أئمة، ولكن كان بعض منهم أئمة يهدون بأمرنا، يعني: بشرعنا أو لشرعنا، يهدون الناس بأمر الله، وبإذنه، وبشريعة الله التي أمرهم أن يدعوا الناس فيها، وكذلك يهدون بأمرنا، يعني: لشريعتنا ولديننا، وقراءة الجمهور: {بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة:24] وقراءة حمزة والكسائي ورويس عن يعقوب: {لِمَا صَبَرُوا} [السجدة:24]، بكسر اللام، أي: بسبب صبرهم، فيكون المعنى: لما صبروا استحقوا أن يكونوا أئمة، فصاروا أئمة لصبرهم على دين الله سبحانه، وتمسكهم بدينهم. {وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]، كانوا مؤمنين بآيات الله ومستيقنين، لا شك في قلوبهم من وعد الله سبحانه تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة)

تفسير قوله تعالى: (إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة) قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [السجدة:25] إن ربك هو وحده لا شريك له، الحكم يوم القيامة لله وحده لا شريك له، لا حاكم مع الله سبحانه، لا ملك مع الله سبحانه، فهو ملك الملوك، وهو القاهر فوق عباده، وهو الحكم الذي يحكم بين عباده يوم القيامة سبحانه وحده لا شريك له، وهو الذي يفصل ويقضي ويفتح ويحكم، وكلها بمعنى واحد، فإن فصل القضاء يوم القيامة لله وحده لا شريك له، إن ربك هو وحده لا شريك له الذي {يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [السجدة:25]، فهو الذي يقضي، وهو الذي يحكم بين المؤمنين وبين الكفار، فيجازي كلاً بما يستحقه يوم القيامة، ويقضي بين الأنبياء وبين أقوامهم.

تفسير قوله تعالى: (أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون)

تفسير قوله تعالى: (أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون) قال تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} [السجدة:26] (أولم يهد لهم) أي: أو لم يتبين لهم؟ هلا ساروا في الأرض فنظروا واهتدوا أن الله سبحانه تبارك وتعالى قد أهلك أمماً سابقة كثيرين! ويتبين للناس بالبحث والتنقيب والسير في الأرض كيف أهلك الله عز وجل السابقين، فيقولون: في هذا المكان كان الفراعنة فأهلكهم الله سبحانه، وهذه آثارهم، وفي هذا المكان كانت ديار عاد، وفي هذا المكان كانت ديار ثمود، فهؤلاء صنعوا وفعلوا وفعلوا، وهذه آخر حالهم فقد صاروا جيفاً، صاروا رمماً، وتبدلت أيامهم، وذهبت أحلامهم، وهذا واقعهم أمامنا. قوله: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ}، القرن: الزمن الذي يجمع أمة من الناس، فإذا فنيت هذه الأمة مضى قرن من القرون، وتأتي أمة تليها، مثلما نقول: القرن الذي كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم هو الزمن الذي اجتمع فيه النبي صلى الله عليه وسلم مع قوم رأوه صلى الله عليه وسلم، وعاشوا معه عليه الصلاة والسلام، ثم مات هو صلى الله عليه وسلم ومات أصحابه الذين رأوه، حتى مات آخر من رأى النبي صلى الله عليه وسلم فانتهى هذا القرن. ثم القرن الذي يليه: قوم لم يروا النبي صلى الله عليه وسلم ورأوا أصحابه عليه الصلاة والسلام، فإذا فني القرن الذي رأى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم الذي رأى أصحابه عليه الصلاة والسلام، وقرن من بعدهم لم يلقوا الصحابة ولقوا الذين من بعدهم وهكذا، فهؤلاء قرون كثيرة، والبعض جعل مدة القرن مائة سنة أو دون ذلك، والغرض: أن القرن هو الذي يجمع أمة من الناس عاشوا معاً ثم انتهى آخرهم. قوله: {يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ}، يمشي اللاحقون في مساكن السابقين، يعني: هذه كانت مساكن هؤلاء الأقوام، فلو كانوا عائشين هل كان أحد منهم يقدر على أن يأخذ مساكنهم؟! ولو كانوا عائشين هل كانوا سيضعونهم في متاحف يتفرجون عليهم؟! هذا فرعون وهذا فلان وهذا فلان لولا أن الله قد أهلكهم وأبادهم لما رأيتموهم، لو كانوا أحياء ما كان أحد يقدر على أن يأخذ منهم ذهبهم وحليهم وينظر إلى أجسادهم، ما كان أحد يقدر على ذلك لولا أن أبادهم الله وأفناهم سبحانه {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ} [السجدة:26] فيها عبرة وتذكرة، {أَفَلا يَسْمَعُونَ} [السجدة:26] أي: هذه الآيات فيعتبرون بذلك، وأن كل من على هذه الدنيا يفنى ويبيد كما أباد الله عز وجل هؤلاء السابقين.

تفسير قوله تعالى: (أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز)

تفسير قوله تعالى: (أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز) قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ} [السجدة:27]، في الآية السابقة وهذه الآية التذكرة بالموت والحياة، فالموت: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا} [السجدة:26]، وبعد الموت الدنيا فنيت ويكون البعث، كما أن الله عز وجل يميت الأرض، ثم ينزل الغيث فيحييها سبحانه تبارك وتعالى، فيكون فيه رجوع مرة ثانية للجزاء وللحساب، كما يحيي الله عز وجل أمامكم الأرض الميتة. {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ} [السجدة:27]، السوق: الدفع، يسوق الله عز وجل السحاب من مكان إلى مكان، فينزل الماء إلى الأرض الجرز، وأصل الجرز القطع، وكأنها هي التي انقطعت عن الإنبات لسبب من الأسباب، وانقطعت عن الإنبات، وفرق بين الأرض الجرز والأرض السبخة، الأرض السبخة لا تنبت، لا أمل في حياتها، فهي أرض سبخة لا تنبت شيئاً، والأرض الجرز ماتت بسبب نقص الماء، فينزل عليها الماء فيحييها الله عز وجل أمام من ينظر إليها، قال سبحانه: {فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا} [السجدة:27] أي: نخرج من هذه الأرض الميتة {زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ} [السجدة:27] يخرج الزرع وهو قصير صغير فتأتي عليه الأنعام وتأكله، فإذا نبت هذا الزرع وصارت له سنابل وحبوب أكل منه الآدمي، فتأكل الأنعام ويأكل الإنسان. قوله: {أَفَلا يُبْصِرُونَ} [السجدة:27] أي: أفلا ينظرون فيعتبرون أن الله على كل شيء قدير، الذي أحيا هذه الأرض الميتة أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى؟ بلى إنه على كل شيء قدير.

تفسير قوله تعالى: (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين)

تفسير قوله تعالى: (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) ولكن مع ذلك كله فهؤلاء الكفار يجادلون ويقولون: {مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [السجدة:28]، ما زلتم تقولون: ربنا سيفتح لكم، ربنا سيحكم لكم، سيقضي لكم، سيكون لكم النصر علينا، سنبعث يوم القيامة! فمتى سيكون هذا الكلام كله الذي تقولون؟ {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [السجدة:28]، والجواب من الله سبحانه: {قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} [السجدة:29]، يوم أن نحكم ونقضي وننصر المسلمين {لا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} [السجدة:29]. والكافر لو انتصر عليه المسلم هل ينفعه إيمانه؟ نقول: ينفع الإيمان في وقت ولا ينفع في وقت آخر، فإذا دخل الإنسان في هذا الدين نفعه حتى ولو كان كافراً مهزوماً، ودعي إلى الدين فدخل فيه، حتى لو رفع عليه السيف فوق رقبته وقال: لا إله إلا الله عصم دمه، فلا يقتل في هذه الحالة، وينفعه إيمانه إذا كان صادقاً في قلبه، ولكن الكافر الذي يضرب بالسيف، فيموت فيعاين الملائكة لا ينفعه إيمانه في هذه اللحظة، فوقت الغرغرة لا ينفع الإيمان، ووقت خروج الروح لا ينفع الإيمان، فإذا شاهد الكافر الملائكة وهي تأخذ روحه من جسده فقال: آمنت، لا ينفعه الإيمان ذلك حين {لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158]، ففي وقت انتصار المسلمين وقتلهم للكفار، ووقت معاينة الكافر للملائكة، فتقبض روحه؛ لا ينفعه الإيمان، كذلك يوم القيامة، يوم أن يصير الغيب شهادة، ويصير الشيء الذي كان لا يراه الإنسان ماثلاً أمام عينيه، فلا ينفعه إيمانه إذا جاء يوم القيامة ورأى الملائكة، ورأى الجنة والنار وقال: آمنا ربنا أرجعنا ربنا صدقنا وآمنا، لا ينفعه طالما أنه لم يؤمن من قبل. قال سبحانه: {قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} [السجدة:29]، والفتح له معان منها: الفتح والفصل والقضاء الذي يقضيه الله عز جل بين عباده، إما بنصر المؤمنين على هؤلاء، فهو فتح في الدنيا، أو بالقضاء يوم القيامة، فهو الفتح والفصل من الله عز وجل بين العباد. يقول سبحانه: {لا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} [السجدة:29]، يطلبون الانتظار والرجعة مرة ثانية إلى الدنيا ليعملوا. قال الله: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} [السجدة:30] أعرض عن هؤلاء، أعرض عن جدالهم وكلامهم الذي يقولونه: {وَانْتَظِرْ} [السجدة:30] أمر الله سبحانه، {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنتَظِرُونَ} [السجدة:30]، فهم ينتظرون عذاب رب العالمين، ويدعون: ربنا عجل لنا قطنا، وعذابه آتيهم آتيهم! فاصبر أنت حتى يأتي أمر الله. نسأل الله عز وجل أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يخذل الكفر والمشركين. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأحزاب

تفسير سورة الأحزاب - مقدمة سورة الأحزاب سورة مدنية، نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وسميت بالأحزاب لأنها ذكرت تحزب المشركين وتجمعهم على رسول الله، وقد ذكرت ما امتن الله عز وجل به على المؤمنين في هذه الغزوة، وأخبر الله عن المنافقين وما يلمزون به النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ونهت النبي صلى الله عليه وسلم عن طاعتهم وطاعة الكافرين المحاربين لله ورسوله، وذكر بعضاً من الأحكام المتعلقة بالنساء والإرشادات والآداب التي ينبغي فعلها والتحلي بها.

مقدمة عن سورة الأحزاب

مقدمة عن سورة الأحزاب الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين: قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا * مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب:1 - 4].

مكان النزول وسنته

مكان النزول وسنته السورة الثالثة والثلاثون من كتاب الله رب العالمين هي سورة الأحزاب، وهي من السور المدنية بالاتفاق، وإن ذكروا في سنة نزولها قولين: أحدهما: أنها نزلت في سنة أربع من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، والآخر: في سنة خمس، وهذا هو الأرجح، فإنها نزلت في شأن الأحزاب وهي غزوة الخندق وكانت في شوال سنة خمس من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم.

سبب التسمية

سبب التسمية وسميت بالأحزاب؛ لأن أحزاب المشركين تجمعوا على النبي صلى الله عليه وسلم من قريش ومن معهم من الأحزاب وأتوا إلى المدينة، وكان عدد هؤلاء الأحزاب من قريش والأحابيش وكنانة وغطفان حوالي عشرة آلاف من المقاتلين، وكان عدد جيش المدينة لا يتجاوز الثلاثة آلاف. فكان الأحزاب ثلاثة أضعاف المسلمين، والمسلمون لم يكن لهم طاقة بقتال هؤلاء، لذلك كان الحل أن يستشير النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين، فكان في النهاية أن وصلوا إلى أن يحفروا خندقاً بينهم وبين المشركين فمن عبر إليهم عن طريق الخندق قاتلوه، وكان أمر الله سبحانه فلم يقاتل المسلمون إلا فرادى، وجاء النصر من عند الله سبحانه وتعالى، فقلب الجيش رأساً على عقب بأن أرسل عليهم الرياح فهرب الجيش كله خوفاً مما حدث، وظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم هاجمهم، وكان النصر من عند الله سبحانه، لم يكن لأحد فيه بلاء ولا قتال إلا شيئاً يسيراً من أفراد المسلمين كـ الزبير وغيره رضي الله تبارك وتعالى عنه.

رقم السورة وعدد آياتها

رقم السورة وعدد آياتها وهذه السورة في عداد نزول القرآن تعتبر السورة التسعين، وفي عد المصحف هي السورة الثالثة والثلاثون، وذكروا أنها نزلت بعد سورة آل عمران وقيل: نزلت بعد سورة الأنفال، ونزلت قبل سورة المائدة. وعدد آيات هذه السورة ثلاث وسبعون آية أيضاً اتفاقاً، فليس هناك خلاف بين أهل العد، وإن كانت هذه السورة لما نزلت كان عددها أكثر من ذلك، ونسخ منها ما شاء الله سبحانه وتعالى، ولذلك جاء في حديث في مسند الإمام أحمد أن زر بن حبيش قال: قال لي أبي بن كعب: كأين تعدون سورة الأحزاب، أي: تعدون هذه السورة كم آية؟ قال: قلت: نعدها ثلاثاً وسبعين آية، قال: فوالذي يحلف به إن كانت لتعدل سورة البقرة، ولقد قرأنا فيها: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم)، فرفع فيما رفع.

النسخ في القرآن

النسخ في القرآن الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين: قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا * مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب:1 - 4].

وقوع النسخ في القرآن

وقوع النسخ في القرآن فالغرض أن هذه السورة من السور التي نسخت منها آيات وكانت سورة كبيرة، والله عز وجل ينسخ بمعنى: يرفع، فهو إما أن يرفع الآية تلاوة وحكماً، وإما أن يرفعها تلاوة فقط ويبقى الحكم، وإما أن يرفعها حكماً فقط وتبقى التلاوة. فالله عز وجل ينسخ ما يشاء سبحانه، وقد ذكر في سورة البقرة: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:106]، فالله على كل شيء قدير. فيأتي بأحكام للعباد، ويبتلي عباده بآياته وأحكامه سبحانه وتعالى أيؤمنون أم يكفرون؟ وجههم إلى الكعبة بعد أن كانوا متوجهين إلى بيت المقدس، فكان النبي صلى الله عليه وسلم في مكة يصلي إلى الكعبة متوجهاً إلى بيت المقدس، فلما هاجر إلى المدينة لم ينفع هذا الأمر، فهو إما أن يتوجه إلى الكعبة، وإما إلى بيت المقدس، فتوجه إلى بيت المقدس وظل على ذلك ثمانية عشر شهراً أو نحوها. وبعد ذلك إذا بالله عز وجل يوجهه إلى الكعبة كما قال تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144]، فإذا بالمنافقين واليهود يقولون: إما أنه كان على الصواب فتغير إلى الخطأ، وإما أنه كان على الخطأ فتغير إلى الصواب، وفي كلا الحالتين كان مخطئاً في ما يفعل، وهذا التشكيك لإلقاء الشك في قلوب المؤمنين. والنبي صلوات الله وسلامه عليه على الحق دائماً، فما ينطق عن الهوى، ولا يفعل شيئاً من تلقاء نفسه، ولكن بأمر الله سبحانه وتعالى، ولذلك كذبهم الله عز وجل فيما قالوا وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115]، وسواء وجهكم إلى المشرق أو إلى المغرب فالله عز وجل له أن يوجه إلى ما يشاء، وطالما أنتم مطيعون لله عز وجل في توجهكم فأنتم على الحق وأنتم على عبادته سبحانه وتعالى. وكذلك في إنزاله القرآن، فإنه ينزل آيات بغرض معين ثم بعد ذلك إما أن يستمر الحكم فيها، وإما أن ينسخه الله عز وجل لحكمة عنده، وقد تعلم هذه الحكمة لنا أو تخفى عنا. ولذلك لما أراد الله أن يحرم الخمر إذا به يتدرج مع الناس في تحريمها، فعرفنا الحكمة وهي أنه لو أمر مرة واحدة بترك الخمر لما تركها الناس، ولكن الله عز وجل بدأ يشير إلى أن الخمر فيها مفاسد وأن فيها إثماً، وأن فيها إذهاباً لعقل الإنسان، ولهواً عن الصلاة. فنهاهم أن يقربوا الصلاة وهم سكارى بقوله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء:43]، ثم يتدرج معهم عن الخمر والميسر فيقول: {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219]، ثم يأتي التحريم القاطع على ذلك بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90]. فهنا تدرج مع العباد، فلما أنزل آيات فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: (إني أرى الله يشير بتحريم الخمر أو يعرض بتحريمها، فمن كان عنده شيء منها فليتخلص منها ببيع ونحوه)، أو كما ذكر صلوات الله وسلامه عليه. فهنا الإشارات في الآيات الأول، وفيها تعريض للمسلمين بأن الخمر ستحرم، وتنبيه بأن لا يضع أحد ماله في الخمر فتدرج معهم شيئاً فشيئاً فقال، (فمن كان عنده شيء منها)، وهذا في وقت لم يحرمها الله عز وجل، فإذا بالرجل منهم يبيعها ويتخلص منها. ومن بقيت عنده بقايا منها إذا به تنزل عليه آيات التحريم فيتخلص منها فوراً؛ لأنها صارت محرمة.

الحكمة من النسخ

الحكمة من النسخ والغرض أن النسخ له حكمة من الله عز وجل، منها التدريج في التشريع كما هنا، ومنها أن الله عز وجل يختبر عباده هل يطيعونه أم أنهم يتشككون ويرتابون في الدين؟ فإذا به ينسخ أشياء سبحانه وتعالى، ويبقيها في كتابه مثل عدة المرأة التي توفى عنها زوجها فذكر الله عز وجل حكمها بقوله: {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة:240]، أي: أن المرأة تمكث في بيتها معتدة حولاً كاملاً. ثم خفف الله سبحانه وتعالى ذلك وقال: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة:234]، فحكمة النسخ هنا هي التخفيف. وقد يكون من الحكم فيها التثقيل وذلك بأن يشدد على العباد بشيء، أو التثقيل مع التخفيف مثل أمره بالصيام، فإن أول ما فرض الصيام على العباد كان من العشاء إلى غروب شمس اليوم الثاني، أي: يصومون ثلاثة وعشرين ساعة في اليوم أو نحو ذلك فهذا كان ثقيلاً عليهم، ولكن مع هذا التثقيل جعل تخفيفاً وهو أنه من شاء أن يصوم فليصم، ومن أراد الفطر فله ذلك لكن بشرط أن يطعم مسكيناً بدلاً عن ذلك اليوم، كما قال تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184]، فلهم أن يصوموا ولهم أن يفطروا ولكن يطعمون مسكيناً مكان إفطارهم. فهنا تثقيل في شيء وتخفيف في شيء آخر، ثم نسخ بعد ذلك بالأمر بالصيام، فكان فيه شيء من التخفيف وشيء من التثقيل إذ لابد أن تصوم، كما قال تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185]، وخفف في شيء آخر وهو قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187]. فجعل هنا تخفيفاً وهو الصيام من الفجر إلى غروب الشمس، فقد كان فيه تثقيل فنسخ الأثقل بالأخف، وكان هناك تخفيف من ناحية التخيير فنسخ الأخف بالأثقل والله يفعل ما يشاء سبحانه وتعالى. ومن الحكم أيضاً ابتلاء العباد؛ لأن العبد مخلوق ليطيع الله تبارك وتعالى، فإذا أمر بطاعة فلابد أن يجعل له اختياراً؛ لينظر هل يختار الطاعة أم أنه يأنف من ذلك ويرفض ويستكبر ويترك طاعة الله سبحانه وتعالى؟ ومن ذلك ما نسخ من آيات كاملة وإن بقي من أحكامها، وذلك مثل نسخ الآية التي كانت في سورة الأحزاب وهي: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم)، فقد كانت آية في سورة الأحزاب ثم نسخت تلاوة وبقيت حكماً. فرفع الله عز وجل تلاوتها، لكن أبقى حكمها وهو أن الإنسان إذا كان محصناً أي: متزوجاً سواء كان صغيراً أو كبيراً ووقع في الزنا فعليه الرجم، والآية ذكرت الشيخ والشيخة، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم جارية حتى فيمن هم دون ذلك فرجم ماعزاً، ورجم الغامدية اللذين زنيا. فالغرض أن الله سبحانه وتعالى قد ينسخ الآية تلاوة ويبقي حكمها، فهذه السورة من السور التي كانت آياتها أكثر من ذلك فرفع الله عز وجل ما شاء منها وبقيت هذه الآيات الثلاث والسبعون محكمة، وأمر الله عز وجل فيها بما شاء.

ما اشتملت عليه سورة الأحزاب

ما اشتملت عليه سورة الأحزاب أغراض السورة يعني: ما أشارت إليه هذه السورة من أولها إلى آخرها: يذكر الله سبحانه وتعالى في أولها قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الأحزاب:1]. وهذه السورة ترد على الكفار والمنافق، فهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، فالله عز وجل حذره أن يطيع هؤلاء الكافرين والمنافقين، وكان من اعتراضهم على النبي صلى الله عليه وسلم أنه كيف يتزوج بـ زينب بنت جحش وهي ابنة عمه، وكان قد زوجها مولاه زيد بن حارثة، وزيد بن حارثة كان حراً في البداية، ولكن خطفه بعض العرب من أهله، ثم باعوه، فوصل إلى خديجة بنت خويلد ثم وهبته للنبي صلى الله عليه وسلم فأعتقه النبي صلى الله عليه وسلم وتبناه عليه الصلاة والسلام. فصار ابناً للنبي صلى الله عليه وسلم على ما كان عليه أمر العرب الأول، ولما تبناه وأحبه النبي صلى الله عليه وسلم شرفه بأن جعله يتزوج ابنة عمه وهي السيدة زينب بنت جحش، وهي شريفة من آل النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مرتبته أنه كان عبداً، فأنفت من ذلك، ولهذا لم تدم العشرة بينهما، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يأتيه زيد ويريد أن يفارقها ويريد أن يطلقها، فيقول له: اتق الله واصبر كما حكى الله أنه كان يقول: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:37]، حتى أخبره ربه سبحانه أن زيداً لن يعيش معها، بل سيفارقها وستتزوجها أنت يوماً من الأيام، فإذا به يستحيي صلوات الله وسلامه عليه، فيأتيه زيد ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: إني أريد أن أفارقها، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يستحيي فيقول: اتق الله وأمسك عليك زوجك. فإذا بالله عز وجل يعاتبه في ذلك ويقول: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب:37]. والنبي صلى الله عليه وسلم مستحيل أن يخفي شيئاً من كتاب الله أو من شرع الله سبحانه، فإذا كان في هذا الأمر البسيط الذي انبنى على حيائه صلى الله عليه وسلم حيث كان يقول: اتق الله وأمسك عليك زوجك. فقد كان في خاطر النبي أنه إن طلقها تزوجتها كما أمر الله، وليس بلازم علي أن آمره بطلاقها، فهذا ما كان يجول في خاطره، فإذا بالله يعاتبه ويقول: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} [الأحزاب:37]، فمهما أخفاه النبي صلى الله عليه وسلم فالله يبديه سبحانه، ولم يكن ليخفي شيئاً أبداً صلوات الله وسلامه عليه من شرع الله وقد قال له ربه: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]. فهنا لما طلقها زيد إذا بها تصير شيئاً كبيراً في نظره، فبعد أن طلقها صار يهابها، ويعلم أنها لا تليق إلا بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا تليق بـ زيد، فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وصارت أماً للمؤمنين بما فيهم زيد الذي كان زوجاً لها في يوم من الأيام. وإذا بالمنافقين يتكلمون في هذا الشيء، ويقولون: كيف يتزوج زوجة ابنه؟ وهو يقول لنا: الرجل يحرم عليه أن يتزوج زوجة ابنه، فإذا بالله عز وجل يكذبهم في ذلك، ويخبر أن هذا ليس ابناً على الحقيقة، وكذلك كل من ادعيتموه من أولاد ليسوا أبناءكم، بل قال الله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب:5]، وإذا بالله عز وجل يشرع أنه لا يجوز التبني. فيجوز أن تكفل اليتيم، وتربيه، أما أن تتبناه ويصير ابناً لك فلا يجوز ذلك، وهذا الأمر أمر عصيب على إنسان جربه، فلو أن إنساناً أخذ طفلاً من ملجأ ونسبه إلى نفسه ورباه فترة طويلة إلى أن كبر وصارت بينهما علاقة، وشفقة، فإنه يصعب عليه أن يقول له: لست ابني. فلو أن الله عز وجل أنزل للناس هذا الحكم لكان يصعب عليهم تطبيقه، فإذا بالله ينزله أول مرة في النبي صلى الله عليه وسلم حتى نقتدي به، فإذا بالناس منهم من يقول: أأحب هذا أكثر من حب النبي صلى الله عليه وسلم لـ زيد؟ لا يكون أبداً، وهل هو متعلق بي أكثر من تعلق زيد بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ لا يمكن أن يكون هذا الشيء، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يأمره ربه أن فارق هذا؛ فإنه ليس ابناً لك، ولكن ادعه لأبيه، فإذا به بعد أن كان اسمه زيد بن محمد عليه الصلاة والسلام يعود إلى اسمه الأول زيد بن حارثة. أما كونه كان حبيباً للنبي صلى الله عليه وسلم فهذا لم ينقطع، إذ هو حبيب للنبي صلى الله عليه وسلم، وابنه أسامة بن زيد حبيب للنبي صلوات الله وسلامه عليه أيضاً. إذاً: من أغراض هذه السورة تحريم التبني، وبدأ الله عز وجل بنبيه صلى الله عليه وسلم في ذلك. ومن أغراضها: أنه يجوز لمن كان قد تبنى إنساناً أن يتزوج زوجة متبناه إن طلقها؛ لأنه ليس حماً لها على الحقيقة. ومن أحكام هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى يخبرنا أن الحق في قوله، وأنه العليم الخبير بأعمال العباد سبحانه، يقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:11]، ويقول تعالى: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة:234]، ويقول تعالى: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب:4]. فمهما قلتم من شيء عارض كلام الله فكلام الله الحق وكلامكم الباطل، فخذوا بكلام الله سبحانه وتعالى. ومن أغراض هذه السورة التنبيه على ولاية النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين، بقوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:6]، أي: حتى من أنفسهم، فإذا اختار الإنسان لنفسه شيئاً، واختار له النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً آخر فليأخذ هذا الذي اختاره النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أولى به من نفسه. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الأحزاب الآية [1]

تفسير سورة الأحزاب الآية [1] النبي صلى الله عليه وسلم هو أتقى الناس لله وأعلمهم به، ولكن الله يأمره بالتقوى بقصد المداومة عليها، ومن أجل أن يتبعه المؤمنون على ذلك، وقد حذره الله من طاعة الكفار والمنافقين؛ لأنهم يريدون فساد الدين.

الكلام عن موضوعات سورة الأحزاب وأهم ما ذكر فيها

الكلام عن موضوعات سورة الأحزاب وأهم ما ذكر فيها أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: بسم الله الرحمن الرحيم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا * مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب:1 - 4]. وقد قدمنا أن هذه السورة الكريمة من السور المدنية، وأن آيات هذه السورة ثلاث وسبعون آية، وأنها نزلت في غزوة الأحزاب أو بعدها في أواخر سنة خمس من الهجرة على الصحيح فيها، وقد كانت غزوة الأحزاب في شوال أو في ذي القعدة من سنة خمس. وقد نزلت هذه السورة على النبي صلى الله عليه وسلم لتبين له أحكاماً من أحكام المنافقين والكافرين وغيرهم، فبدأ ربنا سبحانه وتعالى فيها بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب:1]. وقد كان عدد الكفار لما أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المدينة عشرة آلاف وعشرة رجال، وكان عدد المسلمين يومئذ ثلاثة آلاف، فقد تجمعت قريش والأحابيش وغطفان وغيرهم وجاءوا للنبي صلى الله عليه وسلم، فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن استشار المؤمنين، فأشار عليه بعضهم بأن يحفر خندقاً بينه وبينهم، فكان الأمر وجاء النصر من عند الله سبحانه كما ذكرنا. والحق أن أهم ما ذكر في هذه السورة: هو الرد على الكفار والمنافقين؛ لأنهم تقولوا بأقوال كاذبة فردها الله سبحانه وتعالى عليهم، وفيها الرد على قولهم لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بـ زينب بنت جحش كيف يتزوج بامرأة ابنه وقد حرم ذلك ربنا تبارك وتعالى؟ فرد ربنا سبحانه بالنهي عن التبني وإبطال نسبة الولد إلى أبيه بالتبني، وذلك في قوله سبحانه: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب:5]، وقال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6]، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]. فالاختيار يكون لله سبحانه وتعالى، فهو من يختار لنا ما يليق بنا وينفعنا ثم يعلم النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي؛ لأنه لا ينطق عن الهوى، فإذا اختار لنا شيئاً فالخيرة فيما اختاره الله سبحانه وما اختاره النبي صلوات الله وسلامه عليه، فهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم. كذلك يوجد في هذه السورة تحريض للمؤمنين على التمسك بشرع الله تبارك وتعالى كما ذكر أنه أخذ العهد على النبيين من قبل النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقد أخذ العهد والميثاق على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى نوح والنبيين من بعد نوح عليه الصلاة والسلام. وفيها: وجوب التمسك بعهد الله وميثاقه الذي أمر به. وأيضاً الاعتبار بما أظهره الله سبحانه وتعالى بنصر المؤمنين على أعدائهم من الكفرة، فيعلم الإنسان أن النصر من عند الله؛ لأن المؤمنين إذ ذاك لم يتوقعوا انتصاراً في هذه الغزوة؛ وبالذات لأن عددهم ثلاثة آلاف وعدد الكفار عشرة آلاف. وقد جعلوا حصناً منيعاً بينهم، حتى اضطر المؤمنون إلى اللين مع اليهود حتى يحفظ اليهود ظهورهم، فإذا باليهود يغدرون بالنبي صلى الله عليه وسلم، فأصبح المشركون من أمامهم واليهود من ورائهم، فشعر المسلمون أنهم بين فكي كماشة. ثم إذا بالنصر يأتي من عند رب العالمين تبارك وتعالى، في وقت يأس المسلمين من النصر، فإذا به يأتي من عند الله من حيث لا يتوقعون، فأرسل الرياح حتى جعلت الكفار يهربون ظناً منهم أن المؤمنين قد هاجموهم في ذلك الوقت، ففيها: أن الله سبحانه وعد المؤمنين بالنصر متى يشاء سبحانه إن استحقه المؤمنون. وفيها أيضاً: الثناء على صدق المؤمنين وثباتهم في الدفاع عن دين رب العالمين سبحانه وتعالى، كما قال الله سبحانه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23]، فمن كان بهذه الصفة صح فيه المدح ودخل تحت هذه الآية. وفيها أيضاً: إظهار نعم الله سبحانه وتعالى على المؤمنين بأن مكنهم من الكفار ومن أهل الكتاب، وجعل لهم ديارهم وأموالهم، وجعل لهم الظهور عليهم، فهذه نعمة من الله تبارك وتعالى بأن نصر المؤمنين وأعطاهم الغنائم والفيء. وفيها أيضاً: ذكر أحكام العشرة الزوجية، وما يكون من الرجل مع أهله، وكيف يتزوج الإنسان، وكم هو العدد المسموح به في الشرع، وبيان خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم في هذا وأن المؤمنين لا يدخلون معه في ذلك؛ لأن الله سبحانه يعلم ما ينفع له وما ينفع للمؤمنين فشرع ذلك سبحانه وتعالى. وفيها كذلك: ذكر عدة المطلقة قبل الدخول بها والبناء عليها. وفيها أيضاً: ما ذكره سبحانه من صفات المنافقين، وكيف أنهم يرجفون بالمؤمنين، وأنهم أشد الناس جبناً وخوفاً مع ادعائهم القوة والشجاعة. ثم اختتمت هذه السورة بالذي افتتحت به، فكما قال سبحانه في أولها: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب:1] قال في آخرها: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:73]. فذكرهم في أولها ثم بين عاقبتهم في آخرها وما هم صائرون إليه، وفي هذه السورة أيضاً: بيان القدوة والأسوة الحسنة وهو النبي صلى الله عليه وسلم، والحث على التأسي والاقتداء به صلوات الله وسلامه عليه.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين) أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: بسم الله الرحمن الرحيم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا * مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب:1 - 4]. وقد قدمنا أن هذه السورة الكريمة من السور المدنية، وأن آيات هذه السورة ثلاث وسبعون آية، وأنها نزلت في غزوة الأحزاب أو بعدها في أواخر سنة خمس من الهجرة على الصحيح فيها، وقد كانت غزوة الأحزاب في شوال أو في ذي القعدة من سنة خمس. وقد نزلت هذه السورة على النبي صلى الله عليه وسلم لتبين له أحكاماً من أحكام المنافقين والكافرين وغيرهم، فبدأ ربنا سبحانه وتعالى فيها بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب:1]. وقد كان عدد الكفار لما أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المدينة عشرة آلاف وعشرة رجال، وكان عدد المسلمين يومئذ ثلاثة آلاف، فقد تجمعت قريش والأحابيش وغطفان وغيرهم وجاءوا للنبي صلى الله عليه وسلم، فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن استشار المؤمنين، فأشار عليه بعضهم بأن يحفر خندقاً بينه وبينهم، فكان الأمر وجاء النصر من عند الله سبحانه كما ذكرنا. والحق أن أهم ما ذكر في هذه السورة: هو الرد على الكفار والمنافقين؛ لأنهم تقولوا بأقوال كاذبة فردها الله سبحانه وتعالى عليهم، وفيها الرد على قولهم لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بـ زينب بنت جحش كيف يتزوج بامرأة ابنه وقد حرم ذلك ربنا تبارك وتعالى؟ فرد ربنا سبحانه بالنهي عن التبني وإبطال نسبة الولد إلى أبيه بالتبني، وذلك في قوله سبحانه: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب:5]، وقال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6]، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]. فالاختيار يكون لله سبحانه وتعالى، فهو من يختار لنا ما يليق بنا وينفعنا ثم يعلم النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي؛ لأنه لا ينطق عن الهوى، فإذا اختار لنا شيئاً فالخيرة فيما اختاره الله سبحانه وما اختاره النبي صلوات الله وسلامه عليه، فهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم. كذلك يوجد في هذه السورة تحريض للمؤمنين على التمسك بشرع الله تبارك وتعالى كما ذكر أنه أخذ العهد على النبيين من قبل النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقد أخذ العهد والميثاق على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى نوح والنبيين من بعد نوح عليه الصلاة والسلام. وفيها: وجوب التمسك بعهد الله وميثاقه الذي أمر به. وأيضاً الاعتبار بما أظهره الله سبحانه وتعالى بنصر المؤمنين على أعدائهم من الكفرة، فيعلم الإنسان أن النصر من عند الله؛ لأن المؤمنين إذ ذاك لم يتوقعوا انتصاراً في هذه الغزوة؛ وبالذات لأن عددهم ثلاثة آلاف وعدد الكفار عشرة آلاف. وقد جعلوا حصناً منيعاً بينهم، حتى اضطر المؤمنون إلى اللين مع اليهود حتى يحفظ اليهود ظهورهم، فإذا باليهود يغدرون بالنبي صلى الله عليه وسلم، فأصبح المشركون من أمامهم واليهود من ورائهم، فشعر المسلمون أنهم بين فكي كماشة. ثم إذا بالنصر يأتي من عند رب العالمين تبارك وتعالى، في وقت يأس المسلمين من النصر، فإذا به يأتي من عند الله من حيث لا يتوقعون، فأرسل الرياح حتى جعلت الكفار يهربون ظناً منهم أن المؤمنين قد هاجموهم في ذلك الوقت، ففيها: أن الله سبحانه وعد المؤمنين بالنصر متى يشاء سبحانه إن استحقه المؤمنون. وفيها أيضاً: الثناء على صدق المؤمنين وثباتهم في الدفاع عن دين رب العالمين سبحانه وتعالى، كما قال الله سبحانه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23]، فمن كان بهذه الصفة صح فيه المدح ودخل تحت هذه الآية. وفيها أيضاً: إظهار نعم الله سبحانه وتعالى على المؤمنين بأن مكنهم من الكفار ومن أهل الكتاب، وجعل لهم ديارهم وأموالهم، وجعل لهم الظهور عليهم، فهذه نعمة من الله تبارك وتعالى بأن نصر المؤمنين وأعطاهم الغنائم والفيء. وفيها أيضاً: ذكر أحكام العشرة الزوجية، وما يكون من الرجل مع أهله، وكيف يتزوج الإنسان، وكم هو العدد المسموح به في الشرع، وبيان خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم في هذا وأن المؤمنين لا يدخلون معه في ذلك؛ لأن الله سبحانه يعلم ما ينفع له وما ينفع للمؤمنين فشرع ذلك سبحانه وتعالى. وفيها كذلك: ذكر عدة المطلقة قبل الدخول بها والبناء عليها. وفيها أيضاً: ما ذكره سبحانه من صفات المنافقين، وكيف أنهم يرجفون بالمؤمنين، وأنهم أشد الناس جبناً وخوفاً مع ادعائهم القوة والشجاعة. ثم اختتمت هذه السورة بالذي افتتحت به، فكما قال سبحانه في أولها: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب:1] قال في آخرها: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:73]. فذكرهم في أولها ثم بين عاقبتهم في آخرها وما هم صائرون إليه، وفي هذه السورة أيضاً: بيان القدوة والأسوة الحسنة وهو النبي صلى الله عليه وسلم، والحث على التأسي والاقتداء به صلوات الله وسلامه عليه.

الفرق بين النبوة والرسالة

الفرق بين النبوة والرسالة قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الأحزاب:1]. وهذا أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتقوى الله، مع أن النبي صلوات الله وسلامه عليه هو أتقى الخلق لربه تبارك وتعالى وهو أعلم بما يتقي، فإذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتقوى كان غيره من باب أولى أن يؤمر بتقوى الله سبحانه. والتقوى: هي المدافعة عن النفس، فتتقي الشر والظلم بأن تجتنب ذلك وتخاف أن يصيبك منه شيء، وتتقي الله بمعنى: تدفع غضب الله سبحانه وتعالى عنك بعملك الصالح، فتخاف من عذابه وعقوبته، وتدفع ذلك بالإيمان بالله سبحانه والعمل الصالح. قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:1]، وهذه قراءة الجمهور. وقرأ نافع (النبيء) في كل القرآن بإلحاق الهمزة، وأصلها من النبوءة، أي: أنه أخبر بالغيب، فهو المنبأ صلوات الله وسلامه عليه. إذاً: فالنبي هو المبلغ أخبار الله سبحانه وتعالى مما غاب عن الخلق، فهو منبئ مخبر بما غاب عن غيره من وحي الله تبارك وتعالى، والرسول: هو الذي أرسل برسالة من الله عز وجل، والنبي هو المنبأ بوحي أو بغيب وأمر بتبليغ هذا الشيء الذي غاب عن غيره، كتوحيد الله والأعمال الصالحة من الصلاة والصيام والزكاة والجهاد إلخ. والفرق بين النبي والرسول: هو أن النبي من يحكم بشرع من قبله من الأنبياء، أما الرسول فهو صاحب كتاب منزل من الكتب السماوية؛ فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً، وقد نبئ النبي صلى الله عليه وسلم لما أمره الله سبحانه بقوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]، ثم أرسل بالمدثر والمزمل: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:1 - 2] {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1 - 2]، أي: اذهب وأنذر الناس وبلغ رسالة الله سبحانه كما قال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67]. وصاحب الرسالة أعلى وأشرف من صاحب النبوة؛ ولذلك كان أولو العزم من الرسل لا من الأنبياء كنوح عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، وكذلك موسى وعيسى ونبينا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

بيان خطر الكفار والمنافقين على المجتمع الإسلامي

بيان خطر الكفار والمنافقين على المجتمع الإسلامي قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:1]. فأمره الله عز وجل بتقواه، ونهاه أن يطيع الكافرين والمنافقين فقال: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب:1]، وطاعة الكفار المنافقين شر كلها؛ لأن الكافر يأمرك بالمنكر، فليس بعد الكفر ذنب، وإذا كانت علاقته بالله سبحانه مبنية على الجحود والنكران والكفر بالله سبحانه وتعالى فكيف ستكون علاقته مع الخلق؟! ولذلك حذرنا الله بقوله: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} [الأحزاب:1]؛ فإنه يأمرك بالكفر بالله سبحانه، ولن يرضى عنك الكافر أبداً حتى تصير مثله، حتى وإن قال لك: إن هناك تسامحاً في الأديان، فكلنا شيء واحد تحت مظلة الإنسانية والحرية، فهو كذاب في دعواه، بل قد يكون من أكثر الناس دعوةً إلى الكفر والباطل. وقد يزعمون أن هذه الدولة دولة علمانية ثم إذا خالف أحد نظامها قالوا عنه: إنه من اليمين المتطرف، أي: يدعو الناس إلى التطرف، ومثل هؤلاء يعرفون في لحن القول كما قال الرئيس الأميركي في حرب العراق: إنها حرب صليبيه، فهم في الحقيقة يحاربون لا لشيء إلا للدين، وصدق الله العظيم إذ يقول محذراً المؤمنين: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]. ومع ذلك تجد المسلمين يتناسون ذلك ويتغافلون عنه، ويصدقون كلام هؤلاء الكذابين الذين ينادون بحرية الأديان والتسامح الديني وحرية المرأة ونزع الحجاب؛ حتى لا يكون هناك فرق بين المسلمين والكفار؛ ولذلك تجد الكفار يسعون جاهدين لتحرير المرأة راجين بذلك الوصول بالمسلم إلى أوحال المعاصي والمنكرات، وما ذلك إلا بسبب الغل والغيظ والحقد الذي يكنونه للمسلمين ولدين الإسلام؛ ولذلك فالله عز وجل يحذرنا من طاعة الكفار فيقول: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} [الأحزاب:1]؛ فإنهم يضلونك. والحق أن هذا هو دأب الكفار في كل زمان ومكان، فقد كان كفار قريش يعرضون الدخول في دين الإسلام على النبي صلى الله عليه وسلم بشرط أن يذكر آلهتهم كاللات والعزى بخير وألا يشتمها، استدراجاً له صلى الله عليه وسلم، فإذا بالتحذير الرباني يصل مباشرة فيقول: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} [الأحزاب:1]، ثم يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيجدون حوله الفقراء من أصحابه رضي الله تبارك وتعالى عنهم فيقولون: نحن نجلس مع هؤلاء -وكان فيهم بلال وغيره- بل اجعل لنا يوماً ولهؤلاء يوماً حتى لا تتحدث العرب أنا جلسنا مع هؤلاء الضعفاء والفقراء. فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يوشك لحرصه على الدعوة إلى دين الله أن ينفذ ما طلبوه، لكن التحذير الرباني يصل إليه مباشرة فيقول: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]، فلا تترك هؤلاء الذين يحرصون على الحضور والاستجابة لك، والذين يدعون ربهم بالغدو والآصال يبتغون وجه الله سبحانه وتعالى، قال: {وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} [الكهف:28]، أي: لا تبتعد عيناك عن هؤلاء المؤمنين الصالحين تريد زينة الحياة الدنيا وطاعة هؤلاء الكفار، وهنا قال: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب:1]. فالكافر يضلك ويدعوك إلى ما هو عليه، والمنافق أشد من ذلك، فالمنافق أبطن النفاق في قلبه وأظهر الإسلام على لسانه فهو غير معلوم، أما الكافر فمعلوم كفره باطناً وظاهراً.

علامات المنافقين

علامات المنافقين وقد حذر الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم من طاعتهم؛ لأن المنافق ينصرف عن المؤمن ويأنف أن يكون معه في أوقات الجد والشدة، كما صنع عبد الله بن أبي بن سلول مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد لما انسحب بثلث الجيش عن النبي صلى الله عليه وسلم، بعد أن كانوا ألف مقاتل والكفار ثلاثة آلاف، فصار النبي صلى الله عليه وسلم في سبعمائة مقاتل، وانصرف المنافق ومن معه في وقت الشدة والحرج. ومن علامات المنافقين أيضاً: سلاطة ألسنتهم وبذاءتها على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، كما قال بعضهم: والله ما رأينا مثل قرائنا أرغب بطوناً ولا أجبن عند اللقاء. فقراء القرآن في نظرهم أجوع الناس وأجبنهم عند القتال والجهاد، وكأن هؤلاء المنافقين هم الذين يجاهدون في سبيل الله عز وجل. وكانت النتيجة أن فضحهم الله سبحانه وتعالى في سورة التوبة، فذكر أوصافهم وأحوالهم بدقة متناهية، حتى إنهم خافوا أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم، فتبين أن المنافقين هم أشد خطراً على المؤمنين من الكفار؛ لأن الكفار معلومون ظاهرون، أما المنافقون فقد يصلون ويتصدقون، ولكنهم يفسدون العلاقة بين المسلمين مع بعضهم. وانظروا إلى عبد الله بن أبي بن سلول وأفعاله مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع المسلمين، فقد خرج ذات مرة في غزوة مع المسلمين فلما رجع قال لمن معه: {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون:7]، أي: حتى لا يبقى أحد مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يتركنا وينصرف، ثم يقول لمن حوله: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8]، أي: إذا رجعنا إلى المدينة فسنخرج هؤلاء الضعفاء الأذلين من بيننا -يقصد النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه- فإذا سئل عن ذلك ومن معه إذا بهم يحلفون بإنكار ذلك عنهم، كما قال تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} [التوبة:74]. وكذلك المنافق في كل زمان، فهو إنسان متسلق يريد أن يصعد على أي شيء مهما كان ثمنه؛ فلا تكاد تجد في قلبه الخوف من الله سبحانه وتعالى، بل لا تجد في قلبه سوى حب المنصب والعلو على الخلق. ومن علاماتهم كذلك: التكاسل عن العبادات والتذبذب، فلا تجده يقف على قدم ثابتة أبداً، بل يصلي إذا وجد القوة مع المصلين، وإلا فالأصل فيه التكاسل والتشكك في وعد الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، فالله عز وجل هنا يحذر نبيه صلى الله عليه وسلم منهم فيقول: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب:1] أي: خف الله يا محمد! ولا تمل لهؤلاء الكافرين والمنافقين، وإذا كان ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فهو للمؤمنين من باب أولى. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا} [الأحزاب:1] أي: عليماً بما تقولون وما تفعلون وما تنوون، حكيماً سبحانه وتعالى في أوامره ونواهيه، فإذا نهاكم عن الشيء فاحذروه واتركوه سواء فهمتم الحكمة أم لم تفهموا؛ لأن الله حكيم في أوامره ونواهيه، فما عليك إلا أن تنفذ أمر الله وستجد الخير من وراء ذلك. ولذلك اتبع الصحابة النبي صلوات الله وسلامه عليه في كل ما يقوله لهم، لعلمهم بأن الخير يجري على لسانه صلوات الله وسلامه عليه، فهو لا ينطق عن الهوى، وكذلك يجب على كل مسلم أن يطيع الله ورسوله صلوات الله وسلامه عليه، ويعلم أن الله له العلم الكامل وله الحكمة البالغة سبحانه. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الأحزاب [2 - 4]

تفسير سورة الأحزاب [2 - 4] لقد أدب الله نبيه عليه السلام فأحسن تأديبه، فالقرآن مليء بالأوامر والخطابات المصدرة بمناداة سيد الخلق عليه الصلاة والسلام، وقد أمره تعالى باتباع ما يوحيه إليه آمراً لأتباعه المؤمنين بذلك.

طاعة الكفار والمنافقين ضلال

طاعة الكفار والمنافقين ضلال الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [الأحزاب:1 - 3]. في هذه الآيات يخبر الله سبحانه وتعالى عن تقواه سبحانه، وأنه ينبغي على جميع خلقه من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام فمن دونهم أن يتقوا الله سبحانه، فأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتقي الله، وهو أتقى خلق الله صلوات الله وسلامه عليه وأعلمهم بالله وأخشاهم له، فغيره من باب أولى أن يؤمر بذلك وأن يجعل بينه وبين عقوبة الله وقاية من العمل الصالح والإخلاص وتوحيد الله سبحانه وتعالى وغير ذلك. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب:1]، فتحذير المعصوم عليه الصلاة والسلام من طاعة الكفار والمنافقين، مع أنه إذا فعل شيئاً فيه طاعة لهؤلاء في أمر من الأمور فإنه لا يبتغي بذلك إلا وجه الله سبحانه وتعالى، معناه أن غيره من باب أولى، فلا يجوز للمسلم أن يطيع كافراً أو يطيع منافقاً؛ فإنه إذا أطاعهم دلوه على الشر وصدوه عن طريق الخير. فليحذر المؤمن من طاعة الكفار والمنافقين، فإنهم لن يدلوه على خير وقد ضلوا، فهم أهل ضلال فكيف يدلون غيرهم على الخير وهم لم يأخذوا به أصلاً، فلا تطع الكافرين ولا تطع المنافقين. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الأحزاب:1]، أي: فالله عليم بما يأمر سبحانه، عليم بمن يطيعه من عباده، عليم بمن يدل على الخير ومن يضل عن الخير، وبمن يهدي إلى الرشد ومن يهدي إلى الضلال، والله حكيم في أوامره ونواهيه، حكيم إذ يقول: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب:1] ويقول: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء:59]. وهو حكيم سبحانه في تشريعه، حكيم في أمره ونهيه، فأطع الله واحذر من طاعة الكفار والمنافقين فإنهم قد ضلوا ويريدون أن يضلوك عن سبيل الله سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (واتبع ما يوحى إليك من ربك)

تفسير قوله تعالى: (واتبع ما يوحى إليك من ربك) قال تعالى: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [الأحزاب:2]. وهذا أيضاً أمر للنبي صلى الله عليه وسلم ولغيره بالاتباع لما أوحاه الله سبحانه من الوحي، وهناك وحي في كتاب الله عز وجل ووحي في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم نطقه وكلامه إما بقرآن وإما بسنة، قال الله سبحانه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3]، أي: لا ينطق عن هوى في نفسه، وإنما ينطق عن وحي بالقرآن أو بالسنة، وكلاهما وحي من الله تبارك وتعالى. {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [الأحزاب:2]، فما نطقت به وأمرت غيرك به، فأنت مطالب بأن تفعله وأن تتبع تشريع ربك سبحانه. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [الأحزاب:2]، والخبير: هو الدقيق في علمه، الذي يعلم ما جل وما قل، ما استتر وخفا وما ظهر من الإنسان، فيعلم الله عز وجل كل شيء، فهو العليم وهو الخبير سبحانه، وهو العليم بدقائق وخفايا النفوس. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} [الأحزاب:2]، هذه قراءة الجمهور. وقرأها أبو عمرو (إن الله كان بما يعملون) على الغائب. وهذه الآية هي كقوله تعالى: {بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب:9]، في قراءة الجمهور، وأما في قراءة أبي عمرو فهي: (بما يعملون بصيراً). فالله يخاطبكم ويقول: كل ما تعملون فهو الخبير به وهو البصير به سبحانه وتعالى، وما يعمل الكفار والمنافقون فالله عليم وخبير بذلك كله أيضاً. وفي هذه الآية الأمر بالاتباع، وكأنها إشارة وتحذير من الابتداع في دين الله سبحانه، {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف:3]، فيأمركم بالاتباع للكتاب والسنة، فكل ما جاء فيهما فهو وحي من عند رب العالمين والمؤمن مطالب باتباعه. ولذلك يحذر الله سبحانه من سلوك سبل الضلالة، وفي فاتحة الكتاب تقرأ قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، أي: اهدنا ودلنا وأعنا على اتباع هذا الصراط المستقيم، وقال هنا: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [الأحزاب:2]. وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من البدع فقال: (إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)، ففي هذا الحديث تحذير من الابتداع في دين الله سبحانه. فلا تبتدعوا ويكفيكم ما جاء في القرآن والسنة، وقد قال الله لنبيه محمد: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [الأحزاب:2] وكذلك المؤمنون أمروا بالاتباع تبعاً.

تفسير قوله تعالى: (وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا)

تفسير قوله تعالى: (وتوكل على الله وكفى بالله وكيلاً) قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [الأحزاب:3]. وهذا الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين أيضاً. والتوكل على الله هو أن تجعل ربك وكيلاً، وأن تعتمد عليه وحده لا شريك له، وأن تكل أمرك إليه، وأن تفوض أمرك إليه، وأن تلجأ إليه، وأن تجعل ظهرك وسندك إليه سبحانه وتعالى، فهو الذي يعينك وهو الذي ينصرك ويحميك ويدافع عنك إذا اعتمدت وتوكلت عليه، وقد قال الله للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [الأحزاب:3]. أي: يكفيك ربك سبحانه وكيلاً يدبر أمرك ويدافع عنك، فهو وكيلك وحافظك وحسيبك، يكفيك من كل شيء، {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [الأحزاب:3].

تفسير قوله تعالى: (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه)

تفسير قوله تعالى: (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه)

أقوال المفسرين في معنى (ما جعل الله لرجل من قلبين)

أقوال المفسرين في معنى (ما جعل الله لرجل من قلبين) يقول: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب:4] وكأن هنا أناساً ادعوا ذلك فأكذبهم الله سبحانه وتعالى. وهذه الدعوى محتملة من الإنسان، فقد يدعي لنفسه أنه كذلك؛ ليري الناس أنه أفضل من غيره حتى من النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو الناس إليه، فإذا بالله يكذب من يقول ذلك، وأن الله جعل القلب قلباً واحداً في كل إنسان: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب:4]. وقد يكون بعضهم اتهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وقالوا: إنه ذو قلبين: قلب معكم وقلب مع غيركم، يرمونه بذلك عليه الصلاة والسلام، فيكذبهم الله بأنه ما جعل لأحد من قلبين لا النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره، وإنما هو قلب واحد في كل إنسان. قال مجاهداً: نزلت هذه الآية في رجل من قريش كان يُدعى ذا القلبين، ويلقبونه بأنه صاحب القلبين، لماذا؟ وقالوا: إن ذلك من ذكائه، وإنه كان شديد الدهاء، والمكر، فهذا الإنسان كان يمكر ويكيد ويزعم أن ذلك من الذكاء الشديد، فكانوا يلقبونه بذي القلبين من دهائه. وكان يقول: إن لي في جوفي قلبين أعقل بكل منهما أفضل من عقل محمد، وكان رجلاً ثرياً، واسمه جميل الفهري، وقيل: بل هو غيره. الغرض أن هذا الرجل كان شديد الحفظ، يسمع الشيء فيحفظه بسرعة، فكان مُعجباً بحفظه ومعجباً بذكائه، فيقول للناس: أنا أولى بالاتباع من محمد! فقالت قريش: لا يحفظ هذه الأشياء إلا وله قلبان، فهو ادعى دعوى وهم صدقوه في ذلك؛ لأنه يحفظ بهذه السرعة. فلما كانوا في يوم بدر كان هذا الرجل من ضمن الكفار الموجودين، وكان ممن هرب في يوم بدر، فرآه أبو سفيان وهو يحمل نعلاً في يده ونعلاً في قدمه، فقال له أبو سفيان: ما بال الناس؟ قال: انهزموا. قال: فما بال إحدى نعليك في يدك والأخرى في رجلك. فقال: ما شعرت إلا أنهما في رجلي، أي: كنت أظن أني لابسهما في رجلي، فعرفوا أنه كذاب فيما يدعي من حفظه، ومن أنه ذو قلبين. فكأنه قال له: لو كان لك قلبان لم تضع نعلاً في يدك ونعلاً في رجلك. هذا مما قيل في ذلك، والآية تحتمله. وكذلك جاء أنهم ادعوا على النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فهم زعموه لهذا الرجل الذي اسمه جميل من باب المدح له، فلما قالها المنافقون عن النبي صلى الله عليه وسلم قالوها من باب الذم والقدح في النبي صلوات الله وسلامه عليه، فقال بعض المنافقين: إن محمداً له قلبان؛ لأنه يكون جالساً معكم وفجأة ينزل عليه الوحي من السماء، فيغيب عنكم ثم يرجع مرة أخرى، إذاً: له قلبان قلب معكم وقلب ليس معكم. يريدون بذلك أن ينفروا الناس عن النبي صلوات الله وسلامه عليه فأكذبهم الله سبحانه وقال: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب:4]. أيضاً مما قيل في ذلك: إنها نزلت تمثيلاً في زيد بن حارثة لما تبناه النبي صلوات الله وسلامه عليه -وهي محتملة- تمهيداً لتحريم التبني؛ لأنه لا يعقل أن يكون للإنسان أبوان، بل لا يوجد له إلا أب واحد، كذلك لا يوجد أحد له أمان بل هي أم واحدة، وهي التي ولدت الإنسان، وكان من هذا الأب ومن هذه الأم. فمن تدعيه تبنياً هو ابن لغيرك وليس ابناً لك، كما أن الله لم يجعل في جوفك إلا قلباً واحداً كذلك لم يجعل رجلاً ابناً لاثنين. وكذلك قالوا: إن هذا تمهيد للنهي عن الظهار، فالمظاهر يقول لامرأته: أنت أمي وهي ليست أمه، فما جعل الله لإنسان أمين كما أنه لم يجعل له قلبين، إذاً: لا قلبان لإنسان، ولا أبوان له، ولا أمان له؛ فكأن في الآية تمهيداً لتحريم الظهار وتحريم التبني. وكذلك مما قالوا في معناها وهي تحتمله أيضاً: ليس للإنسان قلب يكفر به وقلب يؤمن به، فإما أن يكون قلبه مؤمناً وإما يكون كافراً ومنافقاً، فلا يجتمع الإيمان مع الكفر في قلب الإنسان، وكيف يجتمع الإيمان الذي هو توحيد لله سبحانه مع الشرك بالله سبحانه والجحود به؟ فالآية على هذا القول تمهيد لتحريم الشرك بالله سبحانه.

وظيفة القلب وأهميته

وظيفة القلب وأهميته قال تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب:4]. وقلب الإنسان من أعظم أعضائه، والجسد فيه مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب، كما ذكر النبي صلوات الله وسلامه عليه. فقلب الإنسان يعقل ويحفظ ويعرف ربه تبارك وتعالى، وهو نفس القلب الذي إذا انقلب إذا بالعبد يشرك بالله ويجحد ربه سبحانه ويفعل المعاصي والذنوب، فالقلب في الإنسان قد يذكر أنه الذي في الجوف كما قال: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب:4] وقد يذكر في آية أخرى أن القلب في الصدر كما قال: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]. إذاً: هنا قلب الإنسان الذي في صدره هو محل الإيمان ومحل الكفر، ومحل العقل الذي يتعقل به الإنسان، فهو يعقل بهذا القلب، ويشعر به، ويحس به، وفيه العاطفة، ولذلك الذين يعملون زرعاً للقلوب شعروا أن الإنسان الذي زرع له قلب مكان قلبه لا عاطفة فيه، بل قلبه قلب ميت لا إحساس ولا شعور ولا حب فيه، لا يوجد تعاطف بينه وبين الناس الذين من حوله، وصدق الله العظيم عندما يقول: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]، ولم يقل: المخ الذي في رأس الإنسان، فالقلب هو محل تعقل الإنسان ومحل إيمانه، ومحل عاطفته، فذكر الله سبحانه القلوب التي في الصدور.

معنى قوله: (وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون)

معنى قوله: (وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون) قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} [الأحزاب:4]. والمظاهرة: هي أن يقول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي. وهذه الكلمة كانت مشهورة عند العرب، وكان الرجل يتغيظ من امرأته ويريد أن يهجرها فيقول لها: أنت علي كظهر أمي. والظهر يعبر به عن الركوب، وأصله ركوب الإنسان على ظهر الدابة، فعبر بهذا التعبير كناية عن جماع الإنسان لأهله، فكأن هذا الإنسان عندما يقول لامرأته: أنت علي كظهر أمي، كأنه يقول: كما لا يجوز لي أن آتي أمي كذلك لا يجوز لي أن آتيك، فيحرم ما أحل الله سبحانه وتعالى له، ويتكلم بالزور من القول. فالله عز وجل لا يرضى أن تجعل هذه المرأة أمك، وهي ليست بأمك، ولا يحل لك أن تقول ذلك. فحرم الله عز وجل الظهار في هذه الآية، وفي سورة المجادلة منع من ذلك أيضاً، قال تعالى: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة:2]، أي: الذين يظاهرون من نسائهم. وهذا منكر من القول، وهو أن يزعم الإنسان شيئاً على غير الحقيقة ويعلم أنه كاذب فيما يقول، فقال هنا: {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} [الأحزاب:4]. وهاتان الكلمتان فيهما قراءات للقراء: {اللَّائِي تُظَاهِرُونَ} [الأحزاب:4] يقرأ هذه القراءة عاصم وحده. ويقرؤها نافع وأبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب والبصريون: (تَظَّهَّرون). ويقرؤها باقي الكوفيين (تَظَاهرون). ويقرؤها ابن عامر: (تَظَّّّاهرون). إذاً: هناك أربع قراءات في هذه الكلمة: (تَظَّهَرون)، (تَظَّاهرون)، (تُظَاهرون)، (تَظَاهرون). كذلك كلمة (اللائي) فيها قراءات: فيقرؤها أهل مكة والمدينة والبصرة: (اللاي) إذا وقفوا عليها، أو إذا وصلوها فإنهم يقرءوها بالتسهيل أو بالهمز الذي فيها. فبالترتيب يقرؤها قالون قنبل يعقوب: (واللاءِ تَظَّهَّرون) واللاء بالكسرة فيها والمد الذي في الوسط. ويقرؤها ورش أبو جعفر بالتسهيل: (واللاي تَظَّهَّرون) بتسهيل الهمز فيها. وإذا وقف عليها من يسهل فيها يقول: (واللاي). وباقي القراء يقرءونها: (واللائي تَظّاهرون)، (واللائي تُظاهرون)، (واللائي تَظَاهرون). وهناك قراءة أخرى وهي قراءة أبي عمرو وقراءة البزي: (واللاي تَظَّهَّرون).

معنى قوله: (وما جعل أدعياءكم أبناءكم)

معنى قوله: (وما جعل أدعياءكم أبناءكم) قال: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} [الأحزاب:4]. الابن المتبنى ليس ابناً حقيقة، ويحرم عليك أن ترتبط به ارتباط النسب فتقول: هذا ابني، وتكتب اسمه باسمك في النسب، كما يحدث من البعض حين يتبنى طفلاً من ملجأ أو من غيره، ثم يكتبه باسمه ثم يرثه فهذا لا يحل، وقد يكون لهذا الإنسان أقارب ومحارم فيدخل هذا الغريب عليهم بدعوى أن هذا صار أباه، وهذه عمته، فيدخل عليها ويراها، وهذا كله غير جائز، فمتى صار هذا الغلام بالغاً فهو ليس ابناً لهذا، وينبني عليه أن هؤلاء ليسوا محارم له، ويجوز له أن يتزوج منهن. إذاً: التبني يحل ما حرم الله ويحرم ما أحل الله، فلا يجوز لأحد أن يتبنى أحداً. وهناك فرق بين إنسان يكفل إنساناً ويربيه ويسميه بأي اسم، وبين أن يسميه باسمه هو، ويأخذه ليربيه ويتبناه، فالدين لا يمنع من أن يكفل الإنسان يتيماً ويربيه، ولكنه يمنع من أن ينسبه إلى نفسه، فقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ} [الأحزاب:4]، أي: إنما هذا قول قلتموه بألسنتكم وليس قولاً صحيحاً، والله هو الذي يقول الحق سبحانه وتعالى، فقوله هو الحق وحكمه هو العدل سبحانه. قال تعالى: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب:4]، أي: يدل على السبيل ويوفق إليه، ويحول العبد من شيء إلى شيء بقضائه وقدره سبحانه. نسأله أن يهدينا سواء السبيل، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الأحزاب [4 - 5]

تفسير سورة الأحزاب [4 - 5] لقد أبطل الله تعالى عادة التبني التي كانت قبل الإسلام، وكذلك الظهار الذي كان يعتاده الجاهلون، ولذلك فلا يجوز فعل ذلك في الإسلام.

حكم الظهار وبيان كفارته

حكم الظهار وبيان كفارته الحمد لله رب العالمين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الأحزاب:4 - 6]. في هذه الآيات حرم الله سبحانه وتعالى مظاهرة الرجل من امرأته، كما حرم أن يدعي ابناً ليس له، قال سبحانه: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} [الأحزاب:4] وقد تقدم ذكر القراءات في هذه الآية. وقد منع الله سبحانه وتعالى من المظاهرة، وهي أن يظاهر الرجل من امرأته فيقول لها: أنت علي كظهر أمي، وجاء المنع هنا بصيغة الإخبار فقال: {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} [الأحزاب:4]. في سورة المجادلة ذكر الله سبحانه تحريم ذلك كما ذكر أن ذلك هو قول للزور وقول للمنكر، قال تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [المجادلة:1 - 2] فبين أن من الزور والمنكر أن يقول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي، يريد: أنها محرمة عليه كحرمة أمته. ثم بين ما يجب على من وقع في ذلك فقال: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:3]. فبعد أن ذكر أن هذا منكر من القول وزورا، ذكر ما عليه من الكفارة إذا عاد، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة:3] أي: يرجعون عن القول الذي قالوه ويريد أحدهم أن يعاشر امرأته وأن يرجع إلى حياته الطبيعية، فإذا أراد أحدهم ذلك وجب عليه أن يكفر عن هذا القول الذي قاله وكأن قوله بمثابة اليمين المغلظة التي يحلف بها، ولكن كفارة هذا القول الزور الذي قاله أن يعتق رقبة، قال تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:3]. ولأن بعض الناس لا يملكون الرقبة فقد بين حكم من لم يجد ما يعتق، وأن الفرض عليه أن يصوم شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا، قال تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:4]. فإذا لم يستطع ذلك فعليه أن يطعم ستين مسكيناً، قال تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة:4]. وهذه الأحكام وعظ من الله تبارك وتعالى، وقد بينت الآيات أن الكفارة لا تكون إلا قبل أن يتماسا أي: قبل أن يعاشر الرجل امرأته، فعليه أن يكفر بواحدة من ثلاث على الترتيب: فعليه أن يعتق رقبة إذا وجدت الرقاب، فإذا انعدمت الرقاب، لزمه أن يصوم شهرين متتابعين، فإذا لم يقدر على ذلك كان عليه أن يطعم ستين مسكيناً، فلو أنه عكس الترتيب فبدأ بإطعام ستين مسكيناً وهو واجد لرقبة أو قادر على الصيام لا يجزئ ذلك عنه، ولا بد أن يعتق الرقبة إن وجد.

تفسير قوله تعالى: (ادعوهم لآبائهم)

تفسير قوله تعالى: (ادعوهم لآبائهم) الحمد لله رب العالمين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الأحزاب:4 - 6]. في هذه الآيات حرم الله سبحانه وتعالى مظاهرة الرجل من امرأته، كما حرم أن يدعي ابناً ليس له، قال سبحانه: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} [الأحزاب:4] وقد تقدم ذكر القراءات في هذه الآية. وقد منع الله سبحانه وتعالى من المظاهرة، وهي أن يظاهر الرجل من امرأته فيقول لها: أنت علي كظهر أمي، وجاء المنع هنا بصيغة الإخبار فقال: {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} [الأحزاب:4]. في سورة المجادلة ذكر الله سبحانه تحريم ذلك كما ذكر أن ذلك هو قول للزور وقول للمنكر، قال تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [المجادلة:1 - 2] فبين أن من الزور والمنكر أن يقول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي، يريد: أنها محرمة عليه كحرمة أمته. ثم بين ما يجب على من وقع في ذلك فقال: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:3]. فبعد أن ذكر أن هذا منكر من القول وزورا، ذكر ما عليه من الكفارة إذا عاد، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة:3] أي: يرجعون عن القول الذي قالوه ويريد أحدهم أن يعاشر امرأته وأن يرجع إلى حياته الطبيعية، فإذا أراد أحدهم ذلك وجب عليه أن يكفر عن هذا القول الذي قاله وكأن قوله بمثابة اليمين المغلظة التي يحلف بها، ولكن كفارة هذا القول الزور الذي قاله أن يعتق رقبة، قال تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:3]. ولأن بعض الناس لا يملكون الرقبة فقد بين حكم من لم يجد ما يعتق، وأن الفرض عليه أن يصوم شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا، قال تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:4]. فإذا لم يستطع ذلك فعليه أن يطعم ستين مسكيناً، قال تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة:4]. وهذه الأحكام وعظ من الله تبارك وتعالى، وقد بينت الآيات أن الكفارة لا تكون إلا قبل أن يتماسا أي: قبل أن يعاشر الرجل امرأته، فعليه أن يكفر بواحدة من ثلاث على الترتيب: فعليه أن يعتق رقبة إذا وجدت الرقاب، فإذا انعدمت الرقاب، لزمه أن يصوم شهرين متتابعين، فإذا لم يقدر على ذلك كان عليه أن يطعم ستين مسكيناً، فلو أنه عكس الترتيب فبدأ بإطعام ستين مسكيناً وهو واجد لرقبة أو قادر على الصيام لا يجزئ ذلك عنه، ولا بد أن يعتق الرقبة إن وجد.

قصة تبني النبي صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة

قصة تبني النبي صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة ومن الأحكام المذكورة في الآية تحريم التبني، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} [الأحزاب:4]. الدعي: هو الابن الذي يدعيه الإنسان لنفسه، أو يدعي هو أن فلاناً أبوه بدلاً من أبيه الحقيقي. ومعنى الآية: أن الله عز وجل ما جعل هؤلاء الأدعياء أبناءً لكم، فدلت على أنه لا يجوز للإنسان أن يتبنى، كأن يدعي إنساناً لنفسه فيقول: فلان ابني، وهو ليس كذلك. ثم بين سبحانه ما ينبغي عليهم من دعوة الأبناء لآبائهم الحقيقيين فقال: سبحانه: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب:5] فكان العدل الذي حكم الله عز وجل به أن يُدعى الإنسان لأبيه طالما أن أباه معروف، أما إذا لم يعرف أبوه فيقال له أخٌ في الدين، ولا يدعى لغير أبيه. قال العلماء: إن عبد الله بن عمر رضي الله عنه ذكر: ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد صلى الله عليه وسلم، حتى نزلت: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب:5]. وكان زيد بن حارثة قد ادعاه النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه، وبعد ذلك نزل القرآن يحرم التبني فنودي بعد ذلك زيد بن حارثة. وذكر أنس بن مالك وغيره: أن زيداً كان مسبياً من الشام، أي أن زيداً كان أصله من الشام ولم يكن من الحجاز، وإنما سباه ناس من عرب من تهامة، ثم ذهبوا به إلى بلاد الحجاز فباعوه عبداً. وكان السبي والاستبعاد في الجاهلية كثير، حيث يختطف الإنسان من أهله ثم يباع في سوق العبيد، كما فعل بـ زيد مع أنه كان حراً رضي الله عنه، وكان أهله أحراراً، وبعد أن خطف زيد من أهله وبيع في الحجاز، اشتراه حكيم بن حزام بن خويلد، وهو ابن أخ للسيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، أي أنها عمته. ومعروف أن خديجة هي زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، فبعد أن اشتراه حكيم بن حزام وهبه لعمته السيدة خديجة، ثم وهبته السيدة خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم تكرم وتفضل النبي صلى الله عليه وسلم فأعتق زيداً رضي الله تبارك وتعالى عنه وتبناه.

تقديم زيد البقاء عند النبي صلى الله عليه وسلم على اللحوق بأبيه

تقديم زيد البقاء عند النبي صلى الله عليه وسلم على اللحوق بأبيه وقد ذكر أن أهل زيد بن حارثة كانوا يبحثون عنه ليلاً ونهاراً، فجاء أبوه وعمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن عرفوا أنه عند النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ندفع لك ما تريد وتترك لنا ابننا، فترك النبي صلى الله عليه وسلم لـ زيد الاختيار وقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (خيروه! فإن اختاركما فهو لكما دون فداء) أي: لو اختار أن يكون مع أبيه ومع عمه فهو لهما من غير ثمن، فاختار الرق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفضل أن يكون عبداً عند النبي صلى الله عليه وسلم على أن يرجع إلى أبيه وعمه. والحقيقة أن زيداً رفض الرجوع إلى أبيه وعمه لا لأنهم كانوا قساة عليه، فلم يحرموه من حاجة طلبها، وإنما كان زيد مخطوفاً من أبيه ومن أمه وهو ما زال صغيراً رضي الله تبارك وتعالى، ولكن من يعاشر النبي صلى الله عليه وسلم يستحيل أن يقبل أن يكون عند غيره بل سيفضل أن يكون عبداً عند النبي صلى الله عليه وسلم على أن يكون حراً وملكاً في مكان آخر. فـ زيد قد أحس بقربه من النبي صلى الله عليه وسلم، وأنس برحمة النبي صلى الله عليه وسلم وشفقته ورأفته، وعلم أن هذا النبي لا يضاهيه أحد مكانة أو شرفاً ولذلك اختار زيد النبي صلى الله عليه وسلم على أبيه وعلى عمه، وبعد أن اختار زيد النبي صلى الله عليه وسلم أخذه وخرج إلى قومه من قريش وقال: (يا معشر قريش! اشهدوا أنه ابني يرثني وأرثه). فتبناه النبي صلى الله عليه وسلم على العادة التي كانت جارية في العرب قبل أن يحرم الله عز وجل التبني، فانصرف أبوه وقومه بعد ذلك تاركين زيداً عند النبي صلى الله عليه وسلم بعد طول بحث وشوق جسده أبوه شعراً يقطع قلب من يسمعه، من شدة حبه لابنه، ومن شدة حزنه على فراقه، حيث يقول: بكيت على زيد ولم أدر ما فعل أحي فيرجى أم أتى دونه الأجل فو الله لا أدري وإني لسائر أغالك بعدي السهل أم غالك الجبل فيا ليت شعري هل لك الدهر أوبة فحسبي من الدنيا رجوعك لي بدل تذكرنيه الشمس عند طلوعها وتعرض ذكراه إذا غربها أفل وإن هبت الأرياح هيجن ذكره فيا طول ما حزني عليه وما وجل فأعمل نص العيس في الأرض جاهداً ولا أسأم التطواف أو تسأم الإبل حياتي أو تأتي علي منيتي فكل امرئ فان وإن غره الأمل ولكن بعد أن وجد حنان النبي صلى الله عليه وسلم ورحمته مع ابنه، واختيار ابنه للنبي صلى الله عليه وسلم أحس أنه في أمان، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أولى به، فتركه للنبي صلوات الله وسلامه عليه، فكافأه النبي صلى الله عليه وسلم بأن تبناه وجعله ابناً له. وقد توفي أبوه بعد ذلك فظل عند النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن قتل زيد رضي الله تبارك وتعالى في غزوة مؤتة، في سنة ثماني من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم في سرية الأمراء التي أمّر النبي صلى الله عليه وسلم فيها زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة، وجعلهم على البدل، فقال: (أميركم زيد، فإن قتل فـ جعفر، فإن قتل فـ عبد الله بن رواحة). فقتل الثلاثة في هذه الغزوة وبكاهم النبي صلوات الله وسلامه عليه، وتأمر بعدهم خالد رضي الله عنه من غير إمرة وفتح الله عليه في تلك الغزوة. ومن يسمع هذه القصة يعرف عظيم حب النبي صلى الله عليه وسلم لـ زيد وحب زيد للنبي صلى الله عليه وسلم، وشفقة النبي صلى الله عليه وسلم ورحمته معه، ولكن مع هذه المحبة العظيمة ينزل الله قرآناً على نبيه: أن لا تدعيه لنفسك فهو ليس ابنك! فينفذ النبي صلى الله عليه وسلم ما أمر به، فمن سيكون بعد النبي صلى الله عليه وسلم أشد حباً لإنسان كهذا الحب الذي كان من النبي صلى الله عليه وسلم لـ زيد ومن زيد للنبي صلى الله عليه وسلم.

الحكمة من إبطال تبني النبي صلى الله عليه وسلم لزيد

الحكمة من إبطال تبني النبي صلى الله عليه وسلم لزيد ومن حكم الله تبارك وتعالى أن يتبنى النبي صلى الله عليه وسلم زيداً، ومن حكمه سبحانه أيضاً أن ينزل التحريم والحال هكذا، فيطبق أول ما يطبق على النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا يتعلل الإنسان عن تنفيذ الأمر بحجة الخوف من أن تنكسر نفس الإنسان الذي تبناه، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أولى، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم ونفذ وأطاع ربه حيث قال له وللمؤمنين: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب:5] لأن هذا هو العدل، فالأب حقيقة هو الذي تزوج ثم رزقه الله عز وجل هذا الولد، أبعد أن يرزق فلاناً ابنه تدعيه لنفسك؟ بل القسط والعدل أن تدعوه لأبيه الذي كان سبب وجوده.

من لا يعرف له أب ينادي بالأخوة أو المولى

من لا يعرف له أب ينادي بالأخوة أو المولى قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب:5]. فبين أننا إذا لم نعلم أبا هذا الإنسان نقول: أخونا في الدين، أو أخونا في الإسلام أو هو مولانا. وكلمة المولى من الكلمات التي لها معان كثيرة، وأصلها من الولي، والولي: القرب، فمن كان قريباً مني، كان وليي، ومن معاني المولى أيضاً: ابن العم: لأنهم قرابة أبناء العم. ومن معاني الموالي: العبيد الذين أعتقوا، والمولى هو السيد الذي يعتق. ومن معانيها: النصير والمدافع والمحامي أو الحامي عن الإنسان. فتشير الآية إلى أن من لم يعلموا آبائهم إما أن يكونوا أحراراً، فهم إخوانكم في الدين، وهم كذلك إخوانكم في الدين ومواليكم، إن كانوا أرقاء.

حكم الخطأ في نسبة شخص إلى من تبناه

حكم الخطأ في نسبة شخص إلى من تبناه قال الله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وكان الله غفوراً رحمياً} [الأحزاب:5]. قد يريد الإنسان أن يعمل الصواب ولكن يقع في الخطأ، فالله غفور رحيم. وكان هناك أناس قد تبناهم آخرون غير النبي صلى الله عليه وسلم، جرياً على ما كانوا عليه من عادة التبني، فلما نزلت الآية وحرم التبني، كان يجري على ألسنة الناس نسبة المتبني إلى المتبنى، كأن يقال: زيد بن محمد، فبينت الآية أن من تعمد ذلك وقع في الإثم، ومن لم يتعمد ذلك وإنما جرت الكلمة على لسانه خطأً فالله غفور رحيم. على أن منهم من لصق به هذا الاسم، حتى أن الناس لا يكادون يعرفون له اسماً غيره، مثل: المقداد بن الأسود، وقد كان المقداد بن الأسود فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي غزوة من الغزوات لقبه بذلك عليه الصلاة والسلام. والأسود ليس أباه، وإنما هو عمه، فهو المقداد عمرو ولكن صار على الألسنة المقداد بن الأسود، فـ الأسود بن عبد يغوث كان قد تبنى المقداد في الجاهلية ومكث معه فترة طويلة إلى أن أصبح رجلاً، وحينها نسي أباه الحقيقي، فأصبح الناس ينادونه بهذا الاسم لا يكادون يعرفون غيره، وأصبح من يناديه لا يقصد أن يقول له: أبوك ليس عمرو وإنما أبوك الأسود؛ ولكن لما لصق به هذا الاسم عرف به، على أن الله عز وجل قد عفا عن مثل ذلك، أي: أن الإنسان لا يتعمد أن ينسب الإنسان إلى غير أبيه، وعلى هذا فمن التصق به الاسم فصار لا يكاد يعرف إلا كـ المقداد بن الأسود لم يأثم من ناداه به. لكن من قصد نسبة فلان إلى فلان وهو ليس أباه ولو بالتبني فهذا حرام لا يجوز إطلاقه، كما لا يجوز لإنسان أن يقول: أنا ابن فلان على وجه التبني، ولا للرجل أن يقول: فلان ابني على وجه التبني، ولا لثالث أن يقول: فلان بن فلان كأنه ينسبه إليه وهو يعلم أنه ليس ابنه، ومن فعل ذلك كان عاصياً. قال الله سبحانه: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:5] أي: إن الله غفور للإنسان الذي تعمد ذلك ثم تاب إلى الله، والله رحيم بأن رفع عنكم المؤاخذة في الخطأ. وهناك فرق بين الخطأ والخطيئة: فالخطيئة أن يريد الإنسان المعصية، أو يقع في المعصية وهو متعمد لها. والخطأ: أن يريد الإنسان الطاعة فيخطئ فيقع في المعصية، فهو لم يرد معصية ولكن أخطأ فوقع في الشيء فالله سبحانه وتعالى رحيم، ومن رحمته أنه رفع عنا الإثم في الخطأ والنسيان وما استكرهنا عليه.

حكم من حلف على شيء فتبين خطؤه

حكم من حلف على شيء فتبين خطؤه ومن قول الله سبحانه: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب:5] استنبط العلماء: أن الإنسان الذي يخطئ في الشيء فيظنه كذا ثم يكون غير ما قال، أنه لا شيء عليه، حتى ولو حلف يميناً على ذلك، كأن يرى إنسان خيالاً فيقول: والله إن فلاناً هو الآتي وهماً منه، فلما دنا منه كان إنساناً آخراً. فالحالف كان يعتقد في نفسه الصدق ولم يقصد أن يكذب في ذلك، فأخطأ فيها فقال: والله إنه فلان فتبين غيره، فليس عليه في ذلك إثم وليس عليه في ذلك كفارة يمين. كذلك: لو أن إنساناً طلب من إنسان حقه، ثم حلف قائلاً: والله لا أفارقك حتى تدفع لي حقي! فدفع له ما يرضيه، فأخذ منه المال وفارقه، فلما انصرف وجد المال مزيفاً غير حقيقي، فلا كفارة عليه؛ لأنه حين فارقه اعتقد الصدق في ذلك واعتقد أنه استوفى حقه، فليرجع إليه وليطلب حقه بعد ذلك ولا كفارة عليه في ما أقسم. كذلك: لو أن إنساناً حلف قائلاً والله لا أسلم على فلان، ثم جاء من أقسم ألا يسلم عليه مستخفياً وهو لم يره، فما أدرك إلا ويده في يده فيقال: هذا أخطأ ولم يتعمد فلا حنث عليه في ذلك طالما أنه لم يتعمد الحنث.

حكم قول الكبير للصغير (يا بني) وقول الرجل لزوجته (يا أمي) من باب الشفقة

حكم قول الكبير للصغير (يا بني) وقول الرجل لزوجته (يا أمي) من باب الشفقة بين الله حقيقة التبني فقال سبحانه وتعالى: {ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ} [الأحزاب:4] أي: في التبني، يقول الإنسان: هذا ابني، قولاً بالفم وليس له صدق في القلب؛ لأنه ليس ابنه، كما يقول المظاهر لامرأته: أنت علي كظهر أمي، وهي لست أمه. وقد يسأل سائل هل من هذا الباب أن إنساناً يقول لامرأة على وجه الرأفة والرحمة: افعلي يا أمي! ولم يقصد بذلك الظهار ولكن من باب التلطف الراجح أنه ليس من هذا الباب. ومثله أن يقول: إنسان للغلام الصغير: تعال يا بني! اذهب يا بني! إذ إنه لم يقصد أنت ابني حقيقة ولكن ذلك من باب الشفقة والرحمة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أنس بن مالك: (أين كنت يا بني؟) وكان يقول ذلك له ولغيره. فهذه الكلمة لا يقصد منها الإنسان أنك ابني حقيقة ولا من يخاطب زوجته فيقول: يا أمي! لا بقصد الحقيقة.

تفسير سورة الأحزاب [5 - 6]

تفسير سورة الأحزاب [5 - 6] ذكر الله تعالى حكم التبني، وأن الإسلام جاء بإبطال التبني، وأمر بأن ينسب الولد إلى أبيه، وبين سبحانه أن هذا هو العدل والقسط والبر، وبين سبحانه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان شفيقاً رحيماً بالمؤمنين؛ فلذلك جعله أولى بهم من أنفسهم، وحكمه فيهم كان مقدماً على اختيارهم لأنفسهم.

الأحكام المتعلقة بالتبني

الأحكام المتعلقة بالتبني

أضرار التبني

أضرار التبني أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الأحزاب:5 - 6]. قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} [الأحزاب:4] فيه دلالة على النهي عن التبني، وكذلك قوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب:5] فيحرم على المسلم أن يتبنى إنساناً وينسبه لنفسه، ويلزمه أن ينسبه إلى أبيه الحقيقي إذا علم هذا الأمر. فإن لم يعلم فلا يجوز له أن ينسبه إلى نفسه وإن أخذه ورباه، فيقول: فلان أخي في الله، أو هذا مولاي، فنسبتهم لآبائهم هو الأعدل عند الله سبحانه، وهو الحق الذي أمر الله عز وجل به. فالإنسان الذي ربيته ليس ابناً لك ويكون هذا معروفاً بين الناس، ولا يتكلم الإنسان بعقله في مثل هذا الشيء، وما أكثر ما يقول الإنسان: الله أعلم، قال تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]. والصبي الصغير عندما يكبر سيقول للذي رباه: هذا أبي وهذه أمي، وهما ليسا بأبيه ولا أمه، والله أعلم به سبحانه وتعالى. وهذا الإنسان اليتيم قد جعل الله له أسوة بالنبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يتيماً، وتربى صلى الله عليه وسلم وهو يتيم، وماتت أمه وهو صغير عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك صار سيد الخلق وهو يتيم.

أضرار التبني على الفرد والمجتمع

أضرار التبني على الفرد والمجتمع ليس عيباً أن يكون الإنسان يتيماً ليس له أب، ولكن العيب أن يترك الإنسان ما يقوله الله سبحانه، ثم يحكم هواه، ويكون فعل الإنسان طاعة لله والخير له في الدنيا وفي الآخرة حين يلتزم بشرع الله تبارك وتعالى، فتكون له البركة من وراء ذلك. فمن ربى اليتيم أو كفله فإنه يؤجر عند الله سبحانه، فإذا نسبه إلى نفسه وجد شؤم ذلك يوماً من الأيام في الدنيا وفي الآخرة، فهو عاص لله تبارك وتعالى. عندما يكبر هذا اليتيم وهو يدعى لفلان قد تتبين له الحقيقة في يوم من الأيام، فيقول: لماذا كذبتم علي في ذلك؟ والكذب خيبة للإنسان، ولا يقود الإنسان إلا إلى الشر، فالإنسان إذا ربى شخصاً ثم نسبه إلى نفسه فقال إنه ابنه، فإنه في يوم من الأيام يرثه وليس له أن يرث هذا الإنسان. أو يموت هذا الذي تبناه ثم يرثه المتبني وليس من حقه ذلك. أو لعل هذا الذي تبنى يتزوج ينجب ثم يظن المتبنى أنه أخ لهذه الفتاة وليس أخاً لها، أو أخ لهذا الغلام وليس أخاً له، ويشاركه في الميراث وليس من حقه ذلك، ويظن أنه محرم لها وليس كذلك. فيتبدل أمر الله سبحانه في هذه الصورة، لذلك يخبرنا ربنا أنه لا يحل هذا التبني، حتى لا تتغير أحكام شرع الله، فيستحل ما حرم الله.

معنى قوله تعالى (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به)

معنى قوله تعالى (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به) وقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب:5] فإذا أخطأ الإنسان في شيء فلا جناح عليه، إنما الجناح في التعمد في ذلك، كأن يعرف شرع الله في كذا ثم يتعمد مخالفته. والخطأ مرفوع عن الإنسان، فإذا جهل حكماً شرعياً فأخطأ فيه، فلما تبين له الحكم عمل بما قاله الله سبحانه فهذا معذور، والإنسان إذا اجتهد في الشيء فأخطأ فيه يرفع عنه الوزر، فإذا كان من أهل الاجتهاد فإنه يؤجر على خطئه في اجتهاده. لكن إذا لم يكن من حقه أن يجتهد فليسأل أهل العلم؛ لقول الله عز وجل: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]. ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (هلا سألوا إذ جهلوا، إنما شفاء العي السؤال). قال الله سبحانه: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:5] فالله يغفر ما وقع فيه الإنسان من ذنب، إذا تاب إلى الله عز وجل، والله يرحم بتشريعه سبحانه، فيرفع الإثم عمن أخطأ أو سها أو نسي أو أجبر وأكره على شيء.

التغليظ على من دعي لغير أبيه وهو يعلم

التغليظ على من دعي لغير أبيه وهو يعلم جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث في النهي عن التبني، فقال صلى الله عليه وسلم: (من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام). فهذا حديث صحيح رواه البخاري ومسلم من حديث سعد بن أبي وقاص، ومن حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنهما. ففيه: (من ادعى إلى غير أبيه) أي: من نسب إلى شخص ليس أباً له، فرضي بذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فالجنة عليه حرام)، وهذا شائع عند بعض الناس، وفي بعض أوساط الناس، مثل ما يحصل لبعض الفنانين وغيرهم، فينتسب أحدهم إلى غير أبيه فيتسمى باسم فلان الذي اكتشف موهبته أو الذي عينه أو غير ذلك، فيصير اسمه على ذلك طول عمره، وهو يعلم أن هذا ليس أباً له، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من ادعى إلى غير أبيه) يعني: ناداه الناس فلاناً بن فلان وهم يعلمون أن هذا ليس أباه، (فالجنة عليه حرام). فأمثال هؤلاء قد جمعوا من المآسي، بسبب ما وقعوا فيه من قول زور، ومن شهود فجور، ومن أفعال ماجنة تغضب رب العالمين، ومن تسم بغير أسمائهم الحقيقية، فجزاء كل جريمة من هذه الجرائم الدخول في النار، والحرمان من جنة رب العالمين، ثم يكونون هم الأسوة الحسنة للشباب يقتدون بهم ويحبونهم، فيأخذونهم إلى نار جهنم. أيضاً: حديث آخر له صلى الله عليه وسلم من حديث أبي ذر وهو أيضاً في الصحيحين: (ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر) يعني: يعلم أن أباه ليس هو الذي ادعاه ومع ذلك يسكت عن ذلك ويرضى بذلك إلا كفر.

حكم من انتسب إلى آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو ليس منهم

حكم من انتسب إلى آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو ليس منهم قال: (ومن ادعى لقوم ليس منهم فليتبوأ مقعده من النار) كأن يدعي أنه من بني فلان، أو من عائلة فلان وهو ليس من هؤلاء. وأشر من ذلك من انتسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم كذباً وزوراً فيقول: أنا من آل البيت، وليس هو من آل البيت، فيزعم أنه من سلالة النبي صلى الله عليه وسلم وليس منهم. فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر، ومن ادعى قوماً ليس هو منهم فليتبوأ مقعده من النار). يعني: يجهز نفسه لنار جهنم، والعياذ بالله.

تفسير قوله تعالى: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم)

تفسير قوله تعالى: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) يقول الله سبحانه: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الأحزاب:6]. هذه الآية فيها عدد من الأحكام، يقول الله سبحانه: {النَّبِيُّ} [الأحزاب:6] وهذه قراءة الجمهور، وقراءة نافع: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6].

معنى قوله تعالى (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم)

معنى قوله تعالى (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) والنبي عليه الصلاة والسلام جعله الله عز وجل لنا أسوة حسنة، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21] فالنبي الكريم عليه الصلاة والسلام أولى بنا من أنفسنا، وكلمة (أولى) من الولي، والولي بمعنى القرب، تقول: فلان يليني، أي: قريب مني، أو جنبي أو بعدي. فالنبي صلى الله عليه وسلم أقرب إلى كل منا من نفسه، ورأيه لنا عليه الصلاة والسلام أفضل من آرائنا لأنفسنا، فيقول سبحانه: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6] فإذا اختار لنا شيئاً صلى الله عليه وسلم، نختار ما يختاره لنا صلوات الله وسلامه عليه سواء علمنا الحكمة من وراء ذلك أو لم نعلمها. والذي شهد بذلك هو ربنا سبحانه الذي يعلم السر وأخفى، فهو سبحانه أعلم بخلقه، أعلم بالنبي صلى الله عليه وسلم وأعلم بالمؤمنين، فجعل نبينا صلى الله عليه وسلم أولى بنا من أنفسنا. وننظر إلى رحمته بنا وشفقته علينا عليه الصلاة والسلام، كيف يكون يوم القيامة؟ وهو الذي قد نجا عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك يقف على جانب الصراط ويقول: (اللهم سلم سلم). فهذا دعاؤه صلى الله عليه وسلم للمؤمنين وهم يمرون على الصراط، فهو أولى بهم من أنفسهم عليه الصلاة والسلام. لما ذبح كبشين في الأضحى، واحداً عن نفسه صلى الله عليه وسلم وعن أهل بيته، والآخر عمن لم يضح من أمته، فرفع عن أمته الحرج عليه الصلاة والسلام فلا تلزمهم الأضحية، فقد ضحى عنهم صلى الله عليه وسلم، وصارت الأضحية سنة على المسلمين وليست فريضة، فقد كفاهم النبي صلى الله عليه وسلم ورفع عنهم الحرج في ذلك، فهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم صلوات الله وسلامه عليه. والنبي صلى الله عليه وسلم يدعو لنفسه ويدعو لأمته عليه الصلاة والسلام. فما ترك من خير إلا ودل الأمة عليه، وما ترك من شر إلا وحذر الأمة منه عليه الصلاة والسلام، فبلغ رسالة الله سبحانه، ووضح وبين وذكر ووعظ الأمة، وقال لهم في النهاية: (ألا هل قد بلغت؟ فقالوا: نعم. فقال: اللهم فاشهد). فمدحه الله سبحانه بأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم.

معنى قوله تعالى (وأزواجه أمهاتهم)

معنى قوله تعالى (وأزواجه أمهاتهم) ثم ذكر أزواجه عليه الصلاة والسلام ومدحهن وقال: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) [الأحزاب:6]. أي: نساء النبي صلى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنين من هذه الأمة. والراجح أن المعنى هو أن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أمهات لكل مؤمني الأمة رجالاً ونساءً؛ لأن العلماء اتفقوا على أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم أمهات لجميع رجال الأمة، ولكن هل هن أمهات أيضاً لنساء الأمة؟ الراجح: نعم؛ لأن الله عز وجل لم يفرق بين الرجال والنساء، قال: ((وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:6]. والأمومة قسمين: أمومة في الحرمة وأمومة في المحرمية. فأمومة الحرمة أنه يحرم عليه أن ينكحها، أي: يتزوجها، فأمه في النسب محرمة عليه وهو محرم عليها. وأمومة المحرمية: أنه لا يحرم عليه أن يدخل عليها ويسافر معها. فنساء النبي صلى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنين في الحرمة، فيحرم على أي مؤمن أن يتزوج نساء النبي صلى الله عليه وسلم بعده. فالتحريم رعاية للنبي صلوات الله وسلامه عليه، وإكراماً له عليه الصلاة والسلام، وتبجيلاً له صلى الله عليه وسلم، فالتي تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم ودخل بها وخلا بها عليه الصلاة والسلام، فليس من حق أحد أن يتزوجها بعده إن طلقها أو مات عنها طالما أنه دخل بها عليه الصلاة والسلام. فهذا الحكم لا ينطبق على من لم يدخل بها النبي صلى الله عليه وسلم، فلو أنه عقد بامرأة ثم طلقها صلى الله عليه وسلم قبل الدخول لم تكن أماً للمؤمنين، إنما أمهات المؤمنين من تزوجهن النبي صلى الله عليه وسلم فدخل بهن. قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} [الأحزاب:53] فهذه حرمة دائمة. ونساء النبي صلى الله عليه وسلم له فقط، وليس من حق أحد أن يتزوجهن بعد وفاته صلوات الله وسلامه عليه. ويجوز للمؤمنين أن يذهبوا إلى نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فيسألونهن من وراء حجاب عن مسائل الشرع ومسائل الدين، وعن أحكام القرآن وأحكام سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يستعيروا منهن متاعاً من أمتعة الدنيا على وجه العارية. وقد شرف الله سبحانه نساء النبي بهذه المنزلة العظيمة، وأمرهن بتبليغ دين الله سبحانه فقال: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34] فنساء النبي صلى الله عليه وسلم مطالبات بذكر وتبليغ كل ما يتلى في بيوتهن من آيات الله والحكمة.

الحكمة من تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم

الحكمة من تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وإذا كانت امرأة واحدة لا تقدر أن تقوم بذلك، ولا امرأتان، فكم من النساء يبلغن هذا الدين العظيم والأحداث التي تأتي للنبي صلى الله عليه وسلم في بيته وينزل بسببها القرآن أو السنة، فلذلك جعل الله لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يتزوج ما شاء من النساء ولم يحد له كما حد للمؤمنين، قال: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [الأحزاب:50]، فيجوز للمسلم أن ينكح أربع نسوة. أما النبي صلى الله عليه وسلم فترك الله سبحانه تبارك وتعالى له أن يتزوج ما يشاء فجمع بين تسع نسوة في وقت واحد صلوات الله وسلامه عليه. والغرض من ذلك: الدعوة إلى الله سبحانه والتبليغ للأحكام الشرعية، فالواحدة أو الأربع لا يكفين لتبليغ كل هذا الدين العظيم، فترك للنبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج فكان يأتي كل امرأة، فمرة يدور عليهن صلوات الله وسلامه عليه في غسل واحد، وكان يقسم لكل امرأة ليلة، فعندها قد تنزل آيات أو أحكام أو يحدث شيء فيحتاج الناس لمعرفة هذا الحكم، فتبلغ المرأة ما حدث في بيتها، أو من جاء للنبي صلى الله عليه وسلم وسأل وشهدت ذلك، فتبلغ أحكام الشريعة التي أمر الله عز وجل بتبليغها.

أزواج النبي أمهات للمؤمنين وهو أب لهم

أزواج النبي أمهات للمؤمنين وهو أب لهم قال الله سبحانه: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:6] فإذا كانت زوجات النبي أمهات للمؤمنين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أب لهذه الأمة، وكل نبي أب لقومه، هذا حكم من الله سبحانه، ولذلك فإن سيدنا لوطاً على نبينا وعليه الصلاة والسلام يقول لقومه: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود:78] وما كان عنده إلا بنتان، فالمقصود بالبنات بنات قومه فهن أطهر لهم، فكان قوم لوط يأتون الرجال - والعياذ بالله - فقال لهم: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود:78] أي: تزوجوا من النساء، واحذروا هذه الفاحشة، التي كانت سبباً في إهلاكهم. وقوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6] قلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم هو أب للمؤمنين، وقرئت في الشواذ في قراءة أبي وابن عباس رضي الله عنهما: (وهو أب لهم) وليست قراءة، والراجح أنها تفسير، أو كانت قراءة ونسخ ذلك فصارت تفسيراً، والمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم أب للأمة، ولذلك يقول للأمة عليه الصلاة والسلام: (إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم) فيعلمهم الآداب الشرعية. ولذلك فإن اليهود يحسدون هذه الأمة على نبيها صلوات الله وسلامه عليه، فيقولون: ما ترك شيئاً إلا علمكم حتى الخراءة، أي: حتى أدب الخلاء فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم: (إنما أنا لكم بمنزلة الوالد) يعني: لا تستحيوا أن تسألوا في أحكام الطهارة وغيرها من الأحكام، فأنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم، أي: بمنزلة الوالد في الشفقة والتعليم والتأديب والتهذيب صلوات الله وسلامه عليه.

قضاء النبي دين من مات ولم يترك قضاء

قضاء النبي دين من مات ولم يترك قضاء أيضاً في قوله سبحانه: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:6] لما نزلت هذه الآية كان فيها فرج من الله سبحانه وتعالى على المؤمنين، وكان قبل نزولها كلما جيء النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة يسأل، هل عليه دين؟ فإذا قالوا عليه دين، فيسأل هل ترك له وفاءً؟ فإذا قالوا: نعم، صلى عليه، وإذا قالوا: لا، لم يصل عليه، وقال: (صلوا على صاحبكم)، فلما نزلت هذه الآية: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6] وفتح الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وسلم فتوحاً، كان بعد ذلك يقول: (أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي وعليه دين فعلي قضاؤه، ومن ترك مالاً فلورثته). وفي رواية: (فأيكم ترك ديناً أو ضياعاً فأنا مولاه). فانظروا إلى شفقته عليه الصلاة والسلام، فكان من يموت بعد ذلك من أصحابه وعليه دين يتكرم ويسدد عنه هذا الدين. فإذا توفي إنسان وترك مالاً، لم يأخذ منه صلى الله عليه وسلم ليقضي دينه، ولكنه كان يترك المال للورثة، فالذي يموت ويترك ديناً أو ضياعاً، أي: عيالاً يضيعون، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ينفق عليهم، ويقضي دين هذا الميت عملاً بما في هذه الآية، ففيها بيان شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على الأمة، وأنه أولى بالمؤمنين من الأمة، فاستحق المنزلة العظيمة عند الله، واستحق أن يصلي عليه المؤمنون في كل وقت، صلوات الله وسلامه عليه. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الأحزاب [6 - 8]

تفسير سورة الأحزاب [6 - 8] حق النبي عليه الصلاة والسلام على أمته عظيم، فقد أخرجنا الله به من الظلمات إلى النور، وعلمنا ما لم نكن نعلم، ولذا جعله الله أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وجعل أزواجه أمهاتهم.

تفسير قوله تعالى: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم)

تفسير قوله تعالى: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا * وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا * لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} [الأحزاب:6 - 8]. في هذه الآيات من سورة الأحزاب يخبرنا الله تبارك وتعالى عن فضيلة للنبي صلوات الله وسلامه عليه وخصيصة اختصه الله سبحانه وتعالى بها، والنبي صلوات الله وسلامه عليه هو الذي أرسله رب العالمين كما قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:45 - 46]. فهذا النبي البشير النذير الرسول عليه الصلاة والسلام يخبرنا ربه سبحانه أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ولذلك قال الله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]. فالمؤمنون يفضلون النبي صلى الله عليه وسلم على أنفسهم، ورأي النبي صلى الله عليه وسلم لهم أحب إليهم من آرائهم وإن اجتمعوا، فالنبي معصوم عليه الصلاة والسلام، وربنا مدحه وجعل له هذه الفضيلة، وهي أنه أولى بكل مؤمن ومؤمنة. لما أنزل الله تبارك وتعالى عليه هذه الآية أتي بجنازة ليصلي عليها، فسأل هل عليه دين؟ فأخبروه أن عليه ديناً، فقضى عنه دينه صلوات الله وسلامه عليه وقال: (أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، من توفي وعليه دين فعلي قضاؤه، ومن ترك مالاً فلورثته)، فمن يتوفى ويترك مالاً فماله لأهله يرثونه، ومن ترك ديناً فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقضي عنه هذا الدين. وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد ناراً فجعلت الدواب والفراش يقعن فيها، وأنا آخذ بحجزكم وأنتم تقحمون فيها). فالنبي صلى الله عليه وسلم يدفعنا عن النار، فيقول: (أنا آخذ بحجزكم) وحجزة الإنسان معقد إزاره، فمن أمسك الإنسان من حزامه فالممسوك لا يفلت منه، فيقول: (أنا آخذ بحجزكم) يعني: ممسك بكم حتى لا تقعوا في النار، ومع ذلك تتفلتون مني، وتقحمون فيها، يعني: تقعون في النار بسبب المعاصي والشهوات والفتن، وهذا مثال الإنسان الذي يسمع كلام رب العالمين ويسمع حديث النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، فيلقي ذلك وراء ظهره، ويوقع نفسه في المعاصي والشهوات والشبهات فيقع في النار. فالنبي صلى الله عليه وسلم حريص على نجاتنا وتخليصنا من النار، ولكن الإنسان تدفعه الفتنة وتدفعه الشبهة والشهوة إلى أن يوقع نفسه في النار، وهذا مثل ضربه النبي صلى الله عليه وسلم يبين لنا اجتهاده صلوات الله وسلامه عليه في تخليصنا من النار وفي نجاتنا منها، فهو أولى بنا من أنفسنا، هو علم ونحن جهلنا، فهو أولى بنا من أنفسنا عليه الصلاة والسلام. فالإنسان الذي يقتحم النار ويوقع نفسه فيها لا يدري بخطرها، فإذا وقع فيها يعلم أنه ظلم نفسه، والنبي صلى الله عليه وسلم قد علم خطرها فأمسك بحجزنا ليبعدنا عن النار، فهو أرأف بنا وأرحم بنا صلوات الله وسلامه عليه، وهو الذي يعمل في نجاتنا عليه الصلاة والسلام، فهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا أمرنا بشيء يلزمنا أن نتبعه حتى لو وجدنا أن هذا الشيء لا تريده أنفسنا، فلا يؤمن أحدنا حتى يكون هواه تبعاً لما جاء به النبي صلوات الله وسلامه عليه. كذلك أولى بنا من أنفسنا إذا حكم علينا بحكم فنرضى بحكمه وننفذه على أنفسنا.

معنى قوله تعالى (وأزواجه أمهاتهم)

معنى قوله تعالى (وأزواجه أمهاتهم) قال الله سبحانه: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:6] أي في الحرمة، فلا يحل لإنسان أن يتزوج بزوجة النبي صلى الله عليه وسلم سواء طلقها أو مات عنها عليه الصلاة والسلام، فهي أم للمؤمنين، فقال: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:6] يعني في التحريم وليس في المحرمية، يعني: لسنا محارم لهن، فلا يجوز لأحد المؤمنين أن يسافر مثلاً مع زوجة من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم على أنه محرم لها، فهن أمهاتنا في التحريم لا في المحرمية، بينما يتعلق بأم الإنسان شيئان: الأول: أنه يحرم عليه أن يتزوجها. الثاني: أنه محرم لها. فأم الإنسان فيها حرمة ومحرمية، حرمة يحرم عليه نكاحها، ومحرمية أنه يخلو بها ويسافر معها، فأمهات المؤمنين نساء النبي صلى الله عليه وسلم يحرمن على المؤمنين، ولكن ليس المؤمنون محارم لنساء النبي صلوات الله وسلامه عليه، ولذلك قال الله عز وجل: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53] فمن سألها متاعاً مثل أن تسلفه متاعاً من متاع البيت كمكنسة على وجه العارية، فليسألها من وراء حجاب، ولا تحصل مقابلة بينه وبينها، ولكن من وراء حجاب فحجب شخصها عنه. قال: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53] نساء النبي صلى الله عليه وسلم اللاتي قال الله عز وجل فيهن: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33]، فطهرهن الله سبحانه وتعالى تطهيراً عظيماً، وأذهب عنهن الرجس، ومع ذلك أمرهن بأعظم أنواع الحجاب وهو حجاب الشخوص، يعني لا يكفي أن تلبس جلباباً وتتنقب، بل تكون أيضاًَ من وراء ساتر، فتتحجب بحجابها الشرعي ومن وراء ساتر أيضاً، فأمرن بهذا وهن أعف النساء رضوان الله تبارك وتعالى عليهن، فكيف بغيرهن! بعض النساء إذا قلت لها: احتجبي وانتقبي، تقول لك: هذا الأمر لنساء النبي صلى الله عليه وسلم فقط، فنقول: إذا كان نساء النبي صلى الله عليه وسلم قد طهرهن الله تبارك وتعالى، وجعلهن أمهات للمؤمنين، ومنع أي إنسان أن يتزوج بإحداهن بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فصرن محرمات على المؤمنين؛ ومع ذلك أمرهن بذلك، فغيرهن من باب أولى أن تحتجب وألا تتكشف أمام الناس، وهن القدوة الحسنة لغيرهن من النساء، فلتقتد النساء بنساء النبي صلوات الله وسلامه عليه، وقد جعلهن الله سبحانه أسوة وقدوة للخلق، وطهرهن تطهيراً رضوان الله تبارك وتعالى عليهن.

هل إخوة أمهات المؤمنين أخوال لهم

هل إخوة أمهات المؤمنين أخوال لهم قال الله عز وجل: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:6] هل ينبني على أن زوجة النبي صلى الله عليه وسلم أم للمؤمنين أن إخوتها أخوال للمسلمين؟ قال بعض العلماء بذلك، ولكن الراجح أن هذا الحكم لا يتعداهن، فزوجة النبي صلى الله عليه وسلم أم للمؤمنين وليس أخوها خالاً للمؤمنين، لكن في الآية نفسها: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6]، وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين، فهو أبٌ للمؤمنين، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا لكم بمنزلة الوالد)، وكذلك كل نبي مع قومه هو لهم بمنزلة الوالد، وفي قصة لوط على نبينا وعليه الصلاة والسلام قال لقومه: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود:78]، وكان قوم لوط يأتون الفاحشة، فيأتي الرجال الرجال والعياذ بالله، فأمرهم النبي لوط عليه الصلاة والسلام أن يتزوجوا النساء، وهو ما كان عنده غير ابنتين، فلم يقل: هاتان بنتاي، وابنتاه لا تكفيان لزواج الأمة، ولكن قصده بنات قومي الذين أدعوهم إلى الله عز وجل، فتزوجوا من هؤلاء النسوة، فهذا دليل على أن النبي أب لقومه، فهو أب للرجال وأب للنساء عليه الصلاة والسلام، وهو لهم بمنزلة الوالد، ولكن هذه الأبوة لا تحرم عليه أن يتزوج من النساء عليه الصلاة والسلام، بخلاف أمومة أمهات المؤمنين، فالله تبارك وتعالى راعى منزلة النبي صلى الله عليه وسلم، وجعل له حرمة عظيمة، فجعل نساء النبي صلى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنين يحرم على المؤمنين أن يتزوجوهن كما يحرم على الرجل أن يتزوج أمه، والنبي صلى الله عليه وسلم هو لهم بمنزلة الوالد، ولكن لا يحرم عليه أن يتزوج من نساء أمته عليه الصلاة والسلام.

معنى قوله تعالى (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله)

معنى قوله تعالى (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) قال الله سبحانه: {وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} [الأحزاب:6]. وقال الله سبحانه في أول سورة النساء: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء:1] يعني: اتقوا الله سبحانه وتعالى الذي تساءلون به، يعني: ينشد بعضكم بعضاً بالله، فتقول: بالله افعل كذا وكذا، وأيضاً تتساءلون بالأرحام، فتقول للإنسان: راع الرحم التي بيني وبينك، فتنشده الرحم بمعنى مراعاة الرحم ومراعاة القرابة التي بيني وبينك، وهذا على قراءة: {اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء:1]. وفي القراءة الأخرى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء:1] يعني: اتقوا الأرحام أن تقطعوها، فالأرحام هي القرابات، فهنا يقول الله سبحانه: {وَأُوْلُو الأَرْحَامِ} [الأحزاب:6] يعني: القرابات الأنسباء: {بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب:6] أي: في المواريث. وسبب نزول هذه الآية أنه كان في أول الإسلام لما كان المؤمن في مكة يترك أقاربه الكفار، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم مؤاخاة بين المؤمن والمؤمن، حتى تزداد الصلة فيما بينهم، فكانوا يتوارثون بذلك، فلما هاجر أهل مكة إلى المدينة آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين تسعين من المهاجرين والأنصار، فكانت هذه الأخوة الإيمانية تربط الجميع، وكانوا يتوارثون بها، فإذا مات أنصاري وله أخ من المهاجرين ورثه، فبعدما نزلت هذه الآية جعل الله عز وجل الأخوة التي كانت بينهم أخوة الإسلام، لكن ليست أولى من أخوة النسب في الإرث، فجعل التوريث بين المسلمين بالقرابات، فقال الله سبحانه: {وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} [الأحزاب:6] من المؤمنين أي الأنصار الذين في المدينة، والمهاجرين الذين هاجروا إليهم، فصار كل إنسان يرثه قريبه من المؤمنين وهم يرثونه. يقول الزبير رضي الله عنه في هذه الآية: {وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب:6]: وذلك أنا معشر قريش قدمنا المدينة ولا أموال لنا، فوجدنا الأنصار نعم الإخوان، فآخيناهم فأورثونا وأورثناهم، فآخى أبو بكر خارجة بن زيد قال عروة بن الزبير: فارتث كعب يوم أحد، يعني: جرح في يوم أحد جراحة شديدة، فجاء الزبير يقوده بزمام راحلته، فلو مات يومئذ كعب من الضح والريح لورثه الزبير. يعني: لو كان مات كعب بن مالك يوم أحد من جراحه لكان الذي سيرثه الزبير رضي الله عنه، والزبير مهاجري وكعب أنصاري، لكن لم يحدث هذا، ونزلت هذه الآية بعد ذلك وألغت أمر التوارث بالهجرة والنصرة. قال: {وَأُوْلُو الأَرْحَامِ} [الأحزاب:6] أي: بالأنسباء. {بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب:6] في حكم الله. {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} [الأحزاب:6] يعني بالوصية أن تفعل معروفاً مع هؤلاء، فتوصلهم بشيء من الثلث فما دونه، فهذا جائز. {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الأحزاب:6] مسطور بمعنى: مكتوب، فهذا حكم الله عز وجل في اللوح المحفوظ مكتوب، وأنزله في القرآن العظيم، وجعله حكماً مكتوباً لتقرءوه ولتعملوا به.

تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم)

تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم) قال الله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ} [الأحزاب:7]. يذكرنا الله عز وجل بالميثاق الذي أخذه على النبيين، ولله عز وجل مواثيق كثيرة أخذها على خلقه، وأول هذه المواثيق: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172]، فربنا خلق آدم واستخرج من ظهر آدم من يكون من ذريته إلى يوم القيامة، فاستخرجهم قبل أن ننزل إلى هذه الدنيا، ثم أشهدهم على أنفسهم، فكل إنسان في نفسه ما يجعله يعرف ربه سبحانه وتعالى. قال الله: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا} [الأعراف:172] أي: لئلا {تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف:172 - 173]. إذاً: ربنا أخذ علينا ميثاقاً جعله في صدورنا نسيه من نسيه وعمل به من عمل به، ويوم القيامة يتذكر الجميع هذا الميثاق الذي أخذه الله تبارك وتعالى عليه. وبهذا الميثاق جعل الله عز وجل في قلب الإنسان الفطرة السليمة التي تهديه إلى ربه سبحانه، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبوه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، فالإنسان مولود على هذه الفطرة، وعلى الميثاق الأول يعرف ربه سبحانه، فإذا بالأبوين يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه. وميثاق آخر أخذه الله سبحانه على النبيين: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81]. وهنا ميثاق خاص بهؤلاء الأنبياء الخمسة الذين هم أولو العزم من الرسل، وكل الرسل من أولي العزم عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، ولكن اختص هؤلاء فميزهم وفضلهم على الباقين فقال سبحانه: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ} [الأحزاب:7] وهذا عموم، ثم خص: {وَمِنْكَ} [الأحزاب:7] يا محمد عليه الصلاة والسلام، {وَمِنْ نُوحٍ} [الأحزاب:7] أبو الأنبياء بعد آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، {وَإِبْرَاهِيمَ} [الأحزاب:7] أبو الأنبياء الذين جاءوا من بعده، {وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [الأحزاب:7] ميثاقاً مؤكداً أن كل نبي يصدق النبي الذي قبله، وينصر من وجد معه، ويبشرهم بنبينا صلوات الله وسلامه عليه، فإذا جاء نبينا صلى الله عليه وسلم صدق بكل الأنبياء والرسل السابقين، وعلمنا ذلك، وأخذ الله عليهم الميثاق الغليظ أن يقيموا شرع الله سبحانه، وأن يصدق بعضهم بعضاً، وأن ينصر بعضهم بعضاً صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. فالميثاق الذي يؤخذ على النبي هو مأخوذ أيضاً على أتباعه، فيلزمهم ما التزمه نبيهم عليه الصلاة والسلام.

تفسير قوله تعالى: (ليسأل الصادقين عن صدقهم)

تفسير قوله تعالى: (ليسأل الصادقين عن صدقهم) قال الله: {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} [الأحزاب:8] هؤلاء الأنبياء الصادقون يسألهم الله سبحانه وهم صادقون، فإذا سألهم عن صدقهم أفلا يسأل الكذابين عن كذبهم؟ ففيه التهديد لكل كذاب مكذب بالرسل، فإذا كان الرسل يسألون يوم القيامة وقد علم الله سبحانه وشهد أنهم كانوا على الحق فكيف يغيرهم؟! يوم القيامة يجمع الله الرسل ويسألهم كما قال الله: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} [المائدة:109]، ويسألهم: هل بلغتم؟ كما قال: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة:116]. فإذا كان المسيح الذي صدقه الله سبحانه وتعالى وأخبر عنه في هذا القرآن العظيم أنه بلغ رسالة ربه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وأنهم افتروا عليه وكذبوا، ومع ذلك يسأله يوم القيامة: {أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة:116]، فهذا موقف يفزع فيه المسيح من هذه التهمة: أأنت قلت للناس ذلك؟ فإذا قيل للمسيح ذلك فكيف يقال لعباد المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام؟! وكيف يقال للمشركين؟ {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} [الأحزاب:8]. فيصدق الصادقون ويكذب الكذابون، وقد أعد الله عز وجل للكافرين عذاباً أليماً. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الأحزاب [9 - 10]

تفسير سورة الأحزاب [9 - 10] لقد وعد الله عباده المؤمنين بالنصر على الأعداء إذا صدقوا في إيمانهم وتوكلهم على الله عز وجل، وقد لقي المؤمنون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الأحزاب الضيق والحرج والحصار الشديد، فضلاً عن نقض اليهود للعهد، فهم أهل غدر وخيانة، وما من مصيبة إلا من ورائها اليهود.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب:9]. هذه الآية التاسعة من سورة الأحزاب يذكر الله سبحانه وتعالى فيها سبب تسمية هذه السورة بسورة الأحزاب، يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأحزاب:9]، يذكر المؤمنين بنعمته سبحانه وتعالى عليهم، وما أعظم نعم الله عز وجل على عباده. {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [الأحزاب:9]، نعمة من نعم الله سبحانه، فمن نعمه سبحانه ما حدث في يوم الأحزاب {إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:9 - 11]، وكان يوماً فظيعاً على المسلمين لم يكونوا يتوقعونه؛ حتى يعلموا أن النصر بيد الله سبحانه، وأن الإنسان مهما كادت له الدنيا وأراد الله عز وجل شيئاً لا بد أن يكون ما أراده الله سبحانه وتعالى، مصداقاً لما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث لـ ابن عباس: (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك)، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. قال تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:126]. ونرى في غزوة الأحزاب نصر الله تبارك وتعالى كيف جاء؟ ومتى جاء؟ وكيف زلزل المؤمنون، وكيف زاغت الأبصار وبلغت القلوب الجناجر؟ فقلب الإنسان في صدره يبلغ الحنجرة، وهذا في غاية الرعب وشدة الخوف؛ إذ يشعر الإنسان أن قلبه سيخرج من فمه مع شدة رعبه وشدة خوفه، فبلغ الأمر بالمؤمنين كذلك، وننظر في هذه القصة العجيبة في غزوة الأحزاب. هذه الغزوة تسمى بغزوة الأحزاب، تسمى بغزوة الخندق وبني قريظة. وغزوة الأحزاب هذه كانت في سنة خمس من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وإن اختلف العلماء في زمن وقوعها فقال ابن إسحاق: كانت في شوال من السنة الخامسة وهذا الأرجح، وجاء عن الإمام مالك رحمه الله أنها كانت في سنة أربع للهجرة. والظاهر أن ذلك بحسب عد السنة الهجرية، فقد هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة في شهر ربيع، فمن اعتبر الهجرة من أول السنة يعد من السنة التي بعدها؛ لأن السنة التي هاجر فيها النبي صلى الله عليه وسلم لا تحسب، بل يحسب بالمحرم من السنة التي تليها، وبناءً عليه تكون غزوة الأحزاب في سنة أربع للهجرة. ومن يعد السنة التي هاجر النبي صلى الله عليه وسلم فيها فيعتبر أولها من شهر المحرم فتكون غزوة الأحزاب في السنة الخامسة، فعلى ذلك كان الخلاف بينهم، لكن قول الجمهور أن غزوة الأحزاب في السنة الخامسة. وباقي الغزوات كلها على ذلك، فمن سيقول غزوة بدر في السنة الثانية يكون على اعتبار أن السنة التي هاجر فيها النبي صلى الله عليه وسلم هي الأولى، والسنة التي تليها هي السنة الثانية، والذي سيقول أنها في السنة الأولى فذلك باعتبار أنه لا يحسب الجزء من السنة التي هاجر فيها النبي صلى الله عليه وسلم.

تفسير قوله تعالى: (إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم)

تفسير قوله تعالى: (إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم)

معنى قوله: (من فوقكم ومن أسفل منكم)

معنى قوله: (من فوقكم ومن أسفل منكم) قال الله عز وجل: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب:10]، يعني: من شدة الرعب، ومن شدة الخوف. فقوله تعالى: {جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأحزاب:10]، واضح أنه من مكان عال، وقوله: {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} [الأحزاب:10]، من مكان آخر منخفض. فجاءوا من المشرق وجاءوا من المغرب وأحاطوا بالمسلمين وخانت اليهود من خلف النبي صلى الله عليه وسلم، فصار الكفار حولهم من كل مكان، فزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر من الخوف ومن الرعب، خاصة أن الكفار كان عددهم ضخماً، فقد كانوا ثلاثة أمثال المسلمين. قال الإمام مالك رحمه الله: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتال من المدينة وذلك قوله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب:10]، قال مالك رحمه الله: ذلك يوم الخندق، جاءت قريش من هاهنا، واليهود من هاهنا، والنجدية من هاهنا، يعني: جاءوا من فوقكم، ومن ورائكم مكان مرتفع جاءت منه اليهود. {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} [الأحزاب:10]، أي: جاءت قريش وغطفان ومن معهم من أسفل منكم.

سبب غزوة الأحزاب

سبب غزوة الأحزاب وكان سبب هذه الغزوة اليهود، وأي مصيبة على المسلمين فمن ورائها اليهود لعنة الله عليهم، فسببها أن البعض من اليهود منهم كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وسلام بن أبي الحقيق، وسلام مشكم وحيي بن أخطب وهؤلاء من بني النضير، وهوذة بن قيس وأبو عمار من بني وائل، وهم كلهم من اليهود الذي حزبوا الأحزاب. وفي كل غزوة من مغازي النبي صلى الله عليه وسلم يعمل اليهود فيها عاملاً من العوامل فيكونوا سبباً في قتال المسلمين لهم، وكان من اليهود بالمدينة ثلاثة طوائف: بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة، فبنو قينقاع أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم وطردهم؛ لأنهم بعد غزوة بدر يقولون للمؤمنين: وما الذي فعلتم بغزوة بدر؟ لم تقاتلوا إلا رجالاً لا خبرة لهم بالقتال، لكن لو قاتلتمونا نحن لعلمتم من الرجال، وما زالوا يتقولون على المسلمين حتى أحدثوا حدثاً فطردهم النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة. وجاءت غزوة أحد في سنة ثلاث من الهجرة، وبعد ما انتهت غزوة أحد إذا ببني النضير تحدث حدثاً، وإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يجليهم ويطردهم من المدينة. فهؤلاء من بني النضير ما زالوا موتورين حين طردهم النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة، فألبوا قريشاً على قتال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وإذا بقريش تستجيب لذلك ووعدتهم يهود بني النضير أنهم يعينونهم في المدينة على النبي صلى الله عليه وسلم فوجد أهل مكة الفرصة في استئصال المسلمين فأجابوهم إلى ذلك. وخرجت اليهود من مكة إلى غطفان ودعوهم أيضاً لقتال النبي صلى الله عليه وسلم فوعدوهم بقتال النبي صلى الله عليه وسلم بجانبهم وبجانب قريش. وخرجت قريش يقودها أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن الفزاري، والحارث بن عوف المري من بني مرة، وغيرهم وأحاطوا بالمدينة، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم باجتماعهم شاور أصحابه صلوات الله وسلامه عليه. العدد عدد ضخم جداً، وجيش المدينة ثلاثة آلاف رجل، أما الكفار فبلغ عددهم عشرة آلاف وزيادة، فكل واحد من المؤمنين يواجه ثلاثة من الكفار، فالعدد غير متكافئ.

حفر الخندق

حفر الخندق استشار النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين في هذا الحدث تطبيقاً لأمر الله له بالمشاورة، قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159]. ومدح الله النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالمشاورة، فقال: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38]، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين في هذا الأمر، فكل واحد من المؤمنين أشار بشيء، وأشار سلمان الفارسي رضي الله عنه بأن يحفروا خندقاً حول المدينة يحول بينهم وبين الكفار بحيث إن الكفار لا يقدرون على العبور إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت فكرة سلمان فكرة حسنة، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا، بحيث إنهم لا يقدرون على العبور إلينا، فحفر المسلمون الخندق مجتهدين في ذلك. وكان المسلمون يحفرون الخندق، ويتعبون أنفسهم، ويبذلون جهدهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحفر كما يحفرون، ويحمل الحجارة ويحمل التراب، حتى كان التراب يتناثر على صدره وبطنه وملابسه صلوات الله وسلامه عليه. والمنافقون كانوا كعادتهم لا يساعدون في شيء وإنما يتسللون لواذاً، أما المؤمنون فقد فعلوا أفعالاً عظيمة، وصنعوا مع النبي صلى الله عليه وسلم كل صنيعة كريمة، فأنزل الله سبحانه وتعالى آيات يمدح فيها المهاجرين والأنصار، أما المنافقون فأنزل فيهم ما فضحهم به من آيات. وقسم النبي صلى الله عليه وسلم حفر الخندق على المسلمين، كل مجموعة تحفر جزءاً من الخندق، حتى إذا أتمت المجموعة ما عليها من حفر انطلقت لمساعدة غيرها من المجموعات، فكان المؤمنون كمثل الجسد الواحد رضوان الله تبارك وتعالى عليهم. ولما أشار سلمان بحفر الخندق وجد المسلمون في هذا الخندق شيئاً غريباً، فإذا بهم يختلفون فقال المهاجرون: سلمان منا؛ لأن سلمان مهاجر مثلهم، وقال الأنصار: سلمان منا؛ لأنه كان في المدينة، ففصل النبي صلى الله عليه وسلم بينهم وقال: (سلمان منا أهل البيت)، فالنبي صلى الله عليه وسلم مدح سلمان وجعل له هذه المزية العظيمة.

ما تعلمه المؤمنون أثناء حفرهم الخندق مع النبي صلى الله عليه وسلم

ما تعلمه المؤمنون أثناء حفرهم الخندق مع النبي صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم لما حفر مع المؤمنين الخندق علمهم الأسوة الحسنة، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الأحزاب:21]. وفي الصحيحين عن البراء بن عازب: (لما كان يوم الأحزاب وخندق رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأيته ينقل من تراب الخندق حتى وارى الغبار جلدة بطنه صلوات الله وسلامه عليه، وكان كثير الشعر عليه الصلاة والسلام) فكان ينقل التراب مثل آحاد المسلمين والتراب يتناثر على بطنه وعلى صدره عليه الصلاة والسلام. قال البراء: (فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة يقول: والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا). فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتمثل هذه الأبيات التي قالها ابن رواحة ويقول: (اللهم لولا أنت ما اهتدينا -وفي رواية- اللهم لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا).

ذكر ما جاء من معجزات للنبي صلى الله عليه وسلم أثناء حفر الخندق

ذكر ما جاء من معجزات للنبي صلى الله عليه وسلم أثناء حفر الخندق هذه الغزوة كان فيها آيات عظيمة من الله سبحانه وتعالى، من هذه الآيات أن المسلمين وهم يحفرون الخندق استصعب عليهم مكان فيه، فالأرض منها أرض ترابية ومنها أرض صخرية. روى الإمام النسائي عن أبي سكينة -وهو رجل من المحررين- عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق عرضت لهم صخرة حالت بينهم وبين الحفر، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع رداءه ناحية الخندق، وأخذ المعول ونزل بنفسه، وقال: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:115] وضرب الصخرة، فندر ثلث الصخرة، وخرج معها بريق عظيم، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الثانية: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:115]، ويضرب الضربة الثانية فندر الثلث الثاني، فبرقت برقة وهكذا في الثالثة)، كل مرة يضرب النبي صلى الله عليه وسلم ضربة فينفلق ثلث الصخرة ويخرج بريق عظيم، والنبي صلى الله عليه وسلم يتلو هذه الآية، وانكسرت الصخرة ثلاثة أجزاء وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ رداءه وجلس. قال سلمان: (يا رسول الله! رأيتك ضربت ما تضرب ضربة إلا كانت معها برقة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت ذلك يا سلمان؟! قال: إي والذي بعثك بالحق يا رسول الله! قال: فإني حين ضربت الضربة الأولى رفعت لي مدائن كسرى وما حولها حتى رأيتها بعيني، فقال له من حضره من أصحابه: يا رسول الله! ادع الله أن يفتحها علينا ويغنمنا ذراريهم ويخرب بأيدينا بلادهم! فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم). فمن الآيات، أن النبي بضربه ضربها على الصخرة نظر إلى بلاد الشام، وإلى بلاد العراق والله عز وجل سيغنمه ذلك، ووجد أنه سيفتح هذه البلاد. وفي رواية أخرى أنه كبر صلوات الله وسلامه عليه وقال: (الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، وإني لأبصر إلى قصورها الحمراء من مكاني هذا)، هذا في الضربة الأولى، وفي الضربة الثانية قال: (باسم الله، الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض)، ثم ضرب الثالثة وقال: (باسم الله، فقطع الحجر، وقال: الله أكبر! أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر باب صنعاء). وهذه بشارة في وقت انتشر فيه الرعب بين الناس؛ ليري الله عز وجل المؤمنين آية من آياته سبحانه، وليعلم من يصدق ذلك ومن يكذب، أما المؤمنون عندما يسمعون النبي صلى الله عليه وسلم يقول ذلك فيقولون: يا رسول الله! ادع الله أن يفتحها علينا ويغنمنا ذراريهم، ويخرب بأيدينا بلادهم! وما النصر إلا من عند الله سبحانه، والمؤمنون لا يطلبون النصر من النبي صلى الله عليه وسلم إنما يقولون: ادع الله أن ينصرنا على هؤلاء. وأما الرواية الأولى ففيها (أنه في الضربة الثالثة قال: رفعت لي مدائن الحبشة وما حولها من القرى حتى رأيتها بعيني)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: (دعوا الحبشة ما ودعوكم، واتركوا الترك ما تركوكم)، وهو حديث حسن. والغرض: أن حفر الخندق آيات من آيات الله سبحانه في وقت كان المسلمون في غاية الخوف والرعب، ولا يقدرون على قتال الكفار، فلا يصدق بهذه إلا مؤمن قوي الإيمان، ولا يكذب بها إلا منافق، فقد كان المنافقون يقولون: يعدنا بفتح مدائن كسرى، وقيصر، والشام، والحبشة، والعراق، ونحن لا نستطيع أن ندافع عن أنفسنا.

تجمع الأحزاب حول المدينة ونقض بني قريظة للعهد

تجمع الأحزاب حول المدينة ونقض بني قريظة للعهد ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون من حفر الخندق أقبلت قريش في نحو عشرة آلاف بمن معهم من كنانة، وأهل تهامة، وأقبلت غطفان بمن معها من أهل نجد حتى نزلوا إلى جانب أحد، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون فكانوا بظهر جبل سلع بالمدينة وعددهم ثلاثة آلاف، وقد ضربوا خندقهم بينهم وبين المشركين، واستعمل النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة ابن أم مكتوم وكان رجلاً أعمى رضي الله تبارك وتعالى عنه. وخرج المؤمنون جميعاً مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق وبقي أهل الأعذار في المدينة، وأيضاً تسلل إليها المنافقون ليكونوا مع أهل الأعذار، وخرج عدو الله حيي بن أخطب النضري حتى أتى كعب بن أسد القرظي، وقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم من يهود بني قريظة عهداً أن يحموا ظهور المسلمين، فذهب حيي بن أخطب إلى سيد بني قريظة كعب بن أسد يقول له: أريد أكلمك بشيء، فإذا بسيد بني قريظة يغلق الحصن ويقول: اذهب إنك رجل مشئوم، ليس منك إلا الشر، تدعوني إلى خلاف محمد وأنا قد عاقدته وعاهدته ولم أر منه إلا وفاء وصدقاًَ، فلست بناقض ما بيني وبينه. فظل حيي بن أخطب حتى فتح له الباب، قال له: اسمع الذي سأقوله لك وإذا أعجبك كلامي فخذ به! فلما فتح له وسمع منه إذا به يعده بعزة الدهر ويقول له: هذه قريش وهذه غطفان ومعهم عشرة آلاف رجل، فخن محمداً, وسنكون كلنا معك ونعطيك كذا وكذا، وما زال به حتى خان النبي صلى الله عليه وسلم، وحتى نزل مع هذا الرجل على أن يغدر بالنبي صلى الله عليه وسلم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد.

تفسير سورة الأحزاب (تابع1) [9 - 10]

تفسير سورة الأحزاب (تابع1) [9 - 10] سميت غزوة الأحزاب بذلك لتجمع الأحزاب على استئصال المسلمين، وتسمى بالخندق لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بحفره عندما أشار عليه سلمان الفارسي به، وفي هذه الغزوة ظهر للمسلمين الحقد الدفين عند اليهود عندما خانوا العهود التي كانت بينهم وبين المسلمين، كما ظهر أيضاً موقف المنافقين الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، ولقد نفذ النبي صلى الله عليه وسلم مبدأ الشورى مع أصحابه في هذه الغزوة.

مواقف من غزوة الأحزاب

مواقف من غزوة الأحزاب

سبب تسمية غزوة الأحزاب

سبب تسمية غزوة الأحزاب الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:9 - 12]. ذكر الله تبارك وتعالى في هذه الآيات ما حدث في غزوة الأحزاب -الخندق- التي كانت في العام الخامس من هجرة النبي صلوات الله وسلامه عليه، وكانت غزوة عظيمة جداً، وفيها معجزات وكرامات، وكانت من أشد الأيام على المسلمين. أراد الله سبحانه وتعالى أن يعلم المسلمين أن النصر إنما هو بيد الله سبحانه وليس بيد الخلق، فإن نصر المؤمنون دين الله عز وجل نصرهم من حيث لا يحتسبون. ولقد اجتمع الناس على المسلمين من كل مكان، فجاءت قريش بحدها وحديدها ومعهم غطفان واليهود ليحاربوا النبي صلى الله عليه وسلم، فكان من النبي صلى الله عليه وسلم أن استشار المؤمنين ما الذي يصنع مع هؤلاء؟ فأشاروا عليه بآرائهم، وأشار سلمان برأي عظيم، وهو أن يُصْنَعَ خندق بينهم وبين الكفار، فسميت هذه الغزوة بغزوة الخندق لحفرهم خندقاً بينهم وبين الكفار؛ فإنهم لا يقدرون على محاربة الكفار، لأن عدد الكفار عشرة آلاف أو يزيد، وعدد المسلمين ثلاثة آلاف، والكفار جاءوا مستعدين من كل مكان، فكان الحل في ذلك هو ما أشار به سلمان رضي الله تبارك وتعالى عنه أن يحفروا خندقاً بينهم وبين الكفار. ونزل الكفار إلى جانب جبل أحد، ونزل المسلمون إلى جانب جبل سلع من المدينة، وبدأ الكفار يستعدون لقتال المسلمين، ففوجئوا بهذا الخندق الذي بينهم وبين المسلمين، فلا يقدرون أن يعبروا إلى المسلمين.

خيانة اليهود وغدرهم

خيانة اليهود وغدرهم ذهب رجل من بني النضير وهو حيي بن أخطب ومعه مجموعة من اليهود إلى المشركين من أهل مكة فقالوا لهم: تعالوا إلى عز الدهر، تعالوا لقتال محمد ونحن معكم، فاستجاب الكفار لذلك. ثم ذهبوا إلى غطفان وقالوا لهم مثل ذلك فاستجابوا لهم، واجتمعت العرب على حرب النبي صلى الله عليه وسلم واليهود معهم. ثم ذهب هذا الرجل اليهودي إلى سيد بني قريظة وهو كعب بن أسد ودعاه وقال له: جئتك بعز الدهر، فقال له كعب: جئتني والله بذل الدهر وبجهام لا غيث فيه -يعني: أتيتني بسحاب ليس فيه مطر- فقال حيي: اسمع مني ما أقول، ثم بعد ذلك ترى رأيك، فلم يزل يكلمه ويعده ويغره حتى تعاقدا على نقض عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان كعب بن أسد وقد قال في أول كلامه: إن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينقض العهد ولا يغدر، وإني عاهدت النبي صلى الله عليه وسلم ولم أر منه إلا وفاءً وصدقاً، فكيف أغدر بالنبي صلى الله عليه وسلم؟! ولكن اليهود في طبيعتهم الغدر حتى ولو رأوا الإحسان والجميل، ومهما رأوا من آية من آيات الله سبحانه وتعالى سرعان ما ينقلبون عليها. فالإحسان يكافئونه بالإساءة العظيمة البالغة، فلقد رأوا من الله صنيعه الجميل بهم، حيث أنجاهم من آل فرعون بعدما كانوا في غاية الذل، وكانوا مقهورين مغلوبين، فإذا بهم يعبدون العجل من دون الله سبحانه وتعالى، يرون من موسى عليه الصلاة والسلام النصح لهم، ويرون منه الآيات والمعجزات، ويعلمون أنه رسول رب العالمين عليه الصلاة والسلام، فمجرد ما ذهب للقاء ربه تبارك وتعالى إذا بهم يقولون عن العجل {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} [طه:88]، أي: موسى لا يعرف إلهه فإنه ذهب ليبحث عنه، فعبدوا عجلاً من دون الله تبارك وتعالى. ويأمرهم الله سبحانه أن يدخلوا الباب سجداً {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:58]، فإذا بهم يستهينون ويستهزئون فدخلوا الباب ولم يسجدوا، ومشوا على مقاعدهم وقالوا: (حنطة) استهزاءً بدينهم، فبدل ما يقولون: (حطة) أي: يا ربنا حط عنا خطايانا، يقومون بتحريف الكلمة من حطة إلى حنطة، أي حبة من شعير. فهؤلاء لا أمان لهم أبداً؛ لأنه إذا كان هذا حالهم مع ربهم سبحانه وتعالى، ومع موسى نبيهم عليه الصلاة والسلام، فكيف بهم مع غيرهما، وها هو صنيعهم، فإنهم انقلبوا على النبي صلوات الله وسلامه عليه وغدروا به وراسلوا الكفار وصاروا معهم. أصبح المؤمنون كما قال الله سبحانه وتعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب:10]. أي: أن الكفار أتوا من الشرق ومن الغرب، فبقي المسلمون محصورين لا يستطيعون أن يعملوا شيئاً. و {زَاغَتِ الأَبْصَارُ} [الأحزاب:10] أي: أبصار المؤمنين. {وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب:10] أي: من شدة الرعب، {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب:10].

استيقان النبي صلى الله عليه وسلم من غدر اليهود

استيقان النبي صلى الله عليه وسلم من غدر اليهود ولما بلغت هذه الخيانة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مع المؤمنين أرسل إلى سعد بن عبادة سيد الخزرج وسعد بن معاذ سيد الأوس رضي الله عنهما، وكانوا حلفاء اليهود في الجاهلية، فأرسلهما إلى اليهود لينظرا حقيقة الأمر دون أن يعلم بذلك أحد. وهذا من ذكاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفقته على المؤمنين، فلو علموا أن اليهود قد غدروا بهم لأثر ذلك على قلوبهم ومعنوياتهم، لذلك قال لهذين الرجلين: انطلقا إلى بني قريظة، أرسل معهما أيضاً عبد الله بن رواحة وخوات بن جبير، قال: (فإن كان ما قيل حقاً فالحنوا لي لحناً ولا تفتوا في أعضاد الناس)، أي: فإذا كانوا قد غدروا فلا تنشروا الخبر في وسط الناس، مع أن الخبر قد وصل إليهم، فخاف النبي صلى الله عليه وسلم أنهم لو استيقنوا الخبر لفت في أعضاءهم، وألقوا بأيديهم ويئسوا. وقوله لهم: الحنوا لي لحناً، يعني: قولوا كلاماً آخر أفهمه أنا والناس لا يفهمون منه شيئاً. قال: (وإذا كان الكلام كذباً فاجهروا للناس). وفعلاً ذهب السيدان سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ومعهما عبد الله بن رواحة وخوات بن جبير إلى اليهود فوجدوهم على أخبث ما يكون، فقد غدروا بالنبي صلى الله عليه وسلم وانقلبوا وشتموهما. ورجع سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ومن معهما، وكان سعد بن معاذ أشد المسلمين على اليهود فشتمهم وسبهم وشتموه أيضاً، فقال سعد بن عبادة: دع عنك شتمهم، فالذي بيننا وبينهم أكبر من ذلك، ثم أقبلوا على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له: عضل والقارة، وهنا فهم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفهم الناس شيئاً. وعضل والقارة قبيلتان من العرب، أرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد غزوة أحد أن ابعث لنا من يعلمنا القرآن، فأرسل إليهم ستة من قراء القرآن، فلما ذهبوا إليهم غدروا بهم وخانوهم وقتلوهم، فكأنهم يذكرونهم أن اليهود قد عملوا بمثل ما عمل به عضل والقارة بالقراء، فهذا هو اللحن الذي قصده النبي صلى الله عليه وسلم. فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم مقالتهم قال: (أبشروا يا معشر المسلمين). وقد كان الأمر كما ذكر الله سبحانه وتعالى بأنهم جاءوهم من فوقهم ومن أسفل منهم وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وكادوا يظنون بالله الظنونا، بل ظنوا بالله ظن السوء، بأنه لا ينصرهم وأنه تركهم.

موقف المنافقين في غزوة الخندق

موقف المنافقين في غزوة الخندق وفي هذه الغزوة جاءت الفرصة التي أظهرت المنافقين في وقت ضعف المسلمين، وفي وقت مجيء أعداء المسلمين، فإن المنافقين يخافون من قوة المسلمين، فإذا كان المسلمون أقوياء فإن النفاق لا يظهر في هؤلاء، وإذا كانوا ضعفاء فإن نفاهم يظهر. وكان في المدينة منافقون ولم يكونوا في مكة؛ لأن الكفار أقوياء ظاهرون، والمسلمين ضعفاء مستضعفون، فكان المسلم في مكة يخفي إسلامه، أما المنافق فإن قلبه فيه كفر، فإذا كان في مكة أظهر الكفر معهم، وإذا كان في المدينة فإنه يخاف من المسلمين فيظهر لهم الإسلام، فإذا حدثت مصيبة كهذه المصيبة ظهر المنافقون وتكلموا. فمنهم من قال: إن بيوتنا عورة فإذا وقفنا هنا بجانب جبل سلع والكفار عند جبل أحد فسوف يأتون إلى بيوتنا فيدخلونها. فيتركون النبي صلى الله عليه وسلم ويستأذنونه ويرجعون إلى بيوتهم من خوفهم ورعبهم وتخذيلهم للمسلمين. ومنهم من قال: يعدنا محمد صلى الله عليه وسلم أن يفتح كنوز قيصر وكسرى وأحدنا لا يأمن على نفسه! وذلك لما ضرب النبي صلى الله عليه وسلم صخرة وحطمها بثلاث ضربات في كل ضربة وجد بشارة من الله عز وجل أن يفتح له بلاد الشام وبلاد الفرس وبلاد الروم وبلاد اليمن، فبشر المسلمين بذلك، فإذا بهؤلاء المنافقين يسخرون ويقولون: يعدنا أن نفتح بلاد قيصر وبلاد كسرى وبلاد اليمن ونحن محتارون في هؤلاء الكفار لا نستطيع أن نعمل شيئاً. فظهر ما في قلوبهم من الكفر والتكذيب بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يستحيون أن يظهروا هذا الشيء. فهم يظهرون إذا وجدوا المسلمين في ضعف، فأظهروا نفاقهم لعنة الله عليهم وعلى أمثالهم، يقول قائلهم: يعدنا محمد أن نفتح كنوز كسرى وقيصر وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط، قال ذلك من المنافقين معتب بن قشير أحد بني عمرو بن عوف، وممن قال {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} [الأحزاب:13]، أوس بن قيظي.

استشارة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه

استشارة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه ولقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الحصار بضعاً وعشرين ليلة، فغزوة الأحزاب ليس معناها أنها كانت يوماً واحداً، بل ظلت بضعاً وعشرين يوماً على هذا الرعب وهذا الخوف، والكفار كانوا مستعدين يبحثون عن مكان يدخلون منه على المسلمين، والمسلمون كانوا متحصنين بهذا الخندق، ومن ثم قد يخرج اليهود عليهم من الخلف، ولكن تحدث من الله عز وجل المعجزة والنصر للمؤمنين وهم على ذلك. وحصل بين الكفار والمسلمين مناوشات بالرماح والرمي بالأحجار، ولم يصل بعضهم إلى بعض بسبب الخندق، ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن البلاء قد اشتد على المسلمين وأصابهم الخوف، ومن ثم بدأ الشك في قلوبهم وذلك لخيانة اليهود أراد أن يذهب عنهم هذا الخوف، فلجأ إلى أن يعمل معاهدة بينه وبين بعض الكفار، أن يكفون عن القتال ويعطيهم شيئاً، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يصنع ذلك لا خوفاً على نفسه عليه الصلاة والسلام، لكن خوفاً على المؤمنين الذين زاغت أعينهم واضطربت قلوبهم. فأرسل إلى عيينة بن حصن الفزاري وإلى الحارث بن عوف المري وهما قائدا غطفان فجاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم ثلث ثمار المدينة ويكفون عن الحرب. إذاً هنا نصف جيش الكفار سيرجع ويبقى خمسة آلاف وعدد المسلمين ثلاثة آلاف، فالعدد يكون متكافئاً بينهما، فالنبي صلى الله عليه وسلم شاور الأنصار، كان ليفعل شيئاً حتى يستشير أصحابه عليه الصلاة والسلام. فشاور سعد بن معاذ وسعد بن عبادة على أن يعطيهم ثلث ثمر المدينة ويرجعوا عن الحرب. والمشاورة دائماً تكون مع كبار القوم أهل الحكمة وأهل العلم وأهل الإيمان، فلا يمكن أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم إلى جيش عدده ثلاثة آلاف مقاتل ويستشيرهم واحداً واحداً، ولكن يشاور الكبار مثل سعد بن معاذ وسعد بن عبادة رضي الله عنهما، فالكبير دائماً عنده أدب وعنده رأي وحكمة، فقالا للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! هذا أمر تحبه فنصنعه لك؟ أو شيء أمرك الله به فنطيعه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أمر أصنعه بنفسي)، أي: لم يأمرني ربي ولا أريد هذا الشيء ولكن من أجل الخوف الذي ملأ قلوب الناس قلت لكم هذا الأمر. أو قال صلى الله عليه وسلم: (والله ما أصنعه إلا أني قد رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، فقال سعد بن معاذ رضي الله عنه: يا رسول الله! والله لقد كنا ونحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه وما طمعوا قط أن ينالوا منا ثمرة إلا قرى أو بيعاً، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا إليه وأعزنا بك نعطيهم أموالنا، والله لا نعطيهم إلا السيف، حتى يحكم الله بيننا وبينهم. فسر رسول صلى الله عليه وسلم)، أي: فرح صلى الله عليه وسلم بذلك؛ لأنه لم يرد غير ذلك عليه الصلاة والسلام، وقال: (أنتم وذا، وقال للاثنين من رؤساء الكفار: انصرفا فليس لكم عندنا إلا السيف).

موقف علي بن أبي طالب مع عمرو بن عبد ود

موقف علي بن أبي طالب مع عمرو بن عبد ود وقبل نصر الله للمؤمنين حصل شيء من المناوشات، فالكفار ضاق بهم الأمر، فأخذوا يبحثون عن أضيق مكان في الخندق من أجل أن يعبروا إلى المسلمين من خلال هذا المكان، ففوارس قريش منهم عمرو بن عبد ود العامري من بني عامر بن لؤي، وعكرمة بن أبي جهل وهبيرة بن أبي وهب وضرار بن الخطاب الفهري وكانوا من فرسان قريش وشجعانهم. فأقبلوا حتى وقفوا على الخندق يبحثون عن مكان من أجل أن يعبروا إلى المسلمين، وأيضاً فإن فيهم شجاعة، حيث إنهم أربعة أو خمسة ويريدون أن يذهبوا لثلاثة آلاف رجل، فكانت شجاعتهم منقطعة النظير، من أجل أن نعرف أن المسلمين لم يجاهدوا أناساً ضعفاء أو أوباشاً لا يعرفون القتال، هؤلاء أناس أقوياء جداً وفي غاية الشجاعة والجرأة، بدليل أن أربعة يريدون أن يتعدوا الخندق من أجل أن يقاتلوا من وراء الخندق. وتوجهوا إلى مكان ضيق من الخندق، فضربوا خيولهم فاقتحمت بهم الخندق. أي: قفزت حتى وصلوا إلى المسلمين وجاوزوا الخندق وصاروا بين الخندق وبين جبل سلع الذي كان عنده المسلمون، فخرج إليهم علي بن أبي طالب رضي الله تبارك وتعالى عنه، فلما خرج علي رضي الله عنه أقبلت الفرسان نحوه ومعه مجموعة من المسلمين. وعمرو بن عبد ود هذا كان في يوم بدر قد أثبتته الجراحة فلم يقاتل في يوم أحد بعد ذلك، وفي يوم الخندق أراد أن يري الناس شجاعته وأنه هو الرجل العظيم الشجاع الجريء، فلما وقف نادى في المسلمين: من يبارز؟ فبرز له علي بن أبي طالب رضي الله تبارك وتعالى. وهنالك فرق كبير في السن بين علي بن أبي طالب وبين هذا الرجل، فقال له: يا عمرو! إنك عاهدت الله فيما بلغنا عنك أنك لا تدعى إلى إحدى خصلتين أو خلتين إلا أخذت إحداهما، أي الأفضل منهما قال: نعم. فـ علي بن أبي طالب قبل أن يقاتله يدعوه للإسلام لأنه عاهد الله على ذلك، فقال له: يا عمرو بن عبد ود! إني أدعوك إلى الله وإلى الإسلام، فقال: لا حاجة لي بذلك، أي: لا أريد هذا الشيء، قال: فأدعوك إلى المبارزة فإنك على باب الموت، فقال الرجل: يا ابن أخي! والله ما أحب أن أقتلك! فهو مستعظم لنفسه أنه من كبار المشركين وعلي بن أبي طالب مثل ابنه الصغير، ففي ظنه أن علياً لا يقدر عليه، فقال لـ علي: لا أحب أن أقتلك، لأننا أقرباء وأنت من قريش فلا أريد أن أقتلك، فهل هناك أحد آخر غيرك من أجل أن أقتله فثقته بنفسه أنه سيقتل علياً ويقتل من معه. فقال علي بن أبي طالب أنا والله أحب أن أقتلك! فظهرت شجاعة علي رضي الله عنه كأنه يحمسه ويقول له: تعال إذاً قاتلني، فحمي عمرو بن عبد ود ونزل عن فرسه فعقره، من أجل إثبات الشجاعة والقوة في أنه ينزل عن فرسه، بل ويقتله من أجل ألا يقتله أحد ومن أجل أن يريهم أنه يقاتل على رجليه، وأقبل إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فتنازلا وتجاولا وثار النقع -أي: الغبار- بينهما حتى حال دونهما الناس فلا يستطيعون أن ينظروا شيئاً لأن الغبار حولهما، فلما انجلى النقع إذا بـ علي على صدره وهو يذبحه رضي الله تبارك وتعالى عنه، فلما رأى أصحابه أن علياً قتل صاحبهم فروا منهزمين وهم من أشجع الكفار وقال علي رضي الله تبارك وتعالى شعراً جميلاً عن هذا الإنسان الكافر: نصر الحجارة من سفاهة رأيه ونصرت رب محمد بصواب نازلته فتركته متجدلاً كالجذع بين دكادك وروابي وعففت عن أثوابه ولو انني كنت المقطر بزني أثوابي لا تحسبن الله خاذل دينه ونبيه يا معشر الأحزاب هذا علي رضي الله عنه يقول: أنا قتلته، وأنا دافعت عن دين النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يدافع عن الحجارة، وأنا دعوته إلى الله فأبى أن يسلم، وعففت عن أثوابه عندما قتلته، ولو أنني كنت المقتول لسلبني أثوابي وتركني عرياناً على الأرض. فهذا شرف المؤمنين في قتالهم رضي الله تبارك وتعالى عنهم، وقال حسان بن ثابت لما رأى عكرمة بن أبي جهل وهو يفر: فر وألقى لنا رمحه لعلك عكرم لم تفعل حسان بن ثابت يشنع به لما هرب وهو ابن أبي جهل الذي كان سيد قريش فر وألقى لنا رمحه لعلك عكرم لم تفعل ووليت تعدو كعدو الظليم ما أن يجور عن المعدل ولم تلو ظهرك مستأنساً كأن قفاك قفا فرعل أي: أن قفاه مثل قفا الضبع، فهذا من حسان وفيه قصة طويلة.

تفسير سورة الأحزاب (تابع2) [9 - 10]

تفسير سورة الأحزاب (تابع2) [9 - 10] لقد حصلت في غزوة الأحزاب بعض المواقف الإيمانية التي سطرها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك: قتل علي بن أبي طالب لعمرو بن عبد ود، وموقف الأنصار الشجاع من عدم إعطائهم لغطفان ثلث ثمار المدينة، وموقف نعيم بن مسعود الأشجعي وتخذيله للكفار، وموقف صفية بنت عبد المطلب من اليهودي الذي تسلل إلى الحصن، وموقف حذيفة بن اليمان عندما دخل في صفوف الأحزاب تنفيذاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم.

مواقف عظيمة في غزوة الأحزاب

مواقف عظيمة في غزوة الأحزاب

تصدي المسلمين للأحزاب

تصدي المسلمين للأحزاب بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين: قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:9 - 11]. هذا اليوم الذي يذكره الله تبارك وتعالى كانت فيه هذه النعمة العظيمة من ربنا سبحانه على المؤمنين، وهو يوم غزوة الخندق، وتسمى غزوة الأحزاب، وكانت في العام الخامس من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم حيث جاء الأحزاب لحرب النبي صلى الله عليه وسلم بسبب اليهود الذين دعوهم لذلك وجمعوهم، فجاءت قريش ومن معها من أهل نجد وغطفان وغيرهم من المشركين في عشرة آلاف رجل، يزعمون أنهم يستأصلون النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين الذين معه في المدينة. وأشار سلمان على النبي صلى الله عليه وسلم بأن يحفر خندقاً يكون بينهم وبين المشركين، وكان عدد جنود المسلمين ثلاثة آلاف رجل. أمر الأحزاب كان أمراً شديداً، ولم يحدث كثير قتال، فالقتال كان قليلاً، والبعض من المشركين حاولوا أن يبحثوا عن ثغرة في الخندق ليعبروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فعبر مجموعة من فوارسهم منهم عمرو بن عبد ود العامري، وعكرمة بن أبي جهل وهبيرة بن أبي وهب وضرار بن الخطاب، وكان هؤلاء فرسان قريش وشجعانها. فلما اقتحموا الخندق وصاروا عند المسلمين خرج منهم من يطلب من المسلمين المبارزة وهو عمرو بن عبد ود، فخرج إليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومكنه الله عز وجل منه مع كون الفرق كبيراً بين الاثنين، هذا رجل كبير ومن الجريئين والمشهورين بالشجاعة، وعلي بن أبي طالب شاب صغير رضي الله عنه، ولكن الله سبحانه وتعالى قواه بإيمانه، فغلبه وعلاه وذبحه، فلما رأى الكفار ذلك فر الباقون وهربوا. كان اليوم كما قال الله سبحانه تبارك وتعالى إنه يوم عظيم ويوم شديد، زاغت فيه الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وظنوا بالله الظنونا، وخانت اليهود من خلف المسلمين والنبي صلى الله عليه وسلم مشغول بالكفار الذين أمامه، وبلغ خبر اليهود للمسلمين ففت في أعضادهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم أرسل للتأكد من ذلك، فقد أرسل سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وعبد الله بن رواحة وغيرهم، حتى يأتوه بخبر اليهود ولا يذكرون الخبر تصريحاً إذا خانوا، فإذا لم يخونوا فليصرحوا بذلك، فجاءوا وعرضوا بالكلام الذي فيه أن اليهود قد خانوا فعلاً.

حكمة الله في نصر عباده المؤمنين

حكمة الله في نصر عباده المؤمنين فالأمر كان شديداً، والله تبارك وتعالى له الحكمة العظيمة البالغة، أنه يزلزل الناس ويخيفهم حتى لا يجدوا لهم ملجأً من الله إلا إليه، فيكون اعتمادهم وتوكلهم على الله سبحانه وحده لا شريك له، وله الحكمة سبحانه في أن تكون الهزيمة على طائفة والانتصار لطائفة أخرى، فالمسلمون في بعض الغزوات يغلبون من أولها، وفي بعضها يغلبون ثم يغلبون، وفي بعضها يغلبون من أولها إلى آخرها، وقد يهزمون كما حدث في يوم أحد مثلاً، فالله عز وجل يرينا آيات من آياته، أن هؤلاء المسلمين الذين مع النبي صلى الله عليه وسلم بشر كغيرهم من البشر عرضة للنصر وعرضة للهزيمة. والهزيمة لها أسباب في داخل نفوس الناس، كما قال الله عز وجل: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا} [التوبة:25]، فكثرة العدد ليست كل شيء، فيوم حنين كان عدد المسلمين مع النبي صلى الله عليه وسلم يقارب من عدد الكفار، كانوا عشرة آلاف ومعهم ألفان من مسلمي الفتح، والكفار كانوا عشرة آلاف أو نحو ذلك، وإذا بالمسلمين ينهزمون ولم يبق إلا سبعون رجلاً. فإذاً أمر القتال ليس لعبة، إنه قتال الكفار {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60]، فليس كل مسلم يذهب إلى المعركة ويقول الله أكبر فإن الله سينصره مباشرة من غير أخذ بأسباب القتال وأسباب النصر، التي منها: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال:60]، أي: استعدوا لذلك بالقوة الإيمانية وبقوة العدد والعتاد، فإذا كان معكم عدد وسلاح وإيمان فقاتلوا في سبيل الله عز وجل، وتوكلوا عليه سبحانه، فسوف يأتي النصر والفتح من عند الله. وإذا لم يوجد معكم الإيمان فإذاً لا تنتظروا النصر من الله، وكذلك إذا وجد الإيمان ولا يوجد عدد ولا إعداد للقتال، فأمر القتال ليس لعبة، لا بد من الاستعداد كما أمر الله تبارك وتعالى. وفي غزوة الأحزاب كان عدد المسلمين ثلاثة آلاف؛ والكفار عشرة آلاف، فإذاً العدد غير متكافئ بين المسلمين وبين الكفار. وقد أنزل الله تبارك وتعالى قبل ذلك في يوم بدر ويوم أحد، ما يدل على أن الواحد من المسلمين يمكن أن يقاوم عشرة من الكفار، وليس له أن يفر منهم؛ قال تعالى: {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا} [الأنفال:65]، فإذاً المائة من المؤمنين يغلبون ألفاً، ثم بعد ذلك خفف عنهم لما علم أن فيهم ضعفاً، فإن يكن منهم مائة صابرة يغلبون مائتين، وإن يكن منهم ألف يغلبون ألفين بإذن الله، فالواحد أمام اثنين، أما في غزوة الخندق فإن الواحد أمام ثلاثة، فلا يستطيعون المواجهة، لكن الخندق حال بينهم وبين الكفار حتى أتى نصر الله، فليس المسلمون هم الذين خرجوا إليهم، بل الكفار هم الذين جاءوا، فانتظروا من الله سبحانه تبارك وتعالى الفرج.

موقف الأنصار من رأي النبي في إعطاء ثلث ثمار المدينة لقبيلة غطفان

موقف الأنصار من رأي النبي في إعطاء ثلث ثمار المدينة لقبيلة غطفان ولقد ضاق الأمر بالمسلمين حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم ليشفق عليهم، فكاد أن يتفق مع بعض الكفار على أن يأخذوا ثلث ثمار المدينة ويرجعوا ليخذلوا جيش الكفار من قريش. وإذا بالأنصار يرفضون ويقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كان هذا أمراً من الله سبحانه فإنا سنطيعه وإن كان أمراً تحبه أنت أيضاً نطيعه، وإن كان أمراً تعمله لنا نحن فلا، فإنهم لم يكونوا يطمعون ونحن في الكفر أنهم يأخذوا منا ثمرة من ثمار المدينة إلا شراءً أو قرى أو هدية، أما أنهم يأخذون هكذا من غير سبب فليس لهم إلا السيف. وكان أهل المدينة شجعاناً، وكانوا مشهورين بذلك، ولما جاء تبع اليمن بجيشه يحارب أهل المدينة فكانوا يقاتلونهم بالنهار، ويطعمونهم بالليل على أنهم ضيوف. فلم يمنعهم قتالهم من أنهم يبعثون لهم شيئاً من الطعام، فلما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ليس لهم عندنا إلا السيف، فرح النبي صلى الله عليه وسلم بذلك لأنهم ثابتون على دينهم.

موقف نعيم بن مسعود الأشجعي

موقف نعيم بن مسعود الأشجعي ولما علم الله من قلوب المؤمنين أنهم أقوياء في إيمانهم، جاء فضله سبحانه وتعالى عليهم، ولكل شيء سبب من الأسباب، فأرسل الله سبحانه وتعالى رجلاً كان كافراً وأسلم في ذلك الحين، واسمه نعيم بن مسعود الأشجعي، رجل من أشجع، وكان حليفاً لليهود يعرفه اليهود ويعرفه أهل مكة، فتوجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يا رسول الله! إني قد أسلمت، ولم يعلم قومي بإسلامي، فمرني بما شئت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما أنت رجل واحد من غطفان فلو خرجت فخذلت عنا). النبي صلى الله عليه وسلم يخبر أنه لا يعمل شيئاً في القتال، وإنما يستطيع أن يخذل بأن يلقي في قلوبهم الخوف ويوقع بينهم العداوة بحيث ينصرفون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فلو خرجت فخذلت عنا إن استطعت كان أحب إلينا من بقائك معنا). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فاخرج فإن الحرب خَدعة)، وهذه اللفظة تقرأ على وجوه، الحرب خَدعة، والحرب خُدعة، والحرب خِدعة، وكل وجه له معنى، وأجمل المعاني الحرب خَدعة، والمعنى: إذا عرفت أن تخدع خصمك فقد قتلته، وخَدعه قتله، وهي اسم مرة. فخرج نعيم بن مسعود رضي الله عنه حتى أتى بني قريظة الذين خانوا النبي صلى الله عليه وسلم. وكان بينه وبينهم كلام ومنادمات وزيارات في الجاهلية، فقال: يا بني قريظة، قد عرفتم ودي إياكم، قالوا: قل، فلست عندنا بمتهم، أي: نحن لا نتهمك بشيء، وهم يظنون أنه ما زال على الكفر، فقال لهم: إن قريشاً وغطفان ليسوا مثلكم، البلد بلدكم، فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، وإن قريشاً وغطفان قد جاءوا لحرب محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، فإن رأوا نهزة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادكم، وخلوا بينكم وبين الرجل ولا طاقة لكم به، فعليكم أن تأخذوا رهائن من قريش من أجل أن لا يفروا ويتركوكم لمحمد. فقالوا: لا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهناً. ثم تركهم وخرج وتوجه إلى قريش فقال لهم: قد عرفتم ودي لكم معشر قريش وفراق محمد، وقد بلغني أمر أرى من الحق أن أبلغكموه نصحاً لكم، فاكتموا عني. قالوا: نفعل! قال: تعلمون أن معشر اليهود قد ندموا على ما كان من خذلانهم محمداً، وقد أرسلوا إليه أنا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ من قريش وغطفان رجالاً من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك على من بقي منهم حتى نستأصلهم. ثم أتى غطفان وهو منهم وقال لهم مثل ذلك، فلما كانت ليلة السبت وكان ذلك من صنع الله تبارك وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين أرسل الله تبارك وتعالى ريحاً تقلب عليهم أوانيهم، وتطفئ نيرانهم وأصبح الكفار متخبطين لا يدرون ما يعملون؟ فقالوا: إلى متى سنستمر فلنقم للقتال. فأرسلوا لليهود: إنا لسنا بدار مقام وقد هلك الخف والحافر، فاغدوا صبيحة غد للقتال حتى نناجز محمداً فنقاتله ونخلص من هذه الحرب. واليهود أرسلوا إليهم وقالوا لهم: إن اليوم يوم السبت، ونحن لا نقاتل يوم السبت، وقد علمتم ما نال منا من تعدى في السبت، ومع ذلك لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهناً. فهذا الذي أراداه نعيم بن مسعود رضي الله عنه، فلما سمعوا ذلك قالوا: صدق نعيم بن مسعود فردوا إليهم وقالوا: والله لا نعطيكم رهناً أبداً، فاخرجوا معنا إن شئتم، وإلا فلا عهد بيننا وبينكم، فقال بنو قريظة: صدق والله نعيم بن مسعود! وخذل الله الكفار، فلا هؤلاء قاموا للقتال ولا هؤلاء.

موقف صفية بنت عبد المطلب من اليهودي الذي تسلل إلى الحصن

موقف صفية بنت عبد المطلب من اليهودي الذي تسلل إلى الحصن وكان اليهود يحاولون أن يعملوا شيئاً في حصن من حصون المسلمين الذي فيه النساء، فاليهود غدارون كعادتهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل نساء المسلمين في حصن من الحصون وكان فيه حسان رضي الله تبارك وتعالى عنه، فكان في هذا الحصن نساء النبي صلى الله عليه وسلم والسيدة صفية بنت عبد المطلب عمة النبي صلوات الله وسلامه عليه وأخت حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه. فقالت رضي الله عنها: كنا يوم الأحزاب في حصن حسان بن ثابت وكان فيه النساء والصبيان، وحسان لم يكن يقدر على القتال، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يجعله في الحصن الذي فيه النساء والصبيان، فجاء مجموعة من اليهود فجعل أحدهم يدور حول الحصن، لعله لا يجد فيه رجالاً فيهجم اليهود على الحصن ويأخذون كل من فيه. فطلبت صفية من حسان أن ينزل إليه، ولكن حسان كان شاعراً مجيداً رضي الله عنه، لم يكن يستطيع القتال، فلم ينزل رضي الله تبارك وتعالى عنه، فلما رأت ذلك السيدة صفية رضي الله عنها، إذا بها تأخذ عموداً من أعمدة الخيام، وتضرب به اليهودي على رأسه حتى قتلته رضي الله تبارك وتعالى عنها، وألقته على اليهود من الحصن. فاليهود لما نظروا إليه قالوا: ما كان محمد ليدع نساءه وحدهن. فالسيدة صفية كانت شديدة وجريئة، فعلت ما لم يفعله حسان رضي الله تبارك وتعالى عنه. وهذا ليس أول ما فعلته فقد شهدت مقتل أخيها حمزة رضي الله عنه، والنبي صلى الله عليه وسلم خاف عليها أنها ترى في يوم أحد حمزة وهو مقتول والكفار قد شوهوه، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر الزبير أن يرد أمه حتى لا ترى أخاها حمزة وهو قتيل رضي الله عنه، فلما ذهب يردها فإذا بها تضربه في صدره وتقول: إليك عني، وتذهب بقوة وشجاعة وتنظر إلى أخيها وتسترجع وتتصبر رضي الله تبارك وتعالى عنها، في موقف لو أن رجلاً رأى مثله لعله ينهار، ولكن ثبتها الله تبارك وتعالى وصبرها ورجعت وأتت بكفنين ليكفن بهما حمزة رضي الله تبارك وتعالى عنه وأرادت أن تنقل حمزة على الجمال إلى المدينة، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأمر بدفنه حيث قتل رضي الله تبارك وتعالى عنه. فالسيدة صفية أرى الله سبحانه وتعالى كرامة على يدها لما قتلت اليهودي وألقته على اليهود، فخاف اليهود من هذا الحصن أن يكون فيه رجال يقاتلونهم، وانصرفوا عنه، ثم جعل الله عز وجل نعيم بن مسعود يخذل بين اليهود وبين الكفار حتى ارتعب الجميع، ثم إذا بالرياح تهيج عليهم فإذا بـ أبي سفيان من شدة رعبه يقول: يا معشر قريش! إني مرتحل.

موقف حذيفة بن اليمان

موقف حذيفة بن اليمان ويحكي لنا حذيفة بن اليمان رضي الله تبارك وتعالى عنه خبر هؤلاء فيما يرويه الإمام مسلم عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: كنا عند حذيفة فقال رجل من التابعين: لو أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلت معه وأبليت، فقال حذيفة رضي الله عنه: لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب وأخذتنا ريح شديدة وبرد شديد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا رجل يأتيني بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة)، أي: واحد منكم يذهب يأتينا خبر هؤلاء وأدعو له أنه يكون معي يوم القيامة، فلم يقم أحد. قال حذيفة رضي الله عنه: (فسكتنا فلم يجبه منا أحد)، لأنهم كانوا مرعوبين، قال الله عز وجل: {وَزَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب:10]، أي: من شدة الرعب والخوف. قال رضي الله عنه: (فسكتنا فلم يجبه منا أحد، ثم قال: ألا رجل يأتينا بخبر القوم، جعله الله معي يوم القيامة. فسكتنا فلم يجبه أحد، فقال: قم يا حذيفة فائتنا بخبر القوم، فلم أجد بداً إذ دعاني باسمي)، أي: فقمت في هذا الوقت. قال صلى الله عليه وسلم: (اذهب فائتني بخبر القوم ولا تذعرهم)، أي لا تخوفهم، ولا تعمل فيهم شيئاً أو تحدث حدثاً هنالك، لأنهم في غاية الرعب، فهذه إذاً بركة وكرامة من الله عز وجل لنبيه صلوات الله وسلامه عليه. يقول حذيفة: (فلما وليت من عنده وكانت الليلة شديدة الرياح، شديدة البرد، فكأنما أمشي في حمام). بركة وكرامة للنبي صلى الله عليه وسلم، ومعجزة من المعجزات، قام حذيفة وكأنه يمشي في حمام، أي: مكان حار، ولا يحس بشيء. قال: (حتى أتيتهم، فرأيت أبا سفيان يصلي ظهره بالنار)، أي: من شدة البرد يضع ناراً خلف ظهره من أجل أن يتدفأ بها، قال: حذيفة رضي الله عنه: (فأردت أن أرميه). وهنا بلغت به الشجاعة بعد الخوف الشديد، فلو أراد أن يرميه بسهم لفعل وأبو سفيان هو زعيم هؤلاء الكفار في ذلك الحين، قال: (فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولا تذرعهم، قال: ولو رميته لأصبته، فرجعت وأنا أمشي في مثل الحمام)، فرجع مثلما ذهب في مكان حار، لا يشعر بشيء. ولما وصل إليهم قال أبو سفيان كل رجل يتعرف على من يليه، لئلا يكون فيهم جواسيس للنبي صلى الله عليه وسلم، قال حذيفة: (فأخذت بيد الذي بجواري وقلت له: من أنت)، أي: أظهر نفسه أنه منهم، فسأل من بجواره: ما اسمك؟ فلما قال: ما اسمك؟ فالثاني لن يقول له: وأنت ما اسمك؟ وجلس حذيفة في وسطهم في الظلام، وهم يظنونه منهم، فسمع أبا سفيان يقول: ويلكم يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، ولقد هلك الكراع والخف، أي الخيول والإبل بسبب الرياح التي أرسلها الله سبحانه وتعالى، وبسبب خلف بني قريظة للعهد. فمن شدة ما أرسله الله عز وجل عليهم من الريح، فإن خيامهم لا تقف مكانها، فإنها تطير في الهواء ولا يثبت لهم قدر فكيف سيأكلون، ولا تقوم لهم نار، فارتحل أبو سفيان ووثب على جمله فما حل عقال يده إلا وهو قائم، فمن شدة الرعب الذي وقع في الكفار، فإن أبا سفيان وثب على جمله، ولم يحل عقاله إلا وهو قائم. قال حذيفة: (ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتلته بسهم)، أي: لقتل أبا سفيان ورجع للنبي صلى الله عليه وسلم. فلما رجع شعر بالبرد مرة أخرى، حتى أدفأه النبي صلى الله عليه وسلم بثوبه، ونام رضي الله تبارك وتعالى عنه، قال: (فلم أزل نائماً حتى أصبحت، فلما أصبحت قال النبي صلى الله عليه وسلم: قم يا نومان)، أيْ: يا كثير النوم، فقام رضي الله عنه، وقد ذهب الأحزاب. هذه قصة الأحزاب مختصرة فيها عبرة لمن يعتبر، فإن النصر من عند الله وحده لا شريك له، إن تنصروا الله ينصركم.

تفسير سورة الأحزاب (تابع3) [9 - 10]

تفسير سورة الأحزاب (تابع3) [9 - 10] يوم الأحزاب هو يوم من الأيام العصيبة التي واجهها المسلمون، فقد اجتمعت قوى الكفر والأحزاب من يهود ومشركين ومنافقين للقضاء على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في المدينة، ولكن الله للمشركين بالمرصاد، فلم تلبث قوى الكفر أن جاءتها جنود الله، فرجع المشركون على أعقابهم ينكصون، ثم اتجه النبي وأصحابه إلى بني قريظة ناقضي العهد، فقتلوا رجالهم ووسبوا نساءهم وأطفالهم، وغنموا أموالهم بإذن الله.

نصر الله للمؤمنين بريح وجنود لا ترى

نصر الله للمؤمنين بريح وجنود لا ترى بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب:9]. قصة الأحزاب قد ساق الله عز وجل صوراً منها في هذه السورة، وذكرنا بنعمته العظيمة على المؤمنين فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [الأحزاب:9]، فنعم الله كثيرة وعظيمة {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]، أي: جنس نعمة الله تبارك وتعالى، فهذه نعمة من نعم الله تبارك وتعالى عليكم حين نصركم على الكفار، وكانوا قد أحاطوا بكم وأحدقوا بكم، ولولا فضل الله عليكم لكنتم بين أيديهم يفعلون بكم ما يشاءون، ولكن الله من عليكم بالنصر. قوله: {إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب:9]. المسلمون مع النبي صلى الله عليه وسلم جنود يجاهدون في سبيل الله سبحانه وتعالى، ولكن الجنود الذين قصدهم هنا هم ملائكة الله سبحانه وتعالى. فأرسل جنوداً من السماء: الريح جند من جند الله سبحانه، الملائكة جند من جند الله تبارك وتعالى، النار الماء الكائنات التي خلقها الله، كل شيء من جنود الله سبحانه وتعالى، نحن لا ندري إلا بما يخبرنا الله تبارك وتعالى عنه. {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا} [الأحزاب:9] أرسل على هؤلاء الكفار شيئاً من الريح فإذا بهذه الريح ترعب هؤلاء، وأرسل عليهم جنوداً من الملائكة، ولم تقاتل الملائكة في هذه الغزوة، وإنما سلطهم الله عز وجل على هؤلاء الكفار يكفئون قدورهم، ويفكون قيود إبلهم وخيولهم فإذا هم في رعب، فالخيل يفك رباطها فتجول بعضها على بعض، القدور موجودة على النار فتطفأ النار وتقلب القدور، فإذا هم في رعب شديد مما يحدث أمامهم. فلذلك يذكرنا الله بأننا لم نقاتل هؤلاء الكفار، وإنما أرسل الله عز وجل من عنده من يرعبهم. ذكرنا ربنا كيف أنه سبحانه تبارك وتعالى جعل هذه الليلة على الكفار غاية في البرودة، فالمسلمون شعروا بالبرودة، ولكن بينهم وبين الكفار خندق لم يشعروا بشيء من هذه الريح، وهذه معجزة من المعجزات، فالمسلمون مع النبي صلى الله عليه وسلم بينهم وبين الكفار خندق، ومن وراء هذا الخندق العظيم ريح شديدة عاصفة تهيج على هؤلاء الكفار، فلا يقدرون على القيام، وأما في الناحية الأخرى عند النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين فلم يشعروا بشيء من هذه الريح، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم ليحتاج أن يرسل من يأتيه بخبر القوم، فيقوم حذيفة رضي الله تبارك وتعالى عنه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ويذهب إلى هؤلاء الكفار، ويرى ما هم فيه من الرعب والبرد الشديد، فيقول حذيفة رضي الله عنه: لم أشعر بشيء من هذا كله، وكأني أمشي في حمام، أي: في مكان ساخن. فيجلس ويسمع منهم ما يقولون، وأنهم راجعون إلى مكة، فيرجع حذيفة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويخبره بذلك، وعند رجوع حذيفة رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشعر بالبرد. ويبقى أن المسلمين لم يشعروا إلا بالبرد الشديد، أما ريح هائلة كما عند الكفار فلم يشعروا بشيء من ذلك، لكن الكفار هم الذين شعروا بذلك، رجع حذيفة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنام في تلك الليلة، ولما أصبح أيقظه النبي صلى الله عليه وسلم.

غزوة بني قريظة وما فيها من مواقف ودروس

غزوة بني قريظة وما فيها من مواقف ودروس

أجر المجتهد على اجتهاده وإن أخطأ

أجر المجتهد على اجتهاده وإن أخطأ ولما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ذهب الأحزاب وعادوا إلى بلادهم، إذا بجبريل يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي على بغلة عليها قطيفة ديباج، فقال: يا محمد! إن كنتم وضعتم سلاحكم فما وضعت الملائكة أسلحتها بعد. وهنا يستحي النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، حيث إنه وصحابته قد وضعوا سلاحهم، والملائكة لم تضع أسلحتها بعد، فقال له: إن الله يأمرك أن تخرج إلى بني قريظة، وإني متقدم إليهم فمزلزل بهم حصونهم. فتقدم إليهم جبريل فزلزل بهم حصونهم، فألقي الرعب في قلوبهم، فخافوا وارتعبوا من مجيء النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم منادياً ينادي في الناس: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة. فتوجه المسلمون إلى بني قريظة، وفي أثناء الطريق صلى بعضهم العصر، وقالوا: إنما مقصود النبي صلى الله عليه وسلم الإسراع في المسير. وبعضهم لم يصل العصر إلا بعد وصوله إلى بني قريظة، وقالوا: نحن نفذنا أمر النبي صلى الله عليه وسلم حرفياً. فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لم يؤنب أحداً من الطائفتين، فهؤلاء اجتهدوا وأولئك اجتهدوا، فالذين قالوا: نصلي في بني قريظة، أخذوا بظاهر نص النبي صلى الله عليه وسلم، والذين قالوا: نصلي ونذهب إلى هناك، أخذوا بالمعنى الذي أراده النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الإسراع في المسير. وهنا ذكر العلماء في ذلك قاعدة وهي: أن المجتهد إذا اجتهد فأصاب فهو مأجور، وإذا اجتهد فأخطأ فهو أيضاً مأجور، لذلك كان كلا الفريقين على صواب، فالفريق الذي صلى العصر في بني قريظة قد نفذ كلام النبي صلى الله عليه وسلم بحرفه، فهؤلاء يكون لهم الأجر أعظم من أولئك الذين صلوا في الطريق. والنبي صلى الله عليه وسلم لم يخطئ واحداً، ولا عنف واحداً من الفريقين، ففيه دلالة على تصويب المجتهدين، فإذا اجتهد هذا واختار رأياً، والآخر اجتهد واختار خلافه، فلا يخطئ واحداً من الاثنين، لكن هل يكون في المسألة قولان كلاهما صواب؟ A لا، فالصواب قول واحد، فالمجتهد إن أصاب فله أجر عند الله عز وجل، وإن أخطأ فله أجر عند الله تبارك وتعالى، ولذلك لا يعنف هذا ولا ذاك، فالكل اجتهد، لكن إن علم أحد بالدليل أن أحد الاثنين هو المصيب فيلزمه اتباع الدليل، وإن لم يعلم الدليل القاطع فيبقى الجواز بأخذ قول هذا أو ذاك، طالما أن المسألة ليس فيها دليل يدل على تصويب واحد من الاجتهادين.

جرح سعد بن معاذ في غزوة الأحزاب ودعاؤه بأن تقر عينه من بني قريظة

جرح سعد بن معاذ في غزوة الأحزاب ودعاؤه بأن تقر عينه من بني قريظة وهنا كان سعد بن معاذ سيد الأوس أحد الذين أرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة، ليعرف منهم هل ما زالوا على العهد أم قد خانوا؟ فقدم هو وسعد بن عبادة الخزرجي وعبد الله بن رواحة وغيرهم، فلما قدموا على اليهود كان أشد المجموعة على اليهود هو سعد بن معاذ رضي الله تبارك وتعالى عنه، فسبهم وشتمهم، فسبوه وشتموه رضي الله تبارك وتعالى عنه. وسعد بن عبادة قال: دعك منهم الآن فالأمر أكبر من ذلك، أي: ارجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم لينظر في أمرهم. وكان سعد بن معاذ قد أصابه سهم في هذه الغزوة، رماه به أحد المشركين، يسمى ابن العريقة، وكان رجلاً كافراً، فلما رماه قال: خذها وأنا ابن العريقة. فأصاب السهم أكحله رضي الله عنه الله عنه، فجرحه جرحاً شديداً، ودعا سعد على من رماه فقال: عرق الله وجهك في النار. ودعا ربه سبحانه تبارك وتعالى بدعوة عجيبة فقال: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش فأبقني لها، فإنه لا قوم أحب إلي أن أجاهدهم من قوم كذبوا رسولك صلى الله عليه وسلم، وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاللهم لا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة. أي: إذا لم يكن هناك حرب مع قريش فاجعل الشهادة لي بهذا السهم الذي أصابني، وقبل ذلك أقر عيني من بني قريظة، هؤلاء الذين خانوا النبي صلوات الله وسلامه عليه. واستجاب الله له دعوته، فالتأم الجرح، وكان سعد بن معاذ رضي الله عنه هو الذي حكم في بني قريظة، ثم بعد ذلك إذا بالجرح ينفجر، فيموت سعد بن معاذ شهيداً من هذا الجرح رضي الله تبارك وتعالى عنه. تقول السيدة عائشة رضي الله عنها عن اليوم الذي أصيب فيه سعد في أكحله: مر سعد وعليه درع مقلصة مشمر الكمين وبه أثر الصفرة وهو يرتجز. وكان فارعاً في الطول رضي الله عنه، وكانت أطرافه خارجة من درعه لطوله رضي الله عنه وضخامة جسده. فخافت عائشة أن يحصل له شيء من الكفار؛ إذ لو أرادوا أن يرموه فسيرمونه في أطرافه، فممكن أن يحدث له شيء رضي الله عنه، وكان وهو متوجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يرتجز ويقول: لبث قليلاً يشهد اليهجا جمل ما أجمل الموت إذا حان الأجل وفعلاً أصيب بالسهم، فجاء في أكحله -في عرق في يده- فكان فيه استشهاده رضي الله تبارك وتعالى عنه، والناس قالوا: نرجو أن يكون قد استجيبت دعوته. وفعلاً استجاب الله دعوة سعد بن معاذ رضي الله عنه، فمات شهيداً ولم تعد هناك حرب بين المسلمين وكفار قريش، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم بعدها: (الآن نغزوهم ولا يغزوننا). أي: لن يأتوا إلينا، بل سنذهب نحن إليهم، وكان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، ففتحت مكة بعد ذلك، وصارت دار إسلام.

غدر يهود بني قريظة وعدواتهم للإسلام

غدر يهود بني قريظة وعدواتهم للإسلام خرج المسلمون إلى بني قريظة، واليهود من طبعهم أنهم لا يقاتلون المسلمين مواجهة، وإنما من خلف الحصون والجدران، فيرمون بالسهام والرماح على المسلمين من خلف هذه الحصون التي يتحصنون بها، قال تعالى: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} [الحشر:14] فتحصنوا في حصونهم، فتوجه النبي صلى الله عليه وسلم فحاصرهم في قريتهم، وكان الحصار شديداً. وقد ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم وجه المسلمين إلى هناك، فلما وصل إليهم علي سمعهم يشتمون النبي صلى الله عليه وسلم، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكأنه أراد منه ألا يذهب هو إليهم. فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! ألا تبلغ إليهم. فهو رضي الله عنه عرض للنبي صلى الله عليه وسلم ولم يفاجئه بأن اليهود يشتمونه، وهذا أدب منه رضي الله عنه وأرضاه. فالنبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي لا ينطق عن الهوى قال: (أظنك قد سمعت منهم شتمهم لي). فهو رضي الله عنه لم يرد للنبي صلى الله عليه وسلم الذهاب إليهم، فقال النبي (لو رأوني لكفوا) أي: لو رأوه لكفوا عن سبهم وشتمهم ولخافوا؛ لأن الله عز وجل نصره بالرعب الذي ألقاه على هؤلاء اليهود. وفعلاً نهض إليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأوه أمسكوا عن السب والشتم للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فقال لهم: (نقضتم العهد يا إخوة القردة! أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته)، فقالوا: ما كنت جاهلاً يا محمد! فلا تجهل علينا. أي: ليس من عادتك أن تشتم يا محمد! بينما هم في الأول كانو يشتمون ثم سكتوا، بعد أن ألقي في قلوبهم الرعب، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاصرهم بضعاً وعشرين ليلة، وعرض عليهم كعب بن أسد سيدهم -وكان يعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم نبي ورسول، ولم يرض بشتم هؤلاء للنبي صلى الله عليه وسلم - واحدة من ثلاث خصال: إما أن تسلموا وتتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم والذي جاء به، فتحرزوا أموالكم ونساءكم وأبناءكم، فوالله إنكم لتعلمون أنه الذي تجدونه في كتابكم، وإما أن تقتلوا أبناءكم ونساءكم ثم تتقدموا فتقاتلوا حتى تموتوا، وإما أن تبيتوا المسلمين ليلة السبت، لأنهم سيظنون أننا لا نقاتل يوم السبت. أي: فنحن ممنوعون من القتال في يوم السبت. لكن هذا ليس مهماً لأن عادتهم خداع الأنبياء، وبخداعهم هذا يظنون أنهم يخدعون ربهم، فقال: في ليلة السبت نخرج ونقاتل المسلمين، وهم غير متوقعين ذلك منا، وفي ذلك زيادة طمأنينة لهم، فنقتلهم قتلة عظيمة. فردوا عليه بقولهم: ولا نخالف حكم التوراة، وهو قد حلف لهم أنه النبي الحق الذي سيبعث في آخر الزمان. قالوا: وأما قتل أبنائنا ونسائنا، فما وزرهم حتى نقتلهم؟ فلا نفعل هذا الشيء. وأما القتال في يوم السبت فنحن لا نقاتل ولا نتعدى يوم السبت.

موقف أبي لبابة بن عبد المنذر من بني قريظة

موقف أبي لبابة بن عبد المنذر من بني قريظة ثم بعثوا إلى أبي لبابة بن المنذر، وهو رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والرجل والإنسان قد يحدث منه شيء من الأشياء، فيعثر ويقع في الخطأ أو الخطيئة، فـ أبو لبابة عندما أرسلوا إليه، وهو من الأوس، وكان حليف بني قريظة في الجاهلية، فأتاهم فجمعوا إليه أبناءهم ونساءهم ورجالهم، وقالوا له: يا أبا لبابة! أترى أن ننزل على حكم محمد صلى الله عليه وسلم، ويعمل فينا الذي يريده؟ فقال لهم أبو لبابة: نعم، وأشار إلى حلقه، أي: سيذبحكم. فهنا رضي الله عنه قال: نعم، لأن الله سبحانه تبارك وتعالى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالحكم بين الناس، وأبو لبابة كان بإمكانه أن ينصح اليهود في شيء ويقع في الخيانة لكن لن يقع في الكفر، ويقول لهم: لا تنزلوا على حكم النبي صلى الله عليه وسلم. فهنا قالوا: ننزل على حكم محمد. قال: انزلوا على حكم محمد، وأشار إلى أنه إذا نزلتم على حكمة سيذبحكم عليه الصلاة والسلام، فوقع في الخيانة بسبب هذا الكلام. فلما فعل ذلك تخلى الشيطان عنه وتركه، وهو الذي أغواه وأوقعه في ذلك، وإذا به يتذكر أنه قد خان الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبدل أن يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم رجع إلى المدينة، فدخل المسجد وربط نفسه في سارية من سواري المسجد، حتى يتوب الله عليه، أو يموت على هذه الحالة، وكانت امرأته تفك رباطه وقت الصلاة فيصلي مع المسلمين، ثم يعود إلى رباطه مرة أخرى، فبلغ أمره للنبي صلى الله عليه وسلم. وانظر إلى الرحمة المهداة صلى الله عليه وسلم، قال: (أما إنه لو أتاني لاستغفرت له، لكن أما وقد فعل ما فعل، فلا أطلقه حتى يطلقه الله)، أي: حتى تأتي براءته وحكمه من الله عز وجل، فيتوب عليه، فأنزل الله عز وجل قوله: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة:102]. فكان أبو لبابة من ضمن الذين اعترفوا بذنوبهم، وتابوا إلى الله سبحانه فتاب الله عز وجل عليهم.

حكم سعد بن معاذ في بني قريظة

حكم سعد بن معاذ في بني قريظة ولما طال الحصار على بني قريظة رفضوا أن ينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما قالوا: ننزل على حكم رجل كان حليفنا في الجاهلية، ألا وهو: سعد بن معاذ رضي الله عنه، فرضي النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. وعند ذلك جاء الأوس إلى سعد بن معاذ يذكرونه كيف كان يهود بني قريظة حلفاءهم في الجاهلية، وأنهم كانوا معهم في الضراء والسراء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى عبد الله بن أبي ابن سلول يهود بني النضير، فتركهم النبي صلى الله عليه وسلم من أجله، وكانوا حلفاءه في الجاهلية، فقالت الأوس لـ سعد: فلا تكن أقل من ابن سلول في نفع حلفائه من يهود بن النضير، وسعد بن معاذ رضي الله عنه ساكت لا يتكلم بكلمة، ثم قال: آن لـ سعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم. ويخرج رضي الله عنه إلى يهود بني قريظة، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قوموا إلى سيدكم فأنزلوه). فقاموا إليه وأنزلوه رضي الله تبارك وتعالى عنه، ثم جلس وحكم في يهود بن قريظة فقال: تقتل مقاتلتهم وتسبى نساءهم وذريتهم وتقسم أموالهم، فكان هذا حكم سعد في هؤلاء الخونة الذين خانوا الله ورسوله صلوات الله وسلامه عليه، فحكم فيهم ولم تأخذه في الله لومة لائم. وعند ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبع سماوات). فوصفه بأنه اجتهد فأصاب حكم الله في هؤلاء، ولو حكم بغير ذلك لخالف حكم الله سبحانه وتعالى، فكان هذا هو حكم الله فيهم. فقتل من هؤلاء سبعمائة، ولم يسلم أحد منهم، مع معرفتهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، لكن فضلوا القتل على أن يدخلوا في دين النبي صلوات الله وسلامه عليه، فاليهود نادر أن يدخل منهم أحد في دين النبي صلى الله عليه وسلم، لطمعهم في الدنيا، وطمعهم في الرياسة، مع ما هم فيه من أكل أموال الناس بالباطل، واليهود يفضل أحدهم الموت على أن يضيع منه المال، أو يضيع منه المنصب الذي هو فيه. فأبوا أن يدخلوا في دين النبي صلى الله عليه وسلم، فخندقت لهم خنادق وقتلوا فيها، وكانوا عددهم من الستمائة إلى السبعمائة، وكان على حيي بن أخطب حلة جميلة فظن أن المسلمين سيأخذونها، فمزقها قطعاً صغيرة، حتى لا ينتفع بها أحد، وهذه عادتهم في أنهم لا يتركون مكاناً حسناً بعدهم، حتى لا ينتفع به أحد، فهم يفسدون ويخربون في الأرض، فهذا الرجل لما أتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليقتل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: والله ما لمت نفسي في عداوتك أبداً. يقول ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يعرف أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يقول للناس: يا أيها الناس! لا بأس بأمر الله قدر وملحمة كتبت على بني إسرائيل، ثم جلس فضربت عنقه. نسأل الله عز وجل أن يقتل بقية بني إسرائيل في الدنيا كلها، وأن ينصر الإسلام والمسلمين، وأن يخذل أعداء الدين، وأن يحصيهم عددا، ويقتلهم بددا، ولا يبقي منهم أحداً، وأن يمكن للإسلام والمسلمين. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله صحبه أجمعين.

تفسير سورة الأحزاب (تابع4) [9 - 10]

تفسير سورة الأحزاب (تابع4) [9 - 10] ذكر الله عز وجل في هذه الآيات ما حصل للمؤمنين في غزوة الأحزاب من البلاء والخوف الشديدين، فأرسل الله تعالى على الكفار ريحاً وجنوداً من الملائكة، فهزمهم الله تعالى شر هزيمة، ثم بعد ذلك حاصر النبي صلى الله عليه وسلم يهود بني قريظة، فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم وأولادهم ونساءهم، ثم قسم أموال بني قريظة فأسهم للفارس ثلاثة أسهم، وللراجل سهماً واحداً.

دروس وعبر من غزوة الخندق وغزوة بني قريظة

دروس وعبر من غزوة الخندق وغزوة بني قريظة

حكمة الله في ابتلاء المؤمنين يوم الأحزاب

حكمة الله في ابتلاء المؤمنين يوم الأحزاب أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:9 - 11]. يذكر الله تبارك وتعالى في هذه الآيات وما بعدها ما كان في غزوة الخندق، حتى إن المؤمنين زلزلوا زلزالاً شديداً، فاضطربت قلوبهم، وحدث لهم خوف شديد فاضطروا إلى عمل الخندق، فحاصرهم الكفار من المشرق ومن المغرب، وكان من ورائهم اليهود، فحدث في النفوس خوف ورعب شديد. فمن المؤمنين من وصل خوفه إلى بدنه ولم يجاوزه، ومنهم من وصل خوفه إلى قلبه فإذا به يقول كلاماً فيه كفر، كـ معتب بن قشير وغيره من الذين قالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم: إنه يعدنا كنوز قيصر وكسرى وأحدنا يخاف أن يذهب إلى الخلاء. كان فضل الله عز وجل على المؤمنين عظيماً، فقد نصرهم الله سبحانه وتعالى نصراً عظيماً لا يتوقعونه، فهم لا يقدرون على قتال هذا العدد الكبير من الكفار، ولكن الله تبارك وتعالى على كل شيء قدير، فقد أرسل الرياح وهي جند من جنود الله سبحانه، وأنزل الملائكة. والله لا يحتاج إلى ذلك سبحانه {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]. ولكن ليري المؤمنين أسباب النصر، فقد كان بقدرته تعالى أن يمنع الكفار أصلاً من المجيء إليهم، ولكن الله سبحانه وتعالى له الحكمة في أن يبتلي المؤمنين {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:11]، وفي أن يحدث لهم الخوف {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة:155]. فإذا أصيب المسلم بمصيبة يصبر ويتصبر ويقول: إن لله وإنا إليه راجعون، وينتظر الفرج من الله تبارك وتعالى، فلذلك جعل الله سبحانه هذا بلاءً للمؤمنين وجعله محنة ثم منحة بأن نصرهم وفضلهم تبارك وتعالى. انتهى أمر الأحزاب بهذه الرياح الشديدة التي هاجت عليهم ولم يقدروا معها على نصب الخيام، ولم يقدروا معها على إيقاد النار، ولم يقدروا معها على عمل الطعام، ولم يقدروا معها على إمساك خيولهم وإمساك ركابهم فإذا بها تضطرب وتميل وتتحرك، ولم يجدوا إلا أن يفروا وعلى رأسهم قائدهم أبي سفيان فإنه ركب جمله ونسي أن يفك قيد يده، فما فكه إلا وهو راكب فوقه، وصاح فيهم: النجاة النجاة، الهرب الهرب! فيهربون بفضل الله تبارك وتعالى.

حصار النبي صلى الله عليه وسلم لبني قريظة

حصار النبي صلى الله عليه وسلم لبني قريظة يرجع المؤمنون مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ويضعون أسلحتهم، فإذا بجبريل يأتي للنبي صلى الله عليه وسلم وعلى ثناياه النقع -أي على أسنانه الأمامية الغبار- فيقول للنبي صلى الله عليه وسلم: وضعتم سلاحكم؟ والله ما وضعت الملائكة أسلحتها. ثم يأمره أن يتوجه إلى بني قريظة ويحاصرهم. ويتوجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة ويحاصرهم عشرين ليلة، حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ الأوسي الأنصاري رضي الله تبارك وتعالى عنه، فحكم فيهم بحكم الله تبارك وتعالى: أن تقتل مقاتلتهم وأن تسبى ذراريهم وأولادهم ونساؤهم، وأن تؤخذ أموالهم، فقتل من بني قريظة في هذا اليوم ما بين الستمائة إلى السبعمائة رجل. وكانوا في غاية العناد، حتى إن سيدهم وهو كعب بن أسد دعاهم لخصلة من خصال ثلاث منها: أسلموا، فإنكم تعلمون أنه رسول، فيرفضون ذلك فإذا به يرفض معهم، فيقتل الجميع. أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل المقاتلة من الرجال، وقتلت امرأة واحدة فقط، وقد نهى النبي عن قتل النساء، وإنما قتلت هذه المرأة واسمها بنانة امرأة الحكم القرظي لأنها قتلت رجلاً من المسلمين بأن طرحت عليه رحى من فوق الحصن فقتلته عمداً وعدواناً، وهذا المسلم اسمه خلاد بن سويد، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلها لكونها قتلت مسلماً، ولم يقتل من النساء غيرها، ثم استحيوا النساء والذرية أي: الأطفال، فأبقوهم على الحياة.

شفاعة ثابت بن قيس بن شماس لرجل من بني قريظة

شفاعة ثابت بن قيس بن شماس لرجل من بني قريظة ثابت بن قيس بن شماس كان يلقب بخطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا الرجل الفاضل من الأنصار، ولما أنزل الله عز وجل سورة الحجرات وفيها نهي المؤمنين عن رفع الأصوات على النبي صلى الله عليه وسلم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2]، وكان الرجل جهوري الصوت، فظن أن الآية نزلت فيه وأنه هو الذي حبط عمله، فحبس نفسه في بيته، وظل يبكي ويقول: أنا أرفع صوتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فافتقده النبي صلى الله عليه وسلم، فأُخْبِرَ أن الرجل حبس نفسه في البيت لأنه يظن أن هذه الآية نزلت فيه وأنه حبط عمله، فبشره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ليس من أهلها، وكان بعد ذلك لا يتكلم مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا همساً رضي الله تبارك وتعالى عنه. هذا الرجل كان خطيباً بارعاً، وكان عادة العرب أنهم يأتون للنبي صلى الله عليه وسلم وفوداً ومعهم الشعراء والخطباء لإظهار نوع من التحدي، فيقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: أينا أفضل في الخطابة أو الشعر، نحن أم أنت؟ فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يدخل معهم في ذلك ولا يرد عليهم، ولكن كان يأمر ثابت بن قيس بن شماس فيتكلم فيبهرهم بخطبته رضي الله تبارك وتعالى عنه، ويأمر أحد الشعراء كـ حسان أو غيره فيغلبهم بما يقول، أما النبي صلى الله عليه وسلم فما كان له أن يتكلم في مثل هذا أبداً. الغرض أن ثابت بن قيس بن شماس جاء للنبي صلى الله عليه وسلم يستشفع في رجل من اليهود، لأنه عمل له جميلاً في الجاهلية فلا يريد أن يُقتل هذا اليهودي، فالنبي صلى الله عليه وسلم طيب خاطره بذلك، فـ ثابت بن قيس بن شماس استوهب منهم عبد الرحمن بن الزبير كان صبياً وأسلم، ورجلاً كبيراً اسمه رفاعة بن سموءل القرظي وهبه النبي صلى الله عليه وسلم لـ أم المنذر سلمى بنت قيس، ووهب لـ ثابت بن قيس رجلاً آخر وهو ابن باطا وكانت له عنده يد، فقال له: قد استوهبتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدك التي لك عندي. فلما سمع ابن باطا هذا الكلام فرح فرحاً شديداً لأنه لم يقتل، فقال اليهودي: ذلك يفعل الكريم بالكريم، يعني أنا عملت لك جميلاً في يوم من الأيام وأنت عملت في هذا اليوم، فهذا فعل الكرماء، وهو رد الجميل بالجميل، فيا ترى ما الذي كان عمله هذا الرجل معه؟ كان في الجاهلية قد أسر ثابت بن قيس بن شماس وكاد يقتله، ثم منَّ عليه بالحياة فجزَّ ناصيته وتركه فلم يقتله، فلذلك طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يمنَّ عليه بذلك، فتركه له النبي صلوات الله وسلامه عليه. ولكن الرجل اليهودي قال لـ ثابت: كيف يعيش رجل لا ولد له ولا أهل؟ أي: أنهم مأسورون وسيبقون عبيداً، فذهب ثابت بن قيس إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستشفع له في عياله وزوجته، وكان عياله قد أسلموا أما هو فلم يسلم، فهو كان اسمه الزبير بن باطا، وابنه هو عبد الرحمن بن الزبير بن باطا، وهو مسلم. فشفع ثابت بن قيس أن يُرد عليه ماله فأعطاه ماله، وبعد ذلك قال: ما فعل ابن أبي الحقيق الذي كان وجهه كأنه مرآة صينية؟ فقال: قتل، قال: فما فعل المجلسان؟ يعني الكبار من بني قريظة؟ أي: بني كعب بن قريظة وبني عمرو بن قريظة. قال: قتلوا، قال: فما فعلت الفئتان؟ قال: قتلتا. قال: برئت ذمتك، فألحقني بهم، فأبى ثابت بن قيس بن شماس أن يقتله، فقام غيره من المسلمين فقتله، لأنه يعلم أن محمداً صلى الله عليه وسلم نبي حق ومع ذلك لم يسلم ويريد أن يلحق بأصحابه إلى النار، لعنة الله على الظالمين، فقتل كما قتل الباقون. قسم النبي صلى الله عليه وسلم أموال بني قريظة فأسهم للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهماً واحداً، وكانت غزوة الخندق فتح بني قريظة في آخر ذي القعدة وأول ذي الحجة من السنة الخامسة من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم.

شهداء غزوة الخندق

شهداء غزوة الخندق ولما تم أمر بني قريظة وقتلوا استجاب الله عز وجل لدعوة سعد بن معاذ رضي الله عنه، عندما قال: اللهم إذا أبقيت شيئاً من قتال قريش فأبقني لهم. فلما تم القتال قبضه الله في ذلك السهم الذي أصابه في أكحله، فانفجر الدم بعدما كان الجرح قد اندمل ومات شهيداً رضي الله تبارك وتعالى عنه. وكانت له منزلة عظيمة جداً، فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه اهتز لموته عرش الرحمن، أي: أن العرش مخلوق خلقه الله تبارك وتعالى، فكأن أهل السماوات اهتزوا طرباً لقدوم سعد بن معاذ إلى جنة الله سبحانه وتعالى. استشهد رضي الله عنه في غزوة الخندق، وكان عدد الكفار في هذه الغزوة عشرة آلاف، وعدد المسلمين ثلاثة آلاف وكان القتال بينهما مراشقات بالسهام. وقتل في هذه الغزوة من المسلمين ستة، وهم: سعد بن معاذ وأبو عمرو من بني عبد الأشهل وأنس بن أوس بن عتيك وعبد الله بن سهل والطفيل بن نعمان وسلمة بن غنمة وكعب بن زيد. وهذا من فضل الله تبارك وتعالى على المؤمنين، فلو حصل التحام كان سيكثر عدد القتلى من المسلمين ومن غيرهم، وألقى الله في قلوب الكفار الرعب ففروا، وهذا الرعب ليس من عدد القتلى في الكفار، فقد قتل منهم ثلاثة فقط، إنما هو بسبب ما ألقاه الله في قلوبهم من الخوف، وما جاءهم من الرياح، من أجل أن يعرف المسلمون أنهم لم يعملوا شيئاً، فليسوا هم الذين أخافوهم، فهم قتلوا منهم ثلاثة، وقُتِلَ الضعف من المسلمين، فالنصر من عند الله وحده لا شريك له. وبعد هذه الغزوة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الآن نغزوهم ولا يغزوننا) أي: لا تجرأْ قريش أن تغزو النبي صلى الله عليه وسلم أبداً، فكان المسلمون هم الذين يتوجهون إليهم، فكانوا يذهبون في سرايا إلى قرب مكة، ولم تخرج قريش إليهم، إلا ما كان في يوم الحديبية عندما حدث الصلح فقد جاءوا غير مقاتلين، وبقيت بين المسلمين وبينهم زيارات فيسمعون من المسلمين، ويذهب المسلمون إليهم فيسمعون منهم حتى فتح الله عز وجل مكة بعد ذلك بفضله وبكرمه سبحانه وتعالى.

انشغال المسلمين عن الصلاة في غزوة الخندق

انشغال المسلمين عن الصلاة في غزوة الخندق وفي يوم الخندق جاء في حديث أبي سعيد الخدري قال: حبسنا يوم الخندق حتى ذهب هوي من الليل حتى كُفينا، وذلك قول الله عز وجل: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب:25]، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً فأقام فصلى الظهر فأحسن كما كان يصليها في وقتها، ثم أمره فأقام فصلى العصر، ثم أمره فأقام المغرب فصلاه، ثم أمره فأقام العشاء فصلاها، وذلك قبل أن ينزل {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة:239]. ففي آخر ذي القعدة من سنة خمس كان أمر صلاة الخوف لم ينزل، وهو قوله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [النساء:102]. ولما شغل الكفار المسلمين عن أربع صلوات الله وسلامه عليه فلم يصلوها إلا في وقت العشاء، وهي الظهر والعصر والمغرب جاء عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله ما كدت أصلي العصر حتى غربت الشمس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وأنا والله ما صليتها، ملأ الله قبورهم وبيوتهم ناراً شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر). فعرف الصحابة أن الصلاة الوسطى التي أمر الله عز وجل بالمحافظة عليها هي صلاة العصر، فأمر بلالاً رضي الله عنه فأذن ثم أقام فصلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر بعد المغرب ثم أقام، فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، وكان وقت العشاء قد دخل فصلى بعد ذلك العشاء صلى الله عليه وسلم، فكأنه صلى بعد المغرب صلوات اليوم كلها ما عدا الفجر، ثم منع من تأخير الصلاة عن وقتها. فأنزل الله عز وجل أمر صلاة الخوف أو صلاة المسايفة، قال تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة:239]، أي: صل على حالك الذي أنت فيه سواء كنت راكباً فوق الخيل أو راجلاً، فإن وجدت ماءً فتوضأ، فإن لم تجد فتيمم ولا تضيع وقت الصلاة وصل بحسب ما تيسر، فصار تأخير الصلاة عن وقتها ممنوعاً إلا ما يكون من الجمع بين الصلاتين النهاريتين: صلاة الظهر والعصر، والصلاتين الليليتين: المغرب والعشاء، فيجوز جمعها عند الانشغال بالقتال، أما إخراج صلاة نهارية عن وقتها حتى يأتي الليل فهذا غير جائز، وكذلك تأخير صلاة ليلية حتى يدخل وقت الفجر، وكذلك تأخير صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، فهذا غير جائز، فكل صلاة يجب أن تصلى في الوقت الذي حده الله عز وجل لها، قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103].

عمل الملائكة في غزوة الأحزاب

عمل الملائكة في غزوة الأحزاب قال الله تعالى: {إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب:9]. ذكر المفسرون أن الله سبحانه وتعالى أرسل الملائكة على هؤلاء الكفار ولم تقاتل في هذا اليوم، بخلاف ما حدث في يوم بدر فإنها نزلت وقاتلت مع المسلمين، فكان أحد المسلمين في يوم بدر يرفع السيف من أجل أن يقتل الكافر فيرى رقبته قد طارت أمامه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الملائكة هي التي صنعت ذلك). أما في يوم الأحزاب فإن نزول الملائكة من أجل تكثير المسلمين، وإلقاء الرعب في قلوب الكفار، فقلعت أوتاد الخيام، وقطعت الحبال، فطارت الخيام، وأطفأت النيران وأكفأت القدور، وجالت الخيل بعضها في بعض، وأرسل الله عز وجل عليهم الرعب، وكثر تكبير الملائكة في جوانب العسكر حتى كان سيد كل خباء يقول: يا بني فلان هلم إلي! ظنوا ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. فلما اجتمع القوم إلى سيدهم أبي سفيان قال لهم: النجاة النجاة، فهرب الجميع. كان الله بما يعملون بصيراً، والله بصير ورءوف بعباده سبحانه، وهزم الكفار وكان الله قوياً عزيزاً.

تفسير سورة الأحزاب [9 - 14]

تفسير سورة الأحزاب [9 - 14] يخبر الله تعالى عن نعمته وفضله وإحسانه إلى عباده المؤمنين في صرفه أعداءهم عندما تحزبوا عام الخندق، ويخبر عن حال المؤمنين وما كانوا فيه من شدة الخوف والرعب مع التسليم التام لقضاء الله وقدره، وعن حال المنافقين وما كانوا فيه من الخور والضعف والاستسلام للكفار لو تغلبوا على المسلمين.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب:9]. يخبرنا الله سبحانه وتعالى عن يوم الأحزاب وما كان فيه من شدة وزلزلة للمؤمنين، ثم ما كان فيه من نصر الله سبحانه لعباده المؤمنين. قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ)) أي: اذكروا جنس نعمة الله سبحانه وتعالى، ومن هذه النعم هذه النعمة في يوم الأحزاب، إذ جاءتكم جنود وجاءكم جيش جرار من مكة وغطفان وغيرها، جاءوا للمدينة، قال الله عز وجل: ((إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا)). أي: اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ حين جاءكم هؤلاء فأسرع الله عز وجل بالنصر إليكم، ونصر الله قريب، وكل ما هو آت من عند الله فهو قريب، فمهما ظن الإنسان أنه تأخر، ومهما ظن الإنسان أن ربنا سبحانه لم يعطه الذي طلبه فإنه ما تأخر الشيء الذي يريده الإنسان إلا لحكمة من الله عز وجل. ولو أن الأحزاب حين جاءوا وهم في الطريق أرسل عز وجل عليهم الريح فقلبتهم وكفأتهم وقتلتهم لما شعر المؤمنون بحلاوة هذا النصر، ومعلوم أنه عندما تقع الشدة على الإنسان ثم يأتي الفرج بعدها يعرف الإنسان قيمة هذا الفرج، ويعرف فضل الله سبحانه وتعالى. ولا يعرف الشيء إلا بضده، ويذوق المسلمون العناء والتعب ويصبرون ويصابرون فيتذوقون بعد ذلك حلاوة النصر وحلاوة الفرج من عند الله سبحانه، فذكرهم بهذه النعمة ثم فصل الله عز وجل ما كان.

تفسير قوله تعالى: (إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم)

تفسير قوله تعالى: (إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم) قال الله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب:10]. أي: اذكروا عندما جاءكم هؤلاء الأحزاب من كل مكان فنصركم الله عليهم. قال تعالى: ((إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ)) يعني: كأنهم جاءوا من مكانين: من فوقكم ومن أسفل منكم، من المشرق ومن المغرب، من مكان عال ومن مكان منخفض. وقوله: ((جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ)) فهؤلاء الكفار بينكم وبينهم الخندق، واليهود من ورائكم خانوكم بعد ذلك، فإذا كانت القلوب بلغت الحناجر من شدة الخوف والرعب من الكفار، فكيف حين يعرفون أن اليهود أيضاً صاروا من ورائهم، وصار المسلمون بين فكي كماشة؟! هؤلاء من ورائهم وأولئك من أمامهم، والمسلمون في غاية الرعب والخوف، فيذكرهم الله عز وجل بهذه النعمة. لقد بلغ الخوف بهم مبلغاً عظيماً، قال تعالى واصفاً حالهم: ((وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ)) يعني: صار الواحد منهم كأنه لم ير شيئاً أمامه قد زاغ بصره، فينظر في كل مكان فلا يستطيع أن يركز، وكأن القلب وصل إلى الحنجرة من شدة الرعب والخوف. انظر وأنت راكب المصعد حين ينزل بك فجأة وأنت غير منتبه تحس أن قلبك قد طار، وكذلك عندما يفزعك أحد في شيء تحس أن قلبك قد طار، ففي هذه الحالة لا تستطيع التفكير، فحال المسلمين كان كذلك، فقد بلغت القلوب الحناجر، وزاغت أبصارهم، لا يعرفون من أين تأتي لهم المصيبة، فهؤلاء هل يستطيعون أن يدافعوا عن أنفسهم، وقد بلغ من حالهم ذلك؟ حينها جاء النصر من عند الله سبحانه وتعالى، ولم يقتل من المسلمين سوى ستة، ولم يقتل من الكفار سوى ثلاثة. إذاً: لم يكن هناك حرب وقتال بينهم ولم تحصل مسايفة، ولكن حدث ما أخبر الله عز وجل به أن جاء النصر من عند الله وحده لا شريك له. فالمؤمن في قلبه الإيمان وإن قال: يا رب أخرت النصر لكن أنا واثق في نصرك، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110] يعني: لابد من الصبر، فيخبر الله عز وجل عن رسل الله عليهم الصلاة والسلام: ((حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ)) من إيمان قومهم، ((وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا)) أي: وظن الرسل واستيقنوا أن هؤلاء مكذبون لهم، وانتظر الرسل النصر من الله سبحانه وتعالى، وتأخر النصر شيئاً ثم جاء النصر بعد ذلك، ((جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ)) أي: ينجي الله عز وجل من يشاء ويهلك من يشاء سبحانه وتعالى. إذاً: الإنسان قد يتمنى شيئاً ولكن ليس شرطاً أن تدرك ما تتمناه، وأن يحقق الله عز وجل الذي تتمناه بعينك، لكن له حكمة سبحانه وتعالى أن يحقق هذا الشيء أو يؤخر، وفي كل خير، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له) فالأمر كله خير للمؤمن، والله أعلم بما هو خير وأفضل للمؤمن، فأنت حين تتمنى شيئاً والله عز وجل يقول لك: لن أعطيك هذا الشيء، بل نعطيك ما هو أفضل منه، فيتمنى المؤمن أن يقتحم على عدوه وأن يقتل عدوه وينتصر عليه، والله يرى لهذا العبد مكانة أنك لو قتلت هذا العدو فلن تصل لها، ولو قتلك العدو تصل إليها، فالله يحكم بالشيء الذي يمكن أن الإنسان لا يريد هذا الشيء، قال تعالى: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال:7] المؤمنون يطلبون شيئاً. {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} [الأنفال:7]. فالله سبحانه وتعالى له الحكمة فيما يفعل بعباده، فالمؤمنون ظنوا بالله الظنونا، فمنهم من ظن أن سيغلبون الكفار، لكن لحكمة من الله عز وجل تأخر النصر، أما المنافقون فأساءوا الظن بالله سبحانه كعادتهم. فقوله: ((وتظنون)) الخطاب هنا موجه للمؤمنين وللمنافقين الذين معهم، المؤمنون ظنوا أن النصر تأخر لحكمة من الله سبحانه وتعالى، المنافقون قالوا: إنه يعدنا بكنوز كسرى وقيصر ونحن لا يأمن أحدنا أن يذهب إلى الخلاء، فأساءوا الظن بالله سبحانه وتعالى. قوله: ((وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا)) فيها قراءتان: فيقرأ نافع وابن عامر وشعبة عن عاصم وأبو جعفر: ((وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا)) وصلاً ووقفاً، إذا وقف قال: ((وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا)) وإذا وصل الآية بالتي تليها ((وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا)) * {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:11]. ويقرؤها ابن كثير وحفص عن عاصم والكسائي وقفاً: ((وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا)) بالألف في آخرها، فإذا وصل حذف الألف وجعلها فتحة فقط قال: ((وتظنون بالله الظنون)) * {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:11]. وباقي القراء يقرءونها بغير ألف وقفاً ووصلاً: (وتظنون بالله الظنون). والذي سيقال في هذه الكلمة: ((وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا)) سيأتي في كلمة (الرسولا) و (السبيلا) في الوقف والوصل.

تفسير قوله تعالى: (هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا)

تفسير قوله تعالى: (هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً) قال الله تعالى: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:11]. قوله: ((هنالك)) وإن كانت للمكان ولكن المقصود بها هنا: في هذا الوقت ابتلي المؤمنون، أي: ابتلاهم الله سبحانه وتعالى. فالله سبحانه يبتلي ويختبر ويمتحن ويمحص عباده ليظهر الجيد من الرديء، قال سبحانه: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [الأنفال:37] وهنا قال: ((هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ)) أي: الله عز وجل لابد وأن يبتلي عبده المؤمن، ولذلك قال في سورة العنكبوت: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2] تريد أن تقول: أنا مؤمن ولا يحصل لك بلاء أبداً، هذا لا يمكن أن يكون، فلابد من البلاء، وكلما ازداد الإيمان ازداد البلاء، فلذلك أشد الناس ابتلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ويليهم في ذلك الصالحون ثم الأمثل فالأمثل. قوله: ((وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا)) أصل الزلزلة الحركة، كأن المؤمنين زلزلوا وحركوا حركة شديدة، حركة في المكان الذي هم فيه بحيث إنه يروح ويجيء في المكان، لا يستطيع أن يثبت فيه. فقوله: ((وَزُلْزِلُوا)) اضطربت القلوب وخافت من شدة الرعب، وكان الاضطراب في النفس وفي القلب من شدة الرعب والخوف.

تفسير قوله تعالى: (وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض)

تفسير قوله تعالى: (وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض) قال الله تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:12]. يظهر النفاق في مثل هذه المواقف، فالمنافق تراه ساكتاً عندما يكون المؤمنون أقوياء ولا يوجد بلاء، لكن عندما يحدث البلاء يبدأ المنافق يخرج لسانه ويتكلم. والمنافق: هو الذي يبطن الكفر ويظهر الإسلام، فالمنافقون قالوا: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}، في قلوبهم مرض، في قلوبهم كفر، في قلوبهم شك، في قلوبهم أنجاس الجاهلية ورجسها، يقولون: ((مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا)). فالمنافق عندما يتكلم في وقت الضراء التي تصيبه فأول ما يشتم ويسب في الله سبحانه وتعالى وفي رسول الله صلوات الله وسلامه عليه. والمنافقون يخافون من الناس ولا يخافون من الله سبحانه وتعالى، يقولون عن الله عز وجل: ما وعدنا الله إلا باطلاً، ويقولون عن النبي صلى الله عليه وسلم: يغرنا ويضحك علينا بهذا الشيء، {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:12].

تفسير قوله تعالى: (وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم)

تفسير قوله تعالى: (وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم) قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الأحزاب:13]. قوله: ((وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ)) أي: من المنافقين. والطائفة تطلق على المجموعة، وقد تطلق على الواحد، فهنا قالها واحد ووافقه الباقون، فقال رجل اسمه أوس بن قيظي والد عرابة بن أوس الذي كان يضرب به المثل في الكرم، وهذا أبوه كان منافقاً، فقال هذا الرجل كما أثبت الله سبحانه وتعالى قال: ((يَا أَهْلَ يَثْرِبَ)). ويثرب هي المدينة، كانت تسمى بذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم سماها (طابة) وسماها (طيبة) وسماها (المدينة)، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يحب هذا اسم يثرب، فالله عز وجل أثبته؛ لأن ذلك المنافق قال ذلك، فنادى على أهل يثرب. ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يحب هذا الاسم؛ لأن يثرب مأخوذ من التثريب، كما قال سيدنا يوسف عليه الصلاة والسلام: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [يوسف:92] والتثريب بمعنى التوبيخ، فتسمية المدينة بطابة وطيبة لأنها أسماء جميلة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يسميها بذلك، ولها أسماء أخرى. فهنا قالوا: ((يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا)) ولماذا سميت يثرب؟ قيل: سميت على اسم رجل نزلها من العماليق واسمه يثرب بن عبيل، هذا أصل التسمية فيها. قالوا: ((لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا)) هذه قراءة حفص عن عاصم، وقراءة جمهور القراء: ((لا مَقام لكم فارجعوا)). قوله: ((لا مُقَامَ لَكُمْ)) (مُقام) مصدر من أقام يقيم إقامة فهو مقام، وعلى القراءة الأخرى: (لا مَقام) كأنه مكان، أي: لا موضع إقامة. إذاً: لا إقامة ولا مكان تقيمون فيه في هذا المكان الذي أنتم فيه مع النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: ((فَارْجِعُوا)) أي: اتركوا النبي صلى الله عليه وسلم في مكانه، وارجعوا إلى المدينة. قوله: ((وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ)) المنافق يكذب ولا يهمه أنه يكذب، فيستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: نحن تركنا بيوتنا في المدينة عورة ومكشوفة، وجدارها قصيرة فقد يأتي أحد ويدخل فيها، وهم لا يقولون ذلك صدقاً، وإنما يقصدون أن يفروا ويتركوا النبي صلى الله عليه وسلم وحده، هذا فعل المنافقين في كل وقت، يقول الله عز وجل: ((وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ)). ويكذبهم الله قال: ((وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ)) أي: ليست بعورة، وإنما حقيقة أمرهم ((إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا)) ففضحهم الله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (ولو دخلت عليهم من أقطارها)

تفسير قوله تعالى: (ولو دخلت عليهم من أقطارها) قال الله تعالى: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا} [الأحزاب:14] أي: من أنحائها. لو دخل الكفار عليهم المدينة من أقطارها ثم سئلوا الفتنة وطلبوا منهم أن يشركوا وأن يعصوا الله سبحانه وتعالى لم يتلبثوا ولم ينتظروا، وإنما يدخلون في الكفر بسرعة؛ لأنهم منافقون، والمنافق ينتظر متى يظهر الكفر لكي يظهر كفره، فلذلك لو دخلت عليهم المدينة من نواحيها وطلب منهم الفتنة لما توقفوا. قال تعالى: ((ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا)) أي: لوقعوا في هذه الفتنة، وهذه قراءة الجمهور ((لَآتَوْهَا)). وقراءة نافع وأبي جعفر وابن كثير وابن ذكوان بخلفه (لأتوها) يعني: لدخلوا فيها. فآتى بمعنى أعطى، وهم يعطون بأيديهم الفتنة وهي الكفر والشرك والنفاق، ويعطون المعصية، و (لأتوها) أي: أي مكان فيه فتنة يجرون إليه. قوله: ((وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا)) يعني: على استحياء، أي يطلب منه الكفر والمعصية فيستحي قليلاً أن يعرف المؤمنون حقيقة كفره ونفاقه، قال الله عز وجل: ((وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا)) يعني: ما صبروا على إيمان يظهرونه إلا شيئاً يسيراً، ثم أعطوا الكفر وأظهروا ذلك. ومعنى آخر فيها: ((وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا)) يعني: كم سيعيشون بعدما يكفرون، سيقبضهم الله وسيأخذهم مهما عاشوا، فلن يعيشوا إلا فترة قليلة ثم يقبضهم الله على ما هم فيه من سوء خاتمة. نسأل الله عز وجل حسن الخاتمة، ونسأله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الأحزاب [12 - 19]

تفسير سورة الأحزاب [12 - 19] ذكر الله تعالى في هذه الآيات حال المنافقين في غزوة الأحزاب من أنهم يشكون في وعد الله تعالى ووعد رسوله، وأنهم يفرون من أرض المعركة بمبررات واهية، وأنهم أخلفوا وعد الله ووعد رسوله.

تفسير قوله تعالى: (وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا)

تفسير قوله تعالى: (وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً) أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا * قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا * قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [الأحزاب:13 - 17]. لما ذكر الله عز وجل ما كان في يوم الأحزاب من نصر الله سبحانه وتعالى للمؤمنين، بعدما زلزلوا زلزالاً شديداً وفتنوا فتنة عظيمة، ذكر لنا ما صنع المنافقون في هذا الوقت، ليفضح المنافقين ويحذر المؤمنين أن يطيعوا مثل هؤلاء أو أن يقتدوا بهم. فالمنافق يظهر أنه إنسان حكيم، وأنه يريد الحق والصواب، ويتشدق بالكلام على الجهاد، فإذا جاء موطن الخوف ووقت الجهاد كان أول من يفر، ويتأول لنفسه ويعتذر بأعذار يرى أنه محق في هذا الذي يصنعه، ويكذبهم الله عز وجل بما يقولون، فهنا فضحهم الله عز وجل في سورة الأحزاب، وفضحهم أكثر من ذلك في سورة براءة. فذكر هنا سبحانه: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:12]. والمنافق هو الذي يبطن الكفر ويظهر الإسلام، والذين في قلوبهم مرض هم المنافقون، وفي قلوبهم شك ونفاق، وكل إنسان بحسبه، فمنهم من زاد النفاق في قلبه وزاد الشك والمرض حتى خرج عن الإسلام. ومنهم من بلغ به نفاقه إلى أن يعصي الله ورسوله، وأن يترك المؤمنين ويخذلهم، فحكم هؤلاء المنافقين بحسب قدر هذا النفاق، إما أن يخرجهم من الدين بالكلية، مثل عبد الله بن أبي بن سلول، أو أنه يدفعهم بأن يعصوا رسول الله، أو أن يفروا من النبي صلوات الله وسلامه عليه. فالذين قالوا ما وعدنا الله ورسوله إلا غررواً لا شك أنهم كافرون، لأنهم قالوا: إن وعد الله ليس بحق، والله عز وجل يقول: {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [يونس:55]. فمن قال إن وعد الله باطل، ووعد رسول الله صلى الله عليه وسلم باطل فهو كافر.

تفسير قوله تعالى: (وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم إن يريدون إلا فرارا)

تفسير قوله تعالى: (وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم إن يريدون إلا فراراً) قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ} [الأحزاب:13] المنافقون مجموعات فطائفة منهم يقولون: يا أهل يثرب، أي: يا أهل المدينة {لا مُقَامَ لَكُمْ} [الأحزاب:13]، وهذه قراءة حفص عن عاصم. وقراءة الجمهور: {لا مَقَامَ لَكُمْ} [الأحزاب:13]، أي: لا موضع إقامة لكم. فهو مصدر أي: لا إقامة لكم في هذا المكان، ولا عيش لكم في هذا المكان، فإنكم ستضيعون وستهلكون، ففروا منه واتركوا النبي صلى الله عليه وسلم عند جبل سلع خارج المدينة وارجعوا أنتم إلى المدينة. وقوله تعالى: {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} [الأحزاب:13]. هنا التظاهر بالحكمة، فهم يظهرون الشيء ويبطنون خلافه، فيقولون: {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} [الأحزاب:13] فنحن نريد أن نرجع من أجل أن ندافع عن المدينة وندافع عن أهلنا، وبيوتنا أسوارها قصيرة، ويسهل دخولها من الكفار وفيها النساء. وقوله تعالى: {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} [الأحزاب:13] بيوتنا تقرأ بضم الباء، وتقرأ بالكسر، فهما قراءتان سبعيتان أو مشهورتان. وقراءة الضم قرأها ورش عن نافع وقرأها أبو عمرو وحفص عن عاصم، وقرأها أبو جعفر، ويعقوب، وباقي القراء يقرءونها: {إِنَّ بِيُوتَنَا عَوْرَةٌ} [الأحزاب:13]، بكسر الباء. قال الله عز وجل مكذباً لهم: {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ} [الأحزاب:13] أي: أنهم كذابون فيما يقولون. وقوله تعالى: {إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الأحزاب:13] أي: حقيقة الأمر أنهم يريدون الفرار من مواجهة الكفار.

تفسير قوله تعالى: (ولو دخلت عليهم من أقطارها)

تفسير قوله تعالى: (ولو دخلت عليهم من أقطارها) قال تعالى: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا} [الأحزاب:14] أي: لو دخلت البيوت أو دخلت المدينة عليهم من أقطارها، أي: من أنحائها، {ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ} [الأحزاب:14] أي: ثم طلب منهم أن يكفروا بالله عز وجل، وأن يعصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم {لَآتَوْهَا} [الأحزاب:14] أي: لأعطوا بأيديهم هذه الفتنة. وقوله تعالى: {لَآتَوْهَا} [الأحزاب:14] هذه قراءة نافع وأبي جعفر وحفص عن عاصم. وقراءة ابن كثير، وقراءة ابن ذكوان: {لَأتَوْهَا} [الأحزاب:14]. ومعنى: (لأتوها) أي: لجاءوا إلى الفتنة، و (لآتوها): لأعطوا هذه الفتنة، فهم يقدمون ويعطون، وهم يذهبون بأنفسهم إلى مواطن الفتن. وقوله تعالى: {وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا} [الأحزاب:14]، أي: وما صبروا على الدين في الظاهر إلا شيئاً يسيراً، ثم بعد ذلك ينقادون إلى الفتنة. وأيضاً: {وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا} [الأحزاب:14] أي: ما تلبثوا بالحياة والاستمتاع بما صنعوا إلا يسيراً، ثم قبضهم الله سبحانه وتعالى إليه.

تفسير قوله تعالى: (ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار)

تفسير قوله تعالى: (ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار) قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا} [الأحزاب:15]. فقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ} [الأحزاب:15] أي: أنهم عاهدوا الله قبل ذلك كما في غزوة أحد أو في غزوة بدر، كأنهم لم يشهدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم هاتين الغزوتين؛ فلذلك قالوا: لو شهدنا الغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم سترون الذي نصنعه. والفرق بين المؤمنين والمنافقين، أن المنافقين يتكلمون كثيراً، ويعدون كثيراً، ولا ينفذون ما يقولونه. أما المؤمنون فإنهم يخافون الله، يروى أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في يوم بدر، فقال: لو أشهدني الله تبارك وتعالى مع النبي صلى الله عليه وسلم ليرين الله ما أفعل. وخاف أنه يقول: سأفعل كذا ولكن قال: ربنا ينظر الذي سأفعله. فلما حضر مع النبي صلى الله عليه وسلم في يوم أحد قاتل قتالاً شديداً حتى قتل رضي الله تبارك وتعالى عنه. فكان الذي قاله: ليرين الله ما أصنع فقط، ولم يزد على ذلك. أما المنافقون فيتكلمون كثيراً فيقولون: لئن شهدنا سنفعل وسنفعل، وسترون منا الشجاعة والإقدام والتثبيت، وعهدٌ علينا إذا حضرنا القتال سنعمل أشياء. ومعنى قوله تعالى: {لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ} [الأحزاب:15] أي: نحن ما نفر أبداً وعهد علينا ذلك. ومعنى قوله تعالى: {وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا} [الأحزاب:15] أي: الأمر ليس لعبة أنك تقول: يا رب عهد عليَّ أن أفعل كذا، أو تقول: لله عليَّ نذر أن أفعل كذا وكذا، وبعد ذلك تظن أنه كلام قد انتهى، فأنت تخاطب الله سبحانه تبارك وتعالى، فإنه سيسألك عن هذا العهد: لم قلته؟ وهل نفذته أم لا؟ وإذا نفذته هل أخلصت أم لا؟ وأسئلة كثيرة في هذا الشيء الذي يفعله الإنسان ويقوله. وكثير من الناس يقولون: يا رب عهد عليَّ ألا أعمل هذه المعصية، أو أن أفعل كذا، فيسأل العبد يوم القيامة: لم عاهدت؟ وهل فعلاً فعلت هذا الذي قلت أو لم تفعل؟ وإذا فعلت فهل نفذت أم لا؟ وإذا فعلت أو نفذت فهل كنت مخلصاً لله سبحانه، أم كنت تفعل رياءً أمام الناس؟ أسئلة كثيرة عند الله عز وجل يوم القيامة، قال تعالى: {وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا} [الأحزاب:15] أي: يسأل الله سبحانه تبارك وتعالى صاحب العهد عن عهده. وقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ} [الأحزاب:15] أي: لا يهربون مولين الناس دبرهم، أو معطين ظهورهم لأعدائهم فيهربون من أمامهم.

تفسير قوله تعالى: (قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت)

تفسير قوله تعالى: (قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت) قال تعالى: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ} [الأحزاب:16]. فكر أيها الإنسان أنك إذا فررت من القتال وقد حذرك الله عز وجل من ذلك أن ذلك من الكبائر، قال تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال:16]. والفرار من القتال من الكبائر، فلا تفر إذا قاتلت، ولكن واجه ودافع عن دين الله سبحانه تبارك وتعالى، واطلب إحدى الحسنيين: إما النصر وإما الشهادة. ومن الثلاثة الذين يحبهم الله سبحانه تبارك وتعالى ويضحك إليهم سبحانه تبارك وتعالى ويثيبهم الثواب العظيم: رجل قابل الكفار فلم يفر، أي: توجه إلى الكفار وقاتلهم حتى نصره الله أو حتى قتل شهيداً، هذا أحد الثلاثة الذين يحبهم الله سبحانه تبارك وتعالى. فيقول الله تعالى لهؤلاء الفرار: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ} [الأحزاب:16] أي: ستفر من أين؟ فكر في هذا الموت الذي تفر منه، فالموت آت ومقدور ومعلوم، فأن تموت شهيداً أفضل لك من أن تموت وأنت على معصية الله سبحانه تبارك وتعالى. فلو تفكر الإنسان أنه إذا قتل شهيداً، فإنه لا يستشعر بألم القتل أو ألم الذبح أو ألم الإصابة، والصحابة كانوا يقاتلون في سبيل الله ويقول أحدهم: والله ما شعرنا بألم القتال، أي: ألم الجروح وغيرها من ضرب بالسيف وغير ذلك، والواحد منهم كانت تقطع يده في القتال، وتكون متعلقة في كتفه، فيضع يده تحت رجله على الأرض ويتمطى عليها، ثم ينزعها من كتفه من أجل أن يكمل القتال ولا يستشعر بشيء، فهؤلاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. أما الذين يحسون ويشعرون بألم الدواء، فإن ذلك كان بعد انتهاء القتال تماماً، فعندما يضعون الدواء أو العلاج فإنهم يحسون بألم الدواء، لكن في القتال لا يحسون بشيء، فإنهم قاتلوا في سبيل الله سبحانه، وأخلصوا لله عز وجل، فأعانهم الله وثبتهم، فما كان أحدهم يشعر بشيء. والنبي صلى الله عليه وسلم يذكر لنا في الشهيد أنه لا يشعر إلا بمثل القرصة، والله عز وجل يطمئنه فيغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى منزله من الجنة، ويرى الحور العين، ويزوج باثنتين وسبعين منهن، ويتوج بتاج الكرامة، ويلبس حلة الكرامة، وعندما تخرج روحه فإنه ينظر الكرامة التي أمامه، ويقيه الله من عذاب القبر وفتنته. فالذي يمزق بدنه في سبيل الله أو يقتل شهيداً، لا يحس بشيء، وعكسه الذي يموت على فراشه، أو كان قد أكل وشرب واستراح ثم بعد ذلك قبضت روحه، فألم الموت أشد من ألم السيوف، حتى المؤمن فإنه يموت بعرق الجبين، فيشتد على المؤمن التقي في خروج روحه، ويشعر بألم شديد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعاني كرباً عظيماً في حال وفاته، ولذلك فإن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: ما غبطت أحداً مات بغير ذلك. يعني بعدما رأت من النبي صلى الله عليه وسلم. فالذي يموت على فراشه فإن الله سبحانه تبارك وتعالى يشدد عليه ليرفع درجته، والشهيد قد ارتفعت درجته فلا يحتاج لهذا الشيء، فلا يشدد عليه، وإنما يرى المنزلة من الجنة ويرى الحور العين، ويعطى من فضل الله سبحانه تبارك وتعالى ومن رحمته. فلو تفكر الإنسان لتمنى أن يكون شهيداً، وأجر الشهادة يعطى لمن تمناها وسألها من الله سبحانه تبارك وتعالى بإخلاص. قال تعالى: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ} [الأحزاب:16] فإذا فر الإنسان من الموت، أو من القتل، فإنه سيأتي عليه الموت، أو مكتوب عليه أنه سيقتل. فلو أنه كان مكتوباً عليه أنه سيقتل في سبيل الله سبحانه، وهو مقدم مقبل على الأعداء، سيضربه العدو ويقتله. فلو أنه فر سيأتيه سهم من غرب، أي: من ورائه فيقتله، فأيهما أفضل أن يأتيه السهم من أمامه وهو مكر على الأعداء أو وهو فار من الأعداء؟ فيقول الله عز وجل لعبده: إذا كان مكتوباً عليك أن تموت في هذا الحين فلن ينفع الفرار. وبفرض أنكم ما استطعتم أن تفروا، وهذا فرض جدلي وليس حقيقياً، قال سبحانه: {وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:16] أي: حتى لو فررتم من هذا الشيء، وتمتعتم بهذه الحياة الدنيا، فإنها متعة قليلة ثم بعدها الموت.

تفسير قوله تعالى: (قل من ذا الذي يعصمكم من الله)

تفسير قوله تعالى: (قل من ذا الذي يعصمكم من الله) قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} [الأحزاب:17]. أي: تفكر أيها الإنسان من يعصمك ويمنعك ويقيك من الله تبارك وتعالى؟ ومن يدفع عنك شيئاً أراده الله سبحانه؟ فالأمر أعظم بكثير من أن يوجد من يقدر أنه يفعل شيئاً، مثلما تقول لإنسان: من ذا الذي قدر علي؟ من ذا الذي يفعل فيَّ كذا؟ فالله تبارك وتعالى يقول: {مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ} [الأحزاب:17] فأي مخلوق هذا الذي يقدر أن يقف أمام قضاء الله وقدره فيمنع ذلك. قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا} [الأحزاب:17] أي: إن أراد أن يسيئكم، أو يمسكم السوء والكرب. وقوله تعالى: {أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} [الأحزاب:17]، قال تعالى في سورة أخرى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:2] فلا يقدر الإنسان أن يمنع ذلك. قال الله تعالى: {وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [الأحزاب:17] ذكرنا قبل ذلك أن الولي بمعنى القريب، وأصله من الولي وهو القرب، فالولي هو ابن العم والعم وغيرهما من القرابات، فالأولياء كأنهم قريبون منك في نسبك، فلا ينفعك من دون الله قريب ولا نسيب ولا غريب ولا بعيد، ولا أحد ينصرك ويدافع عنك، أو يمنعك من الله.

تفسير قوله تعالى: (قد يعلم الله المعوقين منكم)

تفسير قوله تعالى: (قد يعلم الله المعوقين منكم) يقول سبحانه وتعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب:18] وقد هنا للتحقيق والتأكيد وليست للشك، كما في قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1] ومعنى: ((قد يعلم الله المعوقين)) أي: قد علم الله يقيناً ما يقول هؤلاء المعوقون. وكلمة المعوق مأخوذة من التعويق، وعوق بمعنى: صد عن الشيء، أي: منعه. فهؤلاء المعوقون المانعون للمؤمنين من القتال، الصادون لهم عن الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى، الذين يتعللون بالأعذار فيقولون للمؤمنين: لا تقاتلوا فإنكم متعبون أو مرضى، أو إن أبناءكم ونساءكم يحتاجون إليكم فلو رجعتم إليهم كان أحسن لكم، فيعوقون المؤمنين ويخوفونهم، وهذا فعل الشيطان. فالشيطان يقف للإنسان في مواطن، فيأتي المؤمن عند دخوله في دين الله سبحانه فيقول له: أتدع دينك ودين آبائك وتدخل في هذا؟ فلأجل أن يصده يذكره بآبائه، فإذا عصى المؤمن الشيطان ودخل في دين الله سبحانه، فإنه يأتيه عن طريق الهجرة فيقول له: أتهاجر وتترك أرضك وديارك وتكون في أرض الغربة والفتنة؟ والمؤمن يعصي الشيطان ويهاجر إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، فيأتيه عند الجهاد فيقول: أتجاهد فتقتل ويضيع أولادك ومالك وتترك كذا وكذا؟ فيعصيه المؤمن ويطيع الله سبحانه تبارك وتعالى. والمنافق مثل الشيطان فهو أسوته وقدوته، فهو يفعل كفعل الشيطان، فيعوق المؤمن عن الخير، يقول تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ} [الأحزاب:18] أي: المعترضين لكم ليصدوكم عن سبيل الله سبحانه. وقوله تعالى: {وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب:18] أي: إلينا، وتعالوا أو عودوا معنا أين ستذهبون؟ قال سبحانه: {وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:18] فهؤلاء من المنافقين. والمنافقون المعوقون لهم صور كثيرة، فالواحد منهم يكون مع النبي صلى الله عليه وسلم في القتال، فيدعو من معه ويقول لهم: تعالوا للقتال، ثم يذهب ويتولى عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما فعل عبد الله بن أبي بن سلول في يوم أحد، وخذل النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ ثلث الجيش وهرب ورجع بهم إلى المدينة. كذلك في يوم الخندق، فإن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رجع إلى منزله بعذر من الأعذار ليفعل شيئاً، فترك السيوف والرماح ورجع ليأخذ حاجة من المدينة ثم بعد ذلك يرجع للنبي صلى الله عليه وسلم، فوجد واحداً من هؤلاء المنافقين جالساً يأكل ويشرب ويلهو، وقال له: هلم إلي، أي: تعال كل معنا واترك القتال وابعد عن هؤلاء. قال ابن زيد: هذا يوم الأحزاب، انطلق رجل من عند النبي صلى الله عليه وسلم فوجد أخاه بين يديه رغيف وشواء ونبيذ، أي: يأكل لحماً ورغيفاً ويشرب خمراً، فقال له: أنت في هذا ونحن بين الرماح والسيوف؟ فقال: هلم إليَّ، فقد تبع لك ولأصحابك، والذي يحلف به لا يستقل بها محمد أبداً. ومعنى فقد تبع أي: فقد أحيط، يعني: أنهم سيهلكون وسيضيعون فإن الكفار قد أحاطوا بهم، فلا يفعلون شيئاً في القتال. فقال له المؤمن التقي: كذبت، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخبره بذلك، فقبل أن يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم نزلت الآية تفضح هذا وأمثاله، {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب:18] أي: أقبلوا إلينا. وقوله تعالى: {وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ} [الأحزاب:18] أي: لا يأتون القتال {إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:18] القليل هم الذي يأتون القتال، من الخوف والرعب، ولأجل السمعة والرياء، وهؤلاء المنافقون إذا حضروا القتال لم يقاتلوا إلا قليلاً. إذا فروا إلى المدينة يقومون يذكرون للصحابة نحن فعلنا وفعلنا، ولو لم نكن في المدينة لضاعت بيوتكم، وهم يكذبون في ذلك.

تفسير قوله تعالى: (أشحة عليكم وكان ذلك على الله يسيرا)

تفسير قوله تعالى: (أشحة عليكم وكان ذلك على الله يسيراً) قال الله سبحانه: {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} [الأحزاب:19] أي: أبخل الناس عليكم. والشحيح هو الإنسان الذي يضن بما في يده، بل وبما في يد غيره أيضاً، فهم يمتنعون عن إعطائكم أي خير، ولا يوجد في هؤلاء خير، فلا يواسونكم بألسنتهم، ولا يعطونكم من أموالهم، بل هم في غاية الشح. وقال تعالى: {فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [الأحزاب:19] فصورتهم في وقت الخوف في غاية من الرعب، والإنسان الجبان غير مستقر في مكانه من شدة رعبه، ((تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ)) أي: تتحرك في كل مكان يريدون أن يهربوا إلى مكان آمن. قال تعالى: {كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [الأحزاب:19] كأن الموت آتيه لا محالة. قال تعالى: {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} [الأحزاب:19] أي: أنهم في وقت الخوف مرعوبون خائفون، يبحثون عن حماية، فإذا ذهب الخوف تشجعوا وظهروا. وقوله تعالى: {سَلَقُوكُمْ} [الأحزاب:19] السلق بمعنى رفع الصوت وإكثار الكلام، ومنه السالقة والصالقة بالسين وبالصاد بمعنى: الرافعة صوتها، فذم النبي صلى الله عليه وسلم عن الصالقة والحالقة والشاقة ودعا عليهن. والمرأة الصالقة: هي التي تصوت، والحالقة: هي التي تحلق رأسها عند المصيبة، والشاقة: هي التي تمزق ثيابها عندما يموت لها قريب، فالتي تصنع ذلك معلونة، فالصلق والسلق بمعنى رفع الصوت. والمعنى: أظهروا الجراءة والبجاحة والكلام بالصوت العالي، والشتم والنبذ في المسلمين. وقوله تعالى: {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} [الأحزاب:19] أي: ألسنتهم حادة مثل الحديد الشديد، ففي وقت عدم الخوف فإنهم يتكلمون على المؤمنين، فيقولون مثلاً: لا يعرف كذا، أو هؤلاء المجاهدون الذين أنفقوا فإنهم يراءون الناس في الإنفاق، فمن أنفق منهم شيئاً قليلاً، قالوا فيه: ربنا غني عن هذا الشيء، فلا يعجبهم من أنفق كثيراً أو قليلاً. فالمجاهدون من المؤمنين لم يعملوا أي شيء، فلو كنا نحن كنا عملنا. وهم لا يفعلون لا قليلاً ولا كثيراً، قال سبحانه: {أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ} [الأحزاب:19] أي: ما عندهم خير لا في كلامهم ولا في فعالهم ولا في إنفاقهم. قال تعالى: {أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ} [الأحزاب:19] أي: أن الدافع لهم إلى ذلك هو عدم الإيمان في القلوب، فأحبط الله أعمالهم، أي: أبطل ما أظهروه من أعمال ظاهرها الخير وحقيقتها الرياء، فلا ثواب لهم. وقوله تعالى: {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [الأحزاب:19] أي: إحباط أعمالهم على الله يسير، هذا المعنى الأول. والمعنى الآخر: كان نفاقهم عند الله لا قيمة له؛ لأن هؤلاء لا ينصرون دين الله، إنما ينصر دين الله من آمن بالله سبحانه، والله غني عن عباده. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عباده الناصرين دينه، المدافعين عنه، المخلصين له. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الأحزاب [18 - 22]

تفسير سورة الأحزاب [18 - 22] يخبر تعالى أن من صفات المنافقين الجبن والخور والخوف، فهم في غزوة الأحزاب أصابهم الهلع والجزع، حتى تمنوا أنهم في البوادي يسألون عن حال الرسول والمؤمنين من بعيد، بخلاف المؤمنين فقد وصفهم الله تعالى بأنهم استمروا على العهد والميثاق، فمنهم من استشهد في سبيل الله، ومنهم من ينتظر الموت على مثل ذلك ولم يبدلوا تبديلاً.

هلع المنافقين وخوفهم من القتال

هلع المنافقين وخوفهم من القتال الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا * لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا * وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:20 - 22]. ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات من سورة الأحزاب وما قبلها الفرق بين المؤمنين وبين المنافقين، كيف صنع المنافقون في يوم الأحزاب من تخذيلهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن كذبهم عليه وعلى المؤمنين، ومن ظنهم السوء بربهم سبحانه وتعالى، وكيف صنع المؤمنون من تصديقهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وحسن ظنهم في الله سبحانه، وإن كان الأمر شديداً عليهم، ولكن كل إنسان يبتليه الله سبحانه وتعالى بحسب ما في قلبه من إيمان. فابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً، واضطربوا وظنوا أن النصر تأخر شيئاً، ولكن هم واثقون في الله سبحانه بأنه لن يخذل رسوله صلوات الله وسلامه عليه. أما المنافقون فأساءوا الظن بالله سبحانه، وكذبوا على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم فقالوا: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:12] أي: إلا محالاً وباطلاً. فهؤلاء المنافقون فضحهم الله سبحانه، وبين أنهم المعوقون للمؤمنين عن القتال، والصادون للمؤمنين عن جهادهم في سبيل الله سبحانه وتعالى، الذين يقولون لإخوانهم في النسب أو لأصحابهم: {هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:18] فهم من أجبن الناس ويرمون غيرهم بالجبن، فقد قالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه: إنهم من أجبن الناس عند اللقاء، وإنهم من أجوع الناس بطوناً، ويقولون عنهم: إنما هم أكلة رأس، يعني: عددهم قليل، فلقلتهم يكفيهم الرأس من الغنم. فهؤلاء المنافقون يقولون لإخوانهم: هلم إلينا، أي: دعوا النبي صلى الله عليه وسلم وتعالوا فاجلسوا معنا وكلوا، {وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:18] (البأس) أي: القتال. قوله: (أشحة عليكم) أي: هم من أبخل الناس وأشح الناس، فالبخيل: هو الذي يضن بما في يده وبما في يد غيره، لم يكتف بما في يده، فهو شحيح ضنين على المال الذي معه وعلى المال الذي مع غيره، فهو شحيح مقتر لا يبذل. فقوله: ((أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ)) يعني: يرفضون لكم الخير، ويرفضون منكم إنفاقاً في سبيل الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ} [الأحزاب:19] أي: إذا جاء القتال، {رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [الأحزاب:19] هذا حالهم، كالإنسان الذي يرى الموت أمامه مرعوب يهتز ويرتعش، هذا حال هؤلاء المنافقين. فإذا انتهى هذا الخوف إذا بهم يتشجعون ويظهرون الشجاعة، ويقولون: عملنا وعملنا، انظروا نحن لو كنا موجودين كنا عملنا كذا، وهم أجبن خلق الله. يذكر سبحانه هؤلاء المنافقين بقوله: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:4] هذا حال هؤلاء المجرمين المنافقين، تجدهم طوال الأجسام عراضها، أشكالهم ومناظرهم جميلة، كذلك تأخذ منهم كلاماً كأن مقتضاه الحكمة، وهو في الحقيقة خلاف ذلك. وقال سبحانه: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4] الخشب يستفاد منه في صناعة الأبواب وسقافة البيوت، لكن إذا كان الخشب مسنداً إلى الجدران فليس فيه أي فائدة، وإنما يحصل منه ضيق على الناس، فهذا هو حال هؤلاء، كأنهم خشب غير منتفع به، ولكن خشب مسنود على الجدران. يذكر الله سبحانه صفات المنافقين، ويبين أنهم في غاية الخوف والرعب والجبن إذا جاء الأعداء، يقول تعالى: {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} [الأحزاب:19] أي: ألسنتهم لاذعة حادة، يتكلمون كلاماً سيئاً عن المؤمنين، بل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: (سلقوكم) أي: أيرفعوا أصواتهم بالقول، وكانوا في حال الخوف في غاية الجبن، لكن بعد أن غادر الأعداء رفعوا أصواتهم على المؤمنين، فهم ليسوا أشحة في الإنفاق لما في أيديهم فقط، بل هم لا يحبون من المؤمنين الإيمان، ولا يحبون للمؤمنين النصر على الأعداء، ولا يحبون خيراً يأتي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا للمؤمنين. ثم قال: {أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا} [الأحزاب:19] أي: أولئك يزعمون الإيمان بألسنتهم، أما القلوب فهي خالية من الإيمان، والنتيجة تكون كما قال الله: {فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ} [الأحزاب:19] هم يستحقون ذلك؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فهم وإن صلوا معكم ظاهراً، لو استطاعوا أن يتركوا الصلاة لتركوها، ولذلك لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى، فهم لولا خوفهم من أن النبي صلى الله عليه وسلم يعاقبهم، لما صلوا مع الناس الجماعة، ولتركوا الصلاة بالكلية. إذاً: هم يفعلون الخير في الظاهر أمام الناس، وهم في الحقيقة إنما يفعلون ذلك رياء وسمعة أمام الناس، فاستحقوا أن يفضحهم الله سبحانه، وأن يحبط أعمالهم، قال تعالى عن الكافرين: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]. أي: جعلناه هباءً كالغبار الذي يرى في الكوة التي تدخل منها الشمس، فكذلك أعمالهم لا وزن لها عند الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [الأحزاب:19] يعني: الأمر كله يسير على الله سبحانه، فكونهم يؤمنون أو يكفرون كل هذا يسير على الله سبحانه، وكذلك كونه سبحانه يحبط أعمالهم هذا يسير على الله؛ لأنه سبحانه، {إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82].

تفسير قوله تعالى: (يحسبون الأحزاب لم يذهبوا)

تفسير قوله تعالى: (يحسبون الأحزاب لم يذهبوا) يقول سبحانه عن هؤلاء: {يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا} [الأحزاب:20] أي: من الرعب الذي أصابهم، أما المؤمنون فقد صدقوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة ليأتيه بخبر الكفار، فرأى الكفار وهم يقولون: النجاء النجاء، وجاء حذيفة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره أن القوم قد ذهبوا، وجاء جبريل يخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فعرف المؤمنون أن النبي صلى الله عليه وسلم صادق فيما يقول، فرجعوا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. أما هؤلاء المنافقون الذين ملأ الجبن قلوبهم فهم لا يصدقون أن الكفار قد ذهبوا، فقد استغربوا: كيف يفر عشرة آلاف كافر من ثلاثة آلاف من المؤمنين، فهم يحسنون الظن في الكفار ويسيئون الظن في الله سبحانه وفي المؤمنين. وقوله: (يحسبون) قرأها نافع وابن كثير وأبو عمرو والكسائي وخلف ويعقوب: (يحسِبون) بكسر السين. والباقون يقرءون: (يحسَبون) بفتحها، وهم عاصم وابن عامر وحمزة وأبو جعفر. قال تعالى: {وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ} [الأحزاب:20]. يعني: هؤلاء يحبون لو أنهم يهربون من المدينة إلى البادية حتى ينظروا لمن الغلبة، فهم مع المنتصر، هذا حال المنافق، قال تعالى عنهم: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} [النساء:143] أي: لا مع المؤمنين ولا مع الكفار، فهم يقفون مع من ينتصر. قال الله سبحانه: {يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ} [الأحزاب:20] يعني: يسألون عن خبركم مع الكفار هل انتصرتم أو انهزمتم، أما أن يكونوا معكم يعينونكم على القتال فلا؛ لأنهم لا يجيدون ذلك. قوله: (يسْألون) هذه قراءة الجمهور. أما قراءة رويس عن يعقوب: (يسَّاءلون عن أنبائكم). النبأ: هو الخبر المغيب، فهم لا يريدون خبراً مشاهداً، وإنما يريدون أن يسمعوا الذي حصل مع المسلمين من بعيد فقط. قال تعالى: {وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:20] يبين ربنا سبحانه للمؤمنين أن هؤلاء وإن كثروا العدد فلا تفرحوا بهم؛ لأن حقيقتهم أنهم يخذلون بينكم، ويلقون في قلوب المؤمنين الاختلاف وبذور الشقاق، فهم يخوفون المؤمنين من الكفار، وهم يفسدون فيما بين المؤمنين، وهم يثبطونهم عن القتال.

تفسير قوله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)

تفسير قوله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) أما المؤمنون فهم يتبعون الرسول صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه أسوتهم وقدوتهم عليه الصلاة والسلام، وانظر الفرق بين هؤلاء وهؤلاء، يقول سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]. يعني: لقد كان لكم أيها الناس جميعاً الأسوة الحسنة في رسول الله صلى الله عليه وسلم. كان الخطاب في الآيات السابقة للمنافقين، وهنا الخطاب للجميع -للمؤمنين وللمنافقين- أي: اقتدوا جميعاً برسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وذروا ما أنتم عليه من معاصي الله سبحانه. قوله: (أسوة) بالضم، وهي قراءة عاصم وحده. أما باقي القراء فإنهم يقرءون: (إسوة) بالكسر. فقوله: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) يعني: القدوة الحسنة في الإتساء بالنبي صلوات الله وسلامه عليه للمؤمنين، فالمؤمن يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأن هوى المؤمن تبع للنبي صلى الله عليه وسلم ولما جاء به. والمؤمن يفدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه وبأهله وبماله. ولذلك يحدث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عن هؤلاء المؤمنين الذين يأتون من بعده ولم يروه، لكنهم يودون أن يروه، ولو فقدوا أهليهم وأموالهم. قال تعالى: {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الأحزاب:21] أي: يرجو ثواب الله ويرجو لقاء الله، ويرجو اليوم الآخر فهو يؤمن بالله وباليوم الآخر ويعتقد يقيناً جازماً أنه ملاقي الله، وأنه يأتي عليه يوم الحساب للجزاء والثواب والعقاب، فهو يود أنه مع النبي صلى الله عليه وسلم مقتدٍ به في الدنيا؛ فهو إمامه يوم القيامة، يوم يدعو الله عز وجل كل أناس بإمامهم. يقول الله سبحانه: {وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21] الذكر يعين على طاعة الله سبحانه، والله مع الذين يذكرونه سبحانه وتعالى، فحين يذكر المؤمن ربه يكون الله معه.

تفسير قوله تعالى: (ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله)

تفسير قوله تعالى: (ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله) قال الله تعالى: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22]. يذكر الله كيف كان حال المؤمنين لما رأوا الأحزاب، فقد أعلمنا حال المنافقين، وأنهم كانوا في غاية الخوف والرعب تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت. أما المؤمنون فإنهم لما رأوا الأحزاب قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله، أي: هذا وعد الله أن يأتي الكفار وأن يحدث بيننا وبينهم الالتحام والقتال ويأتي نصر الله، وصدق الله ورسوله. فرق بين المؤمن والمنافق، المنافق أصابه الخوف والرعب فقال: يعدنا محمد بكنوز قيصر وكسرى وأحدنا لا يأمن أن يذهب إلى الخلاء، لكن المؤمن لما رأى هذا الرعب وهذا الخوف قال: صدق الله ورسوله. يعني: بمجيء الأحزاب الكفار سيأتي نصر الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وعدا بالنصر والتمكين، وبأننا نفتح قصور الشام وقصور العراق وبلاد الحبشة وغيرها، وصدق الله وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، سنكون في وقت من الأوقات منتصرين، ويدخل الإيمان في كل مكان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. فالمؤمنون ما زادهم ما هم فيه من خوف ومن شدة إلا إيماناً، وهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وهل تنصرون إلا بضعفائكم). لما رأى الأقوياء كـ سعد بن أبي وقاص وغيره في يوم بدر أن لهم مزية وفضلاً على غيرهم من المؤمنين، وذلك بأنهم قاتلوا بالسيف وغيرهم ضعفاء، فقال سعد للنبي صلى الله عليه وسلم: (أعطني هذا السيف لعله يعطاه من لا يبلي بلائي -أي: قد يأخذ السيف من لا يعمل مثل ما أعمله- فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لـ سعد: وهل تنصرون إلا بضعفائكم؟). يعني: النصر لا يأتي بقوة الأجسام والسلاح وإنما يأتي بقوة هؤلاء في إيمانهم، فهؤلاء الضعفاء يدعون الله ويستغيثون بالله ويطلبون النصر منه سبحانه فينصرهم، أما القوي فقد يعجب بنفسه ويظن في نفسه قوة فينسى أن يدعو ربه. إذاً: فالمؤمنون ازدادوا في حال خوفهم إيماناً بالله، وثقة في الله سبحانه، وتسليماً لأمر الله؛ لأنهم سلموا أنفسهم لله بما يشاء، فصدقوا الله سبحانه وتعالى، فصدقهم الله سبحانه. قال تعالى: {وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا} [الأحزاب:22] أي: بالرب سبحانه {وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22] بالقضاء والقدر، وهذا حال المؤمنين أنهم يسلمون لله سبحانه، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فيرضون فيرضيهم الله سبحانه. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الأحزاب [22 - 23]

تفسير سورة الأحزاب [22 - 23] إن الدين الإسلامي بحاجة إلى رجال يحملونه بصدق وجدية لا تعرف الكسل ولا الفتور ولا التراجع، وقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على بناء هؤلاء الرجال وتربيتهم، ولقد حقق رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الهدف، فبنى رجالاً مؤمنين بالله حق الإيمان، ولذلك مدحهم الله عز وجل بأنهم صدقوا ما عاهدوا الله عليه.

تكذيب المنافقين لله ورسوله

تكذيب المنافقين لله ورسوله أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب:22 - 25]. ذكر الله تبارك وتعالى في هذه الآيات وما قبلها وما بعدها ما كان في يوم الأحزاب: وهي غزوة الخندق، وقد كانت في شوال من العام الخامس لهجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد جاء فيها الكفار بسبب اليهود الذين ألبوهم على المسلمين وأغروهم بأن يأتوا إلى المسلمين في بلادهم، فجاءت قريش وغطفان، وظاهرهم المنافقون من بني قريظة، وكان عدد الكفار عشرة آلاف رجل، وكان عدد المسلمين ثلاثة آلاف. فلما رأى المؤمنون هذا الأمر قالوا: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [الأحزاب:22]. والله عز وجل وعد المؤمنين إما النصر والتمكين، وإما الشهادة والجنة. فلما رأى المؤمنون هذا الذي أمامهم ولا طاقة لهم به قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله، أي: إما ينصرنا، أو نقتل ونكون في الجنة. وقد صدقوا الله وصدقوا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وقد أراهم النبي صلى الله عليه وسلم آية من الآيات حين كسر الصخرة التي كانت في الخندق ومنعت المؤمنين من الحفر، فنزل إليها بنفسه عليه الصلاة والسلام وضربها ثلاث ضربات، وفي كل ضربة يتفتت جزء من هذه الصخرة ويخرج منها من الشرر ما يشاء الله سبحانه، ويرى نوراً يخرج منها، فيقول: (الله أكبر، أعطاني الله عز وجل كنوز كسرى، أعطاني الله كنوز قيصر، فتح الله عليكم اليمن)، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكر من أمر الله سبحانه، فصدق المؤمنون وقالوا: هذا وعد من الله سبحانه سيكون ويتم. وأما المنافقون فكذبوا بذلك وأظهروا كفرهم وتكذيبهم، وقالوا: يعدنا بكنوز قيصر وكسرى ونحن لا يأمن أحدنا أن يدخل الخلاء. وظهر النفاق من هؤلاء، ودعا بعضهم إخوانهم إلى أن يهربوا إلى المدينة وقالوا: {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} [الأحزاب:13]، أي: اتركوا النبي صلى الله عليه وسلم وارجعوا إلى المدينة فلا مقام لكم في هذا المكان ولن تقدروا على الكفار، حتى جاء نصر الله سبحانه وتعالى ففضح المنافقين وأيد المؤمنين، وأخبر عن حال الفريقين، فقال عن المؤمنين: إن هذا الهم الذي كانوا فيه ما زادهم إلا إيماناً وتسليماً، فازداد إيمانهم، والمصائب والبلاء يجعلهما الله سبحانه على المؤمنين رحمة بهم، فيزدادون إيماناً بما يحدث لهم من بلاء، ويزدادون إيماناً ويقيناً، ويمحص الله ما في قلوبهم من إيمان فيظهر الإيمان، ويظهر التمسك بدين الله تبارك وتعالى. فإن في وقت الرخاء يزعم الجميع أنهم على الدين، وأنهم يفدون هذا الدين بأرواحهم وأموالهم ودمائهم، ولكن إذا نزل البلاء لا يثبت إلا المؤمن الزائد الإيمان، فمدحهم الله سبحانه أنهم ازدادوا في هذا البلاء إيماناً، وازدادوا تسليماً لله سبحانه، ورضا بالقضاء والقدر، فرضوا بقضاء الله وبقدره، وبما يكون من أمر الله سبحانه فأعطاهم الله النصر، ومكن لهم سبحانه، ووعدهم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم عندما قال: الآن نغزوهم ولا يغزوننا، فكان ما قاله النبي صلوات الله وسلامه عليه.

معنى قضاء النحب

معنى قضاء النحب قال الله سبحانه في المؤمنين: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23]. مدح الله المؤمنين بأنهم لم يبدلوا وثبتوا على دينهم، فقد عاهدوا الله تبارك وتعالى وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاهدوه على أن يجاهدوا في سبيل الله، وعلى أن يثبتوا على هذا الدين، وأن يبذلوا في سبيل هذا الدين كل غال وثمين، فيبذلوا النفوس والأموال في سبيل الله تبارك وتعالى، ويبذلوا ما استطاعوا بذله، فعاهدوا الله سبحانه وتعالى وصدقوا في عهدهم، ونفذوا ما عاهدوا عليه، فمدحهم الله بقوله: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} [الأحزاب:23]. والنحب يأتي بمعنى: العهد، وبمعنى: النذر، وبمعنى: الموت، وبمعنى: الحاجة. والمعاني الثلاثة الأولى مقصودة في هذه الآية، أي: أنهم وفوا بعهودهم مع الله سبحانه تبارك وتعالى ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أحدهم يعاهد الله ويقول: إذا لقيت الكفار ليرين الله ما أفعل، فيوفي بما قاله، كما روى أنس بن مالك عما صنعه عمه أنس بن النضر رضي الله عنهما. فقال الله سبحانه: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} [الأحزاب:23]، أي: عاهد ووفى بما قال، ومنهم من عاهد ولكن لم يتمكن، وسيتمكن بعد ذلك وسيوفي، فهو ينتظر الوفاء بما عاهد عليه الله سبحانه، من جهاد في سبيل الله وبذل في سبيله تبارك وتعالى. وهذا على أن النحب بمعنى: النذر والعهد، وهذا الذي يليق بأول هذه الآية. فهم عاهدوا الله ونذروا له سبحانه أن يبذلوا في سبيله ما استطاعوا، من بذل ومن جهد، فوفوا بعهودهم وبنذورهم. {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} [الأحزاب:23]، أي: ينتظر فرصة ليبلي بلاءً حسناً ويظهر ذلك. وقيل: من معانيها الموت. {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} [الأحزاب:23]، يعني: قتل شهيداً في سبيل الله، ومنهم من لا يزال حياً، وسيوفي الله عز وجل بما عاهد عليه.

غياب أنس بن النضر عن بدر واستدراكه ذلك في أحد

غياب أنس بن النضر عن بدر واستدراكه ذلك في أحد وقد جاءت أحاديث في الصحيحين في هذا المعنى، منها ما جاء في صحيح البخاري ومسلم واللفظ للبخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله، غبت عن أول قتال قاتلت المشركين. وقد كان أنس بن النضر من شجعان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومن المؤمنين الصادقين، رضي الله تبارك وتعالى عنه وعن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وفي يوم بدر لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين جميعهم بالخروج، وإنما أمر من كان سلاحه حاضراً أن يخرج، حتى يلحقوا عير قريش القادمة من الشام قبل أن تفوتهم، فلم يكن الخروج من أجل القتال وإنما من أجل العير؛ ليغنموها ويرجعوا بها؛ فلذلك لم يكن الأمر بالخروج واجباً على الجميع، وإنما على من كان سلاحه حاضراً، فلم يخرج أنس بن النضر رضي الله عنه؛ لأن سلاحه لم يكن حاضراً في ذلك الحين. فخرجوا وقاتلوا فكانوا أعظم الناس عند الله عز وجل، واطلع الله سبحانه على أهل بدر فقال لهم: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم). أي: مهما عملتم من ذنوب، وحاشا لهم أن يقعوا في كبائر يعصون بها الله سبحانه، ولكن الله من عليهم بذلك ليطمئنوا، فأنتم وأنتم في الدنيا من أهل الجنة، ومصيركم إلى الجنة، وقد غفرت لكم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء: (لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم). ولم يحضر أنس بن النضر، وسمع ذلك، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع)، وخاف أن يقول غيرها، أو أكثر من ذلك. وفي رواية مسلم قال أنس رضي الله عنه: عمي الذي سميت به لم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدراً. يعني: أن أنس بن مالك سموه على اسم عمه أنس بن النضر أما أبوه مالك فمات كافراً، ولكن عمه أنساً هذا كان مؤمناً، رضي الله تبارك وتعالى عنه. فيقول: إني سميت على اسم عمي هذا. ويقول عن عمه: إنه لم يشهد بدراً، قال: فشق عليه أن غاب أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: لئن أراني الله مشهداً فيما بعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرين الله ما أصنع، قال: فهاب أن يقول غيرها، خاف أن يقول أكثر من هذا الشيء، وخاف أن يقول: سأكون شجاعاً وأبلي بلاءً حسناً، وخاف أن يقول: سأقاتل قتالاً عظيماً؛ لأنه خاف ألا يقاتل ويفر. فلم يقل إلا: إن الله سيرى ما أصنع. وفرق بين المؤمنين والمنافقين الذين يدعون أشياء لا يقدرون عليها، يهربون من القتال ثم يزعمون شجاعات فعلوها، وهم لم يصنعوا شيئاً، ويقولون: لو كنا نحن لفعلنا وفعلنا، وهم لن يفعلوا، ولو كانوا حاضرين لكانوا أول من يهرب.

موقف أنس بن النضر يوم أحد

موقف أنس بن النضر يوم أحد قال أنس رضي الله تبارك وتعالى عنه: فشهد يوم أحد، يعني: عمه أنس بن النضر. قال: فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون؛ لأن أكثر المسلمين فروا يوم أحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نصرهم الله في البداية بثباتهم وبطاعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما طمع الرماة في الغنيمة، وتركوا أماكنهم التي حذرهم النبي صلى الله عليه وسلم من أن يتركوها، ونزلوا يجمعون الغنيمة، جعل الله عز وجل الدائرة عليهم بعدما انتصروا، فهزموا هزيمة منكرة؛ بسبب معصيتهم للنبي صلى الله عليه وسلم. فلما رأى أنس بن النضر في يوم أحد المسلمين منهزمين قال رضي الله تبارك وتعالى عنه: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء. أي: الذين هربوا، يعتذر لله عز وجل مما لا ذنب له فيه، ولكنه قال ذلك تأدباً مع الله. قال: وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء، يعني: المشركين. ثم تقدم للقتال، في وقت كان الكفار فيه أربعة أضعاف المسلمين. وقد كان عدد جيش المسلمين يوم أحد ألفاً ويزيدون قليلاً، وعدد الكفار ثلاثة آلاف، ثم عاد المنافق الملعون عبد الله بن أبي ابن سلول بثلث جيش النبي صلى الله عليه وسلم من الطريق، وهرب به، راجعاً إلى المدينة، وترك النبي صلى الله عليه وسلم بين الستمائة إلى السبعمائة من المسلمين. فكان الكفار أربعة أضعاف المسلمين عندما فر هذا المنافق عن النبي صلى الله عليه وسلم بمن معه. فلما وجد أنس بن النضر المسلمين منهزمين يوم أحد قال لله عز وجل: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء، وتقدم لهذا الجمع العظيم من الكفار ليقاتل وحده رضي الله عنه فيراه سعد بن أبي وقاص رضي الله تبارك وتعالى عنه، وكان أيضاً من الشجعان. يقول سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه: إنه استقبله وهو آت، وفي رواية أخرى: أنه استقبله سعد بن معاذ فقال: يا سعد بن معاذ! الجنة ورب النضر. يقسم بالرب سبحانه وتعالى أنه ينظر إلى الجنة، فيقدم على الكفار وكأنه يرى الجنة أمامه، فيقول: إني أجد ريحها دون أحد. أي: أشم رائحة الجنة دون أحد. قال سعد بن معاذ رضي الله عنه: فما استطعت -يا رسول الله- ما صنع. يعني: وهو من الشجعان، قال: ولكن ما قدرت أن أفعل ما فعله هذا الرجل العظيم رضي الله عنه. قال أنس: فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربة بالسيف، والإنسان قد يضرب ضربة أو ضربتين فيقع، وهذا وجد به بضع وثمانون ما بين ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، فكم الذين هجموا عليه رضي الله تعالى عنه حتى يتسنى لأحدهم أن يضربه بالسيف، والثاني يرميه بالرمح والثالث يرميه بالسهم؟ لا شك أنهم كانوا مجموعات كثيرة من الكفار قد هجموا على هذا الرجل الواحد من المؤمنين، رضي الله تبارك وتعالى عنه، حتى قتلوه. فمن شدة ما صنع بهم اغتاظوا منه، فمثلوا به وشوهوه، وقطعوه حتى لم يعرفه أحد، ولم تعرفه إلا أخته ببنانه، أي: بأصبعه؛ فقد قطعه الكفار ومزقوه، حتى لم يعرف وجهه من جسده وإنما عرف بأصبعه، رضي الله تبارك وتعالى عنه، فقد كان في أصبعه أثر فعرفته أخته بهذا الأثر، رضي الله تبارك وتعالى عنه. قال أنس رضي الله عنه: فكنا نرى أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه، يعني قوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23]، وأخته تسمى الربيع بنت النضر. وقد كانت عائلة أنس بن مالك رضي الله عنه عائلة عفيفة جداً، هذا عمه أنس بن النضر رضي الله عنه الذي عرفناه، وأمه هي أم سليم، وخالته أم حرام بنت ملحان رضي الله تبارك وتعالى عن الجميع، وزوج أمه أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه.

منزلة أنس بن النضر عند الله

منزلة أنس بن النضر عند الله فهذا الرجل العظيم أنس بن النضر قتل في سبيل الله، فماذا كانت منزلته عند الله وهو في الدنيا؟ فمن الضرورة أن تكون له في الدنيا منزلة عند الله؛ حتى يعطيه الله عز وجل هذه الشهادة العظيمة، وينزل فيه قوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا} [الأحزاب:23]، وحتى يصدقه الله سبحانه وتعالى في حسن بلائه في سبيل الله سبحانه. يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: إن أخته وهي تسمى: الربيع كسرت ثنية امرأة. أي: تشاجرت مع امرأة فضربتها في سنها، فكسرت سنها، فذهب أهل المرأة يشكون للنبي صلى الله عليه وسلم: أن هذه ضربت ابنتنا، وكسرت سنها، ويريدون القصاص. والنبي صلى الله عليه وسلم يحكم بالعدل، فحكم بالقصاص كما طلبوا، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك إذا بـ أنس يقول: يا رسول الله! والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها؛ يحلف بالله أنه لن يقع القصاص فإذا بأهل المرأة يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: عفونا. فصدق الله يمينه رضي الله تبارك وتعالى عنه، فتعجب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال لأصحابه: (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره). فبعد أن طلبوا القصاص ورفضوا الدية إذ بهم يرضون بها بعد ذلك، بعد أن أقسم فبر الله قسمه، وكان شهيداً بعد ذلك.

إبرار الله لقسم البراء بن مالك رضي الله عنه

إبرار الله لقسم البراء بن مالك رضي الله عنه ومثله في هذه البسالة والجهاد في سبيل الله أخ آخر لـ أنس بن مالك رضي الله عنه، وهو البراء بن مالك فقد كانوا من عائلة عجيبة جداً، رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، وعلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. فـ البراء بن مالك كان في غاية الشجاعة، رضي الله تبارك وتعالى عنه، وله فيها مواقف عديدة، ولكن أعجب ما فيه القسم على الله، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنه أنه من الذين إذا أقسموا على الله أبرهم. وعندما غزا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تستر في بلاد فارس بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ووجدوا القتال قتالاً شديداً قالوا للبراء بن مالك: يا براء! اقسم على ربك أن يمنحنا أكتافهم. فخاف على نفسه من الشهرة؛ لأنه إذا أقسم على ربه فإنه سيستجيب له، ثم يعيش مشهوراً بعد ذلك، فرأى أنه لا ينفع أن يعيش بعد ذلك، فأقسم على ربه فقال: اللهم إني أقسم عليك لما منحتنا أكتافهم، وجعلتني أول شهيد في المعركة، فاستجاب الله دعائه، وبر قسمه، فدارت الدائرة فقتلهم المسلمون وأسروهم، واستشهد رضي الله تبارك وتعالى عنه. فما كانوا يقسمون على الله من أجل أن يشتهروا بين الناس، فإذا اشتهروا بين الناس فإنهم يكرهون العيش، ويحبون الموت؛ لأنهم لا يريدون الدنيا، وإنما يطلبون الآخرة. إذاً: قوله سبحانه هنا: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} [الأحزاب:23]، أي: منهم من ينتظر الوفاء بعهد الله الذي عاهده فيه على الجهاد في سبيل الله.

وفاء الصحابة بعهدهم مع الله

وفاء الصحابة بعهدهم مع الله وقوله تعالى: {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23]، أي: وما غيروا دين الله سبحانه، ولم يتغيروا عما عاهدوا عليه الله تبارك وتعالى، وإنما وفوا الله بما عاهدوا الله عليه، وثبتوا على دينهم، حتى قبضهم الله، فمنهم من مات شهيداً، ومنهم من مات على فراشه، وله أجر الشهداء؛ بعهده لله سبحانه، ومصداقاً لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الإنسان الذي يتمنى الشهادة: (من طلب الشهادة بصدق يعطى أجرها ولو مات على فراشه). نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من الشهداء. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الأحزاب [23 - 24]

تفسير سورة الأحزاب [23 - 24] أخذ الله سبحانه وتعالى العهد من المؤمنين الصادقين أن يجاهدوا من أجل هذا الدين وأن يموتوا شهداء في سبيله، فبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، فما بدلوا وما غيروا، بل وفوا بعهودهم مع الله، فاستحقوا من الله الجنة على صدقهم ووفائهم بما عاهدوا الله عليه.

تفسير قوله تعالى: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه إن الله كان غفورا رحيما)

تفسير قوله تعالى: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه إن الله كان غفوراً رحيماً)

بيان عظم الوفاء بالعهد مع الله سبحانه

بيان عظم الوفاء بالعهد مع الله سبحانه الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب:23 - 25]. يخبرنا ربنا سبحانه وتعالى في هذه الآيات كيف أن المؤمنين منهم رجال عاهدوا الله سبحانه وتعالى فوفوا بهذا العهد وعاهدوه أن يجاهدوا في سبيل الله، وألا يبدلوا وألا يغيروا، وأن يثبتوا في قتالهم حتى يتوفاهم الله سبحانه أو يفتح الله سبحانه وتعالى لهم، فمنهم من وفى بهذا العهد مع الله سبحانه، ومنهم من لم يزل على الحياة ينتظر الفرصة للوفاء بهذا العهد مع الله سبحانه وتعالى، {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23] أي: لم يبدلوا ولم يغيروا ما عاهدوا الله سبحانه وتعالى عليه. والإنسان الذي يعاهد ربه على الشيء يلزمه الوفاء بما عاهد عليه في طاعته لله سبحانه، وله أجر عظيم، وإن عاهد الله ووفى بعهد فالله يمدحه، فإذا نذر نذراً ووفى بنذره فهذا إنسان وفي، وله أجره عند الله سبحانه، ولكن الذي يغير ويبدل وينسى عهده مع الله سبحانه، أو يتغافل عن ذلك، ففي هذه الآية إشارة إلى ذم مثل هذا الذي يبدل ويغير، وينقلب على عقبيه، فالمؤمنون صادقون مع الله سبحانه وتعالى، عكسهم المنافقون الذين يكذبون، يتكلمون بما لا يفعلونه، يقولون أشياء هم في غاية البعد عن هذا الشيء الذي يقولونه.

الابتلاء يميز الله به المؤمن من الكافر

الابتلاء يميز الله به المؤمن من الكافر والإنسان المؤمن ينتظر فضل الله سبحانه وتعالى، ويعلم أن الله يمحصه ويبتليه حتى يثبت على هذا الإيمان وحتى يرى الله سبحانه وتعالى منه ما عاهد الله عز وجل عليه. وقد ابتلى الله عز وجل المؤمن بالكافر، فليصبر المؤمن إذا رأى الكافر أمامه أقوى منه، وأكثر عدداً منه، فقد ثبت المؤمنون في مثل هذه المواقف، وعرفوا أن النصر من عند الله سبحانه وتعالى، فتوكلوا على الله فكانوا مؤمنين، فمدحهم الله سبحانه، والمنافقون مذبذبون بين هؤلاء وبين هؤلاء، لا هم أظهروا إيماناً وكان في قلوبهم هذا الإيمان، ولا هم أظهروا كفراً وعلم من حالهم أنهم كفار، فهم لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، فلذلك كان مصيرهم من الله أن يكونوا في الدرك الأسفل من النار يوم القيامة، فقد فضحهم في الدنيا وسوف يعذبهم ويجعلهم في أسفل سافلين يوم القيامة، فالمؤمنون الذين مدحهم الله سبحانه وتعالى قال فيهم: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} [الأحزاب:24]، وهذا وعد من الله مؤكد ويقين. فقوله تعالى: {لِيَجْزِيَ} [الأحزاب:24] أي: لتكون العاقبة للمؤمنين أن يجزيهم الله جزاءاً بصدقهم؛ لأنهم صدقوا الله سبحانه وتعالى فصدقهم الله، وعاهدوا الله فوفوا فاستحقوا من الله سبحانه الجزاء الأوفى، فقوله تعالى: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} [الأحزاب:24]، أي: بسبب صدقهم، يجزيهم ويعطيهم الثمن على ذلك الجنة بسبب صدقهم.

معنى قوله: (ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم)

معنى قوله: (ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم) قوله تعالى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [الأحزاب:24]، فالله غفور رحيم، لما ذكر المؤمنين جزم وقطع بالثواب، ولما ذكر المنافقين علقه بمشيئته سبحانه وتعالى؛ لأنه قد يتوب على المنافق الذي هو شر من الكافر، فالله غفور رحيم، ومن تاب تاب الله عز وجل عليه. هذا أبو سفيان بن حرب الذي جاء زعيماً وقائداً لجيش من جيوش المشركين، وهو الذي فر في النهاية وقال: النجاة النجاة، وهرب من غزوة الأحزاب مع من معه، وشاء الله عز وجل أن يتوب هذا الرجل فيؤمن والنبي صلى الله عليه وسلم ذاهب ليفتح مكة، يعني: بعد يوم الأحزاب بثلاث سنوات، وكانت غزوة الأحزاب في شوال من سنة خمس للهجرة، وفتح مكة كان في رمضان من سنة ثماني للهجرة. والإنسان قد يكون في قلبه دخن، وقد يكون في قلبه نفاق، ثم فجأة يأتي الفضل من الله سبحانه، ويتوب إلى الله فيتوب الله عز وجل عليه، ولذلك الإنسان المؤمن لا ييأس أبداً من روح الله ومن رحمته سبحانه، فهو القائل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]. فالله ودود، يتحبب إلى عباده بمغفرته وبحلمه عليهم وبكرمه سبحانه وتعالى، ونحن نعلم أذى المنافقين وكثرة مؤامراتهم على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومع ذلك فإن الله سبحانه يعذب المنافقين إن شاء، فأدخلهم تحت خطر المشيئة، إن شاء تاب عليهم فألهمهم التوبة، وإن شاء ظلوا على ما هم فيه من كفر ونفاق، حتى يأخذهم الله عز وجل أخذ عزيز مقتدر. قال سبحانه: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ} [الأحزاب:24]، فكانوا تحت خطر المشيئة، {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [الأحزاب:24]، أي: إذا تابوا تاب الله عز وجل عليهم، مهما وقع الإنسان في أعمال الكفر والشرك، وأعمال النفاق والمعاصي، فإذا تاب إلى الله وصدق في توبته فالله يتوب عليه، حتى ولو كان قبل هذه التوبة يستحق الدرك الأسفل من النار. ويزيد ذلك وضوحاً سورة النساء في قوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:142]. صلاتهم رياء وليست حباً في الله عز وجل، ولا تقرباً إليه، ولكن ليروا الناس أنهم يصلون، قال الله سبحانه وتعالى في مثل هؤلاء: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء:143]. ثم يذكر بعد ذلك سبحانه: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145]، فالجنة درجات عالية، بعضها فوق بعض والنار دركات بعضها أسفل من بعض، فهم في أسفل نار جهنم والعياذ بالله، قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء:145]. ومع ذلك يدرك الله برحمته من يشاء فيقول: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:146]. والمؤمنون لهم الأجر العظيم، ومن صار إليهم ورجع معهم فهذا من المؤمنين، وله أيضاً الأجر العظيم، وإن عمل المنافقون ما عملوا، فإنهم إن تابوا صاروا مع المؤمنين؛ لأنهم أصلحوا {وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ} [النساء:146]، أي: رجعوا للتوحيد، وأخلصوا الدين لله سبحانه، فالله يتجاوز عنهم، ويجعلهم مع المؤمنين، ومن المؤمنين، ويؤتيهم الأجر العظيم.

معنى قوله تعالى (إن الله كان غفورا رحيما)

معنى قوله تعالى (إن الله كان غفوراً رحيماً) ويبين الله سبحانه سبب هذا التجاوز وهذا الكرم، فيقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:24]، من صفات الله سبحانه، ومن أسمائه الحسنى: أنه الغفور وأنه الرحيم، فهو يتوب على خلقه؛ لأن التوبة بيده سبحانه، ويرزق من يشاء توبة نصوحاً ثم يتوب عليه، ولا يسأل عما يفعل سبحانه، فهو يتوب على من يشاء بفضله ورحمته، فنحن نفرح بكرمه، ونفرح بتوبته على عباده سبحانه وتعالى، وانظروا كيف أنه يدخل الله عز وجل الجنة رجلين أحدهما قاتل لصاحبه، ولا يسأل عما يفعل سبحانه وتعالى. فهذا مؤمن يخرج للجهاد في سبيل الله عز وجل فيقتله الكافر، ثم أدركت الكافر رحمة رب العالمين سبحانه، فأسلم ومات على الإسلام فدخل الاثنان -القاتل والمقتول- الجنة برحمة منه سبحانه، يغفر لمن يشاء ويتوب على من يشاء، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون. وقوله تعالى: {كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:24] هذا التعبير الوحيد الذي يفيد أن الغفران والرحمة صفتان من صفاته سبحانه كانت وما زالت دائمة، سأل رجل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن ذلك، فقال: قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:24]، يعني: كان وانتهى على ذلك في الماضي؟ فتعجب ابن عباس من غلط هذا الإنسان ومن جهله باللغة العربية، فأخبره أن معنى: {كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:24]: أنه كان ولا يزال على ذلك أبداً سبحانه وتعالى، ولا ينتهي منه ذلك، فهو في الماضي غفور رحيم، والآن غفور رحيم، ويوم الدين غفور رحيم، فهي صفة دائمة أبدية له سبحانه وتعالى، يعبر عنها بهذا التعبير الذي يفيد جميع الأزمان: الماضي والحاضر والمستقبل. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ} [الأحزاب:24]، (إن)، للتحقيق ولتأكيد ذلك، وقوله: {غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:24] صفة ثابتة لازمة له سبحانه وتعالى، وكذلك جميع صفاته سبحانه لازمة له عز وجل لا تزول منه أبداً. والغفر: المحو والستر، فالله يغفر، أي: يمحو الذنب ويستره، رحيم: يرحم العباد سبحانه وتعالى في الدنيا وفي الآخرة، وصفة الرحيم لله عز وجل تختص بالمؤمنين، قال تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43] يرحم المؤمنين، هو الرحيم وهو الرحمن، والرحمن صفة عظيمة لجميع خلقه سبحانه، وهي رحمة دائمة، والرحيم: رحمة تختص بالمؤمنين فيرحمهم يوم القيامة سبحانه وتعالى، ولا يغفر لمن مات على الكفر والشرك بالله عز وجل.

أنس بن النضر وطلحة بن عبيد الله ممن قضى نحبه

أنس بن النضر وطلحة بن عبيد الله ممن قضى نحبه وقال الله سبحانه في هؤلاء المؤمنين: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} [الأحزاب:23]، أي: منهم من وفى بعهده لله سبحانه وتعالى، ومن هؤلاء الذين وفوا بعهودهم أنس بن النضر رضي الله تبارك وتعالى عنه، فقد قاتل يوم أحد ببسالة، فكان شهيداً عظيماً رضي الله تبارك وتعالى عنه. ومن هؤلاء أيضاً طلحة بن عبيد الله رضي الله تبارك وتعالى عنه، فهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وهم: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمة، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنهم جميعاً، بشرهم الله عز وجل بالجنة على لسان النبي صلى الله عليه وسلم. هذا طلحة بن عبيد الله ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم أحد حتى أصيب، وكان ذلك في سنة ثلاث من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، حيث دافع عن النبي صلى الله عليه وسلم دفاعاً شديداً، وذلك لما حوصر النبي صلى الله عليه وسلم ومعه سبعة من الأنصار، من هؤلاء السبعة: طلحة بن عبيد الله رضي الله تبارك وتعالى عنه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من للقوم؟ من للقوم؟ فقال رجل من الأنصار: أنا، فقام الأنصاري وقاتل قتالاً شديداً حتى قتل رضي الله تبارك وتعالى عنه. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: من للقوم؟ فقال آخر: أنا، حتى قتل هؤلاء الأنصار جميعاً، ولم يبق إلا طلحة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من للقوم؟ فقام طلحة يدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم دفاعاً شديداً فقاتل كقتال هؤلاء السبعة رضي الله تبارك وتعالى عنه حتى ضرب ضربة على يده قطعت له عرقاً رضي الله عنه، فشلت يده التي وقى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان المقصود بالضرب: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقاه طلحة بيده فشلت رضي الله تبارك وتعالى عنه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن طلحة: (أوجب طلحة)، أي: وجبت لـ طلحة الجنة رضي الله تبارك وتعالى عنه. وجاء في سنن الترمذي عن طلحة بن عبيد الله أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا لأعرابي: سله عمن قضى نحبه؛ لأن الصحابة كانوا يخافون أن يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم بعدما نهاهم عز وجل عن سؤال النبي صلى الله عليه وسلم. والنحب معناه: النذر أو الحاجة أو العهد أو الموت، فكل المعاني صحيحة، فسأل الأعرابي النبي صلى الله عليه وسلم فأعرض عنه ولم يرد عليه صلى الله عليه وسلم، ثم سأله مرة ثانية، فأعرض عنه صلى الله عليه وسلم، ثم سأله مرة ثالثة فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، يقول طلحة بن عبيد الله: فدخلت من باب المسجد وعلي ثياب خضر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من السائل عمن قضى نحبه؟) فقال الأعرابي: أنا، قال: (هذا ممن قضى نحبه!) فذكر طلحة بن عبيد الله رضي الله تبارك وتعالى عنه. فعلمنا من الحديث أن من قضى نحبه ليس معناه: الموت؛ لأن طلحة حي وليس ميتاً، فمن فعل ذلك يكون المعنى {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} [الأحزاب:23]، أي: وفى بنذره، ووفى بعهده مع الله عز وجل، وقد يكون منهم من مات، فالآية ليست متعلقة بمن مات فقط، بل هي متعلقة بمن وفى بنذره سواء مات أو كان باقياً على قيد الحياة.

مصعب بن عمير ممن قضى نحبه

مصعب بن عمير ممن قضى نحبه جاء أيضاً في حديث رواه البيهقي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر مصعب بن عمير وكان قد مر عليه صلى الله عليه وسلم في أحد وهو مقتول رضي الله تبارك وتعالى عنه فذكر هذه الآية. وكان مصعب أول داعية إلى الإسلام في المدينة، حيث سبق النبي صلى الله عليه وسلم في المجيء إلى المدينة، وظل يدعو الناس في المدينة، فما ترك من بيت إلا ودخل فيه الإسلام بفضل الله ثم بسبب مصعب رضي الله تبارك وتعالى عنه، فقد كان جهاده وبلاؤه حسناً. وكان مصعب في مكة شاباً فتياً غنياً عزيزاً في قومه، وكانت أمه غنية جداً، وكانت تنفق عليه رضي الله تبارك وتعالى عنه، وتعطيه مالاً كثيراً، ومع ذلك فضل أن يدخل في دين الله عز وجل، وأن يترك المال الذي كان فيه، فترك الغنى وترك الترف، ودخل في دين الله عز وجل ليبتلى ويقتل شهيداً رضي الله تبارك وتعالى عنه في يوم أحد، فقيراً ليس معه شيء إلا بردة، إذا كفنوه فيها فغطوا رأسه بدت قدماه، فإذا غطوا قدميه بدا رأسه رضي الله تبارك وتعالى عنه، فلما مر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذكره وقرأ هذه الآية: ({مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23])، وقال صلى الله عليه وسلم: (وأشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة فأتوهم وزوروهم). فأمرهم بأن يزوروا شهداء أحد، وشهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم شهداء عند الله عز وجل. فالمعنى هنا: أن هؤلاء قضوا ما أمر عز وجل به، ووفوا لله سبحانه بعهدهم، فكان لهم الأجر العظيم عند الله، ولهم الجزاء على صدقهم، قال تعالى: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} [الأحزاب:24]، ليس من جنس طلحة فقط، بل منهم سعد بن معاذ رضي الله تبارك وتعالى عنه، وحمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنس بن النضر، وصحابة كثيرون، كلهم قضوا ما أمر الله عز وجل به، عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام، وعاهدوه على الجهاد في سبيل الله، وبايعه بعضهم على الموت في سبيل الله شهداء، فكان أن وفوا لله عهدهم فأعطاهم الله الأجر العظيم. نسأل الله عز وجل أن يحشرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع هؤلاء الصحابة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الأحزاب [25 - 27]

تفسير سورة الأحزاب [25 - 27] اجتمع المشركون يوم الأحزاب على حرب الإسلام، وساندهم اليهود بخيانة العهد، ولكن رد الله الذين كفروا بغيظهم وأنزل الذين ظاهروهم من اليهود فمكن المسلمين من رقابهم.

تفسير قوله تعالى: (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا)

تفسير قوله تعالى: (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا * وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا * يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:25 - 29]. في هذه الآيات يخبرنا الله تبارك وتعالى عن الذين كفروا أنهم جاءوا من قريش وغطفان فردههم الله سبحانه خائبين خاسرين لم ينالوا خيراً، ظنوا أنهم ينتصرون على الإسلام والمسلمين، وأنهم سيغنمون المدينة وما فيها، فردهم الله خاسرين خائبين لم ينالوا شيئاً من الخير، ورجعوا متغيظين، قل موتوا بغيظكم. وكفى الله المؤمنين القتال بقدرته وقوته تبارك وتعالى، ودون شدة قتال، وإنما كان القتال شيئاً يسيراً من بعض الكفار الذين عبروا الخندق إلى المسلمين، فقتلهم البعض من المسلمين وهم عدد قليل، ومن المسلمين كذلك؛ ليري الله سبحانه المؤمنين كيف أنه بقوته سبحانه وبأمره يرتد الكفار خائبين خاسرين مدحورين بغير قتال من المسلمين، جاءوا بغيظ وحنق فرجعوا به وبأزيد منه، ولم ينالوا خيراً لا في الدنيا ولا في الآخرة، وكفى الله المؤمنين القتال، وكم ممن لا كافي له ولا مؤوي! ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يثني على ربه سبحانه في كل ليلة حين ينام صلوات الله وسلامه عليه يقول: (الحمد لله الذي كفانا وآوانا، والذي أطعمنا وسقانا، والذي من علينا فأفضل، والذي أعطانا فأجزل، الحمد لله على كل حال، رب كل شيء ومليكه، وإله كل شيء، نعوذ بك من النار). وكان يقول: (الحمد لله الذي كفانا وآوانا فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي). الله كفى المؤمنين، فأمنهم بعد أن كانوا خائفين، ووعدهم -ووعده الصدق سبحانه تبارك وتعالى- أن ينصرهم فرأى المؤمنون أن الأمر أشد وأصعب، فلما زلزلوا زلزالاً شديداً إذا بالنصر يأتي من عند الله، وكفى الله المؤمنين القتال فعرفوا نعمة الله، وهم الذين صدقوا الله {قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22] فاستسلموا وسلموا لقضاء الله وقدره، ورضوا بما هم فيه من أمر أراده الله سبحانه تبارك وتعالى، وانتظروا كيف يفرج الله سبحانه تبارك وتعالى عنهم هذا الغم. وقد قال الله عز وجل في كتابه: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5 - 6] وقال النبي صلوات الله وسلامه عليه: (واعلم أن الفرج مع الكرب). اعلم أن النصر بيد الله سبحانه تبارك وتعالى يأتي في وقت الضيق والكرب والشدة، ويأتي الفرج في وقت ما يشتد الكرب على الناس، فالنصر مع الصبر، والفرج مع الكرب، وإن مع العسر يسراً، وجاء اليسر والفتح من عند الله، وجاء وعد آخر على لسان النبي صلى الله عليه وسلم أنه لن يحدث أبداً أن يأتي هؤلاء الكفار مرةً ثانية إلى المدينة، قال صلى الله عليه وسلم: (الآن نغزوهم ولا يغزونا). {وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب:25] الله القوي القادر يحكم أمره ويفعل ما يشاء سبحانه، ولا راد لأمره سبحانه. فالله عزيز غالب لا يغلب ولا يمانع سبحانه وتعالى، وإذا قضى أمراً فإنما يقول له: كن فيكون على ما أراد الله سبحانه، وإن أراد الخلق غير ما أراد الله سبحانه وتعالى فأمره لا بد وأن يكون، فهو العزيز المنيع الذي لا يغلب.

تفسير قوله تعالى: (وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم)

تفسير قوله تعالى: (وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم)

معنى قوله: (وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم)

معنى قوله: (وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم) {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ} [الأحزاب:25] فهؤلاء المشركون -كفار قريش وغطفان- رجعوا بغيظهم لم ينالوا خيراً. أما اليهود الكفرة المجرمون فقال: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا} [الأحزاب:26]. وظاهر بمعنى: ناصر وأيد، وكان معه ظهيراً أي: مدافعاً عنه، ومقوياً له، فاليهود ظاهروا الكفار أي: قووهم وقالوا: نحن معكم، اليهود من وراء النبي صلى الله عليه وسلم، والكفار من أمامه من المشرق والمغرب، فإذا بالله يخذل الجميع، وأنزل هؤلاء الكفرة من بني قريظة من اليهود من صياصيهم. {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ} [الأحزاب:26] والصياصي: الحصون، فأنزلهم الله عز وجل من حصونهم يعني: مكان مناعتهم وقوتهم، فهذا هو معنى الصيصية للشيء أنه الذي يدفع به عن نفسه، ومنه يقال: صياصي البقر أي: قرونها؛ لأنها تدفع بقرونها عن نفسها، وكأن الصياصي مكان الدفع عن الإنسان والمكان الذي يتحصن فيه. فبنو قريظة تحصنوا في حصونهم فأنزلهم الله سبحانه وتعالى من حصونهم، واليهود دائماً وأبداً يجهزون لأنفسهم ويعملون حساب القتال، فيملئون الحصون طعاماً وشراباً بحيث يقعدون فيها سنين من غير ما يقدر أحد أن ينزلهم منها، ولكن أنزلهم الله تبارك وتعالى رغم أنوفهم، فرفضوا أن ينزلوا على حكم النبي صلى الله عليه وسلم، وارتضوا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه، وظنوا أنه سيجاملهم، وأنه كالمنافق عبد الله بن أبي ابن سلول لعنة الله عليه الذي جامل اليهود ومات على كفر ونفاق، وحاشا لله أن يكون سعد بن معاذ كذلك، وإنما هو الرجل التقي النقي المحب لله عز وجل ولرسوله صلوات الله وسلامه عليه، فأنزلهم الله سبحانه من حصونهم. قوله: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الأحزاب:26] فقد كانوا متحصنين ومستعدين أن يمكثوا أشهراً طويلة في هذه الحصون، ولكن الله سبحانه له جنود يلقون الرعب في القلوب فأرعبهم فإذا بهم يخافونه، وينزلون من حصونهم، وقد قال لهم أبو لبابة بن عبد المنذر: إنما هو الذبح، فازداد رعبهم، ونزلوا ليذبحوا ويقتلوا فقتل منهم ما بين الستمائة إلى السبعمائة إلى لعنة الله سبحانه تبارك وتعالى، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهم وحكم فيهم سعد بن معاذ بحكم الله سبحانه، فقتل هؤلاء. قال الله سبحانه: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا} [الأحزاب:26] قتلتم فريقاً من هؤلاء اليهود، وأسرتم آخرين كان حكم سعد بن معاذ أن تقتل المقاتلة من اليهود، ويؤخذ النساء والصبيان أسارى وسبياً، فالله عز وجل من على المؤمنين بذلك. {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ} [الأحزاب:26] وهذه قراءة الجمهور: {مِنْ صَيَاصِيهِمْ} [الأحزاب:26]. وقرأ يعقوب: (مِنْ صَيَاصيهُمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ)). و (الرعب): قراءة الجمهور فيها بتسكين العين، وقراءة ابن عامر والكسائي. وأبو جعفر ويعقوب: (الرُّعُبَ) بضم العين. وفي وصل (قلوبهم الرعب) قراءات للقراء، فيقرأ يعقوب: (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمِ الرُّعْبَ) بكسر الهاء والميم على الوصل بالكلمتين. وقرأ الكسائي: (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهُمُ الرُّعُبَ) بضم الهاء والميم وبضم العين أيضاً. وقرأ ابن عامر وأبو جعفر: (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعُبَ)) على قراءة غيرهم أنه بكسر الهاء في قلوبهم، وبضم الميم على الوصل، و (الرعب) بضم العين فيها. وقرأ: (فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعُبَ) حمزة والكسائي وخلف. وباقي القراء: (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهُمُ الرُّعْبَ).

معنى قوله: (وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم)

معنى قوله: (وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم) قال الله سبحانه: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} [الأحزاب:27] الله تبارك وتعالى إذا أراد شيئاً لابد وأن يكون، وكل شيء عنده بمقدار، فالمؤمن يتمنى من الله سبحانه أن ينصر الإسلام والمسلمين، ويتمنى من الله أن يغنم المسلمون أموال الكفار. والله عز وجل له حكمة عظيمة بالغة، دعا النبي صلى الله عليه وسلم في مكة إلى ربه ثلاث عشرة سنة ولا مال للمسلمين، ولا شيء لهم، فقد كانوا فقراء، وكانت الدعوة بطيئة جداً في مكة، كانوا يدعون إلى الله سبحانه تبارك وتعالى والذين يستجيبون هم عدد قليل. هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وكان أهل المدينة كذلك في فقر، والمسلمون جاءوا إلى المدينة فعانوا من الفقر والشدة سنين طويلة، وصبروا على ذلك حتى جاءت بعض الفتوح منها هذا الفتح، فإذا بهم يغنمون في سنة خمس من الهجرة بعد ثماني عشرة سنة من الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، وجاءت الأموال للمسلمين فقال الله سبحانه: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ} [الأحزاب:27] أي: بني قريظة {أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [الأحزاب:27] غنموا كل ذلك، وأخذوا نساءهم وأولادهم سبياً، فالله عز وجل فتح لهم فتحاً من فضله سبحانه وتعالى. {وَأَوْرَثَكُمْ} [الأحزاب:27] وهنا الإرث ما يئول من إنسان إلى إنسان آخر، فاليهود قتلهم الله سبحانه وتعالى، وورث أموالهم للمسلمين، وكذلك ديارهم، هل كان المسلمون يظنون ذلك قبل القتال؟! هم كان يكفيهم أن يرجع الكفرة فقط، بل أكثر من ذلك كاد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطي لمن جاء من غطفان ثلث ثمار المدينة على أن يذهبوا، وعاهد اليهود على أن يكفوا شرهم عن المسلمين، لكن أعلنوا: إنا مع قريش، فإذا بالله سبحانه وتعالى يزلزل الناس وحتى يتبين الجيد من الرديء حتى يظهر الإنسان المؤمن بإيمانه ويظهر الخبيث المنافق بنفاقه، فميز بين الطائفتين وجاء الفتح والفرج من عند الله سبحانه، ورد الكفار جميعهم لم ينالوا خيراً ولا ثمرةً من ثمار المدينة. ثم رجع المسلمون إلى اليهود ليحاسبوهم على غدرهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، فغنموا أراضي اليهود التي لم تكن على بال المسلمين قبل القتال، وغنموا ديارهم وأموالهم ونساءهم وذراريهم.

ما وعد الله به رسوله يوم الأحزاب

ما وعد الله به رسوله يوم الأحزاب ثم من الله عز وجل على المؤمنين ووعدهم أيضاً: {وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} [الأحزاب:27]. أي: سنعطيكم أرضاً لم تطئوها، ولما هاجروا من مكة إلى المدينة منعوا من مكة ولم يستطيعوا أن يرجعوا إلى مكة مرةً ثانية، فالله عز وجل يعدهم وعداً حقاً يقول: {وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} [الأحزاب:27] وهي مكة، فكان هذا الوعد بعد ثلاث سنوات حيث فتح الله عز وجل للمؤمنين مكة فدخلوها ووطئوها وصارت أرضاً للإسلام، ولا هجرة بعد ذلك من مكة إلى المدينة. قال: {وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} [الأحزاب:27] كان ممنوعاً عليكم أن تذهبوا إليها، حتى إنه في الحديبية بعد غزوة الخندق ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة في ألف وخمسمائة من المسلمين، فهم عدد قليل يذهبون ليعتمروا لا يخافون إلا الله سبحانه وتعالى، ثم هم يمنعون وكادوا يقاتلون، ثم إذا بالكفار يتعاهدون مع المسلمين: أن ارجعوا هذا العام، وتعالوا في العام القادم لتدخلوا مكة. فاعتمر النبي صلى الله عليه وسلم عمرة القضية سنة ثمان للهجرة وتوجه إلى مكة، ومعه حوالي خمسمائة فقط، ثم إذا بالله تبارك وتعالى يفتح للنبي صلى الله عليه وسلم مكة في السنة التي تليها، ففي سنة سبع للهجرة دخل عدد قليل مكة وقال لهم المشركون: لكم ثلاثة أيام فقط، ثم بعد ذلك فتحت مكة في السنة الثامنة من الهجرة بفضل الله سبحانه. فهم لم يكونوا يقدرون على أن يطئوها فوصلوها بعد ذلك وصارت أرض إسلام قال تعالى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب:27] يا ترى مكة فقط؟ لا، وإنما دخلوا مكة ثم توجهوا إلى هوازن والطائف، وفتح الله عز وجل لهم بلاداً كان مستعصية عليهم. وقد ذهب النبي صلى الله عليه وسلم قبل هجرته إلى الطائف يدعوهم إلى الله، وكانت قريش قد شددت عليه وآذته حتى خرج وترك مكة ثم توجه إلى الطائف؛ فإذا بهم يقفون له صفين ويرمونه بالحجارة حتى دميت قدماه صلوات الله وسلامه عليه، ثم إذا بالطائف تفتح بعد ذلك، {وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} [الأحزاب:27] فتحت. ولما توجهوا إلى حنين وكانوا في قوة ظن المسلمون أنهم بقوتهم يفتحون هذا المكان فما استطاعوا، ووقف لهم الكفار في الشعاب فرشقوهم بالسهام والرماح، ففروا وتركوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى جاء النصر من عند الله سبحانه، ونزل النبي صلى الله عليه وسلم إلى هؤلاء الكفار يقول: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب) صلوات الله وسلامه عليه، وإذا به ينادي على الأنصار فيأتون إليه، وقبل أن يأتوا جاء النصر من عند الله، وبدأ من مع النبي صلى الله عليه وسلم يأسرون من الكفار بفضل الله ورحمته؛ ليعلم الخلق أن النصر من عند الله سبحانه، قال تعالى: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]. وكان الله على كل شيء مما وعدكم ومما لم يعدكم به قديراً، {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب:27] لا ترد قدرته، ولا يجوز عليه العجز، تعالى الله عما يقول الكافرون علواً كبيراً. ولما جاء الفتح، وجاءت المغانم، وفتحت الدنيا على المسلمين، فإذا بنساء النبي صلى الله عليه وسلم ينظرن إلى المال الطيب ويقلن: أعطنا مما أعطاك الله. وهنا تأتي آيات التأديب لنساء النبي صلوات الله وسلامه عليه، فنساء النبي صلى الله عليه وسلم طاهرات مطهرات، فربنا تبارك وتعالى اختارهن لنبيه صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة. الدنيا لم يطلبها صلوات الله وسلامه عليه، وكان يقول للمؤمنين: (ليس لي من أموالكم ولا من هذه المغانم غير الخمس) ليس لي منها أكثر من ذلك ولو شعرة من بعير، والخمس ماذا سيعمل به رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ يقول: (والخمس مردود عليكم) سأرده عليكم في الضيوف الذين ينزلون علينا وفي الفقراء والمحتاجين، وفي الأرامل واليتامى، والذي يموت وعليه دين فأنا أسدد عنه هذا الدين، فإذا مت أنا فليس لي من المال شيء، ولا لآل محمد ولا لنسائه صلى الله عليه وسلم، بل هو صدقة على المسلمين، قال صلى الله عليه وسلم: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا صدقة) المال الذي نتركه يكون صدقة لا أحد يرث من هذا المال من أهالينا، فلم يمتع النبي صلى الله عليه وسلم بمال في الدنيا صلوات الله وسلامه عليه. فكان نساء النبي عليه الصلاة والسلام يطلبن النفقة والنبي صلى الله عليه وسلم يصبر عليهن، حتى بدأت بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم تغاضبه على النفقة في سؤالها، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يغضب منهن، وينزل القرآن يخيرهن: إما أن تعشن على هذا الوضع الذي عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولكن الآخرة، وإما أن يفارقكن بالمعروف كما سيأتي في الدرس القادم إن شاء الله. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الأحزاب [28 - 29]

تفسير سورة الأحزاب [28 - 29] اختار الله عز وجل لنبيه صلوات الله وسلامه عليه أزواجاً ليكن قدوات لنساء الأمة جمعاء، فاصطفاهن وطهرهن وزكاهن، وكان أعظم تزكية لهن أن خيرهن بين حب الله ورسوله والدار الآخرة وبين حب الدنيا والمال، فكن أعقل النساء وأعظمهن رجاحة وعقلاً حين اخترن الله وصحبة نبيه في الدنيا والآخرة، فكن الأزواج المطهرات والداعيات إلى الله، والمبلغات عن الله ورسوله ما عملن من هذا الدين.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا)

سبب نزول آية التخيير

سبب نزول آية التخيير الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا * يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} [الأحزاب:28 - 31]. لما ذكر الله تبارك وتعالى في الآيات السابقة في هذه السورة كيف نصر المؤمنين على الكفار، وكيف رد الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً، وكيف أنزل الذين ظاهروهم من بني قريظة من صياصيهم وألقى في قلوبهم الرعب، وجعل للمؤمنين أن يقتلوا ويأسروا من هؤلاء، وغنموا مغانم كثيرة في ذلك، ثم بدأت الفتوح من الله عز وجل على المؤمنين فتلاها فتوحات عظيمة، فكان هذا تمهيداً لما جاء بعد ذلك من فتح النبي صلى الله عليه وسلم لمكة، ومن قتال هوازن وحنين ونصر المؤمنين في هذه المواطن، وفتح الله عز وجل الفتوح على النبي صلوات الله وسلامه عليه. لما رأت نساء النبي صلى الله عليه وسلم ذلك -وعادة النساء إذا وجدن الخير أن يطلبنه- طلبن من النبي صلى الله عليه وسلم زيادة النفقة، والنبي صلوات الله وسلامه عليه كان يدخر لأهله قوته ثم ينفق ما زاد عن ذلك على الضيف، وعلى الفقراء والمساكين، وعلى كل من يحتاج، ومن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم من وفود ونحو ذلك. فكأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم غاضبنه وهن يطلبنه مرة وراء مرة، فهجرهن النبي صلى الله عليه وسلم شهراً كاملاً، حتى ظن بعض الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد طلق نساءه. لم يطلقهن عليه الصلاة والسلام ولكنه هجرهن تأديباً لهن، ومقام النبي صلى الله عليه وسلم عظيم، وأيضاً مقام نساء النبي صلى الله عليه وسلم مقام عظيم، فالمقام مقام القدوة، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]. ونساء النبي صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة للمؤمنات، تقتدي كل مؤمنة بنسوة النبي صلوات الله وسلامه عليه، فينبغي أن يترفعن عن طلب الدنيا، وعن طلب الزيادة من المال، وعن النظر إلى حطام الدنيا، فكان من الله سبحانه أن أدب نساء النبي صلوات الله وسلامه عليه حتى يصلحن أن يكن نساءه في الجنة عليه الصلاة والسلام، فكان التأديب بأن هجرهن النبي صلى الله عليه وسلم ثم أنزل الله عز وجل هذه الآية في تخيير نساء النبي عليه الصلاة والسلام.

معنى قوله: (فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا)

معنى قوله: (فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً) قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب:28]. أي إذا كنتن تردن الدنيا ومتاعها وحطامها فإننا سنعطيكن ذلك ونطلقكن طلاقاً جميلاً، والطلاق الجميل: هو طلاق السنة، فيكون إذا استحالت العيشة ما بين الرجل وامرأته أن يطلقها على السنة طلقة واحدة له أن يراجعها فيها. كذلك يمتعها بعد طلاقها سواء كان مفروضاً لها المهر أو ليس مفروضاً لها، فالمتعة على وجه الاستحباب في هذه الحالة. إذاً المعنى: تعالين أمتعكن ما شئتن من مال ثم أطلقكن الطلاق الجميل الذي لا عضل فيه ولا أذى، فتذهب المرأة لحالها وتأخذ متاعها، ولتترك النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إلى ربه صلوات الله وسلامه عليه على ما هو عليه من موضع وضعه الله سبحانه وتعالى فيه. يقول هنا: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} [الأحزاب:28] يعني: أعطيكن متعة الطلاق، وهو المال الذي يعطى للمرأة نفقةً لها بعد طلاقها، وهذا إما أن يكون واجباً إذا كانت المرأة لم تعط مهراً، ولم يفرض لها صداق. فإذا كانت المرأة قد أعطيت الصداق فيكون إعطاء المتعة لها مستحباً لا فرضاً، فقال: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب:28] والتسريح هنا بمعنى: التطليق، وجاء في القرآن لفظ الطلاق ولفظ التسريح، وهما بمعنى واحد، فمن صريح ألفاظ الطلاق كلمة الطلاق، وأيضاً: كلمة التسريح على قول الكثير من أهل العلم. {وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب:28] يعني: على طلاق السنة وليس فيه مغاضبة، ولا أذى، وليس فيه إعضال.

تفسير قوله تعالى: (وإن كنتن تردن الله ورسوله)

تفسير قوله تعالى: (وإن كنتن تردن الله ورسوله) {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ} [الأحزاب:29] إذا أردتن الله سبحانه وتعالى ورسوله صلوات الله وسلامه عليه والدار الآخرة؛ فلا تطلبن الدنيا، ولا متاعها الزائل، ولا حطامها، فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيماً. إذاً: هنا وصلنا إلى درجة الإحسان، فإذا طلبنا الله والرسول عليه الصلاة والسلام وطلبنا الدار الآخرة وصلنا لدرجة الإحسان، والإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. أي: فإذا وصلتن إلى درجة الإحسان فإن لكل محسنة منكن عند الله الأجر العظيم. فهنا جاءت الآية للتخيير بين الدنيا والآخرة، بين البقاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الحال وبين متاع الحياة الدنيا. إذا كنتن تردن الله والدار الآخرة فلا بد من الصبر على أمر الله سبحانه، ولكن عند الله الأجر العظيم.

قصة تخيير النبي لنسائه وهجره لهن

قصة تخيير النبي لنسائه وهجره لهن روى الإمام مسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: (دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد الناس جلوساً ببابه لم يؤذن لأحد منهم، فأذن لـ أبي بكر فدخله، ثم جاء عمر فاستأذن فأذن له، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالساً حوله نساؤه واجماً ساكتاً) صلوات الله وسلامه عليه. إذاً: هنا دخل عمر على النبي صلى الله عليه وسلم فوجد حول النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساكت واجم، هيئته هيئة الغضبان عليه الصلاة والسلام فقال: (والله لأقولن شيئاً أضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم). هذا عمر لقي النبي صلى الله عليه وسلم غضبان حزيناً فقال: سأقول له مقالة أضحكه بها، قال: (فقال: يا رسول الله! لو رأيت بنت خارجة -زوجة عمر - حين سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها؛ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم) يعني: جاء على المقصود والمطلوب، فـ عمر بن الخطاب قال هذه الكلمة ولم يعرف ما هو الأمر، ولكن وافق ما عند النبي صلى الله عليه وسلم، والمقصود من أنه عمر أدبها وضربها رضي الله تبارك وتعالى عنه، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (هن حولي كما ترى يسألنني النفقة) أي: كلهن قاعدات يسألنني النفقة. قال: (فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها) هنا التأديب الآن من أبي بكر لـ عائشة. وقام عمر يضرب حفصة ابنته كلاهما يقول: (تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده؟ فقلن: والله لا نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً أبداً ليس عنده) يعني: لا نطلب منه حاجة ليست عنده، وإنما نطلب من المال الذي عنده. وهنا اعتزلهن النبي صلى الله عليه وسلم شهراً يعني: بعد هذا الأمر قام واعتزلهن النبي صلى الله عليه وسلم في غرفة له صلى الله عليه وسلم مرتفعة، ثم نزلت هذه الآية بعد ذلك: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب:28] فبدأ بـ عائشة فقال: (يا عائشة! إني أريد أن أعرض عليك أمراً أحب أن لا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك). السيدة عائشة تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم في مكة وكان عمرها سبع سنوات، ودخل بها في المدينة صلى الله عليه وسلم وعمرها تسع سنوات، ومات عنها صلى الله عليه وسلم وهي بنت ثماني عشرة سنة. إذاً: كانت صغيرة في غزوة الأحزاب، فقد كانت في سنة خمس من الهجرة، يعني: كان عمرها حوالي أربع عشرة سنة تقريباً. كونه يقول لها صلى الله عليه وسلم: (أخيرك) هنا راعى النبي صلى الله عليه وسلم أنها صغيرة في السن، ممكن يكون فيها نوع من الاندفاع والتهور لا تفهم شيئاً، فلذلك قال لها: أنا سأقول لك شيئاً لا تعجلي فيه واستشيري أبويك في ذلك. فقالت: (وما هو يا رسول الله؟! فتلا عليها هذه الآية) وهنا ظهرت رجاحة عقلها رضي الله عنها، وأنها وإن كانت صغيرة السن لكنها كبيرة في القلب والعلم والعقل رضي الله تبارك وتعالى عنها، فقالت لرسول صلى الله عليه وسلم: (أفيك يا رسول الله أستشير أبوي؟ بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة، وأسألك ألا تخبر أحداً من نسائك). وهذه فرصة لـ عائشة أنها تطلب الدار الآخرة وتريد النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن حظ نفسها أنها لا تريده أن يقول لأحد من نسائه أنها قالت هذا القول، فقال النبي صلوات الله وسلامه عليه: (لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها، إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً، ولكن بعثني معلماً ميسراً) عليه الصلاة والسلام. النبي صلى الله عليه وسلم مقامه مقام عظيم، مقام المعلم، مقام التيسير على الناس، فلا معنى لأن تسأله نساؤه عن قول السيدة عائشة فيكتم عنهن، فالدين ليس فيه أغلوطات، نهينا عن الأغلوطات في المسائل، كأن تطرح المسألة بصورة غلط حتى لا يعرف الصواب، وخاصة إذا كان ذلك في القرآن. فبعض الناس لما يسمع القرآن يتحير عندما يقول له أحد: الآية كذا أو كذا؟ حتى يخبطه في الإجابة فهذا ليس تعليماً، ولكن إن شئت فحفظ الإنسان واسمع منه هذا الذي يقرأ وتسأل وهو يجيب عليك، أما أن تغلطه في الشيء بحيث إنه يقول في القرآن أو في السنة خطأ فهذا لا ينبغي. فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يبعث متعنتاً، ولا معنفاً عليه الصلاة والسلام، وإنما كان بالمؤمنين رءوفاً رحيماً، فقال هنا: (إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً، ولكن بعثني معلماً ميسراً) هذه الرواية هنا. وفي رواية للترمذي أن عائشة رضي الله عنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (إني أريد الله ورسوله والدار الآخرة). ثم مضى على نسائه عليه الصلاة والسلام وكل امرأة من نسائه قالت كما قالت عائشة رضي الله عن الجميع، فاخترن الدار الآخرة، واخترن الله ورسوله، ولم يطلبن شيئاً من الدنيا.

الحكمة من زواج النبي صلى الله عليه وسلم بأكثر من زوجة

الحكمة من زواج النبي صلى الله عليه وسلم بأكثر من زوجة نساء النبي صلى الله عليه وسلم الذي ذكرهن الله عز وجل في القرآن وناداهن: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ} [الأحزاب:30] فأخبرهن فقال: {مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ} [الأحزاب:30]. إذاً: إذا جاءت بالشيء الذي فيه الأجر والثواب فإنه يضاعف لها الأجر والثواب، وإذا جاءت بفاحشة فسيضاعف لها العذاب، فناداهن الله عز وجل: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب:32] ثم قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33]. فالتي تدخل عند النبي صلى الله عليه وسلم تكون طاهرة مطهرة، يريد الله أن يطهرها ويرفع درجتها، لذلك جعل الله عز وجل لنبيه أن يتزوج ما شاء من النساء يكن طاهرات مطهرات، يبلغن دعوة الله تبارك وتعالى التي أمرهن بالتبليغ، فقال: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34]. احتاج النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج عدداً من النساء، فلا تكفي واحدة ولا اثنتان ولا مجموعة من النساء قليلة في تبليغ هذا الدين العظيم، فالله بكرمه تبارك وتعالى نظر إلى مصلحة النبي صلى الله عليه وسلم وإلى مصلحة نساء النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى مصلحة الأمة كلها. النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله، والأحكام التي تنزل منها أحكام تكون ظاهرة فيعلمها الناس، وأحكام تكون خفية فلا يعلمها إلا العدد القليل، وأحكام تأتيه وهو في بيته، وأحكام تأتيه وهو عند الناس، يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم من يسأله في بيته، ولا يمكن لكل الناس أن يأتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقابل الجميع في وقت واحد ليسمعوا منه، فكان نساء النبي صلى الله عليه وسلم يسمعن من باقي الناس، ويجبن بما يحدث عند النبي صلى الله عليه وسلم وبما عرفن من القرآن ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم. النبي صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى نسائه مثل كل إنسان منا، ولو تخيلنا له صلى الله عليه وسلم زوجة واحدة فقط وهو مشغول بالدعوة إلى الله وهي داعية معه؛ فمن سيقوم بحق النبي صلى الله عليه وسلم الواجب عليها في البيت؟ فتخيل لو كنت أنت عندك امرأتك، وأنت رجل عندك عملك وبيتك وواجبك، وزوجتك متفرغة للدعوة، تذهب إلى الجامع الفلاني، وتذهب لتحفظ قرآناً في المدرسة، فهي ليل نهار مشغولة بالدعوة إلى الله، لذلك يقوم الإنسان فيقول لها: أنا أريد حظي ونصيبي، لابد أن يأخذ الإنسان راحته في بيته. فالله بكرمه سبحانه جعل للنبي أن يتزوج ما شاء، فتزوج النبي صلى الله عليه وسلم تسعاً في وقت واحد، فالمرأة التي ليس هو عندها يأتيها من يشاء فيسألها، وتأتيها النساء يسألنها، كل امرأة تحكي مشاكلها فتجد من يجيب عليها، فتكون المرأة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم متفرغة ثمانية أيام، فهو عنده صاحبة القسم، فيقسم بين نسائه صلى الله عليه وسلم، وإذا فرغ من هذا اليوم ذهب إلى الثانية في اليوم الذي بعده. إذاً: هذه في باقي الأيام تدعو إلى الله عز وجل، وتخبر بما أخبر الله عز وجل به، وتذكر ما يحدث في البيوت من أحكام وحكم، فهذا مقام التعليم، فلذلك كانت الواحدة لا تكفي والثنتان لا تكفي، والثلاث لا تكفي، فأباح له الله أن يتزوج ما شاء، فيدعو إلى الله، وتدعو نساء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله سبحانه وتعالى. إذا مات النبي صلى الله عليه وسلم وكانت له امرأة واحدة فربما تنسى أشياء، وكل إنسان معرض للنسيان، فامرأة واحدة لا تكفي في تبليغ هذا الدين العظيم وبكل ما يحدث في أمور النساء، وأمر بيت النبي صلى الله عليه وسلم، الإنسان منا ينسى ماذا عمل أمس، وماذا عمل في أول السنة، فكل منا قد ينسى، فكيف بالمرأة التي هي مشغولة بحال النبي صلى الله عليه وسلم؟! إذا مات عنها النبي صلى الله عليه وسلم وحصل لها من الحيرة والاندهاش والحزن والغم على النبي صلى الله عليه وسلم ربما تنسى أحكاماً كثيرة، فإذا كن نساء كثيرات ذكرت إحداهن الأخرى بهذا الشيء، فاحتاج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يتزوج عدداً من النساء يكون فيهن الخير والدعوة إلى الله سبحانه. وقد عمرن بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، فمنهن التي عاشت حتى سنة خمسين من الهجرة، والتي عاشت حتى سنة ثماني وخمسين من الهجرة، فبعد النبي صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة أو خمسين سنة وهناك امرأة موجودة من نسائه تدعو إلى الله سبحانه، ويسألها الناس، ويحتاج إليها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولعلها الوحيدة تجتهد في أمر من الأمور ويخالفها الباقون، فتكون أخطأت في هذا الشيء، ولو كانت امرأة واحدة فسيؤخذ كلامها على أن هذا كلام نهائي، ولكن لم يكن هذا في واحدة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم. انظروا إلى حادثة من الحوادث مثلاً: السيدة عائشة رضي الله عنها اجتهدت في أمر رضاع الكبير، مع أن الرضيع يفطم بعد سنتين من رضاعه. فهل ممكن أن نرضع من عمره ثلاث سنين أو أربع ويصير ابناً لك إذا أرضعته زوجتك؟ هذا حدث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مع سالم مولى أبي حذيفة حيث صار بالغاً عند أبي حذيفة رضي الله عنه، وبدأ أبو حذيفة يغار منه، وهو الذي تربى في بيته فقد كان عبداً عنده، ثم أعتقه وصار كأنه ابن لـ أبي حذيفة رضي الله عنه. فذهبت امرأة أبي حذيفة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال لها: (أرضعيه حتى يذهب ما في نفس أبي حذيفة) فأرضعته وعمره فوق العشر فصار ابناً له، فجاءت مسألة من المسائل وهي رضاع الكبير، هل هذه القضية خاصة بـ أبي حذيفة فقط أم أنها له ولغيره؟ فأكثر علماء الأمة على أنها لـ أبي حذيفة فقط، فالسيدة عائشة أخذت بأنه ما كان في سالم مولى أبي حذيفة فهو لغيره، فكانت إذا أرادت أن يدخل عليها أحد، تأمر أحداً من أهلها أن يرضعه، وعندئذٍ فمن الممكن أن يدخل على عائشة بهذا الرضاع، وتصير له بمنزلة الخالة من الرضاعة، فاجتهدت في ذلك السيدة عائشة رضي الله عنها. فلو كانت وحدها زوجة للنبي صلى الله عليه وسلم لأخذ هذا الحكم على أنه حكم مسلم به، ولكن نساء النبي صلى الله عليه وسلم الباقيات اعترضن وقلن: لا يدخل علينا أحد بمثل هذا الرضاع، وهذا اجتهاد منك أنت، وقصة سالم مولى أبي حذيفة لا نراها إلا لـ سالم فقط، وليست لغيره. كذلك زواج النبي صلى الله عليه وسلم كان في أول الإسلام حين كان غريباً، فهو بدأ برجل واحد، وهو النبي صلوات الله وسلامه عليه، وكل من في الدنيا كان عليه وضده، ولا بد من بذل أسباب حتى يقرب من الناس ويقرب الناس إليه، فكان من ضمن الأسباب: النكاح، فعند العرب: إذا تزوج الإنسان بامرأة من قبيلة صارت القبيلة كلها أهلاً لهذا الإنسان، فيكون له قوة من الناس، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد نبذه أهله فسيجد من هؤلاء من يكون بينه وبينهم صلة رحم، فيراعون ما بينهم وبينه لأنه متزوج منهم، فيفرحون بذلك ويسمعون منه صلوات الله وسلامه عليه. فعندما يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم من هذه القبيلة وهذه القبيلة فيقرب بعضهم إلى بعض، ويؤاخي بينهم، فتكون قوة لدين الله سبحانه وتعالى. كذلك الزواج كان له أسباب أخرى، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتزوج المرأة ليس لها أحد، تكون مهاجرة في مكان، وزوجها مات في مكان آخر، مثل أم حبيبة بنت أبي سفيان، وهذه أبوها شيخ قريش، وكان من الكفار، وكانت مهاجرة مع زوجها في بلاد الحبشة، فمات زوجها هناك، فهل ترجع إلى أبي سفيان ليعذبها؟ ذهبت إلى المدينة وليس لها أحد، فكان من النبي صلى الله عليه وسلم أن تزوجها ليكون هو وليها صلوات الله وسلامه عليه، ويشرفها صلى الله عليه وسلم بذلك. أمر آخر: أنه لعل قلب أبي سفيان وابنه معاوية يميل إلى الدين، وقد فرح أبو سفيان بنكاح النبي صلى الله عليه وسلم لابنته فرحاً شديداً، وظل هذا في قلبه شيء حتى قبل فتح مكة بشيء يسير، ثم دخل في الإسلام. إذاً: كان هناك حكمة من نكاحه صلى الله عليه وسلم لعدد من النساء. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الأحزاب (تابع1) [28 - 29]

تفسير سورة الأحزاب (تابع1) [28 - 29] من حكمة تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم تبليغهن رضي الله عنهن أحكام الإسلام بعد موته صلى الله عليه وسلم، وهناك حكمة أخرى في ذلك وهي تقوية الرابطة بين النبي صلى الله عليه وسلم وقبائل شتى من العرب، وأمهات المؤمنين هن القدوة الحسنة لنساء المسلمين.

تخيير النبي صلى الله عليه وسلم لنسائه

تخيير النبي صلى الله عليه وسلم لنسائه الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:28 - 29]. يأمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بتخيير نسائه: إن كن يردن الحياة الدنيا وزينتها فيمتعهن النبي صلى الله عليه وسلم ويسرحهن سراحاً جميلاً، وإن كن يردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منهن أجراً عظيماً. فخيرهن النبي صلى الله عليه وسلم فاخترن الله ورسوله، واخترن الدار الآخرة، وتركن الدنيا بما فيها، فكان لهن عند الله عز وجل أعظم الأجر، قال سبحانه: {فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:29]. وقدمنا أن الله سبحانه ربى نبيه صلى الله عليه وسلم أعظم التربية فكان عبداً لله، عبد ربه حق العبودية، وتوجه إلى ربه سبحانه بكل طاعة أمره الله عز وجل بها، وتواضع لربه عليه الصلاة والسلام فاستحق أعظم الدرجات عند الله سبحانه، قال له ربه: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]. فجعل له الله عز وجل يوم القيامة المقام المحمود بعبادته لربه، وبتواضعه لله، وبانصرافه عن الدنيا، كانت تأتيه الدنيا عليه الصلاة والسلام فإذا به ينفق ويخرج المال، وكان يحزن أن يبقى عنده المال أكثر من ليلة، فيصلي بالناس الفجر ثم يهرع إلى بيته عليه الصلاة والسلام، فيتعجب الناس لسرعة النبي صلى الله عليه وسلم في دخول بيته، فيقول: (تذكرت مالاً قد آتانيه الله فهو عندي)، فكان صلى الله عليه وسلم يسرع لينفقه، وليخرجه لمن يستحقونه ويقول: إنه لا يفرح أن يبيت ثلاث ليال وعنده مال يدخره صلى الله عليه وسلم، ولا يحب ذلك بل يصرفه هكذا وهكذا وهكذا، فأنفق هذا المال في كل وجه من وجوه طاعة الله سبحانه وتعالى ولم يبق شيئاً. فهذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام لا يبقي شيئاً من المال عنده، إلا ما يكون من نفقة لنسائه وما عليه من دين، أما غير ذلك فكان ينفق المال كله صلوات الله وسلامه عليه، وكان بلال هو المسئول عن نفقة النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يأمره النبي صلى الله عليه وسلم: (أنفق بلال! ولا تخف من ذي العرش إقلالاً) أي: أنفق يا بلال هذا المال في سبيل الله عز وجل، ولا تخف أن يضيق الله عز وجل علينا، ما كان الله ليضيق علينا سبحانه وتعالى. هذا النبي صلى الله عليه وسلم وهذا كرمه العظيم وتواضعه، وجاء حديث رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أبي هريرة: (جلس جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى السماء) جبريل كان جالساً في يوم مع النبي صلى الله عليه وسلم ونظر جبريل إلى السماء. (فإذا ملك ينزل، فقال جبريل: إن هذا الملك ما نزل منذ خلق قبل الساعة) يعني: أول مرة ينزل فيها هذا الملك من ساعة أن خلقه الله عز وجل. (فلما نزل هذا الملك قال: يا محمد! أرسلني إليك ربك، قال: أملكاً نبياً يجعلك أو عبداً رسولاً؟!) أي: ربنا يخيرك ماذا تحب أن تكون، هل تحب أن تكون ملكاً مثل ما كان داود وسليمان ملكين وتكون نبياً، أم تحب أن تكون عبداً وتكون رسولاً لله سبحانه وتعالى؟ (فقال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: تواضع لربك يا محمد!) صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه استشار جبريل ماذا أختار؟ هل أكون ملكاً نبياً أو أكون عبداً رسولاً؟! فأشار إليه أن تواضع، يعني: كن عبداً لله عز وجل، فتواضع النبي صلى الله عليه وسلم وطلب من ربه أن يكون عبداً رسولاً. تواضع النبي صلى الله عليه وسلم لله عز وجل، فرفعه الله على جميع خلقه أعظم منزلة وأعظم مكانة، فجعل له لواء الحمد يوم القيامة، وجعل له الشفاعة العظمى، وجعل له المقام المحمود، وجعله أول من يهز حلقة الجنة وأول من يدخلها، ولا تفتح الجنة لأحد قبله صلوات الله وسلامه عليه، فهو عندما تواضع لله عز وجل رفعه الله أعظم المنازل. كان يجلس عليه الصلاة والسلام للطعام وللشراب جلسة العبد، ويقول: (إنما أنا عبد أجلس كما يجلس العبد وآكل كما يأكل العبد) صلوات الله وسلامه عليه، فأعظم مراتب النبي صلى الله عليه وسلم منزلة العبودية لربه سبحانه. فهذا النبي الكريم العبد الرسول عليه الصلاة والسلام الذي تواضع لربه هل يعقل أن يكون له من النساء من تطلب هذه الدنيا؟ لا تصلح هذه المرأة أن تكون للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لذلك نزلت الآية تخير هؤلاء: إذا كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فأنتن لا تصلحن للنبي صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} [الأحزاب:28] أي: أدفع لكن المتعة، أعطيكن ما تستمتعن به من مال ونفقة. وقوله تعالى: {وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب:28] أي: أطلقكن طلاقاً جميلاً، أي: طلاق سنة ليس فيه أذى وليس فيه إعضال وليس فيه إمساك مع التأذي، يسرحهن صلى الله عليه وسلم إذا كن يردن الحياة الدنيا وزينتها. وإن كن يردن الله ويردن الرسول عليه الصلاة والسلام ويردن الدار الآخرة، فعليهن أن ينتظرن من الله عز وجل أعظم الأجر، وهو الأجر العظيم الذي يليق بعطاء الله سبحانه وتعالى.

إباحة الله لنبيه أن يتزوج ما شاء

إباحة الله لنبيه أن يتزوج ما شاء ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أباح له ربه سبحانه أن يتزوج ما شاء من النساء، فقال له ربه سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} [الأحزاب:50]. فالله سبحانه وتعالى أحل للنبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج ما شاء من النساء بهذا القيد الذي في هذه الآية، وقال له سبحانه وتعالى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:50]. وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم ودفع المهور، وأحل الله له ذلك. كذلك أباح له الله سبحانه ملك اليمين، أي: ما ملك من سبي، فالله عز وجل أباح له وطأهن بملك اليمين. وملك اليمين شيء والزواج شيء آخر، إنسان يتزوج المرأة فلا يملك منها سوى العشرة، يعيش معها ويملك منها أنه يطأها، لكن ليست أمة عنده يأخذها ويبيعها مثلاً أو يتنازل عنها لغيره؛ لأنه عقد زواج بين الرجل وبين ولي المرأة برضا المرأة وبالشهود وبالإعلام في ذلك، فالإنسان يعيش مع زوجته بالمعروف، فإذا لم تكن هنا عشرة بالمعروف يطلقها، فالنكاح عقد بين الرجل وبين ولي المرأة على أن يستمتع الرجل بهذه المرأة عشرة زوجية معلومة، فهو لا يملك هذه المرأة وإنما يملك الاستمتاع ببضعها. لكن ملك اليمين أن يملك المرأة كما يملك الشيء، فكان العبيد يباعون، تباع المرأة ويباع الرجل فيجوز للرجل أن يشتري الأمة ويجوز له أن يطأها بملك اليمين؛ فيملك أن يبيعها، ويملك أن ينتفع بها، فهي أمة عنده، فأباح الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم ولغيره أن يملك ما شاء من الإماء. كانت الإماء في زمن من الأزمان موجودات، لكن الآن ليس هناك عبيد ولا إماء، فالباقي الآن أن الإنسان يتزوج المرأة بالنكاح الشرعي المعروف. فأباح الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يتزوج ما شاء من النساء وأباح له ملك اليمين، قال تعالى: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ} [الأحزاب:50]، بقيد ليست أي بنات عم، ولا أي بنات خال وإنما: {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} [الأحزاب:50]، فهن لهن فضيلة أن هاجرن مع النبي صلى الله عليه وسلم، والتي لم تهاجر لم يحل الله له أن يتزوجها. فعلى ذلك إن كانت من آل بيته عليه الصلاة والسلام فإنما شرفها بهجرتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فالقيد في بنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك هو أنهن اللاتي هاجرن معك. كذلك أباح له: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب:50]، امرأة مؤمنة جاءت تهب نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم تريد أن تكون زوجة له، والنبي صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فعلى ذلك إذا وهبت امرأة نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم جاز له أن يتزوجها، وجاز له أن يزوجها لأحد من أصحابه عليه الصلاة والسلام، فهو أولى بها من نفسها. فقوله تعالى: {إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا} [الأحزاب:50] هذه الصورة {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50]، فليس لأحد أن يقول: فلانة وهبت نفسها لي، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فهو الذي يجوز له ذلك. والله عز وجل قال: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [الأحزاب:50] {فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} [الأحزاب:50] يعني: أنه لك مثنى وثلاث ورباع ليس لك أكثر من ذلك، وملك اليمين لك أن تطأ ما شئت إن وجد ذلك. قال الله سبحانه: {لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} [الأحزاب:50]، أي: لئلا يكون عليك حرج في هذا النكاح، فرفع الله عز وجل عنه الحرج صلوات الله وسلامه عليه، في أن يقول له أحد: لماذا؟ يقال: يفعل الله ما يشاء، فقد أباح لنبيه صلى الله عليه وسلم ما لم يبح لغيره والتشريع بيد الله، وهذه شريعة الله عز وجل، يبيح ما يشاء ويمنع ما يشاء، ويحل ما يشاء لمن يشاء من عباده، فاختار نبيه صلى الله عليه وسلم وأباح له ذلك. وذكرنا الحكمة أو بعضاً من الحكم في زواج النبي صلى الله عليه وسلم من مجموعة من النساء، وأعظم الحكم في ذلك الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فامرأة واحدة لا تكفي لتبليغ هذه الشريعة، فقد تتعب وقد تمرض، فيحتاج النبي صلى الله عليه وسلم لعدد من النساء يبلغن ما أمر الله عز وجل، قال تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34]، فأمر الله سبحانه نساء النبي صلى الله عليه وسلم بأن يبلغن هذا الدين، ولا تكفي واحدة فاحتاج النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج مجموعة من النساء.

ذكر زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وحياتهن العطرة

ذكر زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وحياتهن العطرة

ذكر نبذة من سيرة أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها

ذكر نبذة من سيرة أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها أول امرأة تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الخامسة والعشرين من عمره، أي: قبل أن ينزل عليه الوحي بخمس عشرة سنة، لأنه نزل عليه وله أربعون سنة صلوات الله وسلامه عليه. ففي سن الخامسة والعشرين تزوج النبي صلى الله عليه وسلم من السيدة خديجة رضي الله تبارك وتعالى عنها، وكانت أكبر من النبي صلى الله عليه وسلم بخمس عشرة سنة، فالسيدة خديجة كان لها أربعون سنة حين تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم، فتزوجها وهو شاب صغير، وهي قد تعدت مرحلة الشباب ودخلت في الكهولة فكانت في سن الأربعين رضي الله تبارك وتعالى عنها، وكانت حكمة من الله تبارك وتعالى أن يتزوج من هذه المرأة الفاضلة الصالحة رضي الله تبارك وتعالى عنها. والسيدة خديجة كانت امرأة غنية وحكيمة رضي الله عنها، وكانت متزوجة قبل النبي صلى الله عليه وسلم. واسمها خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب، فتجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في جده صلوات الله وسلامه عليه، فجدها قصي بن كلاب وهو جد النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً. كانت قبل النبي صلى الله عليه وسلم عند رجل كنيته أبو هالة واسمه زرارة بن النباش من بني أسد، وقبل ذلك كانت عند رجل آخر اسمه عتيق بن عائذ، وولدت منه غلاماً اسمه عبد مناف، وولدت من أبي هالة هند بنت أبي هالة. فالسيدة خديجة تزوجت مرتين قبل النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت صاحبة مال عظيم، وقد تاجر لها وقتاً من الأوقات في مالها عليه الصلاة والسلام فظهرت بركة النبي صلى الله عليه وسلم في مالها، وزاد مالها ونما نمواً عظيماً ببركة عمل النبي صلى الله عليه وسلم فيه، فأحبت النبي صلى الله عليه وسلم فتزوجها صلى الله عليه وسلم، وذهب عمه أبو طالب وخطبها للنبي صلى الله عليه وسلم وفرحت بذلك فرحاً عظيماً. فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم الزوجة الصالحة العظيمة الرءوفة الرحيمة، وكانت له كالأم، وهذه من حكم الله سبحانه أن يتزوج أول ما يتزوج من امرأة تكبره سناً صلوات الله وسلامه عليه بخمس عشرة سنة، فعمره خمس وعشرون سنة، وعمرها أربعون سنة، فلم يتزوج عليها صلوات الله وسلامه عليه حتى توفيت بمكة رضي الله عنها بعد سبع سنوات من بعثته صلوات الله وسلامه عليه، أو عشر سنوات. توفيت السيدة خديجة ولها خمس وستون سنة، أي: مكثت مع النبي صلى الله عليه وسلم خمساً وعشرين سنة، وكل هذا الحين لم يتزوج عليها امرأة أخرى صلوات الله وسلامه عليه. وبعدما بعث مكثت معه في مكة سبع سنوات أو عشر سنوات، ثم توفيت رضي الله تبارك وتعالى عنها، وكان من أعظم البلاء على النبي صلى الله عليه وسلم ومن أعظم أسباب الحزن والهموم موت السيدة خديجة وموت عمه أبي طالب في عام واحد، والاثنان كان بين موتهما أشهر يسيرة فسمي هذا العام بعام الحزن؛ لأنه عام حزن فيه النبي صلى الله عليه وسلم حزناً شديدا ً على وفاة عمه وعلى وفاة السيدة خديجة رضي الله تبارك وتعالى عنها. فعمه أبو طالب كان يدافع عنه عليه الصلاة والسلام، فلم يجرؤ أحد من المشركين أن يؤذيه صلى الله عليه وسلم في حياة عمه أبي طالب، والعجب أنه مات على الكفر، ولله الحكمة العظيمة سبحانه وتعالى أن يموت هذا الرجل الذي دافع عن النبي صلى الله عليه وسلم كافراً. إن السيدة خديجة هي أول امرأة آمنت بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهي أول من دعاها النبي صلى الله عليه وسلم إذ هو في الغار عليه الصلاة والسلام، ويأتيه جبريل فيذهب إلى بيته عليه الصلاة والسلام وهو في غاية الرعب والخوف ويقول: زملوني، زملوني دثروني، دثروني، أخاف أن يكون قد ذهب عقلي، تقول له: لا والله ما ذهب عقلك، وما كان الله ليصنع بك ذلك، وإنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتعين على نوائب الحق، وتقري الضيف. فهي أول من آمن بالنبي صلوات الله وسلامه عليه، وتذهب إلى ابن عمها ورقة بن نوفل وتحدثه عن النبي صلى الله عليه وسلم وما حدث له وتقول: أخبر ورقة بذلك فيحدثه فيقول: إنه الناموس الذي جاء موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام. هذه السيدة خديجة المرأة الحكيمة العاقلة رضي الله تبارك وتعالى عنها، مكثت مع النبي صلى الله عليه وسلم عمراً طويلاً، وهو يدعو إلى الله سبحانه وتعالى وأعانته على ذلك بمالها وبنفسها، فقد كانت تعطف على النبي صلى الله عليه وسلم، وعرف لها ربها فضلها، فنزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: (بشر خديجة ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب) والقصب هو اللؤلؤ، أي: ببيت من لؤلؤ. وقوله: (لا صخب فيه ولا نصب) أي: لا تسمع فيه صراخاً ولا صياحاً، وكم سمعت من الكفار وهم يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم وكم ترحمت عليه صلى الله عليه وسلم مما يفعله به هؤلاء، فقد رحمت النبي صلى الله عليه وسلم وواسته ووقفت بجواره رضي الله تبارك وتعالى عنها، فبشرها الله عز وجل لصبرها على إزعاج هؤلاء المشركين في الدنيا، ببيت في الجنة من لؤلؤ، لا صخب فيه ولا نصب، ولا تعب بعد هذه الدنيا، فالنبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الجنة له عند الله المنزلة العظيمة، وهي زوجته في الدنيا وفي الآخرة رضي الله تبارك وتعالى عنها. ماتت السيدة خديجة بمكة، ودفنت بالحجون، وهي مقبرة موجودة في مكة، دفنت هنالك ولم يصل عليها، إذ لم يكن قد فرضت الصلاة على الجنازة في هذا الوقت، فخرج بها من بيتها ودفنها النبي صلى الله عليه وسلم، ونزل في حفرتها عليه الصلاة والسلام، ليكون في الأرض التي دفنت فيها أثر بركة النبي صلى الله عليه وسلم. ثم تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاتها عدداً من النساء كما سنعرف بعد ذلك.

ذكر نبذة من حياة أم المؤمنين سودة بنت زمعة رضي الله عنها

ذكر نبذة من حياة أم المؤمنين سودة بنت زمعة رضي الله عنها من نساء النبي صلى الله عليه وسلم السيدة: سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس العامرية، ونلاحظ أن السيدة خديجة كانت من بني أسد، وسودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس من بني عامر، وذكرنا في الحديث السابق أن نكاح النبي صلى الله عليه وسلم للنساء من قبائل شتى مما يقوي رابطته بهذه القبائل، فكلهم ينتمون إلى النبي صلى الله عليه وسلم بسبب ذلك، ويقوى دين الله سبحانه وتعالى، وهذه حكمة أخرى من الله عز وجل. والسيدة خديجة ذكرنا أنها أول من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكل أولاد النبي صلى الله عليه وسلم منها ما عدا واحداً، وهو إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم من مارية القبطية المصرية. يقول هنا الإمام القرطبي: (ومنهن السيدة سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس العامرية، أسلمت قديماً وبايعت النبي صلى الله عليه وسلم) إسلامها كان قديماً وكانت متزوجة من ابن عم لها اسمه سكران بن عمر وأسلم أيضاً، وهاجروا جميعاً إلى الحبشة في الهجرة الثانية، فلما قدم زوجها مكة بعد الهجرة الثانية مات، وقيل: مات في الحبشة، فخطبها النبي صلى الله عليه وسلم بعدما حلت من زوجها وتزوجها، ودخل بها في مكة. أيضاً السيدة عائشة تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، لكن لم يدخل بها في مكة، وإنما دخل بها بعد سنتين في المدينة صلوات الله وسلامه عليه. هاجر النبي صلى الله عليه وسلم بالسيدة سودة إلى المدينة، والسيدة سودة كانت أكبر نساء النبي صلى الله عليه وسلم سناً، فلما كبرت في السن واستشعرت أن النبي صلى الله عليه وسلم لا حاجة له فيها طلبت منه أن يبقيها، أي: لا يطلقها ولا يفارقها؛ لأنها لا تحتاج أن يكون لها زوج للنكاح ولا للوطء، فتنازلت عن يومها للسيدة عائشة رضي الله عنها، وقالت: أريد أن أكون زوجتك في الجنة، فكان الأمر على ما طلبت رضي الله تبارك وتعالى عنها، وأمسكها النبي صلى الله عليه وسلم، وتوفيت بالمدينة رضي الله عنها في شوال سنة 54هـ، أي: عمرت طويلاً رضي الله تبارك وتعالى عنها، فوفاتها بعد النبي صلى الله عليه وسلم بأربع وأربعين سنة. فهذه حكمة من الله عز وجل أن يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم مجموعة من النساء، فقد عاشت سودة رضي الله عنها حتى عام 54هـ، يا ترى كم من حديث حدثت به حتى ماتت في سنة 54هـ، وهي واحدة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم، والباقيات من نساء النبي صلى الله عليه وسلم كل واحدة منهن كم حديثاً حدثت، وكم حكماً من الأحكام الشرعية بلغته، فاستفاد المسلمون من تعليم نساء النبي صلى الله عليه وسلم لهم.

ذكر نبذة من حياة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها

ذكر نبذة من حياة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ثالث امرأة من نسائه عليه الصلاة والسلام: السيدة عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها، وكان سيتزوجها رجل آخر غير النبي صلى الله عليه وسلم وهو جبير بن مطعم، وقد كان أبوه المطعم بن عدي من كبار أهل مكة، وأراد أن يزوج ابنه جبير بن مطعم من السيدة عائشة رضي الله عنها، فخطبها النبي صلى الله عليه وسلم. وكان زواج النبي صلى الله عليه وسلم من السيدة عائشة بعد أن جاءه جبريل وأراه خرقة من حرير فيها صورة السيدة عائشة وقال: هذه زوجتك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يوم ذاك متزوجاً من السيدة سودة، والسيدة عائشة ما زالت صغيرة وعمرها سبع سنوات، فجاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره أن عائشة ستكون زوجته، وهذا إخبار وإعلام من الله عز وجل أنه سيتزوجها. وفعلاً طلبها من أبي بكر الصديق، فـ أبو بكر الصديق قال للنبي صلى الله عليه وسلم: دعني أسلها من جبير، فكأنه تفاوض مع جبير ومع أبيه على أمر الإسلام أو غير ذلك، فلما بقوا على ذلك انسحب جبير ورفض الزواج من السيدة عائشة، فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم، وعقد بها ولها سبع سنوات، لكن لم يدخل بها إلا بعد أن جاوزت التسع سنوات وهي في المدينة.

تفسير سورة الأحزاب (تابع2) [28 - 29]

تفسير سورة الأحزاب (تابع2) [28 - 29] أحل الله تعالى لنبيه أن يتزوج ما يشاء من النساء، وهذا من خصوصيات النبي صلى الله عليه وسلم، والحكمة من تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم نقل التشريع الإسلامي إلى الأمة، وهذا ما ظهر جلياً من تتبع استنباط الأحكام الشرعية من زواجه بأمهات المؤمنين ومعاملته معهن.

اختصاص النبي بالزواج بأكثر من أربع

اختصاص النبي بالزواج بأكثر من أربع

اختصاصه صلى الله عليه وسلم بالزواج من أكثر من أربع

اختصاصه صلى الله عليه وسلم بالزواج من أكثر من أربع الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:28 - 29]. الله سبحانه وتعالى أباح للنبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج من النساء ما شاء، فليس مقيداً بعدد كغيره من المؤمنين، قال سبحانه: {قََدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} [الأحزاب:50] أي: لكيلا يكون على النبي صلى الله عليه وسلم حرج في ذلك ((قََدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ)) أن يتزوجوا مثنى وثلاث ورباع وليس للرجل أن يزيد على ذلك. ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قد أحل الله عز وجل له أن يتزوج ما شاء من النساء، قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:50]. فالله فرض على المؤمنين أشياء معينة، ورخص لهم في أشياء أخر، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فاختصه الله عز وجل بأشياء منها: أن له أن يتزوج ما زاد عن الأربع، فقد أباح له ذلك سبحانه وتعالى. وله حكم، فمن ضمنها: أن كثرة عدد النساء يبلغن عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يأتيه من عند ربه من أحكام شرعية فتقص كل واحدة منهن ما حدث مع النبي صلى الله عليه وسلم فيما بينها وبينه من أشياء فيها أحكام يستفيد بها الخلق. فلو كانت امرأة واحدة ما قدرت على تبليغ هذا الدين العظيم كله وأحكام النساء كثيرة، فمنها أحكام الحيض والنفاس وأحكام الطلاق، وأحكام الخلع، وأحكام إرجاع الرجل امرأته، وأشياء كثيرة تكون المرأة بحاجة إليها فتذهب وتسأل النبي صلى الله عليه وسلم.

الأحكام المستفادة من حياة النبي مع أزواجه

الأحكام المستفادة من حياة النبي مع أزواجه

كيفية إتباع المرأة الحيض بفرصة ممسكة

كيفية إتباع المرأة الحيض بفرصة ممسكة وقد تستحي المرأة أن تسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فتسأل نساءه فيعلمنها، وقد تتجرأ المرأة وتسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء يستحي هو منه صلوات الله وسلامه عليه، كما ذهبت امرأة تسأل النبي صلى الله عليه وسلم أنها طهرت من الحيض فكيف تصنع؟ فالنبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تتبع أثر الدم، قال: (خذي فرصة ممسكة فتتبعي أثر الدم). فالمرأة قالت: كيف أصنع؟ فاستحيا النبي صلى الله عليه وسلم من سؤالها فقال: سبحان الله! خذي فرصة ممسكة فتتبعي بها أثر الدم، فإحدى نساء النبي صلى الله عليه وسلم كانت موجودة فأخذتها وذهبت بها وقالت: اصنعي كذا وكذا. فهنالك من الأشياء ما يستحي النبي صلى الله عليه وسلم أن يتكلم بها بصريح العبارة، ولكن المرأة لا تستحي أن تقول للمرأة: اصنعي كذا وكذا، فلو كانت امرأة واحدة للنبي صلى الله عليه وسلم فلا تكفي أن تبلغ أحكاماً كثيرة، فكم من صحابيات يأتين من المدينة ومن خارجها فيسألن؟ فإذا كان عدد المسلمين في حجة الوداع مائة وثلاثين ألفاً فهو يبلغهم والصحابة يعلمونهم، ولكن الأحكام التي تتعلق بالنساء وبأحكام البيت والعشرة الزوجية وأحكام كثيرة يحتاج كل إنسان أن يعرفها ويتعلمها.

الطلاق والرجعة

الطلاق والرجعة فمن الأحكام الطلاق، وهو: أن يطلق الرجل امرأته، فلو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطلق إحدى زوجاته لكان يوجد على الإنسان حرج في نفسه إذا أراد أن يطلق فيقول: كيف أطلق ولم يفعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم؟ فإن طلق النبي صلى الله عليه وسلم إحدى زوجاته، فلو كانت امرأة واحدة فإن كل الأحكام ستحصل في المرأة الواحدة، وهذا صعب جداً أن يكون، لذلك آذت النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه فلما اشتد الأمر به صلى الله عليه وسلم طلق إحداهن وهي السيدة حفصة رضي الله تبارك وتعالى عنها ثم أرجعها. فهذا حكم من الأحكام، وهو أن الرجل الفاضل قد يطلق امرأته ويكون الخطأ منها وليس منه، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع السيدة حفصة رضي الله عنها.

حكم حيض المرأة المحرمة

حكم حيض المرأة المحرمة وقد يحج الإنسان ومعه امرأته تحيض ويحتار ماذا يفعل؟ فالسيدة عائشة سافرت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الحج وحاضت في سرف ولم تعتمر، إلا أنها أدخلت عمرتها على حجها وصارت قارنة بعدما كانت مفردة، ثم أعمرها النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك من التنعيم. فهذا الحكم الجديد من الأحكام عرفناه بسبب زواج النبي صلى الله عليه وسلم من أكثر من امرأة. فهنالك أمور كثيرة تعلقت بنساء النبي صلى الله عليه وسلم عرفنا منها أحكاماً عظيمة في العشرة الزوجية بين النبي صلى الله عليه وسلم مع نسائه. وقد يتزوج الإنسان اثنتين فيجد بيته جحيماً، هذه تؤذيه بشيء وتلك تؤذيه بشيء آخر، فيظن أنه صابر عليهما فيعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع في وقت واحد تسع نسوة، وكانت نساء النبي صلى الله عليه وسلم عندهن غيرة من بعضهن البعض، وقد تصل إلى حد مضايقة النبي صلى الله عليه وسلم.

العدل بين الزوجات

العدل بين الزوجات امرأة من نساءه ترسل إليه في بيت السيدة عائشة رضي الله عنها بصحفة فيها طعام، فإذا بالسيدة عائشة تضرب الصحن وتقلبه فينكسر وينقلب الطعام. فهذا حكم من الأحكام كيف سيتصرف النبي صلى الله عليه وسلم فيه؟ بل كيف ترمي نعمة الله على الأرض؟ فالنبي صلى الله عليه وسلم يغتفر لها الغيرة في ذلك؛ لأن غيرة المرأة تدفعها إلى أنها لا تفكر فيغتفر منها ذلك، ولكن يعاقبها لأنها كسرت الصحن بأن ترسل إليها بصحنها. فعرفنا من فعل النبي صلى الله عليه وسلم صبره على غيرة امرأته، وعدله صلى الله عليه وسلم في الصحن الذي انكسر بأن تدفع صحناً مكانه، فإن من أتلف شيئاً فعليه أن يصلحه. ومسند الإمام أحمد وغيره من كتب السنة فيها أحكام كثيرة روتها نساء النبي صلى الله عليه وسلم يتعلم الناس منها الكثير من أفعاله في داخل بيته عليه الصلاة والسلام. ولذلك كان كبار الصحابة عندما يسألون عن أشياء تتعلق ببيت النبي صلى الله عليه وسلم أو تتعلق بأحكام النساء يرسلون إلى نساء النبي صلى الله عليه وسلم ليتعلموا منهن ذلك.

الأحكام المأخوذة من زواجه بالسيدة خديجة

الأحكام المأخوذة من زواجه بالسيدة خديجة فأول زوجة تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بها هي السيدة خديجة رضي الله تبارك وتعالى عنها، وكان أولاده كلهم منها، ثم تزوج الثانية وهي السيدة سودة، وذلك بعد وفاة السيدة خديجة، فقد عاشت مع النبي صلى الله عليه وسلم فترة طويلة، تزوجها ولها أربعون سنة، وتوفيت ولها خمس وستون سنة رضي الله تبارك وتعالى عنها، فمكثت مع النبي صلى الله عليه وسلم خمساً وعشرين عاماً ودفنت بمكة. والعام الذي توفيت فيه السيدة خديجة هو العام الذي توفي فيه عم النبي صلى الله عليه وسلم أبو طالب فكان يسمى هذا العام بعام الحزن، فإذا بالكفار يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم ويكيدون له كيداً لم يكونوا يصنعونه في حياة عمه أبي طالب وزوجته السيدة خديجة رضي الله تبارك وتعالى عنها. والسيدة خديجة امتازت بأنها وحدها التي كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم خلال خمس وعشرين سنة، فلم يتزوج عليها صلوات الله وسلامه عليه، فقد عرف لها فضلها عليه الصلاة والسلام، لأنها راعت النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت له زوجة وأماً وكانت تصنع كل شيء في بيته لتريح النبي صلى الله عليه وسلم. ولقد خلفت للنبي صلى الله عليه وسلم بناتاً وبنين عليه الصلاة والسلام، البنات عشن بعد السيدة خديجة رضي الله تبارك وتعالى عنها. ومات أولاده كلهم في حياته صلى الله عليه وسلم ما عدا السيدة فاطمة رضي الله تبارك وتعالى عنها. ومن خصائص السيدة خديجة أن الله عز وجل بشرها ببيت في الجنة من قصب، ومن لؤلؤ لا صخب فيه ولا نصب، وكانت من سيدات نساء الجنة، وابنتها السيدة فاطمة رضي الله عنها من سيدات نساء الجنة، فالنبي صلى الله عليه وسلم سيد الخلق عليه الصلاة والسلام، وامرأته سيدة النساء وابنته كذلك، وهذا شيء عظيم جداً من فضل الله سبحانه تبارك وتعالى. وأولاده صلى الله عليه وسلم كانوا كلهم من السيدة خديجة رضي الله عنها، ولم يكن من نسائه أولاد غيرها رضي الله عنها، وابتلاه الله عز وجل ابتلاء عظيماً جداً، وهو أن كل أولاده ماتوا في حياته صلوات الله وسلامه عليه ما عدا السيدة فاطمة، لكي يتسلى المسلم بما حدث للنبي صلى الله عليه وسلم عندما يموت له الولد فلا يجزع، بل يتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم حينما مات أولاده وصبر عليهم صبراً عظيماً صلوات الله وسلامه عليه، ففي غزوة بدر ماتت ابنة النبي صلى الله عليه وسلم وكتم عن المسلمين ذلك حتى لا يضيع عليهم فرحتهم بالنصر، فقد بلغه وفاة ابنته ولم يحضرها صلى الله عليه وسلم، وإنما جعل زوجها معها في المدينة ليقوم بأمرها، ورجع النبي صلى الله عليه وسلم ولم يضيع على الناس فرحتهم بالنصر في يوم بدر بحزنه الخاص صلوات الله وسلامه عليه. فانظروا كيف كان مع الناس في نصرهم وأظهر لهم الفرح بذلك وفي داخله الحزن على وفاة ابنته صلوات الله وسلامه عليه. ومكث فترة طويلة جداً صلى الله عليه وسلم، ولم تنجب واحدة من نسائه، وربنا ذكر ذلك: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب:40] أي: لم يكن له ولد، لو كان له ولد لكان نبياً بعده صلى الله عليه وسلم، وهو القائل: (لا نبي بعدي) إذاً لا يمكن أن يعيش له ولد صلوات الله وسلامه عليه. وفي آخر حياته يرزقه الله سبحانه وتعالى من أمة عنده وهي مارية القبطية التي أهداها له المقوقس عظيم مصر، ووطأها بملك اليمين عليه الصلاة والسلام فكان له منها إبراهيم ابن النبي صلوات الله وسلامه عليه. فلو عاش لكان من الأنبياء ولكن مات وله من العمر سنتان وهو في الفطام، مات ابن النبي صلوات الله وسلامه عليه قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بعدة أشهر ليبتليه الله سبحانه وتعالى، وليعلم صبره، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في آخر العمر، وتوفي وله ثلاث وستون سنة عليه الصلاة والسلام. في هذا السن الكبير يرزقه الله سبحانه وتعالى ولداً صغيراً عمره سنتان، وهذا أحب ما يكون إلى الأب، ثم يبتليه الله عز وجل بأعظم بلاء بأن يموت ابنه الوحيد، فيصبر عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وتسيل عيناه دموعاً ويقول: (إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون) وتخسف الشمس في هذا اليوم فإذا بالناس يقولون: خسفت الشمس لموت إبراهيم عليه السلام، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة). فلا يمنعه حزنه صلى الله عليه وسلم أن يبلغ حكماً من الأحكام الشرعية في الحال، فلا يجوز له صلى الله عليه وسلم أن يؤخر البيان عن وقت الحاجة، فالشمس لم تكسف لموت إبراهيم ولا لحياة أحد ولا لموته، إنما هذه آية من آيات الله، فإذا حدث ذلك فافزعوا إلى الصلاة. فزاوج النبي صلى الله عليه وسلم بالسيدة خديجة أنجب منها الولد وماتوا في حياته عليه الصلاة والسلام. وتزوج غيرها فمنع من الولد صلوات الله وسلامه عليه، وهكذا يصبر الإنسان إذا تزوج امرأة وكانت لا تنجب فهذا الشيء ابتلاء من الله عز وجل، ويتذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج مجموعة من النساء، ولم تنجب له واحدة منهن، وقد تكون الواحدة منهن أنجبت لزوجها قبل النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الكثيرات منهن كن متزوجات قبل ذلك وأنجبن لأزواجهن ولكن مع النبي صلى الله عليه وسلم لم يحصل ذلك إلا مارية فقد كانت أمة عنده فوطئها فأتت بولد ثم مات بعد ذلك، فصبر النبي صلى الله عليه وسلم وضرب لنا المثل العظيم والأسوة الحسنة في الصبر على أمر الله وعلى قضائه وقدره سبحانه وتعالى.

الأحكام المأخوذة من زواجه بالسيدة سودة بنت زمعة

الأحكام المأخوذة من زواجه بالسيدة سودة بنت زمعة والسيدة سودة بنت زمعة أسلمت قديماً رضي الله عنها وبايعت النبي صلى الله عليه وسلم، وهاجرت إلى الحبشة مع زوجها فتوفي هنالك، ثم رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة الثانية، فهاجر بها إلى المدينة، فقد كانت معه في مكة عليه الصلاة والسلام ودخل بها هنالك، وهي التي وهبت يومها للسيدة عائشة رضي الله تبارك وتعالى عنها، لأجل أن تكون زوجته في الجنة، أما في الدنيا فهي لا تريد الوطء؛ لأنها كانت كبيرة في السن. فقالت: يا رسول الله، يومي لـ عائشة. ففيه الإيثار وحب ما يحبه الحبيب، فهو صلوات الله وسلامه عليه حبيبها، وهي تحبه وتعلم أنه يحب عائشة أكثر منها، وحب القلوب لا يملكه الإنسان، والحب ميل في القلب يحركه الله عز وجل كما يشاء تبارك وتعالى، فقد علمت أن أحب نساء النبي صلى الله عليه وسلم إليه السيدة خديجة ثم السيدة عائشة رضي الله تبارك وتعالى عنهما، فهي تحب ما يحبه صلى الله عليه وسلم. فهذا إيثار عظيم جداً من زوجة من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، فتتعلم المرأة المسلمة كيف تصبر إذا كان زوجها قد تزوج عليها بضرة كما صبرت نساء النبي صلى الله عليه وسلم ففيهن الأسوة الحسنة والقدوة العظيمة. وتوفيت السيدة سودة في سنة أربع وخمسين، يعني بعد النبي صلى الله عليه وسلم بأربع وأربعين سنة، فقد عاشت تبلغ أحكاماً شرعية ثم توفيت رضي الله تبارك وتعالى عنها.

الأحكام المأخوذة من زواجه بالسيدة عائشة

الأحكام المأخوذة من زواجه بالسيدة عائشة والسيدة عائشة رضي الله عنها هي الصديقة بنت الصديق التي نزل فيها آيات من سورة النور يبرئها الله سبحانه مما رماها به أهل الكذب والإفك والنفاق، لعنة الله على من رماها واستمر على ذلك حتى قبضه الله منافقاً، أما من تاب من المؤمنين فقد حد الحد وانتهى أمره بهذا الشيء. والسيدة عائشة كانت أحب نساء النبي صلى الله عليه وسلم إليه، وذكر في فضلها أن: (فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)، ولكن لم يذكر أنها من سيدات نساء الجنة، إنما ذكر السيدة خديجة والسيدة فاطمة رضي الله تبارك وتعالى عنهما. والسيدة عائشة تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ودخل بها في المدينة، ففيه من الأحكام أنه يجوز أن يكون بين العقد وبين الزفاف فترة زمنية، وقد كان بين عقده ودخوله بها سنتان. كما يجوز للمسلم أن يعقد على زوجته ويدخل بها في الليلة التي عقد فيها، فجواز إطالة الفترة بين العقد وبين الدخول، مأخوذ من زواجه بالسيدة عائشة. وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم عنها ولها ثمان عشرة سنة ولم يتزوج بكراً غيرها، وقد دخل بها ولها تسع سنوات، وهي الوحيدة التي لم تتزوج قبله صلى الله عليه وسلم، وقد كان يريد أن يخطبها جبير بن مطعم، فتفاوض مع سيدنا أبي بكر الصديق في شيء فرفض الرجل فتركه أبو بكر رضي الله عنه وانحلت الخطبة بذلك وتزوجها النبي صلوات الله وسلامه عليه. وماتت السيدة عائشة رضي الله عنها سنة تسع وخمسين أو ثمان وخمسين من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، إذاً فقد عاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم ثمانياً وأربعين سنة، وقد كانت تقص وتحكي وتذكر أحكاماً شرعية وتعلم من يسألها من الناس، وهي الحافظة العظيمة الماهرة بهذا الأمر العظيم أمر دين الله سبحانه، فلقد بلغت أحكاماً عظيمة كثيرة.

الأحكام المأخوذة من زواجه بالسيدة حفصة

الأحكام المأخوذة من زواجه بالسيدة حفصة ومن نساء النبي صلى الله عليه وسلم السيدة حفصة بنت عمر بن الخطاب القرشية العدوية رضي الله تبارك وتعالى عنها، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد أن توفي عنها زوجها. فـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه عرضها على أبي بكر الصديق رضي الله تبارك وتعالى عنه، ثم عرضها على عثمان بن عفان رضي الله عنه. ففيها أن الرجل الفاضل قد يعرض ابنته الفاضلة على أهل الفضل، كالسيدة حفصة رضي الله عنها كانت لها المنزلة ولها المكانة وعندها جمال رضي الله عنها، وأبوها عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يخاف على ابنته الفتنة، فعرضها على أبي بكر الصديق وقال له: إن كنت ترغب أن تنكح فانكح حفصة، فـ أبو بكر الصديق سكت رضي الله تبارك وتعالى عنه، وكذلك عرضها على عثمان بن عفان فرد عليه بقوله: ليست لي حاجة في النكاح. فـ عمر كأنه وجد على أبي بكر حين لم يرد عليه فكأنه حصل في نفسه حزن، ثم حدث بعد ذلك أن خطبها النبي صلى الله عليه وسلم وتزوجها، فقال أبو بكر لـ عمر: لعلك وجدت علي عندما لم أرد عليك؟ قال: نعم، -فقد كانوا أهل صدق رضي الله تبارك وتعالى عنهم- قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرها فلو تركها لتزوجتها، ولا يمكن أن أفشي لك سر النبي صلى الله عليه وسلم لأنه ذكرها، فقد يمكن ألا يتزوجها. فـ أبو بكر حمو النبي صلى الله عليه وسلم، وعائشة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم. ونتعلم من نكاح النبي صلى الله عليه وسلم بعديد من النساء كيف تكون أخلاق الأحماء، فـ أبو بكر حمو للنبي صلى الله عليه وسلم وهو صديقه ووزيره رضي الله تبارك وتعالى عنه، ففيه الأدب الشرعي الذي علمهم به الإسلام العظيم، وهو أن الإنسان يتكلم بالحق وبالعدل، وأن حق النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج أكثر من امرأة كما جعل الله عز وجل ذلك له، فـ أبو بكر الصديق يرضى بهذا الشيء ويقول لـ عمر بن الخطاب: إن ابنتك لو لم يتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم لكنت أنا تزوجتها. والسيدة حفصة رضي الله تبارك وتعالى عنها كانت امرأة عظيمة فاضلة لها جمال وأبوها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكان نساء النبي صلى الله عليه وسلم يحدث بينهن نوع من الغيرة كما يحدث بين الضرائر، فالسيدة حفصة كانت واحدة من اللاتي غيرتهن شديدة،، فلما زاد ذلك منها غضب النبي صلى الله عليه وسلم فطلقها. وكان عمر يذهب ليؤدب ابنته عند النبي صلى الله عليه وسلم يقول لها: لا تسألي رسول الله صلى الله عليه وسلم مالاً، سليني من مالي ما شئت، ولا تؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يوبخها بكلام شديد جداً فيقول لها: إنما تزوجك النبي صلى الله عليه وسلم من أجلي، وليس من أجل جمالك -وهذا القول يكسر نفس المرأة- والزمي حدك وإلا طلقك النبي صلى الله عليه وسلم. فلما طلقها النبي صلى الله عليه وسلم لم يعمل عمر شيئاً رضي الله تبارك وتعالى عنه، إنما جاء جبريل من عند رب العالمين سبحانه وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: راجعها إنها صوامة قوامة، أي: أن لها فضيلة أخرى، فهي كثيرة الصيام والقيام والله عز وجل راض عنها، فهي زوجة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة. فتتعلم المرأة من ذلك أنها إذا كانت ترضي ربها سبحانه وتعالى فالله لا يتخلى عنها أبداً. فنتعلم من طلاق النبي صلى الله عليه وسلم للسيدة حفصة لما ضايقته صلى الله عليه وسلم في شيء أن الله عز وجل عرف لها فضل قيامها وفضل صيامها، فنزل جبريل فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: راجع حفصة فإنها صوامة قوامة. وفيه جواز أن يطلق الرجل امرأته إذا أغضبته، وفيه أنه يراجع نفسه وينظر إلى مزاياها وإلى فضائلها، فإذا كانت مطيعة لله سبحانه صبر عليها وارتجعها. توفيت رضي الله تبارك وتعالى عنها في شعبان من سنة خمس وأربعين من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، فمكثت بعد النبي صلى الله عليه وسلم خمساً وثلاثين سنة تبلغ دين ربها، وماتت ولها ستون سنة، ولما توفي النبي صلى الله عليه وسلم عنها كانت قد جاوزت الخمس والعشرين سنة رضي الله عنها فمكثت بعده خمسة وثلاثين سنة، ثم توفيت رضي الله تبارك وتعالى عنها.

الأحكام المأخوذة من زواجه بالسيدة أم سلمة

الأحكام المأخوذة من زواجه بالسيدة أم سلمة ومن نساء النبي صلى الله عليه وسلم السيدة أم سلمة، واسمها هند بنت أبي أمية المخزومية، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة أربع من هجرته عليه الصلاة والسلام. وكانت السيدة أم سلمة زوجة لـ أبي سلمة وهو أحد الصحابة الأفاضل المهاجرين رضي الله تبارك وتعالى عنه، وكانت له فضيلة، فلقد صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وحضر جنازته ونهى النساء أن ينحن عليه رضي الله تبارك وتعالى عنه، فقال: (لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة تؤمن على ما تقولون) ودفن أبو سلمة رضي الله عنه وكان لـ أم سلمة خير الرجال وكانت لا تعرف من هو خير من أبي سلمة رضي الله عنها، فعلمها النبي صلى الله عليه وسلم دعاء تدعو به في هذه المصيبة وتقول: (اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها. قالت: من خير من أبي سلمة؟) ليس على بالها أبداً أن يتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد أبي سلمة فكانت تقول ما قاله صلوات الله وسلامه عليه. فالبركة في طاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وكم من أناس لم يقولوا ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم. أرأيتم الرجل الذي كان غضبان فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني أعلم كلمة لو قالها هذا لذهب عنه ما فيه. قالوا: وما هي؟ قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، فقالوا له: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. قال: أمجنون أنا؟ أي: لست مجنوناً حتى أقول هذا الكلام، فرفض أن يقول ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم. لكن - أم سلمة - استجابت للنبي صلى الله عليه وسلم وقالت: اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يخطبها بعد ذلك ويتزوجها وتصير من نساء النبي صلوات الله وسلامه عليه في الدنيا وفي الآخرة. وكان للسيدة أم سلمة أطفال صغار، منهم عمر بن أبي سلمة رضي الله تبارك وتعالى عنهما، وزينب بنت أبي سلمة رضي الله تبارك وتعالى عنها، وكانت زينب طفلة صغيرة، وكانت تبيت مع أمها في غرفة واحدة في بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يأتي امرأته فصبر على ذلك لطيبة خلقه صلى الله عليه وسلم وحسن أدبه عليه الصلاة والسلام، فقد صبر ليلة أو ليلتين، إلى أن انتبه عمار بن ياسر رضي الله تبارك وتعالى عنه وكان قريباً لها فدخل يزورها فوجد عندها هذه البنت فقال: أهذه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأخذها رضي الله عنه وذهب بها إلى أهله، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم أهله عليه الصلاة والسلام. ففي هذا الأمر أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج المرأة ومعها ابنتها وهذا من رحمته صلى الله عليه وسلم بالاثنين وإن جنى على نفسه عليه الصلاة والسلام، فليس مهماً أن يأتي امرأته، المهم أنه لا يحرم المرأة من ابنتها حتى تنتبه هي إلى ذلك. فهذه من أحكام البيت ومن أحكام زواج النبي صلى الله عليه وسلم من عدد من النساء، فنجد حكماً عظيمة لحوادث كثيرة، فلو لم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم بهذا العدد فمن أين كنا سنعرف كيف يعاشر الرجل امرأته؟ وكيف يؤدبها؟ وكيف يكون طيباً معها؟ وإذا كان معها طفلة كيف يصنع؟ وكم من إنسان يقول كلاماً ووقت التنفيذ يكون صعباً عليه ولا يعرف تنفيذ هذا الشيء، فكون النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك وهو الأسوة الحسنة والقدوة للخلق، يجعل الناس يتأسون به عليه الصلاة والسلام ويتابعونه في ذلك، ويسهل عليهم المتابعة. نسأل الله عز وجل أن يرزقنا حسن التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأن يجعلنا معه في الجنة.

تفسير سورة الأحزاب (تابع3) [28 - 29]

تفسير سورة الأحزاب (تابع3) [28 - 29] جعل الله سبحانه وتعالى نساء النبي صلى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنين، وبين الله فضلهن على نساء العالمين، وحرم الزواج منهن بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم إكراماً له، ولهن سيرة عطرة مبسوطة في كتب السير تدل على عظم قدرهن وعلو مكانتهن، فهن طريق إلى تبيين الشريعة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم.

ذكر ما جاء من سير أمهات المؤمنين زوجات النبي صلى الله عليه وسلم

ذكر ما جاء من سير أمهات المؤمنين زوجات النبي صلى الله عليه وسلم

نبذة من سيرة أم سلمة رضي الله عنها

نبذة من سيرة أم سلمة رضي الله عنها الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. من نساء النبي صلى الله عليه وسلم السيدة خديجة بنت خويلد، والسيدة سودة بنت زمعة، والسيدة عائشة رضي الله عن الجميع، ومنهن أيضاً حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنها، والخامسة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم السيدة أم سلمة واسمها: هند بنت أبي أمية المخزومية، وذكرنا أنها كانت تحت رجل تظنه خير الناس، وكان من خير أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وما كانت تظن أن هناك خيراً منه رضي الله تبارك وتعالى عنه. وكان النبي صلى الله عليه وسلم أمرها لما مات زوجها أن تسأل ربها سبحانه أن يؤجرها في مصيبتها وأن يخلف عليها خيراً منها، وتعجبت من ذلك وقالت: من خير من أبي سلمة رضي الله عنه؟ وما خطر ببالها قط أن يتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم، فدعت ربها: (اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها). هنا سنة من السنن: أن الإنسان إذا ابتلي بمصيبة من المصائب يدعو بهذا الدعاء العظيم: (اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها)، حتى لو كان الإنسان لا يدري ما هو الخير الذي يأتيه من هذا الشيء الذي فقده، فإذا سأل الله سبحانه وتعالى لاشك أن الله يستجيب له، ويخلف عليه ما هو خير من هذا الشيء الذي فقده، إما في الدنيا وإما في الآخرة، يخلف عليه في الدنيا بأشياء هي أفضل مما فاته، أو في الآخرة يجد الثواب العظيم على الصبر على هذه المصيبة. تزوج النبي صلى الله عليه وسلم السيدة أم سلمة رضي الله عنها وبقيت مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى توفي صلى الله عليه وسلم، وعمرت بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وماتت سنة (59) من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل في سنة (62)، يعني: عمرت بعد النبي صلى الله عليه وسلم (49) سنة أو (52) سنة تحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم وتروي ما حدث من النبي صلى الله عليه وسلم وما نزل من الأحكام في بيتها، وما حفظته عن النبي صلوات الله وسلامه عليه.

نبذة من حياة أم المؤمنين أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنها

نبذة من حياة أم المؤمنين أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنها من نساء النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً السيدة أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنهما: أم حبيبة كانت من المسلمات الأوائل، وزوجها كان مسلماً ثم تنصر، والله سبحانه وتعالى يَمُنّ على من يشاء بفضله ويخذل من يشاء بعدله، فمنّ عليها بالثبات على دينها، وخذل زوجها الذي هاجر معها إلى الحبشة وإذا به يجد أهل الحبشة نصارى فيتنصر مثلهم، لكنها ثبتت على الدين في دار البعد ودار الغربة. كانت متزوجة من عبيد الله بن جحش أخو السيدة زينب بنت جحش رضي الله عنها، السيدة زينب بنت جحش صارت أماً للمؤمنين رضي الله عنه، وأخوها مات نصرانياً كافراً في دار الحبشة دار الهجرة. فمن سوء الخاتمة: إنسان أسلم وهاجر في سبيل الله عز وجل ثم غلبت عليه شقاوته فصار كافراً بعد ذلك؛ لذلك لا يأمن الإنسان مكر الله أبداً، وإذا أعطاك الله من فضله ومن خيره فاحرص على هذا الخير وتمسك به، تمسك إذ هداك الله سبحانه بالإسلام ولا تغتر، ولا تقول: أنا بعد عشرين سنة سأصلي، أو بعد خمسين سنة أصلي، لا تمن على الله عز وجل، فإن الله يقول: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17]. المنّة لله عز وجل على خلقه، فأنت لا تدري أن الله سبحانه قد يملي لعبده ثم يختبره، فإذا به ينقلب على عقبيه، وكم من إنسان كان على خير وكان على دين، وإذا به فجأة ينقلب حاله ويترك دين الله عز وجل ويترك صلاته ويترك التزامه، وكم من إنسان كان على هدى وعلى تقوى، ثم صار منافقاً بعد ذلك، فاسقاً شريراً. فلا تأمن مكر الله سبحانه ولا تمنّ عليه عز وجل بأنك متمسك بدينه، فالفضل بيد الله سبحانه يهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضلاً، ويضل من يشاء، ويخذل من يشاء. فهذا الرجل عبيد الله بن جحش ممن خذله الله سبحانه وتعالى، ارتد في الحبشة، وصار نصرانياً وكفر، وإذا به يموت على ذلك، وصارت هي وحيدة في هذه الدار. أين تذهب هذه المرأة الفاضلة؟ أبوها أبو سفيان زعيم قريش وزعيم الكفرة في هذا الحين، أسلم بعد ذلك رضي الله عنه، لكن حتى هذا الحين كان كافراً، هل تذهب إلى هذا الرجل أم أنها تظل في أرض الحبشة مع من هم هنالك ليس لها أحد، أو ترجع إلى المدينة؟ فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يشرفها ويكرمها ويتزوجها صلوات الله وسلامه عليه، هي في الحبشة وهو في المدينة صلوات الله وسلامه عليه، ويتولى هذا العقد الرجل المسلم الفاضل الذي هو ملك الحبشة، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يرسل إليه فيزوج أم حبيبة من النبي صلوات الله وسلامه عليه. ومن العجب أن ملك الحبشة ملك النصارى يسلم، وهذا الرجل المهاجر إلى أرض الحبشة يتنصر، فعندما تنظر في قضاء الله سبحانه تتعجب للأمر، ولكن لا عجب في ذلك، إنه أمر الله سبحانه، قال تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك:14]، علم أن هذا في قلبه الإسلام وفي قلبه الخير فهداه، فهذا النجاشي ملك الحبشة الذي كان نصرانياً إذا بالله يهديه إلى دينه سبحانه. والعجب أن قومه كلهم لم يسلم منهم أحد، ولم يسلم أحد من أهل الحبشة، وإنما أسلم الرجل وجمع البطارقة وجلس معهم، وجاء بالمهاجرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ليسمع منهم ما يقولون، فإذا بـ جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه يتلو عليه من كتاب الله سبحانه ويخبره عن أمر الله وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيصدق ويؤمن علانية، وقومه يعلمون أنه على الإسلام رضي الله تبارك وتعالى عنه، فيأتيه من الكفرة القرشيين من يقول له: اسمع ماذا يقولون في المسيح عيسى بن مريم؟ يريدون أن يوقعوا بينه وبين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا به يجمعهم ويسمع منهم، فيقولون له: إن المسيح بن مريم على نبينا وعليه الصلاة والسلام عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه سبحانه وتعالى. إذاً: هو عبد مخلوق، فإذا به يقول: (ما زاد المسيح على مثل هذا بحصاة)، فأسلم وقال: لولا ما هو فيه من أمر الملك وأمر البلد لذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى يغسل قدميه صلوات الله وسلامه عليه. هذا ملك لم يغتر بملكه، ولم يفتنه أتباعه، عرف الحق فاتبع الحق فاستحق أن يأتي جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: (مات أخوكم النجاشي فقوموا فصلوا عليه، فيقوم النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو المسلمين ويقول: مات أخوكم النجاشي قوموا فصلوا عليه)، فيصلي عليه صلاة الجنازة رضي الله تبارك وتعالى عنه. مَنّ الله عز وجل عليه وهو ملك في قومه، وكل ملك يخاف على ضياع الملك من يده ولكن هذا لم يخف شيئاً، وقال: إن الله هو الذي ردّ عليّ ملكي، ليس لأحد فضل عليّ في ذلك. كان ملكه قد ضاع منه يوماً من الأيام، ورده الله سبحانه وتعالى عليه، فعرف الفضل لله. أسلم الرجل وزوج النبي صلى الله عليه وسلم من أم حبيبة بنت أبي سفيان ودفع المهر من عنده، فكان أعظم مهر أمهرته امرأة، إذ دفع في السيدة أم حبيبة أربعة آلاف درهم، أي: أربعمائة دينار دفعها فيها، فكان أعلى مهر دُفع لامرأة من نساء النبي صلوات الله وسلامه عليه، دفعه عنه النجاشي رضي الله تبارك وتعالى عنه، ثم بعث بالسيدة أم حبيبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع رجل من الصحابة وهو شرحبيل بن حسنة، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة معززة مكرمة قد أبدلها الله سبحانه وتعالى خيراً مما كانت فيه ومما كانت عليه، وتوفيت بعد النبي صلى الله عليه وسلم في سنة (44) للهجرة، وعاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم (34) سنة.

الكلام على ما جاء في صحيح مسلم من تزويج أبي سفيان للنبي بأم حبيبة

الكلام على ما جاء في صحيح مسلم من تزويج أبي سفيان للنبي بأم حبيبة جاء حديث في صحيح مسلم من طريق عكرمة بن عمار قال: حدثنا أبو زميل، قال: حدثني ابن عباس، قال: كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يقاعدونه. أبو سفيان أسلم متأخراً، وابنته أسلمت قبله بكثير، أما أبوها أبو سفيان وأخوها معاوية فإنما أسلما قبل فتح مكة بشيء يسير، فالمسلمون كانوا يعرفون أن هذا أبو سفيان وكان شيخ قريش، وهو أبو سفيان الذي كان حارب المسلمين يوم بدر، ويوم أحد، ويوم الخندق؛ لذلك لم يكونوا يجلسون معه حتى بعدما أسلم، كانوا يعرفون أن له ما للمسلم من حق، لكن ما كانوا يقعدون إليه، وهو لم يعتد ذلك، بل كان يعتاد أنه كبير في قريش، والمسلمون لا يأبهون له ولا ينظرون إليه. هنا هذه الرواية التي في صحيح مسلم أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا نبي الله، ثلاث أعطنيهن، فقال: نعم، قال: عندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجكها، قال: نعم، قال: ومعاوية تجعله كاتباً بين يديك، قال: نعم، قال: وتؤمرني حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين، قال: نعم). قال أبو زميل الراوي: ولولا أنه طلب ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم ما أعطاه ذلك؛ لأنه لم يكن يُسأل شيئاً إلا قال: نعم. هذا الحديث حديث مشكل فهو في صحيح مسلم، ولكن فيه إشكال عند العلماء، وهو أنه كيف يقول هذا الكلام: أزوجك أم حبيبة وهي متزوجة به صلى الله عليه وسلم من قبل، وليس هو الذي زوجها، بل الذي زوجها له ملك الحبشة الذي كانت عنده. فلذلك كان الراجح: أن هذه الجملة التي في هذا الحديث وهم من الراوي، أن أبا سفيان طلب ذلك، وإن تأول بعض أهل العلم ذلك وقالوا: إنه يريد من النبي صلى الله عليه وسلم أن تطيب نفسه، بأن يكون هو الذي يتولى أمر العقد، ولكن كيف يكون ذلك وهو عقد قد مرت عليه سنون، وتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم أبوها بسنين، وما كان له أن يجدد عقداً على امرأة هي زوجته صلى الله عليه وسلم. فالصواب: أن هذا وهم من الراوي، وأن أبا سفيان رضي الله عنه قال شيئاً آخر فتوهم الراوي هذا فقاله، فالراوي يقول هنا: إن أبا سفيان قال: أزوجك من أم حبيبة، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، وهذا بعيد جداً أن يكون؛ لأنه كان قد تزوجها قبل ذلك صلى الله عليه وسلم، وهذا مشهور في السير والمغازي وفي صحيح البخاري، أن النجاشي هو الذي زوج النبي صلى الله عليه وسلم من أم حبيبة رضي الله تبارك وتعالى عنه. لكن طلب أبي سفيان الثاني أنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل معاوية كاتباً بين يديه فهو صحيح، إذ كان معاوية يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم الوحي بعد ذلك، فكان من كتاب الوحي رضي الله عنهم. وأبو سفيان صار له منزلة بعد ذلك بجهاده في سبيل الله سبحانه وتعالى، يعني: كونه كان كبير قريش لم يكن له كلمة عند المسلمين؛ لأنه كبير قريش في الزمن الماضي يوم أن كان مع الكفار، وبما أنه حارب المسلمين ليس له منزلة، فهو رجل مسلم الآن وليس مهاجراً، إذاً: ليست له مزية، لا هو مهاجر ولا هو مسلم قديماً. فهنا لا فضل لأحد على أحد إلا بتقوى الله سبحانه وتعالى، لكن لما صار مجاهداً بعد ذلك في سبيل الله سبحانه عرف المسلمون له فضله في جهاده في سبيل الله رضي الله تبارك وتعالى عنه، وهذا طلبه، أنه مثلما حارب النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يكون مجاهداً بعد ذلك في سبيل الله تبارك وتعالى. وابنته أم حبيبة اسمها: رملة بنت أبي سفيان، توفيت بعد النبي صلى الله عليه وسلم بـ (34)، أي: في سنة (44) للهجرة.

ذكر نبذة من حياة أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها

ذكر نبذة من حياة أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها ومن نساء النبي صلى الله عليه وسلم: زينب بنت جحش، وأخوها عبيد الله بن جحش الذي كان زوجاً للسيدة أم حبيبة رضي الله عنها، وتوفي الرجل نصرانياً مرتداً، وأخته صارت أم المؤمنين، فسبحان مغير الأحوال! هذه أم المؤمنين زوجة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، وهذا أخوها كافر نصراني يكون في النار والعياذ بالله، فمن نساء النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش بن رئاب الأسدية، وكان اسمها برة، فسماها النبي صلى الله عليه وسلم زينب. والنبي صلى الله عليه وسلم ما كان يحب الأسماء التي فيها تزكية، فنتعلم من النبي صلى الله عليه وسلم ألا نختار الأسماء التي فيها تزكية للأولاد، والله يقول: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32]. فكان النبي صلى الله عليه وسلم يكره أن يدخل عنده الصحابة ويخرجون فيقولون: إنه كان عند برة، أو خرج من عند برة، أو دخل لـ برة. وبرة من المبرة، وهي المرأة التي جمعت خصال الخير، فتكون قد جمعت خصال البر كلها، فكره ذلك وغير اسمها صلى الله عليه وسلم وسماها زينب، وفعل نفس الشيء مع ابنة زوجته أم سلمة، كان اسم ابنتها برة، فغيره إلى زينب صلوات الله وسلامه عليه. تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة في سنة خمس من هجرته عليه الصلاة والسلام، وتوفيت في سنة عشرين، يعني: بعد النبي صلى الله عليه وسلم بعشر سنوات، وكان لها ثلاث وخمسون سنة وقت وفاته رضي الله عنه، يعني: توفي النبي صلى الله عليه وسلم ولها من العمر ثلاث وأربعون سنة.

نبذة من حياة أم المؤمنين زينب بن خزيمة رضي الله عنها

نبذة من حياة أم المؤمنين زينب بن خزيمة رضي الله عنها ومن نساء النبي صلى الله عليه وسلم: السيدة زينب بنت خزيمة بن الحارث، وهذه كانت تلقب من الجاهلية لكرمها بـ أم المساكين وهي السيدة زينب بنت خزيمة بن الحارث بن عبد الله بن عمرو بن عبد مناف الهلالية، زينب الهلالية. وكانت تلقب في الجاهلية بـ أم المساكين؛ لأنها كانت تحب المساكين وكانت تطعمهم. تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هجرته بحوالي واحد وثلاثين شهراً، يعني: سنتين وثمانية شهور أو سبعة شهور بعد هجرته صلى الله عليه وسلم. مكثت عند النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية أشهر رضي الله عنها ثم توفيت، وهي من نساء النبي صلى الله عليه وسلم اللاتي توفين في حياته، وكانت وفاتها في آخر ربيع الأول بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم بحوالي (39) شهراً رضي الله تبارك وتعالى عنها، ودفنت بالبقيع بالمدينة.

ذكر نبذة من حياة أم المؤمنين جويرية بنت الحارث رضي الله عنها

ذكر نبذة من حياة أم المؤمنين جويرية بنت الحارث رضي الله عنها ومن نساء النبي صلى الله عليه وسلم السيدة جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار الخزاعية المصطلقية، من بني المصطلق، وكان بنو المصطلق قد غزاهم النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت هي من سبي بني المصطلق. يعني: لما غزا النبي صلى الله عليه وسلم بني المصطلق كان من الأسارى السيدة جويرية رضي الله تبارك وتعالى عنها، فوقعت في سهم واحد من الصحابة اسمه: ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه، خطيب النبي صلى الله عليه وسلم، فلما وقعت في سهمه ذهبت تبحث عمن يدفع لها مالاً حتى تتحرر من الرق، فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تستعين به، وكانت بنت سيد قومها رضي الله تبارك وتعالى عنها، وسبحان من يعز ويذل، هي ابنة سيد القوم وصارت الآن أمة تبحث عن مال لكي تفك رقبتها وتعتق. فالنبي صلى الله عليه وسلم خيرها، إما أن يعطيها ذلك وإما أن يتزوجها ويعتقها صلوات الله وسلامه عليه، فاختارت النبي صلى الله عليه وسلم، فصارت زوجة للنبي صلى الله عليه وسلم ومكثت مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى توفي، ثم ماتت بعده في سنة (56)، يعني: بعد النبي صلى الله عليه وسلم بـ (46) سنة، وعمرها (65) سنة حين توفيت رضي الله عنها.

ذكر نبذة من حياة أم المؤمنين صفية رضي الله عنها

ذكر نبذة من حياة أم المؤمنين صفية رضي الله عنها ومن نساء النبي صلى الله عليه وسلم السيدة صفية بنت حيي بن أخطب الهارونية، من أولاد هارون أخي موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. كانت السيدة صفية بنت سيد قومها أيضاً، وسباها النبي صلى الله عليه وسلم في يوم خيبر، ومنّ عليها صلى الله عليه وسلم وأعتقها وأسلمت، وتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم فصارت أماً للمؤمنين رضي الله تبارك وتعالى عنها. ففي غزوة خيبر كانت أمة عند واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اسمه دحية الكلبي، وقعت في سهمه وأراد بيعها فاشتراها منه النبي صلى الله عليه وسلم بسبعة أرؤس، وصارت أمة للنبي صلى الله عليه وسلم فأعتقها ومن عليها وتزوجها. نلاحظ أن السيدة جويرية كانت أمة واشتراها النبي صلى الله عليه وسلم ومَنّ عليها وأعتقها وتزوجها، وجاء في حديثه صلى الله عليه وسلم أن من الناس من يؤتى أجره عند الله مرتين، أي: يؤتى الأجر مضاعفاً عند الله، منهم: (من كان عنده أمة رباها فأحسن تربيتها، ثم أعتقها وتزوجها)، فالإنسان عندما يكون عنده أمة يملكها، فما الذي يجعله يعتقها ثم يتزوجها كأي حرة؟ فأي إنسان سيكون تفكيره على ذلك، إذ هي عندما تكون أمة عنده فهو يملكها، ويستمتع بها كما يشاء، ويوماً ما تضايقه فيبيعها، فالنبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يحث الناس على تحرير الرقاب فبدأ بنفسه يعتق عليه الصلاة والسلام، وكم أعتق من الرقاب عليه الصلاة والسلام، يقولون: فلان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: كان عبداً عند النبي صلى الله عليه وسلم فأعتقه. ولعل الإنسان عندما يقول: هذه الأمة أنا أعتقها ثم أتزوجها تكون هذه معرة، فيقوم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك حتى يكون قدوة للخلق عليه الصلاة والسلام، فهذه جويرية رضي الله تبارك وتعالى عنها كانت من سبي بني المصطلق، كانت أمة وصارت عند النبي صلى الله عليه وسلم كذلك، فإذا به يعتقها صلى الله عليه وسلم ويتزوجها حتى يتعلم من كانت عنده أمة أن يعتقها. ولعله إن أعتق الأمة وتركها ليس لها أهل؛ لأنها من قبيلة أخرى، فقد تضيع بين الناس، فإذا تزوجها حافظ عليها وصارت معززة مكرمة عنده فازدادت منزلتها، ففعل ذلك صلى الله عليه وسلم بالسيدة جويرية وفعل ذلك بالسيدة صفية بنت حيي. وصفية بنت حيي أبوها حيي بن أخطب، قتل كافراً يهودياً، فهو الذي كان سبب مجيء قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق، ومع ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعامل إنساناً بمعاملة إنسان آخر آثم، ولكنه يعتقها صلى الله عليه وسلم وتسلم رضي الله عنها، ويتزوجها النبي صلوات الله وسلامه عليه، وتكون أماً للمؤمنين تحدّث عن النبي صلى الله عليه وسلم. فالسيدة عائشة اغتاظت منها مرة من المرات، فتقول للنبي صلى الله عليه وسلم: إن صفية -وتشير بيدها- قصيرة، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم لذلك وقال: (لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته)، أي: فلو وضعت هذه الكلمة في ماء البحر لأنتن، مع أن البحر طهور لا ينجسه شيء، لكن هذه الكلمة تنجس ماء البحر لو وضعت عليه، والكلمة هي أنها أشارت بيدها أنها قصيرة. وكم في مجالسنا من القيل والقال، وهذا من شؤم الإنسان أن يتكلم بالغيبة والنميمة على الخلق. السيدة حفصة في مرة من المرات كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، وكانت السيد صفية معه أيضاً، والسيدة صفية راكبة على جملها، وحدث للجمل حدث فلم يصلح للركوب، وكان عند السيدة حفصة أكثر من جمل، فطلب منها النبي صلى الله عليه وسلم أن تعين بما عندها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان عنده فضل ظهر فليعد من لا ظهر له)، فالسيدة حفصة كأنها أخذتها الغيرة، فقالت للنبي صلى الله عليه وسلم: أنا أعطي هذه اليهودية. وهذه كلمة ليست طيبة أبداً، ولما قالتها سكت عنها النبي صلى الله عليه وسلم وهجرها فترة طويلة على هذا حتى تأدبت، وحتى يئست من أن يأتيها النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكلمها أبداً عليه الصلاة والسلام فترة طويلة حتى أحدثت توبة إلى الله عز وجل، فجاءها النبي صلى الله عليه وسلم بعدما تابت من هذا الذي قالته، وبعدما عاقبها فترة طويلة على ذلك. وفي ذلك دلالة على تأديب النبي صلى الله عليه وسلم لأهل بيته، فالغيرة موجودة، ولكن أن تصل الغيرة إلى أن يقال عن واحدة قد أسلمت: يهودية؛ فهذا لا ينبغي، واليهودية إذا أسلمت لها أجران عند الله عز وجل، أجر أنها كانت يهودية ثم عرفت الحق، فاتبعت الحق ودخلت في الإسلام، فتؤتى أجرها مرتين عند الله تبارك وتعالى. وكان بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم يتعالين عليها، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم السيدة صفية أن ترد عليهن بقولها: إنها تحت نبي وأبوها نبي، أي: أبوها سيدنا هارون أخو موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام. فالنبي صلى الله عليه وسلم يأخذ لها حقها ممن يظلمها، وقد تعلمنا من حياة النبي صلى الله عليه وسلم ومن سيرته مع نسائه كيف كان يعدل بينهن عليه الصلاة والسلام، كيف كان يأخذ الحق لصاحبه، وهذا من ضمن الحكم في تعدد نساء النبي صلى الله عليه وسلم، إذ تحدث حوادث ونرى كيف يصنع النبي صلى الله عليه وسلم فيها، وكيف يصبر على أذى نسائه عليه الصلاة والسلام، وكيف يؤدبهن ويهذبهن عليه الصلاة والسلام، فيتعلم المسلمون من النبي صلى الله عليه وسلم، فهو القدوة الحسنة. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا معه في الجنة صلوات الله وسلامه عليه، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الأحزاب [28 - 31]

تفسير سورة الأحزاب [28 - 31] لأنبياء الله سبحانه وتعالى منزلة عظيمة عنده سبحانه، وأعلاهم منزلة محمد صلى الله عليه وسلم، ولأزواجه منزلة عليا، ومقام رفيع، ولا بد أن تكون زوجة النبي راضية بقضاء الله وقدره غير ساخطة، فإذا رضيت وأطاعت ضوعف ثوابها، وإن عصت الله ورسوله ضوعف عقابها.

ما ينبغي أن تتخلق به نساء الأنبياء

ما ينبغي أن تتخلق به نساء الأنبياء

سبب نزول قوله تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة)

سبب نزول قوله تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا * يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} [الأحزاب:28 - 31]. ذكرنا في الدروس السابقة كيف أن الله سبحانه وتعالى أمر نبيه صلوات الله وسلامه عليه أن يخير أزواجه لما نظرن إلى شيء من الدنيا، وطلبن زيادة النفقة، وقد رأينا أن الله سبحانه قد فتح للنبي صلى الله عليه وسلم شيئاً من الفتوح، وأغنمه أرضاً ودياراً وسبياً، فطلبن من النبي صلى الله عليه وسلم زيادة في النفقة، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم تكن عادته ذلك، إنما كان ينفق على المسلمين، ويعطي نساءه عليه الصلاة والسلام ما يحتجن إليه من النفقة، أما أكثر من ذلك واستمتاع بالدنيا فما كان يفعل ذلك عليه الصلاة والسلام. وقد كرم الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم فصرفه عن الدنيا فلم يكن صلوات الله وسلامه عليه يدخر مالاً لأهله إلا ما يكون من نفقة واجبة عليه. فنساء النبي صلى الله عليه وسلم ظنت كل واحدة منهن أن الله قد فتح الفتوح، فمن حقها أن تطلب من النبي صلى الله عليه وسلم زيادة في النفقة، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وقد سألنه وألححن عليه، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، وغضب الله لغضب نبيه صلى الله عليه وسلم وأنزل الآيات يخير نساء النبي صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} [الأحزاب:28] أي: نعطيكن من الذي تردنه من المتاع ومن المال. وقوله تعالى: {وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب:28] أي: يطلقكن النبي صلوات الله وسلامه عليه، فعلى هذا الوضع لا تصلحن للمعيشة مع النبي صلى الله عليه وسلم، لأن امرأة النبي لا بد أن تكون قانتةً لله سبحانه وتعالى، وراضية بقضاء الله وقدره، وبالمعيشة التي يعيشها النبي صلوات الله وسلامه عليه، وهذه سنة الله مع أنبيائه عليهم الصلاة والسلام.

قصة إبراهيم مع أهل بيت ولده إسماعيل عليهما السلام

قصة إبراهيم مع أهل بيت ولده إسماعيل عليهما السلام إنَّ في قصة سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام لعبرة، وذلك حين ترك إسماعيل مع أمه هاجر عند بيت الله المحرم، تركها ومعها سقاء فيه ماء، وجراب فيه تمر، وتركها في مكان قفر لا ناس فيها، فقالت: يا إبراهيم إلى من تتركنا؟ فتركها وانصرف عليه الصلاة والسلام؛ لأن الله أمره بذلك سبحانه، فلما ألحت عليه في النهاية قالت: آلله أمرك بذلك؟ قال: نعم. قالت: إذاً: لا يضيعنا. فوثقت في الله سبحانه فلم يضيعها الله سبحانه وتعالى، فلما نفد تمرها وماؤها وخشيت أن يموت ولدها في هذا المكان استغاثت بربها فأغاثها سبحانه بأن أرسل جبريل وبحث بعقبه فكانت عين زمزم التي نعرفها، ويشرب الآن منها ملايين الخلق منذ أن أنشأها الله سبحانه وتعالى وحتى تقوم الساعة. ولما شبَّ إسماعيل النبي عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، تزوج امرأة من جرهم، وجاء إبراهيم ليطالع تركته، فرأى امرأة، فعلم أنها امرأة ابنه إسماعيل، فسألها عن عيشهم وحياتهم، فقالت: نحن في ضيق. فمثل هذه المرأة التي تعيش على هذا الأمر من التضجر على الله سبحانه والرفض لقضاء الله وقدره لا تصلح أن تكون زوجةً لنبي ورسول. فقال إبراهيم: (إذا رجع زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له يغير عتبة بابه) وانصرف إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وجاء إسماعيل وأحس بشيء فسألها: (أتاكم أحد؟ قالت: نعم شيخ صفته كذا وكذا، قال: أوصاك بشيء؟ قالت: نعم. يقول لك: غير عتبة بابك. قال: أنت العتبة اذهبي إلى أهلك) فطلقها وتزوج غيرها عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. وجاء إبراهيم مرةً أخرى يطالع تركته فوجد هذه المرأة فسألها: (كيف عيشكم؟ قالت: نحن بخير. قال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم وسقاؤنا الماء. قال: اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم) فبارك الله عز وجل لهم في طعامهم وشرابهم، ولم يكن لهم شيء من الزروع، ولو كان لهم زروع لبارك الله عز وجل في هذه الزروع. فعلى ذلك ذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم كيف أن المرأة لما سخطت جوزيت بأنها لا تصلح أن تكون امرأة نبي فطلقها إسماعيل عليه الصلاة والسلام، أما الأخرى لما رضيت بقضاء الله سبحانه وتعالى قال لها يوصيها: (إذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له: أمسك عتبة بابك، فجاء إسماعيل فسألها: فقالت: جاء شيخ صفته كذا وكذا. قال: هذا أبي فقال: هل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم. يقول: أمسك عتبة بابك. قال: أنت العتبة، فأمسكها إسماعيل عليه الصلاة والسلام). إذاً: امرأة النبي لا بد أن تكون صابرة قانتة لله سبحانه، مطيعة لربها ونبيها عليه الصلاة السلام. كذلك نساء النبي صلى الله عليه وسلم لا بد لهن من ذلك، وإن لم يكن ذلك فلا يصلح أن يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء التخيير من الله، وهو ليس تطليقاً لهن، ولكن إن اختارت نفسها طلقها النبي صلى الله عليه وسلم ومتعها بمال، وإن اختارت ربها ورسول الله صلى الله عليه وسلم والدار الآخرة فالله عز وجل يعطيها الأجر في الآخرة ولا يعطيها في الدنيا نعيماً، فكلهن اخترن النبي صلى الله عليه وسلم.

تعداد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم

تعداد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ذكرنا في الأحاديث السابقة أنَّ عدد نساء النبي صلى الله عليه وسلم اللواتي جمع بينهن تسعةٌ من النساء، وذكرنا في الحكمة من ذلك: أن النبي صلوات الله وسلامه عليه جعل له ربه ما لم يجعل لغيره لحكمة من الله سبحانه وتعالى، وأعظم شيء في ذلك: التبليغ، قال الله سبحانه: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34]. وامرأة واحدة لا تكفي لتبليغ هذا الدين العظيم مع كثرة عدد المؤمنين والمؤمنات الذين يسألون النبي صلى الله عليه وسلم، ويسألون نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فقد مات النبي صلى الله عليه وسلم وعاش بعده نساؤه، فمنهن من عاشت حتى سنة خمس وأربعين، ومنهن من عاشت إلى سنة ثمانية وخمسين أو تسعة وخمسين أو بضع وستين. إذاً: عشن بعد النبي صلى الله عليه وسلم أعواماً طويلةً، فبلغن دين الله سبحانه، ولو كانت امرأةً واحدة لكانت عرضة للنسيان، فتنسى ما يتلى في بيتها، وتنسى بعضاً من الأحكام، ولكن عدداً من النسوة تذكر إحداهن الأخرى بأحكام الله سبحانه وتعالى وبما قاله النبي صلى الله عليه وسلم. وزوجات النبي صلى الله عليه وسلم هن: السيدة خديجة بنت خويلد وسودة بنت زمعة وعائشة وحفصة بنت عمر وأم سلمة وأم حبيبة بنت أبي سفيان وزينب بنت جحش وزينب بنت خزيمة وكنيتها أم المساكين، وجويرية بن الحارث المصطلقية وصفية بنت حيي بن أخطب وريحانة بنت زيد بن عمرو بن خناقة من بني النضير سباها النبي صلى الله عليه وسلم وأعتقها وتزوجها في سنة ست وماتت في حياة النبي صلوات الله وسلامه عليه. والسيدة ميمونة بنت الحارث الهلالية، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم في مكان اسمه سرف على بعد عشرة أميال من مكة، وكان ذلك في سنة سبع من الهجرة، وهي آخر امرأة تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم، تزوجها في سرف وماتت في نفس المكان، وصلى عليها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم: عبد الله بن عباس رضي الله تبارك تعالى عنه، ماتت في سنة إحدى وستين للهجرة وقيل: في سنة ثلاث وستين، فعمرت بعد النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وخمسين سنة، أو واحداً وخمسين سنة تدعو إلى الله عز وجل وتبلغ ما أمرها الله سبحانه بإبلاغه. وجل النساء اللاتي تزوجهن النبي صلى الله عليه وسلم منهن من ماتت في حياته عليه الصلاة والسلام، ومنهن من مات عنها صلى الله عليه وسلم، فكان عدد من اجتمعن معه في وقت واحد تسع نسوة رضي الله تبارك وتعالى عليهن.

ذكر النساء اللاتي خطبهن النبي ولم يتزوجهن أو طلقهن قبل الدخول

ذكر النساء اللاتي خطبهن النبي ولم يتزوجهن أو طلقهن قبل الدخول وهناك نساء أخريات تزوجهن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يدخل بهن، منهن: امرأة من بني كلاب، واختلفوا في اسمها قيل: اسمها عمرة، وقيل: العالية وقيل: فاطمة، وقيل: غير ذلك، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم فلما جاء ليدخل بها قالت: أعوذ بالله منك. فطلقها النبي صلى الله عليه وسلم خوفاً من الله سبحانه وتعالى من كلمة هي قالتها، وهي لم تقصد هذه الكلمة، ولكنها لما قالت: أعوذ بالله، يعني: ألجأ إلى الله وأعتصم بالله منك، فخاف النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيها وقد لجأت إلى الله واعتصمت به منه، فتركها وطلقها النبي صلوات الله وسلامه عليه. روى الإمام البخاري قال: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أميمة بنت شراحيل، فلما أدخلت عليه بسط يده إليها فكأنها كرهت ذلك. وفي رواية أنها قالت: الملكة لا تأتي السوقة. فقد كانت كبيرة في قومها فظنت أنها ستتعالى حتى على النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين رازقيين وطلقها النبي صلى الله عليه وسلم. فهذه المرأة أشقى الخلق لمَّا حرمت نفسها بكلامها وسوء عقلها من أن تكون زوجة للنبي صلى الله عليه وسلم، وتكون إحدى نسائه في الجنة عليه الصلاة والسلام. امرأة أخرى خطبها النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا بأبيها يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: إن بها برصاً ولم يكن فيها شيء، ولكن الرجل لم يرد أن يزوجها من النبي صلى الله عليه وسلم، فتركها النبي صلى الله عليه وسلم. ورجع الرجل إلى بيته فوجد ابنته برصاء، وجد فيها ما قاله عنها كذباً على النبي صلى الله عليه وسلم، فعاقبه الله سبحانه وتعالى. وهناك من خطبهن النبي صلى الله عليه وسلم وتعللن للنبي صلى الله عليه وسلم بعذر، وعذرهن صلى الله عليه وسلم منهن: السيدة أم هانئ بنت عم النبي صلى الله عليه وسلم، فتعللت واعتذرت وقالت: إني امرأة مصبية، يعني: عندي أطفال صغار، فعذرها النبي صلى الله عليه وسلم ودعا لها، وغيرهن ممن خطبهن النبي صلى الله عليه وسلم وحدث عذر من الأعذار ولم يدخل بهن عليه الصلاة والسلام، ولم يعقد عليهن. ذكر الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أنه إن اخترن نساؤه الحياة الدنيا فعليه أن يمتعهن، والمتعة: النفقة، أي: يعطيهن مالاً ثم يطلقهن، وإذا أردن الله ورسوله والدار والآخرة فإن الله أعد للمحسنات منهن أجراً عظيماً. والأجر العظيم أجر يليق به سبحانه وتعالى؛ لأن الله سماه عظيماً، والجنة شيء عظيم جداً؛ وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر).

مكافأة الله لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم لاختيارهن له

مكافأة الله لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم لاختيارهن له ثم في الآيات التالية تأديب لنساء النبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنات، وقد اختار هؤلاء النسوة الكرام النبي صلى الله عليه وسلم، فشكرهن الله سبحانه على ذلك، وكافأهن بأن قال للنبي صلى الله عليه وسلم إنه ليس له أن يتزوج عليهن لأنهن اخترنه، قال تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} [الأحزاب:52] إذاً: هذه مكافأة من الله عز وجل لهؤلاء النسوة الطيبات الطاهرات اللاتي اخترن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا تتزوج عليهن بعد ذلك. ولكن لم يمت حتى أباح له الله أن يتزوج غيرهن، ولكن لم يفعل عليه الصلاة والسلام. إذاً: هنا منة من الله سبحانه وتعالى عليهن، ثم أباح له ذلك لتظهر منة النبي صلى الله عليه وسلم عليهن، فهو لم يتزوج عليهن بعد ذلك حتى بعد ما أباح له ربه سبحانه له ذلك. كذلك قال للمؤمنين: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} [الأحزاب:53] إذاً: هنا ميزة وخصيصة لنساء النبي صلى الله عليه وسلم، أن من تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم ودخل فهي أم للمؤمنين، ويحرم على المؤمنين أن يتزوج أحدهم بامرأة النبي صلى الله عليه وسلم إذا توفي عنها صلوات الله وسلامه عليه.

تفسير قوله تعالى: (يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة)

تفسير قوله تعالى: (يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة) وذكر الله سبحانه وتعالى أن لهن في الفضل والثواب والأجر والحسنات ما هو مضاعف على غيرهن، وكذلك في أمر الإساءة وحاشا لهن أن يفعلن ذلك فتكون العقوبة مضاعفة، كما قال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الأحزاب:30] وحاشا لهن أن يقعن في ذلك. والفاحشة: المعصية، وتطلق على كبار الذنوب، فمن الفاحشة الوقوع في الزنا والعياذ بالله. ومن الفاحشة: المعصية لله وللرسول صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: {مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الأحزاب:30] أي ظاهرة قد بينها الله سبحانه وتعالى في كتابه وقد كشفت عن نفسها هذه الفاحشة فظهرت ولم تستتر. {بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الأحزاب:30] هذه قراءة الجمهور. وقراءة ابن كثير وشعبة عن عاصم: (بِفَاحِشَةٍ مُبيَّنَةٍ) يعني: بين الله حكمها في كتابه، ومبيِّنة يعني: ظاهرة في نفسها يعرفها كل من يفهم ويعقل. وجزاء من تأتي بفاحشة مبينة: {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب:30] هذه قراءة الجمهور. وقراءة ابن كثير وابن عامر: {نضعفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب:30]، وقراءة أبي عمرو ويعقوب: (يُضعَّف لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ). وقوله تعالى: {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [الأحزاب:30] أن يعذب أحداً من عباده هذا يسير عليه سبحانه وتعالى سواء كان هذا قريباً أو بعيداً من النبي صلى الله عليه وسلم. وعكس ذلك: من يقنت، والقنوت: الطاعة والمبالغة في عبادة الله سبحانه وتعالى، والخشوع له. قال تعالى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا} [الأحزاب:31] إذاً: الخشوع لله عز وجل والطاعة لله وعمل الصالحات جزاؤه {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب:31]. إذاً: يضاعف لها الأجر عند الله سبحانه وتعالى. وقراءة الجمهور: {وَتَعْمَلْ صَالِحًا} [الأحزاب:31]. وقراءة حمزة والكسائي وخلف: (ويَعْمَل صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ). فسمى الأجر الذي عنده بالأجر العظيم وأن الرزق الذي يعطيه الله عز وجل لهن هو رزق كريم يعني: غاية في الكرم من الله سبحانه وتعالى، أي: رزقاً يكرمهن الله سبحانه وتعالى به. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل جنته، وأن يجعلنا مع نبيه صلوات الله وسلامه عليه. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الأحزاب [30 - 33]

تفسير سورة الأحزاب [30 - 33] لقد جعل الله سبحانه وتعالى نساء النبي صلى الله عليه وسلم قدوة لنساء المسلمين في الآداب الإسلامية، فإذا كان الله سبحانه وتعالى حذر نساء النبي صلى الله عليه وسلم من الخضوع بالقول مع الرجال ومن الاختلاط وتبرج الجاهلية مع جلالة قدرهن وفضلهن على نساء العالمين، فنساء المؤمنين أولى بالتحلي بهذه الآداب.

الثواب والعقاب في حق نساء النبي

الثواب والعقاب في حق نساء النبي الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} [الأحزاب:32 - 34]. في هذه الآيات من سورة الأحزاب يخاطب الله سبحانه وتعالى نساء النبي صلوات الله وسلامه عليه، ويبين فضلهن رضوان الله تبارك وتعالى عليهن، فهنّ نساء النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك طهرهن الله سبحانه وتعالى تطهيراً، أدبهن ورباهن بكتابه سبحانه وتعالى، وبما أنزل على نبيه عليه الصلاة والسلام، فذكر في الآيات قبل ذلك خطاباً لهن: بأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم من تقع منهن في خطأ أو سوء يضاعف الله لها العذاب، قال الله تعالى: {مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب:30]، إذاً: الخطيئة منهن ليست كغيرهن، بل هنّ أشد، لذلك يعاقبن على ذلك عقوبة مضاعفة، قال سبحانه: {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [الأحزاب:30]. قال تعالى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا} [الأحزاب:31]، المرأة الصالحة إذا اتقت ربها سبحانه وتعالى، وعملت بما أمرها به ربها على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم فلها الأجر المضاعف عند الله عز وجل. إذاً: سيئتها مضاعف لها العقوبة فيها، وحسنتها حسنة مضاعفة، وهذا تكريم للنبي صلوات الله وسلامه عليه، وبيان أنه لابد من مراعاة حرمة النبي صلى الله عليه وسلم. ونساء النبي صلى الله عليه وسلم ليس لهن أن يهتكن حرمات النبي صلوات الله وسلامه عليه بوقوعهن في الفاحشة أو بوقوعهن في إساءة، فنساء النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهن إذا وقعن في شيء مما نهى الله عز وجل عنه عاقبهن الله عقوبة مضاعفة، وإذا أتينَ ما أمر الله عز وجل به يكون الأجر مرتين، قال تعالى: {وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} [الأحزاب:31].

تفسير قوله تعالى: (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء)

تفسير قوله تعالى: (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء) ثم قال: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} [الأحزاب:32]. قوله: ((يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ))، تشريف لنساء النبي صلى الله عليه وسلم بالتخصيص بالخطاب. قوله: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب:32] أي: أنتن لستن كغيركن من النساء، فقد شرفكن الله سبحانه وتعالى بأن جعلكن زوجات للنبي صلى الله عليه وسلم. {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} [الأحزاب:32]، ويجوز الوقف على (اتَّقَيْتُنَّ) وله معنى، ويجوز الوقف على: ((لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ)) ويبدأ: {إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب:32]، وإن كان الأول أجمل، فالمعنى: أن النساء كلهن متساويات، والفرق بين امرأة وامرأة: التقوى. فقوله: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} [الأحزاب:32]، أي: إذا اتقيتن سبحان الله وتعالى لستن كغيركن من النساء، ولكنكن أعلى منزلة وأشرف موضعاً، فـ (لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ) بتقواكن لله سبحانه وتعالى. أي: (إِنِ اتَّقَيْتُنَّ) صرتن عند الله عز وجل أشرف وأفضل من غيركن من النساء. وتقوى الله سبحانه وتعالى ترفع الإنسان عند الله عز وجل درجات، قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] وما رفع الله الذين أوتوا العلم درجات إلا لقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، وكلما ازداد الإنسان علماً ازداد تقوى لله سبحانه، وازداد إحساناً في عمله، فيرفع الله المؤمنين عنده درجات، ويرفع الذين أوتوا العلم فوقهم درجات بتقواهم لله سبحانه وتعالى. إذاً: هنا: ((يا نساء النبي)) الخطاب لهن أنهن لسن كغيرهن من النساء بشرط، والشرط هو تقوى الله سبحانه وتعالى. فالفضيلة عند الله بكونهن تقيات، ثم بكونهن نساء النبي صلوات الله وسلامه عليه. ونساء النبي صلى الله عليه وسلم إذا اتقين الله هنّ مع النبي صلى الله عليه وسلم ليس في الدرجات الدنيا من الجنة، وليس في ربض الجنة، بل في أعلى الجنة، فلن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أعلى الجنة ونساؤه أسفل منه، بل يرفع الله الإنسان إلى منزلة من يحبه ممن هو أعلى منه، فيرفع الله نساء النبي صلى الله عليه وسلم إلى منزلة النبي صلوات الله وسلامه عليه، ويكن معه في الجنة. وعلى الوقف الثاني: وهو أن تقف عند قوله تعالى: ((يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ)) ثم تقرأ: {إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32]. ولها معنى أيضاً، والمعنى فيها: أن الإنسان أحياناً إذا اتقى الله سبحانه وتعالى يتنازل، فتواضعه يجعل غيره يركب عليه ويخدعه ويطمع فيه. إذاً: المعنى هنا: اتق الله سبحانه وتعالى، ولكن لا تكن ليناً بحيث تخدع في الشيء، والنساء في ذلك أولى، فالمرأة تكون تقية فتتواضع، ولكن لا يجعلها هذا التواضع تلين أمام الرجال في القول، والرجل حين يتواضع للرجال أكثر من حده ينقص قدره عندهم فلا يعرفون قدره. والمرأة كذلك، فلو أن نساء النبي عليه الصلاة والسلام ورضي الله عنهن يخضعن في القول مع الرجال بدعوى التواضع لطمع المنافق والفاسق، والذي يخاطب بذلك هو الله سبحانه وتعالى؛ لأنه أعلم بما في القلوب. فإذا كانت المرأة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم، والتي تربت في بيت النبي صلى الله عليه وسلم يحذرها الله من الخضوع في القول، فنساء المؤمنين أولى بهذا الحذر. فلو أن إنساناً شريفاً كبيراً في قومه وله مهابة، تخاف أن تدخل بيته، وتستحيي أن تكلم نساءه أو تكلم أهله، فكيف بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو أجل الخلق قدراً؟ إذاً: قليل أن يحدث مثل هذا الشيء، ومع ذلك فإن الله يحذر نساء النبي صلى الله عليه وسلم من الخضوع في القول للرجال. فعلى ذلك فإن غير نساء النبي صلى الله عليه وسلم أولى، فكل امرأة للرجال فيها مطمع، فنحن في زمان فسد أهله، وكثر فيه الخيانة والغش، وكثر فيه الخديعة، فعلى كل إنسان أن يحافظ على نفسه، ويحافظ على أهل بيته. إذاً: حذر الله عز وجل نساء النبي صلى الله عليه وسلم أن يخضعن بالقول، فالمرأة تكون جادة في كلامها وتكون حازمة، لا تخنع بكلامها ولا تلين ولا ترخم صوتها لا بقراءة قرآن ولا بغيره، فإذا كانت المرأة تريد أن تقرأ القرآن وعلمت أن حول البيت رجال فلا يجوز لها أن ترفع صوتها بالقرآن، وخاصة إذا كانت تتغنّى بالقرآن، فلا يجوز لها أن تتغنى بالقرآن إلا مع نساء؛ لأن قراءة المرأة لكتاب الله أمام شيخ مدعاة للفتنة التي نهى الله عز وجل عنها. إذاً: ليكن قولك قولاً فصلاً جاداً فيه الحزم وفيه القطع، وليس فيه الميل ولا التكسر أو التغنج، فلا يجوز للمرأة أن تصنع ذلك، حتى ولو كانت من نساء النبي صلوات الله وسلامه عليه اللاتي شرفهن الله سبحانه وطهرهن بموضعهن من النبي صلوات الله وسلامه عليه. فقوله تعالى: {إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} [الأحزاب:32] أي: احذرن من الخضوع بالقول مع الرجال. وقوله تعالى: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] وهل يصل المنافق إلى مطمعه؟ حاشا لله عز وجل، ومستحيل أن يكون ذلك. لكن في زماننا قد يصل إلى مطعمه، والمصائب كثيرة، فعلى ذلك فإن المرأة تلزم بيتها، وتلزم الأدب الشرعي، وتلزم حجابها، ولا تخضع بالقول للرجال، ولا تختلط بهم، ولا تتبرج تبرج الجاهلية الأولى. ومعنى الخضوع بالقول: اللين والتكسر في القول بترخيم الصوت وتليينه إظهاراً للتواضع. فعلى المرأة أن تلتزم وقارها وتلتزم الصمت، وإذا احتاجت لشيء تكلمت على قدر ما تحتاج، أما الأخذ والعطاء والإكثار من الكلام مع الرجل فهذا لا يجوز، والأصل في المرأة أن تلزم بيتها، فإذا خرجت لضرورة أو حاجة فليكن باللباس الشرعي، وليكن بالأدب الشرعي الذي أمر الله عز وجل به. قوله تعالى: {وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب:32] يعني: في كلامكن مع الناس. أمرهن الله سبحانه وتعالى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمرأة يجب عليها إذا خاطبت الأجانب حتى وإن كانوا من المحارم بالمصاهرة مثلاً أن تكون في كلامها غير رافعة للصوت، ولا تعتاد ذلك، ولتكن حازمة في كلامها، لا لين فيه ولا تكسر، إلا أن يكون كلاماً ليناً مع زوجها أو مع محارمها مثلاً، فهي مأمورة بخفض صوتها، وليكن خفض الصوت لها عادة.

تفسير قوله تعالى: (وقرن في بيوتكن)

تفسير قوله تعالى: (وقرن في بيوتكن) ثم قال: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} [الأحزاب:32]. قوله: ((يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ))، تشريف لنساء النبي صلى الله عليه وسلم بالتخصيص بالخطاب. قوله: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب:32] أي: أنتن لستن كغيركن من النساء، فقد شرفكن الله سبحانه وتعالى بأن جعلكن زوجات للنبي صلى الله عليه وسلم. {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} [الأحزاب:32]، ويجوز الوقف على (اتَّقَيْتُنَّ) وله معنى، ويجوز الوقف على: ((لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ)) ويبدأ: {إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب:32]، وإن كان الأول أجمل، فالمعنى: أن النساء كلهن متساويات، والفرق بين امرأة وامرأة: التقوى. فقوله: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} [الأحزاب:32]، أي: إذا اتقيتن سبحان الله وتعالى لستن كغيركن من النساء، ولكنكن أعلى منزلة وأشرف موضعاً، فـ (لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ) بتقواكن لله سبحانه وتعالى. أي: (إِنِ اتَّقَيْتُنَّ) صرتن عند الله عز وجل أشرف وأفضل من غيركن من النساء. وتقوى الله سبحانه وتعالى ترفع الإنسان عند الله عز وجل درجات، قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] وما رفع الله الذين أوتوا العلم درجات إلا لقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، وكلما ازداد الإنسان علماً ازداد تقوى لله سبحانه، وازداد إحساناً في عمله، فيرفع الله المؤمنين عنده درجات، ويرفع الذين أوتوا العلم فوقهم درجات بتقواهم لله سبحانه وتعالى. إذاً: هنا: ((يا نساء النبي)) الخطاب لهن أنهن لسن كغيرهن من النساء بشرط، والشرط هو تقوى الله سبحانه وتعالى. فالفضيلة عند الله بكونهن تقيات، ثم بكونهن نساء النبي صلوات الله وسلامه عليه. ونساء النبي صلى الله عليه وسلم إذا اتقين الله هنّ مع النبي صلى الله عليه وسلم ليس في الدرجات الدنيا من الجنة، وليس في ربض الجنة، بل في أعلى الجنة، فلن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أعلى الجنة ونساؤه أسفل منه، بل يرفع الله الإنسان إلى منزلة من يحبه ممن هو أعلى منه، فيرفع الله نساء النبي صلى الله عليه وسلم إلى منزلة النبي صلوات الله وسلامه عليه، ويكن معه في الجنة. وعلى الوقف الثاني: وهو أن تقف عند قوله تعالى: ((يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ)) ثم تقرأ: {إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32]. ولها معنى أيضاً، والمعنى فيها: أن الإنسان أحياناً إذا اتقى الله سبحانه وتعالى يتنازل، فتواضعه يجعل غيره يركب عليه ويخدعه ويطمع فيه. إذاً: المعنى هنا: اتق الله سبحانه وتعالى، ولكن لا تكن ليناً بحيث تخدع في الشيء، والنساء في ذلك أولى، فالمرأة تكون تقية فتتواضع، ولكن لا يجعلها هذا التواضع تلين أمام الرجال في القول، والرجل حين يتواضع للرجال أكثر من حده ينقص قدره عندهم فلا يعرفون قدره. والمرأة كذلك، فلو أن نساء النبي عليه الصلاة والسلام ورضي الله عنهن يخضعن في القول مع الرجال بدعوى التواضع لطمع المنافق والفاسق، والذي يخاطب بذلك هو الله سبحانه وتعالى؛ لأنه أعلم بما في القلوب. فإذا كانت المرأة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم، والتي تربت في بيت النبي صلى الله عليه وسلم يحذرها الله من الخضوع في القول، فنساء المؤمنين أولى بهذا الحذر. فلو أن إنساناً شريفاً كبيراً في قومه وله مهابة، تخاف أن تدخل بيته، وتستحيي أن تكلم نساءه أو تكلم أهله، فكيف بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو أجل الخلق قدراً؟ إذاً: قليل أن يحدث مثل هذا الشيء، ومع ذلك فإن الله يحذر نساء النبي صلى الله عليه وسلم من الخضوع في القول للرجال. فعلى ذلك فإن غير نساء النبي صلى الله عليه وسلم أولى، فكل امرأة للرجال فيها مطمع، فنحن في زمان فسد أهله، وكثر فيه الخيانة والغش، وكثر فيه الخديعة، فعلى كل إنسان أن يحافظ على نفسه، ويحافظ على أهل بيته. إذاً: حذر الله عز وجل نساء النبي صلى الله عليه وسلم أن يخضعن بالقول، فالمرأة تكون جادة في كلامها وتكون حازمة، لا تخنع بكلامها ولا تلين ولا ترخم صوتها لا بقراءة قرآن ولا بغيره، فإذا كانت المرأة تريد أن تقرأ القرآن وعلمت أن حول البيت رجال فلا يجوز لها أن ترفع صوتها بالقرآن، وخاصة إذا كانت تتغنّى بالقرآن، فلا يجوز لها أن تتغنى بالقرآن إلا مع نساء؛ لأن قراءة المرأة لكتاب الله أمام شيخ مدعاة للفتنة التي نهى الله عز وجل عنها. إذاً: ليكن قولك قولاً فصلاً جاداً فيه الحزم وفيه القطع، وليس فيه الميل ولا التكسر أو التغنج، فلا يجوز للمرأة أن تصنع ذلك، حتى ولو كانت من نساء النبي صلوات الله وسلامه عليه اللاتي شرفهن الله سبحانه وطهرهن بموضعهن من النبي صلوات الله وسلامه عليه. فقوله تعالى: {إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} [الأحزاب:32] أي: احذرن من الخضوع بالقول مع الرجال. وقوله تعالى: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] وهل يصل المنافق إلى مطمعه؟ حاشا لله عز وجل، ومستحيل أن يكون ذلك. لكن في زماننا قد يصل إلى مطعمه، والمصائب كثيرة، فعلى ذلك فإن المرأة تلزم بيتها، وتلزم الأدب الشرعي، وتلزم حجابها، ولا تخضع بالقول للرجال، ولا تختلط بهم، ولا تتبرج تبرج الجاهلية الأولى. ومعنى الخضوع بالقول: اللين والتكسر في القول بترخيم الصوت وتليينه إظهاراً للتواضع. فعلى المرأة أن تلتزم وقارها وتلتزم الصمت، وإذا احتاجت لشيء تكلمت على قدر ما تحتاج، أما الأخذ والعطاء والإكثار من الكلام مع الرجل فهذا لا يجوز، والأصل في المرأة أن تلزم بيتها، فإذا خرجت لضرورة أو حاجة فليكن باللباس الشرعي، وليكن بالأدب الشرعي الذي أمر الله عز وجل به. قوله تعالى: {وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب:32] يعني: في كلامكن مع الناس. أمرهن الله سبحانه وتعالى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمرأة يجب عليها إذا خاطبت الأجانب حتى وإن كانوا من المحارم بالمصاهرة مثلاً أن تكون في كلامها غير رافعة للصوت، ولا تعتاد ذلك، ولتكن حازمة في كلامها، لا لين فيه ولا تكسر، إلا أن يكون كلاماً ليناً مع زوجها أو مع محارمها مثلاً، فهي مأمورة بخفض صوتها، وليكن خفض الصوت لها عادة.

معنى الأمر بالقرار في البيوت والنهي عن التبرج

معنى الأمر بالقرار في البيوت والنهي عن التبرج ثم قال الله سبحانه: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] وهذا خطاب لنساء النبي صلى الله عليه وسلم، وغيرهن يقتدين بهن. فالنبي عليه الصلاة والسلام قدوة، والجميع يقتدون به رجالاً ونساء، ونساء النبي عليه الصلاة والسلام قدوة يقتدي بهن النساء، وقد طهرهن الله وأمرهن أن يلزمن بيوتهن، فغيرهن ممن لم يكن مثلهن أولى وأولى. وإذا كانت المطهرة الشريفة الفاضلة مأمورة بذلك، فغيرها أولى بذلك. يقول الله سبحانه: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب:33]، أي: هذا أمر من الله سبحانه حتى يذهب عنكم الرجس والآثام، وما كان من ذنوب ومعاصٍ في الجاهلية، {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33] سبحانه وتعالى. وقراءة نافع وأبي جعفر وعاصم: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33]. وباقي القراء يقرءون: (وقِرنَ في بيوتكن). والواو هنا عاطفة، وأصل الفعل من (قَرّ) إما من القرار أو الوقار، فكلا المعنيين مقصودان، تقول وقَر يقِر فهو وقور. فقوله: ((وقَرن)) أي: كن ملازمات لبيوتكن. وقوله: (وقِرن في بيوتكن) يأتي أيضاً بمعنى القرار، ويأتي بمعنى الوقار، أي: ليكن عليكن الوقار، في أي مكان تكنّ فيه، أو الزمن البيوت بوقار. وقوله: (بيوتكن) بضم الباء هي قراءة حفص عن عاصم وورش وأبي عمرو وأبي جعفر ويعقوب. وباقي القراء يقرءونها بكسر الباء (بِيوتكن). وقوله تعالى: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33] فيها قراءتان: قراءة الجمهور: (ولا تبرجن). وقراءة البزي عن ابن كثير: (ولآ تَّبرجن) بالمد والتشديد، والمعنى: اللزوم فيها، كأنه شدد الكلمة للمبالغة في الزجر عن التبرج. وأصل التبرج: الظهور، أو الإظهار، وتبرج الجاهلية معناه: المرأة التي كانت تظهر زينتها وحسنها وجمالها للناس، وتمشي متغنجة متكسرة، ومتبخترة أمام الرجال، فنهاهن الله سبحانه وتعالى أن يتشبهن بهؤلاء.

معنى الجاهلية الأولى

معنى الجاهلية الأولى قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33]. إذاً: هناك جاهلية أخرى، ستكون بعد ذلك. والجاهلية الأولى: ما كان قبل الإسلام، وذكروا أنه من عهد آدم حتى عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ففي كل قرن جاهلية، وهي أن المرأة تبدي فتنتها وتبدي زينتها وتمشي أمام الرجال، فيراها الرجال وينظرون إليها، فذكر العلماء في الجاهلية الأولى أموراً مما كانت تصنعها المرأة في الجاهليات. فمثلاً: مما جاء في ذلك، يقول الإمام القرطبي: الجاهلية الأولى: الزمن الذي ولد فيه إبراهيم عليه وعلى نبينا عليه الصلاة والسلام، كانت المرأة تلبس الدرع من اللؤلؤ فتمشي وسط الطريق، وتعرض نفسها على الرجال، وتمشي متبرجة، لكي ينظروا إليها. وأنت ترى المرأة في هذا الزمان قاعدة ببيتها لابسة لباس البيت ومنظرها ظاهر التبرج، إذا نزلت إلى الطريق تتزوق؛ حتى ينظر إليها الرجال كما كان يصنع أهل الجاهلية الأولى. يقول: تلبس الدرع من اللؤلؤ، والدرع: القميص المحلى باللؤلؤ، فتمشي حتى ينظر إليها الرجال وهي على ذلك، قال ابن عباس رضي الله عنهما: بين نوح وإدريس عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام عشرة قرون، وقيل: إن المرأة كانت تلبس الدرع من اللؤلؤ غير مخيط الجانبين، وتلبس الثياب الرقاق لا تواري بدنها. هذه الجاهلية الأولى. وفي الماضي كانت المرأة تمشي وتضرب برجلها؛ حتى ينظر من في السوق إلى ساقها ورجلها، وتبدي شيئاً من صدرها، بل تبدي جميع مفاتنها، وتتفنن في السير على الطريق حتى ينظر إليها الناس، ولا حول ولا قوة إلا بالله. فهي تعرض نفسها على الرجال، وتعرض نفسها على النار، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

أحوال جاهلية اليوم

أحوال جاهلية اليوم روي في صحيح البخاري أنه: (قوم من هذه الأمة يخرجون إلى عيد لهم ويذهبون إلى جانب علم -جبل من الجبال لمعصية الله سبحانه وتعالى- فيخسف بهم، ويسقط عليهم العلَم، ويمسخ منهم قردة وخنازير). وذكر في حديث آخر: (أنه يخرج الرجلان إلى الفاحشة ويمسخ أحدهما قرداً أو خنزيراً، ولا يمنع ذلك صاحبه أن يكمل ما هو فيه) لا يمنعه أنه يكمل مشيه إلى المعصية، رأى صاحبه مُسخ قرداً أو خنزيراً فلم يترك المعصية. وانظر إلى الممثلات الآن ما الذي يحصل فيهن، ترى ممثلة متبرجة فاجرة، قد ابتلاها الله بأن سقطت من عمارة، وتلك أصيبت بالسرطان، وكذلك الرجال، ولكنهم لا يتعظون؛ لأن المال يغر الناس، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (السعيد من وُعظ بغيره، والشقي من شقي في بطن أمه). فالإنسان الذي يرى المصيبة في غيره فيتعظ هو السعيد، والإنسان الذي ينظر إلى غيره ولا يتعظ، ويحس أنه سينجو، ولن يحدث له شيء هو الشقي المبتلى ولا حول ولا قوة إلا بالله. وكم ترى من بلاء يحيط بالناس والناس لا يتعظون، والموت يفاجئ الناس، وكل يوم يصلون على جنازة في المسجد، مرة في الظهر، ومرة في العصر، ومرة في المغرب، ومن الناس من يقعد خارج المسجد ولا يصلي، ينظر الناس الميت داخلين به إلى المسجد وخارجين به، وكم من الناس من دخل المسجد والميت على ظهره ولا يصلي، ومن الناس من يتكلم خارج المسجد حال الخطبة وكأن الأمر لا يعنيه، ومن الناس من يقول: مكبرات الصوت التي في المسجد تزعجنا، والدروس تزعجنا، وهو لا يصلي ولا يعمل صالحاً، وتراه طوال النهار يضحك في الشارع. وهل تستحق الرحمة عند رب العالمين بالصلاة عليك بعد الموت وأنت تارك للصلاة، وتارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتخادع ربك سبحانه، وتخادع الناس، وفي النهاية تريد الرحمة من رب العالمين. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عباده السعداء، ولا يجعلنا من عباده الأشقياء. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصلّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الأحزاب (تابع) [30 - 33]

تفسير سورة الأحزاب (تابع) [30 - 33] المرأة المؤمنة يجب عليها أن تتخلق بأخلاق الإسلام، وأن تقتدي بأمهات المؤمنين رضي الله عنهن أجمعين، فقد علمهن وأدبهن القرآن الكريم في كثير من الآيات، وعلى المرأة المسلمة أن تترك التخلق بأخلاق الجاهلية الأولى من التبرج والسفور والخضوع بالقول، وأن تعلم أن هذه الصفات هي ما يريد الغرب الكافر منها، من أجل أن يسيطروا على بلاد المسلمين.

صفات المرأة المؤمنة

صفات المرأة المؤمنة

المرأة المؤمنة لا تخضع بالقول

المرأة المؤمنة لا تخضع بالقول أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين: قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا * إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:33 - 35]. في هذه الآيات من سورة الأحزاب وما قبلها من الآيات يخاطب الله سبحانه وتعالى نساء النبي صلوات الله وسلامه عليه وهو القدوة الحسنة وهن القدوة للمؤمنات، فقال قبل هذه الآيات: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب:30] فهذا أمر من الله سبحانه وتعالى لهن بأن يلزمن الطاعة ونهي لهن عن الوقوع في المعصية، فمن وقعت منهن في معصية من المعاصي المعلومة المنهي عنها فإنه سيضاعف لها العذاب، فإذا اتقت ربها سبحانه وقنتت وخشعت وأذعنت له سبحانه وتعالى كان لها الأجر المضاعف عند الله سبحانه، قال جل وعلا: {وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} [الأحزاب:31]. ثم أخبرهن أنهن لسن كغيرهن من النساء لأنهن قدوة للنساء، تقتدي بهن كل امرأة مؤمنة طيبة صالحة، لذلك فإن الخطأ منهن سيتبعن فيه، والطاعة منهن سيتبعن فيها كذلك. فإذا أطعن الله ورسوله واتبعتهن المؤمنات على ذلك، كان لهن أجرهن وأجر من عمل بهذه الطاعة من بعدهن حتى تقوم الساعة، فقال سبحانه: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} [الأحزاب:32] أي: بتقواكن الله سبحانه لستن كأحد من النساء، فإن اتقيتن ربكن سبحانه فاحذرن من المبالغة في ذلك فتقعن في الخضوع بالقول مع الرجال. بمعنى: تقوى الله سبحانه لا تدفعكن إلى اللين في القول مع الرجال الأجانب، فإنما تلين المرأة في القول مع زوجها أو مع محارمها، أما مع الإنسان الأجنبي فلا، حتى ولو كان هؤلاء الأجانب أبناء لنساء النبي صلى الله عليه وسلم أو في حكم الأبناء، إذ هن أمهات المؤمنين ومع ذلك يحرم عليهن أن يخضعن بالقول مع الرجال الأجانب، ويحرم على المؤمنين الزواج منهن، وبذلك يكن قدوة حسنة لمن خلفهن. قال الله سبحانه: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} [الأحزاب:32]، حتى وإن كنتن أمهات المؤمنين فلا تلن في القول، وليكن القول منكن قولاً فصلاً فيه الحزم، فيه التأديب، فيه التهذيب، فيه الإرشاد، فيه التبليغ لدين الله سبحانه. قال سبحانه: {إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32]، التعليل أنكن لو خضعتن بالقول طمع الذي في قلبه مرض، مع أن الإنسان الذي يذهب إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم ليسأل النبي صلى الله عليه وسلم أو ليسأل أمهات المؤمنين هذا في العادة يكون على تقوى ويريد أن يتعلم الحكم الشرعي، ومن النادر أن يذهب الذين في قلوبهم مرض أو شك أو نفاق أو فسق؛ لأنه يخاف على نفسه من الفضيحة، بأن ينزل الله في شأنه قرآناً يفضحه بما قال، فإذا كانت نساء النبي صلى الله عليه وسلم قد أمرن بهذا، فغيرهن من النساء من باب أولى، ففي كل امرأة مطمع، وكما قالوا: لكل ساقطة لاقطة، فقد تكون المرأة صغيرة ويهواها شاب أو شيخ، وقد تكون المرأة كبيرة ويهواها إنسان، فإذا لانت في قولها وقعا في الهوى ووقعا في الحرام، فعلى الإنسان أن يخاف على نفسه من الوقوع فيما حرمه الله سبحانه ويجتنب الخلوة مع النساء الأجانب. وعلى المرأة كذلك أن تجتنب المخالطة للرجال قال سبحانه: {وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب:32] يعني: مرن بالمعروف وانهين عن المنكر، والمعروف: ما جاء في كتاب الله عز وجل من أحكام شرعية، قال ابن عباس رضي الله عنهما: أمرهن بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

المرأة المؤمنة تقر في بيتها ولا تتبرج

المرأة المؤمنة تقر في بيتها ولا تتبرج قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] من القرار وهو المكوث في البيوت، ومن الوقار، أي: ليكن عليكن الوقار والسكينة، ولا تخرجن من البيوت إلا للحاجة وللضرورة. ثم قال تعالى: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33]، أي: واحذرن تقليد أهل الجاهلية الأولى، وهي ما كان قبل الإسلام، سواء ما كان قبله مباشرة أو ما كان قبله بزمان طويل حتى إلى عهد آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وهو ما كان من جهل في الناس واتباع للشيطان بتبختر النساء وخروجهن متزينات يفتن الرجال، فنهى الله سبحانه وتعالى نساء نبيه عليه الصلاة والسلام عن تقليد هؤلاء. فالشيطان يوقع العداوة والبغضاء بين الناس، ولا يحب أن يكون الإنسان مطيعاً لله سبحانه، فهو يبغض بني آدم لأن آدم عليه السلام كان سبب دخول الشيطان النار، وذلك حين أمر الشيطان بالسجود لآدم فرفض، كما قال تعالى: {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34]، أي: جحد وكفر واستكبر فاستحق أن يكون من أهل النار، والعياذ بالله. فقال لله عز وجل: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82]، أي: لن أدخلها وحدي، وإنما سأدعو كثيراً من الناس إليها، فانظر استكبار الشيطان، وانظر رده على ربنا سبحانه: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82] وقال في موضع آخر: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17]. فالشيطان يتربص بالفتاة المؤمنة وبالإنسان المؤمن حتى يغويه ويضله عن سبيل الله، والله عز وجل هدى الإنسان بهذا الكتاب العظيم وبين حدوده سبحانه، وحذر من تعدي هذه الحدود. وقال تعالى: {إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد:36]، فالحياة قصيرة جداً، فمهما ظننت أنها طويلة فإنك تجد الأيام والليالي سرعان ما تمر حتى تجد العمر قد فني وبعد ذلك تقابل ربك سبحانه وتعالى. فليحذر الإنسان أن يغتر بالدنيا، أو أن يغتر بالشيطان أو بالشهوات والشبهات فيقع في المحرمات ويجادل بالباطل كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج:3 - 4]، فمن تبع الشيطان أغواه وأضله عن سبيل الله تبارك وتعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الحج:8 - 9]. أي: من الناس من يجادل في الله بلا علم ولا هدى ولا كتاب من الله تبارك وتعالى، ويتبع الشيطان فيما يقوله له: {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الحج:9]، فالشيطان استكبر، وأولياء الشيطان يستكبرون أيضاً فيرفضون الحق الذي جاء من عند الله ويتبعون الشيطان على ما هو فيه من باطل وقد عرفوا أنه عدو لهم. فأخبر الله سبحانه: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6]. وهنا يخبر الله سبحانه وتعالى ويبين ما يريده بأهل البيت وكذلك بالمؤمنين الذين يتبعونهم، فقال جل وعلا: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33]، أي: يريد الله أن يطهركم تطهيراً بهذه الأحكام، من عدم اتباع الهوى والشيطان، وعدم مخالطة الرجال، فاحذروا من الوقوع فيما حرم الله سبحانه من الفتن ومن الغرور ومن تقليد أهل الجاهلية الأولى.

تبرج الجاهلية الأولى

تبرج الجاهلية الأولى

إظهار المرأة زينتها واختلاطها بالأجانب

إظهار المرأة زينتها واختلاطها بالأجانب ذكرنا أن الجاهلية الأولى هي ما كان قبل النبي صلى الله عليه وسلم سواء ما كان قبله مباشرة أو قبل عهد نوح أو في عهد إدريس أو في عهد إبراهيم على نبينا عليه الصلاة والسلام، أو بعد ذلك في عهد موسى وعيسى على نبينا وعليهم الصلاة والسلام. فقد كان بين كل رسول ورسول تظهر جاهلية وتظهر فتن ويظهر اختلاط بين الرجال والنساء وبغي ووقوع في الحرام، فذكر العلماء أن من فعل الجاهلية أن المرأة كانت تكشف عن شيء من بدنها، كأن تلبس القميص أو (الجلابية) وتكون مفتوحة من الجانبين بحيث تبدو الثياب التي تلبسها المرأة تحتها، فهذه من فعل الجاهلية الأولى. كذلك ذكروا أنه في زمان داود وسليمان عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، كانت المرأة تلبس قميصاً من در غير مخيط الجانبين، وكانت النساء في الجاهلية الجهلاء يظهرن ما يقبح إظهاره، حتى كانت المرأة تجلس مع زوجها وخلها. أي إذا كانت المرأة جالسة مع زوجها كان يجلس معها صديقها كذلك، ونحن حين نسمع ذلك نستنكر ونقول: كيف يمكن أن يحدث هذا الشيء؟ وهذا يحدث الآن في الجامعات، فتجلس البنت مع أصدقائها في الكافتيريا وتتكلم معهم، وهذا هو فعل الجاهلية بل أسوأ، فقد كانت المرأة في الجاهلية تجلس مع رجل واحد وزوجها معها، والآن تجلس مع جملة من الأصدقاء، وتتزوج من وراء أهلها زواجاً عرفياً باطلاً محرماً، فتتزوج من إنسان بدون علم أحد، ثم بعد ذلك لعله يواقعها وتقول: زوجي، ثم يتركها بعد ذلك وتظل على هذه الحال، لا هي متزوجة ولا هي غير متزوجة ولا حول ولا قوة إلا بالله. قالوا: وكانت المرأة تجلس مع زوجها وخلها، فينفرد خلها بما فوق الإزار إلى الأعلى، يعني: صديقها ينظر إليها إلى ما فوق إزارها إلى وجهها وإلى صدرها، وزوجها ينفرد بما تحت الإزار، قال: وربما سأل أحدهما صاحبه البدل، فهذا من الجاهلية ولا حول ولا قوة إلا بالله.

تمشي المرأة وسط الرجال

تمشي المرأة وسط الرجال وقال مجاهد: كان النساء يتمشين بين الرجال، فذلك التبرج. فالتبرج الذي يذكره مجاهد هو أن تمشي المرأة في وسط الرجال. قال ابن عطية: والذي يظهر عندي أنه أراد الجاهلية التي لحقنها، يعني: كأنه يقول: الجاهلية الأولى التي لحقها الصحابيات؛ لأن التي عاشت منهن قبل الإسلام فترة وعاشت في الإسلام أدركنت ما كان يحدث فنبههن الله عز وجل بألا تعدن إلى مثل هذه الجاهلية التي رأيتنها قبل ذلك. قال: فأمرهن بالانتقال عن سيرتهن وهي ما كان قبل الشرع من سيرة الكفر وعدم الغيرة على المحارم؛ لأن أهل الجاهلية كان عندهم الزنا شيئاً عادياً، فكان الإنسان يذهب ويزني سراً أو علناً، وإن كان الذي يزني علناً يقبح نوعاً ما، فلم يكونوا ينكرون على أحد ولا حول ولا قوة إلا بالله، فجاء الإسلام ينهى عن الجميع، ظاهر الإثم وباطنه. يقول الإمام القرطبي رحمه الله عن الجاهلية الأولى: المقصود من الآية مخالفة من قبلهن من المشية على تغنيج وتكسير وإظهار للمحاسن للرجال إلى غير ذلك مما لا يجوز شرعاً، فالمرأة إذا أبدت شيئاً من زينتها وتجملت للرجال في الطريق فهذه هي الجاهلية الأولى، وهذا لا يجوز شرعاً، فأمرهن بلزوم البيوت.

موقف الغرب من التبرج

موقف الغرب من التبرج فالبيت هو مكان المرأة، والغرب قد ضاقوا ذرعاً من خروج المرأة ومن الفجور ومن الزنا الذي عندهم، فبدءوا يحاولون أن يضعوا قوانين لمكوث المرأة في البيت، بأن تترك العمل وتقعد في البيت، وتأخذ أجرها كاملاً لفعلها هذا. يعني: أن الذين سنوا للناس خروج المرأة وتبرجها عانوا من مضار ذلك، وعرفوا كيف ضاعت بيوتهم، فلا يوجد فيها المودة والرحمة الموجودة في بيوت المسلمين، فالفتاة والغلام إذا كبرا أصبح أحدهم ليس له دخل بأهله؛ لأنه ابن الدولة وليس ابن أهله، فأبوه وأمه لا يقدران على ضربه أو تأديبه ولو كان صغيراً؛ لأنه يذهب للمدرسة فيعطونه تلفون الشرطة ويقال له: إذا قام أبوك أو أمك بضربك فاتصل بالشرطة وأخبرهم بذلك، فإذا حصل هذا الشيء مرات يؤخذ الطفل أو الفتاة من أبيها وأمها وتعطى لأسرة أخرى من الأسر التي ليس عندها أطفال وينتظرون مثل هؤلاء ليأخذوهم ويربوهم بعيداً عن آبائهم وأمهاتهم. فإذا كان الأب والأم يمنع من ضرب الولد فسوف يصبح الولد عنده إباحية، وليس عنده التزام بأي آداب، ولأنه ابن الدولة وليس ابن أبيه ولا ابن أمه؛ فإنه حين يكبر الأب أو الأم فالولد يرميهم في الملجأ أو يرميهم في دار المسنين، فلا يوجد عندهم الاحترام الموجود في بلاد المسلمين، فالابن يحترم أباه ويحترم أمه ويعطف عليهما، ينفق عليهما، يرجو من وراء ذلك الثواب عند الله تبارك وتعالى. تجد في بلاد المسلمين أن المسلم يحس أن أباه الشيخ الكبير، وأمه المرأة العجوز، فوق رأسه، وأنهما بركة البيت، وأن دعوة الأب ودعوة الأم سبب من أسباب دخول الجنة، وهذا الشعور لا يوجد عند الغرب؛ لأنهم يعيشون حياتهم هذه للاستمتاع فقط، فيذهب الأب للعمل في مزرعة بعيدة، بينه وبين ابنه آلاف الأميال، والابن يزوره كل سنة مرة أو كل سنتين مرة، ويموت يوم يموت ولا يوجد من يدفنه؛ لأنه لوحده في مكان بعيد من أجل المال الذي فرق بين الجميع.

الغرب يصدرون الإباحية إلى بلاد المسلمين

الغرب يصدرون الإباحية إلى بلاد المسلمين فالآن وجدوا أن الأفضل هو في أن ترجع المرأة إلى بيتها، وفي الرجوع للجو الأسري، ولكن يرجعون على استحياء لئلا يقال: رجعتم إلى ما هو موجود في الإسلام الذي تزعمون معارضته، ولكنهم يصدرون القبيح إلى بلاد المسلمين. فهم عرفوا أن الإسلام يجعل المؤمن مع المؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وهم لا يريدون هذا الشيء، بل يريدون إنساناً متفككاً مسحوباً عن مجتمعه وعن أسرته، ليس بينه وبين أخيه المودة والرحمة، فقاموا يصدرون لبلاد المسلمين الصور العارية والإباحية الجنسية، بحيث ينتشر بين المسلمين الخلل الأخلاقي والديني، فإذا بهم لا يعرفون دينهم، بل يحبون الشهوات والفتن، وإذا بكل مسلم أصبح لا ينكر على أصحاب المنكرات وإن حدثت أمامه، ولا يتمعر وجهه إذا رأى رجلاً وامرأة في الطريق، وقد كان هذا الأمر من قبل لا يمكن أن يحدث أمام الناس، أما الآن فأصبحوا يقعدون مع بعض على البحر، الرجل مع المرأة، الشاب مع الفتاة، يتبادلون القبلات، يلعبون مع بعض، ولا أحد يتكلم، ولا غيرة موجودة، ولا أحد يأمر بمعروف وينهى عن منكر. جاءت تعاليم الغرب إلى بلاد المسلمين، وأصبحوا يطمحون إلى أكثر من ذلك، وهو اللواط ولا حول ولا قوة إلا بالله، ونادوا بأن الشذوذ حرية شخصية؛ حتى تتفكك عرى الإسلام وتتفكك بلاد المسلمين، ولا يكون في المسلمين من يقدر أن يقاوم الكفار. أما الكفار فإنهم يزعمون التمسك بالدين، فاليهود دولة دينية، وأمريكا رئيسها رجل ديني مسيحي متعصب لهذا الشيء، فأول ما بدأ بحرب المسلمين قال: الحرب الصليبية، ثم رجع على استحياء وقال: لا أقصد هذا الشيء. وهي كلمة مقصودة تماماً، فهي حرب صليبية على المسلمين، حرب تخرب ديار المسلمين، فأمريكا حين عرفت أن بترولها لن يكفيها ثلاثمائة سنة قادمة -كما كانوا يزعمون- ولا حتى عشرين سنة قادمة، بدءوا ينظرون: أين يوجد البترول؟ فإذا كان عند بحر قزوين في أفغانستان، إذاً لابد أن نأخذ أفغانستان. البترول موجود في العراق، إذاً نأخذ العراق، موجود في بلاد الشرق الأوسط نضع أيدينا عليه، حتى يصبح هذا كله تحت سيطرتنا. فليست القضية قضية تحرير ولا ديمقراطية ولا شيء من ذلك، إنما القضية قضية استيلاء على البترول؛ لأن الذي معهم سوف ينفد خلال سنوات قليلة، فقالوا: لابد أن نضع أيدينا على احتياطي البترول العالمي الموجود في هذه البلاد، وعرفوا أنهم لو جاءوا إلى هذه البلاد فجأة فإنهم سوف يقاومون من الشباب المتدين، فقالوا: لابد أن نخرب هؤلاء الشباب المتدينين، فندخل لهم الشهوات والشبهات، ندخل العري، ندخل الشكوك. فبدعوى الإبداع سمح للشكوك في كل مكان، فيؤلف الإنسان كتاباً فيه سب لكلام ربنا سبحانه وتعالى، والاعتراض على الدين، والاعتراض على السنة، وفيه تسفيه أمور الدين، ولو اعترض أحد عليه، قيل له: أنت ضد الحرية، أنت ضد الديمقراطية، أنت تحارب الإبداع، فبذلك يسكت الكل، ويترك لهؤلاء أن يتكلموا، ويمنع وجود الإنسان المتدين الذي ينافح ضد اليهود وضد الغرب الكافر، وينادى بالقضاء عليه بأي صورة من الصور، فإذا بالشباب يصبح شباباً مخنثاً، لا يعرف شيئاً عن دينه، وهؤلاء هم الذين إذا دخل الكفار بلاد المسلمين وجدوهم أمامهم، يريدون لقمة سائغة وإن ضاعت بلاد المسلمين. وقاموا بتحويط بلاد المسلمين، وذلك باختلاق مشكلة في البلد الفلاني من أجل أن يضع الكافر رجله فيه، ومشكلة في البلاد الفلانية الأخرى من أجل ضربها، فإذا بضربة في ليبيا وضربة في العراق وضربة في السودان وضربة في دارفور، وهكذا حتى يحوطون بلاد المسلمين، والمسلمون في ضياع ولا يشعرون بذلك؛ لأنهم تركوا كتاب الله سبحانه وتعالى، وعرف هؤلاء الكفار كيف يدخلون إليهم من باب الفتن والشهوات، فالمرأة تركت بيتها فلا تعلم عن أبنائها شيئاً. تجد الأبناء أصبحوا أبناء شوارع، يجلس يتعلم من صاحبه في الشارع، واقف على قارعة الطريق طول النهار، لا يوجد شغل عنده، أو جالس على القهوة، أو جالس في نادي الفيديو أو في نادي الإنترنت ليشاهد الإباحيات، ويا ليته يشاهد شيئاً ينفعه في دينه أو دنياه، وإنما أخذوا كل سلبيات الغرب وكل الإجرام في البعد عن دين الله سبحانه. يشاهد أفلام الشهوات، ويحاول أن يقلد ذلك، فكثر الاغتصاب في بلاد المسلمين، وكثر الخطف، وكثرت الفواحش ولا حول ولا قوة إلا بالله. فإسرائيل كانت تحارب المسلمين بإرسال فتيات إلى بلاد المسلمين على الحدود، وهؤلاء الفتيات مصابات بالإيدز؛ لأنهم عرفوا أن المسلمين ممكن أن يقعوا في الزنا بسهولة فيدخل الإيدز بلاد المسلمين عن طريق ذلك. وكل طريقة يقدرون أن يخربوا بها بلاد المسلمين فإنهم يفعلونها، حتى أرسلوا حبوب زراعية توضع في الأرض، فإذا خرجت فإنها تملأ الأرض دوداً فتخرب الأرض ولا يبقى فيها خيرات، فإذا بك تأكل الفاكهة فتجد أنها ليس لها طعم، وتأكل الحبوب فلا تجد لها طعماً كذلك، ما هو الذي حصل فيها؟ لقد خربوا على المسلمين ما كان في بلادهم. حرب ظاهرة وحرب باطنة، يخربون العقول والكفاءات، فإذا ظهرت كفاءات عالية في بلاد المسلمين فإنهم يخطفونها وتبقى عندهم في بلادهم، وإذا لم يقدروا على هذا فإنهم يقتلون علماء المسلمين في بلادهم، بحيث تبقى دول المسلمين دولاً متخلفة، لا دين فيها ولا شباب قوي فيدخلونها بمنتهى البساطة. ولذلك كانوا طامعين أنهم حين يدخلون العراق فإن أهل العراق سوف يقابلونهم بالورود؛ لأنهم عرفوا أن الناس ابتعدوا عن الدين في العراق، فالناس هناك ضيعوا دينهم من فترة فضاعوا وتفرقوا شيعاً، فهم قد درسوا أحوال المسلمين وما هم عليه، فقالوا: سندخل العراق وسيستقبلوننا بالورود، ولكن الذين وقفوا لهم هنالك هم أهل الدين، وإن كانوا قلة وإن كانوا ضعفاء، ولكن الله يثبت من يشاء. نسأل الله عز وجل أن ينصر الإسلام والمسلمين في كل مكان، وأن يذل الكفر والكافرين، وأن يرينا فيهم يوماً يأتي عليهم فيه عذاب من عند الله وبأيدي المؤمنين، اللهم آمين يا رب العالمين. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الأحزاب [33 - 35]

تفسير سورة الأحزاب [33 - 35] نساء النبي صلى الله عليه وسلم قدوة لنساء المسلمين، فإذا نهاهن الله عن التبرج والاختلاط وأمرهن بلزوم البيوت، فنساء المسلمين أولى بامتثال ما أمر الله سبحانه واجتناب ما نهى الله عنه، ففي ذلك تطهير للقلوب والأبدان من رجس الشيطان، والإناث والذكور كلهم معنيون بأمر الله ونهيه، ومجازون على كل عمل يعملونه.

تفسير قوله تعالى: (ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى)

تفسير قوله تعالى: (ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الأحزاب في نساء النبي صلى الله عليه وسلم: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا * إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:33 - 35]. في هذه الآيات من سورة الأحزاب أمر من الله سبحانه وتعالى لنساء النبي صلوات الله وسلامه عليه ورضي الله عنهن، وهن القدوة الحسنة للنساء اللاتي يقتدى بأفعالهن وأقوالهن؛ لأنهن تعلمن من النبي صلوات الله وسلامه عليه؛ ولذلك قال الله سبحانه: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} [الأحزاب:32]، فأمرهن بالوقار في البيوت ولزوم البيوت وهذا هو حجاب الشخوص، أن تلتزم بيتها ولا تخرج فيراها الناس، سواء خرجت بحجابها أو خرجت من بيتها في كامل ثيابها، وحولها ما يواريها، فأمرها الله عز وجل، بقوله: الزمي البيت، لا تخرجي من البيت. قال الله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33]، وعليكن السكينة والوقار، واحذرن من التبرج، والتبرج بمعنى: الظهور والزينة، قال تعالى: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33]. وذكرنا في الحديث السابق تبرج الجاهلية الأولى وما كان النساء يفعلنه من ظهور أمام الرجال وفتنة، يحرش الشيطان بها بين النساء والرجال، وما وجد على الأرض من فتنة أشد على الرجال من النساء، فالنساء فتنة؛ ولذلك حذرهن الله سبحانه وتعالى من التبرج وقال: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33].

تفسير قوله تعالى: (وأقمن الصلاة وآتين الزكاة)

تفسير قوله تعالى: (وأقمن الصلاة وآتين الزكاة) ثم أمرهن سبحانه: {وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب:33]، طاعة الله سبحانه عامة، ومن خصوصيات الطاعة: إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والصلاة أعظم العبادات البدنية، والزكاة أعظم العبادات المالية، فهنا أمرهن الله سبحانه بالاستعانة بذلك على طاعة الله سبحانه، بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وهذا مما يعين الإنسان على طاعة الله سبحانه، يصلي فيكون قريباً من ربه سبحانه فيدعوه، قال سبحانه: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45]، ويزكى فيكون سمحاً جواداً كريماً، يبذل فيأخذ الأجر العظيم من الله سبحانه، ويظهر الإيمان بالصلاة وبالزكاة، بالعبادة البدنية وبالعبادة المالية. قال تعالى: {وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب:33] في كل شيء، أي: في كل ما أمركن الله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت)

تفسير قوله تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت) ثم أمرهن سبحانه: {وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب:33]، طاعة الله سبحانه عامة، ومن خصوصيات الطاعة: إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والصلاة أعظم العبادات البدنية، والزكاة أعظم العبادات المالية، فهنا أمرهن الله سبحانه بالاستعانة بذلك على طاعة الله سبحانه، بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وهذا مما يعين الإنسان على طاعة الله سبحانه، يصلي فيكون قريباً من ربه سبحانه فيدعوه، قال سبحانه: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45]، ويزكى فيكون سمحاً جواداً كريماً، يبذل فيأخذ الأجر العظيم من الله سبحانه، ويظهر الإيمان بالصلاة وبالزكاة، بالعبادة البدنية وبالعبادة المالية. قال تعالى: {وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب:33] في كل شيء، أي: في كل ما أمركن الله سبحانه وتعالى.

دخول نساء النبي في خطاب أهل البيت

دخول نساء النبي في خطاب أهل البيت ثم قال سبحانه: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب:33]، أي: أهل بيته صلى الله عليه وسلم. والواضح من سياق الآيات أن الله عز وجل يوجه الخطاب لنساء النبي صلى الله عليه وسلم، فهن الأصل في ذلك، فقد قال الله سبحانه: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا * يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:30 - 33]، أيضاً هذه أوامر لنساء النبي. ثم قال بعدما أمرهن بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33]، وكأن الجملة هنا تعليلية، يعني: أمرناكم بكذا ونهيناكم عن كذا لعلة ولسبب، وهو أنا نريد أن نذهب عنكم الرجس يا آل بيت النبي عليه الصلاة والسلام، وواضح أن السياق من أول الآيات في خطاب نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فهن داخلات في أهل بيته صلوات الله وسلامه عليه في هذه الآيات. وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه جمع مجموعة ممن كانوا معه من آل بيته، منهم: علي بن أبي طالب، وابنته فاطمة، والحسن والحسين ووضع كساء عليهم صلى الله عليه وسلم وقال: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت، اللهم هؤلاء أهل بيتي)، فهؤلاء آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فهل هؤلاء فقط هم آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم؟ A ليسوا هم فقط، بل إن آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من ذلك بكثير، فآل العباس من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وآل علي بن أبي طالب وذريته من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فالمؤمنون من أهله صلى الله عليه وسلم من بني العباس ومن بني علي بن أبي طالب كلهم من أهله صلى الله عليه وسلم، والمؤمنون من آل بيته عليه الصلاة والسلام. هنا في هذا الحديث كانت أم سلمة واقفة، ووجدت النبي صلى الله عليه وسلم أدخلهم في الكساء وقال (اللهم! هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنا الرجس، فقالت: وأنا يا رسول الله؟ فقال: أنت على خير، أنت على مكانك). فهنا لا ينبغي أن تأتي زوجة النبي صلى الله عليه وسلم وتكون تحت كساء فيه من ليس محرماً لها، فهذا الكساء تحته علي بن أبي طالب رضي الله عنه وليس محرماً لها، ولذلك لم يدخلها، ولم يقل لها: تعالي أنت أيضاً معنا تحت هذا الكساء، ولكن قال: (على مكانك، أنت على خير). إذاً: واضح من التعليل الذي ذكره ربنا سبحانه وتعالى في قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33]، أن الخطاب الساري فيها لنساء النبي صلوات الله وسلامه عليه، فدلت الآية على أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم من آل بيته، ودل حديث النبي صلى الله عليه وسلم على أن هؤلاء من أهل بيته: علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عن الجميع، فالسيدة أم سلمة قالت: (وأنا معهم يا رسول الله؟! قال: أنت على مكانك، وأنت على خير) فهي على خير وهي من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن قوله: (أنت على مكانك) أي: لا تدخلي معنا تحت الكساء، فلا ينبغي أن تكون هي مع من ليس محرماً لها تحت كساء واحد.

ليس من أهل البيت من مات كافرا

ليس من أهل البيت من مات كافراً وبنو هاشم كذلك من آل بيته عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب:33]، تكريماً للنبي صلى الله عليه وسلم وتشريفاً له، وليس معنى ذلك: أن يكون من أهل بيته عليه الصلاة والسلام من مات كافراً، مثلما مات أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم، ومثلما مات أبو لهب قبل ذلك، فهنا الخطاب للمؤمنين من آل بيت النبي صلوات الله وسلامه عليه، أن الله يريد أن يطهرهم تطهيراً وأن يذهب عنهم الرجس.

نفي العصمة عن أهل البيت

نفي العصمة عن أهل البيت وهل معنى ذلك: أن آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم يكونون معصومين؟! ليسوا معصومين، إنما المعصوم من كان نبياً لله سبحانه وتعالى، يعصمه الله بمرتبة النبوة، ومرتبة الرسالة، وهذه هي العصمة من الله عز وجل لمن يشاء من خلقه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون). إذاً: لا يقال إن آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم معصومون، هذا خطأ وليس بصواب، فليس أحد معصوماً إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ليسوا بأنبياء، إنما هو وحده فقط صلوات الله وسلامه عليه. قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33]، يريد الله ذلك، وإذا أراد الله شيئاً لابد أن يكون، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وجعل نساءه القدوة الحسنة للأمة، فكل امرأة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم بلغت دين ربها، فأحسنت ووفت بما عاهدت ربها سبحانه وتعالى عليه، وبلغت ما بلغها النبي صلى الله عليه وسلم وعلمت الأمة، وعمِّر نساء النبي صلى الله عليه وسلم بعده سنين طويلة، حدثن فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم بأحاديث كثيرة تعلمتها الأمة منهن ومن أصحابه رضوان الله تبارك وتعالى عليهم.

تفسير قوله تعالى: (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة)

تفسير قوله تعالى: (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة) قال سبحانه: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} [الأحزاب:34]. فهنا أمرهن بالعبادة اللازمة والعبادة المتعدية، والعبادة اللازمة كالصلاة، وكل طاعة الله سبحانه من العبادات هي عبادة لازمة؛ لأن الثواب لصاحبه، والعبادة المتعدية كتبليغ العلم، قال تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34]. فالآيات: القرآن، والحكمة: سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكله من عند الله سبحانه وتعالى، فالله نزل على النبي صلى الله عليه وسلم الذكر ليبين للناس ما نزل إليهم، وبين صلوات الله وسلامه عليه للناس ما نزل عليه من عند ربه سبحانه، فالكتاب والسنة كلاهما من عند الله سبحانه، بلغهما النبي صلى الله عليه وسلم، وسمعها أصحابه رضوان الله عليهم ومنهم نساء النبي عليه الصلاة والسلام، فبلغن وذكرن. إذاً: أمرهن الله عز وجل بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله سبحانه ورسوله، وعلل فقال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب:33]، يريد الله سبحانه وتعالى ذلك، فافعلن ذلك حتى يطهركن الله عز وجل تطهيراً عظيماً، فكن على ما أراد الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34]، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتلو في بيت هذه آيات، وفي بيت هذه آيات، فتعرف هذه أحكاماً، وهذه أحكاماً، ويبلغن ذلك عن النبي صلوات الله وسلامه عليه، وهذه من الحكمة في تعدد أزواج النبي صلوات الله وسلامه عليه. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} [الأحزاب:34]، الله سبحانه وتعالى في علمه اللطف، وهو العلم الدقيق، والعلم بالخفايا، والله سبحانه لطيف في قضائه وقدره، فهو الذي يقدر الشيء ويكون لطيفاً بعباده سبحانه وتعالى في تشريعه وفيما قدره لعباده وقدره عليهم. ولما ذكر الله اللطف والخبرة فالمقصود بها دقة علم الله سبحانه وعلمه بكل شيء دقيق وجليل، عظيم وصغير، قريب وبعيد، جلي وخفي، فالله يعلم كل شيء. كذلك من لطفه سبحانه أن أراد بهن الخير العظيم، وأمرهن بالحجاب، وأن تلزم الواحدة منهن بيتها ولا تخرج من بيتها إلا لضرورة من الضرورات، ليقتدي نساء الأمة بنساء النبي صلى الله عليه وسلم. لو كان الخطاب لنساء الأمة فقط دون نساء النبي صلى الله عليه وسلم، لقال نساء الأمة: لا نستطيع ذلك، لكن وجدن القدوة الحسنة في نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فلا تخرج الواحدة من بيتها إلا إذا كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة ونحو ذلك، أو للحج أو للعمرة، وبعد وفاته التزمن البيوت، فكن لا يخرجن إلا لحج أو لعمرة، إلا ما كان من عائشة رضي الله عنها لما خرجت للإصلاح بين الناس بعد مقتل عثمان رضي الله تعالى عنه، وكان ما كان مما حدث يوم الجمل، وإنما أرادت أن يراها الناس فيوقرون آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ويلتزمون أحكام الله سبحانه وتعالى وتخمد الفتنة، ولكن أرادت شيئاً، وأراد الله عز وجل شيئاً آخر. فكان الأصل في نساء النبي صلى الله عليه وسلم المكث في بيوتهن، فلكي تقتدي نساء الأمة جعل الله عز وجل نساء النبي صلى الله عليه وسلم قدوة لهن وأمرهن بما في هذه الآيات، وجعل لهن الأجر العظيم إذا أطعن، وجعل عليهن العقوبة الأليمة إذا عصين، فصرن قدوة للنساء في التزام حكم الله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات)

تفسير قوله تعالى: (إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات) قال الله عز وجل: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} [الأحزاب:35] إلى آخر ما ذكر الله سبحانه وتعالى، وذكر أنه أعد لهم مغفرة وأجراً عظيماً. روى الإمام الترمذي من حديث أم عمارة الأنصارية أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (ما أرى كل شيء إلا للرجال) يعني: تقصد أن الآيات التي تنزل في القرآن: أن الله أعد للمؤمنين المغفرة والأجر العظيم، فيذكر المؤمنين بصيغة جمع المذكر السالم، ويذكر المسلمين ويذكر المحسنين، وكل شيء مذكور فيها بجمع المذكر السالم، فيقصد به الرجال، والنساء لم يذكرن؟ لكن في اللغة العربية إذا اشترك الرجال والنساء في شيء، فالخطاب يكون للرجال، ويدخل معهم النساء، لكن إذا كان الخطاب للنساء فلا يدخل معهن رجل واحد، فهنا إذا اجتمع مجموعة من النساء ومعهم رجل واحد، وأردت أن توجه الخطاب يكون الخطاب بصيغة جمع المذكر، فإذا كن كلهن نساءً فالخطاب بصيغة جمع المؤنث. فإذا خوطب النساء وحدهن يكون الخطاب بصيغة المؤنث، وإذا ذكر الرجال وحدهم يكون بصيغة المذكر، وإذا ذكر الرجال والنساء أو رجل ومجموعة من النساء يكون الخطاب بصيغة المذكر. فهذه المرأة الأنصارية قالت: (وما أرى النساء يذكرن بشيء) فنزلت هذه الآية: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:35]، وهذا حديث صحيح رواه الإمام الترمذي رحمه الله. ذكر الله عز وجل عشر صفات في هذه الآية، أول هذه الصفات قال: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ} [الأحزاب:35] وحتى قوله سبحانه: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب:35]. فالإسلام هو الأصل هنا، والإسلام دين رب العالمين سبحانه، وهو عبادات ظاهرة وباطنة، فإذا ذكر الإيمان فالمقصد ما هو أعظم وأعلى درجة، وإذا جاء الإسلام وحده، وتكلم عن الإسلام يدخل فيه الإيمان ويدخل فيه خصائص الإسلام والإيمان والإسلام والإحسان، وإذا ذكر الإيمان وحده كان كذلك، وإذا ذكر الإحسان كان كذلك، لكن إذا جمع الجميع فهي مراتب بعضها فوق بعض. وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل عن الإسلام قال: (الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت) أي: العبادات الظاهرة. قال: (قال: صدقت، فما الإيمان؟ قال: الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، قال: صدقت). فلما اجتمع الإيمان والإسلام كان الإسلام العبادات الظاهرة، والإيمان ما كان في قلب الإنسان، فإذا قال: المسلم، فيقصد به من جمع كل شيء في الإسلام، وإذا قال: المؤمن، فيقصد به من جمع كل شيء في الإسلام، كما يقولون: إذا اجتمعا انفردا وإذا انفردا اجتمعا، فعلى ذلك الإسلام يدخل فيه الدين كله، والإيمان كذلك، وإذا اجتمع الاثنان يكون المقصود بالإسلام الأعمال الظاهرة، وبالإيمان الأعمال الباطنة، والأعلى من ذلك الإحسان، قال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك). فهنا بدأ بما يشترك فيه الجميع: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:35]، فلهن كما للرجال من المغفرة والأجر العظيم عند الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: {وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} [الأحزاب:35]، القنوت: الخضوع والإذعان والذل لله سبحانه والخشوع والطاعة، وكل إنسان قانت لله سبحانه خاشع، ومطيع لله، وقائم في الصلاة لله سبحانه وتعالى، ومقبل على الله سبحانه لا يلتفت عنه. قال تعالى: {وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ} [الأحزاب:35]، أي: صدقوا في سرهم وصدقوا في جهرهم، يتكلم فيصدق، ويعاهد ربه سبحانه فيصدقه، ويعد فيفي، ويبايع فيصدق في بيعته، فالمؤمن صادق؛ لأنه يخاف الله سبحانه، والله أمر المؤمنين فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]، فالزم الصادقين تتعلم منهم الصدق، وتتعلم منهم الوفاء، وتكن معهم في الدنيا؛ فتحشر معهم يوم القيامة، قال تعالى: {صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} [الأحزاب:23]، أي: صدقوا في كلامهم وحديثهم. قال الله تعالى: {وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ} [الأحزاب:35]، والصبر على ثلاثة أشياء: يصبر الإنسان على طاعة الله، فيلتزم ما أمر الله عز وجل به ويفعله، فيصبر على الطاعة. ويصبر الإنسان عن المعصية: ينهاه الله، لا تقع في الفواحش، لا تقع في الزنا، لا تسرق، لا تزن، فيستجيب لله مهما وجد أمامه من مغريات. فالمؤمن صابر على طاعة الله، صابر عن المعصية، إذا رأى شيئاً حراماً غض بصره وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر مهما كانت الفتن داعية للإنسان، ومهما كان الشيطان يحركه ويدفعه إلى الخطأ، فالمؤمن يخاف من الله ويصبر على طاعة الله، ويصبر نفسه كما قال الله: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200]. إذاً: صبر على الطاعة، صبر عن المعصية. كذلك يصبر على قضاء الله وقدره: فالمؤمن يصبر على البلاء، قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2] فالله يفتن المؤمن، ويختبره بشيء من البلاء ويذيقه، قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156]، تنزل به المصيبة فلا يلطم خده، ولا يشق ثيابه ويحلق شعره، ولكنه يصبر ويتصبر ويقول: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156]، فهو يفوض الأمر لله ويتسلى بذلك. ويقول: (إنا لله) أخذ مني مالي وسيأخذني، والمال مال لله، وأنا عبد لله سبحانه، فأنا لله وأنا راجع إليه، فهو يذكر نفسه، فالمؤمن يتصبر بذلك ويقول: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156]، فيأتي الجزاء العاجل من الله سبحانه، قال تعالى: {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:157]، فالله يصلي عليهم ويرحمهم، ويثني عليهم سبحانه وتعالى ويمدحهم، ويجعلهم من الفائزين عنده، وأولئك هم المفلحون عند الله سبحانه وأهل التقوى. فالصدق مع الله سبحانه والصبر على قضاء الله وقدره وعلى أوامره وعلى نواهيه، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الأحزاب الآية [35]

تفسير سورة الأحزاب الآية [35] ذكر الله سبحانه في سورة الأحزاب عشرة أصناف وعد الله بدخولهم الجنة ومغفرة ذنوبهم، ومنهم المتصدقون والمنفقون في سبيل الله، وقد حث الإسلام على الإحسان إلى الفقراء والمساكين ومراعاة أحوالهم.

ذكر عشرة أصناف وعد الله سبحانه بدخولهم الجنة

ذكر عشرة أصناف وعد الله سبحانه بدخولهم الجنة أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:35]. يذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية صفات ينبغي أن يتحلى بها كل إنسان مؤمن، وهي طاعة الله سبحانه وتعالى وطاعة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، والاتصاف بهذه الأوصاف العشرة التي ذكرها الله عز وجل في قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب:35] إلى قوله سبحانه: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب:35] والناظر في هذه الآية يجد صفات بعضها أعلى من بعض، والمفترض أن تكون جميعها في كل إنسان مؤمن يخاف الله سبحانه ويرجو رحمته. فمن يرد جنة الله فليتصف بذلك، أو ليكن فيه قدر عظيم من كل صفة.

الصنف الأول والثاني المسلمون والمسلمات والمؤمنون والمؤمنات

الصنف الأول والثاني المسلمون والمسلمات والمؤمنون والمؤمنات فهو المسلم الذي دخل في دين الله وأظهر شعائره سبحانه، وهو المؤمن الذي في قلبه الإيمان الذي يحركه، ويدفعه إلى أن يأتي جميع وجوه الخير والبر والإحسان.

الصنف الثالث القانتون والقانتات

الصنف الثالث القانتون والقانتات وهو القانت لله سبحانه المذعن الخاشع له، وهو الذي يقوم في الصلاة باستقامة، فيتصل بربه سبحانه في صلاته، كما قال الله سبحانه: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238].

الصنف الرابع الصادقون والصادقات

الصنف الرابع الصادقون والصادقات الصادق مع نفسه، والصادق مع ربه، والصادق مع الخلق، فالصدق من الأمور الواجبة في دين الله سبحانه وتعالى، ومن صحة إيمان الإنسان أن يكون صادقاً في إيمانه، وصادقاً في قوله: (لا إله إلا الله)، وصادقاً في حبه لله سبحانه وفي حبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم. كذلك من الصدق أن يكون صادقاً مع نفسه وصادقاً مع الخلق، فلا يرائي ولا ينافق ولا يسمع بهتاناً ولا يقول شيئاً ويقصد شيئاً آخر إلا أن يكون في حرب ونحوه، كذلك لا يجادل الناس، فإذا أخطأ رجع على نفسه باللوم، ورجع إلى ربه سبحانه وتعالى بالتوبة، واعتذر لمن أخطأ في حقه. والمؤمن الصادق لا يظهر شيئاً ويبطن خلافه؛ لأن صدق الكلام وصدق النية وصدق الإخلاص من علامات إيمان الإنسان الصادق مع ربه سبحانه.

الصنف الخامس الصابرون والصابرات

الصنف الخامس الصابرون والصابرات قال تعالى: {وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ} [الأحزاب:35] فهم صبروا على قضاء الله وقدره، وصبروا على أوامر الله فأطاعوه، وصبروا عن نواهي الله سبحانه فاجتنبوها، وانزجروا عنها وتركوها؛ لأنهم يخافون الله سبحانه وتعالى، وإيمانهم ولد في قلوبهم الخشية التي تدفعهم للرضا بقضاء الله سبحانه وقدره، فالإنسان قد يحزن لنزول بلاء به ولا مانع من ذلك، وقد يبكي من ذلك ولا مانع من ذلك أيضاً، لكن أن يتضجر أو أن يتسخط على الله أو أن يتلفظ بما لا يليق فهذا الذي يمنع منه. ومعلوم أن عين الإنسان تدمع، وقلبه يحزن، ولكن لسانه لا يتكلم إلا بما يرضي ربه سبحانه وتعالى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وقد مات ابنه إبراهيم وهو ينظر إليه: (إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا سبحانه وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون). فقوله تعالى: {وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ} [الأحزاب:35] أي: أن يصبر المؤمن وأن تصبر المؤمنة على البلاء إذا نزل، فلا تصرخ المرأة المؤمنة ولا تنوح، ولا تشق الجيب من شدة المصيبة التي نزلت بها، بل تصبر وتتصبر؛ لأن الله تعالى يقول: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45]. فمن صفات الإنسان الخاشع أن يرجع إلى الله في مصيبته ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ولا يتكلم إلا بخير، فإذا وجد في نفسه شيء سكت عن الكلام وانتظر حتى يذهب عنه بعض ما هو فيه، ويشكر الله سبحانه ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون. والصابر إن صبر على فقد قريب فله عند الله عز وجل الأجر العظيم على صبره فقد يوفقه الله للقائه، فهو لا يدري متى يموت، وكم من إنسان فقد من يحبه ثم مات والتقى بمن يحبه؛ توفيقاً منه سبحانه؛ لذلك فالإنسان المؤمن يصبر لأمر الله سبحانه وتعالى. وقد علم الإمام الشافعي رحمه الله أن عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله توفي ابن له، وعلم أنه حزن على فراق ابنه، فأرسل الإمام الشافعي إليه يعزيه ويقول له رحمه الله: إني معزيك لا أني على طمع من البقاء ولكن سنة الدين فما المعزى بباق بعد صاحبه ولا المعزي وإن عاشا إلى حين فالإنسان إذا حزن على فراق حبيب له قد يموت بعده، والفرقة لن تكون طويلة جداً، وإن عاش في الدنيا وصبر فله الأجر عند الله سبحانه. ونحن نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم مات، ومات الصحابة الأفاضل رضوان الله عليهم، فلابد أن نجعل النبي صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة، ونقتدي به صلى الله عليه وسلم، فقد مات كل أولاده في حياته صلى الله عليه وسلم عدا فاطمة رضي الله تبارك وتعالى عنها، ماتت بعده، فكانت من أعظم الصابرين بعد النبي صلوات الله وسلامه عليه، كيف لا وهي التي فقدت أمها وجميع أخواتها وإخوتها في حياتها رضي الله عنها، وقد أوذي النبي صلى الله عليه وسلم بمكة وكان لا يجرؤ أحد أن يقرب منه وهو يؤذى من أهل مكة إلا فاطمة رضي الله عنها، فكانت تخرج لترفع عن أبيها صلوات الله وسلامه عليه ما ألقاه عليه الكفار من سلا بعير ونحوه، وترد عليهم وتشتمهم رضي الله تبارك وتعالى عنها. فأي صبر أعظم من صبر السيدة فاطمة رضي الله تبارك وتعالى عنها؟! هذه امرأة تقتدي النساء بها رضي الله عنها، لأنها اقتدت برسول الله صلوات الله وسلامه عليه. كذلك يصبر على الفتن التي يراها أمامه، ويواسي نفسه أنه غداً يلقى الله سبحانه وتعالى، كما كان الصحابة يقولون: غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه. وكل مصيبة لا بد أن تنقضي، فليس هناك شيء يدوم، فإما أن تزول المصيبة وإما أن يموت الإنسان ويستريح من الدنيا وما فيها، كذلك يستعين الإنسان على الصبر بكثرة قراءته لكتاب الله سبحانه وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

الصنف السادس الخاشعون والخاشعات

الصنف السادس الخاشعون والخاشعات قوله تعالى: {وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ} [الأحزاب:35] فيتعلم الإنسان الخشوع إذا قرأ القرآن، ويستحضر المعاني العظيمة والجليلة في كتاب الله عز وجل، وإذا قرأ القرآن بكى، فإن لم يبك تباك ويقتدي بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يقرأ القرآن ويسمع لصدره أزيز صلوات الله وسلامه عليه من بكائه وخوفه من الله سبحانه وتعالى. ويفعل الإنسان ذلك شيئاً فشيئاً حتى يرق قلبه؛ بكثرة قراءته للقرآن، وقراءته لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وسيرته الطيبة العظيمة، وبكثرة استغفاره ربه سبحانه وتعالى، فبذكر الله تطمئن القلوب وترق. وإذا أراد الإنسان أن يخشع ويرق قلبه فليستشعر جلال الله سبحانه، وعظمته سبحانه، وينظر إلى الفقراء وإلى الأيتام ويمسح على رءوسهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أردت أن يرق قلبك فاربت على رأس اليتيم). والذي لا ينهر المسكين، ولا الأرملة، ولا ينهر الذي يطلب منه شيئاً من معونة ونحوها يرق قلبه، ويخشع لله سبحانه وتعالى. والإسلام دين عمل وتطبيق، فتطبق ما يقوله الله سبحانه، ليس كلاماً فقط، فكم من إنسان يتكلم عن الرقة وعن الخشوع ولا يرق قلبه ولا يبكي من خشية الله سبحانه وتعالى، وكم من إنسان يتكلم عن المساكين وعن الأيتام وعن الأرامل، فإذا جاءه المسكين أو اليتيم أو الأرملة نهره ولم يعطه شيئاً وقد يكون المال معه. وأبأس من هذا البائس من يكون لديه مال لغيره فيبخل به عن اليتيم وعن المسكين وعن الأرملة وعمن يحتاج، بل محروم من خير الله سبحانه من يأتيه مسكين يطلب منه شيئاً وهو يقدر أن يعينه ويعلم أنه مسكين ويحرمه ولا يعطيه. وأبأس من هذا من معه مال لغيره قد وكله في توزيعه على الفقراء، فيأتيه الفقير والمسكين فلا يعطيه شيئاً. إن الخشوع والخوف من الله عز وجل شيئان لا يقالان باللسان وإنما يخرجان من القلب ويصدقهما عمل الإنسان. لقد أوقفتني هذه الآية مع شيء حدث، وهو أن جاءت امرأة مسكينة إلى المسجد وابنها محتاج إلى نقل دم وتقول: إن ابنها في القاهرة يريد أن يعمل عملية في القلب، وهي تحتاج إلى مال، فلم يعطها أحد شيئاً، وبعد أيام أعطاها أحد الإخوة مالاً لذلك، فلما جاء إليها مات ابنها، وجاءت تطلب كفناً من أحد يعينها. فلم تجد أحداً في المسجد، ومن الناس من يقول لها: الأكفان في المخزن، لكن الأكفان كبيرة، فلم تجد كفناً على مقاسه؛ فحزنت جداً مما حدث، هذه امرأة وابنها ميت وتريد كفناً، فيقال لها: إن الأكفان الموجودة في المسجد كبيرة، وهذه مأساة، فقد كان بإمكانها أن تأخذ كفناً كبيراً وتقصه وترمي ما بقي منه بعيداً أو تتصدق به. فلابد للإنسان أن ينظر للفقير ويضع نفسه مكانه، فالطبيب الجراح قد تعود على أن يعمل عمليات جراحية؛ لذلك فإن قلبه شديد. وكذلك الإنسان الذي يتعامل مع الفقراء والمساكين فمن كثرة تعوده على أن يأتي الفقراء والمساكين إليه يصبح الأمر بالنسبة له سهلاً، فأين رقة القلب؟ وأين الخوف من الله سبحانه. لكن إذا جاء الفقير أو المسكين الذي يكذب على الناس فجزاء أمثال هؤلاء أن لا أحد يعطيهم شيئاً، لكن الإنسان الذي ابنه في المستشفى وهو مريض محتاج ولا يسأل الناس فهذا الذي يستحق أن يعطى. وإذا مات إنسان فإن تكفينه ودفنه فرض كفاية، وإذا لم يقم به أحد أثم الجميع، وإذا لم يكن هناك مقبرة فلابد أن يتعاون الجميع على دفنه وإلا يأثم الجميع على ذلك؛ لأن هذه من فروض الكفاية التي تدرس في أحكام الجنائز. ولا يستحق الإعانة من يقف على باب المسجد، فهم كذابون وأدعياء، وقد يكونون خاطفين للأطفال، فمثل هؤلاء لا نساعدهم. ومن الناس من يدافع عنهم، وهل يدافع عن إنسان تارك للصلاة؟! حيث إن الناس يصلون وهو واقف خارج المسجد لا يصلي، وينتظر الناس حتى إذا أتموا الصلاة أخذ يطلب منهم، فليس هذا المسكين الذي نقصده، إنما المسكين والفقير هو الإنسان المحتاج الذي تعرفه، قال تعالى: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة:273] ولقد رأيت امرأة مسكينة جاءت تطلب وهي تحكي قصتها، وبجوارها أحد الإخوة الأفاضل يسمع قصتها ويبكي لبكائها. فأنت تتقرب إلى الله عز وجل بإعانة هؤلاء، وتطلب الجنة من الله بهم فلا يكن قلبك قاسياً، إذا جاءك الفقير لا تعطيه شيئاً، فإن هذا لا يليق أبداً ولا نحب أن نسمع مثل هذا أبداً. وكم من إنسان كان يطلب من الناس وصار مليونيراً بعد ذلك، والله أعلم متى تتقلب الموازين؛ لذلك فإن رقة القلب وخشوعه يدفع الإنسان للعمل، ويدفعه إلى أن يشفق على المحتاج.

الصنف السابع المتصدقون والمتصدقات

الصنف السابع المتصدقون والمتصدقات فقوله تعالى: {وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ} [الأحزاب:35] عقبها الله بقوله: {وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ} [الأحزاب:35] فلن يتصدق الإنسان إلا إذا كان في قلبه الخشوع لله سبحانه والخوف من العذاب ومن العقوبة ومن السؤال يوم القيامة. ومن الأسئلة يوم القيامة: جاءك فلان يطلب منك كذا فلم تعطه، وطلب فلان منك كذا فلم تعطه، ومرض عبدي فلان فلم تعده، ومات فلان فلم تصل عليه، فماذا يكون الجواب على ذلك؟ فأعدوا للسؤال جواباً واحذروا من غضب الله سبحانه وتعالى، واخشعوا لله كما أمر. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الأحزاب [36 - 37]

تفسير سورة الأحزاب [36 - 37] كان التبني عادة جارية في أوساط المجتمع الجاهلي، وقد استمرت حتى بزغ نور الإسلام، وما إن نزل تحريم التبني حتى امتثل الرسول والصحابة لأمر ربهم جل في علاه، وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب التي كانت زوجاً لزيد بن حارثة، والذي كان النبي عليه الصلاة والسلام قد تبناه.

تفسير قوله تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم)

تفسير قوله تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم)

تقديم اختيار الله ورسوله على اختيار العبد لنفسه

تقديم اختيار الله ورسوله على اختيار العبد لنفسه بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا * وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [الأحزاب:36 - 37]. يذكر الله سبحانه وتعالى في هاتين الآيتين من سورة الأحزاب: أنه لا ينبغي لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم. فالله أعلم بخلقه سبحانه، ويختار لهم الخير، فلا اختيار للعبد على ما اختاره الله سبحانه. كذلك: النبي صلوات الله وسلامه عليه لا ينطق عن الهوى وإنما يتكلم بوحي من الله تبارك وتعالى، وهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا اختار النبي صلى الله عليه وسلم لمؤمن أو لمؤمنة أمراً من الأمور لم يكن لهم أن يختاروا بعد اختياره صلوات الله وسلامه عليه. {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]، ووصفهم في هذه الآية بالإيمان لتهييج باعث الإيمان في قلب الإنسان. فالإنسان المؤمن هو الذي يستجيب لله وللرسول صلوات الله وسلامه عليه، ويعلم أن ما اختاره الله واختاره الرسول عليه الصلاة والسلام له خير مما اختاره هو لنفسه. فذكر الله عز وجل المؤمن والمؤمنة وكان من الممكن أن يقول: (وما كان لمؤمن إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون له الخيرة) ويكون ذكر المؤمن مغنياً عن ذكر المؤمنة، ولكن حتى لا يظن أن هذا للمؤمن الذكر دون الأنثى، فنص على الاثنين كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ…} [الأحزاب:35] إلى آخر الآية. فالله سبحانه وتعالى ويذكرنا بأن ما اختاره لنا خير مما اخترناه لأنفسنا، وما اختاره الرسول صلى الله عليه وسلم لنا خير مما نختاره لأنفسنا إن كنا مؤمنين. قال تعالى: {أَنْ يَكُونَ لَهُمُ} [الأحزاب:36] وهذه قراءة الجمهور. أما نافع وأبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وكذلك ابن ذكوان عن ابن عامر فيقرءون: (أن تكون لهم الخيرة من أمرهم). يعني: ليس لهم اختيار في أمرهم بعد اختيار الله ورسوله عليه الصلاة والسلام.

سبب نزول الآية

سبب نزول الآية نزلت هذه الآية في سببين: في السيدة زينب بنت جحش رضي الله عنها، ونزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط. والسيدة زينب بنت جحش أراد النبي صلى الله عليه وسلم تزويجها من زيد بن ثابت، فكرهت ذلك وكره أخوها ذلك، فقد نظرت إلى نفسها أنها بنت عمة النبي صلى الله عليه وسلم، فأمها هي عمة النبي صلى الله عليه وسلم فهي شريفة من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف تتزوج من زيد بن حارثة رضي الله عنه وهو مولى. وقد كان عبداً عند السيدة خديجة أهدته للنبي صلى الله عليه وسلم ثم أعتقه النبي صلى الله عليه وسلم ومنّ عليه بالعتق ثم تبناه صلوات الله وسلامه عليه قبل أن يحرم الله عز وجل التبني؟ فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يزوج زيداً من زينب بنت جحش رضي الله عنها، فأبت زينب ذلك وجاء القرآن يخبر أنه إذا اختار النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً لا بد وأن يكون ما اختاره عليه الصلاة والسلام، هذا سبب من أسباب نزولها. السبب الآخر هو في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، فقد وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم ليتزوجها، فاختار النبي صلى الله عليه وسلم لها غيره، فإذا بها لا تريد ذلك وكرهت وكره أخوها أيضاً أن تتزوج غير النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءت الآية تعلمهم أن اختيار النبي صلى الله عليه وسلم لهم هو خير من اختيارهم لأنفسهم، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]. فإن كان سبب النزول خاصاً في أمر النكاح ولكنه عام، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. فعموم اللفظ: أي اختيار يختاره النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين في أمر حياتهم، أو في أمر جهادهم ومغازيهم، أو في أمر عملهم، وفي أي أمر من الأمور، فالخير للناس أن يتبعوه عليه الصلاة والسلام.

معنى قوله: (ومن يعص الله ورسوله)

معنى قوله: (ومن يعص الله ورسوله) قال الله سبحانه: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36]. {إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا} [الأحزاب:36] أي: إذا أمر بأمر من الأوامر. {وَمَنْ يَعْصِ} [الأحزاب:36] فدل على أنه لا يجوز عصيانه، وهذه قاعدة يضعها الكثير من الأصوليين: أن الأمر على الوجوب، فإذا أمر الله والرسول صلى الله عليه وسلم فليس لهم أن يختاروا، بل إنه من اللازم عليهم أن ينفذوا الأمر فإنهم إذا لم ينفذوا فقد عصوا. قال الله سبحانه: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36] فالذي يعصي أمر الله وأمر الرسول صلوات الله وسلامه عليه فقد عصى، وهذا دليل على أن الأمر يدل على الوجوب، فإذا أمر الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم أمراً فالأصل فيه أنه واجب التنفيذ إلا أن تأتي قرينة تصرف هذا الأمر عن الوجوب إلى الاستحباب، كأن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بفعل شيء ثم يخالفه أحياناً، فهذه قرينة تدل على أن الأمر على الاستحباب، وإلا لما خالفه النبي صلى الله عليه وسلم وتركه أحياناً.

تفسير قوله تعالى: (وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك)

تفسير قوله تعالى: (وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك)

قصة زواج زيد من زينب بنت جحش

قصة زواج زيد من زينب بنت جحش قال الله سبحانه وتعالى بعد ذلك: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37]. (إذ تقول) أي: اذكر إذ تقول. {لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} [الأحزاب:37] وهو زيد بن حارثة رضي الله تبارك وتعالى عنه وهو الاسم الوحيد الذي ذكر في القرآن من أسماء غير الأنبياء، وكأنه ذكر مكافأة لـ زيد رضي الله تبارك وتعالى على صبره وعلى تنفيذه أمر الله سبحانه وأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى أنه أخذ منه شيء فعوض بما هو خير منه رضي الله تبارك وتعالى عنه. وزيد كما ذكرنا كان عبداً أعتقه النبي صلى الله عليه وسلم وتبناه في قصة ذكرناها قبل ذلك. وبعد أن حرم الله التبني رجع نسبه إلى آبائه رضي الله عنه، فـ زيد أنعم الله عليه بنعمة الإيمان، وأنعم عليه النبي صلى الله عليه وسلم بنعمة العتق، وأنه تبناه عليه الصلاة والسلام، فحصل على نعمة من الله سبحانه. قال تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:37] فزوج النبي صلى الله عليه وسلم زيداً من زينب بنت جحش، وعلم الله سبحانه أن النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، ورضي الله تبارك وتعالى عن ذلك، فأبت وتضايقت من ذلك فنزلت الآية تؤدب وتهذب الجميع فرضيت، ولكن في معيشتها معه كانت لا تحب عشرته، فكانت تتعالى عليه وتعيره أنه كان عبداً، فضايقه هذا الأمر حتى كاد أن يطلقها، فذهب للنبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه؛ لأنه هو الذي زوجها إياه، فأوحى الله تبارك وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم أنه سيكون ذلك، وأن زيداً سيطلق امرأته وستكون زوجتك. فاستحيا النبي صلوات الله وسلامه عليه أن يخبر زيداً أنه سيطلقها في يوم من الأيام وسيتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم، فكتم عليه الصلاة والسلام هذا الشيء في نفسه، فهو لم يكتم أمراً أمر بتبليغه، وحاشاه صلوات الله وسلامه عليه، ولكن كتم شيئاً يخصه هو، فكان عليه الصلاة والسلام يقول لـ زيد: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:37] وهذا من حيائه عليه الصلاة والسلام. فإذا بالقرآن ينزل عليه صلى الله عليه وسلم يقول له: لا تستحي، فهذا أمر ليس فيه حياء وإحراج لك، فقد أبحنا لك ذلك، والأمر الذي يحرجك أن تخالف أمر الله سبحانه وتعالى، وأنت لم تخالف فلا حرج عليك في هذا الشيء، فهو سيطلقها وأنت ستتزوجها. فجاءه زيد فقال له عليه الصلاة والسلام: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:37] فإنه يسن لنا من السنن: أن الإنسان إذا جاءه آخر يشكو إليه امرأته يريد طلاقها، أن نقول له: اصبر، واتق الله، وأمسك عليك زوجك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لـ زيد رضي الله تبارك وتعالى عنه وسن للناس أن يذكر بعضهم بعضاً، وألّا يعين بعضهم بعضاً على الطلاق من أول مرة. والغرض: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبره ربه بذلك ونزل في القرآن هذه الآية: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:37] وانظر كيف يخاطب الله عز وجل نبيه الكريم صلوات الله وسلامه عليه. فالله له فضل عليكم جميعاً، وأنت لك فضل على هذا الإنسان، فبدأ يكلم النبي صلى الله عليه وسلم ويعاتبه ويبدأ بذكر نعمة النبي صلى الله عليه وسلم على زيد رضي الله تبارك وتعالى بعد نعمة الله عليه.

عتاب الله لنبيه في إخفاء أمر الزواج من زينب

عتاب الله لنبيه في إخفاء أمر الزواج من زينب قال تعالى: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} [الأحزاب:37] أي: أخفى أن الله أوحى إليه أن زيداً سيطلقها، وأنت ستتزوجها، وجاءه زيد يقول: أنا أريد أطلقها، فقال له: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:37]، وهو في نفسه يعلم أنه سيطلقها وستكون زوجة للنبي صلوات الله وسلامه عليه. وبين الله عز وجل سبب إخفاء النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؛ قال الله عز وجل: {وَتَخْشَى النَّاسَ} [الأحزاب:37] فيعلمه ويعلم المسلمين أنه لا حرج عليك في ما أباحه الله عز وجل لك، حتى وإن كان الناس ينتقصونك في ذلك، فالأمر الذي يجب أن يضايقك ويضرك هو الذي يكون في غضب الله سبحانه. أما إذا كان في طاعة الله فلا حرج فيه ولا تحرج أبداً من تنفيذ أمر الله سبحانه. قال تعالى: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37] أي: أن الله أحق أن تستحيي منه، فلا تستحي من الخلق في طاعة الله سبحانه، وأطع ربك تبارك وتعالى ولا تتحرج من الناس فلا قيمة لرأي الناس إن خالفوا الله تبارك وتعالى. قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا} [الأحزاب:37] أي: تزوجها ودخل بها وقضى منها حاجته ثم تعالت عليه فكره البقاء معها، قال: {زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب:37]. فأصبح الأمر بالزواج بالسيدة زينب بنت جحش من عند الله تبارك وتعالى، وعوض زيداً عن فقدانه امرأته بهذه الآية الكريمة أن ذكر اسمه فيها، بل وفيها بشارة لـ زيد بأنه من أهل الجنة رضي الله تبارك وتعالى عنه. وقد قتل شهيداً في غزوة مؤتة رضي الله تبارك وتعالى عنه مع جعفر بن أبي طالب بن عم النبي صلى الله عليه وسلم ومع عبد الله بن رواحة شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

جواز زواج الرجل بزوجة متبناه إذا طلقها

جواز زواج الرجل بزوجة متبناه إذا طلقها قال الله عز وجل: {لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} [الأحزاب:37]. وفي هذه الآية تعليل آخر وبيان سنة من سنن الله تبارك وتعالى، فقد كانوا يدعون في الجاهلية التبني، كأن يتبنى الرجل إنساناً ويقول: أنت ابني وأنا أبوك ترثني وأرثك، أنت مني وأنا منك، مع أنه ليس منه، فلم يزل هذا الشيء حتى جاء الإسلام. فكان من حكمة الله سبحانه أن يتبنى النبي صلى الله عليه وسلم زيداً، ثم تنزل الآية تنهى عن ذلك: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب:5] فكان النبي صلى الله عليه وسلم أول من نفذ ذلك، على الرغم من أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يحب زيداً حباً شديداً وزيد فضل النبي صلى الله عليه وسلم على أبيه وعلى أخيه وعلى عمه، فقد جاء أهله يبحثون عنه وعلموا أنه في مكة عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاءوا يطلبون ابنهم وذهبوا للنبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: ندفع لك الذي تريد وتعطينا ابننا، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أو خيراً من ذلك؟) أي: أعطيكم خيراً من ذلك؟ (فقالوا: وما هو؟ قال: يختار زيد، فإن اختاركم فخذوه، وإن اختارني فما أنا بالذي يختار على من اختاره) فجاء زيد وأبوه يبكي عليه وعمه يطلبه وأخوه كذلك وزيد يقول: لا أختار على النبي. وأهله كانوا كفاراً ومع ذلك فرحوا بأن زيداً طلب النبي صلى الله عليه وسلم ومكث عنده ورجعوا مسرورين بذلك، فصار ابناً للنبي صلى الله عليه وسلم بالتبني، فنزل القرآن يقول: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب:5] فلا يجوز لكم التبني، فأول من ترك ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم، فرجع زيد إلى اسمه، فقد كان يطلق عليه زيد بن محمد فرجع إلى زيد بن حارثة رضي الله تبارك وتعالى عنه. والغرض: أن الله سبحانه ذكر في هذه الآية: {لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} [الأحزاب:37] قال: أدعيائهم، ولم يقل: أبناءهم لأنههم ليسوا أبناءهم، فكان الكفار إذا حدث منهم مثل هذا الشيء يعيرون من يحدث له ذلك ويقولون: تزوج زوجة ابنه أو دعيه، فلما نزلت هذه الآية إذا بالله عز وجل يقول: لا حرج في أن يتزوج الإنسان زوجة من كان قد تبناه إذا طلقها، كما جاز للنبي صلوات الله وسلامه عليه أن يتزوج من السيدة زينب {لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [الأحزاب:37] أي: إذا قضى الله شيئاً لا بد وأن يكون. ونرى في هذه الآية: أن الله سبحانه لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالزواج من السيدة زينب كان السفير بينه وبينها زيد رضي الله تبارك وتعالى عنه، فصارت عظيمة في نظر زيد، وكان يقول زيد رضي الله عنه: ما أجد في نفسي، قال: فذهبت ووليتها ظهري توقيراً للنبي صلى الله عليه وسلم وخاطبتها ففرحت، وإذا بها ترد الفضل إلى الله سبحانه وتقول: ما أنا بصانعة شيئاً حتى أؤامر ربي، فأصلي لله وهو يأمرني بما يشاء سبحانه، فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم ودخل بها. فصنعوا وليمة الزفاف وصارت زوجة للنبي صلى الله عليه وسلم وأماً للمؤمنين بما فيهم زيد الذي كان زوجها يوماً من الأيام وعوضه الله عز وجل عن ذلك بأن ذكره في القرآن وذكر نعمته عليه. نسأل الله عز وجل من فضله ونعمه العظيمة إنه جواد كريم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الأحزاب الآية [41]

تفسير سورة الأحزاب الآية [41] رغب الإسلام في المداومة على الذكر، فالذاكر يتحصن بالذكر من الوقوع فيما يغضب الله عز وجل، وكلما ازداد الإنسان ذكراً ازداد قرباً من الله فيأنس بربه سبحانه، وذكر الله يكون في الرخاء والشدة، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من الذكر.

فضل الذكر

فضل الذكر

ذكر الله سبب للقرب من الله

ذكر الله سبب للقرب من الله الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا * تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} [الأحزاب:41 - 44]. يأمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين في هذه الآيات بأن يكثروا من ذكر الله سبحانه وتعالى، وقد ذكر الله فيما سبق من الآيات عشر صفات للمؤمنين والمؤمنات بدأها بقوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:35] وانتهى بأعلى الدرجات فقال: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:35]. فكلما ازداد الإنسان ذكراً لله، ازداد قرباً من الله سبحانه، فإذا كان ذكر الإنسان ربه قليلاً ابتعد شيئاً فشيئاً حتى ينسى الذكر وحتى يأتيه الشيطان فيتسلط عليه. إن ذكر الله يطرد الشيطان، وذكر الله عز وجل يجعل الإنسان يخاف من الله، فيخاف من المعاصي، فإذا وقع في معصية سارع وبادر إلى التوبة إلى الله سبحانه. وإذا أراد أن يقع في فاحشة ذكر الله فاستغفر، وتاب، ورجع، وأناب، وامتنع من الوقوع في المعصية، وفيما يغضب الله سبحانه وتعالى. وقد أمرنا الله سبحانه بذكره كثيرا، فذكر الله سبحانه هو الأنيس للإنسان المؤمن، فلا يجعله يستوحش أبدا ما دام مع الله سبحانه وتعالى. فالإنسان الذي يركن إلى الناس، ويستأنس بهم، سرعان ما يفارقونه، لسبب أو لغير سبب، فيستوحش، أما الذي يأنس إلى الله سبحانه وتعالى فلا يهتم لذلك، سواء كان الناس كثيرين معه أو كانوا قليلين، فهو لا يهتم لأمر الناس، إنما يهتم لأمر دينه ولأمر ربه سبحانه.

قراءة القرآن ذكر لله

قراءة القرآن ذكر لله والقرآن كتاب الله أعظم ذكر، وخير جليس لا يمل حديثه، والإنسان الذي يجالس القرآن لا يمل أبداً من ذكر الله سبحانه، ومن تلاوة كتابه الذي فيه نبأ من قبلنا وخبر ما بعدنا، وفيه قصص يقصها الله سبحانه وتعالى علينا؛ لتكون لنا عبرة وذكرى، وفيه أحكام الله سبحانه، وفيه ذكر الجنة، وذكر النار، وذكر الأنبياء، وصبرهم عليهم الصلاة والسلام، وفيه شريعة الله تبارك وتعالى، والحرف منه بعشر حسنات، ويضاعف الله لمن يشاء من فضله سبحانه. فهذا القرآن العظيم لا يمل الإنسان من ترداده، ومن ذكره، ومن قراءته ومن سماعه، فهنا يأمرنا الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب:41] أي: تذكره بكل وجه من وجوه ذكر الله تبارك وتعالى، فإذا كنت في الصلاة فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر. ونحن نعلم أن الله فرض خمس صلوات في اليوم والليلة، تنهى الإنسان عن الفحشاء والمنكر، ولكن ذكر الله يكون في الصلاة وفي غير الصلاة، فهو يستوعب اليوم كله، فالذاكر ربه سبحانه مستحيل أن يترك الصلاة، فهو عندما يصلي يذكر الله، وعندما يخرج من الصلاة فيختم صلاته يذكر الله، وعندما يخرج من بيته إلى الطريق يذكر الله، وعندما يدخل بيته يذكر الله، وعندما يقوم أو ينام، يذكر الله سبحانه، فهو لا يمل من ذكر الله، بل يستمتع ويستعذب ذكر الله سبحانه وتعالى، يستعذب ذكر الله حين يأكل ويشرب، وحين ينام أو يستيقظ من نومه، وحين يذهب إلى السوق، وحين يقضي حاجته، وحين يلقى أخاه المسلم فيسأله عن حاله مع ربه سبحانه، فالإنسان المؤمن ذاكر لله أبداً، وهو مستمتع بذلك.

ذكر الله لمن يذكره

ذكر الله لمن يذكره والله سبحانه يذكر ذاكره، قال الله سبحانه: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152]. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من ذكر الله في نفسه ذكره الله في نفسه، ومن ذكر الله في ملأ ذكره الله في ملأ خير منه) فتذكر الله سبحانه في نفسك كي يذكرك، ولا ينسى ربك أحداً، وتذكر الله إذا كنت في ملأ، كأن تكون في حديث مع قوم فتقول: تعالوا نذكر الله عز وجل، ونتدارس آيات من كتابه، أو تعالوا نتكلم عن أمر من أمور ديننا، نتفقه فيه، فإذا ذكرت الله في مجموعة ذكرك الله عز وجل في ملأ من الملائكة خير من الذين أنت فيهم، وكلما زادت الجماعة زاد الله عز وجل من خيره ومن فضله. وإذا تذكرت الله فإنه يعصمك سبحانه وتعالى، فالذي يكثر من ذكر الله، وسؤاله، ودعائه في السراء وفي الرخاء، هذا جدير أن يستجيب الله له في وقت البلاء والضراء؛ لأنه اعتاد أن يذكر الله، فهو لا يذكر الله في وقت البلاء فقط، بل هو في وقت الرخاء ذاكر لله، ومستأنس بذكره، فهو متشبه بأهل الجنة، فهم يستعذبون بالتسبيح والتحميد وذكر الله، ويلهمون ذلك كما يلهم الإنسان النفس، انظر إلى نفسك الذي يتردد في داخلك، فأنت تستمتع بأنك تتنفس، وانظر حينما يصيبك زكام وأنفك ينسد كيف يكون حالك؟ فأهل الجنة يلهمون ذكر الله، ويلهمون التسبيح والتحميد كما نلهم نحن في الدنيا النفس، حيث إن النفس يتردد، ويمكن أنك لا تنتبه للنفس الذي يخرج ويدخل إلا عندما يكتم عنك النفس. فأنت مستمتع بأن تشم رائحة طيبة، وتستمتع بالنفس الذي يملأ صدرك، كذلك أهل الجنة يستمتعون بذكر الله سبحانه وتعالى، فالمؤمن في الدنيا يتشبه بأهل الجنة، وقد قال الله النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن تشبه بقوم فهو منهم)، أي: وهو معهم، فذاكر الله يتشبه بأهل الجنة في الإكثار من ذكر الله سبحانه: مسبحاً، حامدا، مهللاً، مكبراً، فيذكر الله فيقرأ القرآن، ويذكره فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويذكره في كل حال.

ندم المرء على مجلس لم يذكر الله فيه

ندم المرء على مجلس لم يذكر الله فيه فذكر الله أعظم من أي شيء، قال الله سبحانه آمراً المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا} [الأحزاب:41] أي: أكثروا من الذكر، فجاء بالمفعول المطلق للتأكيد، ووصفه للتبيين ولشدة التأكيد على ذلك، حتى تهتم لذكر الله سبحانه، وحتى لا تضيع الوقت في غير ذكر الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مجلس يجلسه اثنان فأكثر لا يذكرون الله فيه ولا يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم إلا كان عليهم ترة يوم القيامة) أي: كان عليهم حسرة، فكل مجلس يجلس فيه الناس لا يذكرون الله سبحانه وتعالى كان عليهم حسرة يوم القيامة، فإذا كان الشخص يقول: تعال نتحدث عن الكرة، أو نتحدث عن المباراة، أو نتحدث عن الممثلين، أو نتحدث عن الأغاني، أو عن دنيا، فإذا جاءوا يوم القيامة فيتذكرون هذا المجلس، كان عليهم هذا المجلس حسرة، كأنهم قاموا عن قتيل قتل لهم، فانظر إلى حزن الإنسان حين يصل إليه خبر قتل فلان، فإنه يصاب بالحسرة والكمد والغيظ، كذلك هذا حاله مع نفسه يوم القيامة حين يتذكر: ما الذي جعلني أجلس مجلساً لا أذكر الله فيه، لو كنت أذكر الله من قبل لنفعني هذا الذكر لله سبحانه وتعالى. وأيضاً في الحديث الآخر: (ما من قوم يجلسون في مجلس ثم يقومون عنه ولم يذكروا الله ولم يصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد قاموا عن مثل جيفة حمار) كأنهم جلسوا على وليمة، والوليمة التي جلسوا عليها يأكلون منها حماراً ميتاً منتناً. فإذا ذكر الإنسان المؤمن ذلك كان الشاغل الأكبر له هو ذكر الله سبحانه وتعالى، فيذكره في كل حاله، فإذا ذكرت الله فالله معك، والله عز وجل يقول: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]. فالله سبحانه مع المؤمن التقي، فهو يذكره سبحانه، وينصره، ويؤيده، قال تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب:35]. فأنت إذا ذكرت الله ذكرك الله، فإذا ذكرك الله كان الخير كله لك من فضله سبحانه وتعالى، والذي يذكر الله ربه سبحانه فلا يستوحش من الدنيا طالما أن الله معه، يذكر الله سبحانه، ولا يحب أن يضيع وقته في غير ذكر الله سبحانه وفي غير الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. فإذا كنت تمشي في الطريق وستصل إلى بيتك في خمس دقائق أو في عشر دقائق، فمن الممكن لك أن تقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] عشر مرات أو أكثر فتبني لك قصراً في الجنة؛ لأن من قرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، عشر مرات يبنى له بيت في الجنة، فعندما تقرأ سورة الإخلاص مرة أخرى عشر مرات يبنى لك بيت في الجنة، أليس من الخسارة أن نضيع الوقت في اللهو وفي الكلام الذي لا ينفع، وفي الغيبة، والنميمة، وقول الزور، ولا نستغل وقتنا في ذكر الله تبارك وتعالى.

الفرق بين صلاة الله وصلاة المؤمن وصلاة الملائكة

الفرق بين صلاة الله وصلاة المؤمن وصلاة الملائكة

مضاعفة الأجر لمن صلى على رسول الله

مضاعفة الأجر لمن صلى على رسول الله إن من الفضائل التي حث عليها الإسلام الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم: (من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا) >والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أن تقول: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. فإذا صليت واستمتعت بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فالله عز وجل يصلي عليك بكل مرة عشر مرات، أي: يرحمك، ويثني عليك سبحانه وتعالى عشر مرات، فإذا أكثرت كان من الله عز وجل أكثر وأكثر، ويبلغ نبيه صلى الله عليه وسلم أن فلاناً يصلي عليه، فتكون كلما أكثرت من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة قريباً منه صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنك أكثرت من الصلاة عليه. وجاء في الحديث أن أبي بن كعب سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! إني أكثر من الصلاة، فكم أجعل لك من صلاتي؟ -أي: الدعاء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما شئت، وما زدت فهو خير لك، فقال له: أجعل لك الربع من دعائي؟ قال: ما شئت، وإن زدت فهو خير لك، قال: أجعل لك النصف؟ قال: ما شئت، وإن زدت فهو خير لك، قال: أجعل لك دعائي كله، فقال صلى الله عليه وسلم: إذاً يغفر لك ذنبك، وتكفى ما أهمك) أي: يكفيك الله سبحانه وتعالى كل هم من الهموم، ويغفر لك ذنبك أيضاً بهذا الفعل. فانظروا إلى عظمة الله وكرمه سبحانه على عباده الذين يذكرونه، ويصلون على النبي صلوات الله وسلامه عليه.

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ذكر لله عز وجل

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ذكر لله عز وجل إن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم هي ذكر لله عز وجل، فإذا قلت: اللهم يا رب صل على نبيك صلى الله عليه وسلم! سألت الله فذكرته، ودعوت لنبيك صلى الله عليه وسلم بأن يصلي عليه ربه سبحانه، فكان ذكراً لله، وعندما تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم تحصل على الأجر العظيم، وكذلك عندما تسبح الله وتحمده وتهلله وتكبره يكون لك الأجر العظيم، وكلما عرفت الثواب في ذكر الله سبحانه ازددت حرصاً على ألا تفرط وألا تضيع ذلك، وألا تتلهى عنه بشيء كائناً ما كان. وإن من ذكر الله عقب الصلاة أنك إذا قرأت آية الكرسي دبر كل صلاة لم يمنعك من دخول الجنة إلا أن تموت، فإذا مت على ذلك، فهو فضل عظيم من الله سبحانه وتعالى لك. وإن كنت تقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحي ويميت وهو على كل شيء قدير مائة مرة، يكتب الله لك مائة حسنة، ويمح عنك مائة سيئة، ويكن لك عدل عشر رقاب، أي: كأنك أعتقت عشرة من العبيد، ويكن لك حرزاً من الشيطان يومك حتى تمسي. وإذا كنت ذاهباً إلى السوق، فقلت: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت، وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير، وكل ذلك في نصف دقيقة، فإن لك أجر مليون حسنة، أي: ألف ألف حسنة عند الله سبحانه وتعالى في هذا الذكر. فلو كان على لسانك ذكر الله حين تذهب إلى السوق وحين ترجع منه، حين تمر على الناس، وحين تسلم على المسلمين، وحين توقظهم من غفلتهم لكان لك الأجر العظيم من الله سبحانه، فلا تتكبر على الخلق، إذا مررت على الناس فسلم عليهم، وقل: السلام عليكم ورحمة الله، سواء ردوا عليك أو لم يردوا عليك، فقد تمر على أناس لا يردون السلام، فلا تمتنع من إلقاء السلام، بل ذكرهم، وأيقظهم من غفلتهم، فإذا ردوا عليك كان الأجر لك ولهم، وإذا لم يردوا عليك السلام فالملائكة ترد عليك، وفضل الله عظيم، وكرمه واسع سبحانه وتعالى، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب:41]. {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب:42] البكور: أول النهار، والعشي: آخر النهار، والآصال: قبل دخول الليل وعند دخول الليل، والمعنى: أنك دائماً تذكر الله في أول النهار، وفي آخر النهار، وبين الاثنين، أي: اذكروا الله دائما، {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب:41]، وسبحوه سبحانه، أي: قولوا: سبحان الله، نزهوه عن كل عيب وعن كل نقص، سبحانه وتعالى. {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ} [الأحزاب:43]؛ لأنه هو سبحانه المستحق لذلك، فاذكروه يذكركم سبحانه وتعالى، واشكروه يزدكم من فضله، ولا تنسوا أنه هو الذي يثيبكم وهو الذي يرحمكم سبحانه، وهو الذي يثني عليكم عند ملائكته، وهو الذي يصلي عليكم، وكذلك ملائكته سبحانه.

الفرق بين صلاة الله وصلاة المؤمن وصلاة الملائكة

الفرق بين صلاة الله وصلاة المؤمن وصلاة الملائكة فالمؤمن يصلي، والله يصلي، والملائكة تصلي، وفرق بين الصلوات: فالمؤمن يصلي أي: يدعو ربه سبحانه، ويعبد ربه بصلاته هذه. والملائكة تصلي أي: تدعو للمؤمنين أن يغفر الله لهم، فصلاة الملائكة الدعاء، {((الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:7] هذه هي صلاة الملائكة عليكم، تستغفر لكم ربكم سبحانه، وتدعو لكم بالرحمة. والله يصلي أي: يستجيب لهذا الدعاء ويثني على المؤمن، ويعطيه من فضله. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الأحزاب [41 - 44]

تفسير سورة الأحزاب [41 - 44] أمر الله عباده المؤمنين بكثرة ذكرهم لربهم المنعم عليهم بأنواع النعم وصنوف المنن؛ لما لهم في ذلك من جزيل الثواب، وجميل المآب، ولأنه تعالى أخرجهم من ظلمات الجهل والضلال إلى نور الهدى واليقين، ويوم القيامة أعد لهم الأجور العظيمة، وأسكنهم جناته جنات النعيم، ورحمهم في الدنيا بالهداية، وفي الآخرة بأن أمنهم من الفزع الأكبر، وأمر ملائكته أن يتلقوهم بالبشارة بالفوز بالجنة والنجاة من النار، وما ذاك إلا لمحبته لهم ورأفته بهم.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب:41]. أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين في هذه الآية أن يذكروا الله سبحانه وتعالى ذكراً كثيراً، فقال: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا)). والمؤمن يذكر الله حتى يذكره الله. لا تنس ربك، لا تنس ذكر الله، تذكر أن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلقك، وهو الذي يرزقك، وهو الذي يتوفاك ويحاسبك، فأكثر من ذكره سبحانه وتعالى. فقوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا)). ذكر الله يكون في الصلاة وفي غير الصلاة، تذكر الله سبحانه في كل أحوالك، وكان النبي صلوات الله وسلامه عليه يقوم ويصلي من الليل ويقول: (يا أيها الناس اذكروا الله، جاءت الراجفة، جاء الموت بما فيه، وأزفت الآزفة، جاءت الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه) فيأمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس في الثلث الأخير من الليل بذكر الله سبحانه وتعالى، ويخبرهم أن الموت آتيكم، كما قال الله سبحانه: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل:1] فأخبر بالماضي على الشيء الذي سيكون؛ لتأكيد مجيئه وإتيانه، فالموت آت آت. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أكثروا ذكر هادم اللذات، فإنه ما ذكر في سعة إلا ضيقها، ولا ذكر في ضيق إلا وسعه). الموت عجيب أمره، الموت قدره الله سبحانه وتعالى على العباد، ولابد أن يكون في بال كل إنسان وفي قلبه، فيذكر الله سبحانه ويذكر أنه راجع إليه فذكره ربه سبحانه ينفعه، وصلاته وصومه وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر ينفعه. قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27]. فالإنسان الذي يعتاد ذكر الله سبحانه يثبته في وقت وفاته، ويجعله يقول: لا إله إلا الله ويثبت عليها، ويبشره الله سبحانه حتى يتوفاه على هذه الكلمة الطيبة. لذلك ينظر المؤمن أمامه وينظر في غده، وينظر أنه سيلقى الله يوماً من الأيام، فليعمل لهذا اليوم من الآن ولا يسوف، ويقول: غداً أفعل غداً أفعل، لعل الغد لا يأتي عليه، ولعله يأتي عليه وهو غير قادر على العمل، فلذلك هنا نكثر من ذكر الله، فإن ذكر الله يعين على فعل الطاعات، وذكر الله يعين على اجتناب المحرمات.

تفسير قوله تعالى: (وسبحوه بكرة وأصيلا)

تفسير قوله تعالى: (وسبحوه بكرة وأصيلاً) قال الله تعالى: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب:42] يعني: دائماً، في أول النهار وآخر النهار، يعني: إذا ذكرنا ربنا في أول النهار لا نكتفي، بل نذكره سبحانه ونسبحه في أول النهار وفي آخره. وأكثر من ذكر الله في كل أحوالك، وقد عرفنا من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم كيف أنه كان يجلس في المجلس الواحد ويستغفر الله سبعين مرة ومائة مرة وكان صلوات الله وسلامه عليه يكثر من الاستغفار، ويسأل ربه الجنة ويتعوذ بالله من النار. ويخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (أن الإنسان إذا كان في مجلس وذكر الله وقال: اللهم إني أسألك الجنة ثلاث مرات، وقال: اللهم أجرني من النار ثلاث مرات، قالت الجنة لربها: اللهم أدخله الجنة، وقالت النار لربها: اللهم أعذه مني)، هذا إذا قال ذلك في مجلس واحد ثلاث مرات، فإذا أكثر من ذلك في يومه وقال سبع مرات في كل يوم: (اللهم إني أسألك الجنة، اللهم أجرني من النار) ويكرر، فإن الجنة تطلب من ربها أن يدخل الله عز وجل هذا العبد الجنة؛ لأنه يسأل الجنة، وكذلك إذا تعوذ بالله من النار سبع مرات، فالنار تقول لربها سبحانه: اللهم أجره من النار. لذلك ينبغي للمؤمن أن يكثر من الدعاء ومن ذكر الله، ويكثر من سؤال الله عز وجل الجنة والتعوذ بالله من النار. قوله: ((وَسَبِّحُوهُ)) أي: نزهوا الله سبحانه وتعالى وقدسوه بلفظ التسبيح (سبحان الله)، (فسبحان) مصدر، وأصلها أسبح الله تسبيحاً، أي: تقول لربك: أسبحك يا ربي وأنزهك عن أي نقص، وأقدسك. والتسبيح يأتي بمعنى الذكر، بقول: سبحان الله، ويأتي بمعنى صلاة النافلة، ومنه صلاة السبحة، أي: صلاة النافلة. فإذاً: أكثر من ذكر الله في فريضتك وفي نافلتك وفي غير الصلاة، أكثر من ذكره سبحانه في الغدوة وهي أول النهار، والأصيل والعشي أي: آخر النهار، فلا تترك وقتاً من يومك ولا من ليلك إلا وتذكر الله سبحانه وتعالى فيه.

تفسير قوله تعالى: (هو الذي يصلي عليكم وملائكته)

تفسير قوله تعالى: (هو الذي يصلي عليكم وملائكته) قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43]. قوله: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ} [الأحزاب:43] أي: يرحمكم سبحانه ويستجيب دعاء الملائكة الذين يستغفرون لكم ويدعون لكم، فالله يصلي عليكم، وصلاة الله عز وجل على عباده بمعنى رحمة منه سبحانه ومغفرة، وبمعنى الثناء، وهو أن يثني على العبد ويذكره في ملأ خير من الملأ الذي هو فيه. وملائكته يصلون عليكم بمعنى يستغفرون لكم ويدعون الله عز وجل أن يرحمكم. قوله: ((لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)) أي: من رحمته أن أرسل إلينا رسولاً كريماً صلوات الله وسلامه عليه، وأن نزل عليه هذا القرآن العظيم ليخرج العباد من ظلمات الكفر والضلالة إلى نور الإيمان واليقين. قوله: ((وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا)) أي: الله هو الرحيم وهو الرحمن، وهو المعبود سبحانه، فهو رحيم ورحمن وكلاهما صيغة مبالغة من الرحمة، فهو ذو الرحمة العظيمة الواسعة، قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} [الأعراف:156 - 157] أي: هؤلاء الذين يستحقون الرحمة هم الذين اتبعوا النبي صلوات الله وسلامه عليه على دين الإسلام، دين رب العالمين سبحانه. الفرق بين الرحيم والرحمن أن الرحمة في الرحمن تعم جميع خلقه مسلمهم وكافرهم، فمن رحمته أن أرسل الرسل لهداية الخلق فهو الرحمن سبحانه وتنزل المصيبة بكل مخلوق سواء كان مؤمناً أو كان كافراً، ويخففها الله سبحانه ويزيلها عن الجميع، فهي من رحمة الرحمن سبحانه وتعالى. وتنزل النازلة العظيمة بالعبد في الدنيا فيدعو ربه سبحانه سواء كان مؤمناً أو كان كافراً، ويقول: يا رب يا رب. وقد يكون الكافر مظلوماً ويدعو ربه فتصعد دعوته إلى الله عز وجل، فيستجيب الله له وينصره ممن ظلمه فهو الرحمن سبحانه. وقال هنا: ((وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا)) إذاً: فالرحيم ذو الرحمة الخاصة بالمؤمنين فقط، وهي الرحمة التي تكون يوم القيامة، فهو يرحمهم في الدنيا ويرحمهم في الآخرة، ولا يرحم الكفار يوم القيامة، بل من مات مشركاً بالله كافراً فقد كتب الله عز وجل عليه أنه محروم من الجنة ومحروم من رحمة الله، وأنه مستوجب للنار، قال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] فالله لا يغفر لمن مات وهو مشرك بالله سبحانه، كذلك من مات على كفره لا يغفر له، أما في الدنيا قبل أن تبلغ الروح الحلقوم فإنه إذا تاب إلى الله عز وجل من أي ذنب كان كبيرة من الكبائر حتى من الشرك أو صغيرة من الصغائر فالله عز وجل يتوب عليه. إذاً: هنا يقول: ((وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا)) أي: هذه الرحمة العظيمة الخاصة بالمؤمنين، قال عز وجل: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [الأعراف:156]، الذين يتبعون النبي صلوات الله وسلامه عليه، فهذه رحمة الرحيم وهو أرحم الراحمين سبحانه. إذاً: الرحمن رحمته واسعة تعم جميع خلقه سبحانه وتعالى، فيرحم في الدنيا جميع عباده بأن يبين لهم ويدلهم على الحق، وأن يقيم عليهم حجته سبحانه وتعالى، ولا يدع لهم شبهة من الشبه، بل يبين سبحانه الرحمة التي تختص باسمه الرحمن، والرحمة الخاصة بالمؤمنين في الآخرة، فهو سبحانه يرحمهم ويدخلهم جنته سبحانه وتعالى، وفي الدنيا يهديهم فيدلهم سبحانه وتعالى، ويحولهم من شك إلى يقين، ومن ضلال إلى هدى، ومن كفر إلى إيمان، ((وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا)). قال ابن عباس رضي الله عنهما: (لما نزل قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] قال: إذا بالمؤمنين يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: هنيئاً لك يا رسول الله وليس لنا فيها شيء -يعني: هذه الآية خاصة بك- فأنزل الله هذه الآية: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الأحزاب:43]) يعني: أمركم أن تصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم، فالفائدة تعود عليكم أنتم. فالرسول حبيب رب العالمين وخليل رب العالمين سبحانه، سواء صلى عليه الناس أو لم يصلوا، فله أجره العظيم الوافر عند ربه سبحانه، ولكن أن تصلي عليه أيها المسلم فأنت المنتفع بذلك؛ لأنه كلما صليت عليه صلى عليك ربك سبحانه ورحمك، فأكثروا من الصلاة عليه صلوات الله وسلامه عليه.

تفسير قوله تعالى: (تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريما)

تفسير قوله تعالى: (تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجراً كريماً) قال الله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} [الأحزاب:44] قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ} [الأحزاب:43] هذا أقرب مذكور، وقوله: ((تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ)) أي: يوم يلقون الله سبحانه، ويدخلهم جنته سبحانه ويريهم وجهه الكريم سبحانه، والتحية التي تكون بين المؤمنين في الجنة سلام، أي: يسلم بعضهم على بعض ويدعو بعضهم لبعض بالسلام؛ لأنه نجا من النار، وأن الله سلمه حتى يعيش في هذه الجنة دائماً أبداً مسلماً سالماً من الآفات ومن السوء ومن كل كرب ومن كل شر؛ لأن الدنيا فيها الكدور وفيها الشرور، وفيها التعب والنصب، أما الجنة فهي خالية من كل ما يكدر الصفو، وهي دار السلام، فيحييهم ربهم سبحانه وتعالى، ويسلم عليهم ربهم بالسلام، {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ} [الرعد:23] يقولون: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:24]. إذاً: تحيتهم فيما بينهم السلام، بحيث يسلم بعضهم على بعض ويدعو بعضهم لبعض بالسلامة والأمن والطمأنينة والنجاة من كل الشرور، كذلك ربهم يسلم عليهم سبحانه، فيستجيب سبحانه دعاءهم، ويجعلهم في سلام وفي أمن في جنة الخلود، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها. فقوله: (تحيتهم) أي: ويحيي بعضهم بعضاً، والتحية أصلها الدعاء بالحياة، أي: أدعو له بالحياة، هذا أصل التحية، فيكون المعنى: يدعو بعضهم لبعض بالحياة التي فيها سلام والتي فيها طمأنينة، والتي يسلم فيها العبد من الأمراض والأنكاد والشرور والآثام، ومن الكدر والتعب والنصب. قوله: ((تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ)) أي: يوم القيامة عند دخولهم الجنة تحيتهم فيها سلام. ثم قال الله سبحانه وتعالى: ((وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا)) أي: أعد لهم الله سبحانه أجراً، وهو سبحانه إذا أراد أمراً فإنما يقول له: كن فيكون. فهنا الإعداد دليل على العناية من الرب سبحانه للعبد، فهو لا يحتاج إلى أن يعد وأن يجهز سبحانه، ولكن العناية بالمؤمنين أن الله سبحانه جهز لهم جنة من قبل أن يخلقهم، وجعل لهم فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. ويخبر سبحانه وتعالى أنه بكرمه هو الذي أعد لهم هذه الجنة، وأعد لهم أجراً على ما عملوه، والعبد إذا عمل استحق من الله سبحانه الأجر الكريم والأجر العظيم، ففي الدنيا تقول: هذا يعطيني أجراً عظيماً وذاك يعطيني أجراً لئيماً؛ لأن اللؤم من طباع الإنسان فهو في عطائه يعطي الشيء الرديء، مع أن الحاجة موجودة عنده، ويبخس الإنسان حقه، ولكن الله عز وجل يعطي العطاء الكريم الذي يليق به سبحانه وتعالى، والعبد لم يفعل شيئاً يستحق عليه هذا الأجر، ولكن رحمة رب العالمين سبحانه. فالإنسان يأخذ بالأسباب ويعبد الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله خلقه وهو مهما عبد الله لم يوف الله حقه في شكر نعمه عليه سبحانه، فكيف بأن الله يعطيه هذه الجنة العظيمة، فهذا فضل من الله سبحانه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته) فقوله: ((وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا)) فالإنسان المؤمن ينتظر من الله عز وجل الخير والكرم، فإذا كنت تنتظر كرمه فابدأ أنت بالعمل وابدأ بالتوبة إلى الله سبحانه، ولا تقل: غداً أتوب، غداً أعمل كذا، لعله لا يأتي الغد؛ لأن الموت أمامنا، فنحن نرى الموت يأخذ الصغار ويأخذ الشيوخ ويأخذ الشباب ولا يترك أحداً، فكم من إنسان يسوف ويقول: غداً أتوب، غداً أفعل كذا، أنا لا زلت صغيراً، وعندما أكبر سأفعل كذا ولا يأتي عليه هذا السن الذي يتمنى أن يأتيه. لذلك بادر بالتوبة وبادر بالعمل من قبل أن يأتي اليوم الذي قد وعد الله عز وجل عباده به، الموت الذي لا يؤخر، إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الأحزاب [45 - 46]

تفسير سورة الأحزاب [45 - 46] النبي صلى الله عليه وسلم هو الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، به انقشع ظلام الكفر والغواية، وولى غبار الجاهلية الجهلاء، ابتعثه الله ليكون داعياً إلى توحيد الله، وليكون شاهداً على جميع أفراد الأمة ومبشراً ونذيراً، وليكون سراجاً منيراً يضيء الله به العقول والقلوب، وتحيا به الأفئدة.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:45 - 46]. يقول الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ} [الأحزاب:45] فالله الذي أرسله صلوات الله وسلامه عليه وليس أحداً غيره. وعبر بنون العظمة بياناً لعظمة الرب سبحانه: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ} [الأحزاب:45] فالإرسال من الله العظيم سبحانه أرسل نبيه صلى الله عليه وسلم برسالة يبلغها؛ ليكون على الخلق شاهداً ومبشراً ونذيراً. وقد أرسل لهذه الوظيفة وهي تبليغ رسالة الله تبارك وتعالى، وأن يكون شاهداً على هذه الأمة، وأن يبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات بأن لهم أجراً حسناً، وأن ينذر الكفار الذين يعصون الله سبحانه من عذاب الله ومن عذاب النار، فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب:45] فهو الشاهد والمبشر والمنذر عليه الصلاة والسلام. وذكر عليه الصلاة والسلام في الحديث قال: (لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب) صلوات الله وسلامه عليه، فهو العاقب آخر الأنبياء ولا نبي بعده صلوات الله وسلامه عليه. وهو نبي التوبة، وهو نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام، فالله حين يذكر أنه الشاهد وأنه المبشر وأنه النذير يبين لنا وظيفته، فلما بلغ الأمة رسالة ربه صلوات الله وسلامه عليه قبضه ربه بعد ذلك ولم يستمتع من الدنيا بشيء. فقد بدأ الإسلام بالنبي صلى الله عليه وسلم وحده، وبدأ الإسلام غريباً، فدعا وحده، وأوذي وحده صلوات الله وسلامه عليه حتى دخل الناس في دين الله وأوذوا معه صلوات الله وسلامه عليه، ثم نصر الله عز وجل دينه، ونشر هذا الدين العظيم فدخل الناس في دين الله أفواجاً، وبدأت الفتوح من الله عز وجل يفتح للمؤمنين، وبدءوا يرون زهرة الحياة الدنيا ولم يكن هذا للنبي صلى الله عليه وسلم، فالله عز وجل قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]. فبلغ رسالة الله تبارك وتعالى وقال له: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب:45] أي لتشهد على هذه الأمة، ومبشراً للمؤمنين، ونذيراً للكفار وللعصاة. فلما بلغ رسالة الله صلوات الله وسلامه عليه وبشر المؤمنين وأنذر الكافرين قبض صلوات الله وسلامه عليه بعدما أشهد الناس على أنفسهم وقال لهم: (ألا هل بلغت؟) فأجاب الجميع أنه قد بلغ وشهدوا له، قال: (اللهم فاشهد). صلوات الله وسلامه عليه. فهو شاهد يشهد على هذه الأمة، ويشهد على الأمم جميعها، وقال الله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41]. فيوم القيامة يؤتى من كل أمة بشهيد، والشهيد هو نبي كل أمة فيؤتى به يوم القيامة ويسأل: هل بلغت؟ فيقول: بلغت. وتسأل الأمة فتكذب نبيها ويقولون: لا، لم يبلغنا. فيقال للأنبياء: من يشهد لكم؟ فيقولون: أمة محمد صلوات الله وسلامه عليه، فتشهد أمتنا للأنبياء أنهم بلغوا رسالة الله سبحانه، وأمتنا لم تر هؤلاء الأنبياء، ولكن الله أخبرنا بالخبر الصدق في كتابه الكريم سبحانه، فنخبر ونشهد تصديقاً لما قاله الله سبحانه يوم القيامة، فالله عز وجل يشهد على هذه الأمة النبي صلوات الله وسلامه عليه ويقول: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41] فهو شهيد على هذه الأمة وعلى غيرها من الأمم عليه الصلاة والسلام. وهو المبشر صلوات الله وسلامه عليه للمؤمنين، والبشارة: هي الإخبار بخبر سار، وهذا الغالب في البشارة، وقد تأتي كلمة البشارة بالخبر الضار الغير سار مثل قوله سبحانه: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران:21] وهذا لأهل النار، ولكن هذا يكون بقيود، فالغالب في البشارة أنها في الشيء الذي يسر الإنسان أن يسمعه، فقال الله عز وجل: {وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب:45] أي: مبشراً للمؤمنين، فيبشرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، ويبشرهم بالنعيم المقيم، ويبشرهم ربهم بمغفرة منه وفضل ورحمة وجنات لهم فيها نعيم مقيم. ونذيراً للعصاة، أي يخبر بالذي سيضرهم جزاء بما فعلوا. فالبشارة يخبر بالذي يسرهم على ما صنعوا، والنذارة عكسها، فأنذرهم النبي صلوات الله وسلامه عليه من عذاب الله، ومن جهنم والعياذ بالله.

تفسير قوله تعالى: (وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا)

تفسير قوله تعالى: (وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً) قال: {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} [الأحزاب:46] فهو أول المسلمين عليه الصلاة والسلام في هذه الأمة، وهو الداعي إلى ربه تبارك وتعالى، فقد دعا الناس آحاداً وجماعات، دعا إلى الله عز وجل ليلاً ونهاراً، دعا وجاهد في سبيل الله حق جهاده فقال له ربه سبحانه: {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ} [الأحزاب:46]. وذكر فضله سبحانه أنه داع إلى الله بإذن الله، قد أذن له بالدعوة إليه، وقد أعانه ووفقه، فالفضل من الله سبحانه تبارك وتعالى. قال تعالى: {وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:46] فهو السراج المنير عليه الصلاة والسلام، والمصباح الذي يضيء، فالله عز وجل جعل القمر فيهن نوراً، والشمس سراجاً مضيئاً تضيء للخلق فيأتيهم النهار مع ضوء الشمس، والنبي صلى الله عليه وسلم السراج العظيم المنير الذي أضاء الله عز وجل به لهذه الأمة وللخلق جميعهم ظلمات الكفر والشك والضياع بنور الإيمان ونور اليقين به صلوات الله وسلامه عليه، فقال: {وَسِرَاجًا} [الأحزاب:46]، وأكد ذلك أنه {مُنِيراً} [الأحزاب:46]. ولاحظ الفرق بين سراج مضيء وسراج منير، فالسراج المضيء الذي فيه وهج، والذي فيه لهب، والذي فيه نار فقد يحرق الإنسان الذي يقترب منه، ولكن النور فيه برودة وإنارة، فالإنسان يجد النور فيمشي، والقمر نور، والشمس سراج، والشمس تحرق وتلهب في الصيف، بينما الإنسان يمشي في نور القمر ولا يتأذى منه، فالنبي صلى الله عليه وسلم سراج وهاج منير عليه الصلاة والسلام، فالذي يكون معه صلوات الله وسلامه عليه يجد الطيب من النبي صلى الله عليه وسلم، والطيب من القول ومن الهدى من رحمة رب العالمين سبحانه بهذه الأمة. وهنا قد يقال: ذكر الله عز وجل أنه سراج والسراج العادة أنه يضيء فلم قال: {وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:46]؟ و A أن هذا تأكيد من الله سبحانه وتعالى، وقد ينير السراج للإنسان فعلاً ولكن إنارة بسيطة، ونور خافت، فأكد الله عز وجل أن النبي عليه الصلاة والسلام السراج المنير أضاء الله عز وجل وأنار به الكون كله، وليس سراجاً فاتراً. ويأتي الأنبياء يوم القيامة إلى ربهم سبحانه والنبي قد دعا أمة ولم يستجب له أحد، ونبي استجاب له واحد، ونبي استجاب له عشرة، ونبي استجاب له أمة كبيرة، ونبينا صلى الله عليه وسلم أعظم الناس في قدر من استجاب له صلوات الله وسلامه عليه فهو السراج المنير العظيم عليه الصلاة والسلام. يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (لما نزلت: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:45 - 46] دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً ومعاذاً فقال: انطلقا فبشرا ولا تعسرا. فإنه قد نزل علي الليلة آية، وذكر لهم هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:45 - 46]). فأمرهما أن يذهبا إلى اليمن ليبشرا الناس وقال: (يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا). فالداعي إلى الله سبحانه وتعالى يكون على الأمر الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فييسر للناس ولا يعسر عليهم. (بشرا ولا تنفرا)، التبشير بجنة الله سبحانه ومرضاة الله عمن يطيعه. (ولا تنفرا) الإنسان قد يدعو إلى الله سبحانه ولكنه شديد، وفي أسلوبه غلظة فينفر أكثر مما يدعو، وقد يقول النصيحة اثنان، فالذي يرفق بالناس يستجيبون له ويطيعونه، والذي يتشدد على الناس ويغلظ عليهم لا يستجيب له أحد، ويمكن أن يتعارك مع أحد المنصوحين أو يشتمه. فالإنسان الذي يدعو إلى الله عز وجل يكون رفيقاً بالناس رحيماً بهم، قال عليه الصلاة والسلام: (وإن الله ليعطي على الرفق ما لا يعطي على الشدة) ولكن الله يعطي فهذا قد يرفق بالناس فيستجيب الكثيرون، وهذا يغلظ مع الناس فلا يستجيب له أحد، مع أن هذا يدعو إلى الله وهذا يدعو إلى الله، وهذا مخلص وهذا مخلص، ولكن الفرق في الأسلوب في التعامل مع الخلق، فلذلك يتعلم الإنسان المؤمن من النبي صلى الله عليه وسلم حسن الخلق، ويتعلم منه الرفق، والتبشير والتيسير كما قال صلى الله عليه وسلم: (بشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا). فيبشر وييسر على الخلق حتى يستجيبوا لله سبحانه. الناصح في دعوته الخلق لابد أن يكون أهم شيء عنده أن يستجيب الذي ينصحه، وأن يخرجه من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان، ومن الضلالة والمعاصي إلى طاعة الله قال عليه الصلاة والسلام: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس). فالتيسير والتبشير من دين ربنا سبحانه الذي أمر به نبينا صلوات الله وسلامه عليه، قال له ربه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران:159] أي: بأي رحمة عظيمة من الله قد أعطاكها، برحمة عظيمة جليلة من الله جعلها في قلبك. {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159] وهذه الآية العظيمة التي في قرآننا نجد مثلها في التوراة وشهد بذلك من أسلم كـ عبد الله بن سلام رضي الله عنه وكعب الأحبار فقالوا: في التوراة هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:45 - 46] نبياً للأميين ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يدفع السيئة بالحسنة صلوات الله وسلامه عليه. شهد شاهد من أهلها، أهل التوراة كـ كعب الأحبار وكـ عبد الله بن سلام رضي الله تبارك وتعالى عنهما، فقد دخلا في الإسلام وكانا يهوديين، أما عبد الله بن سلام فتشرف بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم، ورأى رؤيا أنه يمسك بعروة فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنه يتمسك بالإسلام حتى يموت عليه، فكانت بشارة من الله على لسان النبي صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن سلام رضي الله عنه. وأما كعب الأحبار فلم ينل هذا الحظ العظيم؛ لأنه لم يسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وإنما أسلم في زمن عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، وكلاهما أخبر عن هذه الآية أنها في التوراة قرآها في التوراة وحفظاها بشارة بالنبي صلوات الله وسلامه عليه. {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ} [الأحزاب:45] فذكر النبوة والرسالة، يا أيها المنبأ بأخبار من الغيب من الله سبحانه، يا أيها النبي الذي يوحى إليك بغيب من الله تبارك وتعالى {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ} [الأحزاب:45] أي: جعلناك رسولاً لتبلغ رسالة من عندنا، وهو هذا القرآن العظيم والوحي من عند رب العالمين سبحانه، ومبشراً لمن آمن ومنذراً لمن كفر. وداعياً إلى الله بفضل الله فقد أذن لك بالدعوة إليه. {وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:46] أي: نوراً عظيماً، مصباحاً تضيء للخلق وتنير لهم، فدلهم على كل خير حتى تغيظت اليهود من النبي صلوات الله وسلامه عليه من كثرة اهتمامه بأمته واهتمامه بتبليغهم كل شيء، حتى إن قائلهم ليقول للمسلمين: ما يفعل بكم هذا النبي عليه الصلاة والسلام؟ ما ترك من شيء إلا علمكم حتى الخراءة، يعني: أدب الخلاء، يعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخلت الخلاء تدخل برجلك اليسرى تقول: باسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث. إذا خرجت قلت: غفرانك. إذا استنجيت فلا تستنج بيدك اليمنى ولكن بيدك اليسرى، وليكن ثلاثاً واستجمر وتراً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فيتغيظ اليهود ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما حسدتكم اليهود على شيء كما حسدتكم على السلام، والتأمين خلف الإمام). فالنبي صلى الله عليه وسلم علمكم فليسلم بعضكم على بعض، كما أمر الله سبحانه وتعالى، بقوله: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور:61]. فعلمهم أن يقولوا: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وأن في كل كلمة من هذه الكلمات عشر حسنات، وعلمهم أن يسلم بعضهم على بعض حتى لو التقوا مراراً فليسلموا مراراً، فحسدتهم اليهود؛ لأنهم علموا أن السلام يزيد المحبة بين المؤمنين، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم). وحسدوا المسلمين على التأمين خلف الإمام، والدعاء الذي يحصل عندما يقرأ المصلي الفاتحة يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، فيقول الله عز وجل: حمدني عبدي. {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] فيقول: أثنى علي عبدي. {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] فيقول: مجدني عبدي. {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] يقول: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل. {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7] هذا طلب الإمام، فأما المأمومون فيقولون: آمين بمعنى: اللهم استجب، فالله يستجيب لعباده، ومن المستحيل أن يدعو كل هؤلاء المؤمنون في كل الأرض يقولون: {

تفسير سورة الأحزاب [45 - 48]

تفسير سورة الأحزاب [45 - 48] بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم إلى كافة الناس بالبشارة للمؤمنين والهداية لهم، والنذارة للكافرين وإعلان الوعيد لهم في الدنيا والآخرة، ونهاه سبحانه عن طاعة الكافرين والمنافقين، وأن يتوكل عليه سبحانه حتى لا يضره كيدهم.

النبي صلى الله عليه وسلم هو الهادي والمهدي

النبي صلى الله عليه وسلم هو الهادي والمهدي

هداية النبي صلى الله عليه وسلم للناس

هداية النبي صلى الله عليه وسلم للناس بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا * وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا * وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب:45 - 49]. يخبر الله تبارك وتعالى نبيه صلوات الله وسلامه عليه بأن وظيفته في هذه الدنيا أنه رسول وأنه نبي عليه الصلاة والسلام، وأنه الشاهد والمبشر والنذير، والداعي إلى الله بإذنه والسراج المنير. فهو يهدي به الله عز وجل من يشاء من خلقه إلى صراطه المستقيم، وفرق بين هداية الله عز وجل لخلقه وهداية النبي صلى الله عليه وسلم ومن دعا بدعوته الخلق إلى الله عز وجل. فالنبي يهدي، بمعنى: يدل ويبين عليه الصلاة والسلام، فهو هاد يهدي الخلق عليه الصلاة والسلام بالبيان، وينير لهم صلوات الله وسلامه عليه طريقهم، فيعرفون الحق من الباطل، فقد يسلكون طريق الحق وقد يتنكبونه. أما الذي يحول من حال إلى حال فهو الله عز وجل، وعندما يقول لنا: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} [آل عمران:73]، {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [البقرة:120] فالهدى ينسب إلى الله عز وجل، فيهدي من يشاء من خلقه. وحين يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] فهذا صحيح، وحين يقول له صلوات الله وسلامه عليه: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] فهو أيضاً صحيح، فهو صلوات الله وسلامه عليه وظيفته أن يبين للخلق، فهو لا يملك قلوبهم، ولا يملك أن يخرجهم من الظلمات إلى النور ويحولهم من طريق إلى طريق، إنما يملك الدلالة عليه الصلاة والسلام. إذاً: قوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] أي: أنت تبين أن هذا صراط الله عز وجل وكتابه، وهذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا طريق الجنة، وهذا طريق النار، إذاً: هو مبين عليه الصلاة والسلام، والناس يسمعون ويرون منه صلى الله عليه وسلم هذه الآيات، فمنهم من يؤمن فينجو، ومنهم من يصر على كفره وجحوده فيهلك، والنبي صلى الله عليه وسلم يهديهم بالبيان عليه الصلاة والسلام. والله يقول: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] يعني: لا تحول ولا تغير قلب إنسان ولا تملك ذلك. {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال:63]. إذاً: هو عليه الصلاة والسلام يدلهم على الخير حتى يتحابوا وحتى يؤلف بين القلوب، ولكن هو لا يملك التحويل والتغيير، والذي يملك ذلك هو الله تبارك وتعالى. إذاً الهدى له معنيان: هدى الدلالة، فهذا يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ويملكه. هدى التغيير والتحويل للقلوب: وهذا لا يملكه إلا الله سبحانه وتعالى، ولذا يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] يعني: لا تملك أن تغير، فلو كان يملك لغير قلب أبي طالب ولأدخله في الإيمان، ولكن ليست هذه وظيفته صلى الله عليه وسلم. إذاً: محمد صلى الله عليه وسلم هو الشاهد على الأمم، والشاهد على هذه الأمة، والمبشر الذي يبشرهم بما يسرهم عند الله عز وجل من جنات ونعيم مقيم، وهو المنذر يخوفهم بما أعد الله عز وجل للكافرين والعصاة من عذاب، وهو الداعي إلى الله يدعو الخلق ويناديهم: تعالوا فادخلوا في دين الله سبحانه وتعالى، يدلهم على الحق وعلى طريقه، ويدعو إلى الله بإذنه، وليس من عنده عليه الصلاة والسلام، بل قال الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:7]. والضال: التائه عن طريق الله سبحانه، لم يكن يعرف شريعة ربه سبحانه، إنما كان يتعبد لله عليه الصلاة والسلام، وما كان ينتظر أن ينزل عليه وحي. ولكنه يعبد ربه سبحانه ليشكر نعم الله سبحانه، ويعرف أن الله الذي خلقه هو وحده الذي يستحق العبادة، ويعرف أن هذه الأصنام لا تستحق أن تعبد من دون الله.

هداية الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وإرساله هاديا للناس

هداية الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وإرساله هادياً للناس ولم يكن يعرف شريعة صلوات الله وسلامه عليه؛ ولذلك قال الله سبحانه: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا} [الضحى:7] أي: فهداك إلى شريعته تبارك وتعالى. كان لا يعرف من هو جبريل الذي ينزل من السماء! وما هو الناموس الذي عند الله تبارك وتعالى! فلما نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فزع فزعاً عظيماً، وهرب إلى بيته صلى الله عليه وسلم وهو يرتجف ويقول: زملوني زملوني! دثروني دثروني! ولم يعرف من هذا الرسول الذي جاء من السماء حتى طمأنته خديجة رضي الله عنها وأخذته إلى ورقة بن نوفل؛ فأخبره أن هذا هو الناموس الأعظم الذي كان ينزل على موسى، فأنت ستكون نبي هذه الأمة، ولو أدركني يومك لأنصرنك نصراً مؤزراً، وإن قومك سيخرجونك، قال: أو مخرجي هم؟ قال: ما بعث نبي من الأنبياء بمثل ما بعثت به إلا عودي. إذاً: ورقة بن نوفل لم يكن يعرفه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعرف شيئاً من ذلك صلى الله عليه وسلم. ورقة كان على دين النصرانية، ولكن كان على الحق، عرف الحق رضي الله تبارك وتعالى عنه؛ فعرف أن نبياً سيبعث في هذا الزمان، وهذه علامات نبوته صلوات الله وسلامه عليه، فيقول: لو أدركني يومك عندما تهاجر من مكة إلى المدينة سأنصرك نصراً مؤزراً. إذاً عرف ورقة أنهم سيخرجونه، وسيهاجر صلوات الله وسلامه عليه، لكن ولم يعرفه النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه لم يكن قد أوحي إليه بشيء، فهذا من معاني قوله: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:7]. أي: لم تكن تعرف شيئاً عن هذه الشريعة فهداك ودلك، لم يعلمك أحد من البشر قراءة ولا كتابة، ولا درست نصرانية ولا يهودية، وإنما كان على الفطرة السليمة صلوات الله وسلامه عليه، يتعبد لله سبحانه الليالي ذوات العدد في غار حراء، ثم يتزود لمثلها ويذهب مرة ثانية وثالثة حتى جاءه الحق من عند الله سبحانه تبارك وتعالى وهو في حراء. فهو الداعي إلى الله بإذن الله سبحانه، قال تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر:94] فأمر صلوات الله وسلامه عليه أن يجهر بالحق بإذن الله سبحانه. آذاه قومه ولم يقدر أن يخرج من مكة إلى المدينة إلا بإذن الله؛ فانتظر أن يؤذن له، فخرج بعدما أذن الله عز وجل له، وكان أبو بكر قد أوذي فأراد أن يهاجر، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يصبره ويقول: إني أنتظر أن يؤذن لي، فانتظر أبو بكر مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى جاء الإذن من الله. إذاً: هو لا يدعو من عند نفسه وإنما بأمر الله ولأمر الله، وبوحي من الله، ولذلك قال الله سبحانه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3] لا ينطق عن هواه ولا عن شيء في نفسه، وإنما قال: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} [النجم:4 - 6]. لم يعلمه أحد من البشر، وإنما جاءه جبريل من عند رب العالمين بالوحي آية آية! وحديثاً وراء حديث! يتعلم صلى الله عليه وسلم من جبريل ويبلغ الناس، فهو الداعي إلى الله بإذن الله سبحانه، وهو السراج المنير صلوات الله وسلامه عليه بما جاء من هذه الشريعة العظيمة.

تفسير قوله تعالى: (وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا)

تفسير قوله تعالى: (وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً كبيراً) قال سبحانه: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا} [الأحزاب:47]. هنا البشارة للمؤمنين، والنذارة للكافرين والعصاة، بشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً كبيراً أي: يتفضل عليهم التفضل العظيم، ويعطيهم الفضل والزيادة العظيمة من فضله تبارك وتعالى، قال سبحانه: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]. إذا أحسنت أحسن الله عز وجل إليك، الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه فإنك إن لم تكن تراه فإنه يراك، فتعبد ربك أفضل العبادة وأحسنها، و {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60] فإن أحسنت أحسن الله عز وجل إليك، {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195]. فإذا أحسن العبد كان الله معه، وأحبه الله سبحانه وأعطاه الجزاء الذي هو أحسن وأفضل، إذاً: يوجد حسن ويوجد أحسن، ويوجد ما هو أحسن من ذلك وهو الزيادة فوق الأحسن، وهو النظر إلى وجه الله سبحانه وتعالى، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من المتقين ومن المحسنين الذين لهم الحسنى وزيادة. قال تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا} [الأحزاب:47] أي: فضلاً كبيراً لا يقدر أحد قدر هذا الفضل من الله سبحانه، والله يكلمنا بما يليق به سبحانه، فيعطي الثواب من فضله، وفضله عظيم، وخزائنه ملأى لا تغيض أبداً، سحاء الليل والنهار، فعندما يقول: لكم من الله الفضل الكبير، إذاً: هنا أمل عظيم فيما عند الله تبارك وتعالى، الأمل العظيم في فضله ورضوانه وجناته وعطائه سبحانه وتعالى العطاء غير المجذوذ.

تفسير قوله تعالى: (ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم)

تفسير قوله تعالى: (ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم) قال سبحانه: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا} [الأحزاب:47]. هنا البشارة للمؤمنين، والنذارة للكافرين والعصاة، بشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً كبيراً أي: يتفضل عليهم التفضل العظيم، ويعطيهم الفضل والزيادة العظيمة من فضله تبارك وتعالى، قال سبحانه: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]. إذا أحسنت أحسن الله عز وجل إليك، الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه فإنك إن لم تكن تراه فإنه يراك، فتعبد ربك أفضل العبادة وأحسنها، و {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60] فإن أحسنت أحسن الله عز وجل إليك، {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195]. فإذا أحسن العبد كان الله معه، وأحبه الله سبحانه وأعطاه الجزاء الذي هو أحسن وأفضل، إذاً: يوجد حسن ويوجد أحسن، ويوجد ما هو أحسن من ذلك وهو الزيادة فوق الأحسن، وهو النظر إلى وجه الله سبحانه وتعالى، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من المتقين ومن المحسنين الذين لهم الحسنى وزيادة. قال تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا} [الأحزاب:47] أي: فضلاً كبيراً لا يقدر أحد قدر هذا الفضل من الله سبحانه، والله يكلمنا بما يليق به سبحانه، فيعطي الثواب من فضله، وفضله عظيم، وخزائنه ملأى لا تغيض أبداً، سحاء الليل والنهار، فعندما يقول: لكم من الله الفضل الكبير، إذاً: هنا أمل عظيم فيما عند الله تبارك وتعالى، الأمل العظيم في فضله ورضوانه وجناته وعطائه سبحانه وتعالى العطاء غير المجذوذ.

نهي الله لنبيه صلى الله عليه وسلم عن طاعة الكافرين والمنافقين

نهي الله لنبيه صلى الله عليه وسلم عن طاعة الكافرين والمنافقين ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب:48]. وهذا كرر ما ذكره في أول السورة: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الأحزاب:1]، فقال في أول السورة {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب:1] فالكفار يداهنون، قال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9]. فهم يدهنون ويلينون معك شيئاً، ويودون لو أنك ملت ولنت لهم في شيء، فيحذره الله سبحانه: احذر من الكفار! كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: اذكر آلهتنا بخير ولو مرة واحدة ونحن ندخل معك في الإسلام، فلما أبى صلى الله عليه وسلم قالوا: اسكت عن آلهتنا، لا تتكلم عن آلهتنا بخير ولا بشر، وحاشا له أن يسكت صلوات الله وسلامه عليه على باطل، بل لابد أن يبين أن هذه الأصنام وهذه الآلهة من دون الله عز وجل لا تنفع شيئاً ولا تضر بشيء، وإنما الذي ينفع ويضر هو الله تبارك وتعالى. فكان كفار قريش يمنون النبي صلى الله عليه وسلم يقولون له: اجعل لنا يوماً نجلس معك ولا نجلس مع هؤلاء الفقراء، فيقول له ربه سبحانه: احذر من ذلك ولا تطع الكافرين. كذلك المنافقون يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم أشياء، فالمنافق يبطن الكفر ويظهر الإسلام، وهم يتولون غير الله سبحانه وغير رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، ويطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس له أن يعطيهم إياه، كـ عبد الله بن أبي وطعمة بن أبيرق وغيرهم كانوا يحثون النبي صلى الله عليه وسلم على إجابتهم فيطلبون أشياء لا يجوز له أن يفعلها صلى الله عليه وسلم، ويتعللون بالمصلحة، فيريدون أن يوالوا اليهود للمصلحة، يقولون: اليهود هؤلاء كانوا حلفاءنا في الجاهلية، وكانوا يحبوننا، وكانوا يدافعون عنا، فدعنا مع هؤلاء اليهود لا نتركهم، فيطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ويشفعون عنده في اليهود، كـ عبد الله بن أبي لما شفع في بني النضير، وتركهم النبي صلى الله عليه وسلم له في النهاية. فالله عز وجل يحذره: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب:48] هؤلاء إذا أطعتهم أضلوك وأخرجوك عما أراده الله عز وجل بك.

معنى أمر الله لنبيه بأن يدع أذى الكفار والمنافقين

معنى أمر الله لنبيه بأن يدع أذى الكفار والمنافقين {وَدَعْ أَذَاهُمْ} [الأحزاب:48] فهم عندما يطلبون منه شيئاً فيرفض أن يجيبهم يؤذونه صلى الله عليه وسلم بالقول، ويؤذونه بالفعل عليه الصلاة والسلام، فهم قاعدون للأذى فقط، فيقول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: دعك من هذا الذي يفعلونه معك، وأعرض عن هؤلاء، ودع أذاهم حتى يؤذن لك من الله سبحانه وتعالى، فأذن له صلوات الله وسلامه عليه في أمر الكفار أن يقاتلهم. إذاً: هنا دع هؤلاء واصبر عليهم قليلاً حتى يأتي أمر الله، فجاء أمر الله عز وجل في الكفار، قال الله عز وجل: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة:5]. فبعدما أنزل الله عز وجل سورة براءة أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ الكفار وأن يجاهدهم في الله تبارك وتعالى. فإذا كان أذى هؤلاء أنهم يسألون النبي صلى الله عليه وسلم، ويلحون في السؤال ليتعلموا لعلهم يدخلون في الدين، فهنا يلزمه أن يصبر صلوات الله وسلامه عليه؛ حتى يدلهم على الحق، وحتى يدخلوا في الدين، وقد جاء في في سورة براءة نفسها وهي من آخر ما نزل من القرآن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بجهاد الكفار صلوات الله وسلامه عليه، وأيضاً أمره فقال: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة:6]. إذاً: أمر صلى الله عليه وسلم بقتال المشركين كافة، وأن يبدأهم بالغزو عليه الصلاة والسلام، ولكن مع ذلك لو أن أحداً من هؤلاء الكفار كان في جبهة المحاربين لك ثم طلب أن يسمع الدين وقال: أريد أن آتي لكم وأسمع ما الذي تقولونه في هذا الدين، فالله عز وجل لكرمه سبحانه يقول: أسمعه، بلغه هذا الدين: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} [التوبة:6] فهو طلب الجوار، وقال: سنأتي نجاورك ونسمع منك فأجرني ولا تؤذني بشيء حتى أسمع هذا الدين، فقد أدخل في الدين وقد لا أدخل! فهنا قال الله سبحانه: {فَأَجِرْهُ} [التوبة:6] إلى متى؟ {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] إلى أن يأتي عندك ولا أحد يتعرض له بشيء، فإذا جاء وسمع فلا تقول: ادخل في الإسلام لأنك سمعت وإلا نقتلك! ولكن بلغه دين الله سبحانه، {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة:6] كما جاء آمناً في القوم فارجعه إليهم على حاله التي كان عليها قبل ذلك. هذا الدين العظيم من الله سبحانه فيه الأمن والأمان والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، حتى ولو كان في ساعة الجهاد في سبيل الله سبحانه، والكفار في مكان والمسلمون في مكان، وجاء أحد الكفار يريد أن يسمع هذا الدين، فأجره إلى أن يأتي إليك، وأسمعه كلام الله سبحانه إلى أن يعقل ويفهم، ثم أرجعه مرة أخرى إلى قومه آمناً، وإذا أراد أن يدخل في هذا الدين فليفعل. فهنا ربنا تبارك وتعالى يأمر نبيه البشير النذير، الداعي إلى الله بإذنه والسراج المنير، بأن يبشر المؤمنين ويبلغهم بأن لهم من الله الفضل الكبير. قال: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ} [الأحزاب:48]. أي: لا تنشغل بما يؤذونك به، ولا تنشغل بالمعاقبة عن الأمر الذي أرسلت لأجله، ولأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس.

أمر الله لنبيه بالتوكل عليه

أمر الله لنبيه بالتوكل عليه ثم قال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأحزاب:48]. وهو سيد المتوكلين صلوات الله وسلامه عليه، وهذا من باب: (إياك أعني واسمعي يا جارة) وإذا قال هذا لنبيه صلى الله عليه وسلم وهو المتوكل على الله فإن المراد أن يداوم على ذلك. وهو خطاب للمؤمنين بالتبع، أي: تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم حسن التوكل على الله تبارك وتعالى، قال الله سبحانه: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:3]. فأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالتوكل، والثقة بالله سبحانه وتعالى، وأن يكون جاعلاً ربه سبحانه وكيله في كل شيء، يثق في أن الله يدبر الأمر كله سبحانه، فالإنسان يتوكل على الله سبحانه. هنا عندما تقول: أنا وكلت فلاناً بالأمر الفلاني، أي: أقمته مقامي في هذا الشيء، فأنا لا أستطيع فعل هذا الشيء، سأوكل محامياً يفعل لي هذا الشيء، فجعلته وكيلاً أي: ينوب عني في أن يقوم مقامي في هذا الشيء؛ لكي يعمل الذي أنا لا أعرفه. فالله عز وجل يقول: أنا وكيلك، أنا أجعلك تفعل ما لم تكن تقدر عليه قبل ذلك، فالذي يصير ولياً لله سبحانه كان الله سبحانه له كما قال: (كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه). فالله وكيلك، ومدبر أمرك؛ وذلك إذا توكلت عليه سبحانه وجعلته وكيلك ووثقت به تبارك وتعالى، وطلبت منه أن يقضي لك حوائجك، وعملت بطاعته سبحانه، فالله عز وجل يدبر لك كل أمرك، ويعينك، ويفرج عنك كل همك. قال سبحانه: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى} [الأحزاب:48] أي: يكفيك الله تبارك وتعالى كل شيء، فهو مدبر لأمرك، وناصر لك على عدوك، فالله عز وجل القائم على كل أمر سبحانه. قال: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [الأحزاب:48] وفيه وعد من الله سبحانه وتعالى بأن ينصر النبي صلى الله عليه وسلم، فهو وكيله أي: حافظه عليه الصلاة والسلام، قائم بأمره، ناصره على عدوه. وهو للمؤمنين كذلك {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [الأحزاب:48]. وذكر لنا سبحانه قوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:129] إذا تولى عنك الناس، وتركوك وانصرفوا، فقل: حسبي الله، يعني: كافي الله سبحانه وتعالى. {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [التوبة:129] لا أعبد إلا هو سبحانه. {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} [التوبة:129] فوضت إليه أمري كله، فهو يفعل ما يشاء سبحانه، وأنا أرضى بحكمه وبفعله سبحانه، فهو وكيلي وكفيلي وحسيبي، وهو الحافظ لي القائم بأمري سبحانه: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [الأحزاب:48]. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من المتوكلين عليه حق التوكل. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الأحزاب الآية [49]

تفسير سورة الأحزاب الآية [49] إن عظمة هذا الدين تتجلى للمتأمل في تفاصيل تعاليم شرعه، ومن هذه الأحكام العظيمة ما شرع لتنظيم حياة الزوجين من أحكام الطلاق والعدة وغيرها من الأحكام المتعلقة بالحياة الزوجية.

تفسير قوله تعهالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات)

تفسير قوله تعهالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات)

حق الرجعة في الطلاق الرجعي لمن دخل بها زوجها

حق الرجعة في الطلاق الرجعي لمن دخل بها زوجها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب:49]. يقول الله سبحانه وتعالى للمؤمنين معلماً ومرشداً وآمراً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49]، وهذه صورة من صور النكاح ثم الطلاق بعده. فالإنسان قد يتزوج، ثم بعد ذلك يدخل بامرأته، ولعله بعد ذلك يطلقها فتكون مدخولاً بها، والمدخول بها لابد أن تعتد إذا طلقها، فإذا طلقها مرة يجوز له أن يراجعها في خلال عدتها، ثم لعله يطلقها بعدما يراجعها فيكون طلاقاً رجعياً، وتعتد المرأة من هذا الطلاق، ثم لعله يراجعها ثم لعله يطلقها بعد ذلك وهنا تكون ثلاث تطليقات، فبالطلقة الثالثة تبين المرأة من الرجل بينونة كبرى فلا يجوز له أن يراجعها حتى تتزوج زوجاً غيره، ثم إذا طلقها زوجها الآخر وانتهت عدتها فللأول أن يتزوجها مرة ثانية ويرجع إليها بثلاث تطليقات. لكن إذا تزوج بالمرأة حدث بينهما شيء وطلق المرأة قبل أن يدخل بها فإنها تبين منه بهذه الطلقة بينونة صغرى، وليس له أن يراجعها، لأنه لا عدة له عليها. إذاً: المراجعة تكون في المطلقة المدخول بها فقط، أما الغير مدخول بها فليس له عليها رجعة، فإذا طلقها كذلك بانت واستحقت على هذا الإنسان نصف المهر، وله أن يرجع في النصف الآخر إن كان دفع لها المهر كاملاً.

المطلقة ثلاثا لا تحل لزوجها حتى تنكح زوجا غيره

المطلقة ثلاثاً لا تحل لزوجها حتى تنكح زوجاً غيره وهنا يذكر لنا ربنا تبارك وتعالى أمر العدة، فقد ذكر لنا الطلاق في سورة البقرة وقال: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229]، فالذي يطلق مرة إما أن يمسك بمعروف في خلال عدة المرأة أو أن يفارقها بإحسان، فإذا طلق للمرة الثالثة فقد قال عز وجل: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230]، إذاً: بعد التطليقة الثالثة لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره. والنكاح بمعنى العقد والوطء، فقوله: (حتى تنكح زوجاً غيره)، أي: حتى يعقد عليها إنسان آخر ويدخل بها، ولذلك جاء في حديث المرأة التي طلقها زوجها ثم تزوجت من رجل آخر وذهبت تشكو للنبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يجامعها ولا يمسها وليس له في أمر النكاح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة) أي: زوجها الأول، (قالت: نعم، قال: لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) يعني: أن الزوج الثاني إذا كان لم يدخل بك فليس لك أن ترجعي للرجل الأول. فكأن المرأة كذبت على النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن هذا ليس له حاجة في النكاح لكي يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بفراقها ثم ترجع لزوجها الأول، فالنبي صلى الله عليه وسلم وجد من علامات كذب المرأة أن هذا الرجل التي تزعم أنه ليس معه إلا مثل الهدبة: أنه كان متزوجاً قبل ذلك وله أولاد من الزوجة السابقة، وهم أشبه بأبيهم من الغراب بأبيه، فكيف يكون هذا الإنسان الذي كان متزوجاً وله أولاد من زوجته السابقة لا يقدر على النكاح؟!

ما يجب على المطلقة المدخول بها

ما يجب على المطلقة المدخول بها فذكر الله عز وجل في سورة البقرة: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228]، فهنا المقصود المدخول بهن، فالمرأة المطلقة التي دخل بها زوجها تتربص ثلاثة قروء. {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة:228]، فلا يحل للمرأة أن تكتم ما خلق الله في رحمها من حيض أو حمل، فلعل المرأة أن تكذب وتقول: انتهت الثلاث حيضات، حتى تبين من زوجها فلا يراجعها، فالله عز وجل جعلها مؤتمنة على رحمها، فلا تكذب في أمر الحيض وتقول: انتهى الحيض. ولعل المرأة تكون حاملاً وتريد أن تبين من زوجها فتقول: إنها ليست حاملاً وإنها انتهت حيضاتها، فليس لها ذلك أيضاً، فهي مؤتمنة على رحمها. {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة:228]، البعل هو الزوج، وهو أحق برد المرأة في وقت عدتها الرجعية، فهنا المرأة المعتدة هي التي دخل بها زوجها. فالشريعة العظيمة راعت حق الزوج وأن ماءه إذا كان في رحمها لا تدخل ماءً آخر على الماء الأول، فلابد أن تستبرئ المرأة، ولا بد أن تنتهي علقة النكاح الأول بانتهاء الثلاث الحيضات، فتطهر المرأة من الحيضة الثالثة، ثم بعد ذلك لها أن تتزوج من تشاء.

ما يجب على المطلقة قبل الدخول والمتوفى عنها قبل الدخول

ما يجب على المطلقة قبل الدخول والمتوفى عنها قبل الدخول وفي هذه الآية يذكر لنا نوعاً آخر وهي المرأة التي تطلق ولم يدخل بها زوجها، فلا عدة عليها، بسبب عدم وجود الوطء. وقد تجب عليها العدة بسبب الموت، فهناك إنسان تزوج امرأة ثم طلقها، وإنسان تزوج امرأة فمات عنها، فالفرق بين الاثنين في أمر العدة أنه إذا تزوج المرأة ودخل بها فطلقها فيراعى براءة الرحم في ذلك؛ حتى لا ينشغل رحم المرأة بمائين: ماء الرجل الأول وماء الرجل الثاني، لكن في أمر المفارقة بالوفاة، فعليها مراعاة أشياء أخر بغض النظر عن أنه دخل بها أو لم يدخل بها، فهذا زوج وله حق على زوجته التي مات عنها أن تحزن عليه، فالحزن عليه ينافي أن تتزوج المرأة في اليوم الثاني بإنسان آخر، وهو إذا مات عنها فإنها ترثه في هذه الحالة، فكيف ترث ماله اليوم، وتتزوج غيره غداً؟! فأمرت الشريعة بأن تنتظر هذه المرأة أربعة أشهر وعشراً، سواء دخل بها هذا الزوج أو لم يدخل بها؛ لأن الذي مات كان زوجاً لها، فتحزن المرأة على زوجها الذي توفي مراعاة لأهله، والشريعة راعت شعور الناس في ذلك فمنعت أن تتزوج المرأة حتى تنتهي فترة العدة، وهي تبدأ من الوفاة فتمكث أربعة أشهر وعشراً. ونلاحظ في عدة الوفاة أنه لم يقل: (قروء) أي: حيضات، ولكن أربعة أشهر وعشراً، فيستوي فيها المرأة الصغيرة والكبيرة، والتي تحيض والتي لا تحيض، والتي دخل بها والتي لم يدخل بها، ففي كل الأحوال لا بد من هذه العدة، مراعاة لحق الزوج على هذه المرأة، ولحق أهل الزوج وأنها سترث من قريبهم، فلا يصح أن تأخذ ماله اليوم إرثاً وتتزوج غداً من إنسان آخر. لكن أمر الطلاق قبل الدخول يختلف عن أمر الوفاة، فإذا طلقها قبل الدخول، فمن حقها في اليوم الثاني أن تتزوج غيره، ولا يوجد مراعاة لأمر هذا الرجل؛ لأنه هو الذي طلقها وفارقها ولم يدخل بها، فعلى ذلك لن يجتمع ماءان في رحمها، وليس له عليها حق أن تعتد، ولكن إن كان قد دفع لها مهراً كاملاً، فله أن يرجع بنصف هذا المهر. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:49]، النكاح هنا المقصود به: العقد.

معنى قوله: (من قبل أن تمسوهن)

معنى قوله: (من قبل أن تمسوهن) قال الله تبارك وتعالى: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب:49]، وفيه إشارة إلى أن النكاح في أصل معناه: الوطء والدخول، فيكون عقداً مع وطء، ولكن قد يكون النكاح مجرد عقد فقط، فلذلك احترز وذكر: {نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب:49]. وهنا القرآن فيه غاية الأدب في التعبير عن الجماع بهذه الألفاظ التي هي مهذبة جميلة، فيقول: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب:49]، فيكني عن الجماع بالمس. وذكر هنا: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب:49]، أي: تطئوهن، ولذلك أخذ ابن عباس رضي الله عنه من ذلك أن المس الذي ذكره الله عز وجل في: {لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء:43]، معناه أيضاً: الوطء، وليس معناه أن يمسها بيده، فإذا أمر الإنسان بالغسل من لمس النساء فمعناه الجماع. {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب:49]، هذه قراءة الجمهور. وقراءة حمزة والكسائي وخلف: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تُماَسُّوهُنَّ} [الأحزاب:49]، فجعلها من المساس، وكأنه يمسها وهي تمسه، في أمر الجماع. {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ} [الأحزاب:49]، وهذه قراءة الجمهور بكسر الهاء. وقراءة يعقوب: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهُنَّ} [الأحزاب:49]، فإذا وقف عليها يقول: (عَلَيْهُنْ).

حالات البينونة من الطلاق

حالات البينونة من الطلاق قوله: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49]، والعدة هي: الحيضات المعدودة، فهذه المرأة الغير مدخول بها، ليس عليها أن تعتد إذا طلقها زوجها، وهذه التطليقة تعتبر تطليقة دائمة ويسمونها: بينونة صغرى. والبينونة بمعنى: المفارقة والبعد، بان الشيء بمعنى: بعد، فإما أن تكون المرأة بائنة بينونة صغرى، أي: لهذا الذي طلقها أن يتزوجها مرة ثانية، بعقد جديد وشهود وولي، وإما أن تكون المرأة بائنة بينونة كبرى، أي: ليس له مراجعتها، فالبينونة الكبرى تكون إذا طلق الرجل المرأة التطليقة الثالثة أو حدثت المفارقة بالملاعنة، كأن يتهم الرجل امرأته بالزنا وحدث بينهما ملاعنة وشهد عليها أربع شهادات أنها وقعت في هذه الجريمة، {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور:7] وهي ردت وشهدت أربع مرات عليه بالكذب في ذلك وأنها صادقة فيما تقول، {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور:9]، وإذا تم اللعان عند القاضي فيفرق بين الاثنين فرقة كبرى لا مراجعة فيها، حتى ولو تزوجت بغيره، وهذه بينونة كبرى. والتطليقات الثلاث تعتبر بينونة كبرى، ولكن إذا تزوجت غيره ثم طلقها الآخر، فللأول أن يتزوجها بعد ذلك، ولا يجوز للمرأة أن تذهب لإنسان يحلها للزوج الأول، فقد لعنه النبي صلى الله عليه وسلم وسماه التيس المستعار، فقد ورد: (لعن النبي صلى الله عليه وسلم المحلِّل، والمحلَّل له) وإذا اتفقوا وتواطئوا على ذلك، كما لو اتفقوا مع إنسان محلل يتزوجها يوماً وبعد ذلك يفارقها ثم ترجع لزوجها الأول، فهذا ملعون وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم التيس المستعار، وقال: (لعن الله المحلل، والمحلل له) أي: الزوج الجديد والزوج الذي يريد أن يرجع المرأة على هذه الصورة. والفرق بين البينونة الصغرى والكبرى أن البينونة الكبرى ليس له أن يراجعها، والصغرى له أن يراجعها كما لو ذهب إلى وليها وكان خاطباً من الخطاب، ثم وافقوا عليه، فله أنه يعيد العقد من جديد ويتزوجها من جديد، وهذا في البينونة الصغرى، وهذا فيما إذا طلق المرأة قبل الدخول. وتكون أيضاً في حالة أخرى، وهي ما إذا طلق المرأة طلاقاً رجعياً وانقضت الثلاث الحيضات فإنها تبين منه بينونة صغرى، فله أن يتزوجها إن أراد بعد ذلك، لكن يذهب إلى وليها ويخطبها ويتزوجها بعقد جديد. وكذلك إذا خالع الرجل المرأة بلفظ الطلاق فإنها تبين منه بينونة صغرى، وإذا خالعها بغير لفظ الطلاق تبين منه بمجرد أخذه المال، وقوله: خلعتك، فتبين المرأة بذلك، فالمرأة التي تذهب إلى القاضي وتخلع زوجها والقاضي يأمر بالمال، فتدفع المرأة مالاً لهذا الزوج، ويفرق القاضي بينهما، تصير بائناً منه وليس له أن يراجعها، إلا إن رضيت به بعقد ومهر جديدين. فعلى ذلك هذه صورة من الصور التي لا يستطيع الإنسان رد المرأة. ففي البينونة الصغرى له أنه يتزوجها بعقد جديد ومهر جديد، لكن إذا طلقها بعدما دخل بها، فخلال فترة الحيضات له أن يراجعها. {فَمَتِّعُوهُنَّ} [الأحزاب:49]، يعني: ادفعوا لهن المتعة. ففي هذه الآية ذكر الله عز وجل المتعة واختلف العلماء هل المتعة لكل مطلقة، وقد قال الله سبحانه: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:241]، لعموم المطلقات، وهذا صحيح، وأنه لعموم المطلقات متاع بالمعروف. ولكن هذا المتاع بالمعروف يكون فرضاً في حالة معينة ونافلة في باقي الأحوال، والحالة الوحيدة الذي تكون المتعة فرضاً للمرأة، هي عندما يطلقها الزوج قبل الدخول ولم يكن قد سمى لها مهراً، كأن يتزوج إنسان امرأة ولم يتفقوا على مهر، فالمهر قد أمر الله عز وجل به في كتابه، فليس من حق إنسان أن يلغي المهر الذي أمر الله عز وجل به، في قوله: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء:4]، فإذا تزوج ولم يتفقوا على مهر، وطلقها قبل أن يدخل بها، فلها المتعة بالمعروف. فإذا كان قد سمى لها مهراً وطلق قبل الدخول فلها نصف المهر المسمى، وتستحب المتعة لعموم قوله سبحانه: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:241]، لكن لا تجب إلا في صورة واحدة كما ذكرنا. قال سبحانه: {وَسَرِّحُوهُنَّ} [الأحزاب:49] يعني: طلقوهن. {سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب:49]، أي: طلاقاً جميلاً. وهو الطلاق الذي يكون على السنة، وأن يطلق بالمعروف فلا يؤذي ولا يغاضب ولا يعضل المرأة حتى تفتدي نفسها، وأن يطلق المرأة وهي في طهرها وليست حائضاً، وإذا كانت في طهر فلا يكون قد جامعها فيه، ولكن يطلقها في طهر لم يمسها فيه، أو يطلقها وهي حامل؛ فهذا هو الطلاق الذي ذكر الله عز وجل، {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب:49]. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.

تفسير سورة الأحزاب [49 - 50]

تفسير سورة الأحزاب [49 - 50] ذكر الله تعالى في سورة الأحزاب بعض مسائل طلاق المرأة، فإذا طلق الرجل المرأة وقد دخل عليها كان الطلاق رجعياً إلا أن يكون خلعها على مال، وكذلك يكون الطلاق رجعياً في خلال العدة، وطلاق المرأة قبل الدخول عليها طلاق بائن، فلا هزل في أمر الطلاق، والطلاق لا يقع حتى يكون النكاح على قول جمهور العلماء، وقد أحل الله لنبيه أزواجه منة منه سبحانه، وكافأ الله نساء النبي صلى الله عليه وسلم بتحريم زواجه عليهن، ثم أحله له بعد ذلك، وبقي النبي صلى الله عليه وسلم مع نسائه من غير زواج مكافأة منه لهن.

أحكام الطلاق

أحكام الطلاق

طلاق المرأة قبل الدخول عليها وبعد الدخول عليها

طلاق المرأة قبل الدخول عليها وبعد الدخول عليها الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:49 - 50]. يقول الله سبحانه وتعالى للمؤمنين في أمر النكاح: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49]. وقد ذكرنا أن الإنسان إذا تزوج إما أنه يدخل بالمرأة أو أنه لا يدخل بها، فإذا دخل بها وطلقها كان الطلاق رجعياً، إلا إن خالعها على مال فيكون الطلاق بينونة صغرى، أو يكون القاضي هو الذي طلق على الرجل فتكون أيضاً بينونة صغرى، لا مراجعة له، فإذا أراد أن يتزوج يكون الزواج بعقد من جديد. وإذا طلق الرجل المرأة وانقضت العدة في طلقة رجعية، فتكون قد بانت منه أيضاً بينونة صغرى، فلا رجوع له، إلا إذا أراد أن يعقد من جديد بمهر جديد، وولي وشهود. لكن إذا أراد الرجوع في خلال عدة المرأة وكان الطلاق رجعياً، فله أن يراجعها من غير ولي، وتصح المراجعة من غير شهود، ويجب عليه أن يشهد في المراجعة. وإذا طلق الإنسان المرأة قبل أن يدخل بها، فإنها تبين منه بهذه التطليقة. وليس هناك هزل في أمر الطلاق، فقد ورد في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح، والطلاق، والرجعة). فإذا كان الرجل يمزح مع المرأة وقال لها: أنت طالق، فقد وقع الطلاق، سواء كان يقول: أنا كنت أنوي طلاقاً أو لم أنو طلاقاً؛ لأن اللفظة لفظة طلاق، يقع بها، ولا هزل في ذلك. كذلك لو أن الرجل طلق المرأة، ثم قال: راجعتك، فقد رجعت له المرأة بذلك، ولو أنه قال: أنا أمزح لم أراجعك، وأنت طالق، وقعت طلقة ثانية، لأن لفظ الطلاق ليس فيه هزل ولا مزاح، فتجد الذي يلعب بالطلاق تقع منه طلقة أولى، وطلقة ثانية، فيأتي متحسراً، ويقول: طلقت المرأة، ولم أكن أقصد، إنما كانت نيتي كذا وكذا، فنقول: الطلاق يقع بلفظ الإيقاع أي: إذا قال: أنت طالق يقع الطلاق منه. وكثير من الناس يقول لزوجته: أنت طالق! ثم يقول: كنت أهددها، وليس هناك تهديد في كلمة: أنت طالق، هذا إيقاع للطلاق. إنما التهديد قد يقبل من الرجل إذا كان يحلف بالطلاق، كأن يقول لها: لا تفعلي كذا، وافعلي كذا، فهنا قد يقبل منه أن يقول: كنت أهدد، وقد يحمل على اليمين، وفيه كفارة يمين إذا لم يقصد الطلاق، لكن إيقاع الطلاق: أنت طالق! ليس فيه كلام، بل يقع الطلاق بنية أو بغير نية في ذلك. وفي هذه المسألة يذكر الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب:49] فذكر سبحانه: أن الرجل إذا نكح ثم طلق، {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب:49] فلا يوجد عدة، إذاً: الطلقة وقعت، وليس لك مراجعتها. وكثير من الشباب يكون قد عقد، ثم تأخذه العزة أحياناً، ويغضب على المرأة، فيقول: أنت طالق، ثم بعد ذلك يخاف أن يذهب إلى أبيها وقد طلقها، فيأبى أبوها أن يرجعها له، فيقول لها: تعالي أرجعك عند القاضي. فلا ترجع إليه بذلك، فإذا تزوجها على ذلك، فهو نكاح باطل، وليس صحيحاً، ولا بد من تزويج الولي، لأن هذا الرجل لم يدخل بها، والذي له أن يراجع المرأة من غير ولي هو الذي دخل بها فطلقها، ففي خلال فترة العدة له المراجعة.

طلاق المرأة قبل الزواج بها

طلاق المرأة قبل الزواج بها في هذه الآية وهي قوله سبحانه وتعالى: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب:49] لاحظ الترتيب: {نَكَحْتُمُ} [الأحزاب:49] فذكر النكاح. {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب:49] فأخذ منها العلماء مسألة من هؤلاء العلماء: علي بن الحسين فإنه سئل عن رجل قال لامرأة: إن تزوجتك فأنت طالق، أي: إذا غضب شخص من امرأة وقال لها: إن تزوجتك فأنت طالق! فقد علق الطلاق على الزواج، قال علي بن الحسين: ليس بشيء، فقد ذكر الله عز وجل النكاح قبل الطلاق، وهذا فقه دقيق، وهو أنه لا يقع الطلاق حتى يكون النكاح، فإذا قال الإنسان لامرأة غريبة عنه لا يعرفها: أنت طالق! ولم يتزوجها بعد لا يقع الطلاق بهذا الشيء؛ لأنها ليست امرأته. كذلك لو قال لامرأة: إن تزوجتك فأنت طالق! فلو تزوجها لا يقع الطلاق، وإن كان هناك قول في مذهب الإمام مالك وهو الراجح عندهم، أن الإنسان إذا قال ذلك للمرأة، وكان محصوراً بفترة معينة، أو بزمن معين، أو بامرأة معينة، أو بعدد من النساء معينات، يقع هذا الطلاق، فإذا تزوج هذه المرأة التي قال فيها ذلك يقع الطلاق. أو يكون شائعاً كأن يقول الإنسان: إن تزوجت فكل امرأة أتزوجها هي طالق، قالوا: هذا تضيق على نفسه، فهنا يكون قد حرم ما أحل الله سبحانه، فجعلوا إذا قال ذلك على العموم لا يقع شيء، وإذا خصص وقع الطلاق. والصواب: ما ذهب إليه جمهور أهل العلم: أن الطلاق لا يقع حتى يكون النكاح، يعني: ينكح أولاً ثم بعد ذلك إذا طلق وقع هذا الطلاق. ولذلك جاء في حديث المسور بن مخرمة الذي رواه ابن ماجه وهو حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا طلاق قبل نكاح، ولا عتق قبل ملك) أي: لو أن إنساناً قال لامرأة: إذا تزوجتك فأنت طالق، ثم تزوجها، لا يقع؛ لأن هذا التطليق كان قبل أن ينكح هذه المرأة، فلا يقع هذا الطلاق. كذلك لا عتق قبل ملك، فإذا قال إنسان لعبد: لو اشتريتك فأنت حر، لا يقع التحرير حتى يشتريه ثم يتلفظ بلفظ التحرير بعد ذلك. وفي الحديث الآخر يقول النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا حديث أيضاً عن ابن ماجه من حديث علي بن أبي طالب (لا طلاق قبل نكاح). وروى الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا نذر لابن آدم فيما لا يملك، ولا عتق له فيما لا يملك، ولا طلاق له فيما لا يملك) والمقصود هنا: أن الإنسان لا يقع منه عتق على من لا يملكه، ولا يقع منه طلاق على من لم يتزوجها أصلاً، وكذلك لا نذر له فيما لا يملك، كأن يقول: لله علي نذر إذا حدث كذا أني أذبح ناقة فلان، وليست الناقة ملكه حتى يذبحها، فليس له أن ينذر هذا النذر، وهناك تفصيل لأهل العلم في ذلك، لكن الغرض مسألة الطلاق، أنه لا يقع طلاق حتى يتم النكاح، والشاهد هذه الآية، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب:49] فرتب التطليق على وجود النكاح.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك)

نسخ تحريم زواج النبي على أزواجه اللاتي كن معه

نسخ تحريم زواج النبي على أزواجه اللاتي كن معه قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ} [الأحزاب:50] هذا إخبار للنبي صلوات الله وسلامه عليه بأن الله عز وجل أحل له أزواجه عليه الصلاة والسلام، ورضي الله عنهن. (إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ) هذه الآية ذكر بعض أهل العلم أنها ناسخة لآية أخرى تليها وليست قبلها. فقوله تعالى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} [الأحزاب:50] قالوا: أحل الله له ذلك، وهو متزوج أصلاً صلى الله عليه وسلم، قالوا: فلا بد أن يكون هناك شيء قد حرمه الله عز وجل عليه ثم أحله له بعد ذلك، فذكروا قوله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب:52] فهذا الذي لا يحل جعله مغيباً حتى يأتي حكم آخر، قالوا: هذا الحكم هو قوله تعالى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} [الأحزاب:50]، وكأنهم ذهبوا إلى أن الآية الناسخة متقدمة في التلاوة على الآية المنسوخة، كالتي في سورة البقرة في أمر العدة، حيث إن الله عز وجل ذكر: {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة:240] في المرأة التي توفي عنها الرجل، وفي آية قبلها ذكر الله سبحانه وتعالى: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة:234] فكانت الناسخة في التلاوة قبل المنسوخة، وإن كان في الحكم أن ينزل الحكم المنسوخ أولاً ثم بعد ذلك الحكم الناسخ. لكن الأكثر من أهل العلم قالوا: إن هذه الآية يمن فيها الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك، وليست هذه الآية التي نسخت الحكم، ولكن ذكرت السيدة عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى أحل الله عز وجل له النكاح، فكأن الله سبحانه وتعالى أحل له أن يتزوج، وبين له من هذه المرأة أو من هؤلاء النساء اللاتي تزوج منهن صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك نزل التخيير، بأن خير الله نساءه إذا كن يردن النبي أو يردن الحياة الدنيا وزينتها، فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة، فجاءت المكافأة من الله عز وجل أنه قال: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} [الأحزاب:52] فكانت مكافأة لنساء النبي صلى الله عليه وسلم. ثم بعد ذلك أباح له سبحانه وتعالى بوحي من السنة أن يتزوج، فكان منه صلى الله عليه وسلم المكافأة لنسائه أنه لم يتزوج بعد ذلك عليهن صلوات الله وسلامه عليه. إذاً: هذه الآية قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} [الأحزاب:50] هي ابتداء حكم من الله سبحانه، وإخبار عن حل كل من تزوجتها بهذه القيود والشروط.

معنى قوله: (أحللنا لك أزواجك وما ملكت يمينك)

معنى قوله: (أحللنا لك أزواجك وما ملكت يمينك) {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} [الأحزاب:50] الأزواج: جمع زوج وجمع زوجة، فيطلق على المرأة زوجة بتاء التأنيث، ويطلق عليها أيضاً بغير تاء، وأزواجك هنا: جمع زوج. {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} [الأحزاب:50] إذاً: تزوج صلى الله عليه وسلم ودفع مهوراً. قال: {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} [الأحزاب:50] أي: أباح له أيضاً ملك اليمين، وهي: الأمة، يملكها النبي صلى الله عليه وسلم ويطؤها، فيجوز له صلى الله عليه وسلم ويجوز للمؤمنين أيضاً ملك اليمين إذا وجد الإماء. {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ} [الأحزاب:50] مما أرجع الله عز وجل إليك في الغنيمة أو في الفيء، ومما غنمت في الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى، فهذا حلال لك.

معنى قوله: (وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك)

معنى قوله: (وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك) كذلك أباح الله له فقال: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} [الأحزاب:50] ففي هذه الآية قيد، فكل إنسان يجوز له أن يتزوج من بنت عمه أو من بنت خاله، أو من بنت عمته، أو من بنت خالته، لكن الله سبحانه قيد للنبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا تزوج بواحدة منهن لا بد أن تكون هذه التي تزوجها مهاجرة، فإذا لم تكن مهاجرة فليس له أن يتزوجها، وكأنه مكافأة لقريبات النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرات. وقوله: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ} [الأحزاب:50]، لاحظ أنه وحد هنا، فقال: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ} [الأحزاب:50]، ولما ذكر العمات جمع فقال: {وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ} [الأحزاب:50] مع أن له أعماماً وله عمات صلى الله عليه وسلم. وقال أيضاً: {وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ} [الأحزاب:50] وله أخوال وله خالات، فأفرد في العم وفي الخال؛ لأن العادة عند العرب، أنه يطلق العم على الأعمام، والخال على الأخوال، بخلاف الخالة، تطلق على الواحدة، فهذا عرف لغوي كان موجوداً عند العرب، فلذلك راعى القرآن العرف اللغوي الذي عند العرب. ولما قال أيضاً: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ) [الأحزاب:50] معناه: جميع الأعمام، فلما ذكر الله العمات راعى العرف اللغوي عندهم، فلو أنه قال: وبنات عمتك، تكون عمة واحدة فقط، لكنه قال: ((عَمَّاتِكَ} [الأحزاب:50]؛ لرفع الإشكال هنا. أما ذكر الخال فليس فيه إشكال عندهم، فالله يقول: {وَبَنَاتِ خَالِكَ} [الأحزاب:50] أي: أي خال من أخوالك تتزوج من بناته، لكن لما قال: {وَبَنَاتِ خَالاتِكَ} [الأحزاب:50] كان عندهم الخالة على الواحدة، فراعى هذا العرف فجمع الخالة، وأفرد الخال. قال تعالى: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ} [الأحزاب:50] وكل هؤلاء بشرط الهجرة، {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} [الأحزاب:50].

معنى قوله: (وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي)

معنى قوله: (وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي) كذلك أباح الله له فقال: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50] فأباح للنبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج امرأة وهبت نفسها للنبي وهذا خاص له وحده عليه الصلاة والسلام، ليس لأحد غير النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز لامرأة أن تهب نفسها لرجل، تقول: وهبتك نفسي، وإنما هذا للنبي عليه الصلاة والسلام فقط، وهذه خصوصية من خصوصياته؛ لأن الله عز وجل ذكر أن النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فهو أولى بأي امرأة من وليها، فإذا كان لها ولي يزوجها وليها، فلا أحد من الأولياء يرفض نكاح ابنته من النبي صلى الله عليه وسلم إذا كانت مؤمنة. فالله عز وجل أباح للنبي صلى الله عليه وسلم إذا وهبت له امرأة نفسها، أن يتزوجها سواء كان وليها هو الذي أتى بها، أو هي التي أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

اختلاف العلماء في وقوع زواج النبي صلى الله عليه وسلم من المرأة التي وهبت نفسها له

اختلاف العلماء في وقوع زواج النبي صلى الله عليه وسلم من المرأة التي وهبت نفسها له لكن هل وقع ذلك، هل وهبت امرأة نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فتزوجها، فالآية أباحت، واختلف العلماء في الوقوع، فالكثيرون على أنه لم يقع أن امرأة وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فتزوجها. والبعض ذكروا أن ممن وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، السيدة: ميمونة بنت الحارث، والبعض ذكر السيدة: زينب بنت خزيمة التي تكنى بأم المساكين الأنصارية. وجاء في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: (كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقول: أما تستحي امرأة تهب نفسها لرجل؟) أي: أن السيدة عائشة كانت تغار من ذلك، وكانت تقول ذلك، (حتى أنزل الله عز وجل {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} [الأحزاب:51]، فقالت السيدة عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم: والله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك) أي: أن الله يحب الذي تحبه أنت، صحيح أن عائشة تغار، ولكن الحكم الشرعي: أن تلتزم السيدة عائشة وغيرها من نساء النبي صلى الله عليه وسلم بحكم الله سبحانه وتعالى فيما أباحه لنبيه صلوات الله وسلامه عليه. ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يتزوج، فكان نساء النبي صلى الله عليه وسلم لو كن يعرفن حيلة يمنعنه بها من الزواج لفعلن. يقول الله عز وجل: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50] أي: أن مسألة أن تهب المرأة نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم مسألة خالصة له، أي: أن هذا الحكم خاص به صلى الله عليه وسلم. {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا} [الأحزاب:50] أي: يتزوجها، يستنكح وينكح بمعنى واحد، أي: يتزوجها صلوات الله وسلامه عليه. قال سبحانه: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} [الأحزاب:50]. إذاً: هذا بيان للمؤمنين أنه لا أحد يعترض على النبي صلى الله عليه وسلم، فالله عز وجل يخبرهم أنه لا يسأل عما يفعل. وقوله تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا} [الأحزاب:50] أي: فرضنا عليهم شيئاً، وفرضنا عليك أشياء غير ما فرضنا عليهم، وفرضنا عليك وعليهم أشياء أخر، أي: علمنا الأمر والفرق بينك وبينهم، فليس لأحد أن يعترض على حكم الله سبحانه. قال: {لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} [الأحزاب:50]، أي: أحل الله لنبيه صلى الله عليه وسلم هذه الأشياء، ونزل قرآناً يتلى حتى لا يكون عليه حرج صلى الله عليه وسلم في أن يتزوج أكثر من أربع نسوة، ويمنع المؤمنين من النكاح بأكثر من أربع. قال: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:50] فالله هو الغفور الرحيم، كان ولم يزل سبحانه وتعالى، فهذه اللفظة تفيد الأبدية، أي: أنه شيء أبدي دائم سرمدي، أي: أن لفظة: كان الله غفوراً رحيما، فمعناها: أنه في الماضي: غفور رحيم، وفي الحاضر: غفور رحيم، وفي المستقبل: غفور رحيم سبحانه وتعالى. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الأحزاب الآية [50]

تفسير سورة الأحزاب الآية [50] لقد شرف الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم في الدنيا وفي الآخرة، ولذا كان ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أمراً لأمته وما نهي عنه نهياً لأمته، واستثنى الشرع أشياء أحلت للنبي صلى الله عليه وسلم دون أمته، وأشياء فرضت على النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته، وأشياء حرمت على النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته، وهذا فيه زيادة فضل وشرف لحبيبنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

ما أحل للنبي صلى الله عليه وسلم وما حرم عليه من النساء

ما أحل للنبي صلى الله عليه وسلم وما حرم عليه من النساء

مهر أمهات المؤمنين

مهر أمهات المؤمنين بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَينَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا} [الأحزاب:50 - 51]. يخبر الله سبحانه وتعالى في هاتين الآيتين نبيه صلوات الله وسلامه عليه أنه أحل له أزواجه اللاتي آتى أجورهن قال تعالى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} [الأحزاب:50] فأحل له أن يتزوج المرأة التي يخطبها صلوات الله وسلامه عليه، ويدفع مهرها عليه الصلاة والسلام ويتزوجها. وذكر هنا {آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} [الأحزاب:50] والنبي صلى الله عليه وسلم كان يتزوج ويدفع مهراً، وكان مهر نساء النبي صلى الله عليه وسلم في حدود اثنتي عشرة أوقية ونش يعني: ونصف أوقية، أي: حوالي خمسمائة درهم، والدرهم حوالي خمسة جرامات من الفضة، يعني: كأن مهر النبي صلى الله عليه وسلم الذي يدفعه لنسائه حوالي ألف وخمسمائة جرام من الفضة، فهذا مقدار مهره صلى الله عليه وسلم. وهنا بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدفع المهر لنسائه عليه الصلاة والسلام، ومهر أم حبيبة دفعه عنه النجاشي ملك الحبشة، كانت أم حبيبة بنت أبي سفيان مهاجرة إلى الحبشة مع زوجها وتوفي زوجها هناك، ثم تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم، والذي قام بهذا العقد للنبي صلى الله عليه وسلم كان النجاشي ملك الحبشة، وكان رجلاً مسلماً رضي الله عنه، اسمه: أصحمة النجاشي، ودفع مهر النبي صلى الله عليه وسلم من عنده أربعمائة دينار، حوالي نصف كيلو ذهب فهو مهر يليق به لأنه ملك، فدفع هذا المهر عن النبي صلى الله عليه وسلم. أما ما دفعه النبي صلى الله عليه وسلم لنسائه فكان حوالي اثنتي عشرة أوقية ونش، والأوقية تساوي حوالي اثني عشر درهماً تقريباً، فحسب العلماء ذلك بحوالي خمسمائة درهم مهر النبي صلى الله عليه وسلم لنسائه. ذكر هنا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} [الأحزاب:50] أي: مهورهن، فكان يتزوج ويدفع المهر، وربنا ذكر في النساء قال: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء:4] يعني: مهور النساء عطية وفريضة من الله سبحانه وتعالى، فلو أن إنساناً تزوج امرأة على أنها ليس لها مهر فهذا شرط باطل لاغ؛ لأن الله عز وجل أمر بالمهر، ولو أن إنساناً تزوج امرأة على مهر بسيط فهذا شرط صحيح ويصح النكاح ولو على مهر بسيط. لكن أحياناً بعض الناس يقول: إن السنة أن تتزوج على خمسة وعشرين قرشاً وهذا كذب؛ لأن مهر النبي صلى الله عليه وسلم لنسائه كان اثنتي عشرة أوقية ونشاً، والأوقية حوالي اثني عشر درهماً، فكان مهر النبي صلى الله عليه وسلم لنسائه حوالي خمسمائة درهم تقريباً. فالذي يقول: مهر النبي صلى الله عليه وسلم لنسائه كان أقل من ذلك، أو كان خمسة وعشرين قرشاً، ويزعم أن هذا سنة، فهذا ليس بسنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، إنما السنة ما ذكرنا.

جواز زواج النبي من بنات أعمامه وأخواله

جواز زواج النبي من بنات أعمامه وأخواله أخبر هنا ربنا سبحانه وتعالى النبي صلى الله عليه وسلم بمن أحلهن له عليه الصلاة والسلام فقال: {أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} [الأحزاب:50]، كذلك ملك اليمين، أي: من اشترى من ماله صلى الله عليه وسلم من الإماء، كذلك ما أفاء الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وسلم من الغنائم أو من الفيء. قال: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ} [الأحزاب:50] فقيد هنا بنت العم وبنت الخال وبنت العمة وبنت الخالة بأنها تكون مهاجرة مع النبي صلى الله عليه وسلم.

اختصاص النبي بزواج الهبة

اختصاص النبي بزواج الهبة قال: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب:50] وهذه خصوصية للنبي صلى الله عليه وسلم كما ذكر الله عز وجل قال: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50]. إذاً: أن تهب المرأة نفسها لغير النبي صلى الله عليه وسلم غير جائز. وقد خصه الله عز وجل ببعض الأحكام كما سنذكر بعد ذلك، منها ما فرضه عليه صلى الله عليه وسلم، ومنها ما حرم عليه صلى الله عليه وسلم دون غيره من الناس. فهذه المسألة من الأشياء التي أباحها له صلى الله عليه وسلم دون غيره من الناس. قال: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50] وكلمة يستنكحها بمعنى: يتزوجها. {إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب:50] وكلمة النبي في كل القرآن تأتي في قراءة نافع مهموزة: النبيء، والأصل فيه النبأ يعني: له نبوءة إخبار وإعلام بالغيب من الله سبحانه تبارك وتعالى، وباقي القراءة يقرءونها في القرآن كله النبي بعدم الهمز وبتشديد الياء الأخيرة. نافع له راويان هما: قالون وورش، في هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا} [الأحزاب:50] نافع يقرؤها: (يا أيها النبيء انا) فيمد الياء ويظهر الهمزة ويسهل الثانية، فإذا جاء إلى قوله: {لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ} [الأحزاب:50] فهنا يخفف قالون ويقرؤها كغيره من القراء: {لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ} [الأحزاب:50]، ويقرؤها ورش: (للنبيء إن اراد) فإذا وصل فسيقرأ ورش هذه الكلمة: (للنبيء ين اراد) ويقلب الهمزة الثانية لكي يجعلها ياءً وقد يمدها وقد يكسرها.

تخصيص النبي بالتخفيف عنه في بعض الأحكام

تخصيص النبي بالتخفيف عنه في بعض الأحكام يقول الله سبحانه: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ} [الأحزاب:50] فرضنا على المؤمنين أشياء وقد نخفف عنك أنت في هذه الأشياء، فللمؤمن أن يتزوج: {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء:3] أما النبي صلى الله عليه وسلم فله أكثر من ذلك عليه الصلاة والسلام، أحل الله عز وجل له ذلك للحكم التي ذكرنا من قبل، ومن أهمها: الدعوة إلى الله سبحانه، فإن امرأة واحدة لا تكفي أن تبلغ ما ينزل في بيت النبي صلى الله عليه وسلم من الأحكام الشرعية من كتاب ومن سنة، فامرأة واحدة لا تكفي، إذا كان رجل واحد لا يكفي كيف بالمرأة الواحدة؟ والنبي صلى الله عليه وسلم لكونه معصوماً، ولكون الله تبارك وتعالى أعطاه القوة والقدرة على ذلك فقد بلغ واستطاع أن يبلغ، أما غيره فلا يقدر على ذلك فكيف بالنساء، فلذلك جعل الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج ما شاء من النساء، فتبلغ كل واحدة ما نزل في بيتها وما علمته من النبي صلى الله عليه وسلم من الأحكام الشرعية للخلق. قال الله سبحانه: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [الأحزاب:50] يتزوج الرجل وله أن يتسرى، فيشتري أمة ويطأ بملك اليمين، قال تعالى: {لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} [الأحزاب:50] فإن الذي أحل لك هو الله عز وجل، فلا حرج عليك، وليس من حق أحد أن يعترض على ربه سبحانه. {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:50] يغفر لك وللمؤمنين، ويرحمك والمؤمنين. الإمام القرطبي يذكر لنا في هذه الآية أن الله تبارك وتعالى قد خص النبي صلى الله عليه وسلم في الأحكام الشرعية بمعان لم يشاركه فيها أحد صلى الله عليه وسلم، ففرض عليه أشياء جعلها فريضة، وحرم عليه أشياء جعلها محرمة، ولا تكون هذه فريضة على غيره، ولا هذه محرمة على غيره عليه الصلاة والسلام.

ذكر بعض خصائص النبي صلى الله عليه وسلم

ذكر بعض خصائص النبي صلى الله عليه وسلم

ما وجب عليه من العبادات دون أمته

ما وجب عليه من العبادات دون أمته فذكر العلماء أشياء في بعضها خلاف، من ذلك: أن الله عز وجل فرض عليه صلى الله عليه وسلم التهجد بالليل، ثم خفف الله عز وجل عنه فلم يخفف هو عن نفسه عليه الصلاة والسلام، واستمر في ذلك وقال: (أفلا أكون عبداً شكوراً) صلوات الله وسلامه عليه، فكان قيام الليل فريضة عليه صلى الله عليه وسلم، ثم خفف الله عز وجل عنه، واستمر هو صلى الله عليه وسلم ولم يخفف على نفسه، وكان يقوم حتى تتورم قدماه عليه الصلاة والسلام، وقد يرجع وينام ثم يقوم مرة أخرى ويصلي، ثم يرجع وينام، ثم يقوم ثالثة ويصلي عليه الصلاة والسلام فتذكر السيدة عائشة رضي الله عنها أنه: (كان يصلي إحدى عشرة ركعة من الليل، يصلي أربعاً فلا تسل عن حسنهن وطولهن) صلاة طويلة حسنة جميلة يقومها صلى الله عليه وسلم! كان إذا قرب الصباح يقوم يغمز نساءه بيده صلى الله عليه وسلم فتقوم هي تصلي أيضاً وتوتر، لكن لا يأمرها أن تقوم الليل كله مثلما يقوم هو صلى الله عليه وسلم. وكان يحتاج أن يستريح قبل الفجر، فكان يصلي سنة الفجر ثم يضطجع عليه الصلاة والسلام، ففي الفترة ما بين سنة الفجر حتى تقام الصلاة إن كان بعض نسائه قائمة يكلمها وإلا اضطجع على جنبه فيستريح قليلاً من القيام، ثم يقوم ويصلي بالناس الفجر صلوات الله وسلامه عليه. فكان قيام الليل فرضاً عليه بقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:1 - 2] فكان الفرض بها. أيضاً مما ذكروا أنه فرض عليه صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى، وصلاة الضحى ليست فريضة على الناس، والظاهر أنها كانت فرضاً عليه لفترة، ثم بعد ذلك أصبحت نافلة له ولغيره عليه الصلاة والسلام، ولكنه واظب على صلاة الضحى عليه الصلاة والسلام، وأحياناً كان يتركها ليبين للناس أنها ليست فريضة. كذلك ذكروا من الأشياء التي فرضت عليه الأضحية، فضحى صلى الله عليه وسلم عن نفسه فذبح كبشاً وقال: (اللهم هذا عن محمد وآل محمد صلى الله عليه وسلم) ورفع الحرج عن أمته عليه الصلاة والسلام بكرمه صلى الله عليه وسلم فذبح كبشاً آخر وقال: (وهذا عمن لم يضح من أمتي) فرفع الحرج عن الأمة في أمر الأضحية الواجبة، وصارت الأضحية على الناس سنة. كذلك مما كان فرضاً عليه أن يصلي الوتر، وهذا داخل في التهجد؛ لأنه كان فريضة في وقت من الأوقات، ثم بعد ذلك صار الوتر نافلة له ولغيره، وواظب هو عليه صلوات الله وسلامه عليه. وأيضاً: مما أمر به السواك، فكان يستاك صلى الله عليه وسلم كثيراً حتى يقول عن نفسه: (حتى خشيت أن أدرد) يعني: من كثرة استخدام السواك خشي على أسنانه أن تدرد، وهذا معلوم فإن الإنسان عندما يستخدم الفرشاة على أسنانه بطريقة قاسية جداً بشكل دائم تذهب وتتساقط في النهاية. فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يستخدم السواك بشكل دائم، كان يأمره جبريل بذلك صلى الله عليه وسلم، فأول ما يقوم من النوم يستخدم السواك، وكان إذا دخل بيته أول شيء يستخدمه السواك، وإذا توضأ استخدم السواك، وإذا دخل في الصلاة يستخدم السواك، فكان فمه أطهر وأطيب فم صلوات الله وسلامه عليه، فكان يستخدم السواك ويقول: (إني أناجي من لا تناجون) يعني: أنا أكلم الملائكة والملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم، فكان يشدد عليه في ذلك صلوات الله وسلامه عليه. من ذلك أيضاً قضاء دين من مات معسراً، لما فتح الله عز وجل عليه الفتوح فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، من ترك مالاً فلأهله، ومن ترك كلاً أو ديناً فإلي وعلي) فكان كأنه فريضة عليه صلى الله عليه وسلم أو هو اختار أن يقضي ديون من مات وعليه دين بعدما فتح الله عز وجل عليه، وإن كان قبل ذلك لا يصلي على من مات وعليه دين، فلما فتح له صلى الله عليه وسلم كان يقضي دين الميت من عنده ويصلي عليه. من ذلك أيضاً أنه فرض عليه صلى الله عليه وسلم أن يشاور في غير الأحكام الشرعية، فالأحكام الشرعية لا مشاورة لأحد فيها، إنما هي أحكام من عند الله عز وجل يأمر بها فينفذها النبي صلى الله عليه وسلم، لكن في غير ذلك من أمر القتال والجهاد في سبيل الله عز وجل، والسفر ونحو ذلك، كان يشاور كما قال له ربه: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159]. كذلك من خصوصياته عليه الصلاة والسلام أنه كان إذا عمل عملاً أثبته، فمرة من المرات ترك سنة الظهر القبلية حيث جاء له وفد من الوفود، فجلس يكلمهم ففاتته سنة الظهر ولم يصلها بعد الظهر حتى دخل وقت العصر، فلما صلى العصر قام وصلى ركعتين، فأرسلت أم سلمة إليه تسأله صلى الله عليه وسلم: ألم تنه عن ذلك؟ فأشار إليها وبعد أن أكمل الصلاة بين لها أنه جاءه وفد فشغله عن هاتين الركعتين، فصلاها بعد العصر ثم أثبتها، إذاً: كل يوم يصلي هاتين الركعتين، فهذا خاص له صلى الله عليه وسلم أنه إذا عمل عملاً أثبت هذا العمل وواظب عليه صلوات الله وسلامه عليه. أيضاً من ذلك: تخيير نسائه: {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} [الأحزاب:28] على ما سبق في ذلك. إذاً: هنا هذه من الأشياء التي فرض على النبي صلى الله عليه وسلم بعضها والبعض الآخر هو اختاره وأثبته وواظب عليه فكان له خاصة عليه الصلاة والسلام.

ما حرم على النبي صلى الله عليه وسلم ومنع منه

ما حرم على النبي صلى الله عليه وسلم ومنع منه حرمت عليه أشياء دون غيره عليه الصلاة والسلام: من ذلك تحريم الزكاة عليه وعلى آله، فيحرم على النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ شيئاً من زكوات الناس، وذلك إلى قيام الساعة، فليس للنبي صلى الله عليه وسلم ولا لأحد من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم من بني هاشم وبني المطلب أن يأخذوا من الصدقات شيئاً ولا من الزكوات، فيحرم عليه صلى الله عليه وسلم الزكاة وكذلك على آل بيته. كذلك يحرم عليه صدقة التطوع، فكان يؤتى بالشيء من تمر ونحوه فيسأل: ما هذا؟ فإذا قالوا: هذا صدقة قال لأصحابه: كلوا، وإذا قالوا: هدية أكل وأمرهم أن يأكلوا عليه الصلاة والسلام، فكان يأكل الهدية ولا يقبل الصدقة لنفسه عليه الصلاة والسلام. أيضاً من ذلك: خائنة الأعين، يعني: أن يغمز لأحد على شيء، فيجوز لغيره إذا كان في حاجة غمز فيها، أما هو فليس له ذلك صلى الله عليه وسلم. وهنا قصة رواها الإمام أبو داود ورواها النسائي من حديث مصعب بن سعد عن أبيه يوضح هذا الأمر أنه ما كان لنبي أن يكون له خائنة أعين عليه الصلاة والسلام. يقول سعد بن أبي وقاص: (لما كان يوم فتح مكة أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلا أربعة نفر وامرأتين). وهذا في فتح مكة صلى الله عليه وسلم حين قال للناس: (اذهبوا فأنتم الطلقاء) إلا أربعة لم يؤمنهم النبي صلى الله عليه وسلم، لأنهم كانوا من الخونة ومن أشد الناس إيذاء للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، فبعضهم قتل، وبعضهم أفلت ثم أسلم بعد ذلك. فهؤلاء قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة) وهم: عكرمة بن أبي جهل، وعبد الله بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعبد الله بن سعد بن أبي السرح، هؤلاء الأربعة من الرجال، وامرأتان كانتا تغنيان بشتم النبي صلى الله عليه وسلم وسبه وهجائه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل هؤلاء. فأما عبد الله بن خطل فأدرك وهو متعلق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعيد بن كريز وعمار بن ياسر فسبق سعيد عماراً فقتله. وأما مقيس بن صبابة فأدركه الناس في السوق فقتلوه. وأما عكرمة فركب البحر فأصابته ريح عاصف وهم في البحر، فقال أصحاب السفينة: أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئاً، يعني: انظر العرب في الجاهلية يعرفون أن الذي يعبدونه باطل لا ينفع ولا يضر، فلما ركبوا السفينة -وكلهم كفار- جاءت ريح عاصف عليهم فقال أصحاب السفينة: ارجعوا إلى الإخلاص واتركوا العبادة التي أنتم فيها، فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئاً ففكر عكرمة وقال: والله لئن لم ينجني من البحر إلا الإخلاص فلا ينجي في البر غيره، فقال: اللهم إن لك علي عهداً إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمداً صلى الله عليه وسلم حتى أضع يدي في يده فلأجدنه عفواً كريماً، فجاءه فأسلم بعد ذلك رضي الله عنه. أما عبد الله بن سعد بن أبي السرح فاختبأ عند عثمان وكان أخاً لـ عثمان من أمه، فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة جاء به عثمان، ووقف به على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! بايع عبد الله، فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثاً كل ذلك يأبى، يعني: لم يرض أن يبايعه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم في المرة الرابعة بايعه صلى الله عليه وسلم، ثم أقبل على أصحابه بعد أن مشى الرجل فقال: النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله؟)، يعني: لا بيعة بيننا وبينه، وهذا إنسان كان على الكفر وعمل عملاً قبل ذلك، فتفهمون أنني لا أريد أصلاً هذا الإنسان فيقوم له أحد ليقتله، فقالوا: (وما يدرينا يا رسول الله ما في نفسك، هلا أومأت إلينا بعينك؟) أي: تغمز لأحد منا يقوم له فيقتله، قال: (إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين)، مع أنه يريد قتل هذا الإنسان. وعبد الله بن سعد بن أبي السرح هذا كان كاتباً يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم القرآن، ثم ارتد ورجع إلى الكفار وقال: أنا كنت أملي على النبي صلى الله عليه وسلم وكنت أكتب من عند نفسي، فافترى وفتن الناس في ذلك، يعني يقول: أنا كنت أؤلف القرآن، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يوافقني، فكانت تنزل الآية فيها شيء، ثم ختام الآية: وكان الله غفوراً رحيما، كان الله عليماً حكيماً، فالرجل يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: أكتب عليماً حكيماً فينزل القرآن من عند الله عز وجل، يقول: اكتب عليماً حكيماً، فهو كان يفتري ويقول للناس: أنا الذي كنت أؤلف هذه الأشياء، وأنا الذي كنت أجعلها؛ ففتن الناس فاستحق أن يقتل، ولكن رحمة الله عظيمة وواسعة، لم يقتل هذا الإنسان وأفلت، وصار بعد ذلك أميراً على مصر في أيام الخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم. المقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد قتله وأراد الله عز وجل شيئاً آخر، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يغمز للناس، لو غمز لهم لقاموا إليه وقتلوه، ولكن من خصوصياته أنه ليس من حقه أن يغمز على أحد. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الأحزاب (تابع) الآية [50]

تفسير سورة الأحزاب (تابع) الآية [50] محمد صلى الله عليه وسلم هو سيد البشر، وخاتم الرسل وأفضلهم، وقد خصه الله بخصائص كثيرة تشريفاً له وتكريماً، وبياناً لرفعة مكانته وعلو منزلته، ومعرفة هذه الخصائص تزيد المؤمنين إيماناً بالنبي صلى الله عليه وسلم وإجلالاً له وتوقيراً.

خصائص النبي عليه الصلاة والسلام التي حرمت عليه دون غيره

خصائص النبي عليه الصلاة والسلام التي حرمت عليه دون غيره

تحريم الصدقة على الرسول وآله

تحريم الصدقة على الرسول وآله الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. ذكرنا في الحديث السابق قول الله سبحانه لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:50]، فخص الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بأحكام منها ما جاء في هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم إن وهبت امرأة نفسها له فمن حقه أن يتزوجها صلوات الله وسلامه عليه. وذكرنا أن هذا ليس الحكم الوحيد الذي يختص بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل هناك أحكام اختصت به في الفرائض وفي المحرمات، فحرم عليه أشياء أحلها الله عز وجل لغيره، ولكن تشريفاً وتكريماً له صلى الله عليه وسلم حرمها الله عز وجل عليه كأخذ الزكاة، فلا يحل له أن يأكل من الزكاة ولا أن يأخذ صدقة صلوات الله وسلامه عليه، مهما كان نوع الصدقة، فليس له أن يأكل ولا حتى تمرة من تمر الصدقة. ولذلك لما وجد تمرة من تمر الصدقة في فم الحسن أخرجها من فمه وقال: (كخ كخ! أما علمت أنا لا نأكل الصدقة!) فمنع الصبي الصغير من أكل الزكاة مع أنه ليس مكلفاً، ولكن ليعلم النبي صلى الله عليه وسلم آل بيته أنه لا يحل للنبي صلى الله عليه وسلم ولا لأهل بيته أن يأكلوا من الصدقة.

عدم جواز تبديل أزواجه ثم نسخ هذا الحكم

عدم جواز تبديل أزواجه ثم نسخ هذا الحكم أيضاً من الأشياء التي حرمت على النبي صلى الله عليه وسلم قوله سبحانه في أزواجه {وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} [الأحزاب:52] فحرم الله عليه أن يبدل بهؤلاء الأزواج بعدما اخترن الله ورسوله والدار الآخرة، فمنع أن يتزوج عليهن أو يتزوج غيرهن، ثم أباح له الله عز وجل ذلك بعد ذلك، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل هذا مكافأة لأزواجه اللاتي اخترن الله ورسوله.

عدم جواز التزوج بمن لا تحب صحبته

عدم جواز التزوج بمن لا تحب صحبته كذلك من خصوصياته صلى الله عليه وسلم أنه لا يتزوج بامرأة لا تحب صحبته صلى الله عليه وسلم، وغيره قد يتزوج امرأة تطمع في ماله أو في منصبه ولكن لا تحب صحبته، ويحل له أن يبقى معها، أما النبي صلى الله عليه وسلم فلا، ولذلك المرأة التي قالت للنبي صلى الله عليه وسلم عندما أراد أن يدخل عليها: أعوذ بالله منك، قال: (لقد عذت بمعاذ، الحقي بأهلك)، وقوله: (عذت بمعاذ) يعني الله عز وجل يعيذك ويعصمك، فلن أقربك، وطلقها وفارقها صلوات الله وسلامه عليه. كذلك امرأة تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم فلما جاء ليدخل بها بسط يده إليها فإذا بالمرأة تستنكف وتستكبر عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر أبا أسيد أن يرجعها لأهلها وقال: (متعها برازقيين وأرجعها إلى أهلها)، وكانت قد قالت له: وهل تهب الملكة نفسها للسوقة! تقول هذا للنبي صلى الله عليه وسلم، فكان جزاؤها أنها لا تستحق أن تكون مع النبي صلى الله عليه وسلم، فظلت تندب حظها حتى ماتت. فهذه المرأة بعد ذلك علمت أنها فرطت في أمر عظيم وشرف عظيم، وهو أن تكون زوجة للنبي صلى الله عليه وسلم.

عدم جواز التزوج بالكتابية

عدم جواز التزوج بالكتابية كذلك يحرم عليه صلى الله عليه وسلم أن يتزوج بالحرة الكتابية، ويجوز للمسلمين أن يتزوجوا من المحصنات من أهل الكتاب، أما النبي عليه الصلاة والسلام فلا يجوز له أن تكون امرأته كتابية يهودية أو نصرانية، لأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنين، فكيف يقال عن زوجة النبي صلى الله عليه وسلم: هذه نصرانية أو يهودية؟ هذا لا يليق بمقامه صلى الله عليه وسلم. ومارية القبطية لم تكن زوجة للنبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كانت أم ولد ثم أسلمت، وهي من أهل مصر، وأهل مصر كان يطلق عليهم أقباط، أرسلها المقوقس عظيم مصر هدية للنبي صلى الله عليه وسلم هي وأختها سيرين، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم واحدة وأعطى حسان بن ثابت الأخرى، فكانت عند النبي صلى الله عليه وسلم، وكان له منها إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم وعليه السلام. ويوجد فرق بين الأمة والزوجة، الأمة ملك يمين يملكها الإنسان بأن يشتريها أو توهب له، أما الزوجة فلا تشترى، بل يخطبها الرجل من أهلها، فشرفت بذلك لأنها حرة، والأخرى أمة تباع وتشترى. وهاجر أم إسماعيل على نبينا وعليه الصلاة والسلام كانت أمة لإبراهيم، بخلاف سارة فهي زوجة لإبراهيم، وهاجر كانت أمة تملكها سارة أهداها لـ سارة ملك مصر الذي أراد أن يأخذ سارة من إبراهيم، فسأله: من هذه؟ قال: أختي، خاف أن يقول: زوجتي فيقتله ويأخذها فقال: أختي! فأخذها منه وأراد أن يأتيها فدعا إبراهيم ربه ودعت سارة ربها فأنقذها الله عز وجل من الرجل وشلت يده وسقط ولم يقدر أن يقوم، وكان يصرع كلما أراد أن يمسها، ثم قال: إنما جئتموني بشيطان، وأرسلها إلى إبراهيم وأهدى لها أمة هدية، وهي هاجر، فـ هاجر هي من أهل مصر. فـ سارة أخذت هاجر ثم وهبتها لإبراهيم، فكانت أمة لإبراهيم وليست زوجة له، وكثير من الناس حتى بعض المشايخ لا يفرق بين الأمة أم الولد وبين الزوجة، فيقول: هاجر زوجة إبراهيم. وهي لم تكن زوجة له، وإنما كانت سرية وأمة لإبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام. والزوجة ليس للرجل أن يتزوج ويتركها في مكان وينصرف عنها، الزوجة لها حقوق شرعية، إذا كان يريد أن يتركها فليطلقها ولا يتركها في مكان وينصرف عنها، أما الأمة فيجوز له ذلك، وقد أمر الله عز وجل إبراهيم أن يأخذ هاجر أم إسماعيل ويتركها في مكة في القصة العظيمة المعروفة. فـ سارة كانت زوجة وأما هاجر فلم تكن زوجة، بل كانت أم ولد لإبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، كما كانت مارية القبطية أم ولد للنبي صلى الله عليه وسلم، فولدت له إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم الذي توفي ولم يبلغ العامين، وتوفي قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بأشهر قليلة. والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجوز له أن يطأ الكتابيات بملك اليمين، ومارية كانت كتابية ثم أسلمت عند النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لا يجوز أن يتزوج صلى الله عليه وسلم بامرأة كتابية يهودية أو نصرانية، حتى لا تكون أم المؤمنين كافرة يهودية أو نصرانية.

عدم جواز نكاح الأمة

عدم جواز نكاح الأمة أيضاً يحرم على النبي صلى الله عليه وسلم نكاح الأمة، ونكاح الأمة بمعنى زواج الأمة ليس للنبي صلى الله عليه وسلم، وأيضاً ليس للمسلمين الأغنياء، وإنما يجوز في حالة أن يخشى إنسان على نفسه العنت، ولا يجد مالاً يتزوج به حرة؛ فيرخص له أن يتزوج الأمة. وإذا تزوج الرجل الحر الأمة ولم يشترط على سيدها أن الأولاد يكونون أحراراً فسيصير الأولاد عبيداً؛ لذلك منع المسلمون من الزواج بالإماء إلا بشروط، وضيق عليهم في ذلك حتى لا يتسع الأمر فيكون أولاد المسلمين عبيداً، فمنع الله عز وجل من نكاح الإماء إلا أن يكون الإنسان فقيراً ويخاف على نفسه العنت، وبعد أن رخص الله قال عز وجل: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [النساء:25]. لكن من وطأ بملك اليمين فأولاده منها أحرار؛ لأنه اشتراها فهي ملكه، فإذا توفي صارت حرة يعتقها أولادها، ولا يجوز لهم أن يملكوها.

منع النبي من الكتابة والقراءة قدرا

منع النبي من الكتابة والقراءة قدراً وحرم الله سبحانه وتعالى على نبينا صلى الله عليه وسلم أشياء تنزيهاً له صلى الله عليه وسلم وتطهيراً، وبياناً لهذا الإعجاز الذي في هذه الشريعة، ومن ذلك أنه منع الكتابة تحريماً قدرياً، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يتعلم القراءة والكتابة. ولا يشكل على ذلك أنه كتب مرة اسمه، فأي إنسان لا يكتب قد يكتب اسمه خاصة إذا رآه كثيراً، والنبي صلى الله عليه وسلم كتب مرة واحدة، وكانت كأنها معجزة من الله عز وجل له، وذلك في الحديبية عندما عقد الصلح بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين، وكتب علي بن أبي طالب رضي الله عنه الصحيفة، فلما كتب: (محمد رسول الله) قال سهيل بن عمرو للنبي صلى الله عليه وسلم: لو نعلم أنك رسول الله لاتبعناك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لـ علي: (امح رسول الله واكتب محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فرفض علي وقال: والله لا أمحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم محاها بيده، وكتب اسمه في الصحيفة صلوات الله وسلامه عليه)، وهذه هي المرة الوحيدة، وأما غير ذلك فلم يكتب أبداً صلوات الله وسلامه عليه، ولا قرأ كتاباً، قال الله سبحانه: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48]. فلو كان يقرأ ويكتب لقالوا: ذهب وتعلم من أهل الكتاب، وجاء يكتب لنا كلامهم، ويقول لنا: هذا القرآن من عند الله؛ فلذلك حفظه الله عز وجل، فلم يطلع على صحيفة قبل ذلك، ولم يقرأ التوراة، ولم يقرأ الإنجيل، ولم يقرأ أساطير الأولين، وكل الناس يعرفون ذلك عنه صلوات الله وسلامه عليه، فكانت معجزة له صلى الله عليه وسلم.

منع النبي من نظم الشعر قدرا

منع النبي من نظم الشعر قدراً كانت العادة عند العرب أن الإنسان فصيح اللسان يجيد الشعر ويجيد الخطابة، ويعتبرون هذا من فروسية الإنسان، فيكون بطلاً يقاتل بالسيف وبالرمح وأيضاً يخطب باللسان ويقول الشعر. أما النبي صلى الله عليه وسلم فمنع من الشعر قدراً، بل لعله إذا أراد أن ينشد شعر بعض الناس يبدل شيئاً مكان شيء، فكان من يسمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم يقول: نشهد أنك رسول الله. قال تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} [يس:69]، فمثلاً قال بعض المشركين من المؤلفة قلوبهم للنبي صلى الله عليه وسلم: أتجعل نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع فهذا الشعر موزون له نغمة الوزن، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال له: أأنت الذي تقول: أتجعل نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة فضحك الناس وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: بل يقول: بين عيينة والأقرع، فصدق الله إذ يقول: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} [يس:69] مع أن آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يقولون الشعر، فهذا عمه أبو طالب قال قصيدة عظيمة في مدح النبي صلوات الله وسلامه عليه، وكذلك العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم قال شعراً وغيرهما، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم منع من الكلام بالشعر. والله ذكر الشعراء فقال عنهم: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} [الشعراء:224 - 227]، فالذين يقولون الشعر من المؤمنين قليل، والأكثرون من الشعراء تراهم في كل واد يهيمون، ولذلك يقولون: أعذب الشعر أكذبه، يعني الذي فيه مبالغات ومحسنات بديعية كثيرة، فكلما يزداد الشعر كذباً يزداد جمالاً عند من يسمعه، لكن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان له أن يتكلم بذلك عليه الصلاة والسلام. فمنعه الله سبحانه قدراً من الشعر، مع أن الشعر في حق غيره يكون مدحاً، لكن النبي صلى الله عليه وسلم ليس له أن يتكلم بالشعر.

عدم جواز النظر في زينة الحياة الدنيا

عدم جواز النظر في زينة الحياة الدنيا أيضاً حرم الله على النبي صلى الله عليه وسلم أن يمد عينيه إلى ما متع به الناس، وغيره من الناس له أن ينظر إلى حديقة جميلة ويقول: ليت لي مثل هذه الحديقة، أو يرى قصراً جميلاً ويتمنى مثله، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز له ذلك، قال الله: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا} [طه:131]. فيحرم الله على النبي صلى الله عليه وسلم أن يتطلع إلى الغنى، وأن يتطلع إلى الدنيا؛ ولذلك كان يذكر أنه ما يسره صلى الله عليه وسلم أن يكون عنده مثل جبل أحد ذهباً يبقى عنده منه شيء بعد ثلاثة أيام، فينفقه صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أيام إلا أن يدخر شيئاً لقضاء دين عليه، أو لنفقة أهله.

أحل الله خمس الغنائم لرسوله عليه الصلاة والسلام

أحل الله خمس الغنائم لرسوله عليه الصلاة والسلام أحل الله سبحانه وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم أشياء ليست لغيره، فمن ذلك خمس المغانم، فجعل للنبي صلى الله عليه وسلم الخمس فقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال:41]. وقال صلى الله عليه وسلم: (ليس لي من المغانم شيء إلا الخمس، والخمس مردود عليكم)، حتى الخمس سيتكرم عليه الصلاة والسلام ويعطي منه للضيف ولابن السبيل وللأرملة وللمسكين، ومنه يأخذ رزقه صلى الله عليه وسلم وطعامه وطعام أهل بيته عليهم السلام.

جواز الزيادة على أربع في الزواج والزواج بمن وهبت نفسها له والزواج بغير ولي

جواز الزيادة على أربع في الزواج والزواج بمن وهبت نفسها له والزواج بغير ولي كان للنبي صلى الله عليه وسلم الزيادة على أربع نسوة عليه الصلاة والسلام لحكمة التشريع وتبليغ الشريعة. وكان له أيضاً صلوات الله وسلامه عليه أن يتزوج بمن وهبت نفسها له. كان له أيضاً أن يتزوج بغير ولي، وهذا لا يجوز للمسلمين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل)، وقال: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل). والله عز وجل قال عنه: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:6]، فأي ولي امرأة فالنبي صلى الله عليه وسلم أولى منه عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك تزوج بـ زينب بنت جحش من غير ولي، بل بأمر الله تبارك وتعالى.

أحل الله مكة لرسوله يوم الفتح

أحل الله مكة لرسوله يوم الفتح كذلك مما أبيح للنبي صلى الله عليه وسلم أن يدخل مكة مقاتلاً وقال: (إنما أحلت لي ساعة من نهار، ولا تحل لأحد بعدي)، فكان حلالاً للنبي صلى الله عليه وسلم أن يدخل مكة ويخرج أهلها من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، وأن يقاتل فيها ساعة من نهار، وبعد ذلك حرمت عليه وعلى غيره صلوات الله وسلامه عليه.

النبي لا يورث

النبي لا يورث مما يختص به أيضاً عليه الصلاة والسلام أنه لا يورث، وكل إنسان إذا مات يرثه أهله، أما النبي صلى الله عليه وسلم فلا، فقد كان له نصيب من فدك وخيبر، وكان له الصفي من المغانم، وله خمس الخمس من الفيء، وله خمس المغانم، ومع ذلك لما مات لم يرثه أحد من أهله، لم ترثه السيدة فاطمة رضي الله عنها ولا علي، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة).

عدم فسخ نكاح نسائه بوفاته عليه الصلاة والسلام

عدم فسخ نكاح نسائه بوفاته عليه الصلاة والسلام من خصوصيات النبي صلى الله عليه وسلم أن نكاحه لنسائه لا ينفسخ بالوفاة. فإذا مات النبي صلوات الله وسلامه عليه فلا يحل لامرأة من نسائه أن تتزوج غيره عليه الصلاة والسلام، بل هي زوجته في الدنيا وزوجته في الآخرة، فليس لها أن تتزوج من غير النبي صلوات الله وسلامه عليه، وقد صارت أماً للمؤمنين.

جعل الله له الأرض مسجدا وطهورا

جعل الله له الأرض مسجداً وطهوراً من خصائص النبي عليه الصلاة والسلام أن الله جعل له الأرض ولأمته مسجداً وطهوراً، وهذا مما ميزت به هذه الأمة على الأمم السابقة، فمن لم يجد الماء ليتوضأ منه تيمم من الأرض، وإن لم يجد المسجد ليصلي فيه صلى في الطريق، فالأرض كلها مسجد وطهور يجوز للإنسان أن يصلي عليها، والله أعلم. نكتفي بهذا القدر، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبته أجمعين.

تفسير سورة الأحزاب الآية [51]

تفسير سورة الأحزاب الآية [51] لقد خص الله رسوله بخصائص كثيرة، ومن ذلك ما وسع عليه في أمر النساء، وهذا يدل على إكرام الله لنبيه عليه الصلاة والسلام، وقد أخبر الله في كتابه بذلك، حتى ترضى أمهات المؤمنين بما آتاهن الله وتقر أعينهن ولا يحزن.

تفسير قوله تعالى: (ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء)

تفسير قوله تعالى: (ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء)

تخيير النبي في القسم بين نسائه

تخيير النبي في القسم بين نسائه الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الأحزاب لنبيه صلى الله عليه وسلم: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَينَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا * لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} [الأحزاب:51 - 52]. ذكر الله تبارك وتعالى قبل هاتين الآيتين أنه أحل لنبيه أزواجه اللاتي آتى أجورهن وكذلك ملك يمينه، وذكر له أصنافاً ممن أحلهن له، ثم قال في آخر الآية: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:50] علم الله سبحانه ما الذي فرضه للنبي صلى الله عليه وسلم وأحله له، وأعلم المؤمنين بذلك، وأعلم نبيه صلى الله عليه وسلم حتى لا يقع في نفسه حرج من أن الله أباح له ما لم يبحه لغيره عليه الصلاة السلام. ثم قال في هؤلاء النساء اللاتي تزوجهن النبي صلى الله عليه وسلم: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} [الأحزاب:51]، فمن تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم جعل الله سبحانه له أن يقسم بينهن بحسب ما يرى عليه الصلاة والسلام، فالقسم على النبي صلى الله عليه وسلم ليس واجباً، وعلى غيره من الناس واجب، فأزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللاتي آتاهن أجورهن فتزوجهن قال له سبحانه: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} [الأحزاب:51]، وكذلك من وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم إن شاء تزوجها وإن شاء أرجأها صلوات الله وسلامه عليه فلم يتزوجها وأخر هذا الأمر. هنا قراءة الجمهور: (ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء). وقراءة ابن كثير وأبي عمرو ويعقوب وابن عامر وشعبة عن عاصم: (ترجئ) من الإرجاء، وهو نفس المعنى: أي: تؤخر، فكأنه أباح للنبي صلى الله عليه وسلم إذا شاء تزوج، وإذا شاء ترك صلى الله عليه وسلم، ومن تزوجها صلوات الله وسلامه عليه له أن يقسم بينها وبين غيرها، وله ألا يفعل ذلك فيؤخر قسمها لحاجة أو لعذر. كذلك من وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم له أن يرجئها فيؤخرها، وله أن يتزوجها وهذا التخيير من الله تبارك وتعالى. قال: (إنا أحللنا لك)، وفي هذا الإحلال للنبي صلوات الله وسلامه عليه تيسير من الله سبحانه على نبيه صلوات الله وسلامه عليه، وفيه لنساء النبي صلى الله عليه وسلم قرة عين، إذا علمن أن هذا ليس منه عليه الصلاة والسلام ولكن من الله، فلو أن الأمر من النبي صلى الله عليه وسلم لعل الواحدة يكون في نفسها شيء من الضيق، وتقول: لماذا يفعل بي كذا؟ لماذا لا يقصدني؟ لماذا أخرني النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيكون في صدرها حرج، ولكن إذا كان الله أباح له ذلك ولا حرج على النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فالمرأة تسكت وترضى بأمر الله سبحانه.

الحكمة من تخيير النبي صلى الله عليه وسلم في القسم بين النساء

الحكمة من تخيير النبي صلى الله عليه وسلم في القسم بين النساء وقوله: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي} [الأحزاب:51] أي: تضم إليك من شئت {وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ} [الأحزاب:51] أي: إذا أخر فلم يتزوج ثم ابتغاها بعد ذلك، فله أن يتزوجها صلى الله عليه وسلم، أو تزوج ومعه نساء، فقسم لفلانة ولفلانة ولم يقسم لفلانة ثم أراد أن يغير بعد ذلك فيقسم لفلانة مع هؤلاء؛ فهذا من حقه عليه الصلاة والسلام. ولعل الواحدة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم قد تضايق النبي صلى الله عليه وسلم في شيء، مثلما حدث من السيدة حفصة رضي الله تبارك وتعالى عنها من شدة غيرتها على النبي صلى الله عليه وسلم، فضايقت النبي صلى الله عليه وسلم ببعض الأفعال فطلقها صلوات الله وسلامه عليه، ونزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (راجع حفصة فإنها صوامة قوامة)، أي: لها فضيلة عند ربها سبحانه، فهي كثيرة الصيام والقيام، فردها النبي صلوات الله وسلامه عليه وأرجعها. فهنا ربنا يقول له صلى الله عليه وسلم: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ} [الأحزاب:51] أي: من عزلها النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقسم لها، أو طلقها ثم راجعها صلوات الله وسلامه عليه؛ فلا حرج عليه في ذلك، حتى تعلم نساء النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد أبيح له ذلك من عند الله سبحانه، ولا حرج عليه في ذلك، فتطمئن الواحدة أن هذا أبيح للنبي صلى الله عليه وسلم، وليس من حقها أن تعترض، واعتراضها ليس على النبي صلى الله عليه وسلم وإنما يكون على ربها سبحانه، فهذا قوله سبحانه وتعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَينَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} [الأحزاب:51]. ذلك أي: ما أخبر به سبحانه وتعالى، قال: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ} [الأحزاب:51] أي: هذا منا نحن مننا عليك به، وأحللنا لك ذلك، وجعلنا لك أن ترجئ وأن تؤوي، وهذا من حقك فلا جناح عليك. فإذا علمت المرأة أن هذا تشريع من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم اطمأن قلبها إذ هو صلى الله عليه وسلم لا يفعل هذا من عند نفسه، وإنما بإباحة الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم. وقوله: {وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ} [الأحزاب:51] كأنه إشارة إلى أن الأفضل له ألا يطلق أحداً من نسائه عليه الصلاة والسلام، وقد كاد أن يطلق السيدة سودة رضي الله تبارك وتعالى عنها، فعلمت سودة بذلك، فقالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (لا حاجة لي في الرجال، ولكن أحب أن أكون زوجتك في الجنة). فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يفارقها، ووهبت يومها للسيدة عائشة رضي الله تبارك وتعالى عنها، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم السيدة سودة للسيدة عائشة رضي الله عنها. قال الله عز وجل: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ} [الأحزاب:51] أي: إذا عرفت الواحدة منهن أنها بالصبر على ذلك تكون زوجتك في الدنيا، وتكون زوجتك في الآخرة؛ تقر عينها بذلك، والعين القارة هي المستقرة، والقارة الباردة، والإنسان إما أن يكون حزيناً خائفاً، وإما أن يكون مسروراً مستقراً. فالإنسان الخائف الحزين غير الإنسان المسرور المطمئن المستقرة عينه، فمعنى (تقر أعينهن) أي: تستقر العين بالطمأنينة التي في القلب، وكذلك تقر العين أي تبرد العين، والإنسان الحزين عينه حارة ودمعته حارة، والإنسان المسرور عينه قارة، ودمعته باردة. إذا بكى من الفرح. إذاً: تنفيذ أمهات المؤمنين أمر الله تبارك وتعالى، وعلمهن أن هذا من عند الله سبحانه أباح لرسوله ما شاء، وله أن يؤوي إليه من عزل؛ هذا كله أدنى أن تقر أعينهن. {وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَينَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} [الأحزاب:51]. أي: يرضين كلهن بما أعطيتهن، فترضى كل واحدة وتعلم أن هذا القسم من عند الله سبحانه، وأن التخيير للنبي صلى الله عليه وسلم من عند الله، فترضى كل واحدة، فهذا أمر الله، فيصبرن ويرضين بأمر الله سبحانه وتعالى.

علم الله بما في القلوب

علم الله بما في القلوب قال الله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} [الأحزاب:51] كل إنسان قد يظهر شيئاً بلسانه ويخفي ويضمر شيئاً في قلبه، فالله عز وجل أعلم بما في هذه القلوب. قال الله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا} [الأحزاب:51] في هذا إشارة إلى أن الإنسان قد ينطق بالشيء الذي لا يوافقه قلبه عليه، فيقول: أنا راض، وهو ليس براض في القلب، والله أعلم بما في القلب. والله حليم سبحانه وتعالى، يحلم عليكم، فالإنسان في حال التهور قد لا يرضى بشيء، ثم بعد ذلك يراجع نفسه، والله تبارك وتعالى يعلم من هذا الإنسان ذلك، ويعلم ما أضمر في قلبه، ويعلم أنه سيرجع إلى الحق ثانياً، فيحلم عليه من فضله ويكرمه سبحانه، ولا يعاجله بالعقوبة. وقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} [الأحزاب:51] فيه إشارة لجميع المؤمنين أن الله أباح للنبي صلى الله عليه وسلم شيئاً ومنع المؤمنين من هذا الشيء، فأباح له أن يجمع أكثر من أربع من النسوة، أما المؤمنون فليس لهم إلا أربع لا يزيد الرجل على ذلك. والإنسان يلزمه أن يعدل بين النساء، والنبي صلى الله عليه وسلم جعل له ربه سبحانه من حقه أن يؤوي من يشاء أي: يضم من يشاء ويعزل من يشاء، لكن غيره من المؤمنين ليس له ذلك، فإذا تزوج بامرأتين فليس من حقه عزل هذه وضم هذه، وإذا كان لا يريدها فليطلقها، ولا يعضل هذه المرأة، فلا بد من القسم بينهما، ولا بد من العدالة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل صلوات الله وسلامه عليه، مع تخيير الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يؤوي من يشاء ويضم من يشاء ويعزل من يشاء، وكان صلى الله عليه وسلم يدور على نسائه في الليلة الواحدة. وغير النبي صلى الله عليه وسلم يلزمه أن يقسم ويعدل بين النساء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في سنن أبي داود وغيره: (من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل). فالإنسان يقوم يوم القيامة بين يدي الله سبحانه وتعالى في موقف طويل جداً، فالله يصبر من يشاء، ويضيق على من يشاء، فالإنسان الظالم لنسائه يأتي يوم القيامة وشقه مائل، يعني: يأتي وهو مفلوج، أي مشلول، لأنه مال إلى إحدى نسائه على الباقيات. والميل نوعان: ميل قلبي وهذا لا يملكه العبد، فيحب فلانة أكثر من فلانة، وجاء في حديث رواه أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم بين نسائه فيعدل، وكان يقول: (اللهم إن هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك) فهو قسم بين النساء في النفقة من الطعام والشراب والكسوة، وهذا فيما يملك، أما ما لا يملكه وهو أنه كان يحب السيدة عائشة أكثر من غيرها، فهذا لا يملكه صلى الله عليه وسلم، والله هو الذي يملك ذلك سبحانه وتعالى. فالزوج قد يميل لإحدى زوجاته أكثر من غيرها، وهذا لا يملكه العبد، فالله عز وجل يقول: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} [الأحزاب:51]، فهذا الميل خلقه الله عز وجل في القلب، فالإنسان لا حرج عليه في ذلك. والميل الآخر: أن يبيت مثلاً عند هذه أسابيع والثانية لا يأتيها كل أسبوع إلا مرة، أو ينفق على هذه ويسرف وهذه لا يعطيها شيئاً، فهذا هو الجور، والله عز وجل يقول: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء:3]، فالإنسان لا يجمع اثنتين إذا كان لا يقدر على العدل بينهما. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الأحزاب [52 - 53]

تفسير سورة الأحزاب [52 - 53] لما اختار أزواج النبي صلى الله عليه وسلم الله ورسوله والدار الآخرة أكرمهن الله عز وجل بأن حرم على نبيه أن يتزوج عليهن، ثم أباح له ذلك ليريهن كرامته صلى الله عليه وسلم عنده، ثم بين الله عز وجل الآداب التي ينبغي للضيف أن يراعيها تجاه المضيف، وبين مدى خلق النبي صلى الله عليه وسلم في الصبر على ضيوفه وتحمل أذاهم.

إكرام الله سبحانه لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم وبيان فضل النبي عليهن رضي الله عنهن

إكرام الله سبحانه لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم وبيان فضل النبي عليهن رضي الله عنهن أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الأحزاب لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب:52 - 53]. في هذه الآيات يقول الله سبحانه وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: إنه لا يحل له النساء من بعد ما خيرهن واخترن الله ورسوله والدار الآخرة، فكافأ الله عز وجل نساء النبي صلى الله عليه وسلم على اختيارهن للآخرة بأن حرم على النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج عليهن صلوات الله وسلامه عليه. قال سبحانه: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} [الأحزاب:52]، يعني: وحتى لو طلق واحدة من هؤلاء التسع وأراد أن يتزوج واحدة مكانها فلا يحل له ذلك. قال: {وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} [الأحزاب:52]، حتى ولو أعجبك حسن امرأة فليس لك أن تتزوجها مكافأة من الله عز وجل لنساء النبي صلى الله عليه وسلم على حسن اختيارهن فيما خيرهن الله سبحانه وتعالى فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة. قال تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ} [الأحزاب:52]، أي: جميع النساء، وهنا بالياء. والقراءة الأخرى: قراءة البصريين وقراءة أبي عمرو ويعقوب: (لا تحل لك النساء)، فجاء بضمير المؤنث للدلالة على جماعة النساء، والمعنى: لا يحل لك جميع النساء، ولا تحل لك جماعة النساء من بعد هذا التخيير واختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة. قال: {وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} [الأحزاب:52]، وهذه قراءة الجمهور. وقرأ البزي عن ابن كثير: (ولا أن تَّبدل بهن)، بتشديد التاء فيها، فإن النون تخفى في التاء وتشدد التاء فيها، {وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} [الأحزاب:52]، فإذا وقف يعقوب عليها قال: (ولو أعجبك حسنهنه). ثم قال: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} [الأحزاب:52] فأجاز الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم ملك اليمين، فإذا ملك من الإماء فله أن يطأهن صلوات الله وسلامه عليه، لكنه لا يتزوج الحرائر على أزواجه صلى الله عليه وسلم. وقد استمر هذا التحريم إلى وقت معين، ثم أبيح له بعد ذلك صلى الله عليه وسلم، فامتنع هو نفسه صلوات الله وسلامه عليه ولم يتزوج عليهن. قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل له النساء عليه الصلاة والسلام. فالله أحل له ذلك ليظهر فضله على نسائه عليه الصلاة والسلام، في كونه لا يختار بعدهن أن يتزوج عليهن صلوات الله وسلامه عليه.

جواز النظر إلى المخطوبة وبيان ضابطه وشروطه

جواز النظر إلى المخطوبة وبيان ضابطه وشروطه وفي قوله سبحانه: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} [الأحزاب:52]، فيه إشارة إلى نظر الإنسان إلى المرأة التي يريد أن يتزوجها فإن أعجبه حسنها ودلها وسمتها فليتزوجها، وقد تعجب المرأة الإنسان ولا تعجب غيره، فالجمال شيء نسبي، ولكل إنسان اختيار معين، فقد يرضيك ما لا يرضي غيرك، ويرضي غيرك ما لا يرضيك. فالله عز وجل يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} [الأحزاب:52]، وقد جاء في سنة النبي صلى الله عليه وسلم بيان ذلك، وأن للرجل إذا أراد أن يتزوج امرأة أن ينظر إليها، وإلا فالأصل: أن الإنسان يغض بصره، فلا يجوز للرجل أن ينظر إلى المرأة، ولا يجوز للمرأة أن تنظر إلى الرجل إلا للضرورة والحاجة. جاء في سنن الترمذي من حديث المغيرة بن شعبة: أنه أراد أن يتزوج امرأة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (انظر إليها فإنه أجدر أن يؤدم بينكما). وهذا من محاسن الشريعة العظيمة، فلا يجوز أن يضيق على الإنسان الذي يريد أن يتزوج امرأة بألا ينظر إليها أصلاً، وإنما يبعث أحداً ليراها بدلاً عنه، ولربما بعث امرأة لتنظر إلى زوجته فلما رجعت وصفتها له على حسب ما رأتها، فيكتشف عند الدخول بها أنها على خلاف ما وصفت، وقد ذكرنا بأن الجمال نسبي متفاوت؛ فلذلك أمره النبي صلى الله عليه وسلم هنا أن ينظر إليها، وذلك لأجل أن تدوم الحياة الزوجية بين الرجل والمرأة، فلا تحصل نفرة لأنه لم يرها إلا يوم الفرح. وبعض الناس عندهم من التقاليد أن الرجل لا يرى المرأة إلا يوم الدخلة كما هو في الصعيد وغيره، وهذا خطأ، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر المغيرة أن ينظر إليها قبل ذلك إذا أراد أن يخطبها. وجاء في حديث آخر: أن رجلاً أراد أن يتزوج امرأة من الأنصار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئاً)، فالمهاجري هذا أراد أن يتزوج امرأة من الأنصار وهو لا يعرف هذه المرأة ولم يرها، فالنبي صلى الله عليه وسلم بين له أن في أعين الأنصار شيئاً، ولعل هذا الشيء صغر أو نحوه، ولم يكن المهاجرون متعودين على ذلك في مكة. قال له: (انظر إليها قبل أن تتزوجها فإن في أعين الأنصار شيئاً)، وهذا الأمر ليس على الوجوب، وليس معناه أن الإنسان يأثم إذا لم ينظر إلى المرأة، ولكن هذا الأمر إرشاد من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه جعله سبباً في دوام الحياة، وحتى تكون في وفاق مع هذه المرأة التي تريد أن تتزوجها. روى الإمام أبو داود من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر منها ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل)، أي: فإن استطاع أن يذهب إلى بيتها ليراها وهي مع أبيها أو أخيها مثلاً فليفعل؛ لأن الخطبة مشروعة في الإسلام، مع أن الخطبة ليست عقداً وليست زواجاً، ولكنها مقدمة حتى ينظر الرجل وتنظر المرأة، فيذهب إليها وهي مع محارمها فينظر إليها. وجاء عن محمد بن مسلمة في سنن الإمام ابن ماجه ومسند الإمام أحمد أنه قال: خطبت امرأة فجعلت أتحيل لها حتى نظرت إليها، يعني: رأى الوقت المناسب الذي يمكنه فيه أن ينظر إليها ولم يشأ أن يحرجها، فكانت هي تذهب إلى حقلها وهو يختبئ لها، فنظر إليها فرأى وجهها فتقدم لها وتزوجها، فرآه بعضهم فقال له: أتفعل ذلك وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال لهم محمد بن مسلمة رضي الله عنه: نعم، إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا ألقى الله في قلب أحدكم خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها). بقيت هنا مسألة: وهي متى ينظر إليها؟ فلا يختبئ للنساء لينظر إليهن وهو لا يريد الخطبة أو الزواج فهذا لا يحل له، بل إذا أراد خطبتها فليذهب إليها عند أهلها وينظر إليها، ولو فرضنا أنه لم يتيسر له ذلك وتيسر في مكان آخر فله أن ينظر إليها، لكنه لا يحل له أن ينظر إليها وهي عارية مثلاً، ولكن ينظر إلى الوجه وإلى الكفين فقط، فهذه هي الأشياء التي أباحت الشريعة للإنسان أن ينظر إليها في المرأة.

عدم اشتراط الإذن في النظر إلى المخطوبة

عدم اشتراط الإذن في النظر إلى المخطوبة قال الإمام مالك: ينظر إلى وجهها وكفيها، ولا ينظر إلا بإذنها، هذا اختيار الإمام مالك: أنه لا ينظر إلى المرأة إلا أن تكون المرأة آذنةً له في ذلك فينظر إليها بإذنها. وذهب الشافعي وأحمد: إلى أنه ينظر إليها بإذنها وبغير إذنها، سواء أذنت أم لم تأذن، فقد يذهب الإنسان إلى بيت إنسان يريد خطبة ابنته ويكون متفقاً مع وليها أن ينظر إليها، وقد لا يقول لها هذا الشيء حتى لا يحرجها إذا رفض الرجل أن يتزوجها، فيستدعي البنت لشيء معين فينظر إليها الضيف الذي يريد خطبتها من غير أن تعرف أنه يريدها، حتى إذا لم يرد زواجها لم يحدث في قلبها شيء من الحزن. وقد يجوز النظر بالاتفاق مع أهلها: كأن يخطب الإنسان في النهار فتحضر البنت فينظر إلى وجهها وينظر إلى كفيها بالاتفاق المسبق مع أهلها، وذلك قول الشافعي وأحمد. وقالوا: بشرط أن تكون مستترة، فلا تدخل عارية أو بملابس البيت بحيث إنه ينظر إلى أكثر من ذلك، ولكن ينظر إلى الوجه والكفين فقط. قال الأوزاعي: ينظر إلى مواضع اللحم منها، هذا اختيار الإمام الأوزاعي رحمه الله. فالشاهد: أنه يجوز للإنسان أن ينظر من مخطوبته إلى وجهها وكفيها، فإذا رأى منها ما يدعوه إلى أن يتزوجها فليتزوجها، لكن لا يجوز أن ينظر إليها كل مرة، ولا أن يقف في الشارع لينظر إلى بنات الناس ويقول: إني أريد أن أخطب، ولكن إذا ألقي في قلب أحدكم خطبة امرأة فله أن ينظر إليها، كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم.

حكم تسري النبي لأمة كافرة

حكم تسري النبي لأمة كافرة هنا يقول الله عز وجل لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} [الأحزاب:52]، ثم استثنى فقال: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} [الأحزاب:52]، فلم يحرم الله على النبي صلى الله عليه وسلم أن يطأ بملك اليمين، وهنا اختلف العلماء: هل ملك اليمين للنبي صلى الله عليه وسلم عام في المسلمة والكافرة، أم أنه خاص بالمسلمة فقط؟ والناظر في حياته صلى الله عليه وسلم يجد أنه لم يحدث أنه وطأ بملك يمينه إلا امرأة مسلمة، وقد فعل ذلك يوم أن أهديت إليه امرأة قبطية فأسلمت عنده صلى الله عليه وسلم ووطئها صلوات الله وسلامه عليه، وبناءً على ذلك يقول بعض العلماء: إنه لم يحل له ذلك أصلاً. ويقول البعض الآخر: إنه يحل له كما يحل لغيره، ولكن لم يحدث ذلك، فالخلاف محصور في الحلية أو الحرمة فقط، ولكنهم اتفقوا على أنه لم يحدث ذلك منه صلوات الله وسلامه عليه. والذين قالوا: بأنه منع من ذلك، قالوا: تنزيهاً لقدره صلى الله عليه وسلم عن مباشرة امرأة كافرة، وقد قال الله عز وجل للمؤمنين: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة:10]، فإذا كان المؤمن لا يمسك بعصمة امرأة كافرة فكيف بالنبي صلى الله عليه وسلم؟!

بيان وقت نزول آية الحجاب، وما يجب على الضيف تجاه مضيفه

بيان وقت نزول آية الحجاب، وما يجب على الضيف تجاه مضيفه قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} [الأحزاب:53]. في هذه الآية أدب جم للمؤمنين يؤدبهم الله سبحانه وتعالى به في أمر الطعام وأمر الجلوس في الضيافة، فيجب على الإنسان أن يلتزم بأدب الضيافة. ويجب على المضيف أن يدعو الأتقياء لطعامه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يأكل طعامك إلا تقي)، والراجح في هذا النهي أنه للإرشاد لا للتحريم، فيجوز للإنسان أن يطعم إنساناً شقياً أو مسلماً أو كافراً، سواء على وجه الهدية أو على وجه الصدقة، ولكن لا يكون هذا هو الغالب على أمر الإنسان أنه لا يطعم إلا الإنسان الشقي الفاجر، بل إذا دعا شقياً ليطعمه فليكن على وجه الدعوة له إلى دين الله عز وجل، وعلى وجه تحبيبه في دين الله سبحانه، فلابد أن توجد علة من وراء دعوتك له. أما أن يدعو إنساناً شقياً بعيداً عن الله سبحانه للصحبة فقط فلا، لأنه قد تتعدى الأخلاق السيئة إليه؛ لأن الطباع معدية أشد من المرض، فحين يعتاد الإنسان أن يجلس مع إنسان رديء فيأكل معه ويشرب معه يتعلم منه ما هو عليه من أخلاق بذلة سافلة، والطيور على أشكالها تقع، فالإنسان الذي يود إنساناً غير سوي فيتخلق بأخلاقه لابد وأن يكون هناك شيء جمع بينهما ليصاحب هذا الإنسان. ولذلك جاء في الحديث: (المرء مرآة قرينه)، فالإنسان مرآة لقرينه، فصورة قرينه تنطبع عليه، فالأخلاق هي التي تجمع بينهما، فلذلك نقول: إنه إذا دعا مثل هذا فليكن على وجه الندرة، وليدعوه إلى الله سبحانه وتعالى ويحببه في دين الله سبحانه ويدله على الطريق السوي، لكن يجب أن تكون العادة أنه لا يأكل طعامك إلا الإنسان التقي؛ لأن التقي إذا دخل بيتك غض بصره، وإذا أكل طعامك دعا لك، وإذا أكل شيئاً قليلاً شكر لك ولم يعترض عليك ولم يذمك. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [الأحزاب:53]. وسبب نزول هذه الآية: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تزوج زينب بنت جحش رضي الله عنها أولم عليها فدعا الناس، فلما طعموا جلس طوائف منهم يتحدثون في بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وبيت النبي صلى الله عليه وسلم عبارة عن غرفة واحدة، فامرأته في الغرفة وهو يسدل الحجاب بينه وبين الناس، وهنا أكل الناس عند النبي صلى الله عليه وسلم ولم يخرجوا، والنبي صلى الله عليه وسلم ينتظر خروجهم. وهذا لا يليق أبداً، فالنبي صلى الله عليه وسلم الآن معه امرأته وهي ليلة زفافه صلى الله عليه وسلم، وما زال الناس قاعدين في البيت! فجلسوا يتحدثون ولم يخطر ببال أحدهم أنهم يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فخرج صلى الله عليه وسلم ورجع لعلهم يستحون ويمشون فلم يخرجوا، وخرج مرة ثانية ورجع فوجدهم جالسين، فكان هذا ثقيلاً على النبي صلى الله عليه وسلم. يقول أنس بن مالك: إن زوجة النبي صلى الله عليه وسلم كانت مولية وجهها إلى الحائط، فهي غرفة واحدة موجود فيها النبي صلى الله عليه وسلم وامرأته، وذلك قبل نزول آيات الحجاب، فزوجة النبي صلى الله عليه وسلم معطية للناس ظهرها، ووجهها إلى الحائط، والنبي صلى الله عليه وسلم ينتظر خروج هؤلاء، فأخذ يخرج ويرجع حتى فهموا منه ذلك فتحرجوا في النهاية. قال أنس: فما أدري! أنا أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أن القوم قد خرجوا أو أخبرني، قال: فانطلق حتى دخل البيت، فذهبت أدخل معه، فألقي الستر بيني وبينه ونزل الحجاب. فنزول آيات الحجاب كان بعد زواج النبي صلى الله عليه وسلم من السيدة زينب بنت جحش رضي الله عنها، قال: ووعظ القوم بما وعظوا به، وأنزل الله عز وجل هذه الآية: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [الأحزاب:53]، فمنع الناس من دخول بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وألا يدخلوا إلا إذا دعوا لذلك وإلا فلا. وحتى لو دعاك للدخول إلى بيته فلا تدخل من أول النهار، ولكن إذا نضج الطعام فاذهب وكل، فإذا أكلت فانصرف ولا تجلس في بيته؛ لأن ذلك يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم ويؤذي أهل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الله عز وجل {إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ} [الأحزاب:53]، بشرط: {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [الأحزاب:53]، وإناء الشيء، أي: نضجه، فلا تنتظر الطعام في بيته إلى أن ينضج، ولكن اذهب وقت نضجه فقط. ثم قال تعالى: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} [الأحزاب:53]، أي: إذا دعيتم للطعام فادخلوا، فإذا أكلتم فانصرفوا ولا تجلسوا للحديث بعده، وهذا أدب عظيم للضيف يجب أن يعلمه جيداً. يقول ابن أبي عائشة: حسبك من الثقلاء أن الشرع لم يحتملهم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الأحزاب الآية [53]

تفسير سورة الأحزاب الآية [53] لقد حرم الله على المؤمنين دخول بيت نبيه عليه الصلاة والسلام إلا إذا أذن لهم إلى طعام، ويكون هذا الدخول بآداب، حتى لا يؤذوا النبي بالدخول عليه في وقت لا يحب دخولهم عليه، لاسيما وبيوته كانت صغيرة.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي)

سبب نزول قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت)

سبب نزول قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا * إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا * لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} [الأحزاب:53 - 55]. في هذه الآيات من سورة الأحزاب يأمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين بمراعاة الأدب العظيم مع النبي صلوات الله وسلامه عليه، فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [الأحزاب:53] وثبت في نزول هذه الآية: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تزوج زينب بنت جحش رضي الله عنها أولم، وكانت النساء إلى ذلك الحين لا يحتجبن من الرجال، وكان الرجال يدخلون مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته، وتكون زوجة النبي صلى الله عليه وسلم في هذا البيت، وبيته هو غرفة، فكان الضيف عندما يدخل معه صلى الله عليه وسلم فالمرأة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم تولي ظهرها للضيف ووجهها للحائط. فالنبي صلى الله عليه وسلم أولم على السيدة زينب رضي الله عنها ودخل الناس يأكلون ووجهها للحائط وظهرها للناس، والناس يدخلون فيأكلون وينصرفون، ومكث مجموعة منهم أكلوا ولم ينصرفوا، فالنبي صلى الله عليه وسلم ساءه هذا الشيء، فخرج صلى الله عليه وسلم ورجع لعلهم يفهمون، فلم ينصرفوا وبقوا يؤانس بعضهم بعضاً بالحديث، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل ويخرج، ففي النهاية انتبهوا فخرجوا، وأنزل الله عز وجل هذه الآية يؤدب المؤمنين أن هذا لا ينبغي أبداً، وعلى الإنسان ألا يكون ضيفاً ثقيلاً على من ينزل عليه، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [الأحزاب:53]. إذاً: الأصل حرمة دخول بيوت النبي صلى الله عليه وسلم، والله عز وجل استثنى حالة واحدة وهي أن يدعوكم النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته، واستثنى من هذا الاستثناء أنه حتى ولو دعاكم إلى بيته لا تدخلوا إلا في وقت نضج الطعام فقط، لتأكلوا ثم تنصرفوا، فإذا طعمتم لا يجوز لكم الجلوس مستأنسين لحديث، بل انصرفوا. وهذا أدب عظيم للضيف في كيفية التعامل مع صاحب البيت، وخاصة النبي صلوات الله وسلامه عليه، فيقول الله تبارك وتعالى للمؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ} [الأحزاب:53]. قوله: (غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ)، يعني: غير منتظرين إناه، والمقصود هنا: وقت نضجه، فإذا دعا رجل إنساناً إلى طعام ليتغدى عنده فلا يذهب من الصبح وينتظر مائدة الأكل، بل لا يذهب حتى ينضج الطبيخ، فإذا أكل انصرف.

أهمية الحرص على الوقت وعدم تضييع وقت الآخرين

أهمية الحرص على الوقت وعدم تضييع وقت الآخرين على الإنسان إذا دعي إلى طعام ألا يكون ضيفاً ثقيلاً على من يذهب إليه، فإذا دعاك إنسان إلى طعام تذهب في وقت الدعوة الذي حدده المضيف وليس قبل هذا الوقت. وعلى الإنسان أن يفي بوعده، وأن يلتزم بالمواعيد، فوقت المسلم غال، يقضي وقته في ذكر الله عز وجل، يقضيه في قضاء حوائجه، يقضيه في عمله، يقضيه مع أهله وأولاده، يقضيه في صلاة، يقضيه في عبادة، فعلى كل إنسان أن يراعي وقت الآخر، وإذا كان يريدك لحاجة لا تقل: دعوه ينتظر! وبعض الناس قد يزور آخر في وقت متأخر من الليل، فيضيع عليه عمل اليوم التالي أو يضيع عليه صلاة الليل، فهذا ما عرف قيمة الوقت. فانظروا إلى هذه الآية كيف تؤدب الصحابة إذا دعوا إلى طعام، حتى لا يضيعوا وقت النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا أكلوا ينصرفون ولا يستأنسون لحديث، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان طيب العشرة، وكان لا يواجه أحداً بما يكره، دخل عليه رجل فقال وهو داخل: (بئس أخو العشيرة)، فعندما جلس إذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يتكلم معه ويتبسط معه ويضحك معه، صلوات الله وسلامه عليه. فربنا يؤدب المؤمنين والنبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يؤانسك بالحديث ليس معنى هذا أنك تجلس وتأخذ راحتك وتضايق النبي صلى الله عليه وسلم، {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} [الأحزاب:53]، فعلى الضيف إذا دعي إلى الطعام أن يذهب في الموعد الذي حدد له، لا بعده ولا قبله، فإذا فرغ من الطعام فلينصرف ولا يجلس إلا أن يمسك به صاحب البيت، ويصر على مكثه فهذا أمر آخر، ولكن دائماً عود نفسك إذا دعاك إنسان ألا تمكث بعد الطعام كثيراً، حتى لا تضايق صاحب البيت، ولا تضطره أن يقول لك: ورائي شغل، ورائي كذا، أريد أن أنام، فتحرج صاحب البيت في ذلك. قال ربنا سبحانه: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ} [الأحزاب:53] أي: أكلتم {فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ} [الأحزاب:53] من الأنس، والأنس: ضد الوحشة، فالأنس يكون بالمحادثة اللطيفة، وبطيب المجلس، وبطيب المعاشرة. فالمعنى: حتى لو بدا لك من النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فلا تستأنس بحديث، وتعود لتسأله عن شيء وراء شيء، وتتكلم وتطيل المجلس، وهذا أدب للصحابة وغيرهم أولى بهذا الأدب. فعلى الإنسان أن يتأدب بهذا الأدب، فإذا أدخلك إنسان بيته لطعام فلا تطل في الكلام معه، فهو قد يريد أن يقوم من الليل، يريد أن يصلي الفجر، يريد أن يحضر الدروس، يحترم بعضنا وقت بعض، فالوقت عظيم جداً، الوقت فرصة عمرك ولن يعوض مرة ثانية، فلا تضيع وقتك ولا وقت غيرك، فالوقت غال جداً، الوقت هو عمرك، الوقت كالذهب، الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، الوقت عظيم، إذا ذهب لا يعوض أبداً، فلا تضيع وقتك ولا وقت غيرك. فعلينا أن نراعي هذا الأدب الذي علمناه الله تبارك وتعالى، وهو أدب الضيافة، وأدب الحديث، وعدم الإكثار من السؤال، وعدم تضييع أوقات الناس، إذا رأيت أخاك في المسجد يقرأ القرآن لا تقل له: تعال نتكلم قليلاً وتشغله عن القرآن، فالقرآن أعظم الأشياء، دعه يقرأ القرآن ويتقرب إلى الله سبحانه وتعالى. وإذا رأيت إنساناً جالساً في المسجد من الفجر إلى الشروق من أجل أن يذكر الله، ويعمل بحديث: (من صلى الفجر في جماعة ثم جلس في مصلاه يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كتب له أجر عمرة تامة تامة تامة)، فلا تجلس لتكلمه وتضيع عليه أجر العمرة التامة. عود نفسك أن تستأنس بالله تبارك وتعالى، كثير من الناس لا يعرف هذا الشيء؛ فإذا جلس وحده لذكر الله يمل بسرعة؛ لكن إذا جلس يتكلم مع غيره فقد يجلس ساعات، فعود نفسك على الأنس بالله سبحانه، وأن تجلس وتتفكر في الله سبحانه، إذا سبحت تتأمل في معنى التسبيح، إذا حمدت الله سبحانه تتفكر في معنى الحمد، {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]. عود نفسك على الخلوة مع الله تبارك وتعالى، وسيأتي رمضان وكثير منكم سيعتكف، لكن قد تجد الاعتكاف يتحول إلى سمرة، تراهم ساهرين يتكلمون، والنهار يضيعونه في النوم، وهكذا تضيع الأيام من غير فائدة كبيرة. فلنعود أنفسنا على الخلوة مع الله تبارك وتعالى، ونكثر من ذلك، وأهل الجنة يلهمون التسبيح كما نلهم النفس، فأهل الجنة متعتهم تسبيح الله تبارك وتعالى، فالذاكر يستمتع في الدنيا بذكر الله سبحانه فيمتعه الله عز وجل به في الجنة، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها.

حرمة إيذاء النبي عليه الصلاة والسلام

حرمة إيذاء النبي عليه الصلاة والسلام يقول الله عز وجل: {وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ} [الأحزاب:53]. أي أن الإطالة على النبي صلى الله عليه وسلم كانت تؤذيه وتضايقه، وكذلك كثرة السؤال، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال) فلا تضيعوا الوقت في كثرة السؤال، وتعلموا ما يقوله لكم النبي صلى الله عليه وسلم، ولا داعي للإكثار من الأسئلة. فلم يزالوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم حتى ضايقوه، فيجيء القرآن يؤدبهم: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة:12]، فالآن تصدق ثم اسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فأشفقوا من تقديم الصدقات، فلما أبيح لهم بعد ذلك أن يسألوا بلا تقديم صدقة استحيوا من أنفسهم، فلم يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يعجبهم أن يأتي الأعرابي فيسأل النبي صلى الله عليه وسلم فيستفيدون من ذلك، ولا يسألونه إلا لحاجة أو ضرورة. وفي هذه الآية يقول الله عز وجل: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ} [الأحزاب:53]، كان حياء النبي صلى الله عليه وسلم يمنعه أن يأخذ حظ نفسه صلى الله عليه وسلم فيستحيي، ولكن الله لا يضيع ذلك؛ فإذا بالله عز وجل يعلم المؤمنين ألا يؤذوا النبي صلوات الله وسلامه عليه فيدفعونه إلى أن يستحيي ولا يبين لهم ذلك.

إثبات صفة الحياء لله تعالى

إثبات صفة الحياء لله تعالى قوله: {وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب:53]. الله تبارك وتعالى يستحيي، ولكن لا يستحيي من الحق، فالله حيي كريم سبحانه، وفي الحديث: (يستحيي إذا رفع عبده يديه أن يردهما صفراً)، فإذا رفع العبد يديه فالله يستحيي أن ينزل العبد يديه من غير أن يأخذ حاجة، فيعطيه ربنا سبحانه بكرمه وفضله. إذاً: الله يستحيي أن يسأل فلا يعطي، فمن سأله أعطاه سبحانه بفضله وبكرمه، ولكن لا يستحيي من الحق: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26]، فالله لا يستحيي من الحق حتى ولو كان الأمر أن يضرب لكم المثل بالبعوضة، والبعوضة خلق من خلق الله لا تقدر أن تخلق مثلها، فالله الذي خلقها، وهو يضرب المثل بالشيء الذي خلقه، وكل خلق الله سبحانه وتعالى عظيم. إذا تفكرتم وتدبرتم وتأملتم علمتم لم ضرب الله عز وجل المثل بالبعوضة أو بالذبابة، والمتأمل يعرف أن ذكر هذا الشيء فيه معجزة من المعجزات، فمثلاً قال الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73]، الطالب: الذي يطلب الذباب ضعيف، والمطلوب: وهو الذباب أضعف منه، فإذا أخذ الذباب شيئاً بفمه فإنه ينزل منه سائل يحوله إلى شيء آخر، فمستحيل أن ترجع ما أخذه الذباب. وضرب الله المثل بالبعوضة، وفيها آيات من آيات الله، تدخل إبرتها في جسم الإنسان وتسحب منه الدم، وترى في الظلام، فمعها أشعة فوق بنفسجية أو تحت الحمراء ترى بها في الظلام العرق الذي تسحب منه الدم، فالبعوضة أنت لا تهتم بشأنها، والله لا يستحيي أن يضربها مثلاً، فالبعوضة شيء عظيم من خلق الله سبحانه وتعالى، فهي تفعل هذا الشيء الذي لا تقدر أنت على مثله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26]. إذاً: ربنا في أمر الحق في الإرشاد في الدعوة إليه لا يستحيي، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم يدل على الحق ولا يستحيي من ذلك، ولما استحيا مرة عاتبه الله عز وجل، قال الله: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} [الأحزاب:37]، فالله أوحى إلى نبيه أن زينب رضي الله عنها زوجة زيد بن حارثة سيطلقها زوجها، ثم أنت ستتزوجها، وزيد ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أريد أن أفارقها، فقال له: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:37] وهو يعلم أن الله قد ذكر له أنه سيطلقها.

معنى قوله تعالى (وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب)

معنى قوله تعالى (وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب) قال الله سبحانه: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53]. أمر الله زوجة النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون من وراء الستر، ويأتي من يريد أن يسأل شيئاً من وراء حجاب، ولا تكون أمامه بحجابها، بل تخاطبه من وراء ساتر. وقوله: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا} [الأحزاب:53] يعني: متاعاً من متاع البيت، أو إنسان يسألها سؤالاً في من الأحكام الشرعية. فقوله: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا} [الأحزاب:53] أي: ما يتمتع به من العواري، وقيل: الفتوى. وقوله: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53] أي: هذا الحجاب الذي يضرب بينكم وبين نساء النبي صلى الله عليه وسلم أطهر لقلوب المؤمنين، فلا يحدث أحد نفسه بشيء، ولا يمنيها بشيء، وكذلك أطهر لقلوب نساء النبي صلوات الله وسلامه عليه، وهن اللاتي طهرهن الله، قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب:33]، فإذا كانت الطاهرات المطهرات أمرن بذلك، فغيرهن من باب أولى أن يأمرن بالتحجب والاستتار. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الأحزاب [53 - 55]

تفسير سورة الأحزاب [53 - 55] لقد أنزل الله آية الحجاب، وبين الحكمة منه، وأن فيه طهارة للقلوب، وصوناً للأعراض، وبين من يجوز للنساء أن يظهرن عليه من محارمهن ونسائهن وما ملكت أيمانهن.

أدب التعامل مع البيت النبوي

أدب التعامل مع البيت النبوي بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا * إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب:53 - 54]. يذكر الله تبارك تعالى في هاتين الآيتين من سورة الأحزاب للمؤمنين أدباً من الآداب مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع غيره أيضاً، فهو أدب الدعوة إلى الطعام، فإذا دعي إنسان إلى بيت للطعام سواء عند النبي صلى الله عليه وسلم أو عند غير النبي صلى الله عليه وسلم فعليه أن يتأدب بهذه الآداب. قال الله هنا: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [الأحزاب:53]، وقال في آية أخرى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27]. فأمر الله المؤمن ألا يدخل بيت النبي حتى يدعى إلى طعام، وبيت النبي صلى الله عليه وسلم بيت صغير، وكان له تسعة بيوت هي تسع غرف، لكل امرأة من نسائه بيت من البيوت، فيصعب أن يدعو أناساً فيدخلون ويضيقون على النبي صلى الله عليه وسلم المكان الذي هو فيه، ويضيقون على زوجه عليه الصلاة والسلام، فأمرهم الله أن يلتزموا الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا دعوا إلى طعام فليأتوا في وقت الإطعام ليأكلوا، ولا يمكثون عند النبي صلى الله عليه وسلم لا لسؤال ولا لحديث ولا لغيره. قال: {وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} [الأحزاب:53] والاستئناس للحديث أن الإنسان يستشعر الانبساط من صاحب البيت فيستأنس منه، وهذا من أدب صاحب البيت، والنبي صلى الله عليه وسلم كان عظيم اللطف بأصحابه، ولعل لطفه هذا صلوات الله وسلامه عليه كان يطمعهم في المكث وفي الكلام معه، فربنا أدبهم ألا يطمعوا في هذا الشيء، فلا يطيلوا الجلوس في بيت النبي صلى الله عليه وسلم فيؤذوا النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، فإذا طعمت فاخرج وانصرف. وكذلك في الدخول إلى بيوت غير بيوتكم، {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27] فتدخل إلى البيت بإذن، فتستشعر الأنس من صاحب البيت وأنه راض بدخولك عنده، فإذا سلمت واستأذنت وشعرت بالأنس من صاحب البيت دخلت، فإذا طعمت وانتهت الضيافة فاخرج ولا تمكث، فمن أدب الضيف أنه لا يحل له أن يمكث في بيت مضيفه حتى يؤثمه أو حتى يحرجه. قال الله سبحانه: {إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [الأحزاب:53]. (إناه) بمعنى: وقت النضج، أي: لا تنتظروا إلى أن يطبخ الطعام، ولكن ادخلوا في وقت الأكل وليس في وقت طبيخه. {وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا} [الأحزاب:53] يعني: بإذن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أذن لكم فادخلوا. {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} [الأحزاب:53] أي: لا تمكثوا عند النبي صلى الله عليه وسلم. {وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} [الأحزاب:53] يعني: لا تستأنسوا بالكلام مع النبي صلى الله عليه وسلم، فإن حديثه الطيب الجميل يطمعك أن تمكث عنده، وهذا من أدبه عليه الصلاة والسلام، لكن على الضيف أن ينصرف بعد الأكل. {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ} [الأحزاب:53] يعني: المكث عنده في بيته صلى الله عليه وسلم، فالإطالة والسؤال والكلام والاستئناس كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يضيق عليه مكانه. {فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ} [الأحزاب:53] أي: يستحيي أن يقول للناس: اخرجوا، ففي عرسه صلى الله عليه وسلم بالسيدة زينب، دعا الناس وليس له إلا غرفة واحدة، وجلست فيها السيدة زينب مقبلة بوجهها إلى الجدار، وهذا قبل نزول الحجاب، فبقي أناس بعد الأكل يتكلمون عند النبي صلى الله عليه وسلم، حتى تضجر صلى الله عليه وسلم، فقام وخرج خارج الحجرة لعلهم يستشعرون ذلك ويخرجون، فما فهموا بل بقوا قاعدين، فرجع ودخل ثم خرج صلى الله عليه وسلم حتى يخطر ببالهم، فلم يفهموا، ثم مرة ثالثة، وفي الأخيرة انتبهوا فقاموا وانصرفوا، وأرخي النبي صلى الله عليه وسلم الستر بينه وبين أنس بن مالك رضي الله عنه، وكان صغيراً. وهنا جاء كلام الله سبحانه تأديباً للجميع، فقال الله سبحانه: {وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53]، يعني: من ساعة نزول آية الحجاب إذا أردتم سؤال نساء النبي صلى الله عليه وسلم حاجة أو معونة من المعونات، فليكن هذا من وراء حجاب، وليس لكم أن تتكلموا معهن مباشرة، ولكن لا بد من وراء ساتر. قال: {فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ} [الأحزاب:53] وهذا الأمر العظيم الذي أمركم الله سبحانه وتعالى، وهذا الأدب الجم الذي فيه هذه الآية: {أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53]. لاحظ أن الله سبحانه يتكلم عن نساء النبي صلى الله عليه وسلم التي قال الله عز وجل لهن: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33]، فأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم يريد الله أن يطهرهن، وأن يذهب عنهن الرجس سبحانه وتعالى بهذه الآداب حين يلتزمنها، فيؤدبهن الله سبحانه ويطهرهن، وقد فعل ذلك سبحانه، فهن الطاهرات المطهرات رضي الله تبارك وتعالى عنهن. ومع ذلك أمر الناس فقال: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53] لأن الإنسان عند كلامه المباشر مع المرأة قد يطمع فيها، وقد تطمع المرأة في الرجل، فإذا كان هذا مع نساء النبي صلى الله عليه وسلم اللاتي عصمهن الله سبحانه، وحفظهن بسبب أنهن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم؛ فمع غيرهن اللاتي فيهن مطمع من باب أولى. فنساء النبي صلى الله عليه وسلم لا طمع لأحد أن يتزوج واحدة منهن، فالمرأة التي يطمع الإنسان في الزواج بها من باب أولى أن تؤمر بالتستر عنه، ويتكلم معها من وراء حجاب، حتى لا يطمع الرجل في المرأة. قال الله سبحانه: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53] ذلكم أطهر لقلوب الرجال، وأطهر لقلوب النساء.

تفسير قوله تعالى: (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله)

تفسير قوله تعالى: (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله) قال تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} [الأحزاب:53] عصم الله رسوله صلى الله عليه وسلم وعصم نساءه أن يؤذى فيهن صلوات الله وسلامه عليه. قال: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} [الأحزاب:53] فحرم الله عز وجل على المؤمنين أن يتزوج أحدهم زوجة من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم إذا توفي عنها النبي صلى الله عليه وسلم، وكأن الآية نزلت في سبب تحديث بعض المنافقين نفسه بذلك، وقد حدث بعضهم غيره بذلك، فقال بعض المنافقين: ما بال محمد يتزوج من نسائنا، والله لئن مات محمد لنتزوجن نساءه! فهذا المنافق -لعنة الله على المنافقين- يمني نفسه أنه عندما يموت النبي عليه الصلاة والسلام فسيتزوج من نسائه، فنزلت هذه الآية تفضح هذا المنافق، وتحذر المؤمنين بأن هؤلاء نساء النبي صلى الله عليه وسلم هن أمهات المؤمنين، وليس لإنسان أن يتزوج أمه. قال: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} [الأحزاب:53] بأن يتكلم أحدكم أو يحدث نفسه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بأن يتزوج واحدة من نسائه صلى الله عليه وسلم. {وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} [الأحزاب:53] هذه حرمة مؤبدة، فزوجة النبي صلى الله عليه وسلم إذا توفي عنها فهي محرمة أبداً على جميع المؤمنين. {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب:53] يعني: لو حدث ذلك وحاشا نساء النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون حدث منهن ذلك. قوله سبحانه: {إِنَّ ذَلِكُمْ} [الأحزاب:53] يعني: أذى النبي صلى الله عليه وسلم أو نكاح أزواج النبي صلى الله عليه وسلم {كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب:53].

تفسير قوله تعالى: (إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليما)

تفسير قوله تعالى: (إن تبدوا شيئاً أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليماً) قال الله سبحانه: {إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب:54]. هذا تحذير من الله لعباده، فأين تذهب من الله سبحانه وتعالى؟ فمن أبدى ما في ضميره وما في قلبه فتكلم به، أو أخفى هذا الشيء وأكنه كهذا المنافق الذي تكلم بهذا الشيء وأسره لمن حوله، فإن الله قادر أن يفضحه، ويحذر الله المؤمنين أن يقولوا كما قال. {إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ} [الأحزاب:54] إذا أبديتم ما في النفس، أو أخفيتم ما في النفس وأسررتموه، {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب:54] ما قال: إن الله كان بهذا الذي أخفيتموه أو هذا الذي أعلنتموه، بل هو عليم بكل ما أخفيتم وما أعلنتم، ما أسررتم وما جهرتم، من صوت من كلام من حديث نفس من نية من شيء مرئي أو شيء مخفي كل شيء الله عز وجل عليم به سبحانه وتعالى، ففيها المدح لله سبحانه بأنه يعلم كل شيء، وفيها التحذير والتخويف للخلق من النية السيئة، ومن حديث النفس الذي يمني الإنسان بما لا يجوز له أن يفعله، {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب:54].

تفسير قوله تعالى: (لا جناح عليهن في آبائهن)

تفسير قوله تعالى: (لا جناح عليهن في آبائهن)

معنى قوله: (لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن)

معنى قوله: (لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن) ذكر الله سبحانه الحجاب في هذه الآيات، بأن تحتجب المرأة فتستتر بثيابها من رأسها إلى أخمص قدميها، وحجاب زائد على هذا وهو أن تحجب شخصها حتى لا يرى، فتكون ستارة بينها وبين الناس، فهذا الحجاب الثاني خاص بنساء النبي صلوات الله وسلامه عليه زيادة في الحيطة وزيادة في الاحتراز والتفضيل لهن، وكأن أقرباء نساء النبي صلى الله عليه وسلم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم: وهل نحن كذلك؟ يعني: الخطاب هو لأمهات المؤمنين، فمنع الله عز وجل المؤمنين أن يسألوا نساء النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً إلا من وراء حجاب، أما الأقارب من الآباء والأبناء والإخوة؟ فأنزل الله سبحانه فيهم: {لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} [الأحزاب:55]. فلا جناح على نساء النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن أولى، فالآباء، والأبناء والإخوة وأبناء الإخوة وأبناء الأخوات وكذلك النساء اللاتي يدخلن عليهن وملك اليمين لا جناح عليهن في ذلك. والله عز وجل ذكر الأب، والمقصود الأب وإن علا، فيدخل الجد وأبوه وهكذا، سواء كان الجد من ناحية الأب، أو من ناحية الأم، فهؤلاء يجوز لهم أن يدخلوا على النساء ويجلسوا معهن، والمرأة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم تحتجب بشخصها من غير هؤلاء، وغير نساء النبي صلى الله عليه وسلم تحتجب باللباس من غير هؤلاء. فالأب يرى ابنته وهي في ثياب مهنتها أو في ثياب البيت، فيجوز أن يرى وجهها وشعرها ورقبتها وذراعها ورجليها، لكن عليها أن تستر منه صدرها، وبطنها، وركبتيها، ونحو ذلك، ومثل الأب مع ابنته الابن والأخ وغيرهما من محارمها. قوله: {وَلا أَبْنَائِهِنَّ} [الأحزاب:55] والمقصود الابن وإن نزل، أي: الابن وابن الابن والبنت وبنت الابن وبنت البنت وابن البنت وهكذا إن نزلوا، فهؤلاء كلهم أبناء، فلا جناح عليهن في ذلك.

معنى قوله: (ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن)

معنى قوله: (ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن) قوله: {وَلا إِخْوَانِهِنَّ} [الأحزاب:55] فالأخ يدخل على أخته ويجلس معها وهي في ثياب بيتها ولا شيء في ذلك، لا جناح يعني: لا حرج ولا إثم. {وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ} [الأحزاب:55] فأبناء الإخوة وأبناء الأخوات يجوز لهم أن يجلسوا معها وهي في ثياب مهنتها وفي ثياب بيتها. وفي الآية إشارة إلى جواز جلوس المرأة مع عمها وخالها وهي بثياب بيتها ومهنتها، وهذا قول جمهور العلماء. وذهب بعض أهل العلم إلى أن المرأة تستتر أمام غير من ذكر الله عز وجل هنا، فقالوا: تستتر من عمها، وخالها، وعللوا ذلك بعلة ضعيفة، فقالوا: العم والخال قد يصف هذه البنت لابنه، وابنه لا يجوز له أنه ينظر إليها. وهذه العلة منتقضة بما ذكره الله عز وجل هنا من ابن الأخ وابن الأخت. فالصواب: أن العم والخال يجوز له أن يجلس مع بنت أخته أو مع ابنة أخيه ولا شيء في ذلك، والآية فيها إشارة إلى هذا الشيء. وقد جاء في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عم الرجل صنو أبيه)، فالعم منزلته منزلة الأب، فهو من أولياء المرأة، والخال هو أخو الأم، وقد يكون وارثاً في بعض الأحوال ففي الحديث: (والخال وارث من لا وارث له)، فهو رحم للمرأة، والخالة بمنزلة الأم للمرأة، فالقول بأن الخال لا يجوز له أن ينظر إلى ابنة أخته، أو العم لا يجوز له أن ينظر إلى ابنة أخيه، هذا قول ضعيف. وفي القرآن ما يدل على أن العم بمنزلة الأب، وذلك في وصية يعقوب: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:133]، فقالوا: {وَإِلَهَ آبَائِكَ} [البقرة:133] أي: آباء يعقوب، والمقصود: إبراهيم وإسماعيل وإسحاق عليهم الصلاة والسلام، فإبراهيم جده، ووصفه بأنه أب، وإسماعيل عمه وليس أباه، وجعله من الآباء، وإسحاق هو أبو يعقوب.

معنى قوله تعالى (ولا نسائهن)

معنى قوله تعالى (ولا نسائهن) قال سبحانه: {وَلا نِسَائِهِنَّ} [الأحزاب:55] أي: النساء المؤمنات. فإذا كانت المرأة فاسقة يخشى منها عند دخولها أن تتطلع وتخرج فتحدث، فيجب أن تستتر المرأة منها، فالمرأة المؤمنة هي التي تدخل على المرأة؛ فإذا كانت المرأة التي تدخل عليها مشهورة بالفجور، أو مشهورة بالكلام في ذلك، وأنها تطلع على العورات وتخرج فتحدث بما رأت؛ فهذه لا تجلس معها، بل تستتر منها حتى لا تصفها، لكن الأصل أن المرأة تدخل مع المرأة وتجلس معها، ويجوز أن تنظر إلى ما عدا العورة منها، وهي من السرة إلى الركبة بالنسبة للمرأة مع المرأة. وأخذ بعض أهل العلم من قوله سبحانه: {وَلا نِسَائِهِنَّ} [الأحزاب:55] أن المقصود نساء المؤمنات، وأنه احتراز من نساء الكافرات، فقالوا: لا يجوز للمرأة المؤمنة أن تجلس مع المرأة الكافرة، بل تستتر وتحتجب منها. وهذا القول فيه نظر، والصواب خلافه؛ لأن السيدة عائشة رضي الله عنها كانت تدخل إليها امرأة يهودية، ولم يذكر الرواة في الحديث أن السيدة عائشة كانت تحتجب منها، ولو كانت تحتجب منها لعلمنا ذلك من رواة هذا الخبر. وفي الحديث أن امرأة يهودية دخلت على عائشة وقالت لها: (تعوذي بالله من عذاب القبر)، فقالت: أو في القبر عذاب؟ وكان إلى ذلك الحين لم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم أن في القبر عذاباً، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: (إنما تعذب اليهود) ثم أوحى الله عز وجل إليه يعلمه بأن في القبر عذاباً، وأنه يكون حفرة من حفر النيران أو روضة من رياض الجنة، فعلم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وعلم أمته. فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: لـ عائشة: احتجبي منها، فيكون قوله تبارك وتعالى: {وَلا نِسَائِهِنَّ} [الأحزاب:55] على الغالب، فإنه في الغالب لا يدخل على المؤمنة من النساء إلا النساء المؤمنات، لكن إذا كانت المرأة مشهورة بالفجور ومعروفة بكثرة الكلام، وأنها تدخل وتنظر وتخرج فتحدث الرجال، فلا تدخل هذه المرأة على النساء لئلا تكشف عوراتهن.

معنى قوله (ولا ما ملكت أيمانهن)

معنى قوله (ولا ما ملكت أيمانهن) قوله تعالى: {وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [الأحزاب:55]. قوله: (ما ملكت) هذه من ألفاظ العموم، يعني: كل ما ملكت المرأة من رجال أو من نساء. وجاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على بنته السيدة فاطمة رضي الله تبارك وتعالى عنها وكانت هي وعلي بن أبي طالب وعبد للسيدة فاطمة، وكانت السيدة فاطمة في ثوب لا يستر جميعها، فإذا رفعت الثوب لتستر وجهها انكشفت قدماها، وإذا أرادت أن تستر قدميها انكشف وجهها، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قال: (لا حرج عليك، إنما هو أبوك وزوجك وعبدك). فدل على ما في هذه الآية أن المرأة إذا ملكت عبداً جاز لهذا العبد أن يدخل على سيدته؛ لأنه صار من أهل البيت، فيأخذ منها ويعطيها، وتحدثه، ويجوز له أن يرى وجهها وما بدا منها كأنه من أهل البيت. لكن لا يجوز لها أن تمكن هذا العبد أن يطأها بملك اليمين، وهذا بإجماع أهل العلم.

أمر الله لنساء نبيه بتقواه

أمر الله لنساء نبيه بتقواه قال الله عز وجل: {وَاتَّقِينَ اللَّهَ} [الأحزاب:55]. أمر الله عز وجل نساء النبي صلى الله عليه وسلم -وغيرهن من باب أولى- بتقوى الله سبحانه في أمر الاستتار؛ لأن المرأة قد تتنزل في هذا الشيء، وتستسهل أن ينكشف منها شيء، والمرأة إذا لم تذكر لعلها تتغافل عن هذا الشيء، ولعلها تلبس الحجاب ولا تستتر به الاستتار الذي أمر الله؛ فقال الله عز وجل: {وَاتَّقِينَ اللَّهَ} [الأحزاب:55]. أي: احذرن من غضب الله سبحانه وتعالى، فالمرأة تستسهل الأمر إن لم يكن عليها رقيب، وإن لم يكن عليها من يأمرها بالمعروف وينهاها عن المنكر. قال الله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} [الأحزاب:55]، وقال في الآية التي قبلها: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب:54]، فالله يشاهد كل شيء، ويشهد على كل شيء، وكفى بالله شهيداً؛ فإذا كان هو الشهيد وهو الحكم سبحانه وتعالى فهو يحكم على عبده ولا يقدر العبد أن ينكر شيئاً. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الأحزاب الآية [56]

تفسير سورة الأحزاب الآية [56] للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فضل عظيم، وقد أمر الله تعالى بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ومن المواطن التي تجب فيها الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: التشهد، وفي غير ذلك تكون الصلاة مستحبة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور أعياداً وموالد؛ لأن ذلك وسيلة إلى الشرك بالله تعالى.

تفسير قوله تعالى: (إن الله وملائكته يصلون على النبي)

تفسير قوله تعالى: (إن الله وملائكته يصلون على النبي)

فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا * إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا * وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب:56 - 58]. يأمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والتسليم عليه، ويخبر أنه سبحانه يصلي على النبي عليه الصلاة والسلام، وأن ملائكة الله كذلك يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرنا أن نقتدي بذلك، وأن نصلي عليه وأن نسلم تسليماً صلوات الله وسلامه عليه. فهنا قال الله تعالى وأخبر عن نفسه: ((إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ)). وإن صلاة الله سبحانه وتعالى على نبيه صلوات الله وسلامه عليه بمعنى الرحمة وبمعنى الثناء الحسن الجميل، فالله يمدح نبيه صلى الله عليه وسلم ويثني عليه ويرحمه سبحانه وتعالى. فإذا كان الله جل جلاله صلى على النبي صلى الله عليه وسلم فلا يحتاج إلى أحد أن يصلي عليه، ويكفيه صلاة ربه سبحانه عليه، وإخباره سبحانه بأن الملائكة أيضاً تصلي عليه صلى الله عليه وسلم تشريف له صلى الله عليه وسلم. والملائكة لا يعلم عددهم إلا الله فهم أعداد كثيرة جداً، وقد حدث النبي صلى الله عليه وسلم عمن يزورون البيت المعمور في السماء كل يوم، إذ يحج إلى هذا البيت المعمور سبعون ألفاً ولا يرجعون إليه، وذلك منذ خلقه الله سبحانه وتعالى حتى تقوم الساعة. فالملائكة أعداد لا تحصى، ولا يستطيع الإنسان أن يتخيل عدد الملائكة، وكل ملائكة الله عز وجل يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم فلا يحتاج إلى صلاة البشر عليه الصلاة والسلام. فالإنسان حين يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يثاب على ذلك، فعندما يصلي مرة يصلي الله عز وجل عليه عشراً كما سيأتي في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم فيستحق شفاعته عليه الصلاة والسلام يوم القيامة.

مواطن وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ومواطن استحبابها

مواطن وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ومواطن استحبابها أمرنا الله عز وجل أن نصلي عليه لننتفع نحن، والأمر على الوجوب، فتجب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إجمالاً. وتنفيذاً لهذه الآية {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] ذكر العلماء أنه تجب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ولو مرة واحدة. ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم كذلك في الصلاة، وذلك عندما سأل الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! قد علمنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد). فعلمهم كيف يصلون، ولما سألوه كيف نصلي؟ قال: (قولوا)، والله عز وجل قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]. إذاً: هذا أمر من الله وأمر من نبيه صلى الله عليه وسلم في الصلاة عليه. إذاً: إجمالاً يجب على المؤمنين أن يصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم. فإذا قيل: أي المواطن التي تجب فيها الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؟ ف A في الصلاة، فالإنسان في التشهد يقرأ التشهد ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم. وفي غير ذلك تكون الصلاة عليه مستحبة، ويكفي ذم النبي صلى الله عليه وسلم من ذكر عنده فلم يصل عليه، قال: (البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي) صلوات الله وسلامه عليه.

ذكر أحاديث في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

ذكر أحاديث في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والأحاديث التي وردت في فضل الصلاة عليه قد ذكرناها في كتاب الدعوات، وهي أحاديث كثيرة وعظيمة وجليلة، والذي يقرأ الأحاديث يشتاق للصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، لما في الصلاة عليه من ثواب عظيم عند الله. فمن الأحاديث التي وردت ما رواه الترمذي من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ثلث الليل قام فقال: يا أيها الناس اذكروا الله فقد جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه). فقوله: إذا ذهب ثلث الليل، أي: إذا ذهب الثلثان وبقي الثلث الأخير من الليل. وقد كان صلى الله عليه وسلم يقوم يصلي من الليل ما شاء، وينادي في الناس ليصلوا من الليل قال أبي بن كعب: (قلت يا رسول الله! إني أكثر الصلاة عليك -عليه الصلاة والسلام- فكم أجعل لك من صلاتي؟ فقال: ما شئت. قال: قلت الربع؟ قال: ما شئت فإن زدت فهو خير لك. قال: قلت النصف؟ قال: ما شئت فإن زدت فهو خير لك. قال: قلت فالثلثين؟ قال: ما شئت فإن زدت فهو خير لك). ومعنى ذلك أن يكثر من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم) كما علمنا النبي صلى الله عليه وسلم. يقول: (كم أجعل لك من صلاتي)، أي: كم أجعل لك من دعائي، عندما أجلس أدعو لنفسي وأدعو لفلان وأدعو لفلان، وأدعو للناس وأصلي عليك، وأجعل قدراً من الدعاء لك أنت يا رسول الله، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ما شئت حتى وصل إلى الثلثين فقال: (أجعل لك صلاتي كلها؟) إذاً: كل دعائي صلاة عليك! فقال صلى الله عليه وسلم: (إذاً: تكفى همك ويغفر لك ذنبك). وكأن أبي رضي الله عنه يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: (إني أنشغل عن الدعاء بكثرة الصلاة عليك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذاً: تكفى همك). إن الإنسان إذا صلى على النبي صلى الله عليه وسلم يكشف الله عنه الهم، ويغفر له ذنبه، فإذا كان جل أو كل دعائه صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كفاه الله عز وجل ما أهمه وغفر له ذنبه. ومن الأحاديث الواردة في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم حديث لـ عبد الله بن عمرو بن العاص، وهذا الحديث رواه مسلم في صحيحه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول ثم صلوا عليَّ، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة؛ فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله). إذاً: هي درجة عالية في الجنة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (سلوا الله لي الوسيلة) أي: أن أكون صاحب هذه المنزلة العظيمة عند الله سبحانه. قال: (وأرجو أن أكون أنا هو) أي: أرجو أن أكون أنا هذا العبد الذي له هذه المنزلة، وسيكون هو صلوات الله وسلامه عليه قال: (فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة) أي: من سأل للنبي صلى الله عليه وسلم هذه المنزلة العظيمة التي لا تكون إلا لعبد واحد من عباد الله من بين خلقه جميعاً حلت له شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم. ومن الأحاديث الواردة في فضل الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم ما رواه الترمذي من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيهم صلى الله عليه وسلم فيه إلا كان عليهم ترة، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم). (ما جلس قوم) أي: قوم من المسلمين لم يجلس هؤلاء القوم (مجلساً) أي: مجلس بيع أو مجلس شراء، أو مجلساً في المسجد، أو في بيت، أو مجلس في طريق، أي مجلس جلس فيه الناس. (ولم يذكروا الله عز وجل فيه ولم يصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم فيه إلا كان عليهم ترة) أي: كان حسرة عليهم يوم القيامة. قال: (فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم) فانظر إلى اجتماع الناس في مجلس من المجالس، إما أن يجتمعوا على ذكر الله وإما على اللهو واللعب، فإذا كان اجتماعهم ليس فيه ذكر لله وليس فيه صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا المجلس يستحقون أن يلاموا عليه. والغالب أن هذه المجالس تخلو من ذكر الله، فإذا خلت من ذكر الله سبحانه كان فيها ذكر الشياطين، وكان فيها ذكر اللهو واللغو واللعب، وكان فيها الغيبة والنميمة والبهتان والزور، فإذا كان كذلك استحقوا عذاب الله سبحانه وتعالى، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم. ومن الأحاديث الواردة في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم حديث رواه الترمذي أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي) عليه الصلاة والسلام. (رغم) من الرغام، والرغام: التراب، وكأنه يدعو على الإنسان أن أنفه تكون في أذل ما يكون، تكون أنفه في التراب، فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم بالذل، وهذا دعاء على الإنسان الذي يذكر أمامه النبي صلى الله عليه وسلم فلا يصلي عليه. وقال صلى الله عليه وسلم: (رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي، ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له) نسأل الله عز وجل أن يبلغنا رمضان وأن يغفر لنا سبحانه. (ورغم أنف رجل أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما فلم يدخلاه الجنة) فهؤلاء جميعاً رغمت أنوفهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يدعو عليهم بالذل في الحياة الدنيا. فإذا كان الإنسان يذكر أمامه النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينشرح صدره ولا يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم فهو إنسان بخيل يستحق أن يذله الله سبحانه وتعالى. ومن الأحاديث الواردة في ذلك حديث رواه الترمذي أيضاً عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي) عليه الصلاة والسلام. كذلك حديث رواه أبو داود عن فضالة بن عبيد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه جل وعز والثناء عليه، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو بعد بما شاء) فهذا فضالة بن عبيد يذكر: أنه سمع من النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى، فذكر أنه قال: (إذا صلى أحدكم) أي: إذا بدأ أحدكم يدعو فليتمهل في الدعاء، بأن يحمد الله سبحانه في البداية، ثم يثني عليه، ثم يمجده، وبعد ذلك يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يسأل الله عز وجل ما شاء من طلب. ومن الأحاديث الواردة في ذلك حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام). (إن لله ملائكة سياحين) يسيحون في الأرض شمالاً ويميناً، ويسمعون من الناس الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ويبلغون النبي صلى الله عليه وسلم هذه الصلاة. وورد في حديث رواه الإمام النسائي من حديث أبي طلحة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني ملك فقال: يا محمد إن ربك يقول: أما يرضيك أن لا يصلي عليك أحد إلا صليت عليه عشراً، ولا يسلم عليك أحد إلا سلمت عليه عشراً) وهذا فضل عظيم في الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم. وكل ما ذكرناه أحاديث صحيحة. ومنها حديث رواه النسائي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه عشر صلوات، وحطت عنه عشر خطيئات، ورفعت له عشر درجات) فصلاة واحدة على النبي صلى الله عليه وسلم فيها هذا الفضل كله: أن الله عز وجل يصلي عليه ويرحمه عشر مرات، ويحط عنه عشر خطيئات، ويرفع له عشر درجات. حديث آخر رواه أبو داود عن أوس بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل يوم الجمعة قال: (فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي). إذاً: يوم الجمعة بالأخص تعرض الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. ومن الأحاديث الواردة في ذلك حديث رواه أبو داود عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام). وهذه فضيلة عظيمة جداً، فالذي يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم تبلغ الملائكة النبي صلى الله عليه وسلم سلامه، فيرد النبي صلى الله عليه وسلم عليه سلامه عليه. كذلك في حديث رواه أبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم). (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً) أي: لا تجعلوها كالقبور خالية من الصلاة، فقد نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في القبور، ولا يجوز لإنسان أن يذهب إلى المقبرة فيصلي فيها صلاة الظهر أو صلاة العصر، فإذا ترك صلاة النافلة في البيت كأنه جعل البيت كالمقبرة، وكما أن المقبرة لا يصلى فيها فكذلك البيت الذي لا يصلى فيه صار كالمقبرة.

النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن اتخاذ القبور أعيادا وموالد

النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن اتخاذ القبور أعياداً وموالد يقول صلى الله عليه وسلم: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً) نهى أن يجعل القبر عيداً من العادة والاعتياد على الشيء، كأن الإنسان يذهب إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فيجتمع الناس حوله للجلوس حول القبر للدعاء هنالك، وبذلك يعظم الناس القبر فيرجعون لأمر الجاهلية من تعظيم للقبور ومن تعظيم للأحجار وغير ذلك، فقال: (لا تجعلوا قبري عيداً)، فإذا كان هذا قبره صلى الله عليه وسلم يقول فيه: (لا تجعلوا قبري عيداً) فكيف بقبر غيره؟! والناس في هذا الزمان يعملون الموالد للقبور، كمولد أبي العباس، ومولد البدوي، ومولد كذا ومولد كذا، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يجعل قبره عيداً عليه الصلاة والسلام، فقال: (لا تجعلوا قبري عيداً) فغيره محظور عليه ذلك من باب أولى. قال: (وصلوا علي) أي: أكثروا من الصلاة علي. إذاً: ينبغي للإنسان أن لا ينشغل بأمر القبر، ولا يتوجه لقبر النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو: يا رب يا رب، فإن هذا غير جائز، ولكن إذا أراد أن يدعو يتوجه إلى القبلة ويدعو ربه سبحانه وتعالى، ولا يسأل النبي صلى الله عليه وسلم بعدما مات وإنما يسأل الله عز وجل الحي الذي لا يموت. قال: (وصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم). إذاً: لا تنشغل بأن تذهب إلى قبره صلى الله عليه وسلم حتى تصلي عليه، ولكن في أي مكان أنت فيه صل عليه فصلاتك تبلغه، وليس المعنى: أنه لا يذهب إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، بل الزيارة مشروعة لمسجد النبي صلى الله عليه وسلم وشد الرحال إليه، فيذهب إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم يسلم عليه، فإذا أراد أن يدعو توجه إلى القبلة وليس إلى القبر. كذلك حديث رواه ابن ماجة عن عامر بن ربيعة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مسلم يصلي علي إلا صلت عليه الملائكة ما صلى علي) وهذه فضيلة أخرى؛ أنه مهما كنت تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم فالملائكة تصلي عليك وتدعو لك. قال: (فليقل العبد من ذلك أو ليكثر) أي: إذا أردت أن تُقِلَّ فأقل، وإذا أردت أن تكثر فأكثر من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

حكم المتغافل عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

حكم المتغافل عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال قائل: ما حكم الإنسان الذي يتغافل عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؟ ف A حكمه كما في الحديث الذي رواه ابن ماجة وهو حديث صحيح أيضاً عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نسي الصلاة علي خطئ طريق الجنة). فبعض الناس يذكر أمامه النبي صلى الله عليه وسلم فلا يصلي عليه ويتشاغل عن ذلك. فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول لهذا الإنسان: إن الله عز وجل يؤاخذ العبد على نسيانه، ولكن التغافل هذا كأنه نسيان متعمد. فمن الناس من تقول له: صل على النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول لك: دائماً تقول لنا ذلك، فهذا الإنسان الذي يتغافل عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كأنه نسيها فيخطئ طريقه إلى الجنة كما ذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم. وكما ذكر في الحديث الآخر: (من ذكرت عنده فلم يصل علي فدخل النار فأبعده الله) إن الإنسان الذي كان يذكر أمامه النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصلي عليه إذا كان حظه أنه دخل النار بسبب ذنوبه، فأبعده الله، فلا هو الذي في الدنيا عمل صالحاً يدخله الجنة، ولا هو الذي أكثر من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فتنفعه شفاعته إذا دخل النار أن يخرجه الله من النار إلى الجنة. كذلك ما جاء عن عمر رضي الله عنه قال: (إن الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء حتى تصلي على نبيك صلى الله عليه وسلم) فالإنسان إذا دعا لا يتعجل الإجابة، فليصل على النبي صلى الله عليه وسلم في أول دعائه وفي آخر دعائه وليكثر من ذلك، وهذا الدعاء جدير بأن يستجيبه الله سبحانه. نسأل الله عز وجل أن يصلي على نبيه صلى الله عليه وسلم ويسلم تسليماً كثيراً، وأن يستجيب دعاءنا، وأن يجعلنا من مرافقيه في الجنة صلوات الله وسلامه عليه. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

سبأ

تفسير سورة سبأ [1 - 2] الله سبحانه وتعالى يستحق الحمد والثناء الجميل لما له من الأسماء الحسنى والصفات العلى، والأفعال العظيمة، فهو مالك لما في السماوات والأرض وما بينهما، وهو واسع العلم، يعلم كل شيء يلج في الأرض أو يعرج منها، يعلم قدره ومستقره ومآله، وكذلك يعلم ما يعرج في السماوات من ملائكة وأعمال وما ينزل منها من ملائكة وغيث مدرار.

مقدمة بين يدي سورة سبأ

مقدمة بين يدي سورة سبأ الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. هذه السورة الرابعة والثلاثون من كتاب الله سبحانه وتعالى، وهي من السور المكية التي من خصائصها: التذكير بتوحيد الله سبحانه وتعالى، والتذكير بالبعث والنشور والكلام عن اليوم الآخر وما يكون فيه، والتذكير بآيات الله سبحانه التي أنزلها على نبيه صلوات الله وسلامه عليه وما فيها من حكم ومواعظ. كذلك فيها إثبات علم الله عز وجل المحيط، وأسباب صدق النبي صلوات الله وسلامه عليه فيما يخبر به من كتاب الله سبحانه وتعالى، ويشهد له بذلك الذين أوتوا العلم سواء من أهل الكتاب أو من المؤمنين الذين دخلوا في هذا الدين العظيم. كذلك يضرب الله عز وجل فيها الأمثال للناس لعلهم يتذكرون بما ذكر الله سبحانه وتعالى فيها من أسماء. هذه السورة في ترتيب المصحف هي الرابعة والثلاثون، وبحسب النزول ذكروا أنها نزلت بعد سورة الإسراء، فقد ذكر الله سبحانه في سورة الإسراء أن المشركين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم آيات فقال عنهم: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا} [الإسراء:90 - 91]. {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا} [الإسراء:92] فقالوا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فرد الله سبحانه تبارك وتعالى عليهم في هذه السورة فقال: {إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ} [سبأ:9] يعني: إن نشأ فعلنا بهم هذا الشيء الذي يطلبون على وجه الاستبعاد أنه لا يكون، ويظنون أنه لا يقدر عليه الصلاة والسلام، ويكذبونه ويجحدون بآيات الله عز وجل. وربنا يخبر أنه أخر عنهم ذلك حلماً ورحمة، لعل هؤلاء يتوبون إلى الله سبحانه وتعالى. وهي على ترتيب النزول السورة الثامنة والخمسون من كتاب الله عز وجل، وعدد آياتها أربع وخمسون عند جمهور من عد هذه السورة، وفي مصحف أهل الشام خمس وخمسون آية، وليس الخلاف في زيادة الآيات ونقصانها إنما الخلاف في موضع الوقف، فالعد الشامي اعتبر قول الله سبحانه وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ} [سبأ:15] آية، أما باقي القراء فأكملوا الآية على أنها آية واحدة وليست آيتين، وهكذا في كل ما جاء فيه خلاف في عد الآيات فهو في موضع الوقف وهل هو رأس آية أم لا؟

تفسير قوله تعالى: (الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض)

تفسير قوله تعالى: (الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض) هذه السورة العظيمة بدأها الله سبحانه وتعالى بحمد نفسه فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [سبأ:1] بدأ الله سبحانه وتعالى هذه السورة بالحمد، وليست السورة الوحيدة التي بدأها بذلك، فقد بدأ الفاتحة بحمد نفسه فقال: ((الحمد لله رب العالمين)). وفي سورة الأنعام قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1]. وفي سورة الكهف: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} [الكهف:1]. وفي سورة فاطر: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر:1] فهذه خمس سور في كتاب الله عز وجل بدأها بحمد نفسه، وكلها نزلت في مكة حين كان الكفار يدعون إلى كتاب الله فلا يستجيبون، ويذكرون بحكم الله سبحانه وأحكام الله، وما في كتابه من آيات ويعظهم النبي صلى الله عليه وسلم فلا يحمدون ربهم ولا يشكرون، فقال: (الحمد لله) فحمد نفسه وهو مستغني عن حمد الخلق. هذه السورة اسمها سورة سبأ، وتسمى السورة عادة إما بشيء يذكر فيها، أو بما جاء في أولها، أو نحو ذلك. فسميت بسورة سبأ باعتبار ذكر سبأ فيها، لكن من سبأ هذا؟ جاء في حديث عند الترمذي عن فروة بن مسيك المرادي قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: (يا رسول الله، ألا أقاتل من أدبر من قومي بمن أقبل منهم) يقول: إن قومي من بني مراد فيهم المسلمون، وفيهم الكفار فهل يجمع المسلمين ويقاتل بهم الكفار فقوله: (ألا أقاتل من أدبر من قومي) يعني: أعرض عن الإسلام. وقال: (بمن أقبل منهم) يعني: إلى دين الله عز وجل. قال: (فأذن لي في قتالهم) أي: وافقه النبي صلى الله عليه وسلم وأذن له في قتال الكفار. قال: (وأمّرني) أي: جعلني أميراً. قال: (فلما خرجت من عنده سأل عني: ما فعل الغطيفي؟ فأخبر أني قد سرت) يعني: سار من أجل أن يجمع قومه المؤمنين؛ ليقاتلوا الكفار. قال الرجل: (فأرسل في أثري فردني فأتيته وهو في نفر من أصحابه فقال: ادع القوم) يعني: قبل أن تبدأ بالقتال ادعهم إلى دين الله سبحانه وتعالى. قال: (فمن أسلم منهم فاقبل منه، ومن لم يسلم فلا تعجل حتى أحدث إليك) وهذا من رحمة النبي صلوات الله وسلامه عليه ألاَّ تتعجل في القتال، إذ ليس هو الغرض، وإنما القتال حتى يدخل الناس في دين الله سبحانه وتعالى، فالكفار قد يمنعون الناس من دخول دين الله فلا يصلح معهم إلا القتال. ولكن لعل المناسب لقومك الدعوة بالرفق؛ لذلك قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ادع القوم فمن أسلم منهم فاقبل منه) والذي لم يسلم؟ قال صلى الله عليه وسلم: (فلا تعجل حتى أحدث إليك) قال الرجل: (وأنزل في سبأ ما أنزل) يعني: نزلت سورة سبأ ونزل فيها ما نزل. وسورة سبأ عند جماهير المفسرين سورة مكية وهو الراجح وإن كان هذا الحديث يدل على نزولها في المدينة؛ لأن الرجل جاء النبي صلى الله عليه وسلم سنة تسع من الهجرة. لكن الراجح أن الرجل يخبر عن سماعه وليس عن إنزال هذه السورة، يعني: كأنه سمعها في هذا الوقت من النبي صلى الله عليه وسلم. قال: (فقال رجل: يا رسول الله وما سبأ؟) أي: هل سبأ أرض أم امرأة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس بأرض ولا مرأة ولكنه رجل ولد له عشرة من العرب) يعني: كان أبا عشر قبائل من العرب قال: (فتيامن منهم ستة وتشاءم منهم أربعة) تيامن: اتجه يميناً، وتشاءم: اتجه شمالاً، يعني: ذهب إلى أرض اليمن ستة، وإلى أرض الشام أربعة من أولاد سبأ، قال: (فأما الذين تشاءموا فلخم وجذام وغسان وعاملة) يعني: أربع قبائل من القبائل الموجودة في بلاد الشام وهي لخم وغسان وجذام وعاملة فهؤلاء من أولاد سبأ، فيكون أبا لعشر قبائل من العرب. قال: (وأما الذين تيامنوا فالأزد والأشعريون وحمير وكنده ومذحج وأنمار) فهؤلاء الذين ذهبوا إلى بلاد اليمن فهو أبوهم. فقال الرجل: (وما أنمار؟ قال: الذين منهم خثعم وبجيلة) فبين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن سبأ ليست أرضاً ولا امرأةً اسمها سبأ، ولكنه رجل أبو عشر قبائل من العرب جعل الله عز وجل في أولاده آية وعبرة كما سيأتي. وهذه السورة كعادة السور المكية فيها ذكر قصص القرآن للعظة والعبرة. فذكر لنا كيف أنه مكن لداود عليه الصلاة والسلام وآتى داود من عنده علماً، وكيف سخر لسليمان عليه السلام الريح، وكيف مات سليمان وقد سخر الله له الجن، وزعمت الجن أنها تعلم الغيب وكذبوا في ذلك، فلما مات سليمان لم يعرفوا موته، وظلوا مسخرين خائفين من سليمان وقد مات عليه الصلاة والسلام، وكان واقفاً على عصاه فترة طويلة وهم لا يعلمون موته. ثم أرسل الله عز وجل الأرضة تأكل عصاه فسقط سليمان فعلموا أنه كان ميتاً وتبين للجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين. فهذه حكمة من الله عز وجل أن يري عباده من آياته أنه يحيي من يشاء، ويميت من يشاء، وهو علام الغيوب سبحانه كما ذكر لنا في أول هذه السورة. كذلك ذكر قصة سبأ وكيف أغناهم الله وأعطاهم. وانظر إلى سليمان عليه الصلاة والسلام، وإلى سبأ وقصته: سليمان آتاه الله عز وجل العلم، وآتاه الملك والنبوة؛ فحمد الله سبحانه وتعالى وسخر له ربه ما يشاء فما ازداد إلا حمداً لله وشكراً وتواضعاً له سبحانه. أما قوم سبأ فأعطاهم الله عز وجل الجنات وأعطاهم العيون والبساتين والثمار حتى إنهم ليخرجون من أرضهم مسافرين إلى أرض أخرى، فيمر المسافر بقرية بعد أخرى فيجد عندهم طعامه وشرابه والدلالة على الطريق، وهذا من فضل الله عز وجل العظيم عليهم. فسليمان حمد الله سبحانه وأمر العباد بطاعة ربه، وهؤلاء كفروا وجحدوا نعمة الله ووصل بهم الأمر إلى البطر والغرور حتى قالوا: ربنا باعد بين أسفارنا، يعني نحن نريد سفراً نتعب فيه ونشقى فيه لكي نحس أنا قد سافرنا، فلما عصوا ربهم سبحانه وتعالى أرسل عليهم سيل العرم فدمر هذا كله، ولم يبق لهم من الجنات والبساتين شيئاً، وأبدلهم بالجنات أشجاراً ذوات أكل خمط مر وأثل وشيء من سدر قليل، قال سبحانه: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ:17] فلما كفروا ربهم سبحانه استحقوا ذلك وهي إشارة إلى هؤلاء الكفار إن أسلمتم فاقتديتم بسليمان وبنبينا صلوات الله وسلامه عليه كان لكم الخير من الله سبحانه وتعالى، وإذا أعرضتم فكنتم كقوم سبأ كانت عليكم العقوبة، ولن تعجزوا الله سبحانه وتعالى.

معنى قوله: (الحمد لله)

معنى قوله: (الحمد لله) بدأ الله عز وجل السورة بالحمد فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [سبأ:1]، الألف واللام للجنس يعني: جنس الحمد وكل الحمد له سبحانه وتعالى، فهو الذي يستحق الحمد على أسمائه الحسنى، وصفاته العلى، وأفعاله العظيمة الجميلة. والحمد بمعنى: الثناء الجميل على الله سبحانه لكماله وجلاله وجماله. كذلك الحمد يدخل تحته الشكر؛ لأنك تحمده سبحانه لأنه يستحق، وتحمده لأنه يعطي وينعم. فالحمد أعم من الشكر وأخص منه، فالحمد له سبحانه وتعالى والشكر يكون له ولغيره، فهو الذي يستحق الحمد على ما فيه من صفات جليلة وعظيمة وجميلة، وعلى ما أعطى خلقه من نعم. قال تعالى: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ)) اللام في (لله) للملك، يعني: الله يستحق هذا الحمد ويملكه وحده. ثم قال: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات)). يبين استحقاقه سبحانه للحمد بأنه هو الذي يملك ما في السماوات وما في الأرض فيكون الحمد له وحده. أما غيره فلا يملك شيئاً إلا عرضاً من الدنيا وليس ملكاً حقيقاً، وكل مخلوق يملكه الله عز وجل شيئاً يغتر بهذا الشيء، وذلك ليس ملكاً أبدياً، فإذا جاءت الوفاة انتقل إلى غيره، فكان مستخلفاً في الأرض، ويخلف الناس بعضهم بعضاً في هذه الأموال. قال سبحانه: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ)) أي: السماوات وما فوقها وما تحويها، والأرض وما فوقها وما تحتها وما فيها وكل ما بينهما يملكه الله سبحانه وتعالى. قال سبحانه: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَة} [سبأ:1] هذا من التفنن الجميل في كتاب الله عز وجل، فلم يكرر الحمد لله بنفس الصيغة، فلم يقل: الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض، والحمد لله الذي له ما في الآخرة، ولكن أتى بصيغة أخرى هي في موضعها غاية في الجمال، وتأمل في معناها، فالله سبحانه يستحق الحمد في الدنيا وفي الآخرة: في الدنيا قد يحمد المخلوق ربه سبحانه، وقد يثني على غيره كأن يكون إنسان أعطاه شيئاً فيشكره عليه ويحمده على ما فيه من صفات جميلة مثلاً. ولكن إذا جاءت الآخرة فلا يحمد أحداً، ولا يذكر أحد أحداً، فكل إنسان يقول: نفسي نفسي. قال تعالى: (وله الحمد) فقدم الجار والمجرور على الاسم للاختصاص، أي: أن هذا الحمد في الآخرة ليس له ولغيره بل له وحده لا شريك له، فيعرف الجميع المسلمون والكفار، الإنس والجان أنه وحده سبحانه الذي يستحق الحمد وأنه وحده الإله الذي لا شريك له. له الحمد في الآخرة فأهل الجنة يقولون: الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء. كذلك إذا دخلوا الجنة كان آخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين. وكلما أنعم عليهم بنعمة كان آخر ما يفرغون من نعمه العظيمة يقولون: الحمد لله رب العالمين.

معنى قوله: (الحكيم الخبير)

معنى قوله: (الحكيم الخبير) قال تعالى: {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [سبأ:1] هذان اسمان من أسماء الله الحسنى عظيمان، وكل أسمائه عظيمة سبحانه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة) أي: لله عز وجل من الأسماء تسعة وتسعون اسماً اختصت بأن من أحصاها دخل الجنة، وليس ذلك كل أسمائه سبحانه، بل له أسماء كثيرة، ولذلك جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك)، فله أسماء عظيمة كثيرة جليلة، ومن ضمن هذه الأسماء ما جاء في كتابه سبحانه تبارك وتعالى تسعة وتسعون اسماً من أحصاها دخل الجنة. وأحصاها بمعنى: حفظها وفهم معانيها ودعا الله عز وجل وسأله بمقتضى ما يعرف من أسمائه سبحانه، ففي كل نازلة تنزل بالعبد يسأل الله عز وجل بالاسم المناسب لهذه النازلة، فإذا أخطأ سأل ربه سبحانه أن يغفر له فهو الغفور، وسأله أن يعفو عنه فهو العفو، وإذا وقع في ضيق سأل ربه أن يفرج عنه ذلك فهو الرحيم الحنان المنان سبحانه، وهو الكريم فيطلب منه أن يرزقه ويعطيه من كرمه وفضله. والمقصود أن يستعمل أسماء الله عز وجل في كل مناسبة ما يليق بها من أسماء الله عز وجل، وهذا من معاني من أحصاها دخل الجنة. فذكر اسماً من أسمائه وهو الحكيم، أي: ذو الحكمة، فلا يخرج شيء عن علمه وحكمته، قدر كل شيء بعلمه، وكل شيء في موضعه بحكمته سبحانه وتعالى. وهو الحكيم لا يدخل في نظام كونه خلل ولا فساد. وهو الحكيم الذي كمل في حكمته، والحكيم صيغة مبالغة من الحكم فهو الحاكم والحكيم الذي يمضي حكمه ولا معقب لحكمه سبحانه. ومن معاني الحكيم: المحكم اسم فاعل، أي: المتقن الذي يحكم كل شيء يقوله أو يفعله، فهذا القرآن كتاب حكيم أحكمه الله تبارك وتعالى وأتقن فيه كل شيء، والكون أتقن الله صنعه فهو المحكم لكونه لا شيء يخرج عن حكمته. وأصل الحَكَمة الحديدة التي توضع في فم الفرس لشد اللجام فيها، ويقاد بها، فكأن الحكمة تقود صاحبها إلى ما يريده الله سبحانه وتعالى، ولا يخرج الشيء عن إرادة الله أبداً، فهو الحكيم الحاكم المحكم سبحانه وتعالى في صنعه. والحكيم أيضاً: المانع من الفساد الذي لا يدخل في تدبيره خلل، ولا في صنعه زلل. والخبير: اسم آخر من أسماء الله عز وجل يدل على علم الله سبحانه، فالعليم يدخل تحت الخبير، ويدخل تحته أنه الشهيد الذي هو علينا رقيب سبحانه وتعالى، والعلم أعم من الخبرة، فالله يعلم كل شيء، فإذا اختص العلم ببواطن الأشياء فهي الخبرة، فإذا اختص علم الله تعالى بما يبطنه الخلق فهو سبحانه الخبير، وإذا اختص علمه بما يظهره الإنسان فهو الشهيد سبحانه، وإذا اختص ذلك بأن يجازيه عليه فهو الرقيب سبحانه. فالكل عائد إلى صفة العلم منه سبحانه وتعالى، وهو الحكيم الخبير الذي يعلم مصالح الأشياء ومضارها ولا تخفى عليه عواقب الأمور وبواديها والذي لا يقع في تدبيره سبحانه وتعالى خلل ولا زلل.

تفسير قوله تعالى: (يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها)

تفسير قوله تعالى: (يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها) قال الله تعالى: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} [سبأ:2]، الله هو الحكيم الخبير الذي يعلم العلم الشامل المحيط ما يلج في الأرض، وقد كان الكفار يظنون أن الله عز وجل لا يعلم ما يسرونه، واجتمع ثلاثة نفر عند الكعبة في يوم من الأيام ثقفيان وقرشي أو قرشيان وثقفي عظيمة شحوم بطونهم، قليلة أفهام عقولهم، فقال بعض هؤلاء الحمقاء لبعض: أترون الله يعلم ما نقول؟ فرد بعضهم: نظن أنه إذا أعلنا سمعنا، وإذا أسررنا لم يسمعنا! يقولون ذلك من غبائهم وعدم تفكيرهم فقاسوا الخالق على المخلوق، فظنوا أن الله لا يعلم إلا ما يجهرون به أما ما يسرون فإنه لا يعلمه، فقال رجل: إن كان يعلم ما نعلن؛ فهو يعلم ما نسر. قال الله عز وجل يرد على هؤلاء وأمثالهم: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ} [سبأ:2] الولوج: الدخول والتغيب، يقال: ولج في الشيء بمعنى: دخل وغاب فيه، فما يلج في الأرض أي: ينزل بداخلها ويختفي فيها فالله سبحانه تبارك وتعالى يعلمه. قال الله: ((يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا)) أي: ما يخرج منها يعلمه أيضاً. وقال: {وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59] أي: يعلم ما يسقط من الأشجار من ورق، ومصير هذا الورق أين يذهب، هل يأكله إنسان أو حيوان أو أنه يتحلل ويغوص في باطن الأرض فينتفع به ما بداخل الأرض من دواب أو ينتفع به النبات بعد ذلك؟ فالله يعلم الحبة حين تسقط من السنبلة على الأرض هل تنزرع أم تكون رزقاً لنملة في الأرض أم تكون رزقاً لإنسان أو حيوان؟ والله يعلم ما يلج في الأرض من أشياء فتختفي بداخلها من أجساد ومن زروع وثمار ونحو ذلك. وما يخرج من الأرض من أشجار وثمار ومعادن وغير ذلك. ويعلم ما ينزل من السماء وما يعرج فيها من ملائكة تنزل من السماء، ومن مطر ينزل منها، ومن بلاء ينزل على العباد وقضاء وقدر، ويعلم ما يعرج إلى السماء من الملائكة (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل والنهار، يجتمعون في صلاة الفجر وفي صلاة العصر، فإذا صعد الذين باتوا فيكم إلى ربهم، سألهم ربهم سبحانه: كيف وجدتم عبادي؟ قالوا: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون).

معنى قوله: (الرحيم الغفور)

معنى قوله: (الرحيم الغفور) قال تعالى: {وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} [سبأ:2] هذان اسمان من أسماء الله الحسنى العظيمة، فالرحيم: ذو الرحمة العظيمة البالغة التي لا نظير له فيها. فالرحمن الرحيم صيغتا مبالغة، فالرحمن عظيم الرحمة، والرحيم عظيم الرحمة، لكن ما هو الفرق بينها؟ ذكر الله أنه كان بالمؤمنين رحيماً فكأنه يخص برحمته المؤمنين، والرحمن ذو الرحمة العظيمة البالغة التي تكون لجميع خلقه، فرحمته وسعت كل شيء سبحانه وتعالى. وفي الدنيا جزء من رحمة رب العالمين سبحانه بها يرحم الإنسان أخاه، ويرحم الحيوان الحيوان، وترفع الدابة حافرها عن ولدها؛ لئلا تؤذيه. قال تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43] فيرحم المؤمنين يوم القيامة، ويدخلهم الجنة بفضله وبرحمته سبحانه. والغفور: اسم آخر من أسماء الله عز وجل، وقد جاء في القرآن الغفور والغفار وغافر الذنب. فالغفور والغفار من صيغ المبالغة فهو عظيم المغفرة، وأصل الغفر: الستر والتغطية، فكأنه سمي بذلك لأنه يستر الذنوب ويمحوها ولا يفضح عباده المؤمنين، فيستر زلاتهم ويغفر لهم ذنوبهم. فالغفور: الساتر لذنوب عباده المتجاوز عن خطاياهم وأصلها التغطية، ومنها المغفر: وهو حلقات من حديد يلبسها المقاتل حتى لا تؤثر فيه ضربات السيوف فيستتر تحتها. وقد قال الله تعالى في عباد الرحمن: {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70] فلا يغفر فقط، لكن أيضاً من رحمته أنه قد يقلب السيئة التي وقع فيها العبد إلى حسنة؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المؤمن يدنيه الله عز وجل في كنفه يوم القيامة ثم يأمر الملائكة أن يروه صحائف ذنوبه ويستر عنه ذنوباً كثيرة ويريه أشياء صغيرة من ذنوبه) فيقر بها ويخاف أن يريه الذنوب الأخرى التي فعلها، والله بكرمه يستره ويريه بعض ذنوبه ويقول: (قد سترناها عليك في الدنيا واليوم أغفرها لك) ثم يقول: (وسأبدلها لك حسنات) أي: مكان كل ذنب مما غفرناه سنبدله حسنات. فينظر العبد في صحيفته ويتذكر الذنوب الأخرى ويقول: (يا رب! هناك ذنوب لا أراها هنا، فضحك النبي صلوات الله وسلامه عليه) لما نظر العبد لرحمة الله سبحانه فتطاول إلى أعظم مما رحمه الله سبحانه، فطلب منه أن يبدل الذنوب التي سترها وغفرها حسنات والله على كل شيء قدير. نسأل الله بفضله ورحمته أن يغفر لنا ويتجاوز عنا إنه هو الغفور الرحيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة سبأ [3 - 9]

تفسير سورة سبأ [3 - 9] توعد الله جل وعلا أولئك الذين سلكوا سبيل العناد، وأبوا أن يسلكوا سبيل الرشاد، مع معرفتهم اليقينية بصدق رسالة الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، وكذبوا بالساعة متناسين أن الله أوجدهم من العدم، وأعرضوا عن آيات الله الكونية والشرعية.

تفسير قوله تعالى: (وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة)

تفسير قوله تعالى: (وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة) الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة سبأ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ * لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ * وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ} [سبأ:3 - 8]. في هذه الآيات من سورة سبأ يخبرنا الله سبحانه تبارك وتعالى عن تكذيب المشركين بالساعة، وعن رد الله سبحانه تبارك وتعالى على هؤلاء في تكذيبهم بقيام الساعة. قال سبحانه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ} [سبأ:3] قال بعضهم ذلك وصدقهم الباقون، وممن قال ذلك أبو سفيان قبل إسلامه وهو في مكة، وإسلامه كان متأخراً في العام الثامن من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، قبيل فتح مكة، وقد كان قبل ذلك من أشد المعادين للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. فكان أبو سفيان يقسم للكفار أن الساعة لا تقوم، فيقول لكفار مكة: واللات والعزى لا تأتينا الساعة أبداً، ولا نبعث. فكذب الله عز وجل ما قال، وكذب الكفار في دعواهم أن الساعة لا تأتي، فقال الله عز وجل: {قُلْ بَلَى} [سبأ:3] هم قالوا: {لا تَأْتِينَا} [سبأ:3] فكان A (( بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ)) ستأتي هذه الساعة، هم نفوا ذلك، فأثبت الله عز وجل بهذا اللفظ: ((بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ))، فهم أقسوا بآلهتهم التي لا تنفع ولا تضر، وأقسم الله عز وجل بنفسه سبحانه، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: اقسم لهم بالله سبحانه تبارك وتعالى، فقال: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ:3]. ستأتيكم ساعتكم وستقوم عليكم قيامتكم، وستأتي ساعة كل إنسان، وستأتي القيامة الكبرى بعد ذلك. ((قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ)) وهذا من أسماء الله سبحانه تبارك وتعالى: علام الغيوب، عالم الغيب، وهو العليم سبحانه تبارك وتعالى. وقوله: ((عَالِمِ الْغَيْبِ)) هذه قراءة ابن كثير وقراءة أبي عمرو وقراءة عاصم وقراءة الكسائي. وقرأها غيرهم من القراء بالضم: (عالمُ) وهم ابن عامر ونافع وأبو جعفر: ورويس. قرأها حمزة والكسائي: (علام الغيب) سبحانه تبارك وتعالى، فهو (عالم الغيب) و (علام الغيب) أيضاً. ((قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ)) فالوصف لله سبحانه العائد على هذا القسم، (وربي عالمِ الغيب) و (ربي علام الغيب) وصف للمقسم به، وهو: الله سبحانه تبارك وتعالى. وقراءة حمزة والكسائي: (علام الغيب) الوصف أيضاً مجرور على الأصل فيها: (وربي) معطوف عليه، فهو مجرور مثله. (عالمُ الغيب) قراءة نافع وأبي جعفر وابن عامر ورويس ورُفعت؛ لأنها خبر لمبتدأ محذوف. فالله سبحانه تبارك وتعالى عالم الغيب والشهادة، والله علام الغيوب، يعلم ما خفي، ويعلم كل شيء، ويعلم ما يبدو وما يخفى، وما ينويه الإنسان، بل وما لم ينوه بعد، فهو يعلم ما كان وما سيكون. قال تعالى: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} [سبأ:3]. (يَعْزُبُ) بمعنى: يغيب، فلا يغيب عن علم الله سبحانه، مثقال ذرة، والذرة: هي النملة الصغيرة جداً، والتي لا يكاد الإنسان يراها، فإذا كان الله عز وجل لا يغيب عنه قدر الذرة، فكيف بما هو أكبر من ذلك؟! لا يغيب عن الله عز وجل شيء في خلقه ولا في كونه سبحانه. (لا يَعْزُبُ) هذه قراءة الجمهور، ويقرؤها الكسائي: (لا يعزِب) والمعنى واحد. {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ} [سبأ:3] والمثقال: القدر أو الجزء، إذاً الجزء من هذه الذرة، يعلمه الله سبحانه تبارك وتعالى، سواء كان في السموات أو في كان في الأرض. قال تعالى: {وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سبأ:3] إذاً الذرة التي هي أقل الأشياء الله عز وجل يخبر أنه يوجد أصغر منها، وما كان أصغر منها فالله عز وجل يعلمه سبحانه تبارك وتعالى، وما كان أكبر من ذلك فالله عز وجل يعلمه، فهو يعلم كل شيء سبحانه. {وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سبأ:3] فهو عند الله سبحانه تبارك وتعالى في كتاب مكتوب، يحدث كذا في يوم كذا، ويخلق فلاناً وفلاناً، وفلان يعصي، وفلان يطيع، وفلان يستحق الجنة، وفلان يستحق النار، وكل شيء مكتوب عند الله سبحانه تبارك وتعالى في كتاب مبين، وهو اللوح المحفوظ عنده سبحانه تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات)

تفسير قوله تعالى: (ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات) قال الله تعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [سبأ:4]، ((لِيَجْزِيَ)) اللام تعليلية، فقد علم الله سبحانه تبارك وتعالى، وكتب عنده في لوح محفوظ؛ ليري الناس يوم القيامة أعمالهم ويجازون عليها. إذاً الساعة آتية ليجزي الله هؤلاء، وكتب عنده ما يفعلون، فلابد من إتيان الساعة للجزاء، وكتب الله عز وجل عنده أعمال العباد للجزاء أيضاً. {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [سبأ:4] والله عز وجل يذكر لنا الإيمان مقروناً بالعمل الصالح غالباً؛ حتى لا يتوهم إنسان أن يقول: آمنت، ثم يترك العمل ولا يعمل شيئاً، فالعمل الصالح من واجبات الإيمان لا بد منه، فالله عز وجل يجزي المؤمنين الذين يعملون الصالحات بالجنة، والذين لا يعملون الصالحات يعذبهم الله سبحانه تبارك وتعالى أو يغفر لمن يشاء سبحانه، أما الكفار فمأواهم النار ولا مخرج ولا منجى لهم منها أبداً. {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [سبأ:4] يعني: بالجزاء العظيم، وبالأجر قال تعالى: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [سبأ:4] لهم مغفرة من الله، وفوق هذه المغفرة محو الخطايا، ومحو الذنوب، ويبدل الله سيئاتهم حسنات من فضله سبحانه، وأيضاً لهم الرزق العظيم، والرزق الكريم، فالله عز وجل من صفاته أنه كريم سبحانه تبارك وتعالى. يجزي عباده بكرمه جزاء يليق به، فهو الإله وهو الرب، وصفته الكرم، فالرزق منه رزق كريم، رزق لا ينقطع عن عباده في الدنيا.

تفسير قوله تعالى: (والذين سعوا في آياتنا معاجزين)

تفسير قوله تعالى: (والذين سعوا في آياتنا معاجزين) قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} [سبأ:5]. {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} وهؤلاء عكس المؤمنين، فهم أعرضوا عن ربهم سبحانه، وجحدوا دينه، وكذبوا رسل الله عليهم الصلاة والسلام. وآيات الله سبحانه تبارك وتعالى أي: معجزات الله سبحانه، والآيات التي يريهم في الكون لا يقدر إنسان على أن يأتي بآية من هذه الآيات، قال تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية:17 - 20] هذه آيات من آيات الله سبحانه. ويأتي القرآن وهو الآية العظمى من الله سبحانه تبارك وتعالى، لنريك آيات الله عز وجل أكبر الآيات: الآية الكبرى آية رب العالمين، هذا القرآن الكريم. فهؤلاء الكفار يسعون في آيات الله معاجزين، ومعجزين، المعاجز والمعجز: الذي يريد أن يعجز خصمه، يريد أن يعجزه ويعجّزه، فالكفار يظنون أن الله لا يقدر عليهم، ويقولون: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [المؤمنون:82]. ويأتي أبي بن خلف الجمحي للنبي صلى الله عليه وسلم بقحف رأس ويفتته بيده ويقول: تزعم أن إلهك يبعث هذا؟! فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم، ويدخلك النار) الله عز وجل يبعث هذا مرة ثانية ليجزيه، ويدخل هذا الكافر النار. فالغرض أن ربنا سبحانه يخبر عن الكفار وأنهم يسعون، يعني: يحاولون جاهدين إبطال آيات الله عز وجل، ويحاولون التشكيك في آيات الله سبحانه تبارك وتعالى، وهم بذلك معاجزين يعني: يظن الكافر أنه يعجز ربه، وأنه يفلت من الله سبحانه تبارك وتعالى. قال: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} [سبأ:5] ومحاولين أن يشككوا الناس في دين الله سبحانه تبارك وتعالى، ظانين أنهم يفلتون من الله سبحانه. (مُعَاجِزِينَ) هذه قراءة الجمهور، وقراءة ابن كثير وأبي عمرو: (معجزين) يعني: في ظنهم، فيظنون أنهم يعجزون ربهم ويعجزونه، فيهربون في الأرض، ولا يقدر أن يبعثهم مرة ثانية! (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا) مريدين إبطالها، معجزين ومعاجزين، {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} [سبأ:5] أولئك لهم عذاب من عند الله سبحانه، عذاب عظيم وعقوبة من الله سبحانه تبارك وتعالى لهؤلاء. ((مِنْ رِجْزٍ)) الرجز هو: أشد العذاب، فلهم عذاب من الرجز، وهذا العذاب عذاب أليم أيضاً. ووردت قراءتان لكلمة أليم: (أَلِيمٌ) و (أليمٍ)، (أَلِيمٌ) قراءة ابن كثير وحفص عن عاصم ويعقوب، وهي وصف للعذاب، وكأنه يقول: أولئك لهم عذاب أليمٌ، فصفة العذاب أنه أليم. وباقي القراء يقرءونها (أليمٍ) وهذا يكون عند الوصل، عندما يصل القارئ الآية بالآية التالية، إما أن يرفع على قراءة ابن كثير وحفص عن عاصم وقراءة يعقوب، أو يجر على قراءة باقي القراء. وكأن على قراءة الجر أن الرجز أليم، إذاً هذا وصف للرجز للذي هو أشد العذاب عند الله سبحانه تبارك وتعالى، وهو مؤلم، فهي صفة للرجز أنه مؤلم، بل غاية في الألم لهؤلاء الذين يعذبون به، نسأل الله العفو والعافية. إذاً هؤلاء يريدون التعجيز، ويثبطون الناس عند دين الله سبحانه، ويبعدونهم عن دين الإسلام، ويعاجزون ظناً منهم أنهم يفلتون من الله سبحانه تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق)

تفسير قوله تعالى: (ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق) قال الله سبحانه: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [سبأ:6] نحن ذكرنا أن سورة سبأ سورة مكية، واختلف العلماء في آية واحدة فقط منها وهي هذه الآية، فبعض أهل العلم قالوا: هذه الآية مدنية بناء على تفسيرها، وباقي السورة مكية إلا هذه الآية. ((وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ)) يعني: أهل الكتاب، وعلموا أن هذا هو الحق من عند الله، فدخلوا في دين الله عز وجل، كـ عبد الله بن سلام وغيرهم ممن دخلوا في دين الله سبحانه. فقالوا: عبد الله بن سلام وغيره من أهل الكتاب لم يكونوا في مكة، والسورة نزلت في مكة، فدل أن هذه الآية نزلت في المدينة، ولكن أكثر المفسرين على أن الذين أوتوا العلم هم: المؤمنون، والقرآن أعظم العلوم، فهم الذين أوتوه، يعني: المؤمنون الذين اتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم، فتعلموا منه وعلموا، فهؤلاء أهل العلم، فالسورة كلها مكية. {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [سبأ:6] أي: يرون ما نزل عليك من عند ربك سبحانه، يرون أنه ((هُوَ الْحَقَّ))، (أُنزل) هذا المفعول، (ويرى) بمعنى: يعلمون ويعتقدون ذلك، فيرى هنا تنصب مفعولين، فالمفعول الثاني هو الحق، و (هو) للتوكيد فيها، وفي غير القرآن يجوز (هو الحقُّ)، وهي قراءة شاذة، لكن القراءة التي في المصحف، وهي قراءة القراء كلهم: (هو الحقَّ)، فيرون القرآن هذا حقاً من عند الله سبحانه تبارك وتعالى. ((وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ))، الصراط: طريق الإسلام الذي يقود إلى الجنة، فهو الصراط المستقيم الذي يدعو المؤمن ربه في كل صلاة، وفي كل ركعة من صلاته بقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]. إذاً: يرى أهل العلم أن هذا القرآن حق من عند الله سبحانه، ويهدي أي: يدل على طريق الله سبحانه تبارك وتعالى. ((وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ)) فهو الغالب الذي لا يمانع سبحانه تبارك وتعالى، والذي إذا قضى أمراً فإنما يقول له: كن فيكون، ومستحيل أن يكون على غير ما أراد الله سبحانه، فهو العزيز الغالب القاهر، الذي لا يغالب ولا يمانع أبداً، إذا أمر أمراً لا يستطيع أحد أن يمنع قضاءه سبحانه وقدره. ((الْحَمِيدِ)) أي: المحمود، المستحق للحمد العظيم، وهو: الثناء الجميل على الله سبحانه تبارك وتعالى بما هو أهل له. (ويهدي إلى صراط) الصاد هنا فيها قراءات، فيقرأ قنبل عن ابن كثير، ويقرأ رويس أيضاً عن يعقوب، بإبدال الصاد سيناً (سراط)، ويقرأ باقي القراء (صراط) بالصاد، ما عدا خلف عن حمزة فيقرأ بإشمام الصاد زاياً، والمعنى واحد، فالصراط بمعنى: الطريق الذي يدل عليه هذا القرآن والذي يهدي إلى طريق ربنا سبحانه تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق)

تفسير قوله تعالى: (وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق) قال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [سبأ:7]. ((وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا)) أي: مستهزئين بالنبي صلوات الله وسلامه عليه كعادتهم فهم يستهزؤون بالحق، وهم يعرفون أنه الحق لجهلهم ولحماقتهم وتفاهتهم ولصغر عقولهم، فهم يتكلمون عن النبي صلى الله عليه وسلم بكلام كاذب، يقول الله عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [سبأ:7]. ((هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ)) والعادة عندما تقول لشخص: دعني أدلك على رجل يفعل كذا وكذا، أن هذا الرجل مجهول، فلو كان الرجل معلوماً لقلت له: أدلك على فلان يفعل كذا، فكيف هذا وهم يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم تماماً؟! ويعرفون أهله صلوات الله وسلامه عليه، ولا يجهلونه عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك يقولون هذا الكلام، هل ندلكم على رجل؟! تعالوا نريكم رجلاً، فقالوها هنا على وجه السخرية والتحقير لأمر النبي صلوات الله وسلامه عليه، وكأنهم يجهلونه عليه الصلاة والسلام! فتعرف جهل هؤلاء وحماقتهم حين يدعو أحدهم ربهم سبحانه ويقول: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} [الأنفال:32] فتعرف أنهم الجهلة، وأنهم أغبياء، وأنهم لا يفهمون ما يقولون، وهل هناك شخص عاقل يقول هذا الشيء؟! وهل يوجد شخص عاقل يقول لربه: يا رب! لو كان هذا الحق فأسقط علي حجارة من السماء، فأمتني؟! فالعاقل لا يقول هذا أبداً، العاقل يقول: يا رب! لو كان هذا الحق من عندك فاهدني إليه، ودلني عليه، وخذ بيدي إليه، أما الذي يقول: يا رب! لو كان هذا حقاً فأمطر علي حجارة، فهذا جاهل مغفل، لا يفهم ما يقوله. وهؤلاء الكفار يقولون ذلك، ويدعون على أنفسهم، ويقول قائلهم: {رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص:16]، والقط: صحيفة العذاب، يعني: هات لنا العذاب من الآن، لن ننتظر حتى يوم الحساب! في عقولهم غباء عجيب، وإذا دخلوا في الإسلام إذا بالله عز وجل يكشف عنهم ذلك، فينظرون إلى أنفسهم ويضحكون على أنفسهم. فقد كان الصحابة يجلسون مع النبي صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الفجر في المسجد، وقد أخبرهم عن فضل الجلوس بعد صلاة الفجر في المسجد حتى يصلي ركعتي الضحى، وقال لهم صلى الله عليه وسلم: (من صلى الفجر في جماعة ثم مكث في مصلاه يذكر الله حتى طلعت الشمس ثم صلى ركعتين، كتب له أجر حجة وعمرة تامة تامة تامة). فكان الصحابة يحرصون على ذلك، فيجلسون مع النبي صلى الله عليه وسلم يذكرون الله عز وجل، فإذا أشرقت الشمس، فليس وقتاً للصلاة عند شروق الشمس، فيتكلم بعضهم مع بعض، ويتحدثون عما كانوا يفعلون في الجاهلية، قال قائلهم: فكنا نتحدث بما كنا نصنع في الجاهلية، فنضحك ويسمعنا النبي صلى الله عليه وسلم، فيتبسم صلوات الله وسلامه عليه، يعني: كان يحكون الجهالات والحماقات التي كانوا عليها قبل دخولهم في دين الله سبحانه. أليس الله يقول لنا: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8 - 9]؟ أليس هؤلاء الذي كانوا يئدون بناتهم في الجاهلية، يسلم أحدهم ويحدث النبي صلى الله عليه وسلم بما صنع في جاهليته، وأنه أخذ ابنته وحملها وذهب بها وحفر لها حفرة في الأرض، وكان التراب يصعد على وجهه وابنته تمسح لحيته من التراب، وهو يحضر قبرها، ثم يدفنها في قبرها ويفرغ فوقها التراب! هذا في الجاهلية، ويذكر الرجل ذلك في الإسلام فيبكي على حاله، ويبكي على ما صنع في جاهليته، ولولا أن الله سبحانه تبارك وتعالى جعل الإسلام يجب ما قبله، لكان أمره عظيماً عند الله سبحانه. يقول الله سبحانه: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8 - 9] ما هو الذنب الذي فعلته هذه الفتاة التي يئدها والدها؟! وقد تكون قد كبرت فيئدها، ويدفنها وهي حية، وهذا فعل أهل الجاهلية، وفعل الكفار، فيستحقون عقوبة رب العالمين سبحانه على كفرهم وعلى تكذيبهم، وهذه عقولهم التي أضلهم الله عز وجل، فلم يعرفوا الحق، فاتبعوا الهوى، وفعلوا هذا فسخروا من النبي صلوات الله وسلامه عليه، قالوا عنه: مجنون، وهذا شيء يقوله بعضهم لبعض، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [سبأ:7] يقول لكم: إنكم عندما تموتون وتتمزقون في الأرض وتذهب العظام، ويذهب اللحم، ويذهب الجسم كله؛ سترجعون مرة ثانية، حتى يحاسبكم ربكم، فهل هذا الشيء معقول؟! يكذبون ويقول بعضهم لبعض على وجه السخرية والتهكم.

تفسير قوله تعالى: (أفترى على الله كذبا أم به جنة)

تفسير قوله تعالى: (أفترى على الله كذباً أم به جنة) {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ:8] هذا من قولهم الذي ينكر الله عز وجل عليهم، يقولون: هل قد افترى على الله كذباً؟ ومن أين لكم أن تعرفوا أنه افترى على الله كذباً؟ هل حدثكم الله أنه لم يبعث رسولاً، بل أنزل كتابه، وأعجزكم هذا الكتاب، والواجب عليهم: أن ينظروا في هذا الكتاب. إذاً خاطب عقولهم، والرسول غايته أن ينظروا في صدقه من كذبه، هل هو صادق أو كاذب فيما يقول؟ رسولاً، هرقل عظيم الروم لما جاءه خطاب النبي صلوات الله وسلامه عليه ما الذي صنعه؟ بدأ باستخدام عقله، فأتى بـ أبي سفيان مع جماعة من العرب فجعل أبا سفيان أمامهم وجعل وراءه الناس من العرب وقال: إذا كذب فأخبروني، وما المانع أن يكذب أبو سفيان؟ يقول هو بعدما أسلم ويحدث بهذا الحديث: لولا أن يؤثروا علي كذباً، فيعرفون أني كذبت كذبة لكذبت، وكان من أشد أعداء النبي صلوات الله وسلامه عليه، فقد كان يؤلب عليه العرب، ويذهب للنبي صلى الله عليه وسلم لقتاله، هذا أبو سفيان من الله عز وجل عليه في النهاية بأن أسلم بعد عداء مع النبي صلى الله عليه وسلم دام إحدى وعشرين سنة ثم أسلم في آخر سنة ثمانية من هجرة النبي صلوات الله وسلامه عليه. فيسأله هرقل: هذا الرجل الذي بعث فيكم أو الذي يزعم أنه بعث فيكم هل عهدتم عليه كذباً قط؟ هل كذب من قبل؟ قال: لا، ثم قال: هل كان أحد آبائه ملكاً في يوم من الأيام؟ أبو سفيان يجيب: لا، إذاً كيف هو فيكم؟ يقول: هو من أشرفنا ومن أفضلنا نسباً، فبعدما سأله نحو عشرة أسئلة، تبين له أنه رسول فقال: لو كان يترك الكذب على الناس فهل يكذب على الله سبحانه تبارك وتعالى؟ ففي حياتكم لم تسمعوا عليه كذباً قبل ذلك، أيدعي الكذب على الناس ويكذب على الله سبحانه تبارك وتعالى؟! لا يكون هذا من النبي صلى الله عليه وسلم. وقال: لو كان في آبائه ملك لقلت: رجل يطلب ملك أبيه، أتى الآن لكي يطلب ملك أبيه، وقلت إن هذا الرجل من أشرفكم، وكذلك الأنبياء يبعثون في أشراف قومهم. في نهاية أسئلته يجمع كبراء قومه في قصره، وأغلق عليهم الباب، وقال لهم: ألا أدلكم على شيء تطلبون به خير الدنيا والآخرة؟ فقالوا: بلى، قال: اتبعوا هذا الرجل، إنه رسول حق. فنخروا جميعهم نخرة واحدة، وجروا إلى الأبواب ليخرجوا، فدعاهم أن ارجعوا، وقال: إنما أردت أن أختبر صلابتكم في دينكم، فقاموا وخروا ساجدين لـ هرقل، ولم يدخل في دين الله مع معرفة أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق من عند الله سبحانه تبارك وتعالى! وقال ذلك هرقل فدخل في قلب أبي سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم سيظهر في يوم من الأيام، ومع ذلك ظلت المعاندة على كفره إلى سنة ثمانٍ من هجرة النبي صلوات الله وسلامه عليه. وكل نبي يبعثه الله عز وجل بآية من الآيات، فكان للنبي صلى الله عليه وسلم أعظم الآيات وهي القرآن العظيم الذي تحدى الله عز وجل به العرب أساطين الفصاحة والبلاغة والشعر على أن يأتوا بكتاب مثله، فلم يستطيعوا فقال: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود:13] لم يستطيعوا، وقال: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23] وما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، فلما لم يقدروا على ذلك، وكان من المفترض أن يدخلوا في دين الله؛ لأنهم قد غلبوا وعجزوا ولكنهم ظلوا على تكذيبهم واستهزائهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، حتى دخلوا بعد ذلك يوماً من الأيام في دين الله، بعدما دخل غيرهم، وتأخروا هم عن الدخول في دين الله سبحانه. فالقائل الذي يقول: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [سبأ:7] ألم يروا إلى أنفسهم كيف خلقهم الله سبحانه تبارك وتعالى؟! فقد كانوا نطفة ثم علقة، ثم مضغة، ثم صاروا عظاماً ولحماً، وصاروا أجنة في بطون أمهاتهم، وخلقوا هذا الخلق الآخر، فنزلوا إلى هذه الدنيا على هذه الهيئة. أليس الذي بدأهم من النطفة الحقيرة القذرة، والتي يستقذرها الإنسان بقادر على أن يعيدهم مرة أخرى؟! بلى، ولكنهم يكذبون على الله، ويكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول الله عز وجل: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ:8] أي: أم به مس من الجن، وهم يزعمون ذلك، قال تعالى: {بَلْ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ} [سبأ:8] لهم عذاب عند ربهم سبحانه، تراهم في ضلال بعيد، وهم تائهين متحيرين، لا يعرفون الحق ولا يهتدون إليه مع وضوحه وبيانه.

تفسير قوله تعالى: (أفلم يروا إلى ما بين أيديهم)

تفسير قوله تعالى: (أفلم يروا إلى ما بين أيديهم) قال الله تعالى: {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمْ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنْ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [سبأ:9]. {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [سبأ:9] أفلم ينظروا في السموات، ما بين يديك أمامك وأعلاك وتنظر خلفك، وأسفلك، انظر إلى السماء وإلى الأرض، انظر إلى ما أمامك وما خلفك، تعرف قدرة الله، وما صنع سبحانه تبارك وتعالى في السموات وما خلق في الأرض. قال سبحانه: {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [سبأ:9]، إن نشأ نفعل ذلك، وهم قد استعجلوا عذاب الله سبحانه، وقالوا: اطلب من ربك أن يسقط علينا كسفاً من السماء، اجعل ربك أو اطلب من ربك أن يجعل لك قصراً من ذهب، أو اطلب من ربك أن يجعل لنا هذا الجبل ذهباً، فطلبوا أشياء وتعنتوا، وقالوا بعد تعنتهم: ولو فعلت ذلك ما نظن أننا سنؤمن بك! قال تعالى يخبر عن حالهم: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ} [الإسراء:90 - 93] حتى لو رقيت في السماء {وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ} [الإسراء:93] وحتى لو أتيت بهذه الأشياء لن ندخل في دينك، إذاً لماذا لا يدخلون مع معرفتهم أنه رسول رب العالمين، وكل ذلك بسبب الحسد والحقد الذي في القلوب، وقالوا: لست أغنى شخص فينا، نحن فينا أغنياء، وفينا من هو أكبر منك سناً، وفينا من كان يتعبد في الجاهلية، فلماذا لا يكون الرسول غيرك؟! فيتعنتون ويرفضون الدخول في دين الله عز وجل. ويقول قائلهم: كنا نحن وبنو هاشم كفرسي رهان، أطعموا فأطعمنا، وسقوا فسقينا، وفعلوا كذا ففعلنا، ثم يقولون: منا نبي، وأنى لنا بنبي؟ والله! لا ندخل في دينه أبداً! فيرفضون الدخول حسداً وحقداً على النبي صلى الله عليه وسلم أن اصطفاه ربه سبحانه، وجعله رسولاً له سبحانه تبارك وتعالى. ((أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ)) هذه قراءة الجمهور، وقراءة يعقوب: (أيديهُم) وهذا على أن الأصل في الضمير الضم: هم. قال الله: {إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ} [سبأ:9]، ((إِنْ نَشَأْ)) هذه نون العظمة، وهذه قراءة الجمهور، فالله عز وجل يعبر عن نفسه بالنون التي تفيد التعظيم، ويقرؤها حمزة والكسائي وخلف بالفرد وإبدال النون بياء المضارعة: (إن يشأ يخسف بهمِ الأرض أو يسقط عليهم كسْفاً من السماء). و (كسفاً) يقرؤها حفص فقط عن عاصم بفتح السين بمعنى: السحب الكثيفة، والأصل هنا أن معناها: الظلل من العذاب، وما يتكسف بعضه على بعض فيكون ظله عظيمة في السماء من نار تهوي على الناس، تحرقهم وتهلكهم، فالجمهور يقرءون: (كسْفاً من السماء)، وحفص عن عاصم يقرؤها: (كسَفاً من السماء) بالجمع فيها. إذاً هنا: {إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ} [سبأ:9] والمانع من ذلك رحمة الله سبحانه، وحلم الله سبحانه، فهو الحليم الذي يحلم عن عباده لعلهم يؤمنون، وقد آمن منهم الكثيرون. قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [سبأ:9] فما يرونه في السماوات، وما يرونه في الأرض، وما يرونه أمامهم وخلفهم؛ فهذا كله من آيات الله سبحانه تبارك وتعالى، يفقهها ويفهمها العبد المنيب الذي يرجع إلى ربه بالتوبة، والذي يدخل في دين الله سبحانه، فيفقه ويعلم، ويعلمه الله سبحانه من فضله. نسأل الله عز وجل أن يفقهنا في ديننا، وأن يعلمنا كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة سبأ [10 - 12]

تفسير سورة سبأ [10 - 12] أخبر الله عن فضله وتكرمه على بني إسرائيل حيث جعل فيهم الملك والنبوة، وقد جمعهما لنبيين من أنبيائهم، وهما: داود وسليمان عليهما السلام، وألان الحديد لداود، وعلمه صنع الدروع، وسخر له الطير والجبال يسبحن معه، وسخر لسليمان الريح والجن والإنس يعملون بين يديه بإذن الله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي معه)

تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا داود منا فضلاً يا جبال أوبي معه) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة سبأ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} [سبأ:10 - 12]. ذكرنا أن هذه السورة مكية يذكر الله سبحانه وتعالى فيها الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ويتعظون، ويذكر نعمه التي ينعم بها على عباده، وقليل من عباد ربنا الشكور، فمن العباد من يشكر النعم فيستحق المزيد منها، ويستحق الجنة دار الخلود، ومنهم من يكفر بالنعم فيستحق في الدنيا الهوان والذل، وفي الآخرة العذاب الشديد. فهنا: ذكر الله سبحانه وتعالى داود وسليمان عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، فهما من عباد الله الصالحين، أنعم الله عليهما بالنبوة والعلم والحكمة والفهم، وأنعم عليهما بالملك أيضاً، فأعطاهما ملكاً عظيماً، وذكر الله سبحانه بعد ذلك بقليل قصة سبأ وكيف أنعم عليهم في الدنيا وأعطاهم فإذا بهم يكفرون بنعم الله سبحانه، ويتبعون الشيطان: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} [سبأ:20] فإبليس يأتي للإنسان على أن يغويه ظناً منه، وقد قال الله سبحانه: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82]، فصدق ظنه عليهم، فأغوى منهم من شاء الله عز وجل له الغواية، وثبت الله عز وجل من شاء له الهداية، فهذا داود النبي وهذا سليمان ابنه، وننظر في القصة التي ذكرها الله عز وجل هنا. وقد تكرر في كتاب الله سبحانه وتعالى في مواضع ذكر داود النبي عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وسليمان أيضاً، فذكر الله سبحانه وتعالى أنه آتى داود زبوراً، قال: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} [النساء:163]، وقال في سورة الإسراء: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} [الإسراء:55] وذكر داود وسليمان {إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا} [الأنبياء:78 - 79] داود وسليمان {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79] فآتى الله عز وجل كلاً من الاثنين الحكم والعلم، آتاه النبوة من فضله سبحانه. وقال: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:79]، فسخر الله عز وجل لداود الجبال تؤوب معه وتسبح، وكذلك الطير كما سيذكر لنا في هذه السورة. كذلك قال سبحانه في سورة النمل: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} [النمل:15] فذكر أنه اختصهما بعلم لم يعطه لغيرهما في زمانهما. كذلك قال لنبينا صلوات الله وسلامه عليه في سورة (ص): {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ} [ص:17] ذا القوة {إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ * وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص:17 - 20] فهذا مما ذكره الله عز وجل عن داود النبي عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. فداود نبي من أنبياء الله عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ومن أبناء يعقوب، ويعقوب له اثنا عشر سبطاً، ومن أسباط يعقوب يهوذا بن يعقوب ولاوي بن يعقوب، فجعل الله عز وجل في سبط لاوي من أبنائه الأنبياء من بني إسرائيل، وجعل في سبط يهوذا الملوك من بني إسرائيل، فبنو إسرائيل يقودهم اثنان: نبي يحكمهم بشرع الله سبحانه وتعالى، ويعلمهم ويربيهم ويؤدبهم، وملك يكون من أبناء يعقوب يسوسهم ويأمرهم، ويجهز جيوشهم ويقاتل معهم، فكان فيهم الأنبياء والملوك، الأنبياء من سبط، والملوك من سبط آخر من أسباط يعقوب.

قصة تتويج داود الملك والنبوة

قصة تتويج داود الملك والنبوة يذكر الله سبحانه وتعالى أنه آتى داود فضلاً، وقد فصل شيئاً طويلاً من هذا الفضل في سورة البقرة وفي هذه السورة الكريمة، قال الله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:246]، ((إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً)) فهنا: فيهم الملوك والأنبياء، النبي مختص بالشريعة يعلم ويؤدب ويربي، ويأتيه الوحي من الله عز وجل، والملك يقاتل ويسوس أمرهم، والنبي من سبط لاوي فيقولون لهذا النبي: ((ابعث لنا ملكاً)) عين لنا ملكاً من السبط الآخر الذي هو سبط يهوذا يكون ملكاً علينا. قوله: {ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:246] كانوا مغلوبين مقهورين، قهرهم العمالقة الذين يعيشون في فلسطين، وهي قبيلة تسمى بذلك، فهم قهروا بني إسرائيل وأخذوا أبناءهم وأخذوا نساءهم، وأذلوهم غاية الذل، وكان هذا التحكم فيهم بسبب كفرانهم نعم الله سبحانه وتعالى عليهم، فكلما أعطاهم نعمة كفروا بهذه النعمة وتفرقوا، وحسد بعضهم بعضاً على ما آتاهم الله عز وجل من فضله، فسلط الله عز وجل عليهم غيرهم. فهؤلاء لما وجدوا أنفسهم صاروا أذلة في الأرض قالوا لنبي لهم اسمه (شمويل) أو (شمعون): {ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا} [البقرة:246] أي: أنتم كعادتكم، كلما ربنا يفرض عليكم القتال تفرون منه وتتركونه قال: {هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} [البقرة:246] يعني: بعد هذا الذل الذي نحن فيه هل سنترك القتال أيضاً؟! لا، بل سنقاتل في سبيل الله فابعث لنا ملكاً، قال لهم: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} [البقرة:247]. وطالوت كان من سبط بنيامين، وليس من سبط الذين فيهم الأنبياء، ولا من السبط الذين فيهم الملوك، وإنما كان من سبط بنيامين أخي يوسف النبي لأمه وأبيه عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، فبعث لهم طالوت ملكاً فرفضوا، حيث كان طالوت دباغاً، وقيل: كان سقاء، يعني: كانت مهنته عندهم مهنة حقيرة، فكيف يكون هذا ملكاً علينا بعد أن كان دباغاً وسقاء؟! فقالوا: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ} [البقرة:247] يعني: هم يطلبون ومع ذلك يتكبرون ويرفضون! أنتم مهزومون وأذلاء والآن ترفضون ما أمر الله عز وجل به نبيكم أن يعين عليكم هذا؟! {قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة:247]، فربنا اصطفاه عليكم أنتم، فهو أفضل منكم ((وزاده بسطة)) فأعطاه علماً كثيراً، ولكن لم يعطه النبوة، وأعطاه جسماً عظيماً، فكان طويلاً عريضاً يصلح للقتال في سببل الله عز وجل، وجعل له آية: فقال تعالى: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ} [البقرة:248] فإذا بهم يجدون التابوت الذي قد ضاع منهم، وفيه التوراة وبقية {مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} [البقرة:248] كان قد أخذه أهل فلسطين منهم، وكانوا عباد أصنام. فبنو إسرائيل كانوا إذا حاربوا قدموا التابوت فنصرهم الله عز وجل ببركة ما فيه، فلما ضاع منهم التابوت كانوا مهزومين أذلاء أمام أعدائهم، فإذا بالله عز وجل يجعل البركة لهذا الإنسان الذي يتولى قيادتهم بأن يظهر التابوت ويرجع إليه مرة أخرى، والملائكة تحمله وتأتيهم بهذا التابوت، فلما رأوا التابوت عرفوا أن طالوت هو الذي يستحق أن يكون ملكاً فرضوا بذلك، وجهزهم لقتال أعدائهم، ولما خرجوا لقتال الأعداء، ومروا بنهرٍ منعهم أن يشربوا من هذا النهر {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} [البقرة:249]، احذروا! لا أحد يشرب من هذا النهر، وهذا أمر من الأوامر التي يأمرهم بها، فهو ينفذ أمر النبي الذي أمره بذلك، لا أحد يشرب من هذا النهر إلا أن يغترف غرفة بيده، والغرفة: ملء الكف، يغرف بيده ويشرب، لكن أن يأخذ ماءً كثيراً من النهر فلا: {إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ} [البقرة:249]، أكثرهم شربوا {إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [البقرة:249]، كانوا ألوفاً مؤلفة في الجيش الذي مع طالوت، وجاء في الصحيح عن أبي موسى الأشعري عندما ذكر عدد أهل بدر قال: (كنا نُحدث: أن عددهم كعدد جنود طالوت)، أي: كعدد المؤمنين مع طالوت، فالذي بقي من الألوف المؤلفة مع طالوت الملك حوالى ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً كعدة أهل بدر رضي الله تبارك وتعالى عنهم. {فَلَمَّا جَاوَزَهُ} [البقرة:249] قال هؤلاء: {لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} [البقرة:249]، جالوت هو قائد أعدائهم، {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249]، فكان هذا القتال بأمر الله عز وجل، والنصر بيد الله سبحانه، وكم {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249] وهنا يقدر الله عز وجل أمراً من الأمور ليظهر داود النبي على نبينا وعليه الصلاة والسلام. داود كان راعي غنم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وأراد الله عز وجل أن يصطفيه ويجعله نبياً، وأن يجعله ملكاً، ويسبب الأسباب سبحانه وتعالى، فـ طالوت هو القائد والملك على بني إسرائيل، وعدد بني إسرائيل ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً يقاتلون، فإذا بـ جالوت ومن معه من جنود الكفار عباد الأصنام يأتون ويتواجه الفريقان، فطلب جالوت أحداً يبارزه، فخاف جميع بني إسرائيل، فقال طالوت: من يخرج إليه ليقتله وسأزوجه ابنتي ويكون شريكاً لي في الملك؟! فإذا بداود النبي عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام يقول: أنا أخرج، فاستصغروه لسنه، وأيضاً كان داود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام قصيراً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فاستصغروه ونظروا إليه فاحتقروه، أهذا يقتله؟! قال: أنا قاتله بإذن الله، وكان يجيد الرمي بالمقلاع، والمقلاع: هو الحجر يلف على الخيط ثم يحذف، فكان يصيب بالمقلاع، وكان رميه عظيماً به، وإذا بالله عز وجل يعينه، فيخرج بمقلاعه إلى جالوت، فيستصغره جالوت ويحتقره ويقول: ارجع فإني لا أريد أن أقتلك، قال: ولكني أريد أن أقتلك، فرماه بالمقلاع، فشجه فقتله، وفر جميع الألوف الذين كانوا مع جالوت، وانتصر بنو إسرائيل بفضل الله سبحانه وتعالى، فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله. ثم ظهر أمر داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وجعله طالوت شريكاً له في الملك، فصار ملكاً على بني إسرائيل مع طالوت، وزوجه بابنته، وإذا بالله عز وجل يصطفيه فيجعله نبياً من أنبيائه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فصارت له النبوة والملك، وانتهى أمر طالوت، ومالت بنو إسرائيل إلى داود النبي على نبينا وعليه الصلاة والسلام في قصة طويلة جداً، لكن الغرض أن الله عز وجل مكن له بذلك بعد أن كان راعي غنم، فقتل قائد جيش الكفار، فإذا ببني إسرائيل يجعلونه ملكاً عليهم، والله عز وجل يجعل له النبوة، وكان داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام من سبط يهوذا الذين فيهم الملك، فصار لهم الآن الملك، وصار له الآن أيضاً النبوة، وفضله الله سبحانه وتعالى، فهذا مختصر بدء أمر داود النبي على نبينا وعليه الصلاة والسلام. قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا} [سبأ:10] هذا فضل عظيم من الله سبحانه وتعالى، حيث كان راعي غنم فجعله الله عز وجل نبياً وملكاً، فمنّ عليه بالفضل العظيم منه، وأنزل عليه الزبور، وكان كتاباً عظيماً يقرؤه ويتلوه، وأعطاه الله من جمال الصوت ما ذكر سبحانه أن الجبال تؤوب معه، وأن الطير تقف فوقه فتسمع لجمال صوته عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.

معنى قوله تعالى: (يا جبال أوبي معه والطير)

معنى قوله تعالى: (يا جبال أوبي معه والطير) قال تعالى: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ:10]، فهذا من فضل الله سبحانه وتعالى عليه، وكأنه قال: نادينا الجبال: يا جبال ونادينا الطير {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ:10] والأوبة بمعنى: الرجعة، آب بمعنى: رجع، كأنه يقول: يا جبال رجعي معه صوته الجميل، هو يقول بصوت جميل مسبحاً ربه سبحانه، والجبال تردد معه ذلك، وهذه معجزة لهذا النبي الكريم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. قوله: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} [سبأ:10] ونادينا الطير كذلك أن تؤوب معه وأن ترفرف فوقه، وتقف لتستمع لمزامير داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وهو يترنم بالزبور، أو يترنم بما يقوله من توبة لله عز وجل، وتسبيح وذكر لله سبحانه وتعالى. قوله: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ:10] هذه إجابة لدعاء دعا داود به ربه سبحانه وتعالى، فأكرمه بأن جعل رزقه من عمل يده، كان ملكاً على بني إسرائيل فملك تحت يده أموال الناس، وتحت يده أموال المملكة، وكان غاية في العدل عليه الصلاة السلام فإذا به في يوم من الأيام يخرج بالليل متخفياً في الليل فيسأل الناس عن نفسه: كيف تجدون داود عليكم؟ كيف صنع داود بكم؟ فالناس يمدحونه ولا يعرفونه بالليل، وهو يستخفي عنهم ويسألهم عن نفسه حتى ينظر في نصح الناس له، وينظر في أمر الناس هل يحبون منه سيرته وعدله أم أنهم يبغضون منه خصلة من الخصال؟! فإذا بالله عز وجل ييسر له ملكاً أو واحداً من الرعية، يقول لداود على نبينا وعليه الصلاة والسلام: (نعم الرجل داود لولا أنه لا يأكل من عمل يده) نعم الرجل! هو رجل جيد لكنه لا يعمل بيده، ما يتكسب بصنع اليد، فإذا بداود يرجع إلى بيته ويسأل ربه سبحانه وتعالى أن يعلمه سبحانه، فعلمه بكرمه وفضله فأعطاه الكثير قال: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ:10]، فداود يلين الحديد في يديه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، يمسك بالحديد فيصير كالعجين في يده، فيلوي الحديد كيفما يشاء: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ:10] هذه معجزة من معجزات الله سبحانه وتعالى، يُري عباده أنه على كل شيء قدير، وأنه يسخر لمن يشاء من عباده ما يشاؤه سبحانه وتعالى منة من الله سبحانه وتفضلاً منه على من يشاء من خلقه، فقال سبحانه: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ:10].

تفسير قوله تعالى: (أن اعمل سابغات وقدر في السرد)

تفسير قوله تعالى: (أن اعمل سابغات وقدر في السرد) قال تعالى: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سبأ:11] أمره الله سبحانه وتعالى أن يعمل بيده الآن فعمل، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم ذكر صيام وصلاة داود النبي عليه الصلاة والسلام، يقول عليه الصلاة والسلام: (أفضل الصيام صيام داود، وأفضل الصلاة صلاة داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه، وينام سدسه، وكان لا يأكل إلا من عمل يده، ولا يفر إذا لاقى). فهذه خصال اجتمعت في داود النبي عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وأنه كان يكثر من الصيام فيصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان يقوم لله عز وجل فينام بالليل نصفه، ثم يقوم الثلث الذي يليه، ثم ينام السدس ليستريح وليقوم الفجر وهو قادر على أن يقوم بواجباته الشرعية عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وكان لا يفر إذا لاقى) كان يجاهد في سبيل الله ولا يفر أبداً، وواضح من القصة التي ذكرناها أنه هو وحده الذي تقدم لـ جالوت فقتله. قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ولا يأكل إلا من عمل يده)، ما هو عمل يده؟ علمه الله سبحانه وتعالى صنعة الدروع، قال الله له سبحانه: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} [سبأ:10 - 11] سبغ الشيء بمعنى: غطى وأفاض، ومنه قولهم: لبست ثوباً سابغاً بمعنى: ثوباً يكفيني ويفضل عني، أي: ثوب واسع فضفاض يزيد ويسبغ هذا الإسباغ، فقال الله سبحانه {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} [سبأ:11] أي: دروعاً سابغات، يلبسها المجاهد المقاتل فتحميه من ضربات السيوف، فكانوا قبل ذلك يتقون بأن يأخذ المقاتل صفيحة كاملة ويضعها أمامه وأخرى خلفه درعاً يتقي بهما، فكانتا ثقيلتين عليه، لكن الله عز وجل علم داود أن يصنع الحلق، فيصنع حلقة في حلقة في حلقة ويربط الحلق بعضها ببعض، فيصنع منها الدرع الذي يلبسه الإنسان، فيكون سابغاً عليه يقيه من ضربات عدوه، فهذه هي السابغات {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} [سبأ:11]، وكان التعليم من الله عز وجل: اصنع هذا الدرع السابغ واعمل فيه كذا؟ {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ:11] الإنسان عندما يقول: أقدر كذا، يعني: يعمل شيئاً على مقاس مضبوط. قوله: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ:11] سرد الشيء بمعنى: أنه يجعل بعضه إلى بعض، فيضع بعضه على بعض حتى يجعله ثوباً واحداً كأنه النسج، ينسج الدرع من هذه الحلقات فيجعل حلقة من حديد وحلقة أخرى، ويجعل بينهما مسماراً فيربط الحلقتين إحداهما في الأخرى، وهكذا، فيقول: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ:11] أي: اجعل الفتحة التي في الحديد على قدر المسمار الذي يدخل فيها، فليست ضيقة فيفصمها المسمار، ولا واسعة فيسقط منها المسمار، وإنما هي مضبوطة، فالله عز وجل علم داود فكان يصنع هذا الدرع العجيب الذي ما رأوا مثله قبله، ويبيعه لهم بأثمان عالية، فيأكل منها ويتصدق منها عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. فشرف الله عز وجل أنبياءه، فجعلهم يعملون بأيديهم، وشرف نبينا صلوات الله وسلامه عليه، وجعل رزقه في الجهاد في سبيل الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وجعل رزقي تحت ظل رمحي)، يجاهد في سبيل الله فيكون له خمس الخمس من الغنيمة وخمس الفيء صلوات الله وسلامه عليه. قال الله عز وجل لداود ولآله: {وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [سبأ:11] اصنع هذه الأشياء التي علمناك إياها، واعمل عملاً صالحاً تتقرب به إلى الله عز وجل: {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سبأ:11] أبصر ما تصنعونه وأجازيكم عليه {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سبأ:11].

تفسير قوله تعالى: (ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر)

تفسير قوله تعالى: (ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر) تنزل الآية كاملة: ((وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ))، هذا سليمان بن داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام، سخر الله لداود أشياء، وسخر لسليمان غيرها، وقبل ما نذكر سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام، نذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر من معجزات داود النبي عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أنه خفف عليه الزبور، وكان كتاباً عظيماً كبيراً، فكان داود صلوات الله وسلامه عليه يقرأ الزبور مع جمال صوته، والجبال ترجع معه، والطير تقف مشدوهة من جمال صوته، ومن كلامه الجميل، ومن مناشدته ربه سبحانه، ومن استغفاره وتسبيحه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (خفف على داود القرآن فكان يأمر بدابته فتسرج) أي: أنه لا يوجد شأن لداود في ذلك، وإنما هو فضل من الله سبحانه وتعالى، فيخفف على من يشاء، فهذه معجزة، وانظر إلى حالك وأنت تقرأ سورة كم ستأخذ من الوقت؟! ربما تأخذ منك عشر دقائق أو ربع ساعة إذا كنت تتقن القراءة، وداود كان يقرأ الزبور كله متقناً له في وقت يسير، قال صلى الله عليه وسلم: (فكان يأمر بدابته فتسرج) يعني: سيأخذ منه التجهيز قدر ربع ساعة أو نصف ساعة فيكون هو قد قرأ الزبور كله في خلال هذه الفترة! هذا الحديث في صحيح البخاري، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (خفف على داود القرآن، فكان يأمر بدابته فتسرج، فكان يقرأ القرآن قبل أن تسرج دابته، وكان لا يأكل إلا من عمل يده). وذكر الله عز وجل من فضله على داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام أن قال: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص:20] كل هذا ليشد الله سبحانه وتعالى ملك داود، فكان بنو إسرائيل مع أنبيائهم وملوكهم في غاية الروغان وعدم الاتفاق والائتلاف، فكانوا يختلفون ويحسد بعضهم بعضاً، ويكيد بعضهم لبعض، فشد الله عز وجل ملكه بما أراهم من الآيات فخافوا منه هيبة؛ لأنه الملك، وأيضاً لأنه نبي، والله ينبئُه بالغيب. من ذلك: ما رواه ابن جرير الطبري عن ابن عباس رضي الله تبارك وتعالى عنهما: أن رجلين تداعيا إلى داود عليه السلام في بقر، ادعى أحدهما على الآخر أنه اغتصبها منه، فأنكر المدعى عليه، يعني: رجل يدعي أن فلاناً اغتصب مني بقري، فالآخر أنكر ذلك، فأرجأ أمرهما إلى الليل، فالأمر خاف عليه، ولا يوجد شهود ولا أحد يوضح ذلك، فداود أرجأ أمرهما إلى الليل حتى يدعو ربه سبحانه أن يبين له ذلك، فلما كان الليل أوحى الله عز وجل إلى داود أن يقتل المدعي، وهذا قضاء عجيب جداً، الوحي من الله عز وجل لداود: أن هذا الذي جاء ليقول: فلان أخذ بقري اقتله، فقام داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام لما أصبح وقال له داود: إن الله قد أوحى إليّ أن أقتلك أيها المدعي! يعني: هو في الظاهر مظلوم، فلماذا أمر الله عز وجل بقتله؟ قال: فإني قاتلك لا محالة فما خبرك؟ يعني: أنت ستقتل ستقتل، لكن اعترف بالصواب؛ لأن الله أوحى إليّ بذلك، قال: فما خبرك فيما ادعيته على هذا؟ قال: والله يا نبي الله! إني لمحق -يعني: فعلاً هو أخذ بقري وأنا محق- ولكني كنت قتلت أباه قبل ذلك! انظر إلى حكمة الله سبحانه وعدله! جاء الانتقام والقصاص يوماً من الأيام، وهو ليس على باله، وإنما جاء ليشتكي ويقول: أنا مظلوم، حتى يأتي له بالقصاص الأليم، أنت في يوم من الأيام قتلت أَبَا هذا الإنسان، قال: فأمر به داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام فقتل، فَعَظُم أمر داود في بني إسرائيل جداً، وخضعوا له خضوعاً عظيماً، ذكرها ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} [ص:20]، فشد الله عز وجل ملكه أي: قوى ملكه بمثل هذه الأحكام العظيمة منه سبحانه وتعالى التي من سمعها عرف أنه نبي، وأنه يوحى إليه من عند الله عز وجل، وأن الذي أوحى إليه بذلك لا يمكن أن يتركه سبحانه وتعالى، ويتعلم منه الإنسان أن الله الحكم العدل سبحانه وتعالى، ومهما ظلم الإنسان وبغى فلن يفلت من الله سبحانه وتعالى، ولابد أن يقتص من الظالم يوماً من الأيام، ولا يحسبن الذين ظلموا أنهم يعجزون ربهم سبحانه، بل ربنا إذا أخرهم إنما يؤخرهم إلى أجل ثم يأتي القصاص منه، ويأتي حكمه وعدله. نسأل الله عز وجل من فضله ورحمته، وأن ينصر الإسلام والمسلمين، وأن يخذل الكفار والكافرين. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة سبأ [12 - 14]

تفسير سورة سبأ [12 - 14] منن الله تعالى على عباده كثيرة، ومما من به على نبيه سليمان أن سخر له الريح تجري بأمره رخاء حيث يشاء، وأسال له النحاس وجعله مذاباً سائلاً، وسخر له من الجن من يعمل بين يديه بأمره، وأضفى عليه نعمة الفهم والقضاء.

تفسير قوله تعالى: (ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر)

تفسير قوله تعالى: (ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة سبأ: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ * يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ * فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ:12 - 14]. لما ذكر الله سبحانه وتعالى شيئاً من قصة داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وكيف من عليه سبحانه وأعطاه ملكاً، وسخر معه الجبال يسبحن معه والطير، أمر داود أن يشكره عليها فقال: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] فالذين يشكرون الله عز وجل من خلقه هم القليلون، والذين يكفرون نعم الله عز وجل كثيرون، فقال: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] فهذا داود ذكر الله لنا شيئاً مما جاء من قصصه عليه الصلاة والسلام، وهذا سليمان ابنه ذكر لنا ربنا كيف أنعم على هذا وذاك، إذ أنعم عليهما الابن بالعلم والفهم والملك والنبوة. فمن نعم الله عز وجل على سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ما حكاه الله بقوله: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [سبأ:12] وهذا من تسخير الله عز وجل الكائنات لسليمان عليه الصلاة والسلام، فالريح سخرها له، فقال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ} [الأنبياء:81] أي: سخر لسليمان الريح، وهذه قراءة الجمهور، وقراءة أبي جعفر: (ولسليمان الرياح) أي: سخرنا الرياح له، وقراءة شعبة عن عاصم: (ولسليمان الريحُ) أي والريح لسليمان مسخرة، كأنها مبتدأ مؤخر؛ لأن الله سبحانه وتعالى يذكر أن هذه الرياح سخرها لسليمان، إذاً الريح لسليمان مسخرة بفضل الله وبقوته سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ:12] فهذا تسخير عجيب، حيث إن الريح تطيع أمر سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام. والريح خلق من خلق الله سبحانه وتعالى يرسلها فيجعلها نسيماً بارداً على قوم، ويجعلها حارة شديدة على قوم، ويجعلها عاصفة على قوم، ويجعلها قاصفة على قوم، فالله يصرف في كونه ما يشاء سبحانه وتعالى. فالله سخر لسليمان الريح، وسرعتها عظيمة جداً إذ إن غدوها شهر، والغدو: هو الخروج مع أول النهار، فكأن سليمان عليه الصلاة والسلام يسخر له ربه هذه الريح فتحمله مسيرة شهر في غدوة واحدة، فهو ينتقل من مكان إلى مكان، لو أنه ركب على فرسه لسار شهراً كاملاً حتى يصل إليه، ولكن الريح تحمله بأمر الله سبحانه هو ومن يريد أن يحمله معه في مقدار الضحى من النهار، ولو أن غيرها الذي سارها لسار مسيرة شهر، والرواح: هو العود بالعشي، والريح رواحها شهر! إذاً كأنه يذهب إلى مكان ويرجع إليه في غدو ورواح يذهب ويقضي حاجة ويرجع فيما لو ركب على الفرس وجرى إلى هذا المكان ورجع منه في شهرين، فالريح تذهب وترجع به في غدو ورواح في ذلك الوقت القليل! قال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ:12] ذكر بعض أهل العلم منهم الثعالبي أن الريح إذا ذكرت في القرآن فلا تأتي إلا في الخير، والرياح لا تأتي إلا في الشر، وهذا فيه نظر؛ لأن ما من كلمة ريح جاءت إلا وفيها قراءة أخرى الرياح، فعلى هذا يكون الكلام غير مطرد إلا إن كان يقصد في اللغة، يعني: عند أهل اللغة ذلك، أما في القرآن فهو غير مطرد، فكأنه بنا على قراءة واحدة التفرقة بين الريح والرياح.

إذابة النحاس لنبي الله سليمان

إذابة النحاس لنبي الله سليمان قال تعالى: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} [سبأ:12] هذه من نعم الله سبحانه وتعالى على سليمان حيث أسال له عين القطر، والقطر: هو النحاس، فكما سخر الله لأبيه الحديد وألانه له، جعل لسليمان النحاس مذاباً منصهراً يشكل منه ما يشاء، ويصنع منه ما يريد بأمر الله سبحانه، نعمة أخرى من نعم الله سبحانه، جعله عيناً كما تنظر أنت عين ماء، كذلك النحاس مذاب منصهر في عين من العيون يأخذه وينتفع به وينتفع به الناس، فجعله الله عز وجل له سائلاً، وهذه نعمة من نعم الله عز وجل عليه لم تكن لأحد آخر غير سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وإنما كان الناس إذا أرادوا النحاس وجدوه معدناً صلباً قوياً، فيصهروه ويسيلوه ثم يستخدمونه فيما يشاءون.

تسخير الله الجن لسليمان

تسخير الله الجن لسليمان قال تعالى: {وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [سبأ:12] هذا شيء آخر سخره الله عز وجل لسليمان عليه الصلاة والسلام. فالجنة هم الشياطين، يسخرهم الله عز وجل له فيخافون منه، ويهابونه، وأذلهم الله عز وجل له ولسلطانه بأمره سبحانه وتعالى، فيعملون مسخرين لسليمان عليه الصلاة والسلام. وذكر الله تعالى تسخير الرياح لسليمان في سورة الأنبياء فقال: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأنبياء:81] فجعل الرياح تجري بأمر سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام، قال: {وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} [الأنبياء:81] أي: أن الله عز وجل أعلم بمن يستحق ذلك فأعطاه. وسليمان كان قد دعا ربه سبحانه فقال: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص:35] وكان من صغره قد فطنه الله عز وجل وأعطاه الحكمة العظيمة، حتى إنه ليقضي بقضاء من يفهم بتفهيم الله عز وجل له، ويحتاج إليه أبوه فيأخذ بقول ابنه وهو صبي صغير، وقالوا: إنه تولى الخلافة بعد أبيه وله سبع عشرة سنة، وقيل: بل وله ثلاث عشرة سنة، مما يدل على أنه كان صغيراً، فقد كان خليفة بعد أبيه من بعد وفاته بأمر من الله سبحانه وتعالى، وبما أعطاه الله سبحانه وتعالى من حكمة، وقدرته على الفصل في الخصومات؛ فلذلك أحب الناس أن يكون هو الذي عليهم، فكان بأمر الله سبحانه وتعالى هو الخليفة والملك بعد أبيه داود. ولقد من الله على داود بالملك وكان قبل ذلك راعي غنم، وما من نبي إلا ورعى الغنم، ثم صار بعد ذلك في هذا الملك العظيم، أما ابنه سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فقد أعطاه الله سبحانه وتعالى خيلاً عظيمة فنظر إليها يوماً من الأيام وهي تجري أمامه فأعجبه منظرها، فجاء عليه وقت صلاة فنسي الصلاة من جمال الخيل، فلما تذكر الصلاة قال: {رُدُّوهَا عَلَيَّ} [ص:33] وعلم أن الخيل التي نظر إليها فأعجبته ضيعت عليه الصلاة، فقال: {رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} [ص:33]. قيل: طفق مسحاً أي: قتلاً، وكان ذلك جائزاً له ففعل ذلك، وقيل: بل كان يمسح عليها فالله أعلم بذلك، ولكنه رجع إلى ربه سبحانه وتعالى تائباً إليه، ودعا ربه سبحانه وتعالى أن يغفر له ذلك. وأراد أن يكون له مائة من الولد، قال: لأطوفن الليلة على مائة امرأة فيكون لي من كل واحدة ولداً فيكون لي مائة من الولد يجاهدون معي في سبيل الله، وهذه نية عظيمة وجميلة وطلب حسن، وإذا بالملك بجواره يقول: قل: إن شاء الله، فلم يقل، وكأنه نظر إلى أن النية الصالحة تغني عن ذلك، أو أنه غفل عن ذلك، فلم يقل: إن شاء الله، فما ولدت منهن إلا امرأة واحدة فقط من المائة، ووضعت شق غلام أي: نصف غلام غير مكتمل في بطن أمه لا يصلح لشيء، ولهذا قال سبحانه: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} [ص:34] أي: رجع إلى ربه فتذكر أنه لم يقل: إن شاء الله، فأناب إلى ربه ودعا ربه تائباً إليه وقال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص:35] فسأل ربه فأعطاه الله سبحانه وتعالى ملكاً لا يكون لأحد بعد سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام. والله عز وجل سخر لسليمان الجن يعملون بين يديه بإذن ربه سبحانه كما قال تعالى: {وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [سبأ:12] إذ ليس هو المالك المتصرف، ولكن بإذن الله، فالله هو مالك الملك سبحانه وتعالى، ولذلك قال: {وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا} [سبأ:12] أي: لقد أمرنا الجن بطاعة سليمان ومن ينحرف عن طاعة الله سبحانه {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} [سبأ:12] فجعل له العذاب يوم القيامة على ذلك. كذلك في الدنيا يؤدبه ربه سبحانه بأن سخر لسليمان ما يؤدب الجن به، فسليمان يؤدب الإنس والجن بتسخير من الله سبحانه وتعالى، ومن ينحرف عما يقوله سليمان ولا يطيع بل يعصي فجزاؤه: {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} [سبأ:12] أي: من عذاب النار المستعرة.

تفسير قوله تعالى: (يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل)

تفسير قوله تعالى: (يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل) قال تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] أي: أن الله يسخرهم وهم يصنعون له ما يريد، سواء أشياء لنفسه أم أمور ينتفع بها الناس. قال تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ} [سبأ:13] المحراب: هو المكان الشريف والمقدم في أي مكان، ويطلق المحراب على المسجد، وعلى مقدم المسجد، وعلى الغرفة العالية، وعلى البناء العالي جداً، وعلى القصر العالي، كل هذا يطلق عليه المحراب، فكأن الله عز وجل سخرهم يبنون له ما يشاء من مساجد، وقصور، وأبنية عالية، وعلامات في الطريق، فيصنعون ذلك. قال تعالى: ((يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ)) أي: يعملون له تماثيل، وهذا كان جائزاً في شريعته ولا يحل لنا في ديننا، فقد حرمه الله عز وجل علينا، ومن صور صورة من هذه الأمة يأمره الله عز وجل يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح، ويعذبهم في نار جهنم سبحانه وتعالى حتى يفعل ذلك وما هو بفاعل، فجعل لسليمان عليه الصلاة والسلام الجن يصنعون له ذلك لحكمة منها أن تكون كعلامات للمكان، كأن يصور صور أناس ويريد بها شيئاً فالله أعلم بها، ولكن كان ذلك جائزاً في شريعة سليمان عليه الصلاة والسلام وليس جائزاً في شريعتنا، فالنبي صلى الله عليه وسلم لعن المصورين، وذكر أن من صور صورة كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ، يعني لا يقدر على ذلك. قال سبحانه: {وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} [سبأ:13]. الجواب والجوابي: جمع جابية، وفي قراءة يعقوب: (وجفان كالجوابي)، ومثلها قراءة ورش عند الوصل وكذلك أبي عمرو: (كالجوابي وقدور راسيات) في الوصل فقط، فإذا وقف عليها يقول: (كالجواب). والجوابي جمع جابية، ومنها الجوبة: وهو المكان أو الشيء المقعر، فهي الحياض العظيمة التي تجتمع فيها الماء، فالجن يصنعون له الجفان: وهي جمع جفنة، والجفنة القدر الضخم جداً، يقول تعالى: ((وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ)) يعني: جفنة عظيمة جداً مثل الحوض الذي تأتي الإبل لكي تشرب منه، فيصنعونها في الأرض على الصخر حتى يصير كهيئة الوعاء الضخم، والجفنة: هي التي يوضع فيها الطعام، فكأنهم يصنعون له كهيئة الحوض العظيم الضخم، وليس حوضاً واحداً، بل حياضاً كثيرة لأجل أن يأكل منها جند سليمان وضيوفه. وكل جفنة تسع عدداً كبيراً من الرجال، ومما ذكره المفسرون في ذلك أنها تسع ألف رجل يجلسون عليها، وهذا شيء عظيم وواسع جداً مما يصنعون فالله أعلم، ولكن الله عز وجل ذكر ضخامتها بهذه الصورة، فقال: ((وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ)) يعني: كالحوض والحياض العظيمة الواسعة، تصنعها الجن لسليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام. قال تعالى: ((وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ)) القدر: هو الحلة والإناء الذي يطبخ فيه، والقدر الذي عندنا نحمله فنذهب ونأتي به، لكن القدور التي يصنعها الجن قدور عظيمة جداً راسية على الأرض لا تتحرك من ثقلها، ومن عظيم هيئتها، فكونهم يصنعون له الحياض العظيمة أو الجفان التي كالجوابي، والقدور التي يطبخ فيها لأجل أن يوضع في هذه الحياض الأكل ليأكل الناس، يدل على وجود عدد كبير جداً من الناس يطعمون عند سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وهذا مما أعطاه الله عز وجل وجل من الملك، وهذا من الشيء الذي يمدح عليه الإنسان، ويوصف بأنه كريم، إذ إن جفنته عظيمة وملآنة وضخمة جداً، وكان العرب فيهم ذلك، فلقد كان عبد الله بن جدعان له قدر عظيم يصعد إليه بسلم، وهذا قبل النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يملؤها للحجيج، فيضع فيها لحماً كثيراً جداً، ومن أراد اللحم صعد على القدر بسلم لكي يأخذ منه. إذاً الجفنة العظيمة دليل على كرم صاحبها، وكون سليمان عليه الصلاة والسلام يصنع هذه الجفان العظيمة أو يأمر بصنعها لإطعام الخلق من محتاجين وضيوف وغيرهم دليل على الكرم العظيم الذي كان عليه سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام.

معنى قوله تعالى: (اعملوا آل داود شكرا)

معنى قوله تعالى: (اعملوا آل داود شكراً) قال الله عز وجل: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} [سبأ:13] أمرهم الله تعالى بالعمل وهو الشكر، وأهل الإعراب يقولون: هو مفعول به، والتقدير: اعملوا العمل الذي هو شكر. إذاً الشكر يكون عملاً وليس بالقول فقط، وكذا كل مؤمن مأمور بأن يشكر الله سبحانه وتعالى بلسانه وقلبه وعمله. وشكراً في قوله تعالى: ((اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا)) يحتمل أن تكون تمييزاً لهذا العمل، ويحتمل أن تكون مفعولاً لهذا الفعل، فكأن العمل الذي تعملونه هو الشكر لله سبحانه أو يكون شكراً لله سبحانه وتعالى، فالمؤمن يعمل لله عز وجل شاكراً نعم الله عز وجل عليه، فيعمل ويجتهد ويصلي ويصوم ويقوم لله سبحانه وتعالى، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم قياماً طويلاً، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: حتى ترم قدماه صلوات الله وسلامه عليه، أي: تتورم قدماه، فتقول: (يا رسول الله! ألم يغفر الله عز وجل لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول صلى الله عليه وسلم: أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً) عليه الصلاة والسلام. فالعبد الشكور هو الذي يعرف نعمة الله فيشكر بلسانه وبقلبه وبعمله. قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} [سبأ:13] فكان داود يعمل العمل العظيم من التسبيح الذي كان تتجاوب معه الجبال والطير، ويقوم في ثلث الليل مصلياً لله سبحانه وتعالى، ويحكم بين الناس بالحق، ويطيع الله سبحانه في أمره وحكمه بين الناس، وكان ذا استغفار وتسبيح كثير، كذلك سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فلما قال الله عز وجل: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} [سبأ:13] قاموا بذلك ونفذوه، وهذا كله تهيئة وتوطئة ليبين لنا بعد ذلك أن الذين شكروا الله عز وجل على نعمه أعطاهم الفضل العظيم، وأن من لم يشكر الله سبحانه يستحق نقمة الله عليه جزاء وفاقاً. قال سبحانه: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] أي: أن قليلاً من عباد الله عز وجل من يشكر، فيمكن لكل إنسان أن يقول: الحمد لله، ولكن هل هذه الكلمة تخرج من قلب هذا الإنسان وهو يقول: الحمد لله أم هو يستقل نعمة الله عز وجل عليه، ويستكثر نعمة الله على غيره، فيحسد الغير ويحقد عليه؟! العبد الذي يشكر لله سبحانه يعرف أن مبدأ النعم منه سبحانه، وأنه يعطي ما يشاء لمن يشاء سبحانه، يعطي ليس لاستحقاق العبد ولكن فضلاً منه سبحانه، فيعطي بفضله من يشاء، فإذا أعطاك الله عز وجل شيئاً فاحمد ربك على ما أعطاك، واعلم أنك مهما بالغت من شكر فإن النفع لنفسك، كما قال ربنا: {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} [النمل:40]، فشكرك يرجع إليك بنعم من الله، كما قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7] فإذا شكر العبد ربه سبحانه زاده الله من الخير، وزاده من النعم كما فعل بداود وسليمان عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، فذكر أنه أنعم عليهما وأنه أمر آل داود -وهم: داود وأبناؤه وذريته- أن يعملوا لله عز وجل شاكرين له سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (فلما قضينا عليه الموت)

تفسير قوله تعالى: (فلما قضينا عليه الموت) قال سبحانه: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتْ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ:14] المنسأة: هي العصا التي يتوكأ عليها ويقف عليها كالعكاز التي في يده، ودابة الأرض هي الأرضة التي تأكل الخشب، فهذه أكلت الخشب الذي في المنسأة إلى أن سقط سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام. وقوله: (مِنسَأَتَهُ) فيها قراءات: قراءة الجمهور: {تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ} [سبأ:14] وقراءة هشام بخلفه، وقراءة ابن ذكون: (تأكل منسأْته) بتسكين الهمزة، وقراءة نافع وأبي جعفر وأبي عمرو: (تأكل منساته). قوله تعالى: {فَلَمَّا خَرَّ} [سبأ:14] أي: وقع سليمان، وكأنه ما بين أن بدأت الأرضة في أكل العصا إلى أن أكلت جزءاً من العصا فتحرك وسقط سليمان أخذت وقتاً طويلاً، قالوا: عاماً كاملاً وهو على هذا الحال واقف يصلي، وكان قد سأل ربه سبحانه أن يعمي عليهم موته، لحكمة منه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فقيل: إن الحكمة هي أن الجن كانوا يزعمون أنهم يعلمون الغيب، فيقولون للإنس ذلك، فأراد سليمان أن يظهر للإنس أن الجن لا تعلم شيئاً من الغيب، وقيل: إنه سخر الجن في إكمال ما بدأه داود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام من بناء بيت المقدس، وكان قد أوصى سليمان بأن يكمله، فسخر سليمان الجن لذلك، فكانوا يحملون الحجارة ويقومون بالبنيان، وخشي أن تعلم الجن بموته فلا تكمل ذلك. والغرض أن سليمان عليه الصلاة والسلام مر عليه وقت طويل، وذكروا أنه سنة وهو على هذا الحال، فأجساد الأموات تبلى، ولكن أجساد الأنبياء لا يأكلها شيء، ولا تبلى، والله عز وجل يحفظها بحفظه سبحانه، ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من أحد يصلي علي إلا وبلغني الملك فرددت عليه السلام -أو ما من أحد سلم علي إلا بلغني الملك فرددت عليه- فقالوا: يا رسول الله! كيف ترد عليه وقد أرمت؟) (أرم) يعني أكلتك الأرض ولم يبق منك شيء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء) إذاً ليس النبي صلى الله عليه وسلم فقط، بل كل الأنبياء حرم الله عز وجل على الأرض أن تأكل شيئاً منهم، فلا يتغيرون بموتهم عليهم الصلاة والسلام. فالغرض أن نبي الله سليمان ظل قائماً في مصلاه يصلي وفي يده منسأته، ومات وهو على هذا الحال، وقدرة الله سبحانه وتعالى حفظته فلم يسقط، والجن تعمل فيما أمر به سليمان، ويتعبون ويذهبون ينظرون إليه وهو في مصلاه قائم يصلي، فيرجعون مسخرين في العمل ذاهبين راجعين وسليمان على حاله إلى أن شاء الله عز وجل أن تأكل الأرضة هذه العصا فيسقط سليمان عليه الصلاة والسلام. قال تعالى: {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ} [سبأ:14] أي: ظهر كذبهم فيما يدعونه من معرفة الغيب. {تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ:14] فلقد كانوا مسخرين عاماً كاملاً يعملون وهم يخافون من سليمان أن يعاقبهم ويعذبهم فيعملون بأمره وهو ميت عليه الصلاة والسلام، فتبينت الجن أي ظهر لهم أنهم كذبوا وأنهم لا يعرفون شيئاً من أمر الغيب. وقوله: (تَبَيَّنَتِ) هي قراءة الجمهور، وقراءة رويس عن يعقوب (تبينت) على البناء للمفعول، بمعنى: ظهر أمر الجن للناس، فكأنه تبين للناس أن الجن لا يعرفون شيئاً من الغيب، فهذا راجع إلى الناس. فهذه هي قصة سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.

بناء بيت المقدس وإتمامه

بناء بيت المقدس وإتمامه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما بنا سليمان بيت المقدس سأل ربه سبحانه وتعالى أنه لا يأتيه أحد إلا ويغفر الله عز وجل له، نسأل الله عز وجل أن يحرره وأن يمكن المسلمين من الذهاب إليه، وأن يغفر لنا وللمسلمين، فهذا كان من دعائه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وهذه نعمة من نعم الله عز وجل على سليمان أنه أتم بناء بيت المقدس، وأن سخر له ما ذكر من أشياء في هذه الآية وفي غيرها من القرآن. لما أعطى الله عز وجل لداود وسليمان الحكم والملك أمر الله عز وجل بالحكم بالعدل فقال لداود: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:26] وهذه مقولة قالها الله لنبي من أنبيائه عليه الصلاة والسلام، فغيره من باب أولى، إذ على من تولى أمر الناس ألا يتبع الهوى حتى لا يضل، والنبي صلى الله عليه وسلم يدعو لمن تولى أمر الناس ورفق بهم ويدعو على من تولى أمر الناس فشق عليهم، قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليهم، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به). فدعا النبي صلى الله عليه وسلم على من يتولى أمور الناس فيعنفهم ويشق عليهم ويقسو عليهم بأن يعامله الله بمعاملته، ومن تولى أمر الناس فرفق بهم أن يرفق الله عز وجل به.

نماذج من براعة نبي الله سليمان وفطنته في القضاء

نماذج من براعة نبي الله سليمان وفطنته في القضاء قال الله تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:78 - 79] من منن الله عز وجل وفضله العظيم أن آتى داود حكماً وعلماً وآتى سليمان حكماً وعلماً، ولكن الله عز وجل يقضي بما يشاء فعلم سليمان أشياء لم يعلمها داود مع صغر سليمان في السن وكبر داود في السن عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام. وهذه قصة ذكرها ربنا عز وجل في كتابه، فقال: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [الأنبياء:78] وذكر أنه ذهب اثنان يختصمان إلى داود النبي، وكان أحد الاثنين صاحب حرث ومزرعة، والآخر عنده غنم، فخرجت غنمه على مزرعة هذا الآخر فأكلت ما فيه من حرث، فقضى داود بقضاء، وسليمان قضى بقضاء آخر، فكان القضاء من داود أن المزرعة تساوي مبلغ كذا، والغنم تساوي كذا، بنفس قيمة الزرع، فحكم بأن صاحب المزرعة يأخذ الغنم، وهذا قضاء صحيح له وجهة من النظر، حيث غرمه قيمة ما أفسده. أما سليمان فحكم بشيء آخر حيث قال: هلا غير ذلك؟! أي: شيء آخر غير ذلك، قال: وما ذاك؟ قال: تعطي الغنم لصاحب الحرث فينتفع بها حتى يزرع له الآخر أرضه حتى تعود كما كانت ثم يرجع الغنم لصاحبها، فرفق بالاثنين، فهذا صاحب الحرث ليس عنده ما يأكله ولا يشربه، فحكم له أن يأخذ الغنم فينتفع بها إلى أن يصلح هذا الآخر له أرضه، فيزرعها مرة أخرى إلى أن ينمو الزرع فيأخذ هذا غنمه وهذا يأخذ زرعه، فيكون هذا فيه رحمة بالاثنين، فلا هذا فقد الغنم بالكل، ولا هذا فقد زرعه ولم يأخذ بدله شيئاً، فكان حكم سليمان أقرب إلى الحكم الذي هو أرفق بالناس من حكم داود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فقال الله عز وجل: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79]. وجاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم حكم آخر أيضاً عن سليمان مما فهمه الله سبحانه تبارك وتعالى، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كانت امرأتان معهما ابناهما، وجاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت إحداهما لصاحبتها: ذهب بابنك). أي: أن امرأتين كان مع كل منهما طفل رضيع، فجاء الذئب وخطف واحداً من الولدين فقتله، فإذا بالمرأة تقول للأخرى: أخذ ولدك أنت، وهذه تقول: أخذ ولدك. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (فاحتكما إلى داود النبي عليه الصلاة والسلام، فكأنه رأى أمارة من الأمارات تدل على أن هذه الكبيرة هي الصادقة فحكم بالصبي للكبرى، فلما خرجتا وجدتا سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فقضى بينهما بحكم آخر، قال: هاتوا الصبي، وقال: ائتوني بالسكين أشقه بينهما؛ لكي نعدل بين الاثنتين، فبداهة أم الصبي تخاف على ابنها، والأخرى لا يهمها ذلك، فقالت أم الصبي: دعوه لها هو ابنها، فعرف أنها أمه فأعطى الصبي لأمه). وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: فقال سليمان: (ائتوني بالسكين أشقه بينهما، فقالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله! هو ابنها، فقضى به للصغرى) فذكر الله عز وجل أنه فهم سليمان حكماً فقال تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79] وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، نسأل الله من فضله ورحمته فإنه لا يملكها إلا هو. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة سبأ [15 - 19]

تفسير سورة سبأ [15 - 19] قصة سبأ فيها عبرة وعظة لكل من يأتي بعدهم إلى يوم القيامة، فبعد العز الرفيع، والراحة العظيمة، والنعم الجليلة صاروا إلى ما صاروا إليه من تفرق وتشتت، حتى ضربت بهم الأمثال، وسارت بحديثهم الركبان، وما حصل لهم ما حصل إلا بسبب كفرهم وإعراضهم عن الله، فعلى المسلم أن يشكر نعم الله عز وجل ليحافظ عليها من أن تسلب منه فالشكر قيد النعم.

نعم الله عز وجل على عبديه داود وسليمان عليهما السلام

نعم الله عز وجل على عبديه داود وسليمان عليهما السلام الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة سبأ: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ * وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ * فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [سبأ:15 - 19]. يذكر الله عز وجل لنا في هذه الآيات قصة سبأ وما صنع الله عز وجل بهم، فقد كان في قصتهم عبرة عظيمة وآية كبيرة لمن يعتبر. وقد ساق الله عز وجل لنا قبل ذلك إشارات إلى ملك سليمان وإلى ملك داود عليهما السلام، وكيف أنه أنعم عليهما فعبداه سبحانه تبارك وتعالى حق العبادة، فقد كان داود عليه الصلاة والسلام نبياً وملكاً، وقد آتاه الله من الملك أشياء عظيمة من فضله سبحانه تبارك وتعالى، فقد سخر له الجبال يسبحن، والطير يجتمعن حوله وفوقه إذا قرأ الزبور، وسهل له الزبور فكان يقرؤه في فترة وجيزة جداً، حتى إنهم ليسرجون له فرسه فيقرأ الزبور كله خلال هذا الوقت، وهذا من نعم الله عز وجل عليه، وسخر له الحديد، كما قال تعالى: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ:10 - 11]. وقد أمر الله آل داود أن يعملوا لله شكراً، فقال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13]. ومن آل داود عليه الصلاة والسلام سليمان عليه الصلاة والسلام الذي دعا ربه أن يؤتيه ملكاً لا يكون لأحد من بعده، فقال: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص:35]، فأعطاه الله عز وجل سؤاله، قال تعالى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص:36 - 39]. أي: هذا عطاء من الله سبحانه تبارك وتعالى، يرينا بذلك كيف يعطي العبد في الدنيا ليتخيل ما الذي يفعله في الآخرة سبحانه تبارك وتعالى. فإذا كان هذا الملك كله جعله لعبد من عباده في الدنيا التي لا تساوي شيئاً، فكيف يعطي في الآخرة سبحانه تبارك وتعالى؟! فقد سخر له في الدنيا من الجن من يغوصون له، ويعملون عملاً دون ذلك. فكانت الجن تعمل له في البر وفي البحر، كما قال تعالى: {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} [ص:37] أي: منهم من يبني له البيوت العالية والقصور والمحاريب، ومنهم من يغوص في البحر ليأتيه بما في البحر من درر، ومن أشياء جعلها الله عز وجل فيها، كالطعام البحري. وهم يفعلون بأمره ما يشاء. قال تعالى: {وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} [سبأ:12]. وقال: {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ} [ص:38] أي: منهم من قرنهم الله عز وجل في الأصفاد؛ تخويفاً لغيرهم، وجعل لسليمان أن يعذب من يشاء منهم. قال تعالى: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص:39] أي: لن نحاسبك على ذلك، ولا شيء عليك لأنك تعمل بأمرنا في ذلك. فشكر ربه سبحانه، وعمل له سبحانه، وصلى وصام له سبحانه، فكان من أحسن الناس عبادة، وضربت بعبادة داود وببكائه وبأوبته إلى ربه سبحانه تبارك وتعالى الأمثال. وقد ذكر لنا ذلك سبحانه لنتعظ ونعتبر بأن الإنسان مهما أوتي ملكاً في الدنيا فإن الملك الحقيقي لله. قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك:1].

تفسير قوله تعالى: (لقد كان لسبأ في مسكنهم آية)

تفسير قوله تعالى: (لقد كان لسبأ في مسكنهم آية) ثم ساق الله لنا بعد ذلك قصة أخرى لنرى ما في آيات الله من عجائب، وما في تدبير كونه من ابتلاء لخلقه وفتن. قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35]. فيبتلي الله سبحانه تبارك وتعالى عباده بالخير، فينعم عليهم نعماً عظيمة طائلة، فيعطيهم البساتين والجنات والعيون والأنهار والأبناء والعبيد والأموال، ابتلاءً منه سبحانه، كما قال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2] أي: من يشكر نعمة الله سبحانه ويعرفها فيؤتيها حقها، ومن يكفر بنعم الله سبحانه فيكذب ويظن أن الله ما أعطاه إلا لفضله، كما يقول البعض من هؤلاء، وقد أرانا الله عز وجل آية من الآيات، فقد أعطى هذه النعم لقوم فلما لم يشكروها استجلبوا على أنفسهم النقم، فجعلهم آية، وفرقهم بعد اجتماعهم وصاروا مثلاً وعبرة للناس، يضرب بهم الأمثال، فيقولون: تفرقوا أيدي سبأ. أي: كما تفرق أهل سبأ يميناً وشمالاً، ويقولون: فلان تفرق شذر مذر كأيدي سبأ. قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ:15]. فقوله: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ} [سبأ:15] هذه قراءة الجمهور على أنها: مصروفة مجرورة. وقرأ قنبل عن ابن كثير: (لقد كان لسبأْ في مسكنهم آية) بالتسكين فيها. وقرأ البزي عن ابن كثير وهي قراءة أبي عمرو: (لقد كان لسبأَ في مسكنهم آية) على أنها: ممنوعة من الصرف، وكأنها اسم للقبلية. وسبأ أبوهم وسميت القبيلة بعده باسمه. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث عندما سأله رجل: (يا رسول الله! ما سبأ؟ أرض أم امرأة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا هي أرض ولا هي امرأة، ولكنه رجل ولد له من الولد عشرة فسكن اليمن منهم ستة، وبالشام منهم أربعة، فأما اليمانيون فمذحج وكندة والأزد والأشعريون وأنمار وحمير، وأما الشامية فلخم وجذام وغسان وعاملة). فـ سبأ هو أبوهم، وكأن سبأ لقب له، قالوا واسمه: عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان، فهو قحطاني من أبناء يعرب بن قحطان. وكان أول من سبى من العرب، أي: أول من أسر وأخذ السبي، فلقب سبأ للأسر الذي كان يصنعه، وقيل: إن الرجل كان مؤمناً، فالله أعلم بأمره. لكن الغرض أن هذا كان قبل الإسلام بفترة طويلة. قال الله سبحانه: (فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ) فيها ثلاث قراءات: الأولى: (فِي مَسْكَنِهِمْ)، وهي قراءة حفص عن عاصم وقراءة حمزة. والثانية: (في مسكِنهم)، وهي قراءة الكسائي بكسر الكاف فيها. والثالثة: (في مساكنهم)، وهي قراءة باقي القراء، على تعدد المساكن والبيوت التي كانوا فيها. قال تعالى: (آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ) أي: كان لهم في مساكنهم آية عظيمة. وكان لهم جنتان، فإذا نظر الناظر عن يمينه وجد الجنات -والجنة: البستان العظيم- وإذا نظر عن شماله وجد الجنات. أي: بساتين عن اليمين وبساتين عن الشمال. وكلما مر الإنسان من هناك رأى عن اليمين وعن الشمال هذه البساتين.

نبذة وجيزة عن دولة سبأ

نبذة وجيزة عن دولة سبأ كانت سبأ دولة من الدول قبل الإسلام بأكثر من ألف عام، واستمر الملك للتبابعة فيهم بعد ذلك إلى قبل الإسلام بفترة وجيزة تصل إلى مائة وخمسة عشر عاماً، ثم حدثت أشياء ذكرها أهل التواريخ، والله أعلم بما كان فيها. فالغرض أن ملك التبابعة كان موجوداً هناك إلى قبل الإسلام. والتبابعة من أحفاد سبأ أيضاً. ويطلق لقب (تبع) على كل من ملك اليمن وحضرموت يقول الحافظ ابن كثير: كانت العرب تسمي كل من ملك اليمن مع الشحر وحضرموت (تبعاً)، كما يسمون ملك الشام مع الجزيرة (قيصراً)، ومن ملك الفرس يسمونه بـ (كسرى)، ومن ملك مصر يسمونه (فرعون)، ومن ملك السودان والحبشة يسمونه (النجاشي)، ومن ملك الهند يطلقون عليه (بطليموس)، فهذه ألقاب يطلقونها على الملوك التي كانت تملك هذه الأماكن، ولهم أسماء غيرها. ومن جملة الملوك الذين ملكوا أرض سبأ في يوم من الأيام الملكة بلقيس، فقد ملكتها في عهد سليمان النبي على نبينا وعليه الصلاة والسلام. فقد رجع الهدهد بعدما تأخر عن سليمان وأخبره أنه وجد هؤلاء القوم يسجدون للشمس من دون الله، وأنه وجدهم تملكهم امرأة ولها عرش عظيم. قال: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} [النمل:24]. ثم أسلمت بلقيس مع سليمان لله رب العالمين. وأما هؤلاء القوم فقد كانوا قبل ذلك. وقد ذكر الله سبحانه تبارك وتعالى في أمرهم أنه قال لهم: {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ:15] أي: هذا رزق عظيم دار عليهم، فكلوا من هذا الرزق الذي أعطاكم الله، واشكروا له سبحانه تبارك وتعالى. فالرزق من الله ليس منكم أنتم، فاشكروا له، فهو الرزاق سبحانه، فقد أعطاكم هذه البلدة الطيبة، وهو الرب العظيم الغفور. فقد كانت بلدتهم بلدة طيبة، ليست أرضاً طينية ولا أرضاً رملية، وفيها ما شاء الله عز وجل من الثمار والنبات، وقد أعطاهم الله فيها خيراً عظيماً وفيراً، فكانوا يأكلون ويشربون ويتنعمون، وقد كان هواؤها هواء طيباً، حتى إنهم ليقولون: إن الهوام كانت لا تعيش في هذه الأماكن من طيب هوائها، ومن طيب منبتها، فكانت من طيب هوائها لا توجد فيها العقارب والأشياء الخبيثة التي تؤذي. قال الله عز وجل: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ:15]، وهذه نعمة عظيمة جداً من الله سبحانه، فكان المفترض في هؤلاء أن يشكروا نعم الله سبحانه تبارك وتعالى، وأن يعبدوه حق العبادة.

تفسير قوله تعالى: (فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم)

تفسير قوله تعالى: (فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم) قال تعالى: {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} [سبأ:16]. فقوله: {فَأَعْرَضُوا}، أي: أعرضوا عن هذه النعمة التي أعطاهم الله سبحانه، وأعرضوا عن عبادة الله سبحانه تبارك وتعالى. قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} [سبأ:16]. فلما كفروا النعمة عجل الله عز وجل بذكر العذاب قبل أن يذكر السبب، وذلك أنهم لما كفروا بنعمة الله استحقوا العذاب. فقد أعرضوا عن شكر الله سبحانه، وجحدوا نعمته سبحانه. قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} [سبأ:16] أي: السد العالي الذي وراءه الماء العظيم، فهذا السد هدمه الله سبحانه تبارك وتعالى لأسباب عجيبة جداً، فسال عليهم الماء كالجيش العرمرم الشديد الصعب، فأغرق كل شيء وأتلف كل ما أتى عليه، والمقصود بالعرم السد أو السيل، أي: السيل الصعب الذي لا يقدر أحد على منعه ولا على صده، وقد كانت المياه تسيل عندهم بين جبلين، ففكروا ببناء سد للاستفادة من هذه المياه، فبنوا سداً اسمه سد مأرب، ومأرب اسم القرية التي كانت هناك. وكأن مأرب بمعنى: المياه، أي: سد المياه الذي تجمع المياه خلفه، فبنوا بين الجبلين الذي كان يسيل بينهما الماء سداً، حتى وصلوا بالسد إلى الأعلى قمم الجبال، وهذه من نعم الله عليهم، أن سخر لهم ما يبنون به هذا السد، فارتفع الماء خلف السد حتى بلغ الجبال، فزرعوا الجبال واستفادوا منها أعظم الاستفادة. فاجتمع لهم الهواء الطيب والنبات العظيم والبساتين المثمرة، فلم يشكروا ربهم سبحانه تبارك وتعالى أن سخر لهم هذا الجبل، وهذا السد، وهذا الماء، فاستحقوا سلب هذه النعمة، فسلط الله عز وجل عليهم من يهدم عليهم هذا السد المرتفع. فسخر شيئاً عجيباً جداً وهو الجرذ (الفأر)، سخره الله سبحانه تبارك وتعالى وسلطه على هذا السد، فأكل أسفله فانهار السد فإذا بالمياه تغرق كل شيء أمامها. قال سبحانه: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ} [سبأ:16] أي: جنتين أخريين بدل البستانين اللذين كانا فيهما من كل الثمرات، ومن كل نعم الله العظيمة. قال تعالى: {جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} [سبأ:16] والأكل والأكُل يعني: الجنا. قرأها نافع وابن كثير: (أُكْل)، بتسكين الكاف. وقرأها الجمهور: (أكُلٍ). وقرأها أبو عمرو ويعقوب: (ذواتي أُكُلِ خمطٍ)، بالإضافة إليها. و (الخمط) كأنه الحامض، يقال: لبن خامط أي: ابتدأ يتغير ولم يصل إلى درجة الحموضة التي لا يقبل معها. وكذلك الثمار بعدما كانت ثماراً يانعة عظيمة جميلة في طعمها تحولت إلى هذا الشيء العجيب، وأصبح الثمر ثمراً خامطاً أي: فيه طعم الحموضة، فلا يصلح للأكل إلا بمرارته وحموضته وملوحته. وقوله تعالى: {وَأَثْلٍ} هي: شجر الطرفاء، وهو شجر فيه الشوك. فبعد الجنات العظيمة أصبحت الأشجار تنبت لهم الشوك، وأصبح طعم النبات والثمار مالحاً وحامضاً بكفرهم وببغيهم. قال تعالى: {وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} [سبأ:16] والسدر: النبق. أي: شجر النبق، فحتى يحصلوا على هذا النبق كانوا يصعدون شجرته العالية حتى يحصلوا على قليل منه، ولا ينفعهم شيئاً. كما يقال: هذا لحم جملٍ غث على رأس جبل وعر، لا سمين فينتقى ولا سهل فيرتقى. أي: لا اللحم سمين حتى نذهب إليه، ولا الجبل سهل فنرتقي عليه. وكذلك هؤلاء أبدلهم الله عز وجل بهذا بعد الثمار الطيبة التي كانوا فيها قبل ذلك. فضاع كل ذلك وصاروا إلى ما صاروا إليه بكفرهم.

تفسير قوله تعالى: (ذلك جزيناهم بما كفروا)

تفسير قوله تعالى: (ذلك جزيناهم بما كفروا) قال تعالى: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ:17] أي: ذلك الجزاء العظيم الفضيع من الله سبحانه بكفرهم، فقد كفروا وعبدوا غير الله، وكفروا بنعم الله سبحانه فلم يشكروها. قال تعالى: {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} هذه قراءة حفص عن عاصم، وقراءة حمزة والكسائي وخلف ويعقوب. وقرأها الباقون: (وهل يُجازى إلا الكفور)، وليس المقصود بأن الكفور فقط هو الذي يجازى، وإنما المقصود: إنما يجازى مثل هذا الجزاء الصعب الشديد من كفر بالله، وكفر بنعمه سبحانه، فاستحق أن يباد وأن تسلب منه النعم، وكذلك استحق نار جهنم يوم القيامة، ولا ينفعه شيء. وفي الصحيحين عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من نوقش الحساب عذب)، وفي رواية: (من حوسب هلك، فقالت السيدة عائشة رضي الله عنها: أليس الله يقول في المؤمن: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:8]؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ليس ذاك، ولكنه العرض) أي: أن المؤمن يعرض الله عز وجل عليه كتابه، ويقول له: فعلت كذا يوم كذا، ثم يعفو عنه ويتجاوز سبحانه تبارك وتعالى. وأما الإنسان الكافر فالله عز وجل يناقشه الحساب، وكل من نوقش الحساب عذب، سواء كان كافراً أو عاصياً صاحب كبائر أو فاسقاً أو فاجراً فمن نوقش الحساب أهلكه الله وعذبه يوم القيامة. وهنا يذكر لنا ربنا سبحانه أنه لا يجازى الجزاء الذي لا ينفع معه شيء إلا الإنسان الكافر، حتى ولو كان له عمل صالح في الدنيا، ولكن كفره جعل عمله غير مقبول، فلا ينفعه عمله، قال الله سبحانه: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] أي: أخذنا أعمالهم وبعثرناها فلا تنفع أصحابها يوم القيامة لكفرهم. فهل يجازى إلا الكفور؟! أي: الجزاء الأوفى، والمعنى: أن الكافر يجازى أشنع الجزاء على كفره، ويوفيه الله عز وجل على كل شيء فعله، ولذلك حين يقال لأهل النار: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [المدثر:42 - 47]. فجوزوا على كفرهم، وعلى بقية الأعمال التي لا تصل إلى هذه الدرجة، فيحاسبهم الله على كل شيء. إذاً: فكأنه يقول في الآية: هل يجازى الجزاء الوافي على كل عمل يعمله إلا من كفر بالله فاستحق ذلك؟!

تفسير قوله تعالى: (وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة)

تفسير قوله تعالى: (وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة) ثم بعد أن ذكر سبحانه عذابهم وإبادتهم وإهلاك أرضهم ذكر سبحانه الأسباب التي عملها هؤلاء، وهي أنهم أعرضوا عن الله سبحانه، وكأن الله أرسل إليهم أنبياء يدعونهم فلم يؤمنوا بالله سبحانه ولم يذكروا ربهم بل كفروا ولم يشكروا، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} [سبأ:18] هنا يذكر سبحانه باقي نعمه على هؤلاء، فقال: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [سبأ:18]، والقرى المباركة هي قرى الشام. فهم كانوا في اليمن، فإن سبأ ومأرب بجوار صنعاء. فجعل الله عز وجل من صنعاء إلى الشام قرىً، كل قرية تتلو قرية، ووراء كل قرية قرية، حتى إن المسافر للتجارة من اليمن إلى الشام كان لا يحتاج إلى زاد ولا إلى ماء في الطريق. ويجد الجنات والعيون من خروجه حتى يصل، ومن هناك حتى يرجع إلى أرضه! قال تعالى: {قُرًى ظَاهِرَةً}، أي: ليست باطنة ومختفية. وأنت إذا سافرت في الطريق البري من الإسكندرية للعمرة أو للحج فإنك تمر على صحار شاسعة، ولا تجد قرية إلا بعد تعب ومشقة ولا تجدها على الطريق. وتحتاج إلى من يدلك عليها. وأما قوم سبأ فقد جعل الله عز وجل لهم القرى ظاهرة ليست مختفية، ولا يحتاجون إلى من يدلهم عليها، وجعل الله عز وجل لهم الأرض كلها بساتين وجنات وعيون في الطرق جميعها، فكانوا يصبحون في ذلك ويمسون فيه. فإذا سافروا وانتقلوا من مكان إلى مكان، أو من قرية إلى قرية لا يحتاجون إلى حمل شيء من الأمتعة معهم في الطريق. قال تعالى: {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ} [سبأ:18] وأتى فيها بنون العظمة سبحانه تبارك وتعالى. وإذا قدر الله سبحانه فمن المستحيل أن يأتي الشيء على خلاف تقديره سبحانه. فقدر سبحانه الوقت الذي يستغرقونه في المشي في القرى، حتى إذا أمسوا أمسوا في قرية، وإذا أصبحوا ومشوا قليلاً رأوا القرية الأخرى، ويبيتون في قرية أخرى، حتى لا يتعبون.

نعمة الله بالأمن والأمان على قوم سبأ

نعمة الله بالأمن والأمان على قوم سبأ قال تعالى: {سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} [سبأ:18] أي: سيروا ما شئتم من الأيام والليالي في خلال هذه القرى آمنين. والإنسان إذا سار من قرية إلى قرية أخرى بعيدة فإنه يسير خائفاً من اللصوص وقطاع الطريق، وأما إذا مشى في قرى متقاربة فلا يخرج من قرية حتى يدخل قرية أخرى، وكان الناس في كل طريقه فلا يخاف من قطاع الطرق. فجعل الله عز وجل بلدة هؤلاء القوم بلدة طيبة، وهواءها نقياً، ولا توجد فيها الهوام، وفيها من الثمار والأشياء التي يحتاجونها الشيء الوفير والنعم الكثيرة، وفيها الأمن والأمان. وقد جاء في حديث النبي صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: (من بات آمناً في سربه، معافىً في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها). فإذا كان الإنسان في أمان وهو في بيته وعنده طعامه وشرابه ولا يوجد أحد يسأله أي دين فهو ملك في مكانه، فماذا يريد أكثر من هذا؟ فهؤلاء كانت عندهم الدنيا كلها وكفروا بالله عز وجل ولم يحمدوه ولم يشكروه.

تفسير قوله تعالى: (فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا)

تفسير قوله تعالى: (فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا) قال تعالى: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [سبأ:19] أي: هؤلاء كفروا بالله عز وجل وهم يعلمون أنه الرب. والكافر يعرف أن الرب هو الذي يخلق ويرزق، ولكن لا يتوجه له بالعبادة بل يشرك به غيره سبحانه تبارك وتعالى. قال تعالى: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} [سبأ:19]، وهذه قراءة الجمهور. وقرأها يعقوب: (فقالوا ربُّنا باعَدَ بين أسفارنا)، على صيغة الإخبار، أي: أن ربنا قد باعد بين أسفارنا. وقرأها ابن كثير وأبو عمرو وهشام: (ربَّنا بعِّد بين أسفارنا). وكل قراءة يقصد بها معنى. ولكن مجمل الكلام ومضمونه أنهم ملوا من الراحة وتعبوا منها، وبطروا، فاستحقوا الشقاء، مثل بني إسرائيل عندما لم يعجبهم المن والسلوى ضرب الله عز وجل عليهم التيه، يتيهون في الأرض أربعين سنة، ولا يصلون إلى بيت المقدس. فكانوا يقطعون الطريق في متاهة ولا يعرفون كيف يصلون إلى بيت المقدس، فلما جاعوا سألوا ربهم الطعام وهم في العقوبة، فأنزل الله عليهم الطعام المن والسلوى، وهما عسل من الشجر وطائر السمانى، يأكلون ما شاءوا ولا يدخرون شيئاً، ثم اشتاقوا إلى البقل، فقالوا: {فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا} [البقرة:61] أي: كل الوقت ونحن نأكل عسلاً ولحماً، فنريد أن نأكل ثوماً وبصلاً وجرجيراً وبقلاً من الأرض. فتعنتوا ورفضوا هذه النعمة العظيمة وطلبوا هذه الأشياء. فقال لهم: انزلوا أي قرية من القرى، {اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} [البقرة:61] أي: اذهبوا وكلوا الثوم والفول والعدس، واتركوا هذه النعم العظيمة التي تأتيكم بغير تعب. فالإنسان الذي يبطر من نعم الله سبحانه يستحق أن يحرم. فهؤلاء قالوا: {رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} [سبأ:19]. وكأن قولهم هذا على وجه التهكم. أي: أسفارنا قليلة جداً، فنريد سفراً طويلاً، وطلبوا ذلك من الله سبحانه تبارك وتعالى الذي لم يشكروه ولم يعبدوه سبحانه، بل وجهوا العبادة إلى غيره. وعلى قراءة يعقوب: (ربُّنا باعَدَ بين أسفارنا) أي: كأنهم قالوا مستهزئين: انظروا كيف أن ربنا باعد بين أسفارنا، فبين كل قرية وقرية قرية في الوسط. يقولون ذلك على وجه التهكم. وأما على قراءة: (ربَّنا بعِّد بين أسفارنا) أي: اجعل سفرنا بعيداً. لماذا جعلته قريباً؟

عقاب الله لأهل سبأ

عقاب الله لأهل سبأ فلما قالوا ذلك وظلموا أنفسهم بذلك قال الله سبحانه: {وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} [سبأ:19] أي: جعلنا حديثهم على كل لسان. وكل أحد يقول: هل رأيتم كيف فعل الله بأبناء سبأ؟ أرأيتم كيف فرقهم الله يميناً وشمالاً؟ أرأيتم ربنا كيف بددهم؟ فصار يضرب بهم الأمثال على خيبة الحال وعلى ما آل إليهم هذا المآل بكفرهم وببغيهم وبخروجهم عن طاعة ربهم سبحانه تبارك وتعالى. قال تعالى: {وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ:19] أي: فرقناهم بعدما كانوا مجتمعين في بلدة واحدة، فتفرقوا في البلدان، فأصبح هؤلاء هنا وهؤلاء هنا، وذهبوا إلى كل مكان. قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [سبأ:19] أي: لا يعتبر بذلك إلا من عرف نعم الله سبحانه، وصبر عن المعاصي، وتأسى بأفعال الصالحين، كنبينا صلى الله عليه وسلم وكداود وسليمان وغيرهم عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، فهؤلاء هم الذين يعتبرون بالآيات، وأما من ترك الاعتبار بالآيات فقد وقع فيما وقع فيه هؤلاء الناس الذين فرقهم الله سبحانه تبارك وتعالى. يقول ابن عباس رضي الله عنه: لم يخرج من اليمن جميع قبائل سبأ، فست قبائل بقوا في اليمن يأكلون من هذه الثمار الرديئة، وأربع قبائل خرجوا إلى الشام فتفرقوا هنالك. والذين بقوا: الأزد ومذحج وكندة والأنمار والأشعريون وحمير. وتفرق الآخرون فذهبوا إلى الشام، ومنهم من توجه إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، فكان من ذريتهم بعد ذلك الأوس والخزرج، ونزلت عليهم اليهود وحصلت محالفات بينهم، حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وأدخل الله عز وجل الإسلام المدينة وطيبها سبحانه تبارك وتعالى. فالغرض: أن الله سبحانه جعل هؤلاء عبرة وقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [سبأ:19] أي: كثير الصبر على قضاء الله وقدره. {شَكُورٍ} [سبأ:19] أي: يشكر نعم الله سبحانه، ويصبر عن المعاصي فلا يقع فيها، ويصبر لأمر الله، ويشكر الله سبحانه إذا أعطاه النعم. فيمن الله عليه بالعلم والمعرفة ويمن عليه بالإيمان وبالصبر، فيصبره على قضائه وقدره. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة سبأ [20 - 23]

تفسير سورة سبأ [20 - 23] ذكر الله سبحانه قصة قوم سبأ، وكيف أغدق عليهم نعمه العظيمة، فجحدوا نعم الله عليهم، وصدق عليهم إبليس ظنه فأغواهم كما أغوى غيرهم من الناس، إلا المؤمنين الذين اعتصموا بالله فإنه لم يقدر على إغوائهم، وقد جعل الله إبليس فتنة للناس ليعلم المؤمن الصادق من غيره.

تفسير قوله تعالى: (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه وهو العلي الكبير)

تفسير قوله تعالى: (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه وهو العلي الكبير) الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: يقول الله عز وجل في سورة سبأ عن قوم سبأ: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ * قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:20 - 23]. لقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى عن قوم سبأ: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ} [سبأ:15]، وذكرنا أنه أعطاهم جنتين من فضله سبحانه وتعالى عن يمين وشمال، وجعل لهم البساتين والأنهار والعيون، وجعل لهم من فضله سبحانه وتعالى بين كل قرية وقرية قرية أخرى، فلا يرحلون من قرية إلا وينزلون في قرية أخرى، فكان هذا فضلاً من الله سبحانه وتعالى عليهم. وكان الواجب عليهم أن يشكروا نعمة الله سبحانه، وقد قال لهم: {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ:15]. أي: هواؤها طيب، وأرضها طيبة، وثمارها عظيمة طيبة، فلا هوام فيها مؤذية للناس، ولا شيء ينغص عليهم حياتهم، وإنما فيها أمان من الله سبحانه وتعالى لهم، قال سبحانه: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ:15]. ثم قال: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} [سبأ:18]، وهذه نعمة من نعم الله سبحانه وتعالى، وهي نعمة الأمن والأمان، فقد كانوا يسيرون مرتحلين من اليمن إلى بلاد الشام في أمن وأمان، يرحلون من قرية إلى قرية فلا يحتاجون إلى حمل زاد، بل ورد أن المرأة كانت تخرج إلى القرية تحمل مكتلها فوق رأسها وتسير تحت الأشجار والثمار فتتساقط الثمار في مكتلها من غزارتها فلا تخرج من البستان إلا وقد امتلئ مكتلها من غير أن تتعب نفسها في أخذ هذه الثمار! وهذا فضل من الله سبحانه وتعالى، فاشكروا نعمة الله سبحانه فالبلدة طيبة والرب رب غفور سبحانه وتعالى. فلما رأوا هذه النعم العظيمة ازدادوا طغياناً، وأشراً، وبطراً، وقالوا: {رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} [سبأ:19] أي: نحن نريد أن نستمتع بأسفار بعيدة، فلا نريد أسفاراً قريبة، نريد مفاوز، ونريد صحاري، ونريد طرقاً بعيدة، وقال بعضهم: (ربُنا باعَدَ بين أسفارنا) أي: ربنا قد باعد بين أسفارنا على وجه السخرية والاستهزاء بذلك. والنعمة إذا أتت للإنسان فلم يصنها استحق الحرمان، واستحق أن تضيع منه هذه النعمة، ومن فرط في النعمة، واستهزأ بها، وضيعها، وأتلفها، ضاعت منه النعمة ولم ترجع إليه مرة ثانية، فهؤلاء القوم كانوا أهل حضارة، فأهل التاريخ يقولون عن قوم سبأ: كانت لهم دولة عظيمة استمرت فترة طويلة جداً، وكانت دولة ذات حضارة عريقة، قامت في اليمن، قبل ميلاد المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام بأكثر من ألف عام، وكانت دولة عظيمة قوية. وهنا نقول: مدينة بمعنى بلد، ولكن حين يقولون: دولة، يعني لهم حضارة، وسمعة مشهورة بين الدول التي بجوارها، ويحتاجون إليها، فكانت مثل دولة الفرس، ودولة الروم، فلما طغوا وبطروا نعم الله سبحانه، دمرهم وأهلكهم سبحانه وتعالى بأشياء عجيبة جداً، لأنه هو الذي منحهم نعمة الماء، ونعمة الهواء، والجبال العالية التي كانوا فيها، يسيل الماء بينها، وهو الذي منحهم عقولاً تفكر كيف تستغل هذه المياه لزراعة هذه الجبال العالية، ومعلوم أن المزارع التي في مستوى عال عن الأرض هي من أخصب ما يكون، وأن هواءها أفضل الهواء، فالله عز وجل أعطاهم تفكيراً يفكرون به كيف يرفعون هذا الماء إلى هذا العلو، فبنوا سد مأرب بين جبلين عظيمين، وغرسوا فوق الجبال، وزرعوا، وأنبت الله عز وجل نباتاً حسناً عظيماً، لا يوجد في أي بلد مثله، وقد امتن الله عز وجل عليهم به، فكان الواجب عليهم أن يعرفوا نعمة الله عليهم فيعبدوه، ويشكروه سبحانه، ولكنهم أبوا إلا الكفر والتكذيب، وصدق عليهم إبليس ظنه. وإبليس ظن في آدم أنه مخلوق ضعيف، فإن الله لما خلق آدم جعل إبليس يطوف به، فيجده مخلوقاً من طين، ويجده أجوفاً، وذلك قبل أن يخلق الله عز وجل فيه الروح، فعلم إبليس: أنه مخلوق ضعيف فقال: لئن سلطت عليه لأغوينه. لقد ظن ظناً في نفسه وهو لا يعلم الغيب، وعلم الله عز وجل من إبليس أن هذا تفكيره، لذلك كان تدبير الله عز وجل في كونه أن يهبطه إلى الأرض، وأن يجعله عدواً لبني آدم، وأن ينزل آدم إلى الأرض بخطيئة وقع فيها عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، كما هو معروف في كتاب الله سبحانه وتعالى. {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} [سبأ:20] فقد قال لربه سبحانه: لئن سلطتني على هؤلاء، لأغوينهم، {وَلَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17]، فإبليس لم يطلع على الغيب، وإنما قالها ظناً من عند نفسه، وقال لله عز وجل: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82] أي: أنا لن أترك هؤلاء، وهذا القول قاله بظنه، فلقد صدق إبليس على هؤلاء القوم وعلى غيرهم ظنه، وهذه قراءة الكوفيين: عاصم وحمزة والكسائي وخلف، أما قراءة المدنيين والمكيين والبصريين والدمشقيين فيقرءونها: (ولقد صَدَقَ عليهم إبليس ظنه) أي: أن ظن إبليس صدق على هؤلاء فيما ظنه أنه يغوي ذرية آدم، فسلط عليهم وأغواهم: {فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبأ:20]، فلما قال إبليس لربه: لأغوينهم أجمعين، قال الله عز وجل: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر:42]، فعباد الله المؤمنون الصالحون المقربون، ليس لإبليس سلطان عليهم، بل يهديهم الله سبحانه وتعالى، ويدلهم على الخير، ويعينهم عليه، وينصرهم على عدوهم الشيطان، فيجتنبوا مكره وكيده، ويعتصموا بالله سبحانه وتعالى، فهؤلاء هم الذين ينجيهم الله سبحانه وتعالى. فالبعض وهم القلة من المؤمنين الذين عبدوا الله سبحانه، ولم يتبعوا الشيطان، {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [سبأ:21] أي: إبليس حين أضل هؤلاء وأغواهم لم يكن يملك أن يحولهم من شيء إلى شيء، ولذلك حين يدخل إبليس النار مع عصاة بني آدم يختصمون ويستغيثون ويسألون من يخرجهم من النار، فيقول لهم إبليس: {مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم:22]، أي: لا أنا سأستجيب لصراخكم وأخرجكم، ولا أنتم ستستجيبون لصراخي وتخرجوني من النار، فكلنا فيها والعياذ بالله، ثم يقول: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم:22] أي: لم تكن لي عليكم حجة، فالحجة لله عز وجل، الذين نزل عليكم الكتاب، وأرسل إليكم الرسل، أما أنا فليس لي أي حجة عليكم، فلم أرسل إليكم أحداً وإنما وسوست لكم فصدقتموني، واتبعتموني، فيتبرأ إبليس منهم ويتبرءون منه، كما يقول الضعفاء للكبراء: {لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} [سبأ:31]، فيقول المتبعون الكبراء لهؤلاء الأتباع الأصغار: أنحن أضللناكم وأزغناكم عن هدى الله بعد إذ جاءكم؟ لا، بل أنتم كنتم مضلين: {بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ} [سبأ:32]، ثم إن المتبوعين يتبرءون من التابعين لهم، قال الله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ} [البقرة:166 - 167] أي يقول: التابعون الصغار يوم القيامة حين يرون أسيادهم تبرءوا منهم: لو أنا نعود إلى الدنيا مرة ثانية من أجل أن نتبرأ منهم كما تبرءوا منا! يقول الله عز وجل: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:167]، فالذي ضل في الدنيا قد عرف الحق، والله سبحانه وتعالى قد أعذر إلى خلقه، وأنذرهم وأنزل إليهم الكتب، وأرسل إليهم الرسل، وجعل الفطرة في قلوبهم، وجعل لهم عقولاً بحيث يعرفون بها الخطأ من الصواب، وهذه منه من الله الحكيم سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (وما كان له عليهم من سلطان)

تفسير قوله تعالى: (وما كان له عليهم من سلطان) إبليس لم يأتهم بأي حجة: {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [سبأ:21]، لذلك يقول إبليس وهو في النار: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم:22] أي: أنتم كنتم تعبدونني من دون الله، وأنا كفرت بعبادتكم: {إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم:22]. قال الله عز وجل في هذه الآية: {إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ} [سبأ:21]. إلا هنا للاستثناء ويسمونه: الاستثناء المنقطع، والمعنى: لكن الشيطان فعل بهم ذلك، لنعلم علم شهادة، {مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ} [سبأ:21]. إذاً: {إِلَّا لِنَعْلَمَ} معناها: ولكن لنعلم، وهل لم يكن يعلم قبل ذلك سبحانه وتعالى؟! حاشا له سبحانه، فالله يعلم كل شيء. وعلم الله علمان: علم غيب: فقبل أن يوجد الخلق علم كل شيء سبحانه وتعالى، وعلم شهادة: وهو الذي يحاسب الله عز وجل العباد عليه، ومستحيل أن يختلف علم الشهادة عن علم الغيب، فعلم الغيب: هو قبل أن يوجد الإنسان، فلما أوجد الإنسان وفعل الأشياء رآها الله سبحانه، وسمعها وعلمها فسمي علم شهادة. فالله عز وجل لا يحاسب الإنسان على علمه الغيبي به، بل يحاسبه على علم الشهادة، لتكون الحجة لله سبحانه. وعلم الشهادة هو الذي يذكره الله عز وجل هنا، يقول: {إِلَّا لِنَعْلَمَ} [سبأ:21] أي علم شهادة: {مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ} [سبأ:21]، أي: من يؤمن فيعمل: {مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ} [سبأ:21]، والذي يشك في الآخرة كافر بعذاب الله سبحانه وتعالى، وبحسابه، والذي يشكك لا يعمل، كالمنافقين الذين قالوا: آمنا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم، قال الله سبحانه، {وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [سبأ:21] أي: يحفظ عليك كل ما تفعله. وذكرنا قبل ذلك أن الله سبحانه إذا ذكر اسمه العليم فإنه يدل على أنه قد علم بكل شيء ظاهراً وباطناً أولاً وآخراً، وأنه قد علم ما يجهر به الإنسان وما يسره ويخفيه سبحانه وتعالى، فإذا قيد بصفة من صفاته كصفة الخبير، فإن المقصود منها علم الشيء الخفي الذي لا يظهر. فإذا ذكر أنه الشهيد سبحانه بمعنى العليم بالشيء المشاهد فإنه يدل على علم الله سبحانه بما هو مشاهد وما هو ظاهر. فإذاً: للعلم الخفي الخبير، وللعلم الظاهر الشهيد، فإذا كان يعلم ويحصي عليك، فهو الحفيظ سبحانه وتعالى، فإنه يحفظك، ويحفظ ملائكته، ويحفظ جميع خلقه، كما أنه جعل للإنسان معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله، فإذا نزل القضاء والقدر من السماء، أصاب ما أراده الله ولم ينفع صاحبه بشيء، فالله يحفظ خلقه سبحانه، ويحصي عليهم أعمالهم فهو الحفيظ وهو المحصي سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (قيل ادعوا الذين زعمتم من دون الله)

تفسير قوله تعالى: (قيل ادعوا الذين زعمتم من دون الله) قال عز وجل: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ:22] أي: هؤلاء الشركاء الذين عبدتموهم من دون الله وهذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله، والخطاب لجميع الكفار وخصوصاً كفار قريش الذين نزل القرآن وهم يسمعونه من النبي صلوات الله وسلامه عليه، وفيه هذه القصة، قصة سبأ، وقصة سليمان، وقصة داود، عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، ليتعظوا ويتدبروا ويعتبروا بأمر هؤلاء فيكونوا مؤمنين، ولا يكونوا مع الكافرين، فلما أصروا على كفرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، قال لهم الله عز وجل: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سبأ:22] بكسر اللام وهي قراءة عاصم وقراءة حمزة وقراءة يعقوب: وباقي القراء يقرءونها: (قُلُ ادعوا) بالضم. (لا يملكون مثقال ذرة) أي: هل يملكون مثقال ذرة أي: قدر نملة؟ وهنا يمكن للإنسان أن يدعي ويقول: أنا أملك مالاً، وأملك كذا، وعندي بيت، وعندي كذا، فنقول له: هل تستطيع أن تحتفظ بهذا الشيء إلى أن تموت ولا أحد يأخذه؟ وهل تستطيع أن تخلد نفسك؟ لا، إذاً: فليس ملكك ملكاً حقيقياً، وإنما هو استخلاف من الله عز وجل استخلفك عليه، وستزول ويبقى الشيء ثم ينتقل إلى غيرك بعد ذلك، فلا يزعم إنسان أنه يقدر أن يخلق نملة، فلن يستطيع مهما أوتي من علم، ومهما أوتي من قوة، فلن يقدر على ذلك. فإذا تبجح إنسان وقال: أنا أستطيع أن أفعل، قلنا بقول الله: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل:64]، فما قدروا ولا استطاعوا ولا يستطيعون أبداً على ذلك. {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} [سبأ:22] أي: ليس لهذه الأصنام التي تعبد من دون الله سبحانه شرك يعني جزء، تقول: فلان شريكي في هذه الأرض، أي: أنت تملك جزءاً وهو يملك جزءاً آخر، فهم لا يدعون أنهم يملكون ذلك، وإن ادعوا ذلك علمنا بالضرورة كذبهم. قال: {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا} [سبأ:22] يعني: في السموات ولا في الأرض، يعني: ليس لهم نصيب في السموات ولا في الأرض، ولا يقدرون على تدبير أمر السموات ولا أمر الأرض، ولا يقدرون أن يأتوا بالشمس من المغرب بدلاً من أن يأتي بها الله عز وجل من المشرق، فهم لا يقدرون على شيء ولا يزعمون ذلك. قال سبحانه: {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ:22] أي: ليس لهم مقاسمة مع الله، ولا شرك لهم مع الله سبحانه في ذلك، وليس لله عز وجل من خلقه ظهير، والظهير: هو المظاهر والمعين، فلا يحتاج ربك إلى أحد سبحانه وتعالى يتظاهر به، أي: يتقوى به حاشا له سبحانه وتعالى، فالكل يحتاج إلى الله، والله لا يحتاج إلى أحد من خلقه سبحانه، ما له منهم من ظهير.

تفسير قوله تعالى: (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له)

تفسير قوله تعالى: (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له، ونفي الشفاعة، وكرر الله ذكره في كتابه: {منْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِه} [البقرة:255]، {لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم:87]. والشفاعة من الشفع، والشفع عكس الوتر، الوتر الفرد الواحد، والشفع فرد آخر يأتي بجواره، حتى ينتفع هذا بهذا، فإذاً: صار الفرد شفعاً لما انضم إليه آخر، والشفاعة فيها هذا المعنى، فالإنسان يأتي يوم القيامة وحده منفرداً إلى الله سبحانه وتعالى، ويهيئ الله من يشاء من خلقه أن يشفع لهذا الإنسان المؤمن، فيشفع رسل الله عليهم الصلاة والسلام، وتشفع ملائكة الله، فيقفون بجوار هذا ويقولون لله: كان يفعل كذا وكذا، يا رب ارحمه، يا رب أخرجه من النار، وشفع الرسول للخلق، بمعنى: وقف بجوارهم، ودعا ربه سبحانه، أن ينجيهم مما هم فيه، فهذه هي الشفاعة يوم القيامة. يقول الله عز وجل مؤكداً على المعنى الذي في هذه الآية، وأنه لا أحد يجرؤ على الشفاعة إلا بإذن الله سبحانه وتعالى، لا ملك مقرب، ولا رسول مرسل، ولا أحد من خلق الله عز وجل: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، أي: إلا أن يأذن الله، ولذلك الشفاعة العظمى لنبينا صلوات الله وسلامه عليه، -نسال الله عز وجل أن يجعلنا من أهل شفاعته عليه الصلاة السلام-، هي أنه يأتي تحت عرش الرحمن سبحانه، ويخر لله ساجداً، ويفتح الله عز وجل عليه من المحامد يعلمها إياه في ذلك الموقف العظيم، ويتركه ما شاء سبحانه وتعالى، إثباتاً لربوبيته سبحانه، وإلهيته، وإثباتاً لعبودية كل خلقه، فهذا رسوله وخليله وحبيبه محمد صلوات الله وسلامه عليه، يظل ساجداً حتى يأذن الله له ويقول: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع. فإذاً: لا تكون الشفاعة إلا بعد أن يأذن رب العالمين سبحانه وتعالى. قال سبحانه: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:23]، وهذه قراءة الجمهور، وقراءة أبي عمرو وحمزة والكسائي وخلف: (إلا لمن أُذن له) فإذاً: هنا أَذن وأُذن، أذن الله سبحانه وتعالى بمعنى أعلم، وأُذن يعني جاء الإذن من عند الله سبحانه وتعلى للشافعين أن يشفعوا. ويوم القيامة فيه شفاعات، وهذا من رحمة رب العالمين سبحانه وتعالى، فيشفع المؤمنون بعضهم في بعض، بإذن الله سبحانه، فيخرجون من شاء الله عز وجل من النار من عصاة الموحدين.

معنى قوله تعالى: (حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم)

معنى قوله تعالى: (حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم) يقول سبحانه: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23] أي: إذا تكلم الله سبحانه أخذت الخلق الهيبة من الله سبحانه وتعالى، حتى كأنهم يغشى عليهم أو يصعقون من الخوف من الله سبحانه وتعالى، فيفزع عن قلوبهم، قال سبحانه: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ} [سبأ:23] للبناء للمجهول، وهذه قراءة الجمهور: وقراءة ابن عامر ويعقوب، (حتى إذا فَزَعَ) أي: أزال الفزع عن قلوبهم، و {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ} [سبأ:23] أي: أزيل الفزع عن قلوبهم. فهم فزعوا حين تكلم رب العزة سبحانه وخافوا منه وأخذتهم هيبته، ففزع عن قلوبهم، وكشف عنها الخوف، وأذن لهم أن يشفعوا فيمن أذن الله عز وجل له بالشفاعة، فيقول بعضهم لبعض: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} [سبأ:23] أي: فيقولون: {قَالُوا الْحَقَّ} [سبأ:23]، أذن لنا سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23]. وهل هذا يوم القيامة فقط فزع عن قلوبهم، أو في كل وقت؟ الظاهر من الأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا في كل وقت يحدث من ملائكة الله عز وجل الذين هم في السماء، وقد جاء عند الترمذي من حديث أبي هريرة وهو صحيح، قال: (إذا قضى الله في السماء أمراً). أي: إذا أراد الله شيئاً نادى سبحانه وتعالى بذلك الشيء: فيفزع جميع من في السماء لما قضاه الله سبحانه، ويظنون أن الساعة قد قامت، ويخافون من عذاب الله سبحانه وتعالى، فيصعقون، فأول من يفيق جبريل فيأمره الله سبحانه وتعالى أن افعل كذا وكذا، فينزل جبريل على الملائكة، ويفزع عن قلوبهم، أي: يصرف الفزع عن قلوبهم، فيسألون جبريل: ماذا قال ربنا؟ فيقول جبريل: قال الحق يعني: قضى ربنا بالحق، يقول أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قضى الله في السماء أمراً، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله، كأنها سلسلة على صفوان) أي: أنه من شدة فزع الملائكة من ربها سبحانه وتعالى، تضرب بأجنحتها، فيحدث صوت فضيع، مثل ضرب السلاسل على الحجر أو على الحديد. وذكر في هذا الحديث أن الشياطين يكون بعضها فوق بعض، تسترق خبر السماء، فإذا وصل أمر الله إلى السماء الدنيا، يشاء الله عز وجل أن تسمع بعض الشياطين ما تقول الملائكة، فتخطف الخبر من السماء، ويرسل الله عليهم شهاباً يحرق من يشاء الله سبحانه، ويشاء الله أن يصل الخبر إلى الأرض، فتلقيه الشياطين إلى الكهنة من الإنس، فإذا بالكاهن يحدث ويقول: سيحدث في يوم كذا كذا بما أخبره به الشيطان، ويزيد الشيطان على ذلك مائة كذبة، فيخبر بها الكاهن أيضاً، فيجد الناس ما ذكره الكاهن من أنه سيحصل في اليوم الفلاني كذا، فيزعمون أن الكهنة يعلمون الغيب، وهذه من الفتن والابتلاءات التي يبتلي الله عز وجل بها عباده. ثم يقولون: ألم يخبركم أنه سيحصل يوم كذا وكذا، وقد صدق فيه، فصدقوه، فيصدقون الكهان، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يبين أن الكاهن لا يعلم شيئاً من الغيب، وأنه لا يجوز لأحد أن يصدق الكاهن قال: (من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول: فقد كفر بما أنزل على محمد). ولو أن كلام الكهنة كله كذب، ما احتاج الناس أن يقول لهم رسول الله: كلام الكهنة كذب، ولكن الله عز وجل يشاء أن يقولوا بالشيء من الصدق، ابتلاءً للعباد، هل سيتبعون النبي صلى الله عليه وسلم فيما يقول أم سيتبعون الكهنة ويصدقوهم فيما يقولون؟ فلابد من هذا الابتلاء للخلق، وهو لحكمة أرادها الله سبحانه وتعالى. ولما خلق الله عز وجل الجنة والنار، أمر جبريل أن يذهب وينظر، فنظر إلى الجنة فقال: والله لا يسمع بها أحد إلا دخلها، ويخلق الله عز وجل النار ويقول: اذهب فانظر، فينظر جبريل إلى النار فيقول: والله لو سمعوا بها ما دخلها أحد. ثم إن الله أحاط الجنة بالأشياء المكروهة التي يكرهها الإنسان، فهو يكره أن يجاهد في سبيل الله، ويكره أن يؤذى، ويكره أن يصبر على المخاطر التي حفت بها الجنة؛ لأن الأعمال التي تدخل الجنة هي الأعمال الشاقة الصعبة، ويأمر جبريل أن ينظر فيقول: والله أخشى أن لا يدخلها أحد! أي: لأنها حفت بما يكرهه الناس، ثم يقول لجبريل: اذهب وانظر إلى النار، وقد أحاطها بالشهوات، فيذهب وينظر، ويرجع إلى ربه ويقول: يا رب! أخشى أن يدخلوها كلهم. إن دخول الجنة ليس بالأمر السهل، فمن أراد أن يدخل الجنة فعليه أن يؤمن ويصدق ويبتلى فيصبر، فيرى الشهوات أمامه، ويتركها خوفاً من الله سبحانه وتعالى، ويرى أعمال الخير وهي شاقة صعبة عليه فيعملها، فيصوم في اليوم الحار، ويتذكر الجنة ونعيم الجنة، والموقف بين يدي الله سبحانه وتعالى، {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4]، وحين تدنو الشمس من الرءوس، فهذه الشمس البعيدة عنا، التي تحرق الرءوس في الصيف، تدنو من رءوس الناس يوم القيامة، ويسيل العرق من الإنسان حتى يغطي من بعض الناس رءوسهم، لأنهم لم يبذلوه في الدنيا خوفاً من الله وطاعة لله سبحانه وتعالى. وفي هذا الموقف يظل الله عز وجل من شاء من خلقه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله، شاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد -إذا خرج منها حتى يرجع إليها-، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، وإمام عادل)، فالإنسان حين يتذكر ذلك، يهون عليه أن يصوم في يوم حار؛ لأنه سيلقى ربه سبحانه وتعالى يوم القيامة، فيؤجره على ذلك، ويكون حقاً على الله أن يسقيه في يوم العطش الأكبر؛ لأنه أظمأ نفسه لله عز وجل في يوم حار، فالله سبحانه وتعالى يبتلي العبد بالأعمال الصالحة، فيجدها صعبة عليه، ولا يجد الذين يعينونه على الخير إلا قليلاً، والذين يمنعونه من الخير كثير، فهل تصبر على الخير وتعمله أم أنك تبتعد عنه وتتركه؟ {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود:7]. والنبي صلى الله عليه وسلم يخبرنا كيف تخاف الملائكة من أجل أن نتعظ، فالملائكة لم تعص الله سبحانه وتعالى، فإذا كان يوم القيامة وأفاقت الملائكة قالوا لله عز وجل: ((سبحانك، ما عبدناك حق عبادتك))، فكيف بنا نحن الذين نخطئ أحياناً ونصيب أحياناً، نحن الذين نعصي الله سبحانه وتعالى، وكل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون، نسأل الله عز وجل أن يتوب علينا وأن يرحمنا، وأن يجعلنا من عباده المقربين.

تفسير سورة سبأ [23 - 27]

تفسير سورة سبأ [23 - 27] لقد استخدم النبي الكريم عليه الصلاة والسلام أساليب عدة في دعوته، ومن هذه الأساليب: استثاره عقول المشركين واستنهاض أفكارهم؛ وذلك بسؤالهم أسئلة يقرون في إجابتها بألوهية الله تبارك وتعالى، وهذا الأسلوب ذكره الله في سورة سبأ، فينبغي للدعاة مراعاة هذا الأسلوب الحكيم في دعوتهم.

تفسير قوله تعالى: (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن)

تفسير قوله تعالى: (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة سبأ: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ * قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} [سبأ:23 - 26]. يخبرنا الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات أنه لا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ذلك، والله عز وجل ذكر في مواضع في كتابه أن الشفاعة لا تنفع عنده إلا بإذنه كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، وقال تعالى: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:23]، وقال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:28]. فالله سبحانه تبارك وتعالى لا يأذن لأحد أن يشفع إلا إذا أراد الله في وقت بعينه سبحانه تبارك وتعالى؛ ولذلك ذكر في حديث الشفاعة: (أن النبي صلوات الله وسلامه عليه يخر تحت العرش ساجداً فيدعو لله عز وجل ويثني عليه ثم يأذن له بعد ذلك سبحانه تبارك وتعالى بالشفاعة العظمى). قال تعالى: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:23] أي: إلا لمن أُذن له أن يشفع فيه. قال تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ} [سبأ:23] فالخبر ينزل من السماء فتأتي به الملائكة يحملون خبر الرحمن سبحانه تبارك وتعالى، وينزل به جبريل ومن يسمع من الله سبحانه والله سبحانه تبارك وتعالى، ويبعث إلى من يشاء من خلقه بأمره سبحانه، فإذا بأمر الله ينزل، والملائكة تسمع أمر الله وتخر لله سبحانه تبارك وتعالى من هيبته ومن خشيته ويصعقون إذا سمعوا نداء الله سبحانه تبارك وتعالى؛ فزعين يظنون أن القيامة على وشك أن تقوم، فإذا به يفزع عن قلوبهم أي: يذهب الفزع عن القلوب، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} [سبأ:23] أي: أزال الفزع عن قلوبهم سبحانه، وقالت الملائكة تسأل جبريل: ماذا قال ربنا؟ فيقول: قال الحق، أي: قضى بالحق سبحانه تبارك وتعالى، {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23]، العلي الكبير المتعال سبحانه تبارك وتعالى، فهو العلي وعلوه علو ذات وعلو شأن وعلو في مقداره، وعلوه فوق سماواته على عرشه استوى كما قال سبحانه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] وكما قال: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك:16]، وكما جاء في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم للأمة التي لطمها سيدها وأراد أن يعتقها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ائتني بها)، فسألها النبي صلى الله عليه وسلم ليتبين له إيمانها، فقال لها: (من أنا؟ قالت: أنت رسول الله)، قال: (أين الله؟ فأشارت بيدها إلى السماء فصدقها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: اعتقها فإنها مؤمنة). ولو أخطأت في قولها وإشارة يدها لبين لها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقرها على خطأ، فالقرآن والسنة يدلان على أن الله سبحانه فوق السماوات مستو على عرشه بائن من خلقه سبحانه تبارك وتعالى. وكذلك في رفع الأيدي إلى السماء أثناء الدعاء دليل على علو الله، والنبي صلى الله عليه وسلم جاءت عنه أحاديث كثيرة أنه رفع يديه إلى السماء ودعا ربه صلوات الله وسلامه عليه، فالغرض أن الله هو العلي، فهو علي بذاته سبحانه فوق سماواته، وعلي بقهره فوق خلقه، قهر جميع خلقه سبحانه فلا أحد يعترض على الله سبحانه على أمره الكوني القدري، أما إذا جاء قضاؤه وقدره فلا يقدرون أن يفروا من قضاء الله وقدره سبحانه تبارك وتعالى، فهو العلي الغالب سبحانه، غلبهم بقضائه وقدره، وغلبهم بحكمه وحكمته سبحانه تبارك وتعالى، وهو العلي في شأنه، قال تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:103]. وهو الكبير، أكبر من كل شيء سبحانه تبارك وتعالى، أرانا في خلقه الأشياء الكبيرة فأرانا الجبال وقال لنا سبحانه تبارك وتعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [النازعات:27 - 33]. أأنتم أشد خلقاً أم هذه الأشياء؟ فالإنسان ينظر إلى الأرض من حوله، وإلى السماوات ولكنها لا تساوي شيئاً مقارنة بهذا الكون الكبير، والله سبحانه فوق ذلك، فهو العلي الكبير سبحانه تبارك وتعالى. فإذا عرف الإنسان أن هذا الكون كبير فإن الذي خلقه سبحانه تبارك وتعالى أكبر منه وأكبر من كل شيء، فهو العلي سبحانه وتعالى أن يدرك، فهو أكبر من كل شيء سبحانه تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (قل من يرزقكم من السماء والأرض)

تفسير قوله تعالى: (قل من يرزقكم من السماء والأرض) يقول الله سبحانه تبارك وتعالى مؤنباً المشركين: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْض ِوَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24] أي: من الذي يرزقكم؟ هل يرزقكم أحد إلا الله؟! فالله عز وجل يقول: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87]، ويقول سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9] سبحانه تبارك وتعالى. فالله هو الخلاق العظيم، وقد أقر المشركين بأن الله سبحانه هو الذي خلقهم وهو الذي يرزقهم فيستجيرون ويستغيثون به سبحانه أن يعطيهم، وانظر إلى فرعون كيف أن الله سبحانه تبارك وتعالى أرسل إليه موسى يدعوه إلى الله سبحانه فأبى وقال لقومه: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] وقال لقومه: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، وقال لقومه: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51]. فكان جزاؤه ما قال الله عز وجل: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} [الأعراف:133]، فذهبوا إلى موسى يهرعون إليه يقولون: يا موسى! {يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} [الزخرف:49] أي: ادع لنا ربك مثلما أتى لنا هذا البلاء يكشف عنا هذا البلاء. فعلموا أن الله سبحانه هو الذي يحكم ولا معقب لحكمه، {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف:134]، قال هذا فرعون وقومه لموسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وقد أرسل الله عليهم الطوفان لما وجدوا الماء يغرق كل شيء فجأروا إلى موسى: ادع لنا ربك ونحن سنؤمن معك. فانتهى الطوفان بدعاء موسى وبدأت الأرض تزرع فرجعوا إلى كفرهم ولم يصدقوا فيما وعدوا موسى وكفروا به، فأرسل عليهم الجراد فأكلت زروعهم جميعها، فجأروا إلى موسى: ادع لنا ربك حتى يكشف عنا ما نحن فيه، {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف:134]. فذهب عنهم الجراد بدعاء موسى فزرعوا وجمعوا حصادهم وجعلوه في خزائنهم ثم لم يؤمنوا بموسى فأرسل الله عليهم أنواعاً مختلفة من العذاب ولكنهم لم يؤمنوا بما يدعو إليه موسى. فحل العذاب على فرعون فأغرقه سبحانه تبارك وتعالى بذنبه وظلمه وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا. فالله سبحانه يقول لهؤلاء الكفار: من يرزقكم؟ فإذا بهم يقولون: الله، فهم لا يقدرون أن ينكروا ذلك وقد أراهم الله عز وجل آية من الآيات فقد دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (اللهم! أعني عليهم بسنين كسني يوسف)، وكان هذا لما آذوا النبي صلى الله عليه وسلم في مكة أشد الأذى، فإذا به يستغيث بربه، وإذا بالله عز وجل يمنع عنهم المطر، وإذا بهم لا يجدون نباتاً ولا طعاماً ولا ماءً يشربونه إلا الشيء القليل، فإذا بهم يجأرون للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد أكلوا الجلود وأكلوا الميتة، ثم ذهبوا للنبي صلى الله عليه وسلم يناشدونه بالله والرحم. فعرفوا أن الله هو الذي يرزق سبحانه، فذكر هؤلاء الذين ينكرون ألوهية الله سبحانه تبارك وتعالى أنه الإله الواحد الذي يستحق العبادة، والذين يقولون بالشرك كاذبين: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]، قل لهؤلاء: من يرزقكم من السماوات والأرض؟ و A هو الله سبحانه الذي يرزق في السماوات والأرض، وينزل الرزق بقضائه وقدره من السماء فيرسل السحاب وينزل المطر وينزل ما يشاء من رحمته من السماء، وينبت لهم من الأرض ما يشاء سبحانه من بساتين وجنات ويخرج لهم الحبوب والثمار. قال سبحانه: {قُلِ اللَّهُ} [سبأ:24] إن لم يجيبوا وإذا تعنتوا فقل لهم: إن الله هو الذي يفعل ذلك. فالرب الصانع هو الذي يفعل ذلك سبحانه، وهم لم ينكروا ذلك، ولكن أنكروا أن يعبد وحده سبحانه تبارك وتعالى، وقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:5] ولكن الله قال: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [سبأ:24] فإذا قالوا: الله هو الذي يرزقنا، فأليس الإله الذي يرزق هو وحده الذي يستحق العبادة؟! وهل أصنامكم هذه ترزقكم أو تعطيكم؟! وكانوا مستيقنين أن أصنامهم لا تعطيهم شيئاً ولا تدفع عنهم ولا عن أنفسها شيئاً، لا تملك نفعاً ولا ضراً، ولكنهم كانوا مصرين على طغيانهم. سورة سبأ مكية كما ذكرنا قبل ذلك، وتخاطب عقول المشركين وتدعوهم بلطف وبرحمة من الله سبحانه تبارك وتعالى، فيخاطب عقولهم وكأنه يقول لهم: فكروا من الذي يرزقكم؟ فإذا كان الله هو الذي يرزقكم ألا تعبدونه وحده سبحانه تبارك وتعالى؟! وهلا عبدتموه وتركتم ما تشركون من دونه سبحانه تبارك وتعالى؟! فأجاب عنهم وقال: {قُلِ اللَّهُ} [سبأ:24]. ثم خاطبهم وقال لهم هذه المقالة اللطيفة: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24]، وفي هذا تلطف في المخاطبة وفي الدعوة إلى الله سبحانه، أي: أحدنا على هدى وأحدنا على ضلال، ويقيناً نحن على هدى وأنتم على ضلال، ولكن لم يقل لهم ذلك على وجه التنزل في المناظرة مع الخصم. والإنسان إذا ناظر خصمه وأراد أن يكسبه يقول له: هب أن كلامك كان صواباً، أليس يكون كذا وكذا، وهو يعلم أن كلامه خطأ مائة في المائة. فيقول سبحانه أمراً نبيه أن يقول لهؤلاء: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24]، على هدى إن عرفنا من الذي خلق السماوات والأرض فعرفنا حقه وقدرنا قدره فعبدناه سبحانه، أو في ضلال مبين إن عرفنا أنه الخالق الرزاق الكريم سبحانه فعبدنا غيره سبحانه تبارك وتعالى. وإذا كان الإنسان لا يقبل من عبده أن يذهب إلى غيره فكيف يقبل لربه سبحانه أن يذهب هذا الإنسان العبد عن ربه إلى غير الله سبحانه تبارك وتعالى، ولذلك ضرب يحيى بن زكريا على نبينا وعليه الصلاة والسلام لقومه لهم المثل في الشرك بالله سبحانه تبارك وتعالى، وقد ذكره لنا النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أن يحيى بن زكريا أمره الله عز وجل بخمس كلمات أن يأمر بهن بني إسرائيل ويأمرهم أن يعملوا بهن، فكأنه تأخر يحيى بن زكريا عليه الصلاة والسلام، فقال له عيسى ابن خالته: إن الله أمرك بخمس تأمر بهن بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فإما أن تقوم وإما أن أقوم أنا. فقال: لا بل أقوم أنا، فقام يحيى بن زكريا وقال لهم هذه الأشياء الخمس التي أمره عز وجل أن يقولها، أولها وهو الشاهد- قال لهم في توحيد الله سبحانه تبارك وتعالى: إن الله أمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، ومثل من يشرك بالله كمثل رجل ابتنى داراً واشترى عبداً وقال لعبده: هذا عملي وهذه داري، فاعمل وأد إلي، أي: اجمع الأجر وضعه في داري، فكان العبد يأخذ المال ويعطيه لغير سيده! فأيكم يحب أن يكون عبده كذلك؟! فلا أحد يقبل ذلك، فكيف يقبلون أن يوجهوا العبادة لغير الله الذي خلقهم ورزقهم وسخر لهم الأرض ليعملوا وقال: اعبدوني وكلوا واشربوا ولا تشركوا بالله سبحانه تبارك وتعالى، بل اشكروا لله سبحانه تبارك وتعالى. فقال لهم هنا: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24] أي: بين واضح وأصلها مبين.

تفسير قوله تعالى: (قل لا تسألون عما أجرمنا)

تفسير قوله تعالى: (قل لا تسألون عما أجرمنا) يقول الله سبحانه تبارك وتعالى: {قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [سبأ:25] أي: قل لهؤلاء لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، ولا حجة بيننا وبينكم لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ وأنتم ستسألون عما تفعلون ونحن نسأل عما نعمل. {قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا} [سبأ:25] أجرم الإنسان: وأصله من الجرم، والجرم هو الجريمة أو الذنب، وقد يأتي الجرم بمعنى: الكسب، ومنه قول الله عز وجل: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2]. (لا يجرمنكم) أي: لا يدفعنكم هذا لعمل الخطأ، فلا يدفعنكم لكسب شيء تخطئون فيه، فأجرم في كذا واجترم بمعنى: كسب، وكثيراً ما تكون في الشر بمعنى اكتساب الذنب، وهنا تفنن القرآن في ذكر المعنيين، قال تعالى: {قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا} [سبأ:25] أي: عما كسبنا في زعمكم من شر، وعما فعلناه من شرور فلا تسألون عن ذنوبنا. قال تعالى: {وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [سبأ:25] ويظهر فيها التلطف فلم يقل: عما تجرمون وإنما قال: {وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [سبأ:25]، ولو أنه قال لهم: عما أجرمتم فسيعرضون عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال لهم ذلك تلطفاً لعلهم يدخلون في دين الله. وقد دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة، وهو يتلطف لهم في القول صلوات الله وسلامه عليه، ويزدادون تعنتاً، وقام بواجبه على أكمل وجه، ولم يؤمن معه من هؤلاء من أهل مكة إلا العدد القليل من أهل مكة، فلما هاجر إلى المدينة فتح الله عز وجل له القلوب والعقول ودخلوا في دين الله سبحانه تبارك وتعالى، فتعلموا العلوم العظيمة من دين رب العالمين، فصار للإسلام قوة بعد ذلك، فلم ينفع مع المشركين إلا القوة بعد ذلك، والجهاد في سبيل الله سبحانه. فقد عاملهم بالرأفة والرحمة واللطف والدعوة إلى الله سبحانه، ولكنهم تعنتوا معه صلى الله عليه وسلم ولم يدخلوا في دينه، بل منعوا الناس عن الدخول مع النبي صلوات الله وسلامه وتهددوه وخوفوه، فأخبر ربنا سبحانه تبارك وتعالى على لسان النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الكفار أنكم مسئولون عن أفعالكم ونحن مسئولون عن أعمالنا أيضاً، ما اكتسبناه فهو لنا وما اكتسبتموه فهو عليكم، لا نسأل عن أعمالكم ولا تسألون عن أعمالنا.

قال تعالى: (قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق)

قال تعالى: (قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق) قال الله تعالى: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} [سبأ:26] أي: يوم القيامة، فلابد وأن نجتمع في يوم من الأيام، ونختصم معكم بين يدي الفتاح بمعنى: القاضي الحاكم سبحانه تبارك وتعالى. {ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} [سبأ:26] أي: يفصل بيننا في الخصومة. والله عز وجل يجمع بيننا يوم القيامة لفصل القضاء، ثم يفتح أي: يفصل في الخصومة ويقضي ويحكم سبحانه تبارك وتعالى بالحق سبحانه، وهو الفتاح الذي يقضي الحكم العدل سبحانه، فهو الفتاح الذي يقضي بين عباده سبحانه ويحكم بينهم يوم القيامة بعلم. وكم من قاض في الدنيا من الناس يقضي على شيء من العلم والبينات، وكم من قاض يقضي على جهل في الدنيا، فالله سبحانه تبارك وتعالى عندما يذكر أنه سيقضي فهو العلام العليم، عالم الغيب والشهادة. قال: {وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} [سبأ:26] أي: في قضائه سبحانه وفي الفصل بين الخصومات. والله عز وجل يوم القيامة منهم من يخفف حسابه ومنهم من يشدد عليه في الحساب، ومنهم من يكون الموقف بالنسبة إليه كوقت ما بين الفجر إلى الظهر ومنهم من يكون وقتاً طويلاً يستشعر الخمسين ألف سنة بين يدي الله عز وجل، نسأل الله عز وجل أن يخفف عنا وأن يدخلنا الجنة بغير حساب. قال سبحانه: {وَهُوَ الْفَتَّاحُ} [سبأ:26] الذي يفتح بين خلقه بعلمه سبحانه تبارك وتعالى وهذا بمعنى أنه هو القاضي الذي يقضي بين الخلق سبحانه تبارك وتعالى، وإن كان الفتاح بمعنى الذي يفتح لعباده أبواب الرزق أيضاً فهو يفتح أبواب الرزق لعباده، ولكن المقصود هنا الذي يختم به الآية: {يَفْتَحُ بَيْنَنَا} [سبأ:26] بمعنى: يفصل بيننا. وهذا معنى من معاني الفتاح وهو: القاضي الذي يحكم بيننا يوم القيامة ويقضي بيننا بالحق سبحانه بعلم سبحانه ولا يحتاج إلى أحد.

تفسير قوله تعالى: (قل أروني الذين ألحقتم به شركاء)

تفسير قوله تعالى: (قل أروني الذين ألحقتم به شركاء) قال تعالى: {قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سبأ:27] وهنا المخاطبة لعقول المشركين الذين يعبدون الأصنام من دون الله: أروني هؤلاء: {قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ} [سبأ:27]. قال: {أَرُونِيَ} [سبأ:27] أي: أرني أيها المشرك! {الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ} [سبأ:27] أي: الأصنام كيف هم شركاء لله سبحانه تبارك وتعالى؟! وكيف ينازعون الله سبحانه تبارك وتعالى في ملكه وفي خلقه وفي عباده وفي عمله سبحانه؟! هذا مستحيل ولا يكون أبداً! وكأنهم لو قالوا: تعالوا نريك، يقول: لا تقدروا على هذا وإنكم تزعمون وتكذبون، فهذا على معنى الرؤية القلبية. قال تعالى: {بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سبأ:27] الله وحده الذي يستحق العبادة العزيز الغالب القاهر الذي لا يغالب والذي لا يمانع سبحانه تبارك وتعالى، {الْحَكِيمُ} [سبأ:27] الذي له الحكمة البالغة. وذكرنا قبل ذلك أن (الحكيم) له معان، وكلها ترجع إلى حكمة الله وإلى حكم الله سبحانه وإلى إتقان الله سبحانه تبارك وتعالى في خلقه، فهو الحكيم الذي له الحكمة البالغة، فلا خلل في كونه سبحانه، خلق المؤمن وخلق الكافر ولا خلل في ذلك، بل أراد سائر ذلك سبحانه، وهذه حكمة منه سبحانه تبارك وتعالى. وخلق السماوات وخلق الأرض، وخلق الليل وخلق النهار؛ وكل شيء خلقه بحكمة، فلا خلل في شيء من خلقه سبحانه تبارك وتعالى، فهو الحكيم الذي لا يدخل في صنعه وفي خلقه سبحانه خلل. وهو الحكيم بمعنى: المتقن الذي أتقن كل شيء خلقه سبحانه تبارك وتعالى. وهو الحكيم بمعنى: الحاكم بصيغة المبالغة، الحاكم الذي يقضي بين عباده سبحانه، والذي ينزل الكتب تشريعاً لخلقه ليعملوا بحكمه سبحانه تبارك وتعالى، فهو الحكيم بمعنى: المحكم، وبمعنى الحاكم، وبمعنى: المتقن، وبمعنى: ذو الحكمة سبحانه الذي لا يدخل في خلقه ولا في صنعه سبحانه خلل ولا زيغ. ففتح الله عز وجل له ما شاء وسيفتح له ما شاء يوماً من الأيام فإن وعد الله حق. نسأل الله عز وجل أن ينصر الإسلام والمسلمين، وأن يدخل الإسلام إلى كل بيت من بيوت العالمين. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة سبأ [34 - 39]

تفسير سورة سبأ [34 - 39] من سنن الله عز وجل أن جعل في الأرض مسلمين وكافرين، وجعل الصراع بين الحق والباطل قائماً إلى قيام الساعة، وبين سبحانه أن الميزان عنده هو الإيمان والعمل الصالح، وليس الدنيا والجاه والأولاد، فإنه سبحانه يعطي المؤمن والكافر، ولكنه يجازي المؤمن بإحسانه ويجازي الكافر بكفره.

تفسير قوله تعالى: (وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون)

تفسير قوله تعالى: (وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة سبأ: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ * وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} [سبأ:34 - 38]. أخبر الله سبحانه تبارك وتعالى نبيه صلوات الله وسلامه عليه والمؤمنين أن سنته في خلقه أنه سبحانه ما أرسل في قرية من نذير إلا واستكبر المترفون فيها، وكذبوا وأعرضوا وقالوا: إنا بما أرسلتم به كافرون. فليس ما يحدث للنبي صلى الله عليه وسلم مع أهل مكة بالشيء الجديد، وليس فعلهم بالشيء الغريب عن إخوانهم المشركين الكافرين الذين كانوا من قبلهم. فكل الكفار حين يأتيهم رسول من عند ربهم أول ما يواجهونه به أنهم يقولون: أنت كذاب، ويقولون: {إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [سبأ:34]، ويقيسون الدار الآخرة على الدنيا، فيقولون: {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا} [سبأ:35] ويقولون: لماذا بعثك ربك أنت؟ لماذا لم يبعثنا نحن؟ نحن أعطانا الأموال وأعطانا الأولاد فنحن نستحق الدنيا فكذلك نستحق الآخرة، وبدل ما يبعثك أنت يبعث واحداً منا!

تفسير قوله تعالى: (وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين)

تفسير قوله تعالى: (وقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين) قال عز وجل: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ:35] بمعنى: أن ربنا أكرمنا في الدنيا بالمال والولد فكيف سيعذبنا يوم القيامة؟ فلو أن هناك يوم قيامة فأيضاً سيعطينا الكثير كما أعطانا في هذه الدنيا.

تفسير قوله تعالى: (قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون)

تفسير قوله تعالى: (قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون) قال الله عز وجل مجيباً لهؤلاء آمراً نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سبأ:36] لا يبسط الرزق للمؤمنين فقط، ولا يبسط الرزق للكافرين فقط، لا يبسط الرزق لهؤلاء لأنه يحبهم ولا لهؤلاء لأنه لا يحبهم، ولكن الله عز وجل يبسط الرزق لمن يشاء، فمن شاء بسط له في الرزق وأعطاه المال الوفير والرزق الكثير، ومن شاء ضيق عليه وأعطاه المال القليل والرزق القليل، فالله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، أي: يقدر ويضيق على من يشاء سبحانه تبارك وتعالى. والله سبحانه عليم حكيم يقول: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ} [الزخرف:33] أي: لولا أن يصير الناس أمة واحدة على الكفر وأن يكونوا كلهم كفاراً لجعل الله عز وجل الدنيا كلها للكفار. ولولا أن تكون فتنة عظيمة للمؤمنين فإذا بالجميع يصيرون كفاراً: {لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا} [الزخرف:33 - 35] أي: ذهباً، {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:35] ما الذي منع الله سبحانه تبارك وتعالى أن يفعل ذلك؟ من حكمته سبحانه أنه يعلم أن هؤلاء الخلق سيصلون كلهم إلى الكفر؛ لأنهم سيرون فتنة شديدة لا يقدرون عليها، فلولا ذلك لأعطى للكفار الدنيا كلها ومنع المؤمنين منها، فالدنيا ابتلاء ومحن، والدنيا لا قيمة لها عند الله سبحانه تبارك وتعالى، ولذلك جاء في الحديث: (لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء). فالدنيا لا تسوى عند الله ولا حتى جناح بعوضة، لذلك لا ينبغي للمؤمن أن يأخذ الكثير من هذه الدنيا. فلولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعل الله هذه الدنيا للكفار ولحرم المؤمنين منها؛ فإنها لا قيمة لها، ولكن حكمة الله عز وجل أبت إلا أن يعطي هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك في هذه الدنيا، كما قال عز وجل: {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء:20] فهو الكريم يعطي سبحانه تبارك وتعالى، ولكن العطاء الأعظم هو عطاء الآخرة التي يعطيها الله عز وجل للمؤمنين ويمنعها من الكفار، قال الله سبحانه: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سبأ:36]. إذاً: فالله عز وجل يعطي الدنيا للمؤمنين ولغيرهم، فالمؤمن يعطيه في الدنيا الرزق الحسن، ويعطيه المال الصالح، ويختبره هل يتصدق؟ هل يخرج الزكاة؟ هل يتواضع بهذا المال الذي أعطاه الله سبحانه أم أنه يغتر بهذه الدنيا؟ فالله عز وجل يعطي للمؤمن الصالح مالاً صالحاً يصلح لمثله، فينتفع به ويؤدي حق الله سبحانه تبارك وتعالى، ويؤجر عليه عند الله سبحانه تبارك وتعالى. ولذلك جاء في حديث رواه الإمام أحمد من حديث عمرو بن العاص رضي الله تبارك وتعالى عنه قال: (بعث إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: خذ عليك سلاحك وثيابك ثم ائتني. قال: فأتيته وهو يتوضأ). وعمرو بن العاص رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم عنه وعن أخيه: (عمرو وأخوه مؤمنان) فشهد له صلوات الله وسلامه عليه بالإيمان. وعمرو فرح بذلك، فجاء ليبايع النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام، وكان عمرو بن العاص في جاهليته من رجال قريش ومن دهاتهم رضي الله تبارك وتعالى، ثم أسلم عمرو بن العاص بعد ذلك، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبايعه على الإسلام فبسط النبي صلى الله عليه وسلم يده فقبض عمرو يده وقال: أشترط. فقال: (وما تشترط؟ قال: أشترط أن يغفر لي) أي: أن ربنا يغفر لي الذنوب التي عملتها قبل ذلك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عمرو! أما علمت أن الإسلام يجب ما قبله؟) أي: إذا دخلت في الإسلام غفر الله عز وجل لك ما كان قبل ذلك، فأسلم رضي الله تبارك وتعالى عنه. فهنا النبي صلى الله عليه وسلم علم مقدرته على القتال وأنه يصلح للقيادة فقال له: (خذ عليك ثيابك) يعني: اذهب بيتك، والبس ثيابك وخذ سلاحك وتعال فقال: (ثم ائتني، فأتيته، وهو يتوضأ، فصعد فيّ النظر ثم طأطأ) يعني: نظر إليه من أعلاه إلى أسفله رضي الله تبارك وتعالى عنه، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إني أريد أن أبعثك على جيش فيسلمك الله ويغنمك) أي: أنا أريد أن أبعثك قائداً على جيش، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال له: (اذهب خذ عليك ثيابك وسلاحك) فلما جاء نظر إليه من أعلاه إلى أسفله فرآه مكتمل العدة، لابس السلاح ولابس الثياب التي تصلح للحرب وللقيادة، فلما جاء قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إني أريد أن أبعثك على جيش فيسلمك الله ويغنمك وأرغب لك من المال رغبة صالحة) يعني: أنا أرغب لك أن يكون عندك شيء من المال، رغبة صالحة، فماذا كان جواب عمرو بن العاص؟ قال: قلت: (يا رسول الله! ما أسلمت من أجل المال) قال ذلك خشية أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم يتألفه بذلك، وأنه أسلم من أجل المال، فهنا لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أرغب لك من المال رغبة صالحة) يعني: أنا لست داخلاً في الإسلام من أجل المال، قال: (يا رسول الله! إنما أسلمت لأكون معك، لم أسلم من أجل المال) يعني: ولكني أسلمت رغبة في الإسلام وأن أكون معك يا رسول الله. وهذا جواب جميل من عمرو رضي الله عنه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عمرو نعم المال الصالح للمرء الصالح). إذاً: الإنسان المؤمن حيث يكون معه مال هذا شيء ليس سيئاً، وليس خبيثاً، ومن أعظم المال وأصلح المال وأطيب المال ما كان من رزق حلال، ومن أعظم الرزق الحلال الرزق في الجهاد، والغنيمة في الجهاد في سبيل الله التي جعل الله سبحانه رزق نبيه صلى الله عليه وسلم في ذلك، كما قال صلى الله عليه وسلم: (وجعل رزقي تحت ظل رمحي) يعني: رزقه من جهاده في سبيل الله سبحانه تبارك وتعالى. فهنا ظهر لنا في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم يخبرنا أن المؤمن قد يكون له مال صالح ومال حلال، ولا مانع من ذلك، فمهما وجد مالاً كثيراً صالحاً فإن المؤمن يستعمله في مرضاة الله سبحانه تبارك وتعالى، ولذلك ربنا سبحانه لم يحرم المؤمنين من ماله في الدنيا.

تفسير قوله تعالى: (وما أموالكم لا وأولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى)

تفسير قوله تعالى: (وما أموالكم لا وأولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى) قال الله عز وجل: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ:37] يعني: إذا أعطيناكم مالاً وأعطيناكم ولداً فليس معنى هذا أن لكم منزلة عند الله سبحانه، ولذلك أعطيناكم المال والولد ويوم القيامة نعطيكم أيضاً الجنة؛ لأنكم تستحقون ذلك، ليس الأمر كذلك، فليس كونك غنياً يصير لك منزلة كبيرة عند الله؛ فالمال ليس هو الذي يقربك عند الله زلفى، وزلفى: قربى، وكأنه يقول: يقربكم تقريباً، وتقريباً: مفعول مطلق، فزلفى كأنها هنا على غير الفعل، والمفعول لغير الفعل، فهنا قال: {بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} [سبأ:37] وأصلها: تقربكم عندنا تقريباً، يعني: تتقربون قربة عظيمة إلينا بأننا أعطيناكم هذه الأموال؛ لتقربكم هذه الأموال عند الله، إنما الذي يقربكم أن تستعملوها في طاعة الله سبحانه تبارك وتعالى. فالذي يقربكم هو العبادة وحب الله وحب هذا الدين العظيم، وحب الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعة الله سبحانه وطاعة رسوله صلوات الله وسلامه عليه. فالمال لا يقرب العبد عند الله إلا أن يكون هذا العبد مؤمناً فيستعمل هذا المال في طاعة الله، فيقربه من الله سبحانه. فالله عز وجل هنا كأنه يخاطب الكفار والفجار وغيرهم: أنه لم نعطكم المال لأنكم تستحقون، ولم نعطكم المال لأن المال هذا يقربكم، فأنتم لا تستحقون ذلك؛ لأنكم تستخدمون هذا المال في طاعته. وقوله: ((إِلَّا مَنْ آمَنَ)) المؤمن هو الذي نعطيه المال فينفق في سبيل الله فيستحق عند الله الأجر، ويستحق عند الله الثواب العظيم. وقوله: {إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [سبأ:37] يعني: ولكن من آمن وعمل صالحاً، فهنا (إلا) كأنه استثناء منقطع أو أنه على الاستثناء المتصل والمعنى: ما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم أنتم أيها الكفار! إلا من كان مؤمناً فهذا تقربه؛ لأنه يستعملها في مرضاة الله سبحانه. وقوله: ((لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ)) يعني: الجزاء المضاعف عند الله سبحانه، وقد عرفنا من الأحاديث أن الحسنة بعشر أمثالها، وأن النفقة في سبيل الله تبلغ إلى سبعمائة ضعف، ويزيد الله لمن يشاء من فضله سبحانه تبارك وتعالى. فهنا لهم جزاء الضعف بما عملوا: بأعمال الخير، بإيمانهم، بصدقاتهم، بإنفاقهم في سبيل الله سبحانه تبارك وتعالى. وضعف الواحد اثنين، وهنا ذكر تعالى أن لهم جزاء الضعف، وقال في السورة الأخرى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام:160] فعرفنا بذلك أن الحسنة تضاعف عند الله سبحانه أضعافاً مضاعفة وليست ضعفاً واحداً. وقال عز وجل: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [البقرة:261] فضاعف سبحانه ذلك إلى سبعمائة. فقوله: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة:261] دلت الآية على أن الله يكثر ويزيد من ثواب المنفق في سبيله سبحانه، وذكر في الآية الأخرى أنه يضاعف ذلك إلى سبعمائة ضعف، وقال النبي صلوات الله وسلامه عليه في الحديث: (سبق درهم مائة ألف درهم) يعني: رجل تصدق بدرهم فكان له أجر عند الله، وآخر تصدق بمائة ألف فكان له أجر، ولكن أجر صاحب الدرهم أعظم من أجر صاحب المائة ألف، فتعجب الصحابة لذلك! فالنبي صلى الله عليه وسلم بين لهم: أن هذا رجل يملك درهمين فتصدق بأحدهما، تصدق بنصف ماله، وهذا له مال كثير أخذ من عرض ماله مائة ألف، فسبق الدرهم المائة الألف عند الله سبحانه تبارك وتعالى، والله يضاعف لمن يشاء. فالله عز وجل يعطي من عنده وهو الرزاق الكريم سبحانه تبارك وتعالى، ويفضل بعض الناس على بعض بما يشاء سبحانه. وقوله سبحانه: ((فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا)) هذه قراءة الجمهور. وقراءة رويس عن يعقوب: (فأولئك لهم جزاءً الضعفُ بما عملوا) فنصب (جزاءً) على التمييز، أي: أن لهم الضعف جزاء من عند الله سبحانه تبارك وتعالى، فميز لهم هذا الثواب وأنه جزاء من عند الله سبحانه، كما قال سبحانه في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) فالله عز وجل يجزي الثواب العظيم، وعطاء الله سبحانه عطاء غير مجذوذ. قال: ((وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ)) هذه قراءة الجمهور: ((فِي الْغُرُفَاتِ)) بالجمع، وقراءة حمزة: (في الغرفة) على الإفراد. وكأن الغرفة هنا جنس، فإذا جاءت بلفظ الإفراد فيعني الإفراد ويعني التثنية ويعني الجمع. والغرفة هي أعلى ما يكون، أو هي المكان العالي الذي يحب الإنسان أن يجلس فيه، وهي أشرف المواضع، وهي أعلى الجنات عند الله عز وجل، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها. وقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى من الجنة؛ فإنها أعلى الجنة وأوسطها وفوقها عرش الرحمن، ومنها تفجر أنهار الجنة). فالفردوس الأعلى هو أعلى الجنة، ولا نتخيل أن الغرفة بمعنى الغرفة التي نتكلم عنها في الدنيا؛ لأنه لا تقاس الآخرة على الدنيا، ولكن الغرف في أعالي الجنات، وفيها بساتين عالية جداً، وفيها قصور للمؤمنين لا يعلم حقيقتها وما فيها إلا الله سبحانه تبارك وتعالى. فقوله: ((فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ)) أي: أنهم يدخلون الجنة وأعلى الجنة، ولهم من الله عز وجل الأمن والأمان، ولذلك يقال لأهل الجنة: {لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الأعراف:49]. وهذه نعمة عظيمة جداً، فمن يدخل الجنة يمنع الله عز وجل عنه الخوف، ويمنع عنه الحزن؛ فلا خوف ولا حزن. والخوف الغالب أنه يكون من المستقبل، فأنت خائف من الذي قدامك من المستقبل. والحزن يكون على الماضي، فربما حصل كذا وحصل كذا فأنت حزين عليه، لكن في الجنة لا توجد حاجة تهمك في الماضي وتسبب لك الهم والحزن، ولا شيء يخشى في المستقبل فيخوفك، فربنا سيأمنك، ويعطيك الأمان في الجنة، ويقول لأهل الجنة كما في الحديث القدسي (أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعدها أبداً) فيطمئنون وهم في جنة الخلود؛ لأنهم يعلمون أن هذا نعيم مقيم لا يزول عنهم أبداً، ولا يتحولون عنه أبداً؛ فضلاً من الله ونعمة، والله ذو الفضل العظيم سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (والذين يسعون في آياتنا معاجزين أولئك في العذاب محضرون)

تفسير قوله تعالى: (والذين يسعون في آياتنا معاجزين أولئك في العذاب محضرون) قال سبحانه: {وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} [سبأ:38]. قوله: ((وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ)) السعي: العمل الدائم، ((فِي آيَاتِنَا)) في حجج الله سبحانه، يعني: يدأبون في إبطالها، ويريدون إبطال حجج الله سبحانه وسنن النبي صلى الله عليه وسلم بالتشكيك في ذلك، وبالنظر إلى أن هذه الأشياء ليست بشيء، وأن هذا القرآن ليس بمعجز، ونحن نقدر أن نأتي بمثله، فيقولون كلاماً كذباً على كتاب الله سبحانه وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ساعين دائبين في ذلك معاجزين؛ يريدون أن يفوتوا ويسبقوا ربهم سبحانه تبارك وتعالى. فهم يريدون أن يسبقوا ويفوتوا الله سبحانه، ويظنون أنهم يعجزونه فلا يجمعهم يوم القيامة، فهم يسعون في آيات الله سبحانه معاجزين مصرين معاندين يريدون إبطالها، ظانين أنهم يسبقون ويفلتون من الله سبحانه تبارك وتعالى. وقوله: {أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} [سبأ:38] يعني: يحضرهم الله ويجمعهم يوم القيامة بقول (كن) فيكون، قال سبحانه: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101] فيجمعهم الله يوم القيامة، فكل إنسان يأتي وحده إلى ربه سبحانه؛ ليسأله عما عمل؛ فإنه ظن أنه يعجز ربه، ولكن كيف يقدر، والله أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له: كن فيكون.

تفسير قوله تعالى: (قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده)

تفسير قوله تعالى: (قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده) قال تعالى: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39] كأن الله سبحانه تبارك وتعالى في الآية الأولى أجاب عن هؤلاء الكفار فقال: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} [سبأ:37] وهنا قال: {إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [سبأ:36] قالها لهؤلاء الكفار الذين قالوا: إن الله أعطانا في الدنيا أموالاً فسيعطينا يوم القيامة، فإنه فضلنا في الدنيا وهذا دليل على أنه سيفضلنا يوم القيامة، فالله عز وجل رد عليهم وقال: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد:26]، وبين أنه ليست أموالكم هذه ولا أولادكم التي تقربكم عندنا، ولكن المؤمنين تقربهم؛ لأنهم آمنوا بالله سبحانه، ولأنهم تقربوا إلى الله بالإنفاق في سبيل الله، وبالصدقة على من يستحق ذلك، فأخرجوا أموالهم لربهم سبحانه، فاستحقوا من الله الجزاء العظيم. ثم قال لهؤلاء المؤمنين مكرراً هذا المعنى العظيم: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} [سبأ:39] فمن المؤمنين من يعطيه الله سبحانه مالاً ويعطيه من الدنيا متاعاً، ومنهم من يحرمه منها، والله عليم خبير، والله لطيف بعباده، فهو سبحانه تبارك وتعالى يعطي إنساناً ويعلم أن هذا الإنسان لن يغره المال فيعطيه الله سبحانه منه. وإنسان آخر من المؤمنين الله عز وجل بعلمه وحكمته يعلم أن فلاناً هذا لو فتح له باب الرزق فسيطغى، وسيستكبر، وسيترك العبادة، وسيموت كافراً أو فاجراً أو فاسقاً، فيمنع برحمته سبحانه تبارك وتعالى عنه شيئاً، ولعل هذا الإنسان أن يكون قدامه باب رزق أوشك أن يأخذه، وأن يصير في يده، وإذا بالله عز وجل يمنعه ويأخذه غيره. فيغضب الإنسان ويحزن ويتضايق في نفسه، لماذا منعت من شيء كان في يدي، لكن الإنسان المؤمن يعلم أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ويضيق على من يشاء؛ لحكمة منه سبحانه. وحين يحرم شيئاً من الرزق يقول: لعله لو أتاني هذا الرزق لعل الله كان قدر لي مصيبة وراء هذا الشيء، ولعلي لو أخذت هذا الرزق سوف أطغى وأستكبر، ولعلي أقع في معصية الله، فربنا منع عني المعصية بمنع ذلك، فيصير هذا من رحمة الله بي، فالحمد لله سبحانه. وكان النبي صلوات الله وسلامه عليه إذا أعطاه الله سبحانه من رحمته وفتح له قال: (الحمد لله رب العالمين) فحمد الله. وإذا منع وابتلى بشيء من ابتلائه سبحانه قال: (الحمد لله على كل حال) فنحمد الله إن أعطانا، ونحمد الله إن منعنا؛ لأنه إن منعنا فقد أعطانا سبحانه تبارك وتعالى، فإن منعك شيئاً من الدنيا أعطاك مكانه في الآخرة، وأعطاك شكراً وأعطاك صبراً وأعطاك حمداً له سبحانه، وإن منعك شيئاً أعطاك ما هو أعظم منه، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، فليس كل الناس يعلمون هذا الشيء، فإن الله عز وجل يفتح على الإنسان المؤمن فيعلم حكمة الله سبحانه تبارك وتعالى. والمؤمن يعلم ويفهم فيحمد ربه سبحانه على عطائه وعلى منعه سبحانه تبارك وتعالى. والله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده، والكل عبيد لله سبحانه تبارك وتعالى، وكأنه في الآية الأولى ذكر الجميع، وهنا اختص المؤمنين، وكأنه يقول: أنتم يا مؤمنون! منكم من يعبد ويعطيه الله في الدنيا، ومنكم من يعبد ويضيق الله عز وجل عليه في الدنيا؛ ليس لأن هذا أفضل من هذا، ولكن الله أعطى كل إنسان ما يريد سبحانه وما يصلح لهذا الإنسان. فهناك إنسان لا يصلحه إلا الغنى؛ لأن الله عز وجل جعل في نفسه الكرم، وجعله يحب الإنفاق فلا يصلح مع هذا إلا الغنى، فيعطيه الله عز وجل المال فتظهر أثر النعمة عليه، فيعطي يميناً وشمالاً، وينفق لله سبحانه تبارك وتعالى، فهذا خلقه الله عز وجل لذلك. وقد كان سعد بن عبادة رضي الله عنه من الكرماء في المدينة، ومن المشهورين بالجود والكرم، فكان له جفنة عظيمة تدور مع النبي صلى الله عليه وسلم في بيوته صلى الله عليه وسلم. وبيت النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي إليه الضيوف، ويأتي إليه الناس الذين يريدون أن يتعلموا الإسلام، فيأتون فيطعمهم، فجفنة سعد تساعد في هذا الشيء. وكان سعد يدعو ربه سبحانه تبارك وتعالى ويقول: (اللهم إنك أعطيتني هذا الإنفاق، اللهم ارزقني الغنى) يعني: أنا أحب الإنفاق وهذا لا يصلح إلا بغنى، فيسأل ربه الغنى، فيعطيه الله سبحانه تبارك وتعالى. وابنه قيس بن سعد بن عبادة رضي الله تبارك وتعالى عنه تعلم من أبيه الكرم، فكان ينفق كثيراً جداً، فقد خرج قيس في سرية فيها أبو بكر وعمر رضي الله تبارك وتعالى عنهما، وأصابتهم مجاعة، فـ قيس بدأ يستلف ويستدين، فكان يستلف الجمل من الرجل وينحره ليأكل الجيش، وجعل يفعل ذلك إلى أن خشي عمر ومنعه وقال له: ليس عندك مال، المال مال أبيك، فطلب عمر من أبي بكر أن يمنعه من هذا الشيء، فمنعه. فلما رجع إلى المدينة كلم أباه سعداً رضي الله تبارك وتعالى عنه، وقال: أصابتنا مجاعة، قال: انحر لهم. قال: فعلت. ففرح أبوه، وانظر كيف يأمر ابنه على شيء قد مضى، فقال له: ثم أصابتنا مخمصة. قال: انحر لهم. قال: فعلت. ثم قال: منعني أبو بكر ومنعني عمر رضي الله تبارك وتعالى عنهما، فتحسر أبوه على ذلك وقال له: لو نحرت كذا وكذا لأعطيت أنا، أي: كنت سأدفع هذا كله. فانظر إلى الكرم، فناس لا يصلح معهم إلا الكرم، والله أعلم سبحانه تبارك وتعالى بعباده، فيعلم أن هذا يتصدق، ويزكي، ويعطي لله ولا يمن على خلق الله فيعطيه الله تبارك وتعالى. وهناك إنسان آخر هو مؤمن، ولكن الله يعلم أنه لو أعطى هذا لعله يعطي وينفق ويمن على صاحبه، فيضيع صدقته كلها، ولعله يمنع ويشح ويبخل، كما قال عز وجل: {وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ} [النساء:128]، فليس كل إنسان يكون في قلبه إيمان يكون على درجة عظيمة من البذل والعطاء، ولكن فيهم وفيهم، فالله يعلم أن هذا يصلح له المال فيعطيه، وأن هذا لا يصلح له المال فيمنعه، وأن هذا يصلح للمال لاختباره فيختبره، والله أعلم بعباده سبحانه، لذلك انظر إلى نفسك في الوضع الذي أنت عليه واعلم أنه خير الأوضاع لك؛ لأنه هو الذي أراده الله عز وجل لك. فالإنسان قد يشتغل شغلاً، ثم يتركه ويشتغل شغلاً ثانياً، ثم يتركه ويبحث عن ثالث؛ لأنه يبحث عن الرزق الكثير، فهنا لا تعجز ولكن احمد ربك سبحانه؛ فهو أعلم بما يصلح لك، وهذا الذي يصلح لك، وهذا الذي يصلحك لعله لو أعطاك غيره لأطغاك ولأفسدك، فهذه من نعم الله عز وجل عليك.

معنى قوله تعالى: (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه)

معنى قوله تعالى: (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه) قال سبحانه: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [سبأ:39] يا أيها المؤمنون! ما أنفقتم لله عز وجل من شيء فهو يخلفه سبحانه تبارك وتعالى، ويعطي مكانه. والحسنة بعشرة أمثالها عنده، والرزق يزيد في الدنيا، وهذا شيء عجيب جداً! وعد من الله عز وجل، والله لا يخلف الميعاد أبداً، ومستحيل أن يكون إنسان كريماً ويعطي ويتصدق والله يضيق على هذا الإنسان، بل الله يعطيه، فإن ضيق فلحكمة منه سبحانه تبارك وتعالى ولسبب معين، ولكن العادة أن الإنسان الذي ينفق الله يزيد له ماله، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: (ثلاث أقسم عليهن - وذكر منها - ما نقص مال عبد من صدقة). فالإنسان الذي يتصدق الله وعده هنا في كتابه بالخلف فقال: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ:39] وهنا نكر الشيء، أي: ولو كان شيئاً قليلاً فإن الله سبحانه يخلف مكانه ويزيده سبحانه، ويبارك لك في رزقك وفي مالك. قال تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ:39] كان علي بن أبي طالب رضي الله تبارك وتعالى عنه يقول لأهل الأموال: أنفقوا فإني سمعت الله سبحانه تبارك وتعالى يقول: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ:39] فكيف تريدون أن يخلف عليكم وأنتم لا تنفقون؟ أنفق من أجل أن ربنا يخلف عليك ويعطي لك غيره أما أنك لا تنفق وتريد أن يخلف عليك فلا. وجاء عن النبي صلوات الله وسلامه عليه أحاديث جميلة في ذلك، منها: ما كان يقوله لـ بلال رضي الله تبارك وتعالى الصحابي الفاضل الذي عذب عذاباً شديداً في الله فهانت عليه نفسه مع شدة عذابهم له، فقد كانوا يأخذونه ويجرجرونه على الصخر في اليوم الحار الشديد القيض، ويجعلون على صدره صخرة، ويجرجرونه على الصخر؛ حتى يكفر بالله سبحانه، ويضربونه ويسلطون عليه الصبيان ليضربوه، وهو يقول: أحد أحد، يعبد الله وحده لا شريك له، هذا الصحابي الفاضل رضي الله عنه كان عبداً فاشتراه أبو بكر رضي الله تبارك وتعالى عنه وأعتقه وجعله لله سبحانه تبارك وتعالى. فكان بلال مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان هو مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم كصاحب نفقته، وكأنه المسئول عن الإنفاق مع النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم ما كان يحب أن يأخذ معه مالاً ولا يدخر عليه الصلاة والسلام شيئاً، بل ما كان معه من مال أنفقه صلى الله عليه وسلم وأخرجه إلا أن يدخر شيئاً يكون لدين عليه، كما قال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده! لو كان لي مثل أحد ذهباً لم يسرني أن يمر علي ثلاث إلا وقلت هكذا وهكذا وهكذا عن يمينه وشماله ومن أمامه ومن خلفه، إلا مالاً أرصده لدين) أي: إلا أن يكون علي دين فأخرجه لصاحبه حتى يأتي. هذا النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه كان بلال معه كصاحب النفقة، يعني: كان بلال هو الذي يأخذ مال النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يأتي بطعام النبي صلى الله عليه وسلم، ويأتي بشراب النبي صلى الله عليه وسلم، ويأتي بغير ذلك، وكان يقول له: هات يا بلال، اعط لفلان كذا، واعط لفلان كذا، فالنبي صلى الله عليه وسلم يأمر بلالاً فيعطي، ولعل بلال خاف أن المال سينتهي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أنفق يا بلال! ولا تخش من ذي العرش إقلالاً) لا تخف، فإن ربنا هو الذي يرزقنا، وليس أنا الذي أعطيك، ولا الناس هم الذين يعطونا، بل يعطينا ربنا، فربنا الرزاق الكريم سبحانه تبارك وتعالى. فينفق بلال بأمر النبي صلوات الله وسلامه عليه، ولا يخاف نقصان النفقة، فإن الذي يخلف عليهم هو الله سبحانه تبارك وتعالى. وهنا حديث رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً). وهذا الحديث رواه الإمام أحمد من حديث أبي الدرداء، وفيه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما طلعت شمس قط إلا بعث بجنبتيها ملكان يناديان يسمعان أهل الأرض إلا الثقلين) يعني: أنه ينزل ملكان من السماء، حين تطلع الشمس من عند الأفق، ويكونان بجنبتيها عند طلوعها، أحدهما عن يمين الشمس والآخر عن شمال الشمس وهي تطلع. قال: (يناديان يسمعان أهل الأرض إلا الثقلين) أي: كل من على الأرض يسمع إلا الثقلين: الإنس والجن، فلا يسمعون ذلك. قال: (ينادي الملكان: يا أيها الناس! هلموا إلى ربكم، فإنما قل وكفى خير مما كثر وألهى، ولا آبت شمس قط إلا بعث بجنبتيها ملكان يناديان يسمعان أهل الأرض إلا الثقلين: اللهم أعط منفقاً خلفاً، وأعط ممسكاً تلفاً). هذا الدعاء من الملكين دعاء مستجاب عند الله، ولن يبعث الله ملكين يدعوان ولا يستجيب سبحانه لهما، فإن ربنا كريم عظيم يبعث ملكين يدعوان ليستجيب سبحانه تبارك وتعالى لهما. وتسمع الخلائق الملكين وهما يدعوان: (يا أيها الناس! هلموا إلى ربكم) أي: قوموا اعبدوا ربكم سبحانه وتعالى. قوله: (فإنما قل وكفى) اذهبوا إلى أرزاقكم، واطلبوا رزق الله سبحانه، ولا تطلبوه بمعصية الله، ولا تطلبوه من الحرام. قوله: (فإنما قل وكفى خير مما كثر وألهى) إذا أعطاك الله الرزق ولو كان قليلاً طالما أنه يكفيك فهو خير لك مما كثر فأطغاك وألهاك عن الله سبحانه تبارك وتعالى. وقوله: (ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، ولا آبت الشمس إلا ويقولان: اللهم أعط منفقاً خلفاً وأعط ممسكاً تلفاً) في هذا الحديث الدعاء للإنسان الكريم المؤمن الذي ينفق بأن الله يخلف عليه، ويعطيه مكان ما أنفق، ولن ينفق درهماً ويعطيه درهماً مكانه، ولكن الله أكرم سبحانه يعطي العطاء الكثير سبحانه. يقول: (وأعط ممسكاً تلفاً) أي: الذي يمسك ماله ويشح على الناس ويبخل يعطيه التلف، فيتلف له ماله، أو أنه يجعل فقره في قلبه، والإنسان الذي ينفق يجعل الله غناه في قلبه، فقد يكون فقيراً قليل المال، ولكن يستشعر أنه أغنى الخلق، وأنه إنسان غني غير محتاج لأحد، وتراه يأكل ويشرب مثل غيره ولا يحتاج إلى أحد، فيجعل الله غناه في قلبه، فهذا المؤمن وإن أفقرت يده ولم يكن فيها الكثير فإنه غني في قلبه. وتجد إنساناً معه مال كثير والله جعل في قلبه الشح والفقر، يظن أن ماله سينتهي، وتراه يقول: ربما أن ربنا يبتليني بمرض وأحتاج إلى فلوس كثيرة، وربما أدخل مستشفى في يوم من الأيام فأحتاج كذا، فتراه خائفاً أنه سيحصل له في يوم من الأيام كذا، فلم يحصل له شيء، ومات والمال ذهب لغيره ولم يأخذ منه شيئاً! ولا حول ولا قوة إلا بالله، فالغنى غنى القلب.

معنى قوله تعالى: (وهو خير الرازقين)

معنى قوله تعالى: (وهو خير الرازقين) قال الله سبحانه: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39]. (وَهُوَ) هذه قراءة الجمهور، ويقرؤها قالون وأبو جعفر وأبو عمرو والكسائي: (وَهْوَ خير الرازقين). وقوله: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39] هو سبحانه تبارك وتعالى خير الرازقين، فمن الذي يرزق غير الله سبحانه تبارك وتعالى؟ الرزاق هو الله سبحانه وحده لا شريك له، ولكن تعارف الناس في الدنيا على أن الواحد منهم يأخذ رزقه من بيت المال، ويأخذ أجرته من فلان، فكأن الناس يرزق بعضهم بعضاً على معنى من المعاني، والله هو الرزاق سبحانه، والعبد يرزق أخاه، يقول: رزقته اليوم، أي: أعطيته مالاً اليوم، لكنه يعطي من مال ينفد، والله سبحانه يعطي من مال لا ينفد، والعبد يعطي من مال غيره، فإن المال الذي في يده مال الله وليس ملكاً له حقيقة، والله يعطي من ماله الذي خلقه والذي يرزق به عباده سبحانه تبارك وتعالى. فإذا قلنا: فلان يرزق فلاناً، وفلان يرزق فلاناً، فهذا كله لا شيء؛ فإن الله هو خير الرازقين سبحانه تبارك وتعالى، فهو الرزاق الكريم ينفق ويقول للشيء: كن، فيكون، وخزائن الله ملأى لا تغيظها نفقة، قال عليه الصلاة والسلام: (أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات إلى أن تقوم الساعة؟ فإنه لم يغض مما في يده سبحانه وتعالى شيئاً). وهو الذي يقول لعباده كما في الحديث القدسي: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط -الإبرة- إذا أدخل البحر). فإذا وضعت الإبرة في البحر وأخرجتها فإنها لا تنقصه شيئاً، ولو أن إنساناً يقول: نقصت منه شيئاً، فيقال عنه: إنه مجنون لا يفهم، فالإبرة تدخل البحر وتخرج من البحر وهو أمامنا مثلما هو، كذلك خزائن الله عظيمة واسعة مهما أنفق منها لا ينقص منها شيء، فهو سبحانه تبارك وتعالى خير الرازقين. نسأله من رزقه وفضله ورحمته سبحانه، ونسأله الفردوس الأعلى من الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة سبأ [40 - 47]

تفسير سورة سبأ [40 - 47] يحشر الله سبحانه وتعالى الخلق جميعاً يوم القيامة، فيتبرأ كل معبود ممن عبده، فتتبرأ الملائكة ممن عبدها، وقد كان بعض أهل الجاهلية يعبدون الجن ظناً منهم أنهم الملائكة، ويوم القيامة يدخلون جميعاً النار؛ لأنهم كذبوا برسل الله سبحانه وعبدوا غيره.

تفسير قوله تعالى: (ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون)

تفسير قوله تعالى: (ويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة سبأ: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ * فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [سبأ:40 - 43]. يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن موقف من مواقف القيامة، قال تعالى: {َيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} [سبأ:40] أي: اذكر هذا اليوم يوم يحشر الله الناس، فيبعثون من قبورهم وينشرون ثم يحشرون ويجمع بعضهم إلى بعض إلى الموقف العظيم بين يدي الله عز وجل، قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} [سبأ:40] يسأل الله الله سبحانه الملائكة: هل كان هؤلاء يعبدونكم من دون الله سبحانه؟ والملائكة لم توافق على هذه العبادة أبداً، ولم تكن لترضى أن تعبد من دون الله سبحانه، وهم الذين خلقهم الله، فهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ولكن هذا السؤال تبكيت لهؤلاء الكفار، وتوبيخ لهم، وإقامة الحجة عليهم بإدخالهم النار والعياذ بالله. وكان هؤلاء الكفار في الدنيا يعبدون الجن، ويزعمون أن هؤلاء الجنة الذي يعبدونهم هم الملائكة، وأنهم بنات الله سبحانه وتعالى، فذكروا أن قبيلة من العرب من خزاعة كانوا يعبدون الجنة، ويزعمون أن الجِنة تتراءى لهم، ويزعمون أن الجن هؤلاء ملائكة، وأنهم بنات الله، حاشا لله سبحانه وتعالى، فهو قول الله عز وجل: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات:158]. والكافر لا يستحيي من ربه سبحانه وتعالى أن يفتري عليه، بل يقول ما لا يعرفه فيتكلم بالكلام العجيب، ويتعجب من الكلام الصحيح الذي لا يتعجب من مثله، فيقولون: الملائكة بنات الله، وليس عندهم أثارة من علم على ذلك، فإذا أخبروا أن الإله إله واحد لا شريك له، أحد صمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] فيعجبون أن يكون المعبود واحداً، والعقل إذا نظر وتفكر لم ينكر هذا المعنى أبداً، بل هو المعنى الذي لا يقبل العقل غيره، فما الاستحالة وما وجه العجب حتى يقولوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:5]؟! فإن الإله الواحد الذي يستحق العبادة: هو الذي يخلق، وهو الذي يرزق، وهو الذي يملك النفع والضر سبحانه وتعالى، وقد علموا أن ما يعبدون من دون الله لا يملكون لهم نفعاً ولا ضراً، لكنهم عبدوهم من دون الله، وزين لهم الشيطان سوء أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون. قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} [سبأ:40] قراءة حفص عن عاصم ويعقوب أيضاً: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ} [سبأ:40] أما باقي القراء فيقرءونها بنون العظمة: (ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون). فالله عز وجل يسأل الملائكة توبيخاً لهؤلاء المشركين الذين زعموا أن الملائكة بنات الله، وأنهم يعبدون الملائكة من دون الله سبحانه تبارك وتعالى كما يسأل الله المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة:116]، وقد علم الله يقيناً أن المسيح لم يقل ذلك صلوات الله وسلامه عليه، ولكن ليبين لهؤلاء الكذابين الذين زعموا أن المسيح دعاهم إلى أن يعبدوه من دون الله، أنت قلت كذا؟ فيكذبهم ويقول: {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة:116] ما قلت لهم إلا هذه الكلمة: أن يعبدوا الله، ما قلت لهم إلا ما أمرتني أنت به أن يعبدوا الله، فهنا أمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له.

تفسير قوله تعالى: (قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم)

تفسير قوله تعالى: (قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم) يسأل الله الملائكة في الموقف العظيم توبيخاً لهؤلاء الذين عبدوهم، وحتى يعذبهم الله سبحانه، ويعلمون أن الله ما ظلمهم سبحانه، أأنتم قلتم لهم: اعبدونا من دون الله؟ تقول الملائكة: حاشا لله ما قلنا لهم ذلك، قال تعالى: {قَالُوا سُبْحَانَكَ} [سبأ:41] أي: تنزيهاً لك، وتقديساً لك، فالله سبحانه المنزه عن كل عيب وعن كل نقص سبحانه وتعالى، والمنزه أن تكون له الصاحبة أو يحتاج إلى الولد، أو يكون له الولد سبحانه، فقالوا: سبحانك أي: تنزيهاً لك، وتسبيحاً لك، نسبحك ونقدسك، وننزهك عن أي عيب ونقص، وننزهك عن أن يكون لك الولد أو لك الصاحبة. قال سبحانه: {قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ} [سبأ:41] أي: أنت الذي تتولى أمورنا من هؤلاء، توليناك وعبدناك أنت، فأنت ولينا الذي تتولى أمرنا، فالذي يتولى ربه سبحانه يتولاه الله عز وجل بمعونته وبنصره وبحمايته، فهي هداية منه سبحانه وتعالى. فقوله تعالى: {أَنْتَ وَلِيُّنَا} [سبأ:41] أي: فولاؤنا لربنا سبحانه وتعالى من دون هؤلاء، ونتبرأ إليك من هؤلاء ولا ولاية بيننا وبينهم. {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} [سبأ:41] أي: هؤلاء الكذابون لم يكونوا يعبدوننا، إنهم لم يرونا حتى يعبدونا، بل كانوا يعبدون الجن، هؤلاء كما ذكرنا قبيلة من قبائل خزاعة عبدوا الجن من دون الله، وزعموا أن الجن كانت تتراءى لهم فعبدوهم، وزعموا أن هؤلاء الجن ملائكة، وأنهم بنات الله؛ لذلك فإن الملائكة تكذبهم، ويقولون لله عز وجل: لم يعبدونا، وإنما عبدوا الجن من دونك، قالوا: {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ:41] أي: أكثرهم بالجن مؤمنون مصدقون، والجن يكذبون عليهم وهم يصدقونهم في ذلك، والجني يفرح أن الإنسان يعبده من دون الله، فهو شيطان يكذب على الإنسان، وإذا بالإنسان يتولاه من دون الله، وكان للجن أمور مع هؤلاء الكفار في الجاهلية، إذ كان الواحد منهم يخاف ويمشي في الصحراء وحده، فإذا مشى ينادي في الصحراء من خوفه ويقول: أعوذ برب هذا الوادي، يعني: أستجير وأستغيث برب هذا الوادي، وإذا لم يقل ذلك فإن الجن تلعب به، تناديه وتزعجه وتخيفه وهو في الطريق، فكان يكفر بالله عز وجل ويقول: إنه يستغيث ويستجير برب الوادي، يعني: بالشيطان الذي في هذا الوادي، فتفرح الجن بذلك؛ لأنهم عبدوهم من دون الله فيتركونهم, وإذا لم يفعلوا ذلك تتلاعب بهم الجن. فقوله تعالى: {أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ:41] يعني: مصدقون أن الجن ينفعونهم ويضرونهم من دون الله سبحانه، ومعتقدون في الجن أنهم يعلمون الغيب، ولذلك قدم لنا ربنا سبحانه قبل أن يذكر كلام هؤلاء المشركين قصة سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وكيف أنه من عادة الجن إذا صادقهم البشر أنهم يتطاولون عليهم، ويظهرون أنهم أحسن منهم، وأنهم يعلمون الغيب، والبشر لا يعلمون شيئاً، فقد كان الجن في عهد سليمان عليه الصلاة والسلام يزعمون ذلك، ولذلك جعل الله عز وجل موت سليمان آية من الآيات، إذ جعله متكئاً على منسأته، وتوفاه الله وهو على هذه الهيئة، متكئاً على منسأته واستمرت الجن مسخرة لأمر سليمان سنةً كاملةً وهو على هذا الحال، حتى جاء أمر الله سبحانه؛ فإذا بدابة الأرض تأكل منسأته فسقط سليمان، فلما سقط {تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ:14] تبينت الجن: اتضحت الجن وتبينت الجن للناس وظهر أمرهم وافتضحوا أمام الناس أنهم لا يعلمون شيئاً من الغيب، وأنهم كذابون في ادعائهم علم الغيب، فعادة من هو صادق من الجن أن يكذب الجن عليه، وقد يكون الجن جناً مؤمنين وجناً كافرين، فالجني المؤمن لا دخل بالبشر، ولا علاقة له بالبشر، ولا يتعرض لهم، لكن الجني الكافر والفاسق يتعرض للإنسان ليغويه، ويبعده عن طريق الرحمن سبحانه وتعالى، كما فعل الجن بهؤلاء الكفار الذين عبدوهم من دون الله فأضلوهم، وأوهموهم أنهم ملائكة، وأنهم بنات الله، فعبدوهم من دون الله، فالله عز وجل يحشرهم يوم القيامة، ويظهر كذب الجن الذين زعموا ذلك، والإنس الذين صدقوهم في ذلك، وقد أمرهم ربنا سبحانه ألا يصدقوهم، قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6] يحذرهم الله سبحانه، فهؤلاء رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن، أي: يتعوذون ويستغيثون بالجن؛ لينفعوهم من دون الله، فزادوهم رهقاً وأتعبوهم، وزادوهم مرضاً فوق أمراضهم؛ لفعلهم ذلك.

تفسير قوله تعالى: (فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا)

تفسير قوله تعالى: (فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعاً ولا ضراً) قال الله تعالى: {فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرّاً وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [سبأ:42]. ففي يوم القيامة يحشرهم الله سبحانه، ويأمر بهم إلى النار ولا يملك بعضهم لبعض نفعاً ولا ضراً، إذ كان الجني يضحك على الإنسان في الدنيا ويقول له: سننفعك، ونعمل لك كذا، وندلك على كذا، فيوم القيامة لا يملك أحد لأحد نفعاً ولا ضراً. فقوله تعالى: {وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} [سبأ:42] أي: ظلموا أنفسهم، وظلموا غيرهم، {ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [سبأ:42] ذوقوا عذاب الهوان، عذاب نار جهنم، وكلمة النار هنا: تقرأ بالفتح النار، وتقرأ بالتقليل، وتقرأ بالإمالة، فيقللها الأزرق عن ورش، ويميلها أبو عمرو وحمزة أيضاً، ويميلها دون الكسائي، وكذلك ابن ذكوان يميلها، وباقي القراء يقرءونها بالفتح. فقوله تعالى: {ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [سبأ:42] أي: كذبوا بالنار، وكذبوا بالعذاب، فذوقوا العذاب الذي كذبتم به الآن.

تفسير قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا)

تفسير قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا) يقول الله سبحانه: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ} [سبأ:43] كان الكفار يتعاملون مع النبي صلى الله عليه وسلم بالغيرة والحسد فإذا تكلم وقرأ عليهم آيات كتاب الله سبحانه فإن هذا جوابهم. قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا} [سبأ:43] بكسر الهاء قراءة الجمهور، وبضمها قراءة حمزة ويعقوب: (عليهُم آياتنا بينات) أي: ظاهرة جلية بينة مبصرة {قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ} [سبأ:43] وهذا نوع من التحريش بالنبي صلى الله عليه وسلم، فكان يحرش بعضهم بعضاً عليه أنه رجل يريد أن يصدكم عما كان عليه آباؤكم، فقد كان عند العرب احترام للآباء، فكان أحدهم إذا تكلم عن أبيه يتكلم عنه بفخر واعتزاز، ولذلك ظنوا أنهم يغلبون النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك، فقد جاء رجل يسأل النبي صلى الله عليه وسلم: (أأنت أهدى أم عبد المطلب؟) فلم يجبه النبي صلى الله عليه وسلم: فقال: (أنت أهدى أم عبد الله أبوه؟) فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن كلام الله هو الهدى وليس الذي يقولونه. قال تعالى: {قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ} [سبأ:43] من أجل إثارة بعضهم بعضاً على النبي صلى الله عليه وسلم، فكان القائل منهم يقول: هذا يريد أن يبعدك عما كان عليه أبوك وعما كان عليه جدك، فهل يرضيك ذلك؟ فيقول له: لا، بل آباؤنا، قال تعالى: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22] لذلك الكفار كان يدخل بعضهم لبعض من هذا المدخل، وأن هذا يسب آلهتنا ويسفه آباءنا، فيقول بعضهم لبعض: {مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى} [سبأ:43]، ويقولون عن القرآن الكريم: هذا إفك، والإفك: حديث الكذب. قال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ} [سبأ:43] أي: عن الحق {لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [سبأ:43] هذا كلامهم، إذاً: رموا النبي صلى الله عليه وسلم بالكذب، فقالوا: إن الكلام الذي جاء به إفك مفترى، وهذا الذي يقوله سحر مبين، يعني: سحر واضح جداً، والذي جعلهم يقولون: إنه سحر هو قولهم: ما سمعناه يقول كذباً قط، ولكنهم عرفوا السحر وطرقه، فقالوا عنه: كاهن، ولكنهم عرفوا سجع الكهان وكلامهم فهو ليس بكاهن، فأقنع بعضهم بعضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم يفرق بين الأب وابنه، وبين الأخ وأخيه، وأنه سفه آلهتهم، وشتم آباءهم، وليس عندهم رد غير ذلك، فاجتمعوا بكفرهم على أن يكذبوا على النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.

تفسير قوله تعالى: (وما آتيناهم من كتب يدرسونها)

تفسير قوله تعالى: (وما آتيناهم من كتب يدرسونها) قال الله سبحانه مجيباً ومبيناً كذبهم: {وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} [سبأ:44] فهم قالوا: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22]، فلا آثار عندهم على ذلك، ولا أدلة لهم على أنهم كانوا على حق، هل معهم كتاب من عند الله سبحانه يبين لهم هذا الذي يدعونه؟ قال سبحانه:: {وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا} [سبأ:44] أي: من عندنا، لم ننزل عليهم قبل ذلك كتاباً من الكتب ويقولون: عندنا آثار من علم، فائتوا بهذه الكتب إن كنتم صادقين. قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} [سبأ:44] أي: لم نرسل في هؤلاء العرب قبلك من نذير، كان في الماضي إبراهيم أبو الأنبياء على نبينا وعليه الصلاة والسلام في العراق، ثم رحل إلى الشام على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ثم ذهب إلى مكة فبنى هذه الكعبة ورجع إلى الشام، وكان إسماعيل في مكة على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وكان على الملة وعلى الدين، أما هؤلاء العرب أهل الفترة لم يكن فيهم نذير قبلك، فأنت أول من جاء إليهم. قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} [سبأ:44] قراءة حمزة ويعقوب: (إليهُم)، مثل (عليهُم) (إليهُم) (لديهُم) وباقي القراء يقرءون: (إليهِم) (لديهِم) (عليهِم). قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} [سبأ:44] أي: منذر ينذرهم، ونبي ينذرهم ويخوفهم بعقوبة الله سبحانه على شركهم.

تفسير قوله تعالى: (وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم)

تفسير قوله تعالى: (وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم) قال تعالى: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [سبأ:45]. قوله تعالى: (وكذب الذين من قبلهم) يعني: تكذيب هؤلاء ليس بجديد فالذين من قبلهم كذبوا وأعرضوا، قال تعالى: {وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [سبأ:45] يعني: هؤلاء القوم القرشيون المغرورون، كذبوا ما جئت به من عند الله، كذلك كذب الذين من قبلهم، ولكن الذين من قبلهم كانوا أقوى منهم أبداناً، وكانوا أكثر منهم عدداً، ومكنا لهم أشياء كثيرة لم نمكن لهؤلاء مثلها، وما بلغ هؤلاء معشار -أي: عشر- ما أوتي الذين من قبلهم، فقد آتيناهم أموالاً كثيرة، وأعطيناهم جنات وعيوناً وحدائق، أما هؤلاء فهم في الصحارى ليس فيها إلا القليل من هذه الأشياء، لكن السابقين أعطيناهم فكذبوا، وكانوا أغنياء أقوياء طوالاً في الأجسام عراضاً فيها، فهؤلاء أهلكناهم، ودمرناهم، وأغرقناهم، فكيف نصنع بهؤلاء الضعفاء؟ فإنهم لم يؤتوا معشار ما آتيناهم، قالوا: معشار بمعنى: العشر، يقال: العشر والعشير، وقيل: بل معشار بمعنى: عشر العشر والمعنى: آتينا هؤلاء القليل من الدنيا، ولم نؤتهم كما آتينا الذين من قبلهم، وقد كذب الذين من قبلهم فأهلكناهم، ألا يتعظ هؤلاء بالذين من قبلهم؟! قال: {فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [سبأ:45] إذا وقفت عليها قلت: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [سبأ:45] هذه قراءة الجمهور، وإذا وصلها الجمهور أيضاً فيقولون: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ * قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} [سبأ:45 - 46] بالكسر فيها، أما ورش عن نافع إذا وصلها قرأ: (فكيف كان نكيرِي قل إنما أعظكم بواحدة)، ويعقوب يثبت الياء وصلاً ووقفاً: (نكيري)، ومعناها: إنكاري على هؤلاء كيف كان؟ وكيف كانت عقوبتي لهؤلاء؟ وكيف كان توقيفي لهم؟ وكيف كان عذابي لهؤلاء؟ إذاً: الإنكار هو العقوبة من الله سبحانه وتعالى، فقد كان إنكاره شديداً، إذ أهلكهم الله سبحانه وتعالى فلم يبق منهم أحداً، كيف صنع بقوم نوح؟ كيف صنع بعاد؟ كيف صنع بثمود؟ كيف صنع بأصحاب الأيكة وبقوم لوط؟ كيف صنع بفرعون وهامان وجنودهما؟ فالله عز وجل أنكر عليهم ما هم فيه إنكاراً عظيماً بعقوبة منه سبحانه، جعلتهم أمام الأمم التي تليهم عظة ومثلاً من الأمثال.

تفسير قوله تعالى: (قل إنما أعظكم بواحدة)

تفسير قوله تعالى: (قل إنما أعظكم بواحدة) قال الله لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {قُلْ} [سبأ:46] يعني: لهؤلاء {إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} [سبأ:46] أي: كلمة واحدة أقولها لكم، موعظة أعظكم بها، خصلة واحدة أدعوكم إليها لتتعظوا، ولتأخذوا حذركم من ربكم سبحانه وتعالى، بأن تؤمنوا وأن تطيعوا، والكلمة الواحدة التي طلبها النبي صلى الله عليه وسلم هي: قولوا: لا إله إلا الله، فإن هذه الكلمة العظيمة مفتاح الجنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) هذه الكلمة العظيمة التي دعا النبي صلى الله عليه وسلم عمه أبا طالب إلى أن يقولها، (قل: لا إله إلا الله كلمة واحدة أحاج لك بها عند ربك). هذه الكلمة العظيمة التي قال النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء: أعظكم بها أن تقولوها، هذه الكلمة إذا تأملت معناها عرفت أن هؤلاء القوم كانوا يفهمون معنى هذه الكلمة: لا إله إلا الله، فهم عرب، وهذه الكلمة عربية، فعرفوا الكلمة وعرفوا ما ينبني عليها، ولذلك رفضوا هذه الكلمة. فقوله: (قل إنما أعظكم بواحدة)، أي: قولوا: لا إله إلا الله، معناها: لا أتوجه بعبادة لغيره إذا كان الإله إلهاً واحداً، ولكن الكفار لا يريدون أن يكون الصلة بينهم وبين الله هو النبي صلى الله عليه وسلم، فهم يرفضون ذلك، يرفضون أن يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أصغر منهم سناً، وهناك من هو أقوى منه، وأكبر منه سناً، وأكثر منه مالاً، فلماذا يخصه الله بالرسالة حسب زعمهم؟ فهم لا يقبلون منه أمراً لهذه الأسباب، وإنما الأمر لله وحده سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3] صلوات الله وسلامه عليه، إنما الوحي من ربه سبحانه. فقال لهم: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} [سبأ:46] أي: أذكركم وأحذركم من سوء العاقبة بخصلة واحدة فقط: أن تتفكروا في هذه الخصلة الواحدة، قوله تعالى: {أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى} [سبأ:46]، في هذه الموعظة التي أقولها لكم، أدعوكم إلى طاعة الله عز وجل، هذه هي الخصلة الواحدة والأمر الواحد الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم اعبدوا الله وحده، وهذه دعوة كل الأنبياء والرسل من قبله، دعوا قومهم: أن {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] أي: قولوا: لا إله إلا الله لا نعبد إلا الله، والكفار كانوا يقرون بربوبية الله أنه الخالق وأنه الرازق، وأنه الذي ينفع ويضر سبحانه، لكنهم يعبدون معه غيره، ويقولون: نعبد هذه الأصنام لأنها تقربنا إلى الله، وسبب عبادتهم للأصنام كما قال تعالى: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22] لذلك الذي كان يسلم منهم بعد ذلك كان يضحك على نفسه كثيراً عندما يذكر جهله وغباءه وكيف عبد هؤلاء الأصنام! وكيف يصنع التمثال من الحجر هو ويخته بيده ويطؤه بقدمه ثم يضربه بفأسه، ثم يعبده من دون الله! وأعجب من ذلك: أنه إذا لم يلق حجراً يصنع إلهاً من التمر فيعبده من دون الله حتى إذا جاع أكله، وكانوا يفعلون ذلك في السفر، أو يأخذ الشاة ويحلبها فيأخذ الحليب ويخلطه مع رملٍ من الأرض حتى يجعلها عجينة ثم يجعلها تمثالاً ثم يجففه بالشمس ويعبده من دون الله سبحانه وتعالى، فإذا عاد من سفره ترك هذا التمثال، وعاد إلى صنمه الذي في بيته يعبده من دون الله! قال الله عنهم: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44] فعبدوا هذه الأشياء من دون الله سبحانه، فلا يعقلون ولا يفهمون. فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} [سبأ:46] خذوا هذه الخصلة الواحدة التي آمركم بها وتفكروا فيها، أنا دعوتكم أن تقولوا لا إله إلا الله فكذبتموني وقلتم عني: مجنون، وقلتم عني: ساحر، وقلتم: الكتاب هذا مفترى، إذاً: تفكروا في ذلك، قال: {أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبأ:46]، أن تقوموا لله مثنى، أي: اثنين اثنين (وفرادى) أي: كل واحد بنفسه حتى تصلوا إلى الأمر السليم، فالأمر المشكل لا يكون إلا كذلك، إذا أشكل الأمر على إنسان بدأ يزن الأمر في رأسه حتى يصل إلى شيء، أو أنه يأتي بإنسان عاقلٍ آخر ويجلس معه، فيكون كل واحد مرآة للآخر. إذاً: التفكير السليم يحتاج الإنسان فيه إلى أن يكون وحده يفكر، وبعد ذلك يجلس مع غيره ليستعين به، لم يقل: لأن المجموعات لا يصلون إلى حل أبداً حين يفكرون، ولكن يصلون إلى حل عن طريق الشورى، ولذلك علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن تستخير الله سبحانه وتعالى ونطلب منه الخير في الأمور، وصلاة الاستخارة ركعتان، من غير الفريضة يسأل فيها العبد ربه سبحانه وتعالى، يقول: (اللهم إن كان هذا الأمر خيراً لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاقدره لي ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كان شراً لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني به)، فتستخير ربك وتفكر في هذا الأمر ثم تشاور مع غيرك فيه، فإذا فعلت ذلك فإن الله عز وجل يوفقك للصواب؛ لذلك فإن التفكير الجماعي لا يجدي؛ لأنهم كلهم كفرة، والكبراء يمنعون الصغار من التفكير لذلك لا يصلح التفكير في جماعة من الناس، إنما التفكير إذا أردت الاهتداء والوصول إلى الصواب أن تفكر وحدك لتكون منصفاً، ثم تشاور إنساناً آخر عاقلاً مثنى وفرادى فتصلون إلى الصواب يوماً من الأيام. قوله تعالى: {أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبأ:46] هذه قراءة الجمهور، وقراءة رويس عن يعقوب: (ثم تَّفكروا ما بصاحبكم من جنة) والوقف على (ثم تتفكروا) وقف تام عليها، وقيل: بل الوقف على ما بعدها (ما بصاحبكم من جنة)، وكلاهما له معنى؛ فإذا وقفنا {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبأ:46] تمت هنا، إذاً: هنا أمرهم أن يقوموا لله مثنى وفرادى، ثم يقومون مخلصين يبتغون بقيامهم أن يوصلهم الله سبحانه إلى الحق، فيتفكرون في قول النبي صلى الله عليه وسلم لهم: قولوا: لا إله إلا الله، ثم تتفكروا، ثم قال لهم: {مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} [سبأ:46] أي: ليس بصاحبكم من جنة، هذا إذا كان على الابتداء بذلك: {مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ:46] أما على الوصل فيها والوقف على (جنة) فيقول: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} [سبأ:46] هذه الجنة التي تزعمون أنها فيه، تفكروا هل فيه من جنة؟ وعلى ذلك تكون (ما) هنا موصولة بمعنى: الذي، أي: ثم تتفكروا في الذي زعمتم أن بصاحبكم جنة، وصاحبكم هو النبي صلوات الله وسلامه عليه، هل فيه فعلاً جنون كما تقولون؟ إذاً: على الأولى نفي من الله عز وجل: {مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} [سبأ:46] أما على الثانية فهي وصل أي: تفكروا في الذي زعمتم ورميتموه به من جنون هل هو فعلاً كما تقولون. قال الله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ} [سبأ:46] أي: ما هو إلا نذير لكم صلوات الله وسلامه عليه بين يدي عذاب شديد، وما هو إلا رسول، قال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} [آل عمران:144]، هذه وظيفته صلوات الله وسلامه عليه في هذه الدنيا، {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران:144]. قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ:46]، والمعنى: أنتم المحتاجون، فأمامكم عذاب أنتم لا ترونه، فأرسلنا إليكم هذا النبي الكريم الرسول البشير عليه الصلاة والسلام ليحذركم من هذا العذاب، وكان من الممكن ألا نرسل إليكم شيئاً، ونجازيكم ونعذبكم، ولكن الله سبحانه وتعالى رءوف بعباده، لطيف بهم حليم كريم سبحانه، يأبى أن يعذب حتى يقيم العذر والحجة على هؤلاء، فقال لهم سبحانه: (ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير) أي: منذر يخوفكم مما أمامكم من عذاب يستقبلكم عند الله سبحانه. قال الله سبحانه في سورة الشورى للنبي صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23] إذاً: هو لا يسأل أجراً أصلاً، ولكن إن سألتكم شيئاً أسألكم أن تراعوا المودة، فإن بيني وبينكم مودة، بيني وبينكم قرابة، فلا تقطعوا الأرحام، إما أن تدخلوا في الدين, وإما أن تتركوني أدعو غيركم، ولا داعي لأن تدخلوا طالما أنتم على ذلك، ولعل الله يهديكم في يوم من الأيام، ولكن راعوا المودة في القربى. إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم يقول: خلوا أموالكم؛ لأنهم قالوا له: إن كنت جئت بهذا الأمر تبتغي به ما لاً جمعنا لك من أموالنا حتى تصير أغنانا، فقال لهم: لا، ما أنا طالب منكم شيئاً من المال، إنما أدعوكم إلى الله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (قل ما سألتكم من أجر فهو لكم)

تفسير قوله تعالى: (قل ما سألتكم من أجر فهو لكم) قال الله تعالى: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} [سبأ:47] أي: إن كنت طلبت منكم مالاً فخذوه، ولو أني سألتكم مالاً فهو لكم، وفي سورة الشورى قال سبحانه: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23] يعني: لا أسألكم عليه من أموالكم شيئاً، ولكن أطلب منكم أن تراعوا المودة التي بيني وبينكم، {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} [يونس:72]. إذاً: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} [سبأ:47] وهذه قراءة الجمهور كما ذكرنا قبل ذلك، والقراءة الأخرى لـ قالون، وأبي جعفر، وأبي عمرو، والكسائي: (فهْو لكم) وقراءة نافع وأبي جعفر، وقراءة أبي عمرو، وقراءة ابن عامر، وحفص عن عاصم: (إن أجريَ إلا على الله) وباقي القراء يقرءونها: (إن أجريْ إلا على الله) منهم من يمد ومنهم من يقصر. والمعنى: لا أطلب الأجر إلا من الله سبحانه وتعالى، وهو على كل شيء شهيد، فهو شهيد علي فيما أطلب وفيما أقول، وشهيد عليكم سبحانه، وكلمة شهيد على صيغة مبالغة من الشاهد وهو سبحانه الذي يعلم ما يقولونه، ويشهد عليهم سبحانه وتعالى، والشهيد: الرقيب العالم الحاضر الذي يراقب أفعالكم وأقوالكم، والذي يراقبني ويراقبكم. فلذلك النبي صلوات الله وسلامه عليه لا يحتاج إلى أموالهم، فالله هو الرزاق الكريم الذي يرزقهم سبحانه، فيطلب منهم أن يستجيبوا، وإن لم يستجيبوا فليفكروا في أنفسهم هل في صاحبهم من جنة؟ هل صاحبهم هذا طلب منهم أشياء من دنياهم؟ إنما طلب منهم أن يعبدوا الله وحده لا شريك له. نسأل الله عز وجل أن يرزقنا الإخلاص وكلمة التوحيد، وأن يحيينا عليها وأن يتوفانا عليها. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة سبأ [47 - 54]

تفسير سورة سبأ [47 - 54] يقول تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين: أنا لا أريد منكم جعلاً ولا عطاء على أداء رسالة الله عز وجل إليكم، ونصحي إياكم، وأمركم بعبادة الله، وإنما أطلب ثواب ذلك من عند الله العالم بجميع الأمور، وهو الذي جاء بالحق والشرع العظيم الذي به يكون زهوق الباطل واضمحلاله، وأخبر تعالى عن مآل هؤلاء المكذبين بالوحي وبالرسول، وأنه لا ينفعهم الإيمان يوم القيامة، فهذا شيء بعيد عنهم ومستحيل في حقهم.

تفسير قوله تعالى: (قل ما سألتكم من أجر فهو لكم)

تفسير قوله تعالى: (قل ما سألتكم من أجر فهو لكم) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [سبأ:47] يقول الله عز وجل لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: ((قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)) أي: الله سبحانه وتعالى شاهد يشهد على الناس؛ لأنه يعلم ما يظهرون ويعلم ما يسرون، فهو الشهيد سبحانه عليهم، قال تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام:19] فأعظم شهادة شهادة الله سبحانه الذي لا يخفى عليه شيء، ((قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ)) أي: قل لهؤلاء الكفار: لا أطلب منكم أجراً على تبليغ رسالة الله سبحانه، وإنما أطلب من الله لا من أحد من خلقه كما قال سبحانه: ((إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ)) وهو الشهيد على ذلك، يشهد عما أقول وأفعل، ويشهد عما تستجيبون أو تكذبون وتفعلون، قال: ((وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)).

تفسير قوله تعالى: (قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب)

تفسير قوله تعالى: (قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب) قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [سبأ:48] أي: ينزل الله سبحانه الحق من السماء، والحق هو الوحي والقرآن الذي أتانا من عند رب العالمين سبحانه، والحق خلاف الباطل. فالله عز وجل يأتي بالحق ينزله على النبي صلوات الله وسلامه عليه، والتعبير هنا تعبير عظيم فقد قال: (يقذف) والقذف يكون بالحجر، تقول: فلان قذاف، يعني: يمسك الحجر ويحذف بها، ويمسك الرمح ويقذف به، فإذا رمى بالشيء اليسير فهذا هو الحذف، كأن يحذف بالحصا إذا حذفها بأصابعه، أما رميه بالشيء الكبير فهذا هو القذف، كأن يقذف بالصخر، فالله سبحانه وتعالى يشبه نزول الحق من السماء بهذا الحجر الذي يقذف به المضل الباطل، فالله عز وجل ينزل هذا القرآن من السماء، يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، فالقرآن نزل ليقضي على الباطل وليس ليتلطف به؛ ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم لما كادت له قريش كيداً عظيماً، وأتعبوا النبي صلى الله عليه وسلم فقام لهم صلوات الله وسلامه عليه وقال: (والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح) فهؤلاء الكفار كانوا يتطاولون عليه صلوات الله وسلامه عليه، فكانوا كلما طاف بالكعبة ومر بهؤلاء الكفار شتموه وسبوه صلوات الله وسلامه عليه، ثم وقف لهم فقال: (والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح، فهم لما قال ذلك خافوا وقالوا: اذهب يا أبا القاسم ما عهدناك جهولاً) يعني: لا تقلدنا بجهلنا، فلسنا متعودين منك الجهالة؛ ولذلك قال ربنا للمؤمنين: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] فهؤلاء الكفار لا ينفع معهم اللين؛ لأنهم متكبرون، ولكن أعد لهم القوة التي يخافون منها، وإذا كنت من أهل القوة فتلطف معهم لعلهم يدخلون في دينك، وإذا ظلوا على العناد وعلى العداوة وأظهروا ذلك فقاتلهم وأخفهم بذلك. قوله: ((قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ)) أي: ينزل الحق من السماء وحياً على النبي صلى الله عليه وسلم ليفضح الكفار ويقذف به الباطل، والقذيفة: هي الشيء الذي يرمى به، فكأن الوحي ينزل من السماء كالقذائف على الباطل وأهله فيدمغهم ويهلكهم ويمحوهم، فهو يقذف بالحق علام الغيوب سبحانه، فالذي يقذف هو الله سبحانه وتعالى، وهو علام الغيوب يعلم كل شيء سبحانه وما يستحقه هؤلاء، وأنت لا تعلم ولكن الله يعلم أنه لا يصلح معهم إلا قتالهم، لذلك أمرك بقتالهم وبالإعداد لهم، وأنزل عليك القرآن ليدمغ باطلهم وليشدخه ويزيله، ليهلك الباطل ويحق الحق بكلماته سبحانه. فقوله: ((قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ)) أي: أن الحق قوة والذي على الحق معهم قوة، معه قوة كتاب الله سبحانه ومعونة الله سبحانه؛ لأنه على الحق. قوله: {الْغُيُوبِ} [سبأ:48] هذه قراءة الجمهور، وقراءة شعبة عن عاصم، وقراءة حمزة (علام الغِيوب)، والغيوب جمع غيب، والله عز وجل يعلم ما خفي من الأشياء وما ظهر سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد)

تفسير قوله تعالى: (قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد) قال الله تعالى: {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ:49] أي: جاء القرآن العظيم من عند ربنا، جاء الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه بالحق من عند الله سبحانه، قل يا محمد: جاء الحق الذي يعادي الباطل، والله سبحانه حق وكتابه حق ورسوله حق، ولذلك ورد في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم لك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق ووعدك الحق، ولقاؤك حق، وقولك حق، والساعة حق، والجنة حق، والنار حق) فهنا كل هذه الأشياء أثبتها الله سبحانه فهي الحق، وكل ما يقوله الله عز وجل فهو الحق. قوله: ((قُلْ جَاءَ الْحَقُّ)) أي: من عند الله سبحانه ((وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ)) قال المفسرون: الباطل المقصود به في هذه الآية الشيطان، فالله عز وجل أتانا من عنده بهذا الكتاب العظيم، والشيطان يلقي في النفوس التكذيب والعناد والاستكبار والبعد عن النبي صلى الله عليه وسلم، والكفر بما جاء به، وهذا الباطل الذي اتبعتموه من دون الله هو الشيطان، فهل هذا الشيطان يخلق شيئاً؟ وهل يقدر على إعادة هذا الشيء؟ ((مَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ)) أي: لا يقدر أن يبدأ خلقاً ولا يقدر على إعادة خلق؛ لأنه عاجز ولا يملك شيئاً، وإنما الله هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده سبحانه وتعالى، فخلق الإنسان من عدم من لا شيء من تراب من ماء، وأوجد هذا الإنسان ثم يميته ويفنيه سبحانه وتعالى، ثم يعيده مرة ثانية. أما ما يعبدون من دون الله كالشيطان والأصنام والهوى وغير ذلك من عبادة غير الله سبحانه، فهل هذه المعبودات تقدر على أن تبدأ خلقاً؟ لا تقدر، وقد بدأ الله الخلق ثم أفناه، فهل تقدر هذه الأشياء على إعادته؟ مستحيل، لا الشيطان يقدر ولا هذه المعبودات من دون الله عز وجل تقدر؛ لأن كل هذه الأشياء من الباطل وقد قال الله: ((وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ)).

تفسير قوله تعالى: (قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي)

تفسير قوله تعالى: (قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي) قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} [سبأ:50]. هم يتهمونه بأنه على الضلال صلوات الله وسلامه عليه، وأنه جاء بما لا يعرفونه، وجعل الآلهة إلهاً واحداً وقالوا: إن هذا لشيء عجاب، فالله عز وجل يأمره أن يخاطب عقولهم ويقول لهم: انظروا وتدبروا وتأملوا في هذا الذي جئتكم به هل هو باطل؟ هل فكرتم فيه حتى تعرفوا أنه حق أم باطل؟ وقد وعظهم قبل ذلك بقوله: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ:46] فهو أمرهم بالتفكر، ثم تنزل معهم وقال: فرضنا أن هذا الشيء الذي جئتكم به باطل، أليس عندكم عقول تتبينون بها الباطل من الحق؟ إن كان باطلاً كما تزعمون فضلالي على نفسي وأنا أضر نفسي بهذا الشيء، وهل إنسان عاقل يريد أن يضر نفسه أو يضلها؟ إن ضللت كما تقولون فضلالي على نفسي، وأنا أحمل هذا الذنب عند الله سبحانه، وأنا الذي أقول لكم بكتاب الله عز وجل: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] أي: لا أحد سيحمل عني ذنبي، وأنا الذي أحمل الذنب، أفأمنعكم من الذنب وأقع فيه؟ هل يعقل هذا الشيء؟ فقوله تعالى: ((قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ)) هذه هي الحقيقة، أي: إن كنت على ضلال فسأضر نفسي وسأقع في عذاب الله سبحانه، وإن كنت على هدى فبما يوحي إلي ربي، والهدى ليس من عندي، فأنا عشت معكم، ولم أقرأ كتباً لأهل الكتاب ولا سافرت خارج هذه البلدة حتى أتعلم من أناس خارجها، بل في سفراته المعدودة كانوا هم معه صلوات الله وسلامه عليه، فعلموا أنه لن يتلقى علماً من أحد من البشر، فمن أين أوتي بهذا العلم العظيم؟ يقول: ((وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي)) أي: بالوحي من الله سبحانه وتعالى قد هداني. وقوله: ((إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ)) أي: الله سبحانه سميع يسمع كل شيء فيحاسب عما سمعه سبحانه، فهو سميع يسمع سبحانه الأصوات ما ظهر منها وما خفي منها، يسمع كل شيء، فهو قريب منكم أقرب إلى أحدكم من حبل الوريد، وإن كان هو فوق سماواته سبحانه وتعالى، ولكنه قريب من عباده يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، فالله عز وجل قبل أن يتحرك إنسان لنجدتك ينقذك وينصرك سبحانه وتعالى، وقبل أن يتحرك أقرب الموجودين إليك ليؤذيك فالله أقرب منه يمنعه سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب)

تفسير قوله تعالى: (ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب) قال الله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} [سبأ:51]. (ولو ترى) هنا الصيغة صغية تعظيم لهذا الشيء، يعني: لو ترى هذا الشيء العظيم الذي نكلمك ونحدثك عنه، ((وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا)) يعني: لو ترى إذ فزعوا حين جاءت القيامة من عند الله سبحانه، وحين جاء الموت على هؤلاء فأفزعهم الله سبحانه وتعالى، وما استطاعوا هرباً ولا فكاكاً. قوله: ((فَلا فَوْتَ)) أي: لا يفوتوننا ولا يهربون منا ولا يعجزوننا، فأين يذهبون من الله وهو أقرب إليهم من حبل الوريد؟ فلا يفوتون الله سبحانه؛ لأنه مستحيل أن يفلت أحد من قضاء الله وقدره، ويفلت من عقوبة الله سبحانه ومن الموت الذي ينزل، بله من حضور القيامة بين يدي الله عز وجل. والفزع الكثير، يكون عند الموت، فالإنسان الكافر يرى مالم يكن في حسبانه فيفزع، وإذا دخل قبره فزع وقد جاءت الملائكة تسأله: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: لا أدري ولا يعرف النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كذب به عليه الصلاة والسلام، وإذا قاموا من قبورهم في صيحة البعث والنشور يقومون مفزوعين يقولون: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:52] وإذا قاموا في الموقف العظيم وقيل: ادخلوا النار، فزعوا وطلبوا العود والتوبة. وقوله تعالى: ((فَلا فوت)) أي: لا يفوتوننا أبداً، وهنا يقرؤها حمزة بالمد: ((فَلا فَوْتَ)) ويتوسط في المد فيها في قراءة له، كأن هذا تأكيد النفي، فيمدها كما يمد قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:2] وإن كان العادة في المد أنه يستقبل بهمزة أو بساكن، ولكن هنا لـ حمزة قاعدة في ذلك وهي: أنه إذا كان يريد تأكيد النفي مد الألف فيها أو مد حرف المد فيها، فيقرأ: ((وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلآ فوت))، يعني: مستحيل أن يفوتوا من الله سبحانه وتعالى، و (ترى) يميلها. قال سبحانه: ((وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ)) أي: كل مكان في هذا الكون قريب من الله عز وجل، فالله عز وجل يأمر كوناً فيكون بأمره سبحانه، وكل أفعاله تصيب من يريد سبحانه وتعالى، ولا يفلت أحد فما هو آت من عند الله فهو قريب، وعباده لا يعجزونه ولا يهربون منه فهو أقرب إليهم من حبل وريدهم.

تفسير قوله تعالى: (وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد)

تفسير قوله تعالى: (وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد) قال الله تعالى {وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [سبأ:52]. يعني: بالقرآن، متى قالوا هذا الشيء؟ قالوه لما بعثوا يوم القيامة ورأوا العذاب، حينما قالوا: آمنا وصدقنا ربنا، فأرجعنا مرة أخرى إلى الدنيا، فإن عدنا فإنا ظالمون، فيقول الله سبحانه وتعالى: ((وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ)) أي: آمنا بالوحي وآمنا بالقرآن وآمنا بالرسول صلى الله عليه وسلم، وأنى لهم تناول الإيمان من مكان بعيد؟ الآخرة بعيدة جداً، انتهى أمر الدنيا فلا رجعة مرة ثانية، فهم يقولون حين يعاينون العذاب: آمنا يا ربنا، و (أنى) أي: كيف، ومن يأتيهم بذلك؟ قوله: ((وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ)) هذه قراءة الجمهور، وقراءة أبي عمرو وشعبة عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف (التناؤش) بالهمزة فيها، والتناوش بمعنى التناول، وكأنه يضرب مثلاً لشيء نراه في الدنيا، لو أن إنساناً أدلى حبلاً من عمارة عالية جداً فوصل نصف المسافة ويوجد إنسان على الأرض يريد أن يتناول هذا الحبل فهو يقفز حتى يمسك بهذا الحبل ولا يقدر، فأين الآخرة من هذه الدنيا؟ ((أَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ)) أي: كيف لهم تناول الإيمان والرجوع إلى هذه الدنيا مرة ثانية وقد بعدوا؟ مستحيل أن يعودوا إلى الدنيا مرة ثانية، ومستحيل أن يقبل منهم ذلك من مكان بعيد.

تفسير قوله تعالى: (وقد كفروا به من قبل)

تفسير قوله تعالى: (وقد كفروا به من قبل) قال الله سبحانه وتعالى: {وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [سبأ:53] الآن في الآخرة يريدون الرجوع إلى الدنيا، ولكن لا رجوع إليها مرة ثانية، وهم حينها يطلبون الإيمان وقد أعذر الله لهم وأنزل عليهم القرآن وأرسل إليهم رسولاً، فلا يقبل منهم ذلك. فقوله: ((وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ)) أي: كفروا بالله عز وجل، وكفروا بالرجوع إلى الله بالبعث والنشور. قوله: ((وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ)) يعني: أنهم الآن صاروا في الآخرة ولا رجوع إلى الدنيا فهم يعذبون؛ لأنهم قد كفروا من قبل وهم في الدنيا، وقذفوا بالغيب، وهناك فرق بين قذف الله عز وجل كما قال: {إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ} [سبأ:48]، وهم يقذفون بالغيب من مكان بعيد، وهذا مثل مأخوذ من البيئة التي هم فيها ويشاهدونها، وهذا مثلما يقال: قذف بالغيب من مكان بعيد، يعني: أراد أن يرمي بحجرة، ويريد أن يصيب بها وهو بعيد جداً لا يصل إلى هذا المكان، فهؤلاء يقذفون بالغيب من مكان بعيد، فالمعنى: أنهم رموا النبي صلى الله عليه وسلم بما ليس فيه، ورموا هذا القرآن بما لا ينبغي، فقالوا عن هذا القرآن: هذا سحر من عنده، وقالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم: إنه مجنون، وكاذب وساحر وكاهن، فهذا من الرجم بالغيب، وكأنه الرمي بالظن، فهم يرجمون بالظنون وبالكلام الباطل الذي لا يفكرون فيه، فهؤلاء مثل إنسان أغمض عينيه وأخذ طوبة يريد أن يرمي بها إنساناً بعيداً عنه، فهل يصيب بها؟ لا، هذا رجم بالغيب؛ لأنه رجم وهو لا يرى الذي يريد أن يرجمه، كذلك هؤلاء، لم يتدبروا فيما جاء به النبي صلوات الله وسلامه عليه، ولم يفكروا في هذا القرآن، بل ظلوا يؤلفون من رءوسهم ويقولون عن النبي صلى الله عليه وسلم: ساحر وكذاب وكاهن، فيرجمون بالغيب من بعيد، فلا يريدون أن يتقربوا من النبي صلى الله عليه وسلم ليتعلموا منه وينظروا ويتأملوا فيما جاء به من القرآن العظيم. قال الله سبحانه: ((وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ)) أي: كفروا بالقرآن وكفروا بالنبي صلوات الله وسلامه عليه، وكم قد قال لهم الله سبحانه: أفلا يعقلون؟ أفلا يتدبرون القرآن؟ فيأمرهم بالتفكر ويقول لهم: تدبروا في هذا القرآن، فلم يتدبروا ولم يتفكروا، بل أعرضوا عن النبي صلوات الله وسلامه عليه، ولم يكتفوا بذلك بل إن هؤلاء الكفار كان إذا جاء إنسان من خارج مكة استقبلوه وقالوا له: احذر من هذا الرجل أن يسحرك، فهو الذي فرق بين الرجل وابنه، وفرق بين المرء وأهله، فهذا الذي يدخل مكة يخاف أن يذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويضع في أذنيه كرسفاً إذا اقترب من النبي صلى الله عليه وسلم ويغمض عينيه، فيتقرب من النبي صلى الله عليه وسلم شخص من هؤلاء ويقول: ما أتيتك حتى أخذ عليّ هؤلاء الكفار العهود وحلفوني عشر مرات ألا آتيك، ولكن أبى الله عز وجل إلا أن يفتح قلبه فيذهب للنبي صلى الله عليه وسلم ويسمع منه هذا الحق العظيم الذي جاء به، بل هم أنفسهم عرفوا أن هذا الحق هو من عند الله سبحانه وتعالى، فقد كان الكفار يتصنتون على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن عند الكعبة بالليل حين يصلي صلوات الله وسلامه عليه، وهم الوليد بن المغيرة وأبو الجهل عمرو بن هشام وعتبة بن ربيعة وغيرهم من الكفار، فكان يسمعون نغمة القرآن ورصانته وبلاغته وفصاحته، وما فيه من حكم عظيمة وأحكام جميلة، وكان كل واحد منهم يختفي من الثاني، فيقفون خلف النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن، وقبل أن يظهر النور والضوء ينصرفون فتجمعهم الطريق الثلاثة، فيسأل بعضهم بعضاً أين كنت؟ فيقول: كنت أسمع محمداً، فيتواعدون ويتحالفون ألا يأتوا إليه صلوات الله وسلامه عليه، فإذا بهم بعد أيام يرجعون، ومع ذلك لا يؤمنون به، والقرآن عجيب ومحير ومعجز، فقد أعجزهم وأتى بهم مرة ثانية لكي يستمعوا لهذا القرآن مرة ومرتين وثلاثاً، وفي الأخير يقولون: سنفتن الناس، فيتحالفون ألا يأتوا للنبي صلى الله عليه وسلم. فقالوا للوليد بن المغيرة قل شيئاً في هذا القرآن، فقال: أسمع قليلاً منه ثم أقول ما فيه، فلما سمع القرآن قال لهم: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر، فقالوا: أنت تقول هذا الشيء، فقال الوليد: نعم أنا الذي أقول هذا الشيء، فقام أبو جهل والثاني والثالث وقالوا: لقد سحرك محمد، وبعد ذلك قام أبو جهل الملعون بحيلة، فقام بجمع أموال من قريش وذهب بها إلى الوليد وقال: خذ هذه الأموال، فقال الوليد: لقد علمت أني أغناهم، فقال أبو جهل: أنت ما ذهبت لمحمد وسمعت منه إلا لكي يعطيك أموالاً، فخذ هذه الأموال فقد أتينا بها لك، فتأخذ الوليد النعرة والعصبية ويقوم ويقول كما يقولون: إنه ساحر، فقال الله عز وجل: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا} [المدثر:11 - 16] فهو بعدما سمع هذه الآيات عاند. فهو بعدما قال: وما هو بقول البشر، قالوا له: ضحك عليك محمد وقال بأنه سيعطيك مالاً، فقال لهم: أنا سأفكر قليلاً، فذكر الله عز وجل لنا صورة هذا الإنسان وهو يفكر، وكيف أنه يريد أن يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن عرف أن هذا من عند الله وما هو بقول البشر، فقال الله عز وجل يصور الصورة التي كان بها: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ} أي: لعن، لعنه الله سبحانه في تفكيره وتقدير هذا الذي يقوله، {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} [المدثر:19] يعني: كيف أعمل عقله وفكره ليقدر أشياء مكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم، {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ} [المدثر:20 - 21] أي: قعد يتلفت شمالاً ويميناً، {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} [المدثر:22] كهيئة الإنسان الذي أخذه التفكير العميق فيعبث في هيئته، وبعد ذلك {أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:23 - 26] هذا الذي يستحقه، وسقر أسفل النار والعياذ بالله في قعر جهنم {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} [المدثر:27 - 29] سقر تهلك من يدخلها وتفنيه؛ فهي لا تبقي ولا تذر، ولكن الله سبحانه كتب لهم أن يخلدوا ويظلوا فيها فلا تفنيهم، وإنما تعذبهم العذاب الشديد، ثم قال: {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} [المدثر:29] أي: تلوح أبشارهم وتحيلها وتذهب ألوانها الناضرة إلى ألوان سوداء فظيعة كالحة. هذا واحد من هؤلاء الكفار فكيف بجميعهم؟!. كان أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه يقرأ القرآن ويبكي، فيسمعه المشركون وخاصة نساء المشركين كن يسمعنه وهو في داره فيتقاذفن عليه كل واحدة تريد أن تسمع أبا بكر وهو يقرأ، كان يعجبهن ذلك ولعلهن يبكين لبكاء أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فتضايق المشركون من هذا الشيء، وقالوا: ستفتن نساءنا، وتجعلهن يدخلن في هذا الدين الذي أنت فيه، فيقولون: إما أن تترك هذا الذي أنت عليه، وإما ألا تجاورنا، فـ أبو بكر الصديق رضي الله عنه فكر في الهجرة والنبي صلى الله عليه وسلم يأمره أن يبقى، ثم بعد ذلك يخرج أبو بكر الصديق رضي الله عنه من مكة ويترك هؤلاء، ويدخل مرة ثانية في جوار ابن الدغنة في قصة طويلة. إذاً: فالقرآن عجيب، وإذا سمعه أي إنسان يحن إليه ويميل بأذنه، يريد أن يسمعه مرة ومرتين وثلاثاً من حبه لهذا القرآن العظيم، فالكفار استمعوا للقرآن وأعجبهم، ولكن منعهم الحسد للنبي صلى الله عليه وسلم أن يدخلوا في هذا الدين العظيم، والقرآن يشد الإنسان ويجذبه إليه حين يتجرد عن الهوى، فيهديه الله سبحانه وتعالى، قال الله عز وجل في هؤلاء الكفار -الذين تمنوا يوم القيامة العودة إلى الدنيا-: ((وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ)).

تفسير قوله تعالى: (وحيل بينهم وبين ما يشتهون)

تفسير قوله تعالى: (وحيل بينهم وبين ما يشتهون) قال الله تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} [سبأ:54]. قوله: (حيل بينهم) أي: حال بينهم حائل يستحيل أن يتجاوزوه؛ لأن الله قضى أنهم لن يعودوا مرة ثانية إلى هذه الدنيا. قوله: (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) قال: (يشتهون) ولم يقل: يريدون؛ لأن في ذلك الموطن يريدون الشهوة، وأشد أمنية الإنسان أن يشتهي شيئاً، فالواحد منهم يوم القيامة يشتهي أن يرجع إلى الدنيا؛ فيؤمن ويصدق ويصلي لله عز وجل ويوحده، لكن يقول هنا: ((وَحِيلَ بَيْنَهُمْ)). قوله: ((وَحِيلَ)) هنا الفعل مبني للمجهول، والجمهور على هذه القراءة ((وَحِيلَ بَيْنَهُمْ)) وقراءة ابن عامر والكسائي ورويس عن يعقوب بإشمام كسر الحاء ضمة؛ لبيان أن الفعل مبني للمجهول، فالله عز وجل يحيل بينهم وبينما يشتهون، لكن الصيغة للمجهول (حيل) وأصلها حويل، أي: بينهم وبينه، وبذلك يقرؤها هؤلاء القراء: ابن عامر والكسائي ورويس عن يعقوب. قوله: ((كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ)) أشياع جمع شيع، والشيع جمع شيعة، وشيعة الإنسان أقاربه ومن يحيطون به، وهنا ليس المقصود بها أقاربهم وإنما أشباههم وأمثالهم الذين تشبه هؤلاء بهم، فقد تشبهوا بقوم نوح بقوم عاد وبقوم ثمود، فهؤلاء أشياعهم وأشباههم في الباطل وفي الكفر، وكما فعل بالسابقين فحيل بينهم وبينما يتمنونه وما يشتهونه من إيمان ودخول في الدين، فهم لما جاءهم الموت تمنوا الرجوع، لكن لا تنفع نفس إيمانها في ذلك الوقت، أي: وقت الغرغرة، فكما حيل بينهم وبين الإيمان حيل بين هؤلاء وبينما يشتهون كما فعل بأشياعهم وأشباههم من قبل؛ لأنهم كانوا في الدنيا في شك مريب وفي شك عظيم، والريب بمعنى الشك، وكأن الكلمة {فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} [سبأ:54] يعني في شك عظيم جداً مثل ما تقول: هذا شيء عجيب، أي: غاية في العجب، كذلك هذا شك غاية في الشك والإرابة والبعد عن الحق.

المناسبة بين أول سورة سبأ وبين آخرها

المناسبة بين أول سورة سبأ وبين آخرها انظر كيف بدأ الله سبحانه وتعالى هذه السورة العظيمة الجميلة بالحمد له سبحانه وكيف ختمها سبحانه وتعالى، فهي بدايتها بدأ بحمده سبحانه وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [سبأ:1] وكأن هؤلاء المشركين يرفضون أن يعبدوا الله حامدين شاكرين له سبحانه متوجهين إليه بأفعالهم، فالله لا يحتاج إليهم سبحانه فهو الغني وهو يحمد نفسه جل في علاه. فلله الحمد الذي يعلم ما يلج في الأرض، ويعلم ما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يصعد فيها سبحانه وتعالى، وهو الرحيم بعباده المؤمنين، الغفور الذي يغفر لمن تاب وأناب إليه سبحانه. ثم قال: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ} [سبأ:3] أي: بدأ بذكر قصة هؤلاء الكفار الذين قالوا: ليس هناك ساعة ولا قيامة، فقال الله سبحانه: إنهم قد سعوا في آيتنا معاجزين يريدون إبطال هذه الآيات، وقد قال لهم الذين أوتوا العلم: إن هذا هو الحق الذي جاء من عند الله سبحانه، فإذا بهم يتهكمون على النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال الله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ} [سبأ:7 - 8] وساق أفعال هؤلاء، وكيف أنهم اتبعوا الشيطان من دون الله، وكيف اتبعوا الهوى، وضرب لهم الأمثلة وذكر لهم قصة سليمان عليه الصلاة والسلام، وكيف عبد ربه هو وأبوه داود عليه السلام، كذلك الجبال والطير يعبدون الله سبحانه، والكفار يأبون إلا الكفر الذي هم فيه، وغير ذلك مما ذكره الله عز وجل في أول السورة، فختم بالجزاء: ((وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ)) فهؤلاء يستحقون كل الذي فعله ربنا بهم؛ لأنهم في الدنيا لا يريدون أن يشكروا الله ولا أن يحمدوه سبحانه، ولا يتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا جاءوا يوم القيامة يقولون: أرجعنا، فأنى لهم التناوش والتناول في ذلك الموقف؟ فمستحيل أن يرجعوا إلى الدنيا ويخرجوا من النار. فإذاً: قد أعذر من أنذر، فالله عز جل جاءهم بالحق فرفضوا ذلك، وساق لك كيف صنعوا مع ربهم، فهم يستحقون هذا الجزاء ولم يظلمهم الله سبحانه وتعالى، إذ حال بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل؛ لأنهم كانوا في شك مريب. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، ونسأل الله سبحانه أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

فاطر

تفسير سورة فاطر [1 - 2] سورة فاطر من السور المكية، وفيها إثبات صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وتثبيته على ما يلاقيه من قومه، وفيها تذكير الناس بنعم الله سبحانه وتعالى عليهم، كما أن فيها كشف نوايا الكفار وبيان غلطهم في عبادتهم غير الله، وفيها إنذارهم وتخويفهم من عذاب الله عز وجل، وغير ذلك مما بين وذكر في هذه السورة العظيمة.

ترتيب سورة فاطر

ترتيب سورة فاطر الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله تبارك وتعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر:1 - 2]. هذه السورة الخامسة والثلاثون من كتاب الله سبحانه وتعالى وهي من السور المكية التي كان نزولها قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم بزمن. وسورة فاطر في ترتيب سور النزول هي الثالثة والأربعون من كتاب الله عز وجل، نزلت بعد نزول سورة الفرقان، وقبل نزول سورة مريم، فهي من السور المكية التي نزلت في أوائل بعثة النبي صلوات الله وسلامه عليه.

عدد آيات سورة فاطر

عدد آيات سورة فاطر وهذه السورة عدد آياتها ستة وأربعون آية حسب العد المدني الأخير وحسب العد الدمشقي أيضاً، وحسب المصاحف الدمشقية، وأربعة وأربعون آية حسب العد في المصحف الحمصي، وخمسة وأربعون آية في باقي المصاحف. وكما ذكرنا قبل ذلك: أن الخلاف في عد الآي يرجع إلى الوقف، أين وقف النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقد يكون بعض القراء عدوا آية واحدة عدها البعض الآخر آيتين، باعتبار أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف في وسط هذه الآية، هذا هو سبب الاختلاف في العد، وليس زيادة آية أو نقصانها.

أسماء سورة فاطر

أسماء سورة فاطر وهذه السورة اسمها سورة فاطر؛ لأنه بدأها سبحانه بقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [فاطر:1]، وتسمى أيضاً بسورة الملائكة، لقوله سبحانه: {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر:1]، فذكر الله عز وجل الملائكة مثنى وثلاث ورباع، فتسمى بسورة الملائكة؛ لذلك تجد بعض المفسرين يذكرون أنها سورة الملائكة، والأكثرون على أنها سورة فاطر، وهذه التسمية سواء كانت سورة الملائكة أو سورة فاطر لا تغير ما تحويه السورة.

خصائص سورة فاطر

خصائص سورة فاطر هذه السورة سورة مكية فيها خصائص السور المكية، مثل الاهتمام بأمر العقيدة وأمر توحيد الله سبحانه، والتركيز على الحساب والجزاء، وعلى ذكر يوم القيامة والبعث والنشور، والجنة والنار، وذكر أهل الجنة، وذكر أهل النار، وفيها إثبات تفرد الله سبحانه وتعالى بالإلهية، وأنه الإله وحده الذي يستحق أن يعبد دون غيره، فبدأها بقوله: ((الحمد لله)) يعني: كل الحمد له وحده لا شريك له سبحانه وتعالى، وجاء التأكيد على هذا المعنى في ثنايا السورة، فإنه مستحق للحمد على ما أبدع من الكائنات وخلقها سبحانه وتعالى، وهذه الكائنات فيها دلالة على أنه متفرد بالخلق والأمر وحده لا شريك له.

أغراض سورة فاطر

أغراض سورة فاطر هذه السورة من أغراضها إثبات صدق النبي صلوات الله وسلامه عليه فيما جاء به من عند الله سبحانه، وأنه جاء بالذي جاء به الرسل من قبله عليهم الصلاة والسلام. وفيها أيضاً: إثبات البعث وإثبات الدار الآخرة. وفيها: تذكير الناس بنعم الله سبحانه وتعالى عليهم، كنعمة الإيجاد، فإنه أوجدكم سبحانه، ونعمة الإمداد؛ فإنه يمدكم ويعطيكم من فضله سبحانه وتعالى. وما يعبد المشركون من دون الله لا يملكون من قطمير، كما قال سبحانه: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:14]. أيضاً فيها: تثبيت النبي صلوات الله وسلامه عليه على ما يلاقيه من قومه، فيصبره ربه سبحانه وتعالى بما في هذه السورة من ذكر ذلك. كذلك فيها كشف نوايا هؤلاء الكفار في إعراضهم عن النبي صلوات الله وسلامه عليه، وأن ما منعهم من ذلك إلا أنهم تعززوا، وحسدوا النبي صلى الله عليه وسلم على ما هو فيه من رسالة من عند الله، فحسدوه وأخذتهم العزة بالإثم. وكذلك فيها الإنذار لهؤلاء وتخويفهم بأن ما حل بالسابقين قد يحل بهم كذلك. وفيها أيضاً: الثناء على الذين تلقوا كتاب الله سبحانه وتعالى، وتلقوا هذا الإسلام العظيم بالتصديق، وبضد ذلك حال المكذبين. كذلك فيها تذكير الناس بأنهم يودون أن يرسل الله عز وجل إليهم رسولاً، فلما جاءهم رسول من عند رب العالمين كفروا به، وكذبوا وأعرضوا، فيذكرهم: ألم تكونوا تسألون الله سبحانه أن يرسل إليكم رسولاً؟ كذلك فيها أنه لا مفر لهم من حلول العذاب بهم على تكذيبهم، وقد شاهدوا آثار الأمم السابقة كيف فعل الله عز وجل بهم، فلا يغتر هؤلاء بإمهال الله سبحانه وتعالى، ولا يغتروا بالشيطان، قال سبحانه: {وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر:5]. هذه مجمل أغراض هذه السورة، وهي كلها من خصائص السور المكية.

تفسير قوله تعالى: (الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا)

تفسير قوله تعالى: (الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلاً) هذه السورة بدأها الله سبحانه بقوله: {3الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فاطر:1] وقدمنا أنه في كتاب الله عز وجل خمس سور افتتحها الله سبحانه وتعالى بهذا الحمد العظيم له وحده، وهي: سورة الفاتحة، وسورة الأنعام، وسورة الكهف، وسورة سبأ، وكذلك هذه السورة سورة فاطر، وكلها سور مكية، وكأن الخطاب موجه للخلق: (اعبدوا الله)، فرفض الكفار أن يعبدوه، وأن يشكروه سبحانه، وأن يحمدوه، فقال: (الحمد لله) أي: هو مستغنٍ عن حمدكم، ومستغنٍ عن شكركم وعبادتكم، فهو سبحانه وتعالى جعل له عباداً يعبدونه من الملائكة، عبدهم لنفسه سبحانه وتعالى، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وخلق من الإنس ومن الجن من هم أولى بعبادته سبحانه وتعالى، وهو غني عن الخلق جميعهم. وقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [فاطر:1] الحمد كما قدمنا هو بمعنى: الثناء الجميل والحسن على الله سبحانه وتعالى بأفعاله العظيمة الحسنة الجميلة، فهو يحمد بما يستحقه وبما هو أهل له، ويثنى عليه بجميل فعله سبحانه وتعالى. {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [فاطر:1]، في هذه السورة اسمان له عز وجل: اسمه (الله)، واسمه (الفاطر) و (الله) بمعنى: المألوه، فالله هو المعبود الذي يؤله ويعبد سبحانه وتعالى، فالخلق يعبدونه وحده لا شريك له، فقد أمرهم بعبادته فقال: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون:32]. وفطر الشيء بمعنى: خلقه، وبمعنى: أوجده على غير مثال سابق، وبمعنى: اخترعه وابتدعه. فقوله: {فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [فاطر:1]، أي: أوجدهما ولم يكن قبل ذلك مثال لهما عمل على شكله وعادة الناس في الاختراعات أنهم يقلد بعضهم بعضاً، فهذا صنع شيئاً والثاني طور هذا الشيء، والثالث طوره إلى شيء آخر، فالطائرة التي تطير كيف وصلوا إلى صناعتها؟ بدءوا يفكرون كيف تطير هذه الطيور، والطيور من خلق الله سبحانه وتعالى، فجاء العباس بن فرناس وعمل له جناحين، وحاول أنه يطير من على الجبل بالجناحين، فوقع على الأرض، والذي بعده طور هذا الشيء، والثاني يطور ويطور، إلى أن اخترعوا الطائرة والصاروخ. فالإنسان يخترع، لكنه يقلد من كان قبله أو يقلد خلقاً خلقه الله سبحانه وتعالى، لكن الله حين أوجد السماوات والأرض لم يكن قبلها سماء يخلق مثلها، ولم يكن قبل الأرض أرض أخرى يخلق مثلها، ولكن هو الذي فطرها، أي: أنشأها أول مرة ولم يكن لها مثال سابق قبل ذلك. فالله عز وجل فاطر السماوات والأرض، أي: خلقها على غير مثال سابق، وابتدع إنشاءها، وأتقن صنعها، فهو فاطر، أي: خالق هذه الأشياء التي ليست على مثال سابق قبل ذلك. يقول عبد الله بن عباس رضي الله تبارك وتعالى عنهما: كنت لا أدري ما فاطر السماوات والأرض، أي: ما معنى فاطر السماوات الأرض؟ لأن فاطر معناه: خالق، وخالق تحتمل معنى الخلق، وتحتمل معنى التقدير، لكن هناك فرق بين فاطر وخالق. فهنا ابن عباس رضي الله عنهما يقول: ما كنت أعرف معنى هذه الكلمة إلى أن جاء أعرابيان يختصمان إليه في بئر، فقال أحد الأعرابيين: أنا فطرتها. فتبين لـ ابن عباس الآن معنى فطرها، أي: أنا حفرتها وأوجدتها قبل أن تكون قبل ذلك. فقول الأعرابي: أنا فطرتها، أي: أنا ابتدأتها، وعلى هذا فمعنى: (فاطر السماوات والأرض)، أي: الذي ابتدأ خلق السماوات والأرض على غير مثال سابق. وقوله: {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر:1]، الله عز وجل يذكر الآيات العظيمة، مثل خلق السماوات وخلق الإبل وغيرها، كما قال سبحانه: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ} [الغاشية:17 - 18]، فتتفكر في هذه السماء العظيمة، وتتفكر في الكون وفي الخلق الذي أمامك، فإن الذي خلقه هو الله سبحانه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران:190]. ولما نزلت هذه الآية: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران:190] التي في آخر سورة آل عمران قال النبي صلى الله عليه وسلم في صبيحة نزولها: (لقد أنزل عليّ الليلة آيات، ويل لمن قرأها ثم لم يتفكر فيها، ويل لمن قرأها ثم لم يتفكر فيها)، فلما يقرأ الإنسان: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [آل عمران:190] لا يجعل الآيات تمر هكذا على أذنه كأي شيء يسمعه، ولكن عليه أن يتدبر ويتفكر في خلق هذه السماوات، ويتفكر في السماء التي لا يصل إليها أحد أبداً، وفي النجوم التي في السماء، يقولون: إن أقرب نجم من هذه المجموعة إلينا يبعد عنا أربعة ونصف مليون سنة ضوئية، فمن يستطيع أن يصل إلى هذه المسافة؟ وكيف يصل إلى هذه المسافة بشر؟ مستحيل أن يصل إنسان إلى نجم من هذه النجوم، فإنه يريد أعماراً حتى يصل إليها، والبشر إنما وصلوا إلى ما حوال الأرض في فلك الأرض نفسها، والمجموعة الشمسية التي حول الشمس منها الأرض، ومنها الزهرة ومنها القمر ومنها المريخ وغيرها من المجموعة التي تدور في فلك واحد قريبة من بعضها، فقد يصل الإنسان إلى ذلك، أما أنه يصل إلى نجم من النجوم فلا، بل مستحيل أن يصل إليه. وهذه النجوم البعيدة جداً في السماء جعلها الله سبحانه زينة للسماء الدنيا تحت السماء الدنيا، والإنسان لا يصل إلى هذه السماء، والسماء فيها مجرات، وفيها كواكب وشموس وأقمار، والمجرة التي نحن فيها تسمى بمجرة درب التبانة؛ ويشبهونها بالتبن، لأن منظرها مثل التبن وهذه المجرة عدد الكواكب التي فيها والأقمار والشموس مليارات، والأرض كوكب من الكواكب التي فيها، وهي أصغر الكواكب فيها، وهناك كواكب أخرى كثيرة أكبر منها بكثير. هذه المجرة التي نحن فيها التي اطلع العلماء على وجه واحد فقط منها، وهو الوجه المواجه للأرض فقط، أما الذي خلفها والذي تحتها فإلى الآن لم يعرفوا عنه شيئا، يقولون: الذي قدرنا أن نحصي منها كذا وكذا مليار من الشموس ومن الأقمار، أي: في هذا الجزء الذي أطلعهم عليه ربنا، وكل يوم يخترعون شيئاً ينظرون به إلى هذه الأشياء، فتجدهم يقولون: اكتشفنا اليوم أن هذا نجم على بعد كذا سنة ضوئية، واكتشفنا نجماً آخر على بعد كذا، بل نقرأ في الجرائد أنهم عملوا في أمريكا تلسكوباً جديداً المرآة التي تتبعه تبلغ حوالي أربعين متراً أو نحو ذلك، وفيها أشياء يستطيع الشخص أن ينظر بها على بعد مئات الكيلو مترات، ولو أن شمعة تحترق على بعد كذا مليون كيلو متر لرأوها وهي تحترق بهذا التلسكوب، هذا التلسكوب صنعوه من أجل أن ينظروا به في خلق الله سبحانه وتعالى، ويجدون العجب العجاب، يجدون الكون الذي لا يتناهى، ويجدون أن الكون ممتلئ بالشموس والأقمار والنجوم، وكل شيء في فلكه يدور ويجري ليس فيها شيء يصطدم في شيء آخر، بل يسيرها الله سبحانه وتعالى في دقة متناهية، ويجدون أشياء عجيبة جداً، فالإنسان يتفكر في هذه الأشياء العظيمة، من الذي دبر أمرها؟ ومن الذي أوجدها؟ ومن الذي جعلها في هذا المدار التي هي فيه تدور ولا يرتطم بعضها ببعض؟ إنه الله سبحانه وتعالى الذي قال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران:190]. فالله سبحانه وتعالى خلق هذه الأرض وجعلها للإنسان، وعمرها له، وجعلها صالحة لأن يعيش عليها، وخلق له فيها الماء، وأخرج له فيها المرعى، وجعل له طعامه منها، وجعل له حيوانات يحمله عليها، ودبر أمرها، وما من شيء إلا والله عز وجل يعلم عنه كل شيء، كما قال عز وجل: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد:8 - 9]، وقال: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59] فكل شيء عند الله في كتاب مبين، فعندما تتفكر في النمل الذي يسير في الأرض تقول: كم نملة يا ترى في هذه الأرض؟ ولماذا خلقها الله سبحانه؟ والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل هذا النمل الذي أوجده الله سبحانه على الأرض. فالإنسان يتفكر، وتفكير الإنسان قاصر؛ لأنه ينظر من جهة واحدة فقط، لكن لم يحط بكل شيء علماً. فالله بديع السماوات والأرض، وفاطر السماوات والأرض، جعل لكل شيء سبباً من الأسباب، فتجد النمل الذي تتأذى منه يحبه أناس آخرون، ويبحثون عنه، ففي بعض الأماكن مثلاً: يذهبون إلى الغابة ليأتوا بالنمل، ويقطعون أشجاراً من الغابة ممتلئة نملاً فيأخذونها فوق الجمال ويبيعونها في السوق، فيشتريها أناس من أصحاب البساتين التي فيها الموالح فتتسلط على فطريات معينة ومكروبات معينة، والنمل فقط هو الذي يقدر أن يقضي عليها، ولم لم يستخدموا النمل لهلك محصولهم، وهذا شيء عجيب جداً! لقد خلق الله النمل، وعرفه كيف يجمع غذاءه، فترى كل نملة من النمل تأتي إلى الحبة الموجودة في الأرض، فتخاف أن يأتي عليها الشتاء وتخاف أن تزرع هذه الحبة، فتأكلها من المكان الذي تنبت منه؛ من أجل أن تفسد الحبة ولا تزرع بعد ذلك، فالله سبحانه هو الذي أعطاها هذا التفكير لكي تصنع ذلك، قال عز وجل: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ

عظم خلق الملائكة

عظم خلق الملائكة قال الله سبحانه عن نفسه: {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر:1]، أخبرك الله عز وجل عما ترى في السماء من العجب، وأخبرك أن الأرض فيها العجب، فأنت نظرت فوجدت ما قاله الله حقاً. والآن يخبرك عز وجل عما لا تراه، فتصدق كما صدقت في الأول، فالملائكة خلق من خلق الله سبحانه وتعالى، جعلهم الله عباداً له مطيعين، كما قال عنهم: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، فمنذ أن خلقت الملائكة إلى أن يشاء الله سبحانه وتعالى وهم يعبدون الله ولا يعصون لله أمراً، هؤلاء الملائكة أخبر سبحانه أنه خلقهم: {أُولِي أَجْنِحَةٍ} [فاطر:1]. وقوله: {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا} [فاطر:1] أي: رسلاً بين الله عز وجل وبين من شاء ممن اصطفاه الله من خلقه، من الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فينزل الملك بالوحي من السماء إلى الأرض، والعادة أن الذي ينزل هو جبريل، وقد ينزل الله عز وجل غيره، فمن الملائكة الرسل بين السماء والأرض جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، فإن ملك الموت رسول رب العالمين ليقبض أرواح الخلق، فجعل الله عز وجل من الملائكة رسلاً ينزلون إلى هذه الأرض، لما يشاءه الله سبحانه. ولما سأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل على نبينا وعليه الصلاة والسلام: (ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا)، يعني: أنت تنزل علينا في أوقات معينة فلماذا لا تأتي أكثر من ذلك؟ وجبريل عليه السلام يحب النبي صلوات الله وسلامه عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم يحبه، فأنزل الله عز وجل قوله: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} [مريم:64])، فلا تشغل نفسك بذلك، واشغل نفسك بعبادة الله سبحانه وتعالى الذي يرسل الملائكة، واشغل نفسك بالمرسِل وهو الله سبحانه وتعالى عن هذا المرسَل الذي يأتي إليك بأمر الله سبحانه. وهؤلاء الملائكة العظام عليهم السلام جعل الله عز وجل لهم أجنحة، وأنت تتفكر: لماذا الأجنحة؟ هل هي ليطيروا بها؟ فالمسافة التي بين السماء والأرض مستحيل أن يقطعها صاروخ، أو تقطعها طائرة أو نحو ذلك، لكن الملك يقطعها في وقت قليل جداً، قال تعالى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:5]، ونزول الملك إلى هذه الأرض يكون في وقت يسير جداً، فقد كان ينزل من السماء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بكرة وعشياً في الصباح وفي المساء، والوقت الذي ينزل فيه لا يقدر مخلوق أن يصل إليه إلا في هذا القدر: ألف سنة، فلذلك خلق لهم الأجنحة ((مثنى))، كلمة (مثنى) معناها: اثنين اثنين، ((وثلاث)) يعني: ثلاثة ثلاثة، ((ورباع)) يعني: أربعة أربعة، يعني: من الملائكة من لهم جناحان جناحان، ومنهم -من الملائكة- من له ثلاثة ثلاثة، ومنهم من له أربعة أجنحة، فيقضون أمر الله سبحانه وتعالى بحسب ما يأمرهم سبحانه وتعالى. وقوله: {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر:1] هل هذا أكبر عدد؟ أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه رأى جبريل على هيئته التي خلقه الله عز وجل عليها مرتين له ستمائة جناح)، فكان له هذا العدد الضخم من الأجنحة التي خلقها الله عز وجل له. وأما كيف تكون؟ فلا ندري، فهذا خلق الله، وهو خلق عظيم جداً رآه بين السماء والأرض على هذه الهيئة العظيمة، ولما صعد بالنبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، ووصل إلى سدرة المنتهى إذا به يتواضع، إلى أن صار كالحلس البالي، والحلس هو: الشيء الذي تضعه فوق الجمل حتى تقعد عليه، هذا الملك العظيم الذي سدت أجنحته ما بين المشرق والمغرب لما وصل إلى سدرة المنتهى تواضع، فإذا به كالحلس البالي من تواضعه للرب سبحانه وتعالى. وجاء في صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام له ستمائة جناح)، وحدث النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض ما رآه في الملائكة فقال: (أذن لي أن أحدث عن ملك من حملة العرش، ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام)، وإذا كان طول عنقه على هذه الهيئة، فكيف بباقي جسده؟

تفسير قوله تعالى (يزيد في الخلق ما يشاء)

تفسير قوله تعالى (يزيد في الخلق ما يشاء) قوله: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} [فاطر:1] أي: يزيد زيادة عددية وزيادة كيفية في هذا الخلق، وفيما يعطيه من الوصف، فالله عز وجل يزيد في الخلق ما يشاء، فيفنى خلقاً خلقه سبحانه، ويخلق خلقاً آخر جديداً، ويخلق ما يشاء سبحانه وتعالى. فعدد خلقه يزيد، فالبشر كانوا مليوناً ثم صاروا خمسة مليون ولا زالوا يزيدون وهكذا يزيد الجن والملائكة، والله يزيد ما يشاء في العدد وفي كيفية هذا الخلق، فيخلق خلقاً كالخلق الأول، ويخلق خلقاً آخر ليس كالذي خلقه من قبل، وإنما يخلقه بكيفية أخرى جديدة، فالله يفطر الأشياء ويبتدع ما يشاء سبحانه وتعالى. فالله سبحانه وتعالى في هذه الآية يقول: ((يزيد في الخلق ما يشاء))، ويدخل فيها أي شيء يزيده الله سبحانه وتعالى في الخلق من طول في قامة الإنسان أو الحيوان أو غيره، ومن اعتدال في الصور، ومن تمام في الأعضاء، وقوة في البطش ويعطي الحصافة في العقل، ويعطي الصحة في البدن، ويعطي الجزالة في الرأي، ويعطي الجرأة في القلب، ويعطي السماحة في النفس، ويعطي بعداً عن الآفات، ويعطي ذلاقة في اللسان وفي التعبير وفي البيان والفصاحة، ويعطي اللباقة في تكلم الإنسان، ويعطي حسن الهيئة وحسن مزاولة الأمور وما أشبه ذلك، فيزيد ما يشاء سبحانه وتعالى لمن يشاء من خلقه، قال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فاطر:1]، أي: يفعل ما يشاء سبحانه، ولا شيء يعجزه سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها)

تفسير قوله تعالى: (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها) قال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر:2] ففي الآية الأولى قال: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فاطر:1] فلا تعجب، فالله على كل شيء قدير، وهنا يقول: ((وهو العزيز)) أي: الغالب الذي لا يمانع، ((إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون))، ومستحيل أن يعترض أحد على ما يريده الله، فيمنع ما يريده الله، وليس هذا ممكن أبداً. فالله سبحانه وتعالى هو العزيز الغالب القاهر سبحانه وتعالى. ((الحكيم)) الذي يحكم كل شيء، ويخلق كل شيء بإتقان وبحكمة، فلا يدخل في خلقه خلل، وهو الحاكم على كل شيء، يحكم بأمره ما يريد، المحكم للأشياء سبحانه وتعالى. فالله هو الغالب ذو الحكمة سبحانه، القاهر الذي له حكمة في كل أمر من أموره، ويحكم كل أمر من أموره. وقوله: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ} [فاطر:2] أي: برحمته وبقوته سبحانه وتعالى وبحكمته: ((فلا ممسك لها))، أي: لا أحد يمسك رحمة الله سبحانه إذا فتحها؛ فهو العزيز الذي لا يغالب، ولا يقدر أحد أن يمنع رحمته عن أحد من خلقه سبحانه؛ لأنه العزيز سبحانه. فإذا أراد أن تمطر السماء فمستحيل أن يمنع الخلق هذا المطر، ولن يستطيعوا أن يمنعوا المطر، فإذا أمسك الله ذلك، وأقحط عليهم دنياهم، فهل يقدرون أن يأتوا بسحابة وينزلوا المطر منها؟ لا يقدرون. وقوله: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:2]، لا يقدر أحد أن يرسل ما يمسكه الله، فإذا منع الله فليس لأحد أن يقف ويقول: أنا أرسل هذا الذي منعه الله، لا يقدر أبداً، فإذا منع الله أحداً من خلقه رزقاً فلا يقدر أحد أن يأتيه بهذا الرزق ولا بغيره؛ لأن الله هو العزيز الغالب حين أعطى وحين منع سبحانه وتعالى، الحكيم في عطائه وفي منعه. قال: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ} [فاطر:2] أي: لهذا الذي أمسكه ومنعه، {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر:2]. نسأل الله من فضله ورحمته؛ فإنه لا يملكها إلا هو، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة فاطر [2 - 8]

تفسير سورة فاطر [2 - 8] يذكر الله سبحانه عباده المؤمنين بفضله عليهم، وأنه هو القادر الوحيد على أن ينزل على عباده من رحماته، وأنه لا يستطيع أي مخلوق كان أن يمسك رحمة الله إذا أرسلها سبحانه، ثم يخاطب سبحانه خليله عليه الصلاة والسلام بكلمات هي ألطف ما تكون ليبين له أن عمله مقتصر في الدعوة، وأن الهداية خاصة برب العزة والجلال.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم وهو العزيز الحكيم)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم وهو العزيز الحكيم) الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين: قال الله عز وجل في سورة فاطر: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ * الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ * أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر:2 - 8]. يخبرنا الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات عن رحمته العظيمة التي يفتحها لمن يشاء من خلقه، ولا يقدر أحد على ردها أو على إمساكها، فقال: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ} [فاطر:2]، فمن ذا الذي يمسك رحمة الله إن فتحها لأحد من خلقه؟! وكذلك إن أمسك سبحانه تبارك وتعالى عن الخلق شيئاً وحجزه ومنعه، من الذي يستطيع أن يرسله بعد الله سبحانه؟! لا إله إلا هو سبحانه، فهو العزيز الحكيم، والغالب القاهر الذي إذا قضى شيئاً لا يقدر أحد أن يمنعه، وهو الحكيم، يقدر ما يشاء وقت ما يشاء سبحانه. ثم يقول الله سبحانه للناس جميعهم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [فاطر:3]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [فاطر:3]، ففي الخطاب المكي دائماً ينادي: يا أيها الناس! فالقليل من أهل مكة هم المؤمنون، والكثير منهم مشركون، فيجمع بندائه جميع الناس، بخلاف الخطاب المدني أن فالعادة في الخطاب المدني يقول: يا أيها الذين آمنوا؛ لأن الأكثر في المدينة هم المؤمنون. {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ} [فاطر:3]، أي: اذكر ولا تنسى هذه النعمة ولا تسكت عنها، ولا تكتمها، وقل للخلق: قد أنعم الله عز وجل علينا بنعم عظيمة. ولفظ: نعمة جنس، ولذلك لم يجمعها، فلم يقل: نعمات، فإذا جاء الجنس دخل فيه الواحد والاثنان والجمع والقليل والكثير. فإذا قال: {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ} [فاطر:3]، أي: جميع النعم العظيمة من الله عز وجل التي أنعم بها على خلقه، فكل نعمة أنعم الله عز وجل بها على أحد من خلقه داخلة تحت هذه اللفظة، فاذكروا كيف أعطاكم السمع والبصر والفؤاد، وكيف أعطاكم اليد والرجل وأعطاكم العقل والعمل، والرزق، وخلق لكم السماوات، والأرضين والجبال، وأرسل الرياح، فاذكروا هذه النعم تعرفوا من الذي خلقها ومن الذي أنعم بها عليكم، فهو جدير أن تعبدوه وأن تشكروه وحده لا شريك له. (ونعمة)، كتبت في أكثر المصاحف بالتاء، فإذا وقفت عليها فتقف بالتاء، والجمهور على ذلك. ولكن ابن كثير وكذلك أبا عمرو ويعقوب البصريين، والكسائي يقرءونها بالهاء فيقولون: (اذكروا نعمة). {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر:3]، {غَيْرُ} [فاطر:3]، بالضم وهذه قراءة الجمهور، أما قراءة أبي جعفر وحمزة والكسائي وخلف: (هل من خالق غيِرِ الله يرزقكم من السماء والأرض)، بالكسر على أنها وصف لما قبلها، والأصل في خالق، أنه مرفوع. {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [فاطر:3]، و A لا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لو سأل هؤلاء الكفار من الذي خلقكم؟ يقولون: الله، ولو لم ينطقوا هذا، فقد شهد الله عليهم أنهم يقرون بذلك في قلوبهم ويقرون أن الله وحده هو الذي يخلق، وأنه وحده هو الذي يرزق وأنه وحده الذي ينعم سبحانه تبارك وتعالى. {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [فاطر:3]، أي: هل يوجد أحد آخر غير الله يرزقكم من السماء فيفتح عليكم البركات من السماء وينزل عليكم من السماء ماء فيسقيكم ويطعمكم ويرزقكم ويخرج لكم الثمرات من الأرض فيطعمكم؟ والجوب: لا خالق غير الله سبحانه وتعالى، فالمشركون يعرفون هذا الجواب؛ لأنهم لم يشركوا في ربوبيته سبحانه، فلا أحد من المشركين يقول: إن الرب اثنان ولكنهم يقرون بتوحيد الربوبية وأن الرب واحد، فقد جاء عمران بن حصين عندما كان كافراً، إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (كم تعبد اليوم يا حصين؟! قال: سبعة، واحد في السماء وستة في الأرض، فقال: من الذي ترجوه لنفعك وضرك؟ قال: الذي في السماء)، فهو الذي يرجوه لنفعه وضره وهو الذي يخلق ويرزق ويعطي ويحيي ويميت وينفع ويضر، ويعبدون هذه الآلهة، بسبب: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، فالشيطان زين لهم هذا الكلام الذي لا قيمة له، ولا معنى له، وقالوا: نحن أحقر من أن نعبد الله مباشرة، يقولون هذا كذباً وبهتاناً وزوراً، فيفترون على الله الكذب، ويعبدون غير الله سبحانه وتعالى، فيقول الله عز وجل مجيباً: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [البقرة:163] يعني لا يستحق العبادة إلا هو، فلا معبود بحق إلا الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [فاطر:3]، الإفك بمعنى: الصرف: {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [فاطر:3] أي: فكيف تصرفون عن توحيده سبحانه، و (أنى يؤفكون) من الإفك وهو الافتراء وكيف يفترون عليه سبحانه تبارك وتعالى فيصرفهم كذبهم عن الله سبحانه تبارك وتعالى؟ فإذاً كيف صرفوا عن توحيد الله سبحانه، هل هؤلاء لهم عقول، وهل هم ينظرون ويتفكرون ويعقلون؟ إنهم لا يعقلون، فلو كانوا يعقلون لعبدوا الله وحده لا شريك له، فانظر وتعجب كيف صرفوا عن توحيد الله وقد عرفوا أنه هو الرب وحده، فعبدوا غير الله تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك)

تفسير قوله تعالى: (وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك) قوله تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [فاطر:4]، أي: إذا دعوتهم إلى ربك فكذبوك فليس هذا بالشيء الجديد: {فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} [فاطر:4]، كقوم قوم نوح من قبل فقد كذبوا نبيهم نوحاً على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وقال تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:123 - 124]. وقال تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:141 - 142]. وقال تعالى: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:176]، أي: فلست أول نبي يكذب، ولكن كذب قبلك أنبياء ورسل عليهم الصلاة والسلام. {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [فاطر:4]، أي: الأمور كلها راجعة إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، ليجازي العباد على ما صنعوا، والذي يرجعها هو الله سبحانه وتعالى، وفي الآية قراءتان: قراءة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم جميعهم يقرءون: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [فاطر:4] وباقي القراء يقرءون: (وإلى الله تَرجِعُ الأمور). فكل أمر يحدث راجع إلى الله ليسأل صاحبه، لم فعلت هذا؟ ليجازي بذلك كل عامل بما عمل. فأي قول يقال وأي فعل يفعل، وكل تدبير يكون فهو إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، وكل شيء راجع إليه فإلى الله تصير الأمور، أي مصيرها إليه، والجزاء عليه سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس إن وعد الله حق)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس إن وعد الله حق) قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر:5]، كرر النداء مرة ثانية. {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [فاطر:5]، وقد وعد الله سبحانه بالثواب على الإيمان والطاعة، ووعد بالعقوبة على الكفر والمعصية، ووعدكم بأنكم ترجعون إلى الله سبحانه، فوعده حق ولا يخلف الميعاد، وأمره آت حتى وإن نظرنا أنه بعيد، فلا شيء بعيد على الله سبحانه وتعالى فكل شيء قريب، ولذلك يقول: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1]، أي: سيأتي ولكونه يقيناً فهو في حكم أنه قد أتى، فالجنة آتية والنار آتية، والجزاء آت والعقوبة آتية، والله عز وجل حسابه آت، والموت آت لا مفر منه. {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [فاطر:5]، أي: لا تغتروا بهذه الدنيا فإن الدنيا تغر الإنسان وإذا تزخرفت له وتزينت له نسي نفسه، ونسي ربه سبحانه، ونسي دينه، وطمع فيها وكأنه سيعيش فيها ويخلد فيها أبداً، والإنسان نهم بطبيعته يريد المزيد، فكلما أعطي من الدنيا طلب الأكثر، ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه لو كان لابن آدم واد من ذهب لتمنى له ثانياً، ولا يملأ عين ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب). وهذه كانت آية في كتاب الله عز وجل فنسخت تلاوتها، وبقي حكمها، وهنا يقول لنا النبي صلى الله عليه وسلم، إن ابن آدم طماع فلو أعطاه الله عز وجل وادياً من ذهب، لتمنى وادياً ثانياً، ولو أعطاه الثاني لتمنى ثالثاً، وهو لا يدري ماذا سيعمل به؛ لأنه لا يفكر كيف يصنع في هذا الشيء، فيطلب ما لا يقدر عليه، ويطلب ما لا ينتفع به، ويطلب الكثير وهو موقن أنه سيموت، وأنه سيترك الذي جمعه، ولكنه طمع الإنسان ولو طمعت فيما عند الله سبحانه لكان خيراً لك وأبقى عند الله سبحانه تبارك وتعالى. وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (اثنان لا يشبعان: طالب علم وطالب دنيا) فطالب العلم لا يشبع من طلب العلم، كلما ازداد علماً، ازداد علماً بجهله، ويقول الإمام الشافعي رحمه الله: كلما زدت علماً زادني ذلك علماً بجهلي، هذا يقول ذلك، وهو من هو؟! فالإنسان كلما ازداد علماً عرف أن فوقه من هو أعلم منه، وأنه تعلم من أهل العلم الذين كانوا أعلم منه بذلك، فيتواضع بطلب العلم؛ لأنه يزداد تواضعاً، فكلما فتحت له أبواب العلم فتح عليه أن يعرف قدر نفسه، وأن علام الغيوب هو الله سبحانه، قال تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76]، فيتواضع العبد لله سبحانه، ويزداد تواضعاً، قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]. وكذلك في أمر الدنيا، فإذا فتحت الدنيا على أحد صار نهماً جشعاً، يطلب الدنيا، ولا يستكفي بما عنده، ولا يقنع بالشيء القليل الذي كان يأخذه بل يطلب الكثير حتى يشيب ولا يزال قلبه شاباً على حب الدنيا، فيصير الإنسان شيخاً كبيراً هرماً عجوزاً، وهو يطلب الدنيا، إلا من رحم الله تبارك وتعالى، (يشيب الشيخ وقلبه شاب على حب الدنيا)، كما جاء في الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر:5]. أي: لا تغتروا بالدنيا وزخرفها وزينتها، ولا تغتروا بما يزينه لكم الشيطان من شهوات ومن شبهات، فحذرنا من الدنيا وغرور الدنيا. فالدنيا إما أن تكون لإنسان داراً يستمتع فيها بطاعة الله كما قال بعض الحكماء: إن في الدنيا جنة، من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، وجنة الدنيا هي جنة الطاعة، وجنة حب الله سبحانه، فالإنسان المؤمن يطيع الله ويرضى عن الله، فيرضيه الله تبارك وتعالى. {الْغَرُورُ} [فاطر:5]، جاء في القرآن بالضم: (الغُرُور)، وجاء في القرآن بالفتح: {الْغَرُورُ} [فاطر:5]، فالغَرور هو صاحب الغُرور، أي: الشيطان، والغُرور: الباطل والزخارف التي في الدنيا، فإذاً لا تغتروا بما يقوله لكم الشيطان ويخدعكم به، والغرور هنا هو الشيطان لعنة الله عليه.

تفسير قوله تعالى: (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا)

تفسير قوله تعالى: (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً) قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6]، أي: احذروا أن يغركم بالله سبحانه تبارك وتعالى وأن يزين لكم الباطل، قال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121]، فالشياطين يوحون إلى أشياعهم، وأوليائهم، ويوسوسون إليهم حتى يجادلوا المؤمنين بإيقاع الشبهات في قلوبهم، ويلبسون عليهم ليلبسوا عليهم دينهم، فأولياء الشيطان يسول ويزين لهم القول الباطل، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام:137]، ولكنه ترك للشيطان أن يوسوس حتى يجازيه ويجازي أتباعه وأشياعه يوم القيامة. فحذر المؤمنين وقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر:6]، فالشيطان يوسوس للإنسان، ويدفع أولياءه ليجادلوا المؤمنين، ولا يملك أكثر من الجدل وأكثر من الوسوسة في القلوب، ولكن الله أنزل الكتاب وأرسل رسوله صلوات الله وسلامه عليه، ووهب الناس القلوب والعقول حتى يفهموا عن الله سبحانه، فأعذر إليهم وحذرهم، وقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ} [فاطر:6]. وبين لنا أنه لما خلق آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام في الجنة كان الشيطان سبب خروجه من الجنة، وأنه وسوس إليه وإلى زوجه حواء حتى أكلا من الشجرة: {فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:121 - 122]. فالشيطان سبب بلاء الإنسان، وسبب خروج آدم من الجنة، فهو عدو لأبيك آدم أفلا يكون عدواً لك؟! وهو الذي قال لربه سبحانه: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82]، وقال: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17]، فتوعد ابن آدم بأنه سيصنع به ذلك، وقال لربه سبحانه: {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ} [الإسراء:62]، {لَأَحْتَنِكَنَّ} [الإسراء:62]، يعني سأزين للذرية وأحتال لها الحيل، حتى أخرجهم عن الدين وأضلهم وأدخلهم النار والعياذ بالله، فهو يريد أن يأخذ ذرية آدم معه إلى النار، أو من استطاع أن يأخذه منهم معه إلى النار. فلذلك قال لربه سبحانه تبارك وتعالى: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف:16]، وكأنه يقول: لن يتجاوزه إنسان إلا وفتنته وأغويته. قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر:6]، أي: عادوا الشيطان ولا تصادقوه، ولا تسمعوا لوسوسته، وتزيينه، {إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6]، فالشيطان يدعو أتباعه وأشياعه ليكونوا معه في أصحاب السعير، يقول الفضيل بن عياض رحمه الله ينادى على الإنسان الذي يكذب ويفتري ويترك ربه ويتبع الشيطان: يا كذاب يا مفتري! اتق الله ولا تسب الشيطان في العلانية وأنت صديقه في السر. وكل إنسان من أهل المعاصي يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ويقول: الشيطان الذي عمل لي كذا والشيطان هو الذي وسوس، ولكن أنت الذي اخترت، وأنت الذي اكتسبت، والله عز وجل يحاسبك على كسبك أنت: لم أطعت الشيطان، وقد حذرك الله سبحانه وقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر:6]؟ يقول ابن السماك: يا عجباً لمن عصى المحسن بعد معرفته بإحسانه! وأطاع اللعين بعد معرفته بعداوته! فالعجب ممن عرف الله سبحانه الذي أحسن إليه ومن عليه وأعطاه من كل النعم، وإذا به يعصي ربه سبحانه، ويطيع الشيطان الذي قد عرف عداوته، وعرف كيف عادى آدم، وبني آدم، وكيف جعل ابن آدم يقتل أخاه بغير ذنب وجرم، وكيف جعل الناس يكذبون رسل الله عليهم الصلاة والسلام، فإذا بالإنسان يستمع للشيطان ويتبعه ويترك ربه سبحانه تبارك وتعالى. السعير أي: النار، والنار أسماؤها كثيرة، وأوصاف هذه الأسماء عجيبة تدل على منظرها القبيح، وهناك فرق بين نار الدنيا ونار الآخرة، فنار الآخرة نار سوداء مظلمة والعياذ بالله، ونار الدنيا جزء من سبعين جزءاً من نار الآخرة، فالله تبارك وتعالى خففها لينتفع بها البشر، وإلا لأحرقت كل شيء، أما نار الآخرة فوقودها الناس والحجارة، ونحن ما رأينا ناراً في الدنيا توقدها الحجارة، وهذا يدل على أن حرها قد بلغ أقصى ما يكون من درجات الحرارة، ومن أسماء النار جهنم، وهي مأخوذة من الجهومة، وفيها معنى الغضب ومعنى العبوس ومعنى الظلمة. ومن أسمائها: السعير، وهي مأخوذة من الاستعارة، فهي نار مستعرة كالمجنونة، تقول: فلان مسعور، وفلان به سعار، أي: به جنون، أصابه داء الكلب فصار كالمجنون، فهي نار مستعرة عظيمة، تفور وتجذب من جاء إليها، أو من وكلت به، وهي مضطرمة أشد اضطرام، مشتعلة أعظم الاشتعال والاستعار.

تفسير قوله تعالى: (الذين كفروا لهم عذاب شديد)

تفسير قوله تعالى: (الذين كفروا لهم عذاب شديد) قال الله سبحانه: {الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [فاطر:7]، {الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [فاطر:7]، أي: الذين كفروا فتابعوا الشيطان وقد حذرهم الله سبحانه، فكفروا بالله، وأنكروا نعم الله سبحانه، وجحدوا ربهم سبحانه، وأشركوا معه غيره فعبدوا غير الله، وجعلوا آلهة مع الله سبحانه، فلهم عذاب شديد. وإذا قال الله عذاباً شديداً، فمهما تخيلت فلن يصل بك خيالك لشدة هذا العذاب، قال سبحانه: {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة:8 - 9]، ومعنى أمه: ما يؤمه ويقصده، فيؤم ويقصد ويدخل إلى الهاوية التي تهوي به في نار جهنم والعياذ بالله، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ} [القارعة:10]، لم تر أنت هذه الهاوية من قبل، {نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة:11]، أي: مشتعلة مستعرة قد بلغت أقصى درجات الحرارة والعياذ بالله. وهؤلاء هم الذين يأتون يوم القيامة ويذكرهم ربهم قائلاً: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:106 - 107]. وحالهم في النار أنهم عابسوا الوجوه: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * {تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} [عبس:40 - 42]، وقد كلحت وجوههم: {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون:104]، أي: كلحتهم النار وشوتهم والعياذ بالله، فإذا نظر الإنسان إلى صورة إنسان قد احترقت فتجد أن شفته العلوية تقلصت إلى أعلى، وشفته السفلى إلى أسفل وبدت أسنانه، ولعل هذا يموت في الدنيا فيستريح مما هو فيه، لكن أما أهل النار فلا يستريحون. أما المؤمنون، فبرحمة الله العظيمة الواسعة يدخلهم جنته، وهم فيها ينعمون، قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [فاطر:7]. {وَالَّذِينَ آمَنُوا} [فاطر:7]، وليس المقصود بالإيمان الإيمان بالقول فقط، ولكن المؤمن من آمن بالقول وعمل الأعمال الصالحة فأتى بأركان الإسلام، وأتى بما فرضه الله عز وجل عليه، فلا بد من العمل، ولا يغتر الشخص بقوله: أنا مسلم ويترك العمل. {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [فاطر:7]، فآمن بقلبه وظهر أثر إيمان القلب على اللسان بذكر الله عز وجل، وعلى الجوارح بأعمال الطاعة لله سبحانه تبارك وتعالى، والخوف من الله سبحانه، والرغبة والرجاء في الله سبحانه، وحب الله وأولياء الله، وبغض أعداء الله من الكفرة والمشركين والمنافقين. قال تعالى: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} [فاطر:7]، أي: يغفر الذنوب ويمحوها تبارك وتعالى، ويسترها ويكفرها، {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [هود:11]، وأعظم الأجر جنة الخلود، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها.

تفسير قوله تعالى: (أفمن زين له سوء عمله)

تفسير قوله تعالى: (أفمن زين له سوء عمله) قال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر:8]، ذكر الله السؤال ولم يذكر الجواب؛ لأن الجواب معروف، وهو أن من زين له سوء عمله، مصيبته عظيمة عند الله سبحانه، قال الله سبحانه: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} [الكهف:103]، أي: هل تعرف من أخسر الناس عملاً؟ {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:104]، أي: أنهم يظنون أنهم محسنون، وأقسى ما يكون على الإنسان إذا ظن بنفسه أنه يعمل شيئاً جيداً، وهو لا قيمة له، فإذا جاء يوم القيامة كان أشد ما يكون عليه أن ينظر إلى أعماله التي كان يعملها وهي تطير أمامه، قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]. {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ} [الكهف:104]، فقد كان الكفار يطعمون ويسقون الحجيج، ويكرمون من يأتي إلى بيت الله، ولكن اعتقادهم باطل وقلوبهم خربة، فهم يعبدون غير الله سبحانه، وإذا قدموا يوم القيامة وجدوا كل هذا ذهب هباءً منثوراً، ولا يستحقون عليه شيئاً؛ لأنك لكي تستحق الأجر لا بد وأن تأتي بأصل من أصول الإيمان بالله سبحانه تبارك وتعالى. قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:105]، فلا وزن لهم يوم القيامة عند الله سبحانه ولا قيمة لأعمالهم الصالحة التي عملوها، وهم على الكفر. إذاً: فمن زين لهم الأعمال الباطلة فعملوها وظنوها حسنة، لا تحزن عليهم. قال الله سبحانه: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ} [فاطر:8]. أي: الهدى بيد الله، والضلال بيده سبحانه تبارك وتعالى، يهدي من يشاء، ويخذل من يشاء. وإذا خذل إنساناً فثق أن هذا عدل من الله سبحانه، وأنه لا يستحق إلا ذلك، ومن هداه الله فقد تفضل عليه سبحانه، فهو يتفضل على عبده بأن يهديه، وأن يعينه على طاعته سبحانه وتعالى. قال تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [فاطر:8]. فالكل يرجع إلى مشيئة الله وإلى حكمته وإلى عدله سبحانه وتعالى. قال تعالى: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:8]، أي: احذر أن تقتل نفسك على هؤلاء كما قال في الآية الأخرى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6]، فهل تقتل نفسك من شدة الحزن على هؤلاء لكونهم لا يؤمنون؟ إنهم لا يستحقون ذلك. {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:8]، وقراءة أبي جعفر: (فلا تُذهِب نفسك عليهم حسرات)، ولا تضيع نفسك حسرة على هؤلاء. {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر:8]، إن الله عليم بصنع هؤلاء وبما يفعلونه، ويجازيهم عليه يوم القيامة سبحانه وتعالى. فالنبي صلوات الله وسلامه عليه كان أرحم الناس بخلق الله سبحانه، وكان يحب أن يدخل الجميع في دين الله، وكان يدعو إلى الله سبحانه بثقته بربه سبحانه، فإذا أجابوه بالأجوبة السخيفة السفيهة يحزن صلوات الله وسلامه عليه، ويشتد حزنه. حتى كاد يموت من شدة الحزن فأخبره ربه أن الأمر ليس كذلك؛ فإن الهدى بيد الله، والضلال بيده سبحانه، يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وما على الرسول إلا البلاغ، وعليك أن تأخذ بالأسباب ودع النتيجة لله سبحانه، فهي ليست إليك. وكرر الله سبحانه تبارك وتعالى ذلك في كتابه مخاطباً نبيه الكريم صلوات الله وسلامه عليه، كقوله سبحانه: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:272]، أي: لن نحاسبك على عدم هداية هؤلاء وإنما سيحاسبهم الله عز وجل على أفعالهم، وأنت تحاسب على أنك بلغت رسالة ربك سبحانه تبارك وتعالى. وقال سبحانه: {وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} [آل عمران:176]، أي: لا تحزن على الذين يسارعون في الكفر فهم لن يضروا ربهم، وإنما يضرون أنفسهم، وقال له سبحانه {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6]. وفي كل ذلك يخبر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بما مضمونه: لا تحزن على عدم إيمان الكفار، وادعهم إلى دين الله سبحانه، واغضب لله سبحانه، ولكن لا تصل بك الحسرة إلى أن تقتل نفسك من شدة الحزن على هؤلاء، فهم لا يستحقون ذلك، وفيه التنبيه على أن الإنسان الذي يدعو إلى الله يدعو بقلبه، ويحرص على أن يدخل الناس في دين الله، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً، خير لك مما طلعت عليه الشمس). وإذا فرضنا أن المدعو لم يستجب للذي دعاه، فليس المعنى أن الدعوة ضاعت؛ لأنه لم يستجب، ولكن ادع هذا وادع غيره وهكذا، وثق أن الهدى بيد الله، إن شاء هداه، وإن شاء تركه على ضلاله فأرداه: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر:8]. نسأل الله من فضله ومن رحمته، إنه لا يملكها إلا هو. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة فاطر الآية [9]

تفسير سورة فاطر الآية [9] الرياح جند من جنود الله تعالى، وقد جعل الله تعالى منها رياح رحمة ورزق وحياة للناس، ورياح عذاب وهدم ودمار، وقد جعل الله الرياح سبباً في نزول الأمطار، حيث إنها ترفع المياه المتبخرة وتسير السحاب إلى أماكن بعيدة؛ ليستفيد منها العباد والبلاد.

تصرف الله تعالى بالرياح

تصرف الله تعالى بالرياح الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبد هـ ورسوله, اللهم صلي وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة فاطر: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ} [فاطر:9]. في هذه الآيات من سورة فاطر يخبرنا الله سبحانه تبارك وتعالى بعظيم قدرته وبديع فعله في الرياح التي يخلقها ويسيرها كما يشاء، ويرسلها ويقبضها كما يشاء سبحانه وتعالى، فقال هنا عن إرسالها: ((وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ)) فالله يرسلها، وهو الذي يمسكها ويقبضها كما يقول سبحانه {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} [الشورى:33] فهي بيد الله سبحانه، إن شاء أرسلها نسيماً خفيفاً طيباً، أو ريحاً عاصفة شديدة، أو ريحاً قاصفة مغرقة، والله يفعل ما يشاء سبحانه وتعالى، فهو يخبرنا في هذه الآية عن آية من آياته في هذه الرياح العجيبة التي يسخرها سبحانه وتعالى، والتي هي جند من جنده سبحانه، تأتي العباد برزق الله سبحانه وتعالى, وتتحرك كما يشاء الله، فتأتي من المشرق والمغرب والشمال والجنوب كما يشاء الله عز وجل، وتأتي بالروح والرحمة من الله، وتأتي برزق الله سبحانه وتعالى, فالرياح تثير السحاب، ثم تنزل من السحاب أمطاراً، فينزل منها البرد، وينزل منها ما يشاء الله سبحانه وتعالى, وقد يجعلها تأتي على مكان من جميع الأماكن، فتأتي الرياح في منطقة من المناطق فتحرك الأمواج من مكان إلى مكان، وقد تحركها في مكانها فتصير دوامة في المكان نفسه، والله يفعل ما يشاء سبحانه فهذه الرياح جند لله سبحانه يسخرها كما يشاء.

الجمال الفني في القرآن

الجمال الفني في القرآن قوله تعالى: (الرياح) هي قراءة الجمهور وقراءة ابن كثير وحمزة والكسائي وخلف الريح، وفي القرآن كله غالباً تأتي كلمة الرياح والريح وفيهما نفس القراءات، فقراءة للبعض الرياح، وقراءة للبعض الآخر الريح، ولذلك ما ذكره الثعالبي من أن الرياح لم تأت في القرآن إلا بمعنى الرحمة والرزق والعكس في الريح، فكذا هنا قال الله سبحانه: ((الله الذي أرسل الريح)) على قراءة، وقراءة أخرى الرياح، فالراجح أن الريح والرياح واحد, فالريح مفرد، والرياح جمع، فالله يرسل الرياح بالرحمة منه والرزق، وكذلك يرسل الريح بالرحمة منه والرزق، وقد يعكس ذلك سبحانه ويرسلها بالعذاب على من يشاء من خلقه, كما قال تعالى: ((وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ)) فنلاحظ هنا أنه أخبر بفعل ماضٍ فقال: ((اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ))، ثم يجعلك تستحضر الحال فيعبر بالمضارع، فلم يقل بعدها فأثارت سحابة، حيث كان الأصل أن يعبر بالماضي إذ بدأ به، ولكن عبر بالمضارع؛ لاستحضار الحال وكأنك الآن مستحضر لهذه الصورة وتراها وهي تثير هذا السحاب، وهذا من التفنن القرآني، وهو أسلوب عربي معروف, فالقرآن عظيم، وفيه أساليب العرب الجميلة في البلاغة، فيأتي القرآن بهذه الأساليب التي يفهما العرب ويعرفون دقتها وجمالها، فيأتي أحياناً بصيغة الخطاب للمتكلم، وبعد ذلك يقلب الخطاب للغائب، فهنا يذكر الله سبحانه وتعالى أنه أرسل على صيغة الماضي، ثم بعدها يعبر بصيغة المضارع، فيقول العلماء: وهذا التعبير معروف عند العرب، ومن ذلك قول أحدهم وهو شاعر من الشعراء واسمه تأبط شراً حيث يصف نفسه بالشجاعة فيقول: بأني قد لقيت الغول تهوي بسهب كالصحيفة صحصحان. فأضربها بلا دهش فخرت صريعاً لليدين وللجران. فيقول: إنه لقي الغول، والغول عفاريت، فهو يحدث عن شجاعته، وأنها وصلت إلى درجة عظيمة بالغة حيث أنه قابل الغول لوحده في الصحراء، وكان العرب يمرون في الصحراء فتتغول الغيلان والجن، وتستهزء وتلعب بهم، فيخافون ويرتعبون ثم يشركون بالله سبحانه فيقول أحدهم: أعوذ برب هذا الوادي، يعني: استعيذ بسيد الجن في هذا الوادي، فتفرح الجن؛ لأن العرب أشركوا بالله سبحانه وعبدوهم وتعوذوا بهم من دون الله سبحانه فتتركهم يمرون، فهذا يقول: أنا قابلت الجن وحدي في الصحراء، فقال: بأني قد لقيت الغول تهوي, أي: آتية تجري نحوي , بسهب في الصحيفة صحصحان، وسهب هو الفلاة، يعني: في صحراء واسعة منبسطة مثل الكتاب الواسع، صحصحان أي: أرض مستوية واسعة، فأضربها بلا دهش فخرت. فانتقل من بأني قد لقيت في الماضي إلى فأضربها بالمضارع، فكأنه يقول: استحضر الحال، وانظر إلي وأنا اضربها الآن ضربة شديدة، فيقول: فأضربها بلا دهش، أي: بلا خوف، فخرت صريعة لليدين وللجراني، يعني: لليدين وللفم أو للرقبة، بمعنى: سقطت على الأرض، فهذا من الأساليب البديعة عندهم أن يعبر بالماضي ثم يعبر بالمضارع, أو يعبر بضمير الغائب وبعد ذلك يعبر بضمير المتكلم أو ضمير المخاطب، وهنا ربنا سبحانه تبارك وتعالى يقول: ((وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ)) أي: أثارت السحاب وحركته، يقال: أثرت أرنباً من مكان، أي: أفزعته وحركته وجعلته يجري، فكذلك الريح تحرك السحاب من مكان إلى مكان.

أنواع الرياح

أنواع الرياح الريح: من روح الله ورحمته سبحانه، وقد تكون من عذاب الله سبحانه وتعالى، فيرسل الريح بالرحمة على قوم، ويرسلها بالعذاب على قوم، وقد رأى قوم سحاباً في السماء أثارتها الرياح فقالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف:24] ومن هذه الآية أخذوا أن كلمة الريح تأتي بالعذاب، ولكن هنا قال الله عز وجل: ((وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ)) على قراءة الجمهور، وعلى قراءة ابن كثير وحمزة والكسائي وخلف الريح، فهي هي الريح، إما برحمة من الله، وإما بعذاب من الله عز وجل، والرياح والريح واحد. وقوله تعالى: (فسقناه): رجع إلى لفظ الماضي مرة ثانية وهذا من التفنن في الخطاب، فكأنك تنظر إلى عظمة الله سبحانه بالتدبر في آياته ومخلوقاته في هذا الكون، فانظر إلى هذه الريح التي أرسلها الله، فأنت لم تر إرسال الريح ولكن ترى السحاب وهي تجتمع في السماء سحابة مع سحابة، ثم تساق السحاب بواسطة الرياح، فعندما ترى السحاب تخمن نزول المطر، فكأنه يحضر لك الحال أمامك. قوله تعالى: ((فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ)) قرأها ((بَلَدٍ مَيِّتٍ)) المدنيان نافع، وأبو جعفر، وحفص عن عاصم، وحمزة والكسائي، وخلف، وباقي القراء يقرأون {إِلَى بَلَدٍ مَيْتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ} [فاطر:9] والمعنى: جاءت الحياة إلى هذه الأرض الميتة من عند الله سبحانه وتعالى، وأراد أن يريكم حاجتكم إليه سبحانه، فكل إنسان محتاج إلى ربه سبحانه، ومحتاج إلى هذه الرياح ومحتاج إلى المطر، ومحتاج إلى الماء، ومحتاج إلى الثمار والحبوب، ومحتاج إلى هذه الأرض، ومحتاج إلى رحمة الله سبحانه.

كيفية تكوين السحاب ونزول المطر

كيفية تكوين السحاب ونزول المطر يقول الله تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ} [فاطر:9] فالرياح تسببت في تكوين هذه السحاب، إذ تحرك الأمواج في البحر، لأن الماء لا يتحرك لوحده، ولكن الله يرسل الرياح فتحرك أمواجاً ظاهرة فوق الماء، وأمواجاً باطنة داخل الماء، فيتحرك الماء من مكان إلى مكان برحمة رب العالمين سبحانه, ولو بقي في مكانه لتعفن، ولكن شدة الريح تدفع هذه المياه إلى أن تتحرك وتفيض، ثم تأتي الشمس على هذه الأرض فتسخن ما على الأرض من ماء فيتبخر، ثم ترفعه الرياح إلى السماء، فالله سبحانه جعل لهذا الكون مقادير عجيبة، وآيات دقيقة من فضله سبحانه تبارك وتعالى، وتخيل حرارة هذه الشمس لو ظلت مسلطة على الماء كلما ارتفع إلى السماء حيث تشتد هذه الحرارة بالقرب من الشمس، لكانت المياه التي على الأرض قد تبخرت ولم ترجع مرة أخرى, فالله من فضله سبحانه تبارك وتعالى جعل حول هذه الأرض من خارجها في الغلاف الجوي أماكن باردة جداً، فكلما صعدت المياه قلت الحرارة ولم تزد رغم قربها أكثر من الشمس، وهذا صنع الله سبحانه تبارك وتعالى, فإذا بالمياه ترتفع مع الرياح إلى ارتفاع حوالي ستة عشر كيلو، أو من ثمانية إلى ستة عشر كيلو متر فوق سطح الأرض وهي المنطقة التي تتكون السحاب فيها أو فوقها بيسير، فالأرض أخرجت ماءها والشمس بخرته إلى هذا المكان، ثم يرسل الله الرياح فتحرك السحاب من مكان إلى مكان، فالرياح حركت الأمواج والمياه من مكان إلى مكان، والشمس سخنت فبخرت، ثم يرتفع الماء فتحركه الرياح إلى أعلى فتتكون السحاب هناك, ولو لم يكن هناك رياح وتبخر هذا الماء لبقى في السحاب، ولنزل في مكانه، فالمياه التي تبخرت من البحر ستنزل فوق البحر مرة ثانية، والتي تبخرت من النهر ستنزل فوق النهر، والتي من الأرض اليابسة مني عيونها وأنهارها ستنزل فوقها مرة ثانية، ولن ينتفع الناس بهذا الماء كثيرا إلا المكان الذي تبخر منه، ولكن الله الذي جعل لكل شيء قدراً شاء سبحانه أن هذه السحاب لا تقف في مكانها، ولكن يرسلها الله سبحانه فتتحرك من مكان إلى مكان.

مصارف الأمطار

مصارف الأمطار هناك إحصائية يقول فيها العلماء: إن ماء الأرض يتبخر منه سنوياً ثلاثمائة وثمانون ألف كيلو متر مكعب من المياه، وأغلب هذه المياه تخرج من المحيطات والأنهار والبحار وهي حوالي ثلاثمائة وعشرون ألف كيلو، أما ستون ألف كيلو متر فيخرج من سطح اليابسة من العيون والأنهار التي فوقها, ثم يتحرك السحاب إلى مكان آخر بحسب ما يشاء الله سبحانه, فيأمر المطر أن ينزل في مكان ويمنعه أن ينزل في مكان آخر، وهذا بقضاء الله سبحانه وتعالى وقدره. وقد اكتشف العلماء بأنه يصعد من البحار والمحيطات ثلاثمائة وثمانون ألف كيلو، والذي ينزل على البحار والمحيطات مائتان وأربعة وثمانون ألف كيلو، والباقي يتوجه إلى اليابسة وينزل فيها، فتنبت الحقول والبساتين كما يشاء الله سبحانه وتعالى، فنلاحظ أن الذي صعد من سطح اليابسة ستون ألف كيلو، والذي ينزل على اليابسة ستة وتسعون ألف كيلو، فالذي ينزل على الأرض من الماء أكثر مما يتبخر منها، فالقدر الذي يرتفع يحركه الله عز وجل كما يشاء لينبت للعباد الحبوب والثمار وما يشاء سبحانه، وينزل عليهم الأمطار يستقون منها ويسقون دوابهم منها والله يفعل ما يشاء.

بعض آيات الله في الأمطار

بعض آيات الله في الأمطار من آيات الله سبحانه في هذه المياه أنه يبخر مياه المحيط الذي هو شديد الملوحة، ومياه البحر الذي هو أقل منه ملوحة، ومياه النهر الذي ليس فيه ملوحة، فإذا نزل الكل على هذه الأرض نزل ماءً عذباً فراتاً مباركاً من السماء, وهذه هي عملية تبخير الماء وإرجاعه بالتكثيف، والآن يحاول البشر أن يعملوا هذه العملية؛ لكي يحلو مياه البحر، فيأخذون في تكثيف المياه بأن يبخروها، ثم يستقبلوها على شيء. ويكثفوها فتنزل مرة أخرى وطعمها حلو، ولكن عندما تشرب مياه محلاة من محطات تحلية وماء المطر تجد الفرق بين صنع الله سبحانه تبارك وتعالى وصنع البشر, فالمياه المحلاة ليس لها طعم، أما مياه المطر فهي طاهرة طيبة مباركة نزلت من السماء، وكان إذا نزل المطر يخرج النبي صلى الله عليه وسلم إليه حتى يأتي على وجهه ورأسه وذراعية صلوات الله وسلامه عليه، ويقول: (إنه قريب عهد بربه) , وهذا لماء الذي خرج من الأرض واحتاج العباد إليه يصرفه الله كما يشاء، فقد جاء في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً كان يمشي في فلاة فسمع صوتاً في سحابة يقول: اسق حديقة فلان فتعجب الرجل ونظر إلى السحابة فلم ير أحداً ولكن سمع الاسم فتتبع السحابة، فتجمعت السحابة في مكان في السماء، وسارت السحابة ثم أمطرت مطراً على حديقة لإنسان، فيعجب الرجل لذلك وينادي على صاحب الحديقة يقول: ما اسمك يا عبد الله! فقال: أنا فلان بالاسم الذي سمعه في السحاب، فقال: لم تسألني عن اسمي؟) أي: لماذا تسألني هذا السؤال؟ فيقول: (أخبرني ما الذي تصنعه في حديقتك؟ فقال: لم السؤال؟ فقال له: إني سمعت صوتاً في السحابة الذي هذا ماءها يقول: اسق حديقة فلان باسمك، فقال: أما إذ أخبرتني بذلك فإني إذا زرعت) أي: إذا حصدت هذا الذي زرعته (فإني آكل ثلثه وأتصدق بثلثه وأرد فيها ثلثها، قال: فهذا الذي بلغ بك ما سمعت في السحاب) هذا الرجل كان إذا أثمرت مزرعته تصدق بثلثها، ويأكل من تعبه وحصاده الثلث، ويرد فيها الثلث الآخر، فلما جعل هذا الشيء لله عز وجل لم يحرمه الله سبحانه، وجعل الله السحابة تأتي إليه وحده لتنزل بالماء على أرضه وحديقته {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا} [الروم:48] فهذه الآية العظيمة التي تخبرنا عن رحمة الله سبحانه، وأنه يرسل السحاب وينزل المطر ويفعل ما يشاء في خلقه سبحانه تبارك وتعالى.

التدليل على البعث والنشور بإحياء الأرض بعد موتها

التدليل على البعث والنشور بإحياء الأرض بعد موتها قال تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ} [فاطر:9] فيرى الناس كيف يحي الله الأرض بعد موتها، وكيف يحي الله الشيء الميت أمامهم، فالمزارع يزرع الشعير ويرمي ببذور القمح ثم ينتظر المطر؛ إذ ليس عنده نهر موجود، ولا مياه تأتي إليه، بل ينتظر المطر ينزل من السماء، فإذا بالله ينزل المطر، وإذا بالأرض الصحراء تهتز وتربي ويخرج فيها الزرع العظيم بفضل الله سبحانه، فترى أمامك الشيء الميت صار حياً بعد ذلك بفضل الله وبرحمته، وكذلك في كل مكان يرى الناس هذه الآية التي يقول لهم الله سبحانه فيها: {فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [فاطر:9] ويقول الله عز وجل: {كَذَلِكَ النُّشُورُ} [فاطر:9] أي: هذا الشيء العظيم الذي رأيتموه من أحياء الله عز وجل الأرض بعد موتها كذلك سيحييكم وينشركم يوم القيامة، والأرواح والأجساد التي قد بليت وفنيت، فإن الله عز وجل ينشرها ويجعلها تحيا مرة ثانية، والنشر بمعنى: الرفع والإقامة، فالله عز وجل يرفع هذه الجثث البالية الميتة ويرد فيها أرواحها فيحييها مرة ثانية؛ ليجازي العباد ويحاسبهم يوم القيامة سبحانه تبارك وتعالى.

لجوء الكافرين إلى الله في الضراء وتكبرهم وعنادهم في السراء

لجوء الكافرين إلى الله في الضراء وتكبرهم وعنادهم في السراء يقول تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يونس:22 - 23] وانظر إلى الأسلوب القرآني العظيم الجميل بقوله: (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ) فأسلوب الخطاب (إذا كنتم) يدل على المخاطب، ثم يقول: (وَجَرَيْنَ بِهِمْ) فيدل على الغائب، فهذا من التفنن، حيث انتقل من الكلام للمخاطب إلى الكلام عن الغائب قال: (وَفَرِحُوا بِهَا) أي: اغتروا بذلك، ونسوا الله سبحانه وتعالى حتى جاءتهم ريح عاصف، فالريح يرسلها الله عز وجل ريحاً طيبة، أو يرسلها ريحاً عاصفة، فلما أمنوا واغتروا جاءتهم الريح العاصف، وجاءهم الموج من كل مكان، وهذا تعبير عجيب جداً، وتعبير حقيقي؛ لم يكن أحد يعرفه، ومن رأى هذا الشيء لم يرجع لكي يخبر به بل هلك ومات، فأخبر الله أنهم جاءتهم ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان، فتأتي ريح من هنا وريح من هنا حتى تصير دوامة من وصل إليها غرق لزاماً ولا يرجع من هذا المكان أحد، يقول تعالى: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [يونس:22]، والصحابة لم يذهب أحد منهم إلى مثل هذا المكان، بل كانوا يخافون من البحر، ولذلك عمر رضي الله عنه لما كان يبعث البعوث والجيوش كان يقول لقائد الجيش: لا تجعل بيني وبينكم بحراً، بمعنى: اجعل بيني وبينكم يابسة حتى أستطيع على مدكم بالجيوش، فما كانوا يعرفون الخوض في البحار والوصول إلى هذه الأماكن في عهد النبي صلوات الله وسلامه عليه إلا الشيء اليسير القليل، والذي يصل إلى مثل هذه اللجة ويغرق فيها لن يرجع ليخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا المكان كان الموج فيه يأتي من كل مكان، لكن العلم الحديث هو الذي اكتشف أن منطقة الدوامات هي منطقة وجود رياح عاصفة تأتي من كل مكان، وهذا هو الذي أخبر به ربنا سبحانه تبارك وتعالى منذ ألف وأربعمائة سنة على لسان النبي صلوات الله وسلامه عليه؛ إذ لم يشاهد النبي صلى الله عليه وسلم الدوامات، ولم يركب البحر صلى الله عليه وسلم حتى يخبر عن منطقة كهذه، لكن الذي صنعها هو الله سبحانه، وهو الذي أخبر عنها في كتابه سبحانه وتعالى، فالإنسان حين يجد نفسه موشكاً على الغرق يدعو ربه لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين، فينجي الله من يشاء من خلقه سبحانه وتعالى، ويهلك من يشاء من خلقه سبحانه، فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق، وبغي الإنسان إنما هو على نفسه، قال تعالى: {أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ} [يونس:23] أي: تمتعوا متاع الحياة الدنيا {ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يونس:23] فربنا سبحانه أخبرنا عن إرسال الريح التي يسوق بها السحاب فينزل المطر من السماء لننتفع به، فالله الكريم سبحانه جعل لعباده الرزق كما قال تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22] وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96] بركات من السماء بنزول المطر، ويأتي البرق وتأتي الرحمة من الله سبحانه، فالبرق الذي يراه الإنسان ويخاف منه فيه خير عظيم جداً، إذ تحصل شرارة كهربائية في السماء باتحاد النيتروجين مع الأكسجين وتتكون أسمده نيتروجينية تنزل في الأرض مع المطر فتخصب الأرض فينبت الزرع من الأرض بسماد جيد من عند رب العالمين سبحانه تبارك وتعالى {وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96] فلو اتقى الناس ربهم سبحانه وتعالى لجاء الخير من كل مكان عليهم، ولفتح عليهم الرزق العظيم الواسع، وانظر لحديث النبي صلى الله عليه وسلم في حدود الله عز وجل حيث يقول: (حد واحد يقام في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحاً) فإقامة الحدود التي نص عليها كتاب ربنا سبحانه كقطع يد السارق مثلاً تفيد الناس، إذ كل من رأى ذلك خاف أن تقطع يده وخاف من السرقة، فإذا طبقوا ذلك فسينتشر بين الناس الأمن والأمان، ولو طبق حد الله سبحانه وتعالى في الإنسان الزاني المحصن فرجم، وفي الزاني الغير المحصن بزواج فجلد، وفي القاذف فجلد، لصان الناس أعراض بعضهم البعض، ولما وقع أحد في عرض أخيه؛ لأنه يخاف من الجلد، فقد لا يخاف من التحذيرات التي في القرآن، لكن يخاف من أن يرجم؛ إذا وقع في الزنا والعياذ بالله, فالله عز وجل جعل الحدود رادعة للناس أن يقعوا في ظلم أو أن يقعوا في فاحشة من الفواحش التي حرمها الله سبحانه وتعالى، فإذا أقيم حد من حدود الله سبحانه في الأرض فهو خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحاً, ولو أقيم حد الحراب كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة:33] لوجدت الذين يفزعون الناس ويقطعون الطرق عليهم يرتدعون من جرمهم خوفاً من الحد. فالله عز وجل يخيف هؤلاء بحده سبحانه، فمثل هذا الإنسان الذي يقطع الطريق على الناس بالسيف، ويقطع الطريق على الناس بالتخويف والتهديد، ويأخذ أموالهم ويقتلهم، فالله عز وجل جعل الحكم عليه أن يقتل أو يصلب أو تقطع يداه ورجلاه من خلاف أو ينفى من الأرض، فهذا جزاؤه في هذه الحياة الدنيا، فإذا رأى الناس قاطع الطريق الذي كان يقطع على الناس الطريق، ويخيف الناس ويفزعهم، ويأخذ أموالهم ويقتلهم، قد قتل وصلب أمامهم فإنهم سيخافون من ذلك، وإذا رأوا فلاناً الذي أخذ أموال الناس كرهاً قطعت يده ورجله فإن الشخص سيخاف أن يفعل به مثل هذا الشيء، فيأمن الناس في بلادهم، وينزل الله البركات من السماء، ويخرج البركات من الأرض، ففعلاً حد واحد يقام في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحاً.

تكييف الجو عن طريق الماء والأشجار

تكييف الجو عن طريق الماء والأشجار المياه نعمة من الله سبحانه وتعالى يشربها الإنسان ويتطهر بها، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48] أي: لنطهركم به، وليثبت الله عز وجل به أقدام المؤمنين، وليحيي به الأرض بعد موتها. فالله جعل من هذا الماء كل شيء حي، وجعل لك الماء لتغتسل به وأنزله من السماء لتشعر بالبرد، إذ لولم ينزل هذا الماء من السماء لوجدت الحر الشديد، ووجدت العطش الشديد، ولكن الله سبحانه تبارك برحمته يخزن لك هذا الماء في المياه الجوفية في باطن الأرض، وتخرج على الناس العيون والأنهار فيشربون منها، وانظر إلى رحمته سبحانه في تلطيف الجو الذي أنت فيه عن طريق الأشجار، حيث أن هذه الأشجار تأخذ المياه من الأرض، ثم يأتي حر الشمس فيجعل الماء يتبخر من الأشجار، وهو ما يسمى بعملية النتح، ويقول أهل العلم: إن شجرة واحدة قد تنتح في اليوم العادي ما يقارب من خمسمائة لتر من الماء، فربنا قد جعل لك تكييفاً في الأرض من الأشجار التي حولك عن طريق عملية النتح، حيث يخرج الماء من مسام في أوراق الشجر والنبات، ويجعل الله عز وجل هذا الماء بقدر، ولذلك لما نقارن بين النباتات الموجودة في البلدان والنباتات الموجودة في الصحراء نجد أن عدد المسام في الأوراق والنباتات الموجودة في البلد غير الموجودة في الصحراء، فالتي داخل البلد يكون عدد المسام فيها كبير ويخرج منها مياه أكثر من التي في الصحراء، إذ تخرج التي في الصحراء كمية أقل؛ لكي تعيش فترة أطول في مكانها التي هي فيه، فهذا الماء يصرفه الله عز وجل كيف يشاء في خلقه، ويجعل منه سبحانه وتعالى الروح والرحمة.

جواز تشبيه الأمر المحسوس المشاهد بالأمر الغيبي لأجل التفهيم والتقريب

جواز تشبيه الأمر المحسوس المشاهد بالأمر الغيبي لأجل التفهيم والتقريب قال تعالى: ((وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ)) وجاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والطبراني من حديث أبي رزين العقيلي قال: (قلت يا رسول الله! كيف يحيي الله الموتى) فأتاه الجواب من النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (قال: أما مررت بوادي أهلك ممحل ثم مررت به يهتز خضرا) أي: ألم تنظر وأنت تمر بالوادي إلى أن الأرض ممحلة ليس فيها نبات، وبعد فترة أنزل الله عز وجل عليها المطر فرأيتها تهتز خضراً أي: أخرج النبات، فقال الرجل: (نعم يا رسول الله!) قال صلى الله عليه وسلم (فكذلك يحيي الله الموتى) فهذه آية من آيات الله سبحانه حيث يحيي الله عز وجل الموتى أمامك، فهذه البذور التي تراها ميتة ترميها على الأرض فينزل عليها المطر من السماء، ويأتي أمر الله فينبت منها نخل عظيم جداً صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد، فعجيب أمر الله سبحانه وتعالى في خلقه، فأنت ترى هذه النواه وهذه النواه وهذه النواه تسقى كلها بماءٍ واحد، ثم يخرج من هذه النواه شجرة صنوان وغير صنوان، أصلها واحد ثم تتفرع جزءين فترى هنا رأس نخلة، وهنا رأس نخلة أخرى، والماء الذي سقى هذه وهذه ماء واحد. فالله هو الذي خلق من الماء كل شيء حي، ويريكم آياته في خلقه لعلكم تشكرون. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على شكره وذكره وحسن عبادته. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم, وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة فاطر [10 - 11]

تفسير سورة فاطر [10 - 11] من أسماء الله الحسنى العزيز، ومن أراد العزة من الله أعزه الله، ويأبى الله إلا أن يذل من عصاه، وأن يذل من يبتغي العزة بغيره، والأقوال الطيبة والأعمال الصالحة ترفع إلى الله سبحانه وتعالى فيثيب عليها صاحبها، وقد كتب الله سبحانه الخسارة والبوار على كل من يمكر بعباد الله ودينه، وقد خلق الله عز وجل الإنسان أطواراً، وهو أعلم به، فالأجدر بهذا الإنسان أن يتفكر في نفسه، وفيما خلقه الله تعالى منه، ففي ذلك آيات عظيمة لأولي الألباب والأفهام.

تفسير قوله تعالى: (من كان يريد العزة فلله العزة جميعا)

تفسير قوله تعالى: (من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة فاطر: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [فاطر:10 - 11]. يخبرنا ربنا سبحانه وتعالى عن العزة التي يطلب الإنسان أن يتعزز بها في الدنيا، يقول تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا) والعزيز: هو القوي الغالب القاهر الذي لا يغالب ولا يمانع سبحانه وتعالى، وقد ذكر الله تعالى ذلك في كتابه مراراً، قال تعالى: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [إبراهيم:4]، وقال تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ} [الصافات:180]، وقال سبحانه: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8]، وقال هنا: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر:10] فمن أراد أن يتعزز في هذه الحياة الدنيا، ومن أراد أن يكون قوياً في حجته وفي بيانه، قوياً في نفسه قوياً في قلبه، قوياً في عدده وعدده فليتعزز بالله سبحانه وتعالى. فمن طلب العزة عند غير الله سبحانه فقد أبى الله إلا أن يذل من عصاه، ومن عصى الله سبحانه وابتعد عنه سبحانه فإن الذل في قلبه وفوق رأسه، يذله الله سبحانه ولا يعزه أبداً، حتى وإن كان قوياً في بدنه غنياً في ماله، ومعه أعوان وأنصار، فالله سبحانه أبى إلا أن يذل من عصاه، فيستشعر في نفسه الذل وفي قلبه، ويستشعر أنه بعيد عن الله سبحانه وتعالى، فلا تتعزز إلا بربك فله العزة جميعاً. فالله هو العزيز، وقد جعل هذه العزة لعباده، وجعل لعباده المؤمنين عزة يتعززون بها، بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وبدفاع الله عز وجل عنهم، وبنصر الله سبحانه وتأييده لهم. والإنسان إذا تعزز بالله سبحانه وبدين الله كان الله عز وجل معه، فإذا تعزز بالدنيا أخذته العزة بالإثم فترك الله سبحانه، وسرعان ما يقع هذا الذي يتعزز بغير الله سبحانه وتعالى. قال الله سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ} [البقرة:204 - 206]، فالعزة هنا: الحمية، والأنفة، والكبر، والغضب لغير الله سبحانه، يأخذه ذلك إلى أن يرفض أن يقال له: اتق الله، فإن قيل له: اتق الله أخذته العزة بالإثم، وقد تقول لإنسان: الله يهديك، فيقول لك: هل تنظر إليَّ أنني مجنون؟! فلا يرضى بأن تدعو له بخير، ولا يرضى إلا أن يستشعر أنه عزيز، وأنه غالب. ومن نازع الله عز وجل في العزة وفي الكبرياء أكبه على وجهه في النار. فالله هو العزيز وحده سبحانه، وعزة المؤمنين هذه بأن الله أعزهم، وبأن الله معهم، ولو أنهم بعيدون عن الله سبحانه فلا عزة لهم، فالعزة في القرب من الله، وفي الصلة بالله سبحانه وتعالى، وفي أن يدافع الله عز وجل عن عبده، فالله عز وجل هو العزيز الغالب القاهر الذي يقهر ولا يُقهر أبداً، والذي يقضي ولا يمنع قضاؤه أبداً، فالعزة لله عزة دائمة أبداً بدوامه سبحانه وتعالى وهي العزة الحقيقة. أما من تعزز بغير الله سبحانه فليس له إلا الذل من الله، وأبى الله إلا أن يذل من عصاه.

صعود الكلم الطيب وارتفاع العمل الصالح إلى الله تعالى

صعود الكلم الطيب وارتفاع العمل الصالح إلى الله تعالى وقوله تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) أي: إلى الله عز وجل يصعد الكلم الطيب، وأعلاه: لا إله إلا الله، وأعظم كلمة يقولها الإنسان: لا إله إلا الله، وأعظم الذكر: لا إله إلا الله، وأفضل ما قال النبي صلى الله عليه وسلم والنبيون قبله في يوم عرفة: لا إله إلا الله، هذه الكلمة العظيمة التي تصعد إلى الله سبحانه وتعالى. فقوله تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ) أي: يصير ذكرك لله عز وجل، ودعاؤك ربك سبحانه يصعد إليه، فالله هو الذي يرفعه سبحانه وتعالى. فقوله: (إِلَيْهِ) أي: إلى الله سبحانه، وقوله: ((يَصْعَدُ)) أي: توحيدك له بذكرك له سبحانه، وتوكلك عليه سبحانه وتعالى. قال تعالى: ((وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)) أي: يرفعه الله سبحانه وتعالى، فالكلم الطيب والعمل الصالح يرفعهما الله سبحانه. وفي قوله تعالى: ((يَصْعَدُ)) دليل على علو الله سبحانه وتعالى وارتفاعه فوق خلقه سبحانه، فهو العلي بذاته، والعلي بقهره لعباده، والعلي سبحانه وتعالى في مكانه وفي منزلته العظيمة، فله وحده سبحانه وتعالى علو المنزلة وعلو الشأن وعلو القهر وعلو الذات. قال تعالى: ((إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ))، فالدعاء يصعد إلى الله عز وجل، وذكر الله يصعد إلى الله، والتقرب إلى الله بقول لا إله إلا الله وغيرها من ذكر الله كله يصعد إلى الله. ((وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ)) كذلك يرفعه الله سبحانه وتعالى، فإذا عمل إنسان عملاً طيباً يبتغي به وجه الله سبحانه رفع الله عز وجل إليه هذا العمل، وإذا عمل عملاً طيباً لا يقصد به وجه الله لم يرفع إلى الله سبحانه، وإذا عمل عملاً خبيثاً فمن باب أولى ألا يرفع إلى الله سبحانه؛ فإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً. إذاً: قوله تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) كله مرفوع إلى الله سبحانه. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل والنهار فيحضرون في صلاة الفجر ويحضرون في صلاة العصر، ويصعدون إلى الله سبحانه). فالذين يبيتون فيكم يحضرون معكم صلاة الفجر، والذين نزلوا من السماء أيضاً يحضرونها، قال صلى الله عليه وسلم: (ويصعد الذين باتوا فيكم إلى الله سبحانه فيسألهم: كيف وجدتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون). أي: أتيناهم فكانوا في صلاة العصر وتركناهم وقد صلوا صلاة الفجر، وقوله: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل والنهار) أي: يرتفعون إلى الله ويخبرون الله وهو أعلم بكم منهم سبحانه وتعالى، فيصعد إليه الكلم الطيب، ويصعد إليه أيضاً العمل الصالح. وقال بعض أهل التفسير في قوله: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) قالوا: الكلم لا يرفع إلا بعمل صالح، فالعمل يرفع الكلم، فإذا كان الكلم لا يوافقه عمل فلا يرفع إلى الله سبحانه. وهذا وجه من المعاني، ولكن ليس معنى الآية: أنه لا يرفع كلم طيب إلى الله إلا بعمل، وإلا فإن كلام الناس وذكر الله سبحانه لا يرتفع منه إلا القليل ولا بد أن يكون معه عمل، والله سبحانه وتعالى كريم، فالله يرفع إليه الكلم الطيب ويقبله، ويرفع إليه أيضاً العمل الصالح ويقبله، فهذا شيء وهذا شيء. ولكن إذا كان الكلم طيباً والقلب خبيثاً والعمل لغير الله فهذا كله لا يرفع إلى الله عز وجل، فالإنسان قد يتكلم بالموعظة الطيبة التي لا يصدقها قلبه ولا يوافقها عمله، ويكون العمل رياءً وعملاً خبيثاً ليس فيه لله عز وجل شيء، فلا يقبل منه قوله ولا يقبل منه عمله. ولكن إذا ذكر الله سبحانه وتعالى فالله عز وجل يقبل منه ذلك، وقد يكون عصى الله في شيء آخر، فذكره لله عز وجل يرفعه الله إذا قصد به وجه الله سبحانه، وعمله الذي وقع فيه وهو سيئ يحاسبه الله عليه سبحانه وتعالى، ولا تعلق للقول بالعمل، فلا يرد هذا القول الذي كنت مخلصاً فيه لأنك عملت عملاً سيئاً أو وقعت في معصية الله، فالله أكرم من ذلك، قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، وهذا شيء يقبله الله وذاك شيء آخر لا يقبله الله، والعبد واحد إلا أن يكون القول رياء فهو قول لا يرفع إلى الله عز وجل. أو يكون العمل رياءً وسمعة وعملاً خبيثاً فلا يرفع إلى الله سبحانه. فقوله تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) أي: الله سبحانه وتعالى يرفع العمل الصالح للعباد، وأنت كلما عملت عملاً صالحاً يرفعه الله ويدخره لك عنده يوم القيامة، وتجد نتيجة هذه الأعمال الصالحة أشياء عظيمة من ثواب الله ومن فضله سبحانه وتعالى. قال تعالى: (والذين يمكرون السيئات)، المكر: هو الحيل، عمل الشيء على سبيل الاحتيال والخديعة، كإنسان يخدع، أو يخون، أو يغدر، يقول الشيء وهو ينوي ويضمر غير هذا الذي يقوله، ويسعى للإنسان حتى يوقعه في مهلكة بحيلة وبخبث، ولهذا قال الله سبحانه: (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ) أي: يعملون أعمالاً سيئة خبيثة فيها المكر بعباد الله سبحانه، وفيها الخديعة والاحتيال على عباد الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: (لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) فلهم أشد العذاب عند الله، (وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ) البوار: الهلاك والضياع، فهؤلاء يمكرون بالمؤمنين، ويمكرون بدين الله عز وجل وبالله عز وجل، فقضى الله على مكرهم بالبوار والخسران والتلف والهلاك، وكل من يمكر بدين الله عز وجل أبى الله إلا أن يذله، وأن يعز دينه سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (والله خلقكم من تراب ثم من نطفة)

تفسير قوله تعالى: (والله خلقكم من تراب ثم من نطفة) يخبرنا ربنا سبحانه عن خلق الإنسان فقال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [فاطر:11] كل هذه الأشياء يسيرة وسهلة على الله سبحانه وتعالى، فبقول: كن يكون هذا كله. وقد تكرر أن الله عز وجل خلق الإنسان من تراب في ستة مواضع من القرآن، ويخبر الله عز وجل الإنسان أنه مخلوق من تراب، فهذا أصل خلقته، من سلالة، أي: من خلاصة من طين، هذا هو بدء خلق الإنسان. قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} [الروم:20]. وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان:54] فالله عز وجل خلقك من تراب ومن ماء، والاثنان يكونان الطين، وهذا الطين له صلصلة، فالله خلق الإنسان وأراه بدء خلقه كيف كان، وكيف صار هذا الإنسان. وقد جاءت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يخبر بها عن خلق هذا الإنسان من هذا التراب، ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك، والسهل والحزن والخبيث والطيب وبين ذلك). فالله عز وجل خلق آدم من تراب الأرض، من قبضة قبضها من جميع الأرض، والله على كل شيء قدير، فخلق آدم من أنواع من تراب الأرض، هذا أبيض وهذا أحمر وهذا أسود، فجاء آدم من هذا كله، فجاء بنو آدم من هذه الأنواع. وآدم جاء من هذه الأرض وفيها الأرض السهلية، وفيها الأرض الوعرة المرتفعة الصعبة، وخلق آدم من جميع ترابها، فبنو آدم منهم السهل ومنهم الصعب، ومنهم الحزن، ومنهم الخبيث ومنهم الطيب، والله يخلق ما يشاء سبحانه وتعالى. وعناصر الإنسان من تراب الأرض كذلك؛ ولذلك يقول العلماء: إنهم وجدوا بالتحليل أن جسم الإنسان يتكون من مركبات وعناصر الأرض، فإذ قمنا بتحليل الإنسان فإن أكثره ماء، وفيه سكريات وبروتينات وفيتامينات وهرمونات وكلور، وأنواع من المعادن: كبريت، فسفور، مغنسيوم، كالسيوم، بوتاسيوم، صوديوم، حديد، نحاس، يود، ومعادن أخرى في خلق هذا الإنسان كلها موجودة في الأرض من عناصرها التي خلق الله عز وجل منها هذه الأرض. ولذلك يقول العلماء: أن الإنسان يشترك في تركيبه مع الأرض في ثلاثةٍ وعشرين عنصراً من عناصر الأرض، وهو يطأ هذه العناصر بقدمه ويدوس عليها وهو مخلوق من هذه العناصر. والأرض فيها ماء والإنسان أكثر جسده من ماء، وخلق الله سبحانه وتعالى الإنسان من ماء؛ ولذلك من خمسة وستين إلى سبعين في المائة من جسم الإنسان مخلوق من الماء، والماء في هذه الأرض. فيخبر الله سبحانه وتعالى بذلك، والإنسان يعرف أنه حين يموت يوضع في التراب، وإذا فُتح القبر بعد ذلك فلن يجد إلا تراباً، فقد رجع إلى أصله مرة ثانية، فالله خلقه من تراب وأعاده إلى الأرض مرة ثانية تراباً. فهذا التراب تكون الإنسان منه ومن المعادن التي في هذا التراب، فكونت عظام الإنسان، وعضلاته، وعدسة عينه، وشعره، وضروسه، ودمه، فإذا تحلل الإنسان بعد موته تحلل إلى مكونات هذا التراب العجيب بنسب عجيبة وثابتة في كل إنسان. فالإنسان يغتر في الدنيا، والله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} [الانفطار:6 - 7] ولو أخذت هذه العناصر المكونة للإنسان لكونت منها علبة طباشير، وعلبة كبريت، ومسماراً صغيراً، هذه تركيبة المعادن التي في جسدك أنت أيها الإنسان، قال تعالى: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار:6]، فأنت من تراب، والذي كرمك هو الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: {الذي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:7 - 8] فلم تتكبر على الله خالقك سبحانه وقد خلقك من هذا التراب الذي تطؤه أنت بقدمك؟! قال سبحانه وتعالى هنا: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) إذاً: أصل تركيب الإنسان من هذا التراب، ثم بعد ذلك يتكاثر الإنسان ويتناسل عن طريق هذه النطفة.

مراحل وأطوار خلق الإنسان في بطن أمه

مراحل وأطوار خلق الإنسان في بطن أمه وجاء في الحديث الذي رواه الإمام مسلم من حديث عامر بن واثلة أنه سمع عبد الله بن مسعود يقول: الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره. أي: أنه قد علم الله عز وجل وقدر عنده أن هذا سيدخل النار يوماً من الأيام لأنه شقي، والسعيد أيضاً قدر الله عز وجل وعلم أن هذا الإنسان يكون سعيداً، ونفعته المواعظ في الدنيا، والسعيد من وعظ بغيره. فلما سمع عامر بن واثلة ذلك من ابن مسعود ذهب إلى رجل آخر من الصحابة اسمه حذيفة بن أسيد رضي الله عنه، فحدثه بقول ابن مسعود وقال: وكيف يشقى الرجل بغير عمل؟ فقد تعجب كيف أنه وهو في بطن أمه مكتوب أنه شقي، كأنه يقيس علم الله على علم البشر، ولا حول ولا قوة إلا بالله. فالله علمه علم شامل ومحيط سبحانه، علم قبل أن يخلق الخلق ما هم عاملون، ومن أي شيء يكونون، وإلى أي شيء يصيرون، وهل سيعملون بعمل أهل الجنة أو بعمل أهل النار، وكتب عنده ذلك وقدر ما شاء من تقديره سبحانه وتعالى. فلما سأل ابن واثلة حذيفة بن أسيد قال: أتعجب من ذلك؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب! أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب! أجله؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب! رزقه؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص). فهذا الحديث العظيم عن النبي صلى الله عليه وسلم يبين لنا خلق هذا الإنسان، وهو حديث سبق الطب بألف وأربعمائة سنة، فمن كان يعرف أن هذا الإنسان يصور في بطن أمه على هذه الصورة؟ قال صلى الله عليه وسلم: (إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة) أي: ستة أسابيع، فالنطفة تخرج من الذكر وتدخل في الأنثى ويمر عليها ستة أسابيع، قال صلى الله عليه وسلم: (يبعث الله عز وجل إليها ملكاً فصورها) فيكون تصوير الإنسان في هذا الوقت. وفي الحديث الآخر: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعة أشهر) فذكر أربعة وأربعة وأربعة، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم مائة وعشرين يوماً. فهو في هذا الحديث أجمل: أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، لكن الحديث السابق يعطي تفصيلاً أكثر، فهو يخبرنا أنه في يوم الاثنين والأربعين يأتي الملك إلى هذه النطفة ويبدأ بتشكيلها؛ ولذلك يقول أهل الطب: يبدأ تشكيل الإنسان في الأسبوع السادس، أي: بعد اليوم الثامن والثلاثين، وفي الحديث الآخر: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك). فالنطفة هي التي تصير إلى علقة، والعلقة تصير إلى مضغة، ففي ليلة ثنتين وأربعين يشكله الله عز وجل كما يشاء، كما يذكر النبي صلوات الله وسلامه عليه في هذا الحديث. ويأتي الملك ليكتب ما يريده الله سبحانه وتعالى، قال رسول الله صلوات الله وسلامه عليه: (فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها)، فيبدأ خلقه في يوم اثنين وأربعين وفيما يلي ذلك، ولا ينفخ فيه الروح في خلال هذه الفترة، حتى إذا أتم أربعة أشهر نفخ فيه الروح بعد ذلك، فيكون قد مكث أربعة أشهر وبعد ذلك أربعة أشهر أو خمسة ويولد هذا الإنسان، فيكون قضاؤه وقدره قد كتب في اليوم الثاني والأربعين، وإن كان عند الله عز وجل قبل أن يخلق الخلق مكتوب ما كان وما يكون إلى يوم القيامة. ويحدد جنس الجنين بعد ذلك، ولذلك إذا سقط قبل ذلك فلا يعرف هل هو ذكر أم أنثى؟ حتى يشاء الله سبحانه وتعالى فيقضي بذكر أو أنثى، فيكون التحديد من الله سبحانه وتعالى في الوقت الذي يريده سبحانه وتعالى.

تكون الجنين من ماء الرجل وماء المرأة

تكون الجنين من ماء الرجل وماء المرأة وهناك ماء للرجل وماء للمرأة، أي: أن النطفة من الرجل والبويضة من المرأة يتكون منها الإنسان، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم يوضح لنا شيئاً من ذلك، فيذهل الإنسان حين يعرف ذلك. ولو حدث في الماضي أن امرأة أسقطت وأنزلت مضغة، وأنزلت قطعة من اللحم، فإنهم لا يعرفون ما هي قطعة اللحم هذه، والنبي صلى الله عليه وسلم يذكر أن فيها تخليقاً، والملك صورها في هذا الوقت، والعلم يصدق ما قاله النبي صلوات الله وسلامه عليه. روى الإمام مسلم من حديث ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كنت قائماً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء حبر من أحبار اليهود، فقال: السلام عليك يا محمد! -صلوات الله وسلامه عليه- قال ثوبان: فدفعته دفعة كاد يصرع منها، فقال: لم تدفعني؟ فقلت: ألا تقول يا رسول الله؟ فقال اليهودي: إنما ندعوه باسمه الذي سماه به أهله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن اسمي محمد الذي سماني به أهلي) عليه الصلاة والسلام. فاليهودي جاء ليسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء أو يختبره، فالنبي صلى الله عليه وسلم أجاب: إن اسمي محمد، وإن كان ربنا سبحانه وتعالى جعل للنبي صلى الله عليه وسلم منزلة عظيمة قال: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور:63]. فأدب المؤمنين ألا ينادوا النبي صلى الله عليه وسلم باسمه: يا محمد، ولكن يقولون: يا رسول الله! أو: يا نبي الله! صلوات الله وسلامه عليه، أما أن تناديه باسمه فهذا لا ينبغي؛ ولذلك ثوبان دفع اليهودي حين فعل ذلك. فقال اليهودي للنبي صلى الله عليه وسلم: (جئت أسألك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أينفعك شيء إن حدثتك؟ -يعني: أنت لست مؤمناً بي أصلاً، فهل ستنتفع بما سأقوله لك؟ - فقال: أسمع بأذني، فنكت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعود معه، فقال اليهودي: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض؟) يعني: الله يقول في القرآن: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ} [إبراهيم:48] فأين سيذهب الناس حين تبدل هذه الأرض؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هم في الظلمة دون الجسر)، فالله عز وجل يجعل العباد في مكان آخر، ويغير هذه الأرض أرضاً أخرى، ويجعلهم عليها بعد ذلك. قال اليهودي: (فمن أول الناس إجازة؟ -يعني: من أول الناس سيمرون على هذا الجسر؟ - قال النبي صلى الله عليه وسلم: فقراء المهاجرين، قال اليهودي: فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟ قال: زيادة كبد الحوت. قال: فما غذاؤهم على إثرها؟ قال: ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها. قال: فما شرابهم عليها؟ قال: من عين فيها تسمى سلسبيلاً. قال: صدقت)، أي: أنا جئت أسأل عن هذه الأشياء فكل الذي تقوله هذا صحيح. ثم قال: (وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان قال: أينفعك إن حدثتك؟ قال: أسمع بأذني، جئت أسألك عن الولد؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر، فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا بإذن الله، وإذا علا مني المرأة مني الرجل آنثا بإذن الله، قال اليهودي: لقد صدقت وإنك لنبي)، وانصرف اليهودي، ولم يقل: لا إله إلا الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد سألني هذا عن الذي سألني عنه، وما لي علم بشيء منه حتى أتاني الله به)، فهنا رد العلم إلى عالمه إلى الله سبحانه وتعالى، وفوق كل ذي علم عليم، فالله هو الذي علمني ذلك سبحانه فأجبته وما كنت أعرف هذا قبل ذلك. والشاهد من هذا الحديث: أن اليهودي يسأل النبي صلى الله عليه وسلم: كيف يأتي الولد؟ كيف يكون ذكراً وكيف يكون أنثى؟ فقال: (ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر)، وماء الرجل هو المني، وماء المرأة هي البويضة، والعلماء حتى عصر قريب جداً ما كانوا يعرفون حقيقة ماء المرأة، فكانوا يقولون: الرجل له ماء، والمرأة ليس لها ماء. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به وجهله هؤلاء إلى سنين قليلة ماضية، والآن يذكرون: أن المرأة يفرز منها ماء أصفر يكون مع المني، فقالوا: لقد تضمن حديث النبي صلى الله عليه وسلم وصفاً لماء الرجل وماء المرأة، فإن ماء المهبل يميل إلى الصفرة، وكذلك الماء الذي في حويصلة (جراف) يخرج منها هذا الماء. وعند خروج البويضة من حويصلة (جراف) يكون الماء أصفر، فتسمى بالجسم الأصفر، وهذا الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم أن ماء المرأة أصفر، وهذا من الإعجاز. ويقول العلماء: إفرازات المبيض في المرأة حمضية، وتقتل الحيوانات المنوية، لكن إفرازات عنق الرحم في المرأة قلوية، فالمني حين يدخل على إفرازات عنق الرحم فمن الممكن لهذا الحيوان المنوي أن يعيش، ولو دخل مباشرة على البويضة لهلك ولم يعش، فيذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا علا ماء الرجل ماء المرأة يكون ذكراً بإذن الله، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل كان أنثى بإذن الله، وصدق النبي صلوات الله وسلامه عليه ولم يعرف هذه الأشياء أكابر علماء الطب حتى اكتشفوا قريباً أن المرأة لها ماء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك من سنين. وقد ذكر الشيخ الزنداني حفظه الله أنه ناقش بعض علماء الطب من المسلمين أن الحديث يذكر ماء المرأة، فسألهم: هل للمرأة ماء؟ فقالوا: لا، هذا الجواب من قبل علماء الطب المسلمين المتخصصين في النساء والولادة والمختصين في ذلك، فقال: إنه جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن المرأة لها ماء، فقال أحدهم: دعني أبحث، ورجع لمراجع حديثة ورجع للشيخ يقول له: وجدنا فعلاً أن المرأة لها ماء، والمراجع الحديثة تقول هذا الشيء، فسبحان الله العظيم! لقد كان يخفى على علماء من علماء الطب هذا حتى عصرنا الحالي، حتى قال الأجانب هذا الشيء واكتشفوه وصدقوا ما يقوله النبي صلوات الله وسلامه عليه عن ذلك، وعرفوا أن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى.

علم الله بما تحمل الأرحام وبأعمار البشر

علم الله بما تحمل الأرحام وبأعمار البشر يقول الله سبحانه: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا) أي: ذكوراً وإناثاً، يخلق ما يشاء سبحانه وتعالى، قال تعالى: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} [الشورى:49 - 50]. قال تعالى: (وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) أي أنثى كانت من إنسان أو من حيوان أو من غيره، ما تحمل ولا تضع حملها إلا بإذن الله وبعلم الله سبحانه وتعالى، وكل شيء في كتاب. قال تعالى: (وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ). فهناك إنسان يعيش حتى يصير معمراً، ويصير شيخاً كبيراً، وإنسان آخر يموت وهو صغير، فما يعمر من معمر من البشر، أو ينقص من عمر إنسان من البشر إلا بعلم الله سبحانه وتعالى، وقد يقضي لإنسان بعمر معين عنده، والعمر عند الله لا يزيد ولا ينقص، ويكتب في صحف الملائكة أن عمره ستون عاماً إن وصل رحمه، فإن لم يصل رحمه كتب عمره أربعين عاماً، وهذا في أيدي الملائكة، أما في اللوح المحفوظ فمكتوب عند الله عز وجل ما لا يغير وما لا يبدل. فقوله تعالى: (وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ) محمولة على واحد من الناس أو محمولة على أصناف، فلا يزيد في عمر الإنسان ولا يموت إنسان ويتوفى في وقت معين إلا بعلم الله سبحانه وتعالى، وكله مكتوب عنده في كتاب. وهذا الأمر لو نظرت فيه جيداً لوجدته كثيراً جداً وكبيراً وصعباً، فكم من إنسان موجود في هذه الدنيا، وكم من حيوان، وكم من حشرة، وكل شيء عند الله عز وجل مكتوب، والذي يكتب ذلك هو الله سبحانه وتعالى بعلمه، وهذا يسير على الله بقوله: كن فيكون، فهذا يسير على الله، إذ يريك قدرته وعظمته سبحانه وآياته في الكون. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن يتفكر في آياته، ويؤمن ويوقن بها، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة فاطر [12 - 14]

تفسير سورة فاطر [12 - 14] لقد خلق الله عز وجل هذا الخلق فأبدعه، وجعل هذا الخلق شاهداً لعظمته، وبديع صنعه سبحانه، وجعل في خلقه من العظمة والجمال ما تتحير منه فطن أولي الألباب، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، أفلا تدل على اللطيف الخبير؟ وهل تقود إلى عبادة غير القدير؟ فويل للمشركين عبدة الأوثان من شر يوم مستطير.

تفسير قوله تعالى: (وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج)

تفسير قوله تعالى: (وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين: قال الله عز وجل في سورة فاطر: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:12 - 14]. يذكر لنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات بعضاً من عظيم آياته في هذا الكون لنتدبر فيها، وكيف أن الله خلقها وسخرها لنفع عباده، وكيف أفادهم من هذه الأشياء. {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [فاطر:12]، وقال في سورة الرحمن: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:19 - 21]، أي: فبأي نعم الله سبحانه تكذبان؟! والبحر نعمة عظيمة للعباد، فمنه ما هو: {عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ} [فاطر:12]، ومنه الملح الأجاج، أي: شديد الملوحة، {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [فاطر:12]، وسخر البحر كذلك: {لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الروم:46]. وانظر إلى البحار والمحيطات التي تحيط بهذا الكون، فإنها تغمر أكثر سطح الأرض، ومع ذلك فقد جعل الله عز وجل للعباد رزقاً فيها، فالبحر مالح والمحيط أشد ملوحة منه، وماء عذب فرات يجري في الأنهار أو في العيون، وهذه نعم من الله سبحانه وتعالى على العباد، فهم يشربون من المياه العذبة الفرات التي خلقها الله عز وجل لهم، ويأكلون طعاماً من البحر ومن النهر ومن المحيط، ويستخرجون حلياً يلبسونه ليشكروا نعمة الله سبحانه. ((لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ))، أفلا تشكرون نعم الله عز وجل عليكم؟ {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ} [فاطر:12]، أي: لا يستوي ماء البحر المالح وماء البحر العذب، {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ} [فاطر:12] أي: شديد العذوبة تشربونه وتستسيغونه، كماء النهر، ومياه العيون والآبار، فهي مياه عذبة تشربونها وتستسيغونها، والفرات بمعنى: الحلو، سائغ شرابه، أي: أن الإنسان يقدر على ازدراده وابتلاعه، ومنه قولهم: أساغ اللقمة بالماء إذا أراد أن تنزل من حلقه بعد أن علقت به، أما الماء المالح فلا يقوى على استساغته، ولا يستطيع بلعه. وانظر إلى شراب أهل النار، فقد ذكر الله عز وجل عنهم أن شرابهم الصديد في النار، وأنهم لا يستطيعون استساغته، فقال: {يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ} [إبراهيم:17]، أي: لا يقدر أن يبتلعه، وكيف يبتلعه وهو من النار والعياذ بالله، ولكن الماء الفرات البارد من نعم الله عز وجل على عباده، والتي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وقد أكلوا تمراً أو بلحاً وشربوا ماءً عذباً: (هذا من النعيم الذي تسألون عليه). والأجاج: هو الشديد الملوحة، وأيضاً: يطلق على مر المذاق، وكأنه يريد منك أن تقارن بين هذا وذاك، ومع ذلك جعل الله عز وجل لهذا مخلوقات تعيش فيه وتستسيغه، فهناك أسماك معينة للبحر العذب، وهناك أسماك معينة للبحر المالح.

معنى البرزخ في قوله سبحانه: (بينهما برزخ لا يبغيان) والإعجاز العلمي فيه

معنى البرزخ في قوله سبحانه: (بينهما برزخ لا يبغيان) والإعجاز العلمي فيه لقد أخبرنا سبحانه عن اختلاط البحر بالنهر فقال: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} [الرحمن:19]، أي: النهر والبحر، والمارج: هو الشيء المختلط، فيحصل اختلاط بين البحر المالح والنهر العذب، ومع ذلك فلا يتأثر الملح بالعذب ولا العذب بالملح، فسبحان الله! {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} [الرحمن:20]، فمن قدرة الله عز وجل أن جعل بين البحرين برزخاً، أي: ماءً وسطاً بن الملح والعذب تعيش فيه أسماك معينة لا تقبل الماء المالح، أو الماء العذب، وفائدته: الفصل بين البحر المالح والنهر العذب، بحيث لا يختلطان، ومنه قوله تعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان:53]، والبرزخ: هو المكان الفاصل بين الاثنين، {وَحِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان:53]، أي: مانعاً لمخلوقات هذا البحر أن تعيش في هذا النهر والعكس كذلك.

الإعجاز العلمي في قوله تعالى: (ومن كل تأكلون لحما طريا) وقوله: (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان)

الإعجاز العلمي في قوله تعالى: (ومن كل تأكلون لحماً طرياً) وقوله: (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) ثم قال سبحانه: {وَمِنْ كُلٍّ} [فاطر:12]، أي: من البحر العذب والبحر المالح، {تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} [فاطر:12]، أسماكاً وغيرها، {وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [فاطر:12] قال الله سبحانه: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:18 - 22]، أي: يخرج من الاثنين، من الماء العذب ومن الماء المالح، وكان المفسرون يقولون: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا} [الرحمن:22]، أي: على سبيل التغليب، وإلا فلا يخرج اللؤلؤ والمرجان إلا من الماء المالح فقط، وهذا هو المعروف عند العرب، وهذا من أدلة إعجاز القرآن العظيم الذي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم، والذي كان عربياً مثلهم. لكن العلم الحديث أثبت لنا بأن هناك أنهاراً موجودة يخرج منها اللؤلؤ والمرجان، ويخرج منها الحلي للناس، ولذلك لم تعرفها العرب، وتوجد هذه الأنهار في الهند وفي الصين وفي روسيا وفي أمريكا وفي ألمانيا وغيرها؛ ولذلك تأول المفسرون هذا الآية: أنه يخرج من أحدهما -وهو المالح- اللؤلؤ والمرجان. قال سبحانه: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:22]، وهناك قال: {وَمِنْ كُلٍّ} [فاطر:12]، أي: الاثنين: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} [فاطر:12]، ومن كل أيضاً: {تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [فاطر:12]، وقد يكون هذا الشيء موجوداً عند العرب ولكنهم لم يكتشفوه في وقت نزول القرآن فيهم، والقرآن لم ينزل لزمانهم فقط، بل نزل لكل زمان إلى قيام الساعة. ولذلك تجد الآن في بلاد العرب من يأخذ الرمل الموجود حول هذه الأنهار فيفتته ويحلله ويخرج منه الذهب؛ ولذلك يقولون: إن أنهار العرب فيها من الطين ما هو ممتلئ بالذهب، وهذا شيء لم يكن موجوداً في الماضي ووجد الآن، يقول سبحانه: {وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [فاطر:12]، أي: ومن آياته: أنه يرسل هذه الرياح لتثير السحاب ولتجري الفلك في البحار والأنهار بأمر الله سبحانه، ليخرج الإنسان الصياد فيركب قاربه مبتغياً الرزق من الله سبحانه وتعالى، ((لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ))، ((وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ)) يعني: تمخر الأمواج، أي: تشقها وتشق أمواجه وتسير فيها بتسيير الله سبحانه لها وبتيسيره، لتبتغوا من فضل الله سبحانه ومن رزقه، فهو الذي سخر لكم ذلك ولن يغرقكم إلا حين يشاء سبحانه وتعالى. ثم ترك لكم الخيار في الأكل من البر أو البحر وسخر لكم من فضله سبحانه، قال: {لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [فاطر:12]، أي: فإذا أخذتم وإذا لبستم حمدتم الله سبحانه وشكرتموه على نعمه، وهو القائل: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7].

تفسير قوله تعالى: (يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى) والإعجاز العلمي فيها

تفسير قوله تعالى: (يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجلٍ مسمى) والإعجاز العلمي فيها قال سبحانه وتعالى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} [فاطر:13]، والإيلاج: هو إدخال شيء في شيء، فالأرض كروية تدور حول نفسها، والشمس تجري لمستقر لها. وقد اكتشف رواد الفضاء عندما خرجوا من العلاف الجوي للأرض: أن الظلام محيط بالأرض من كل جانب، وأن الله سبحانه وتعالى قد جعل حول الأرض شيئاً معيناً بحيث تنعكس عليه أشعة الشمس نحو الأرض فيظهر النهار، فالنهار هو الذي يجلي الشمس ويظهرها، فتراها وأنت في داخل الأرض؛ ولذا قال سبحانه: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} [الشمس:1 - 4]، فأقسم بالشمس، وبضحى هذه الشمس، وبالقمر، وبالنهار الذي يجلي هذه الشمس ويظهرها، وبالليل كذلك. وقد كان المفهوم السائد الغالب في الماضي أن الشمس هي التي تجلي النهار وتظهره، حتى جاءت هذه الآية لتبين الحقيقة العجيبة، قال تعالى: {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا} [الشمس:3]، أي: إذا أظهر الشمس. ولذلك تحير العلماء في ماهية النهار وحقيقته، حتى قالوا: إنه الطبقات الترابية أو الغلاف الذي يحيط بالأرض، فإنه إذا واجه الشمس انعكست أشعتها عليه فظهر النهار وكأنه شيء بين الأرض وبين الشمس، فإذا تحركت الأرض ودارت حول نفسها ذهبت أشعة الشمس إلى المكان الذي كان مظلماً قبل ذلك، وأظلم هذا المكان الذي كانت فيه أشعة الشمس أولاً، وهكذا يتعاقب الليل والنهار. وهذا دليل ظاهر على كروية الأرض، فإن الأرض لو كانت مسطحة لواجهت أشعة الشمس ولدام عليها النهار أبداً، وهو مصداق لقوله سبحانه وتعالى: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} [الزمر:5]، فالنهار يكون على جزء منها، كما أن الليل يكون على الجزء الآخر، وهذا دليل ظاهر على كروية الأرض. يقول العلماء: وقد كشف العلم الحديث: أن الليل يحيط بالأرض من كل مكان، وأن الجزء الذي تتكون فيه حالة النهار هو الهواء الذي يحيط بالأرض، ويمثل قشرة رقيقة تشبه الجلد، وهو بسيط جداً بالنظر إلى الليل الدامس الموجود في الكون ككل؛ ولذلك ذكر الله عز وجل انسلاخ الليل عن النهار فقال: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} [يس:37]، فإذا دارت الأرض سلخت هالة النهار الرقيقة التي كانت متكونة بسبب انعكاسات الأشعة القادمة من الشمس على الجزيئات الموجودة في الهواء، فكأن الأرض كرة حولها غلاف من الهواء، فانعكست أشعة الشمس على هذا الغلاف، فأخذت فجوات في هذا الغلاف فظهر الضوء من خلالها في المكان، قال تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} [يس:37]. وهنا يقول عز وجل: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} [فاطر:13] أي: يدخل هذا في ذاك، {وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} [فاطر:13]، فكأن الاثنين معاً، وقال في موضع آخر: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:62]، أي: يخلف الليل النهار والنهار الليل، وهذا لا يكون إلا إذا كانت الأرض كروية كما سبق، وسيستمر هذا الوضع إلى أن يأتي أمر الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} [فاطر:13]، فالشمس تقع على بعد معين من الأرض لا ينقص ولا يزيد.

تجلي عظمة الله سبحانه في مخلوقاته

تجلي عظمة الله سبحانه في مخلوقاته تبعد الشمس عن الأرض حوالي: (150) مليون كيلو متر، بينما تقطع أشعة الشمس هذه المسافة من الشمس إلى الأرض في (8) دقائق و (0. 3) جزء من الدقيقة، ولو أن الشمس اقتربت كيلو أو اثنين من الأرض لاحترقت الأرض بمن فيها، أو لتبخرت جبال الثلج الموجودة في الأرض ولمات الناس غرقا. والإنسان في الصيف لا يستطيع أن يقف تحت الشمس لمدة طويلة، بل إن درجة الحرارة في الصيف في بعض البلدان تصل إلى (60) درجة مئوية، حتى إن بعض البلدان تعلن للناس حظراً يقضي بعدم الخروج من المنزل للوظائف وغيرها بسبب حرارة الشمس الشديدة، وتبلغ درجة حرارة الغلاف الخارجي للشمس فقط: ستة آلاف درجة مئوية، أما درجة الحرارة في داخل الشمس فقد تصل إلى ستة ملايين درجة مئوية، وتخيل كيف سيصبح حال الإنسان يوم أن تدنو الشمس من رأسه يوم القيامة مقدار ميل؟ والميل يساوي كيلو وسبعمائة متر تقريباً، أي: اثنين كيلو إلا يسيراً، وبعضهم قال: بل هو ميل المكحلة: وهو العود الذي يوضع داخل المكحلة من أجل التكحل، فمن يطيق هذا الدنو أو ذاك؟! وفي ذلك اليوم يخفف سبحانه عمن يشاء من عباده، ويظل من يشاء في ظله يوم لا ظل إلا ظله -نسأل الله عز وجل أن يظلنا في ظله يوم لا ظل إلا ظله- تدنو الشمس من الرءوس يوم القيامة فيعرق الناس، فمنهم من يغطي عرقه قدميه، ومنهم من يغطي ساقيه إلى ركبتيه، ومنهم من يصل إلى حقويه، ومنهم من يغطي منكبيه، ومنهم من يغطي العرق رأسه، وهذا العرق الذي يصيب الإنسان إنما هو بسبب أنه لم يبذل في الدنيا، ولم يعرف الله سبحانه وتعالى، ولم يؤد حق الله سبحانه وتعالى في الدنيا، وهذا العرق تعذيب من الله عز وجل للإنسان في هذا الوقت على ما قصر في عبادته لربه سبحانه وتعالى. وهنا أخبرنا الله سبحانه عن الشمس فقال: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} [فاطر:13]، أي: جعل هذه الشمس المشرقة المحرقة المشتعلة المتوقدة، كما قال: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [الإسراء:12]، فجعل لنا ليلاً ونهاراً، فلو كان القمر مشتعلاً كالشمس لكانت الأرض كلها نهاراً، ولكن الله عز وجل جعل آية الليل القمر، وآية النهار الشمس، فالشمس تضيء للعباد، والقمر ينير، وقد كان القمر مشتعلاً يوماً من الأيام؛ بدليل قوله سبحانه وتعالى: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ} [الإسراء:12]. أي: أن آية الليل -وهو القمر- كان كهذه الشمس آية مبصرة مشتعلة يخرج منه النور والنار، ولكن الله محاها وطمسها، قال: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [الإسراء:12] أي: لتنامون في الليل ولتبتغوا فضلاً من الله سبحانه وتعالى في النهار. {وَلِتَعْلَمُوا} [الإسراء:12]، أي: بتعاقب الليل والنهار: {عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [الإسراء:12]، فلو جعل الأرض نهاراً بأسرها لما عرفنا الفرق بين يوم وآخر، فالله عز وجل جعل هذه آية من الآيات العجيبة جداً. وقد اكتشف العلماء أن القمر كان مشتعلاً يوماً من الأيام، وأنه الآن منطفئ، وإن كانوا يقولون: إن باطنه ما يزال مشتعلاً. فالله عز وجل يقول: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} [فاطر:13]، فإذا ظهرت الشمس للعباد أتى النهار مباشرة، وإذا غابت الشمس أتى الليل بعدها مباشرة، قال: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} [يس:38 - 39]، وقد تحدث العلماء: أن القمر ينزل في برج من الأبراج كل ثلاثة عشر يوماً إلى أن يدور في العام كله في السنة الهجرية ثلاثمائة وأربعة وخمسين يوماً، فتنتهي بذلك السنة القمرية، وهذا كله لتعلم عدد السنين والحساب الذي تحسب به الليل والنهار. فالله سبحانه سخر لعباده هذا الكون كله للعبادة، وقد قال أهل العلم: إنه اكتشفت مجرات عديدة جداً غير هذه المجرة التي تضم الأرض، وقد تصل المجرات المكتشفة إلى الآن إلى أكثر من أربعمائة مليار مجرة في هذا الكون، وكل مجرة تساوي المجرة التي نحن فيها بل بعضها أعظم وأضخم، وهذه أرقام عجيبة جداً، في حين أن العلماء كانوا يعتقدون بأن عدد المجرات كلها هو: مائة مليار مجرة، أما المجرة التي تضم كوكب الأرض فيها والمسماة: بدرب التبانة، فإن كتلتها تصل إلى (230) مليار مرة قدر كتلة الشمس، فهي تكبر الشمس بـ (230) مليار مرة، وهذه مجرة واحدة فما بالك بأربعمائة مليار مجرة؟! أرقام فوق الخيال والعقل. وإذا تفكرت في الكون فلا تتفكر في رب الكون سبحانه، فإذا كنت لا تستطيع تخيل المجرة، فكيف بتخيل خالقها؟ فلا يجوز ذلك، قال تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:103]، سبحانه وتعالى. قال: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} [فاطر:13]، أي: وسخر هذه المجرات التي تجري في هذا الفضاء الواسع بشموسها وأقمارها ونجومها وما إلى ذلك من عظيم خلقه سبحانه، وهي تجري من مكان إلى مكان بحساب جعله الله سبحانه وتعالى لها، وكذلك النجوم التي تموت وتولد كالإنسان والحيوان والنبات وغيرهم، قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد:9]، سبحانه وتعالى. قال تعالى: {كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} [فاطر:13]، فالشمس تجري إلى أن يأتي الأجل المسمى، وإلى أن يوقفها الله ويفعل بها ما يشاء سبحانه، وكذلك القمر، قال سبحانه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ} [فاطر:13]، فهو الذي سخر هذا كله إلى أجل قد سماه الله وحدده عنده سبحانه، ذلكم العظيم القادر القاهر الذي يستحق العبودية وحده لا إله غيره سبحانه.

المالك الحقيقي هو الله سبحانه

المالك الحقيقي هو الله سبحانه قال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ} [فاطر:13]، وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك:1] سبحانه وتعالى!!. وإذا تخيلت شيئاً من ملكوت الله سبحانه كهذه المجرات والشموس والأقمار التي هي في الدنيا، فتخيل السماء والسماوات التي لم يطلع عليها أحد. وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم: (أن سمك السماء الواحدة مسيرة خمسمائة عام، وأن ما بين السماء والسماء مسيرة خمسمائة عام)، ثم فوق السماء السابعة ما يشاء الله عز وجل من خلق، ثم فوق ذلك سدرة المنتهى، ثم فوق هذا كله عرش الرحمن سبحانه وتعالى. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ما السموات السبع في الكرسي إلى كحلقة في فلاة)، والكون هذا كله في السماوات كحلقة في فلاة أيضاً، وإذا قورن الكرسي بالعرش فهو لا شيء بالنسبة للعرش. ثم قال سبحانه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [فاطر:13]، أي: لا يملكون شيئاً، فالملك الحقيقي هو لله حتى وإن أعطاك المال، وحتى لو زعمت أنك اكتسبته بعرق جبينك فلن تأخذه معك إلى القبر يوم وفاتك، فالملك هو الله عز وجل حقيقةً، وقد حاول الفراعنة في الماضي أن يدفنوا الذهب مع الأموات في القبور، فجاء من بعدهم من نبش هذه القبور وأخرج ما فيها من الذهب فلم يستطيعوا عمل شيء بها، والقطمير: هو الغلاف الرقيق الذي يغطي نواة التمرة، والنقير: هي النقرة وراء النواة، وأما الفتيل: فهو الخيط الرقيق الموجود وسط النواة، فخاطب الله العرب بشيء محسوس يعرفونه في طعامهم، ومعنى الآية: أن القطمير والفتيل والنقير لا تملكه أنت، بل يملكه الذي أوجده وهو الواحد القهار، بل ولو دعي الإنسان الضعيف إلى صنع نواة كهذه توضع في الأرض فتنبت شجرة باسقة لما استطاع إلى ذلك سبيلاً، قال تعالى: {مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [فاطر:13]، فالذي يملك هذا كله، هو الله سبحانه الذي خلق وأبدع وأوجد وجعله آية لخلقه. وإذا نظرت إلى هذه الأصنام الآلهة المعبودة من دون الله سبحانه لعلمت أنها لا تملك لأنفسها نفعاً ولا ضراً ولا الشيء اليسير، وحتى الغني في مرض موته لا يستطيع أن يتصرف بماله إلا بالثلث فقط، مع أنه قد يكون هو الذي تعب في جمعه، ولكن الله يأبى أن يكون الملك إلا له سبحانه وتعالى؛ ولذلك فعلى الإنسان أن ينتهز الفرصة فيتصدق لله عز وجل في صحته وعافيته؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ فكلهم قالوا: كلنا ماله أحب إليه من مال وارثه، قال: فمالك ما ادخرته عند الله سبحانه وتعالى)، أي: أنه يكون باقياً عند الله عز وجل: (ومال وارثك ما أبقيته لهم)، فما جمعته ونميته من ثروة هو مال الوارث في الحقيقة، أما مالك أنت فهو ما أنفقت لله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم)

تفسير قوله تعالى: (إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم) قال الله سبحانه: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} [فاطر:14]، هذه الآية تبين حقيقة المدعوين من دون الله، فهم يدعون الأصنام من دون الله سبحانه، فمهما دعوتم فلن يستجيبوا لكم، والعجب أن المشركين يعرفون ذلك، وأن هذه الأصنام لا تنفع ولا تسمع ولا تضر، ومع ذلك يذهبون إليها يدعونها ويستشيرونها ويتكلمون عندها ابتغاء بركتها. فهم يعتقدون أنها تنفعهم وتقربهم إلى الله مع أنهم يعلمون في قرارة أنفسهم أنها لا تملك لنفسها أو لغيرها شيئاً: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} [فاطر:14]، وهذا فرض جدلي؛ لأنهم لا يسمعون أصلاً، فإذا افترضنا أن الله خلق في هذه الأصنام سمعاً تسمع وعقلاً تعقل به فلن تستجيب لكم.

تبرؤ الآلهة ممن يدعونهم من دون الله يوم القيامة

تبرؤ الآلهة ممن يدعونهم من دون الله يوم القيامة ثم قال سبحانه وتعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} [فاطر:14]، سواءٌ كانت هذه الآلهة أصناماً وأحجاراً، أم أناساً ميتين، أم كانت شمساً وقمراً وأشجاراً وأنهاراً وغيرها مما عبد الخلق، والكفار أغبياء جداً في فهمهم لمعنى الألوهية، فهو يذهب إلى الصنم بأسهمه إذا أراد أن يسافر، فيأخذ الأسهم ويقرع بينهن، فإذا خرج سهم السفر فرح بذلك، وإذا خرج سهم القعود وعدم السفر أقرع بينها مرةً ثانية، فهو يعلم أن هذا الصنم لا يملك لنفسه شيئاً قبل أن يملك لغيره، وهكذا هو عقل الكافر في كل زمان ومكان، وهذا الغباء هو ما يعرفه الكافر إذا دخل في دين الله وأسلم، فكيف يعطيك الله ويرزقك ثم تعبد من لا يملك لنفسه أو غيره شيئاً؟! ويوجد الآن من يعبد البقر مع أنها تذبح أمامه، ومع ذلك يسجد لها من دون الله سبحانه وتعالى. وهناك من يصنع تماثيل عالية جداً كبوذا ويعبدها من دون الله تعالى، مع أنه صنعها بنفسه من الحجارة، وقد حدثني أحد الأساتذة في الطب وكان قد سافر إلى اليابان، فقال: إن الناس هناك يذهبون إلى بوذا في المعبد ومع كل واحد منهم جرس ليؤدوا طقوس العبادة له من دون الله سبحانه، فسأل أحدهم مرةً عن هذا الجرس ماذا يصنعون به؟ فأجابه أحدهم: أنهم يوقظون الإله ليعطيهم حاجياتهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وهكذا هو حال الإنسان الذي لم يعرف الله تعالى، ففي قلبه ظلمة وفي عقله غباء، فهو يستدل بالباطل على الباطل، يجد نور الحق أمامه ومع ذلك لا يذهب إليه ولا يتبعه؛ لأن الله قد طبع على قلوبهم وعلى سمعهم، وجعل الغشاوة على أبصارهم فعبدوا غيره سبحانه وتعالى. قال سبحانه: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:14]، فهؤلاء الذين عبدتموهم من دون الله يتبرءون يوم القيامة منكم ويكفرون بما أشركتم، حتى إن الشيطان يقول: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم:22]، فأنا لا تعجبني عبادتكم، بل أنا كافر بعبادتكم إياي، ولست معترفاً ولا مقراً بأني إله من دون الله تعالى، قال سبحانه: {إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم:22]. ثم قال الله سبحانه: {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:14]، فهل تريد أن ينبئك غير ربك سبحانه؟ {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، فلا ينبئك مثله سبحانه وتعالى، فهو الخبير بخبايا النفوس، وبما يكون في الغيب، فسترجع الأمور إلى الله سبحانه وتعالى وسيجازي عباده أجمعين: {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:14]. نسأل الله عز وجل أن يهدينا صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة فاطر [15 - 18]

تفسير سورة فاطر [15 - 18] الله عز وجل هو خالق المخلوقات وهو رازقها وحده، ومن أسمائه سبحانه أنه الغني الوهاب المعطي الرازق اللطيف الكريم، فما من نعمة إلا وهي منه، وما من فضل إلا وجاء من عنده، فهو الغني سبحانه، والغنى وصف ذاتي له، كما أن الفقر وصف ذاتي للإنسان، ومع غناه سبحانه عن خلقه فهو حميد لمن شكره على نعمه، وحميد في أفعاله، ومن أفعاله الدالة على أنه حميد: أنه لا يؤاخذ أحداً بذنب غيره، وإنما يجازي كل إنسان على ما قدم؛ فالإنسان مسئول عن أفعاله مسئولية فردية أمام الله سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة فاطر: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ * وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [فاطر:15 - 18]. هنا ينادي الله سبحانه تبارك وتعالى الخلق جميعهم ويخبرهم سبحانه بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15]. أي: يا أيها الناس! كلكم فقراء إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، والله وحده هو الغني وهو الحميد سبحانه تبارك وتعالى. فالناس فقراء بأصل خلقتهم. والإنسان بأصله فقير، والله هو الغني الحميد سبحانه تبارك وتعالى. وعقب بعد الغني بأنه الحميد سبحانه تبارك وتعالى؛ ليبين للناس أن من كان غنياً في الدنيا فليس بأصل خلقته وإنما أغناه الله، واغتنى بإعطاء الله له. ومع ذلك يبخل على الخلق، فلا يستحق أن يحمد في صنيعه لأنه بخيل، مع أن الله سبحانه هو الذي أعطاه المال.

بيان غنى الله سبحانه وتعالى

بيان غنى الله سبحانه وتعالى الله سبحانه هو الغني الحميد فهو الغني بذاته سبحانه، وعطاؤه إنما يكون بقوله: كن فيكون، وخزائنه ملأى لا تغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أي: يعطي بالليل وبالنهار. فيرفع العباد أيديهم إليه: يا رب يا رب، فيستحي أن يردهم صفراً بغير شيء بل يعطيهم سبحانه تبارك وتعالى ما سألوه وفوق ما سألوه، وإن منعهم سبحانه تبارك وتعالى في الدنيا فيدخر لهم إلى يوم القيامة، فيعطيهم عطاء لم يكن على بال أحدهم، حتى إن العبد ليأتي يوم القيامة ويجد جبالاً من الحسنات لم يعملها فيسأل ربه سبحانه فيقال له: هذا دعاء لم نستجبه لك في الدنيا. أي: سألتنا في الدنيا فادخرناه لك إلى الآخرة. فيتمنى العبد لو أن كل دعائه لم يستجب له وأنه ادخر له إلى يوم القيامة. والله عز وجل يستجيب الدعوات ويعطي صاحبها إحدى ثلاث: إما أن يعجل الإجابة له سبحانه، ويعطيه ما سأل، وإما أن يصرف عنه من الشر بقدر هذا الذي سأل؛ لأنه لو نال هذا العبد الخير الذي طلبه لأتته مصيبة من المصائب أو أتاه شر، فالله سبحانه من رحمته لا يعطيه ما سأل، وإنما يصرف عنه ما نزل، سبحانه تبارك وتعالى، أو أنه يدخر ذلك للعبد إلى يوم القيامة. ولو تأمل العبد هذا لوجد هذا أفضل له. فالعباد فقراء إلى الله سبحانه، والله هو الغني وهو الذي يعطي سبحانه تبارك وتعالى من فضله ومن غناه. وهو الحميد المستحق للحمد على صفاته العظيمة، ومنها صفة الكرم، فهو الكريم سبحانه تبارك وتعالى، فإنه يعطي عباده عطاءً عظيماً، وكل عطائه عظيم سبحانه. والناس فقراء إلى الله وإن كانوا يقولون: نحن أغنياء. فقد يكون الإنسان مليونير، ويقول: أنا غني وحقيقته أنه مفتقر إلى الله؛ لأن المال مال الله وليس مال العبد، فالعبد وإن كان معه المال الكثير فهو فقير إلى الله. والفقير: محتاج. فلا يستغني أحد أبداً عن ربه سبحانه، وإن كان معه مال، فلعل الله يسلبه الصحة أو يبتليه بشيء، فيبقى فقيراً محتاجاً إلى الله مع أنه عنده المال والثروة وعنده كذا كذا. إذاً: كل إنسان يستشعر الحاجة إلى الله والذل إليه سبحانه تبارك وتعالى ويدعو ربه بالليل وبالنهار، ويسأله ويطلب منه. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} [فاطر:15].

شرح الحديث القدسي (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي)

شرح الحديث القدسي (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي) روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم عن رب العزة سبحانه أنه قال: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا. يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم. يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم. يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم. يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم. يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً. يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً. يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد أو كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه). فهذا الحديث العظيم فيه بيان ما ذكرنا من افتقار العباد إلى الله وحاجتهم إليه سبحانه. فقوله: (يا عبادي! كلكم ضال)، أي: أنتم مفتقرون إلى الهداية. (إلا من هديته)، أي: إلا من أنعمت عليه وتكرمت عليه فهديته إلى الصواب وإلى الدين الصحيح وإلى معرفة الرب سبحانه تبارك وتعالى، فنحن مفتقرون إلى هدى الله، ولذلك في كل صلاة نقرأ الفاتحة ونقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]. وقوله: (يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته). والذي يطعمنا هو الله سبحانه تبارك وتعالى. فقد خلق لنا رزقنا من طعام وشراب، وخلق لنا الأعضاء التي ننتفع بواسطتها بهذا الطعام والشراب. فعلى العبد أن يسأل ربه سبحانه: اللهم أطعمني. فيطعمه سبحانه تبارك وتعالى. فهو الذي خلق له هذا الرزق، وأتاه به، وهيأ له أسبابه، وجعله يأكل ويخرج، والله على كل شيء قدير. وقوله: (كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني)، أي: اطلبوا مني ولا تطلبوا من غيري، (فاستطعموني أطعمكم). وقوله: (يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته)، أي: لو شاء الله سبحانه لأذهب ما عندكم من كسوة، ولكنه بكرمه يعطي العباد ويكسوهم فاسألوه الكساء. وقد قال: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197]، أي: اتقوا الله سبحانه، فإنه يعلمكم ويطعمكم ويسقيكم ويكسوكم ويكفيكم ويؤويكم، فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي. يقول سبحانه في الحديث: (يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم). والعبد محتاج إلى ربه فهو خطاء بالليل وبالنهار، والله بكرمه يغفر بالليل وبالنهار لعباده. (فاستغفروني أغفر لكم). وقوله: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني)، أي: أن العبد مهما تقرب إلى الله فإن الله لا ينتفع من عمله بشيء، ومهما عصى ربه فلن يضر ربه شيئاً ولن يضر إلا نفسه. فالله غني عن خلقه وعن عبادتهم وقد ذكر الله في لحوم الأضاحي والهدايا التي يذبحونها لله سبحانه تبارك وتعالى أنه: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37]، أي: لن يأخذ الله اللحوم ولا الدماء لينتفع بها، ولكن الذي يريده الله سبحانه تبارك وتعالى ويصل إليه هو التقوى منكم. فاتقوا الله ليفيض عليكم بفضله وغناه، ويعطيكم من رزقه سبحانه وينصركم ويكون معكم. وقبل أن يخلق الله البشر خلق الملائكة، وقد كانوا أقوياء أتقياء لله سبحانه، لا يعصون الله شيئاً، ولكنه سبحانه أراد إظهار أثر أسمائه الحسنى وصفاته العلى، من أنه الغفور الكريم الغني القادر القاهر فوق عباده النافع الضار المعز المذل، فخلق الخلق لتظهر آثار صفاته وأسمائه الحسنى سبحانه تبارك وتعالى. فقال هنا لعباده: (لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً. ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً). فلو أن العباد كلهم كانوا فجاراً لما نقص ذلك من ملك الله شيئاً، ولو أنهم كلهم كانوا أتقياء أبراراً لما زاد ذلك في ملك الله عز وجل شيئاً. وقوله: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد)، أي: لو أن الخلق جميعهم الذين سيجمعهم الله يوم القيامة من إنس وجن ومخلوقات قاموا بين يدي الله سبحانه فسألوه وطمعوا في كرمه سبحانه وطلب كل منهم كل ما شاء وتمنى من الله عز وجل فأعطى كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عند الله إلا كما ينقص المخيط -أي: الإبرة- إذا أدخل البحر. وهذه الإبرة لو غمست في البحر ثم أخرجت فإنها لا تنقص من ماء البحر شيئاً. وكذلك لو أن الخلق كلهم سألوا الله عز وجل فأعطاهم ما سألوا لم ينقص ذلك من ملك الله عز وجل شيئاً. يقول: (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها)، أي: أعد عليكم أعمالكم ثم يوم القيامة أوفيكم إياها. (فمن وجد خيراً) وهو من الله (فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه). فقد أعذر إليه ربه سبحانه ووعظه ونصحه وأنزل عليه كتابه وأرسل إليه رسوله صلوات الله وسلامه عليه. ولا حجة للناس على الله بعد إنزال الكتب وإرسال الرسل عليهم الصلاة والسلام. إذاً: فالإنسان فقير مهما أوتي من المال، وهو محتاج إلى ربه، فليدعوه ليل نهار، فهو الفقير بذاته إلى ربه، والله هو الغني بذاته سبحانه تبارك وتعالى.

بيان كرمه سبحانه ونعمه على عباده

بيان كرمه سبحانه ونعمه على عباده روى الإمام أبو داود في سننه من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحوط المطر فأمر بمنبر فوضع له في المصلى، -يعني: أخرج المنبر أو صنع منبر ووضع في المصلى- ووعد الناس يوماً يخرجون فيه). قالت عائشة: (فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بدا حاجب الشمس)، يعني: خرج في أول وقت الضحى صلى الله عليه وسلم إلى المصلى ليصلي بالناس صلاة الاستسقاء، ويدعو ربه سبحانه أن يسقيهم، فقعد على المنبر صلوات الله وسلامه عليه، فكبر وحمد الله عز وجل، وهذا من أدب الدعاء وأدب الطلب من الله سبحانه تبارك وتعالى، ثم قال: (إنكم شكوتم جدب دياركم واستئخار المطر عن إبان زمانه)، أي: عن وقت زمانه عنكم. (وقد أمركم الله عز وجل أن تدعوه ووعدكم أن يستجيب لكم). ثم قال صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، ملك يوم الدين، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت أنت الغني ونحن الفقراء إليك، أنت إله واحد لا معبود حق سواك، وأنت الغني تعطي من يحتاج إليك، وتعطي عبادك ما يسألونك، وتعطي بغير سؤال، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغاً إلى حين، أنزل علينا الغيث). ولم يقل أنزل علينا المطر؛ لأن المطر قد ينزل رذاذاً من السماء لا ينتفع به، ولكن الغيث مطر كثير عظيم غزير وفير من الرب سبحانه تبارك وتعالى، ينقذ به عباده ويغيثهم مما هم فيه. ولما كان الغيث قد يكون ماءً كثيراً يغرق الناس قال صلى الله عليه وسلم في دعائه: (واجعل ما أنزلت لنا قوة)، أي: اجعله يقوينا، فلا يضيعنا ولا يهلكنا. وقوله: (وبلاغاً إلى حين). أي: يبلغنا إلى حين أن يريد الله سبحانه تبارك وتعالى ويشاء. قال: (ثم رفع يديه فلم يزل في الرفع حتى بدا بياض إبطيه)، يعني: رفع يديه رفعاً شديداً إلى السماء، وقلب كفيه إلى السماء صلوات الله وسلامه عليه، استبشاراً بأن ينزل الله المطر، وأيضاً بتحويل الحال، وقلب رداءه الذي يلبسه فوق منكبيه ظهراً لبطن أيضاً، استبشاراً بتغير الحال. (ثم أقبل على الناس ونزل فصلى ركعتين صلوات الله وسلامه عليه، فأنشأ الله سحابة فرعدت وبرقت). وقد كانت السماء صافية، فإذا بالله عز وجل ينشئ سحابة فخرجت أمام الناس، (فأنشأ الله سحابة فرعدت وبرقت ثم أمطرت بإذن الله، قال: فلم يأت مسجده حتى سالت السيول) وهذا من فضل الله واستجابته لرسوله صلوات الله وسلامه عليه، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم سرعتهم إلى الكن ضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، فقال: (أشهد أن الله على كل شيء قدير، وأني عبد الله ورسوله). ونحن نشهد أن الله على كل شيء قدير، وأنه عبد الله ورسوله صلوات الله وسلامه عليه. فهذا فضل الله سبحانه، وهذا دعاء نبيه الكريم يدعوه: أنت الغني ونحن الفقراء إليك.

القراءات الواردة في الآية

القراءات الواردة في الآية قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15]. وهنا همزتان همزة مضمومة والأخرى مكسورة. وقد كان بعض العرب يصعب عليهم أن يقرأوا همزتين متتاليتين، ولذلك كانوا يخففونها. وقد قال الخليل وغيره من أئمة اللغة: والتخفيف هو الأيسر أو الأصوب عند العرب. فالقراء منهم نافع وأبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو ورويس عن يعقوب يقرءونها: (أنتم الفقراء الى الله)، وفي قراءة أخرى: (أنتم الفقراءُ لى الله) بالهمزة في الأولى والتخفيف في الثانية. وباقي القراء يقرءونها بهمزتين: {أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [فاطر:15]. فعند التقاء الهمزتين كان العرب يحذفون إحدى الهمزتين تخفيفاً، ويعتبرون ذلك أجود في اللغة. ومن ذلك قراءة حفص في قوله تعالى: (أآعجمي وعربي)، أصلها (أأعجمي وعربي)، ولكنه سهلها؛ لأنها أخف على ألسنة البعض من العرب.

تفسير قوله تعالى: (إن يشأ يذهبكم وما ذلك على الله بعزيز)

تفسير قوله تعالى: (إن يشأ يذهبكم وما ذلك على الله بعزيز) يقول الله سبحانه: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} [فاطر:16]. أي: إن يشأ سبحانه تبارك وتعالى يهلك ويفني هؤلاء الموجودين الذين يعصون الله ويكفرون به، ويأتي بخلق آخرين يعبدون الله ولا يعصونه ولا يكفرون به سبحانه. قال تعالى: {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فالطر:17] أي: أن الذي بدأ الخلق قادر على أن يعيده، وليس ذلك بممتنع عليه، وعزيز هنا بمعنى: ممتنع. قال تعالى: {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر:17]، أي: وما ذلك على الله بالشيء الصعب والمتعذر، ولكنه من أسهل ما يكون، فإنه إذا أراد شيئاً إنما يقول له: كن فيكون.

تفسير قوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى)

تفسير قوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [فاطر:18]. والوزر بمعنى: الحمل. والمقصود به: الحمل من الإثم، أي: ما يحمله من آثام وذنوب. فقوله: ((وَازِرَةٌ))، يعني: نفس محملة بالذنوب. وقوله: ((وَلا تَزِرُ))، يعني: لا تحمل عنها. إذاً: فقوله: ((وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى))،يعني: أن النفس المحملة بالآثام لا تحمل إثماً من آثام نفس ثانية. أي: أن أهل الإثم والمعاصي لا أحد يحمل شيئاً عن الثاني. وقد كان الكفار يقول بعضهم لبعض ذلك: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} [العنكبوت:12]، أي: نحن نحملها عنكم، فقد كانوا عجباً في الغباء. وأحدهم عندما سمع قوله تعالى عن النار: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:30] وكان يكنى بـ أبي الأشدين وكان من العرب الأقوياء جداً، وكان غباؤه على قدر قوته. قال: يا معشر قريش اكفوني منهم اثنين وأنا أكفيكم منهم سبعة عشر. وهذا من الغرور والغباء، وإلا فهو يتكلم عن ملائكة الله ولم يراهم. ومثل هذا الكلام كان يعجب الحمقى والمغفلين من المشركين ويهون عليهم الأمر. فيصدقونه في هذا التخريف الذي يقوله. وكان بعضهم يقول لبعض: اعمل هذا الشيء وعلي ذنبه، أي: أنا سأحمل عنك الذنب، فيصدقه في هذا الأمر، ويعمل هذا العمل. وإلى الآن موجود مثل هؤلاء الحمقى والمغفلين، يقول أحدهم للآخر: اعمل هذا العمل وعلى ذنبه ولا تخف. وقد قال تعالى: ((وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى))، أي: أنت تحمل ذنبك ومثل ذنبه، وأما ذنبه فهو يحمله، (فمن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاً). فكل واحد يحمل ذنبه فقط، ولكن هذا عليه عذاب ذنبه وعذاب مضاعف؛ لأنه سن للباقين، من غير أن يخفف عن الآخرين شيئاً. فالناس الآثمة المحملة بالذنوب عليهم ذنوبهم وأمثال ذنوب من أضلوهم في هذه الحياة الدنيا. ولذلك الضعفاء من أهل النار عندما يقولون لله سبحانه تبارك وتعالى عن الأقوياء الذين أضلوهم: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ} [الأعراف:38]، أي: هؤلاء هم السبب فآتاهم عذاباً ضعفاً. يقول الله عز وجل: {لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:38]. أي: هؤلاء عذابهم مضاعف، وأيضاً أنتم عذابكم مضاعف، ولكن لا تعلمون ما الذي ادخره لكم الله عز وجل عنده من عذاب نسأل الله العفو والعافية. قال عكرمة: بلغني أن الرجل ليأتي إلى أبيه يوم القيامة فيقول: ألم أكن بك باراً وعليك مشفقاً وإليك محسناً؟ ألا ترى ما أنا فيه؟ فهب لي حسنة من حسناتك أو احمل عني سيئة. فيقول الأب: إن الذي سألتني يسير، ولكني أخاف مثلما تخاف. فكل إنسان خائف. فالأب يهرب من ابنه، والابن يهرب من أبيه. ويكون حال الزوج مع زوجته، والزوجة مع زوجها نفس حال الابن مع أبيه. فكل منهما يذهب للآخر ويقول: أعطني حسنة، فيقول: والله إن الأمر سهل، ولكن أخاف أنك لو أخذت الحسنة ينقص ميزاني وأدخل بسببها النار. فيهرب كل منهم من الآخر ويقول: إني أخاف مما تخاف ثم تلا عكرمة قوله تعالى: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [فاطر:18]. وأما الأم فقال الفضيل بن عياض: إن المرأة تلقى ولدها فتقول: يا ولدي ألم يكن بطني لك وعاء؟ ألم يكن ثديي لك سقاء؟ ألم يكن حجري لك وطاء؟ فيقول: بلى يا أماه. فتقول: يا بني! قد أثقلتني ذنوبي فاحمل عني منها ذنباً واحداً. فيقول: إليك عني يا أماه فإني بذنبي عنك مشغول. وكل إنسان يوم القيامة يقول: نفسي نفسي، حتى الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كلهم يقول: نفسي نفسي. إلا نبينا صلوات الله وسلامه عليه فيقول: (يا رب أمتي، يا رب أمتي). فعلى كل إنسان أن يستعد لهذا اليوم الفظيع ويعمل له ويعد له. قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا} [فاطر:18]، يعني: مثقلة بالذنوب، أي: أنها تحمل أحمالاً كالجبال يوم القيامة.

شدة الحساب يوم القيامة

شدة الحساب يوم القيامة إن يوم القيامة يوم عظيم وعجيب. وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم الناس منه وقال لهم: (لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته بعير له ثغاء أو بقرة لها ثغاء أو شاة تيعر). وذكر أصنافاً من المال يحملها الإنسان على رقبته يوم القيامة. وذكر صلى الله عليه وسلم الإنسان الذي يغتصب أرضاً وأنه يطوقه يوم القيامة من سبع أراضين. فكل إنسان يحمل جريمته يوم القيامة. قال الله سبحانه: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ} [فاطر:18]، يعني: نفس مثقلة بالآثام والذنوب. {إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌُ} [فاطر:18]، أي: لا أحد يحمل عنها هذا الحمل، ولا أحد يحمل منه شيئاً. وإنما كل إنسان يحمل ما أخذه في الدنيا. فلا يحمل أحد عن أحد شيئاًً ولو كان ذا قربى، ولو كان أباك أو أخاك أو أمك أو أختك أو عمك أو عمتك أو خالك أو خالتك. قال تعالى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ} [فاطر:18]، يعني: الذين ينفعهم الإنذار والتخويف هم الذين يخافون من الله سبحانه، ويخافونه بالغيب. وأما غيرهم فلا يخافون إلا إذا جاءتهم القيامة ورأى كل منهم الجنة والنار أمامه فيخافون من أن يحرموا الجنة ويدخلوا النار. قال الله سبحانه: {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} [فاطر:18]. فعبر عنهم بأنهم يخشون ربهم ويقيمون الصلاة؛ لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر. فهم يخشون الله، وصلاتهم تزيدهم خشية من الله سبحانه، فيبتعدون عما حرمه سبحانه. قال تعالى: {وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} [فاطر:18]. وتزكى بمعنى: اهتدى. وأصل التزكية: التطهر. فزكى نفسه أي: طهرها.

الأمر بتطهير النفوس

الأمر بتطهير النفوس إن الله سبحانه تبارك وتعالى أمرنا بتزكية النفوس فقال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:9]. ونهانا عن التزكية فقال: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32]. ولا شك أن هذا غير هذا. فقد أمرنا بالتزكية وأخبر عن الجزاء فيها فقال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:9]. فمن طهر نفسه من الشرك بالله سبحانه، ومن المعاصي والذنوب، وأقبل على الله سبحانه واتبع سبيله سبحانه تبارك وتعالى فقد أفلح. وأما قوله تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ} [النجم:32] فالمقصود به تزكية النفس بالمدح، والتكلم عن النفس، وكأن الإنسان هو الذي هدى نفسه ورزقها، فيتكلم ويمدح نفسه ويقول أنه: أفضل من فلان وأحسن من فلان وعنده أكثر من فلان. قال تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32]. وقد يقول الإنسان: إن إيمانه أكثر من إيمان فلان، وأنه يعمل كذا وهو لا يعمل هذا الشيء. وقد نهي عن هذا. قال تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ} [النجم:32]، أي: لا تمدحوا أنفسكم. ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يمنع الصحابة من أن يمدح بعضهم بعضاً في وجهه، ويقول لمن فعل ذلك: (قصمت ظهر أخيك)؛ لأنه إذا مدحه في وجهه فقد يعمل بعد ذلك العمل يرائي به، فكأنه بهذا قصم ظهره. وقال صلى الله عليه وسلم: (احثوا في وجوه المداحين التراب)؛ لأن المدح يغر الناس في أنفسهم ويغرهم في دينهم. والتزكية التي مدحها الله هي: التطهر من الشرك والمعاصي والذنوب، والتقرب إلى الله. هذه هي التي أمر الله عز وجل العبد بها وأخبر بأنه {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:10] أي: من نجسها بالكفر وبالشرك وبأدران المعاصي وما فيها من قذر. قال الله سبحانه: {وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [فاطر:18]، أي: أن الإنسان الذي يفعل الصالحات فجزاؤه لنفسه. وعمله عائد إليه، ومنفعته ترجع إليه يوم القيامة. وإلى الله المرجع فيجازي العباد على ما قدموا. وقد جاء في سنن النسائي من حديث ثعلبة بن زهدم اليربوعي قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في أناس من الأنصار فقالوا: يا رسول الله! هؤلاء بنو ثعلبة بن يربوع قتلوا فلاناً في الجاهلية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم وهتف بصوته: ألا لا تجني نفس على الأخرى)، يعني: ليس هؤلاء الذين قتلوه. أي: لا تزر وازرة وزر أخرى لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولا يحمل أحد عن أحد شيئاً، ولا يحمل الإنسان ما فعله غيره إلا أن يكون هو الذي سنه له، وهو الذي علمه أن يصنعه ويفعله. فلا تجني نفس على الأخرى، فالقاتل هو الذي يقتل، فإذا لم يعف أهل القتيل فعليه القصاص الذي أخبر به الله سبحانه، أما أن يقتل غير القاتل لكونه من القبيلة نفسها فهذا من أفعال الجاهلية التي لا يقرها الإسلام ومنعها. فالجاني عقوبته وإثمه على نفسه. والسارق تقطع يده ولا تقطع يد غيره، من قريب ونحوه. فلا أحد يحمل عن أحد شيئاً في كل الذنوب، سواء في الدنيا أو في الآخرة. وروى أبو داود من حديث أبي رمثة قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من هذا معك؟ قال: ابني أشهد به) كأنه ظن أن النبي صلى الله عليه وسلم يتشكك فيه فقال: ابني أشهد به. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما إنك لا تجني عليه ولا يجني عليك). إذاً: فالمقصد من السؤال هو البيان له ولغيره أنه لا يحمل أحد عن الآخر إثمه، ولا تجني نفس على أخرى ولكن تجني على نفسها، ويحاسب كل الإنسان بذنبه لا بذنب غيره. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة فاطر [19 - 28]

تفسير سورة فاطر [19 - 28] إذا كان من الظلم والحيف التسوية بين متغايرين، فكيف يظن بالعدل سبحانه أن يسوي بين المؤمن والكافر، والعاصي والمطيع في الجزاء؟! إنه بلا شك لا يسوي من آمن بمن كفر، ولا صاحب القلب الحي والضمير اليقظ الذي يستلهم آيات الله في الكون ليستدل على الله، بصاحب القلب الميت والأذن الصماء عن سماع الهدى، والعين العمياء عن رؤية نور الآيات في الكون.

أمثلة تضرب لبيان الفرق بين الكفر والإيمان

أمثلة تضرب لبيان الفرق بين الكفر والإيمان الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة فاطر: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ * إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ * وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ * ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر:19 - 28]. يبين الله سبحانه تبارك وتعالى لعباده ما الكفار عليه من ظلم لأنفسهم وضلالة وظلمة وبعد عن الهدى، وما يصيرون إليه يوم القيامة من دخول النار، كما يبين ما عليه المؤمن من نور وإيمان وطاعة لله سبحانه تبارك وتعالى، بضرب هذه الأمثلة للناس فقوله: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ} [فاطر:20 - 22] أمثلة يضربها الله عز وجل لبيان الشيء ونقيضه، حتى يتبين لمن يعقل أن هناك فرقاً بين هذا وذاك، فكل من يبصر يفهم الفرق بينهما, وجملة الأمثلة التي ضربها لنا الله سبحانه تبارك وتعالى مسوقة لبيان أنه لا يستوي الإنسان المؤمن مع الإنسان الكافر؛ لأنه لا يستوي الإيمان مع الكفر، فإذا كان الله سبحانه تبارك وتعالى قد أمر العباد بالطاعة فأطاعه قوم وعصاه آخرون، فهل يستوي مآل الجميع بأن يصيروا تراباً ثم لا بعث ولا نشور، ولا قيام من القبور، ولا حساب يوم القيامة، ولا جنة ولا نار؟ هذا بعيد جداً، إن عقل الإنسان يقول: لا. لا يستوي أبداً من عمل بالطاعة ومن عمل بالمعصية، لا يستوي من أسلم وآمن ومن كفر وترك دين الله سبحانه تبارك وتعالى، لا يستوون كما أنه لا يستوي الأعمى مع المبصر، لا يستوون كما لا تستوي الظلمة مع النور، ولا الظل مع الحرور، ولا الحي مع الميت، فكل عاقل يفهم ذلك فلا يستوي أبداً المؤمن الذي أطاع الله سبحانه مع الكافر الذي كفر بالله وعصى الله سبحانه تبارك وتعالى, قال سبحانه: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} [فاطر:19] والعمى هنا: عمى القلب كأنه يقول: الكافر كهذا الأعمى فهو أعمى عمى ضلالة لا يعرف الحق، وكأنه غشي على بصره فلا يريد أن يفهم أو يتفهم ما جاء به النبي صلوات الله وسلامه عليه، ثم يردف بمثل آخر وهو قوله سبحانه: {وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ} [فاطر:20] إذا وجد الإنسان طريقاً مظلماً فإنه يبتعد عنه وإذا وجد طريقاً منيرا فإنه يسير فيه، فلا يستوي هذا مع ذاك، إذ أن هذا طريق يعرض عنه كل من ينظر ويرى، وهذا طريق يسلكه كل من ينظر ويرى، فالإيمان طريق النور، ومن يعرف الحق فلا تستوي الظلمة مع النور. ثم قال سبحانه مؤكداً: {وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ} [فاطر:21] أي: لا يستوي المكان الظليل مع المكان الشديد الحر تحت وهج الشمس، وكأن في الآية إشارة إلى مصير هؤلاء فالمؤمن مصيره كما قال الله سبحانه: {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا} [النساء:57] والكافر مصيره إلى نار السموم وإلى عذاب أليم، فهل يستوي هذا مع ذاك فكأن الظل إشارة إلى مآل المؤمن وأنه إلى الظل الظليل في الجنة, وكأن الحرور إشارة إلى النار والسعير؛ لأنها مآل الكافر، فلا تستوي الجنة مع النار والمثال مسوق لبيان عدم استواء الإيمان مع الكفر، ومضرب المثل يقول: لو كنت في الفلاة ووجدت مكاناً فيه شمس حارة ومكاناً آخر ظليلاً، فهل تترك هذا المكان الظليل لتكون تحت الشمس؟ لا شك أنه لا عقل لمن يقول بهذا الشيء، الحرور: تطلق على الرياح الساخنة الشديدة، ويطلق على اليوم الحار شديد الحرارة وجاء في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قالت النار: ربي أكل بعضي بعضاً فأذن لي أن أتنفس فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فما وجدتم من برد أو زمهرير؛ فمن نفس جهنم وما وجدتم من حر أو حرور؛ فمن نفس جهنم)، وفي الحديث تذكرة للعباد، وبيان أن أشد يوم يكون على الناس برده؛ فإنه من نفس جهنم، وأن أشد يوم يكون على الناس حره؛ فإنه من نفس النار, وكما أن الحر الشديد لا يستوي مع البرد وكذلك المكان الظليل لا يستوي مع المكان الشديد الحر؛ فكذلك مصير المؤمن لا يستوي مع مصير الكافر. ثم يتبعه بمثال آخر فيقول: {وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ} [فاطر:22] الأحياء المراد بهم المؤمنون فهم أحياء يفهمون ويفقهون، وحياتهم لها قيمة، فيوم القيامة يجزون عليها أفضل الجزاء على الأعمال الصالحة, أما الكفار؛ فإن حياتهم موت لا قيمة لها، وإنما هي حياة تستجلب عليهم عذاب رب العالمين، لأنهم فيها أنكروا ربهم سبحانه وأنكروا عبادته ولم يتوجهوا إليه بل أشركوا معه غيره، فصدق عليهم أنهم أموات ضيعوا هذه الحياة ولم يستغلوها لتكون لهم الحياة الدائمة عند الله عز وجل في جنة الخلود، ولذلك لا يستوي الأحياء وهم المؤمنون مع الأموات وهم الذين كفروا بالله سبحانه تبارك وتعالى ولم يستمعوا إلى موعظة النبي صلى الله عليه وسلم.

تفرد الله سبحانه بهداية البشر

تفرد الله سبحانه بهداية البشر أخبر تعالى عن مشيئته في هداية الخلق فقال: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ} [فاطر:22] قوله: يسمع، بمعنى: يهدي، أي: يسمع سمع إجابة، وفي الآية يبين الله سبحانه تبارك وتعالى أنه يهدي من يشاء ويضل من يشاء، فمع أن الجميع سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن هناك فرق بين من سمع فانتفع، ومن استمع لما قاله النبي صلى الله عليه وسلم على وجه المعاندة والمشاقة والمحادة فلم ينتفع، فالله سبحانه هو الذي أسمع هذا فانتفع وهو الذي لم يسمع هذا فلم ينتفع، والمعنى: أن الله يهدي من يشاء إلى أن يأخذ بكتاب الله عز وجل ويعمل به, قال سبحانه: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22] يخاطب الله نبيه صلى الله عليه وسلم فيقول له: لست تسمع من في القبور، أي: الأموات؛ فالأموات لا يسمعون إلا أن يشاء الله سبحانه تبارك وتعالى، إذاً الأصل أن الميت لا يسمع كلام الأحياء! إلا أن يجعل الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم كرامة ومعجزة أن يسمع بعض هؤلاء الأموات، كأن ينادي عليهم فيسمعون ما يقوله صلوات الله وسلامه عليه, لكن الأصل قوله سبحانه {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22] وقوله سبحانه {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل:80]، وفي قوله سبحانه: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22] إشارة إلى أن هؤلاء الكفار صاروا إلى حال أهل القبور؛ لعدم الجدوى في سماعهم، فإنهم يسمعون النبي صلى الله عليه وسلم وهم متحيرون شاكون، كما أنهم لا يحاولون أن يفهموا ما يقوله النبي صلوات الله وسلامه عليه، فكأنهم أموت في قبورهم.

بيان عدم سماع الأموات كلام الأحياء

بيان عدم سماع الأموات كلام الأحياء الأصل أن الميت انقطع عن هذه الدنيا فلا يسمع شيئاً من أمر الدنيا، وأن الأموات في قبورهم إذا جاء عليهم ميت جديد تلتقي أرواحهم عند الله سبحانه تبارك وتعالى في البرزخ، فيسألون هذا الذي جاء عليهم: ما فعل فلان؟ ما فعل فلان؟ ما فعل فلان؛ لأن الأموات لا يعرفون شيئاً عن الدنيا إلا بما يخبرهم من ذهب إليهم من الأموات، فإذا كان الميت من أهل الإيمان؛ التقت روحه مع أرواح أهل الإيمان في وقت يشاء الله سبحانه تبارك وتعالى، فيسأل أهل القبور هذه الروح التي جاءت إليهم: ما فعل فلان؟ يقول: تزوج، ما فعلت فلانة؟ يقول: تزوجت، ما فعل فلان؟ فيقول أما جاءكم؟ فيقولون: ذهب به إلى أمه الهاوية، فما دام أن فلاناً مات ولم يأت إلينا في هذا المكان الذي فيه أرواح المؤمنين، فقد ذهب به إلى الجحيم والعياذ بالله, فقوله سبحانه: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل:80] يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يسمع الموتى ولا غيره يسمعهم، إلا أن يشاء الله سبحانه تبارك وتعالى، كما أذن الله سبحانه تبارك وتعالى لنبي من أنبيائه في إحياء الموتى بإذن الله، وهو المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ولم يأذن له بإحياء كل الموتى ولكن بإحياء ميتٍ ليكون آية من آيات الله سبحانه تبارك وتعالى، فالأصل أن الميت لا يرجع إلى الدنيا أبدا ولكن الله سبحانه يجعل معجزة لأحد من خلقه في ذلك؛ لإثبات نبوته ورسالته عليه الصلاة والسلام, وكذلك نبينا صلوات الله وسلامه عليه، فقد جعل الله عز وجل له معجزات كثيرة، من ضمن هذه المعجزات أنه أسمع الموتى في بدر، فقد جاء في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه: (أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلاً من صناديد قريش فقذفوا في طوي من أطوى بدر خبيث مخبث) أي: أن أربعة وعشرين رجلاً من قتلى الكفار، قتلوا في المعركة فأنتنوا، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يرموا في بئر من الآبار المفتوحة وطم البئر عليهم فقال: (قذفوا في طوي من أطوى بدر خبيث مخبث) أي: بئر ليس عليها سور ثم قال: (وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليالي) والعرصة: هي الأرض المنبسطة يريد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا انتصر على قوم أقام بأرض المعركة ثلاثة أيام (فلما كان ببدر اليوم الثالث، أمر براحلته فشد عليها رحلها، ثم مشى واتبعه أصحابه وقالوا: ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته) يتساءلون أين يريد النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الثالث وهو في مكان بدر؟ قال أنس: (فانطلق النبي صلى الله عليه وسلم حتى قام على شفة الركي) أي: البئر التي ألقي فيها هؤلاء الكفار، (فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء أبائهم يا فلان ابن فلان! أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله) أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينادي عليهم وقد دفنوا قبل ثلاثة أيام فيقول: (يا فلان ابن فلان! ويا فلان ابن فلان! هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فقال عمر يسأل النبي صلى الله عليه وسلم: ما تكلم من أجساد لا أرواح لها!) أي: أنت تكلم أجساداً ليس فيها أرواح فلن يسمعوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمر: (والذي نفس محمدٍ بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم) فدل على أن الله عز وجل في هذا الوقت وفي هذه الحالة أسمعهم نداء النبي صلوات الله وسلامه عليه، قال قتادة الراوي عن أنس: أحياهم الله حتى أسمعهم قول النبي صلى الله عليه وسلم توبيخاً وتصغيراً وحسرة وندماً. هذا لفظ الإمام البخاري، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نادى عليهم وعمر كأنه تعجب من ذلك فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يخبر أن الله أسمعهم ما قاله) صلوات الله وسلامه عليه، وجاء في حديث آخر رواه الإمام البخاري ومسلم أيضاً من حديث هشام بن عروة عن أبيه أنه ذكر عند عائشة رضي الله عنها أن ابن عمر رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الميت ليعذب ببعض بكاء أهله عليه) فلما قالوا ذلك لـ عائشة رضي الله عنها قالت: وهل أي: لم يأخذ انتباهه، والوهل: أن يسرح الإنسان عن الأمر فيتكلم عن شيء بغير ما هو عليه، فكأن عبد الله بن عمر وهل أخطأ في حدسه وفي ظنه حيث ظن أن الكلام على شيء وهو على شيء آخر، وهذا قول عائشة رضي الله تبارك وتعالى عنها، ثم قالت: إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنه ليعذب بخطيئته وذنبه، وإن أهله ليبكون عليه الآن قالت: وذاك مثل قوله: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على القليب وفيه قتلى بدر من المشركين فقال لهم ما قال: إنهم ليسمعون ما أقول، إنما قال: إنهم الآن ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق). ثم قرأت {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل:80] {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22] فأنكرت عائشة رضي الله عنها أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أسمع أهل القليب، واحتجت بقول الله سبحانه {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل:80] وقوله سبحانه: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22] وخطأت عبد الله بن عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، بمجرد الرأي وهذا فيه نظر؛ لأن ابن عمر رفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فـ ابن عمر قد سمع هذا من أبيه عمر يحكي عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يقال أن ابن عمر سمع ذلك من النبي صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه كان صغيراً رضي الله عنه حين وقعت معركة بدر فلم يحضر مع النبي صلى الله عليه وسلم بدراً، وإنما حضرها عمر، وهو الذي تعجب من نداء النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء فسمع ابن عمر هذا الذي حدث به من أبيه عمر رضي الله وتبارك وتعالى عنه، كما أن القاعدة أنه إذا أثبت الراوي عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً ونفى آخر فالمثبت مقدم على النافي؛ لأن المثبت حجة على النافي, كما أن النافي ليس معه علم بالأمر وغاية ما ظهر من نفيه أنه لا يعلم أما المثبت فمعه علم جديد، وهنا أنكرت عائشة رضي الله عنها وقالت: وهل ابن عمر رضي الله عنه وخطأته في حديثه، والظاهر أن الصواب مع ابن عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه, وأن عائشة رضي الله عنها غاية مقالها أنها احتجت بالآية, حيث تقول: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل:80] وهو استدلال صحيح، فإن النبي لا يسمع الموتى، ولكن لا مانع من أن يحيي الله عز وجل له بعضهم حتى يسمعوا منه صلوات الله وسلامه عليه, فيكون الأصل: أنه لا يسمع الموتى صلوات الله وسلامه عليه ولا يسمع من في القبور، ولكن أسمعهم النبي صلوات الله وسلامه عليه في هذه الواقعة فحسب كما قال ابن عمر وجاء عن عمر رضي الله تبارك وتعالى عنهما، أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم حين ناداهم: (ما تسمع من أجساد قد جيفت؟ أو ما تسمع من أموات لا أرواح فيهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما أنتم بأسمع منهم ولكن لا يجيبون) ففي الحديث أن عمر أنكر على النبي صلى الله عليه وسلم حين سمعه يكلم الموتى، وفي هذا دليل على أن عمر وعى وعرف من النبي صلى الله عليه وسلم أنهم سمعوا كلامه، أما عائشة رضي الله عنها؛ فإنها لم تحضر الحدث، وإنما أنكرت احتجاجاً بالآية، والآية عامة، والعام يجوز تخصيصه فيكون المعنى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل:80] إلا أن يشاء الله عز وجل، فالله عز وجل أسمع له صلوات الله وسلامه عليه هؤلاء الكفار وهم في قبورهم.

الميت يعذب ببكاء أهله عليه إذا كان من سنته

الميت يعذب ببكاء أهله عليه إذا كان من سنته ومثل ذلك ما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه)، وفي رواية: (ببعض بكاء أهله عليه) فإن عائشة رضي الله عنها قد خطأت الراوي أيضاً وهو عبد الله بن عمر رضي الله عنه وقالت له: الحديث ليس هكذا، وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه ليعذب بخطيئته وذنبه وإن أهله ليبكون عليه الآن) فالحديث يحتمل أن عائشة رضي الله عنها سمعت ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم كما يحتمل أنها لم تسمع، ولكن ابن عمر سمع من النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الميت ليعذب ببعض بكاء أهله عليه) وقد احتجت عائشة رضي الله عنها بقوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] وهو استدلال صحيح، ولكن لو أن الميت أوصى أهله بالبكاء عليه، أو علم من حال أهله أنهم في الجنائز يصوتون ويصرخون، ويندبون حظهم، ويتضجرون من قضاء الله سبحانه ولم ينكر عليهم ذلك؛ فإنه يعذب ببكائهم، وفيه أن الإنسان إذا مات وصرخت عليه النائحة فقالت: وا بعلاه فإن الملائكة يؤنبون هذا الإنسان ويقولون له: أنت كذلك! أنت كذلك! وكذا لو ندبت وقالت: يا من كان يطعمني! أو: يا من كان يسقيني، فإن الملائكة تنهر هذا الميت وتقوله: أنت كنت كذلك؟ أنت كنت كذلك؟ منكرين عليه؛ لأن الذي يطعم ويسقي هو الله سبحانه تبارك وتعالى وهو الرزاق ذو القوة المتين، وإنما يأخذ الإنسان حاجته من رزق الله سبحانه تبارك وتعالى كما أنه وإن صح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه، فإن الصحيح أن الميت لا يعذب بكل بكاء أهله عليه فقد جاء في الحديث: (إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا: وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون) فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك حين توفي ابنه إبراهيم وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم بكى على إبراهيم فدل على أن البكاء على الميت جائز وأن الميت لا يعذب به، وإنما يعذب الإنسان بفلتات لسانه وما يقوله تضجراً على الله سبحانه تبارك وتعالى وتبرماً بقضاء الله وقدره سبحانه. ولذا فإن الميت يعذب ببكاء أهله عليه إذا صرخوا وندبوا، أما البكاء الذي يسيل فيه الدمع من العين ويحزن ولا يصرخ فيه الإنسان ولا يندب حظه، ولا يشق ثوبه، ولا ينتف شعره؛ فإن الميت لا يعذب به، كما يجدر التنبيه على أن الحي الذي يفعل ذلك وهو الندب والشق، إن لم يتب إلى الله عز وجل فإنه يعذب يوم القيامة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (النائحة إذا لم تتب تأتي يوم القيامة وعليها سربال من جرب ورداء من قطران) أي أنها تعذب في نار جهنم، والعياذ بالله.

مهمة الداعية الإنذار والتبشير

مهمة الداعية الإنذار والتبشير يقول الله سبحانه تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} [فاطر:23] إن في الآية بمعنى ما النافية والمعنى: ما أنت إلا نذير، وهذا أسلوب قصر أي: إن وظيفتك الوحيدة أنك رسول منذر ومبشر قال تعالى في سورة البقرة: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} [البقرة:119]، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أي: أرسلناك لتنذر الذين يشركون بالله ويعبدون غيره، وتخوفهم من عذاب الله ونقمته، وتقيم عليهم الحجة من الله سبحانه، كما أن في قوله سبحانه: {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} [فاطر:23] ليس بيدك يا محمد! أن تحول هؤلاء من كفر إلى إيمان فليس لك أن تهدي من تشاء بل الله يهدي من يشاء قال سبحانه: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]، ثم قال سبحانه: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ} [البقرة:119] أي: بهذا القرآن العظيم الذي أنزلناه عليك من السماء، كما يحتمل المعنى أن يكون: إنا أرسلناك بالدين الحق ولا منافاة بين المعنيين، ثم قال: {بَشِيرًا} [البقرة:119] أي: لتبشر من آمن وعمل الصالحات بجنات الخلود قوله: {وَنَذِيرًا} [البقرة:119] أي: نذيراً للكفرة والمجرمين بنار لهم فيها عذاب السموم، ثم قال سبحانه: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24] أي: ما من أمة إلا وقد أرسل الله عز وجل فيهم من ينذرهم من عذاب الله ومن يبشرهم برحمة الله، وخلا في الآية بمعنى: سلف ومضى.

الهلاك عاقبة التكذيب

الهلاك عاقبة التكذيب قال سبحانه وتعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [فاطر:25] أي: لست أول رسول يكذب فقد كذبت الأمم السابقة لرسلنا إليهم المؤيدين بالبينات والحجج قال تعالى: {جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} [فاطر:25]، البينات: هي الحجج الواضحات، سواء بينات عقلية يخاطبهم الله عز وجل بها، أو أشياء بصرية ينظرون إليها من معجزات حسية تدلهم على قدرة الله سبحانه، وتثبت لهم أن هذا رسول من عند الله، أو بكتب ينزلها على رسله يعرفون منها الحق من الباطل، قوله: {وَالزُّبُرِ} [آل عمران:184] هي: الكتب المزبورة المنزلة من عند الله على رسله ومعنى: مزبورة: أي: مكتوبة، وزبر الكتاب بمعنى: كتب الكتاب، فقوله: {وَبِالْكِتَابِ} [فاطر:25] أي: بجنس الكتاب وأل هنا هي الجنسية، والمعنى: الرسالة التي جاءت إلى هؤلاء الأنبياء من عند رب العالمين سبحانه واللفظ يشمل: كل كتاب قوله: {الْمُنِيرِ} [فاطر:25] نعت للكتاب والكتاب المنير: أي البين الواضح الذي يبصر ما فيه من الحق من هداه الله سبحانه تبارك وتعالى، ثم قال سبحانه: {ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [فاطر:26] يخبرنا سبحانه تبارك وتعالى عن أخذه، وهو القائل عن نفسه: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج:12]، وإذا أخذ الله الكفار فلن يفلت من عذابه أحد منهم، بل سيأخذهم جميعهم ولن يقدروا على الهرب من الله سبحانه، قوله: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [الحج:44] , أي: فكيف كان إنكاري عليهم بعقوبتي إياهم، فهم حين فعلوا المنكرات أنكرت عليهم، فأرسلت إليهم الرسل؛ ليبينوا لهم ويوجهوهم ولكنهم أصروا على كفرهم وتكذيبهم، ثم أنكرت عليهم بالقول فأرسلت بالكتاب الرسول، فلم يؤمنوا بل ازدادوا تكذيباً وعتواً، ثم أنكرت عليهم بالفعل فأخذتهم فكيف كان نكيري وفي الآية قراءات منها: إذا وصلت هذه الآية بالتي تليها فقراءة ورش (فيكف كان نكيري ألم تر) وأما يعقوب فيقرأ بالياء وقفاً ووصلاً فيقرأ (نكيري) ونكيري: إنكاري، وباقي القراء يقرءونها وصلاً ووقفاً: (فكيف كان نكير) وإذا وقفوا يقفون بالسكون، وإذا وصلوا فينطقون بالكسرة فيقولون: (كيف كان نكير ألم تر) بالكسر من غير ياء.

آيات الله في الكون تدل على عظمته

آيات الله في الكون تدل على عظمته قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا} [فاطر:27] أي: ألم تر بقلبك ما فعله الله سبحانه تبارك وتعالى حيث أنزل من السماء ماء فأخرج به ثمرات مختلفة الألوان والأشكال {فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا} [فاطر:27] إن الله الخالق واحد لا شريك له، وهو الذي يستحق العبادة وحده فانظر إلى آياته سبحانه، فهو واحده الذي خلق: الأعمى والبصير، والظلمات والنور، والظل والحرور، والجنة والنار، والكافر والمؤمن، والسموات والأرض، والجبال والبحار، والأشجار والأنهار، لا شريك له سبحانه يخلق ما يشاء، وينوع ما يشاء في خلقه سبحانه تبارك وتعالى، ففي قوله تعالى: ((اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً)) أمر بالتأمل كيف أن الماء ماء واحد، ينزل من السماء يجري في هذه الأرض؛ فيخرج الله عز وجل بهذا الماء الواحد ثمرات مختلفاً ألوانها، فمنها ما هو أحمر، ومنها ما هو أخضر وغير ذلك من الألوان، فمع أن الماء ماء واحد ينزل من السماء إلا أن الله عز وجل يخلق به ثماراً مختلفة في ألوانها، وفي أصنافها وفي طعومها، وفي أشكالها وأحجامها، على أن كل نبات أخرجه الله عز وجل بهذا الماء الواحد، يكون الماء هو أكثر محتوياته. {فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا} [فاطر:27] فالله أنزل هذا الماء الواحد من السماء فسقاكم به، وسقى به مواشيكم وأنعامكم وزروعكم، وأخرج به ثمراتكم وحبوبكم، وهو الخلاق الواحد لا شريك له، فكيف تنكرون أن يعبد وحده لا شريك له؟ وكيف تنكرون أن يأمركم بعبادته وتتعجبون من ذلك؟ وهل من خالق غير الله يصنع ذلك ويرزقكم من السماء والأرض؟ لا إله إلا هو, ثم قال سبحانه: {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر:27 - 28] أي: الذين يخشون الله هم العلماء الذين يتفكرون في هذه الآيات الباهرات، والعالم ينظر ويتأمل ويصل بعلمه إلى أن هذا الشيء مستحيل أن يوجده غير الله سبحانه تبارك وتعالى، فعالم النبات يمسك ورقة النبات -عادة إذا أخذها الإنسان العادي لا يأبه بها ويلقيها في النفايات- ثم يقطعها إلى شرائح بسيطة ثم يضعها تحت الميكروسكوب ويتأمل في جوف هذه الشريحة ومحتوياتها، ويدرس تركيبها، وما تشابه فيه غيرها من النبات، وما هي الأمراض التي تبرأ بتناولها! ثم يدركون أن الله عز وجل خلقه لحكمة عظيمة ولم يخلقه هباءً أو سداً، والعلماء هم من يتأملون في هذا الخلق العظيم فيدركون عظمة الله عز وجل، ويكونون أشد خشية له، وقوله: {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ} [فاطر:27] أي: خلق هذه الجبال العالية الصعبة الوعرة، وجعل بينها طرقاً ومسالك، والجدد: الطرائق، وجدد: جمع جدة، والجدة: الطريق، فالله سبحانه برحمته جعل في الجبال العاليه الراسية الوعرة الصعبة طرقاً لمن يريد أن يسلكها، كما أن الله سبحانه تبارك وتعالى يلونها فمنها ما هو أبيض عظيم البياض، ومنها ما هو أكدر، ومنها ما هو أحمر شديد الحمرة، قد لونها ربها سبحانه تبارك وتعالى, فانظر وتأمل في بديع خلقه سبحانه تبارك وتعالى, قال سبحانه وتعالى: {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} [فاطر:27] غرابيب سود أي: جبال من حجارة سوداء، ويقال: هذا أسود غربيب، أي: أسود شديد السواد، كما تقول: هذا أحمر قاني، أي: أحمر شديد الحمرة، وتقول: هذا أصفر فاقع لونه، أي: أصفر شديد الصفرة، وكذلك تقول: أسود غربيب وقد يعكس فيقال: غربيب أسود، والمعنى: شديد السواد، فالله سبحانه يخبرنا عن هذه الجبال التي نراها ويدعونا لتأمل عظمته فيها، فالمسافر الذي يركب الطائرة وينظر إلى الجبال من الأعلى يجد مناظراً عجيبة غاية في الجمال، تأسرك بألوانها فمنها جبال سوداء وجبال حمراء وجبال بيضاء، تبدي لك الأرض متعرجةً وأخرى مستوية، فلا تملك إلا أن تقول: سبحان الخلاق العظيم، وأكثر من ينظر إلى ذلك ويتأمل ويتعجب هم أهل العلم حيث يتأملون في بديع خلق الله، فلا يملك أحدهم إلا أن يقول: سبحانك ما خلقت هذا باطلا، بل كل من ينظر إليها يدرك أن الله خلق كل ذلك ليرينا من آيات جلاله وجماله سبحانه تبارك وتعالى في هذا الكون، قال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ} [فاطر:28] أي: الناس ألوان مختلفة، فمنها الأحمر ومنها الأبيض ومنها الأسمر، فالناس في أوربا بلون، وفي أمريكا بلون آخر، وفي أستراليا بلون ثالث، وفي الهند بلون وفي الصين بلون والسودان بلون، فمع أن الخالق واحد سبحانه إلا أنه عدد صفات مخلوقاته ليريكم من آياته، مع أنه كان قادراً على أن يجعل الجميع بلون واحد، ولكن الله سبحانه خلق ونوع في خلقه ليرينا قدرته وآياته سبحانه، قوله: ((وَالدَّوَابِّ)) أي: كل ما يدب على وجه الأرض، فإنها أنواع مختلفة ينظر المتأمل فيها ويتعجب من بديع صنع الله سبحانه فهو البديع سبحانه فاطر السموات والأرض، فقد تعددت الأشياء واختلفت ألوانها، مع أن الذي خلقها هو الخالق الواحد لا شريك له ثم قال سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] فمن تأمل في هذا الكون، وآتاه الله عز وجل العلم، فإنه سيصل في النهاية إلى معرفة الخالق سبحانه، وأنه لا أحد يستحق أن يعبد إلا هو سبحانه تبارك وتعالى, والعلماء في الآية فاعل يخشون، فإن العلماء يخشون الله سبحانه أعظم الخشية، بل كلما ازداد العلم في قلب الإنسان، إما بدين الله سبحانه تبارك وتعالى، أو بخلق الله سبحانه، فإنه يصل بعلمه إلى أن يعرف الله سبحانه تبارك وتعالى، ويزداد خشية وخوفاً من الله سبحانه، وقولنا أن العلماء يخشون الله سبحانه لا يعني أن غيرهم لا يخافون من الله، بل هم يخافون الله ويخشونه، ولكن الأشد خشية هم من يجتمع فيهم العلم بالدين مع العلم بأمور خلق الله سبحانه تبارك وتعالى، ثم أردف الله آياته بنعوت جلاله فقال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر:28] أي: الله عزيز غالب قاهر لا يمانع سبحانه تبارك وتعالى، يغفر سبحانه لمن تاب وأناب إليه إن الله عزيز غفور، وقد جاء في سنن الترمذي وهو حديث صحيح عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: (ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان أحدهما عابد والآخر عالم) عابد أي: متعبد يكثر من الصلاة والصوم، والآخر عالم, قد عرف الشريعة وتعلم العلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم) فبين أن العلم رفعة قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] أي: أن الله يرفع المؤمنين الذين أوتوا العلم درجات فوق خلقه سبحانه تبارك وتعالى، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فضل العالم على العابد) بيان أن العالم أفضل من العابد، والمراد بالعالم: العالم بالله سبحانه تبارك وتعالى، وبكتابه وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، التقي الذي يخاف من الله سبحانه تبارك وتعالى، فيبين النبي أن فضله على العابد، كفضل النبي صلى الله عليه وسلم على أدنى أصحابه صلوات الله وسلامه عليه، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله وملائكته وأهل السموات والأراضين حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير) وهذه مزية العالم الذي يعلم الناس الخير، وصلاة الله عليه: أي أن الله يثني عليه ويرحمه سبحانه، وصلاة الملائكة عليه: أي أنها تدعو له ربها سبحانه تبارك وتعالى، وليس ذلك فحسب بل يصلي عليه من في السموات ومن في الأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت -السمك في الماء- فإنه يدعوا لمن يعلم الناس الخير، وما ذاك إلا لأن العالم يخشى الله سبحانه تبارك وتعالى، ويصل بهذه الخشية إلى الإيمان بالله سبحانه وإلى اليقين به سبحانه، ونذكر هنا قصة جميلة ذكرها وحيد الدين خان في كتاب الإسلام يتحدا فقال: [واقعة رواها العالم الهندي الدكتور عناية الله المشرقي -هذا الرجل وصل إلى درجة عظيمة جداً في علم الفيزياء، وكان عالماً من العلماء وله نظريات في الرياضيات والفيزياء أبهرت العالم، كان هذا الرجل العالم المسلم عناية الله المشرقي في بريطانيا في جامعة كمبريدج يتعلم هنالك، وله أساتذته هناك في هذه الجامعة يقول: كان ذلك يوم أحد من أيام سنة 1909م وكانت السماء تمطر بغزارة يقول عناية الله المشرقي: خرجت من بيتي لقضاء حاجة ما، فإذا بي أرى الفلكي المشهور جيمس جنز، الأستاذ بجامعة كمبريدج ذاهب إلى الكنيسة، والإنجيل والشمسية تحت إبطه، فدنوت منه وسلمت عليه فلم يرد عليّ وهو غارق في التفكير، فسلمت عليه مرة أخرى فسألني: ماذا تريد؟ فقال: قلت أمرين: الأول هو أن شمسيتك تحت إبطك والسماء تمطر بغزارة، فكيف تأخذ شمسية تحت إبطك والسماء تمطر عليك بغزارة، فانتبه الرجل ووضع الشمسية فوق رأسه، فعرفت أنه كان في تفكير عميق أفقده الإحساس ببرد الشتاء النازل على رأسه، قال والثاني: قال: ما الذي يدفع رجل ذائع الصيت في العالم مثلك أن يتوجه إلى الكنيسة فتوقف الرجل لحظة ثم قال عليك اليوم أن تأخذ شاي المساء عندي! قال: فوافقت فلما وصلت إلى داره في المساء خرجت زوجته في تمام الساعة الرابعة بالضبط وأخبرتني أنه ينتظرني، وعندما دخلت غرفته وجدت أمامه منضدة صغيرة موضوع عليها أدوات الشاي، وكان البروفيسور منهمك في أفكاره، وعندما شعر بوجودي سألني م

تفسير سورة فاطر [29 - 33]

تفسير سورة فاطر [29 - 33] يخبر تعالى عن عباده المؤمنين الذين يتلون كتابه ويؤمنون به ويعملون بما فيه، من إقام الصلاة والإنفاق مما رزقهم الله تعالى ليلاً ونهاراً سراً وعلانية، وما ذلك إلا لقوة توكلهم على ربهم، فهم يتاجرون مع ربهم تجارة لن تبور ولن تخسر أبداً، فما أعظم المتاجرة مع رب العالمين الذي يضاعف الربح لمن تاجر معه.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة فاطر: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ * وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ * ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [فاطر:29 - 33]. يخبر الله سبحانه وتعالى عن عباده الذين اصطفاهم وهداهم ووفقهم لطاعته، كيف يدخلهم جنته، ويعطيهم الأجر العظيم يوم القيامة، قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} [فاطر:29]، إيمان هؤلاء في قلوبهم يدفعهم إلى هذا العمل العظيم، العمل الصالح، فهم يتلون كتاب الله فينتفعون بتلاوته، ويؤجرون على ذلك، ويعملون به، فيقرءون القرآن، ويعملون بأحكامه، ويتعظون بمواعظه، ويقيمون الصلاة، وينفقون مما رزقهم الله. ثم قال: {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} [فاطر:29]، وقد أخبرنا سبحانه: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45]، قال: (وأقاموا الصلاة)، ولم يقل: وصلوا، ولكن أقاموا الصلاة، وإقامة الصلاة أن تقيمها مستوفاة الأركان والشروط، وتأتي بها خالصة لله سبحانه وتعالى، هذه إقامة الصلاة. قال سبحانه: {وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً} [فاطر:29] جاء التأكيد على أن الرزق بيد الله سبحانه وتعالى، {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58]، فهؤلاء أنفقوا؛ لأنهم علموا أن المال مال الله، وأن الرزق من عند الله يرزق من يشاء سبحانه وتعالى. فهم يأخذون بالأسباب والله يرزقهم، وهم ينفقون من فضل الله ومن رزق الله سبحانه، ((وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ))، هذه النفقة التي ينفقونها سراً وعلانية، كأنهم ينفقون في كل أحوالهم، حين يحتاج المحتاج ويمد يده إليهم فلا يمنعونه، بل يعطونه مما رزقهم الله، ويخفون الإنفاق قدر المستطاع، ويظهرون إن لم يقدروا على الإخفاء، فينفقون مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً، وأحياناً يكون الإظهار خيراً كإظهار زكاة المال حين يعطيها الإنسان خاصة في الزروع والثمار والمواشي ظاهرة أمام الفقراء، فإذا جاء الفقراء لا يخبئ عنهم هذه، ويقول: أنا أعطي في السر، ولكن يعطي من حضره من الفقراء من هذا المال، فيقتدي به غيره، فيعلم الفقراء أن فلاناً قد جدد حصاده في هذه الأيام، فيذهبون إليه فيأخذون من ماله الظاهر، ويعطي حتى لا يتهم بأنه مانع للزكاة، فيعطي ما أمر الله سبحانه، وأصحاب بهيمة الأنعام كذلك أموالهم أموال ظاهرة، فينفقون الزكاة التي أمر الله عز وجل ظاهراً، حتى يعرف الفقراء وقت دفعه لهذه الزكاة فيحضرون ليأخذوا منه، وإذا أراد أن يذبح أضحيته ويوزعها على الناس فليظهر ذلك؛ حتى يعرف الفقراء فيأتون ليأخذوا نصيبهم ورزق الله سبحانه وتعالى لهم، فهذه أشياء ظاهرة في الشريعة، فيظهر ما أظهرته هذه الشريعة في الأمر بالإنفاق من ذلك، فإذا كانت صدقة التطوع أخفى ذلك؛ لأنه يريد أن يعطي وأن يؤجر أعظم الأجر عند الله سبحانه. فالأصل أنه يخفي النفقة، وقد علمنا من الحديث الذي في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله -وذكر من هؤلاء السبعة-: ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه)، أخفى وأسر هذا الإعطاء، فهو أعطى للفقير بحيث لا يدري أحد ما الذي أعطاه، فأخفى صدقته احتساب ورجاء أجر الله سبحانه وتعالى، تعلم ذلك من كتاب الله سبحانه الذين ينفقون أموالهم {سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر:29]. فأنفق في السر وأنفق في العلانية، ومهما قدر على أن يسر نفقته أسرها وأعطى للفقير محافظة على شعوره، وأيضاً محافظة على ثوابه؛ لئلا يضيعه بالسمعة والرياء. النفقة في السر حسنة، والنفقة في العلانية حسنة، ولكن صدقة السر أعظم من صدقة العلانية، إلا أن تكون زكاة ظاهرة كما ذكرنا، فقد استحب أهل العلم أن يظهر المرء زكاة الحبوب والثمار وبهيمة الأنعام؛ لأنها أموال ظاهرة، فلو أخفى ذلك فالفقراء قد لا يعرفون أن فلاناً هذا يخرج زكاة ماله في هذا العام، ولا يذهب إليه أحد، ولعله هو لا يعرف كل أصحاب الحاجات، فيكون من أهل الحاجات من لم يعرف ميقات زكاة هذا فلم يأت إليه، وأعطى لغيره وهذا أولى. فلذلك استحبوا أن يحدد اليوم الذي يخرج فيه زكاة حبوبه وثماره؛ حتى يأتي الفقراء فيأخذوا نصيبهم ورزقهم من ذلك، أما المال المخفي المستتر الذي لا يتطلع عليه الناس فإنه يسر نفقته ويسر صدقته، يبتغي أن يظله الله عز وجل بظله يوم لا ظل إلا ظله. إذاً: النفقة في العلانية حسنة، والنفقة في السر أحسن منها، قال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} [البقرة:271]، أي: نعم الشيء أن تبدي الصدقات، {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} [البقرة:271]، أي: خير لكم، يعني: أفضل وأخير لكم أن تخرجوا هذه الصدقة في السر. والصدقة في السر تطفئ غضب الرب سبحانه وتعالى، فأنت حين تعطي الصدقة للفقير في السر من غير أن تفضح هذا الفقير، فالله سبحانه وتعالى إن كان به غضب عليك فهذه النفقة تطفئ غضب الرب سبحانه وتعالى.

التجارة مع الله ليس فيها خسارة أبدا

التجارة مع الله ليس فيها خسارة أبداً قال سبحانه: {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر:29]، لماذا أنفقوا؟ من أجل رجاء الثواب من الله سبحانه وتعالى، فهؤلاء يرجون تجارة مع الله سبحانه، وأي تجارة أعظم من هذه التجارة، وتجارة الإنسان في الدنيا قد يربح في الدرهم نصف درهم أو ربعه وقد يربح في الدرهم درهماً، أما التجارة مع الله فأقل ما يكون فيها عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف مضاعفة لا يعلمها إلا الله سبحانه، فهؤلاء يرجون التجارة التي هي مع الله التي لا تبور، فهم لا يخافون كساد تجارتهم؛ لأنها تجارة مع الرب سبحانه وتعالى. هم يرجون هذه التجارة التي حكم الله سبحانه أنها لا تضيع ولا تهلك ولا تكسد ولا تفسد ولا تخسر؛ لأنها تجارة مع الله.

تفسير قوله تعالى: (ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله)

تفسير قوله تعالى: (ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله) قال الله تعالى: {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:30]، يؤكد الله سبحانه وتعالى ذلك وأنه سيعطيهم الأجر الوافي: ((لِيُوَفِّيَهُمْ)) وهناك فرق بين أعطى ووفى، أعطى الأجر تماماً ولعله نقص، أما وفى فقد يعطيك أجرك الذي تستحقه ويزيدك عليه أيضاً فوق ذلك، فيقول: أخذت منه مالي وافياً ما نقص منه شيء. فالله عز وجل يوفي هؤلاء ليس مثل الذي أعطوا، وإنما يوفي أضعافاً مضاعفة من فضله سبحانه، {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [فاطر:30]، هذا الجزاء من الله سبحانه، فهؤلاء يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ؛ لِيُوَفِّيَهُمْ وليعطيهم. فقوله: (ليوفيهم) هنا لام السببية يعني أنهم أعطوا لذلك، أي: يرجون من الله الفضل، ويرجون منه أن يوفيهم أجورهم، فهم أنفقوا ليوفوا هذه الأجور، {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [فاطر:30]. وهذا وعد من الله سبحانه في كتابه أنه يعطي الحسنة بعشر أمثالها، {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام:160]، فهم صدقوا وعد الله سبحانه فأنفقوا ليعطيهم الله عز وجل ويوفيهم هذا الوعد الذي ذكره في كتابه سبحانه، {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، فيعطي الله عز وجل على الإحسان إحساناً وزيادة النظر إلى وجهه سبحانه وتعالى في جنة الخلود، {وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:30]، غفور سبحانه. ورد في القرآن هذا اللفظ (غفور)، و {غَافِرِ الذَّنْبِ} [غافر:3] و (غفار) فهو الغفار سبحانه، وهو الغفور، وهو غافر الذنب، والغفر يأتي بمعنى التغطية والستر. والله يغفر أي يمحو الذنب ويستره، ويغطيه ولا يبديه، فلا يفضح صاحبه الذي يتوب إليه سبحانه وتعالى، وهو يغفر الذنوب جميعاً، {شَكُورٌ} [فاطر:30] أي: يشكر لعباده إحسانهم، {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء:7]، فإحسان المرء لنفسه، فإذا أحسن فالله عز وجل يوفيه الجزاء على إحسانه، ويشكر له عمله. وعلمنا كيف أن رجلاً كان في فلاة فوجد بئر ماء فنزل وشرب منها، ثم خرج فوجد كلباً يلهث من شدة العطش، فإذا به يملأ حذاءه من هذا الماء ويسقي الكلب، فيشكر الله له ذلك ويغفر له ويدخله الجنة بذلك. وامرأة بغي تفعل مثل ما فعل هذا الرجل تسقي كلباً أصابه العطش الشديد فشكر الله عز وجل لها فغفر لها، فالله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، من أحسن فالله يحسن إليه، ويعامله بفعله وبمعاملته، فالله غفور شكور. إذاً: فهؤلاء المؤمنون يتلون كتاب الله، ويقيمون الصلاة، وينفقون مما رزقهم الله سراً وعلانية؛ حتى يوفيهم الله سبحانه وتعالى أعمالهم. فالله وعد في كتابه وأكد أنه يعطيهم أجورهم وزيادة منه وفضل منه سبحانه وتعالى؛ لأنه غفور شكور، يغفر الذنب، ويشكر الإحسان من العبد.

تفسير قوله تعالى: (والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه)

تفسير قوله تعالى: (والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقاً لما بين يديه) قال الله تعالى: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} [فاطر:31]. قوله: ((وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ)) كأنه عطف هذه الجملة على الجملة السابقة، {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ} [فاطر:31] أي: هذا القرآن العظيم وحي من الله سبحانه وهو الحق، وليس كلامك أنت، {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [فاطر:31] أي: أنه صدق الكتب السابقة، صدق صحف إبراهيم: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى:18 - 19]، وصدق كتاب موسى التوراة، وكتاب عيسى الإنجيل، وصدق المرسلين السابقين عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، ((مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ)) يعني: ما تقدم وسبق وسلف قبل ذلك، ((إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ)). وذكرنا قبل ذلك أن الله عليم سبحانه، وخبير بمعنى عليم، فإذا جاءت مفردة فتكون بمعنى العلم، أي يعلم ما خفي من الأمور، فالله عز وجل عليم وهو علام الغيوب سبحانه وتعالى، كما أنه شهيد خبير. فالعلم أن يحيط بهذا كله، والخبرة: هي العلم بالشيء الدقيق الخفي، أي: الذي يخفيه صاحبه ويسره في نيته وفي قلبه، فهو خبير بما في القلوب سبحانه، وهو شهيد على ما يظهره العباد. فكأن الشهادة علم ما هو ظاهر، والخبرة علم ما هو خفي باطن، والعلم يحيط بهذا كله، فالله عليم خبير شهيد سبحانه، ((إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ)) أي: يبصر كل ما يصنعه العباد، ما أبدوه وما أخفوه فالله يرى هذا كله.

تفسير قوله تعالى: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا)

تفسير قوله تعالى: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) قال الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر:32]. أي: الكتب السماوية يورثها سبحانه لمن اصطفى من عباده، فينزل الله على رسول من رسله عليهم الصلاة والسلام كتاباً، ويصطفي من يشاء من خلقه ليكونوا حواريين لهذا النبي أو الرسول عليه الصلاة والسلام، فاصطفاهم، وأورثهم هذا الكتاب فصاروا أهله المستحقين له. وتوارثوا علمه وأحكامه، حتى جاء أقوام بعدوا عن الله سبحانه فحرفوا دينهم، فإذا بهم يتركون أحكام الله عز وجل ويعملون بغيرها، ويجعلون كتاب ربهم وراءهم ظهرياً، فلا يستحقون أن ينزل عليهم من السماء شيئاً، فيصطفي الله عز وجل من خلقه ما يشاء، وينزل كتاباً من السماء، وكان الأمر على ذلك حتى اصطفى من الخلق نبينا صلوات الله وسلامه عليه، واصطفى له أصحابه، واصطفى هذه الأمة أمة الإسلام، وأنزل هذا القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم، وجعله إرث هذه الأمة واختصها بأن تدعوا إلى هذا القرآن، فصارت الأمة المهتدية، والأمة الوسط التي تدعوا إلى كتاب الله عز وجل، فكان معهم ميراث الأنبياء السابقين، وهو: أحكام كتاب الله سبحانه، وشريعة الله التي يدعون إليها إلى أن تقوم الساعة، ((ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا))، فجعل هذه الأمة هي الأمة المصطفاة، وقربها إليه، قال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]، فهي الأمة التي اجتباها الله سبحانه، قال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، لماذا؟ {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] أي: تقيمون شرع الله سبحانه.

حقيقة الأصناف الثلاثة الظالم لنفسه والمقتصد والسابق بالخيرات

حقيقة الأصناف الثلاثة الظالم لنفسه والمقتصد والسابق بالخيرات قال سبحانه: ((ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا)) فمن هؤلاء؟ قال: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32] ذكر المفسرون في هذا التفصيل كلاماً كثيراً جداً فيمن هو الظالم لنفسه؟ ومن هو المقتصد؟ ومن هو السابق بالخيرات؟ فقالوا: الظالم لنفسه هو الكافر أو المنافق أو غير ذلك. ولكن الظاهر من الآية والحديث أن الثلاثة الأصناف كلهم من أهل الإسلام، ((فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ)) روى الإمام الترمذي، والإمام أحمد أيضاً من حديث أبي سعيد الخدري: (أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ)) [فاطر:32] فقال صلى الله عليه وسلم: كلهم بمنزلة واحدة، وكلهم في الجنة)، هذا حديث عظيم صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه البشارة بأن الإنسان الظالم لنفسه من هذه الأمة المؤمن بالله سبحانه، ولكن غلبت ذنوبه على حسناته، فاستحق أن يعذب، فهذا إما أن يغفر الله عز وجل له، وإما أن يعذبه الله بهذه الذنوب التي غلبت حسناته، وإن دخل النار فعذب في النار، فالله يمن عليه ويشفع فيه من شاء من خلقه ويرحمه ويخرجه من النار ويدخله الجنة، وأما المنافق والكافر وغيرهما فهؤلاء مستحيل أن يدخلوا الجنة لأن الله تعالى يقول: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:145 - 146] فإذا تابوا صاروا مع المؤمنين، ولم يكونوا منافقين، أما المنافقون الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام ففي الدرك الأسفل من النار. وقال تعالى عن الكفار: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فإذاً: الكفار في النار، والمنافقون في النار، لكن من ذكر الله عز وجل هنا بقوله: ((ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا))، فهؤلاء ممن اصطفاهم الله سبحانه، وممن اختارهم الله وقربهم وهم أمة الإسلام، فمن هذه الأمة الظالم لنفسه، وهو من غلبت ذنوبه حسناته، ((فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ)) والمقتصد هو من استوت حسناته وسيئاته، أو هو من أتى بالفرائض ولم يأت بالنوافل، أو من أتى بما افترضه الله عز وجل عليه ووقع في الذنوب التي حرمها الله سبحانه وتعالى على خلقه، {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} قال تعالى عن السابق: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:10 - 11]، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم. فالسابق بالخيرات لا يجد باباً من أبواب الخير والإحسان إلا واستبق إليه ينفق في سبيل الله سبحانه، ولذلك كان الخيران من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما يستبقان إلى الخير، عمر كان يتمنى أن يسبق أبا بكر يوماً من الأيام، وفي يوم من الأيام أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصدقة، فإذا بـ عمر يذهب إلى بيته ويأتي بنصف ماله ويقول: اليوم أسبق أبا بكر، فيأتي للنبي صلى الله عليه وسلم فيجد أبا بكر قد تصدق بماله كله، فيقول: لا أسبقك أبداً.

عظيم فضل الله تعالى على عباده بالمسابقة إلى الطاعات والتوبة من السيئات

عظيم فضل الله تعالى على عباده بالمسابقة إلى الطاعات والتوبة من السيئات إن المسابقة إلى الله عز وجل وإلى طريق الله سبحانه أمر مرغوب فيه شرعاً، فمنهم هؤلاء السابقون بالخيرات بِإِذْنِ اللَّهِ، وهذا فضل من الله سبحانه وتعالى، يمن على من يشاء من خلقه، يعطيه الرزق ويمن عليه بالهدى، ويعطيه سماحة النفس ويمنعه شحها، فينفق في سبيل الله، ويخلف الله عز وجل عليه، ويعطيه الأجر من عنده، وكذلك إذا تاب الله عز وجل على عبد من عبيده فالتوبة من الله سبحانه، تاب عليه فألهمه أن يتوب، فتاب العبد فقبل منه. فانظر إلى فضل الله وكرمه سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة:118]، هم عصوا الله سبحانه وعصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث أمرهم أن يخرجوا معه صلوات الله وسلامه عليه في غزوة تبوك، فإذا بهؤلاء الثلاثة يتخلفون عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية، هؤلاء الثلاثة لما تخلفوا ظنوا أن الأمر واسع، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يكتب من الذي خرج ومن الذي لم يخرج؛ لأن الجيش عدده كبير فتخلف هؤلاء، فعصوا الله سبحانه، وعصوا الرسول صلوات الله وسلامه عليه، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم ورجع من الغزو، جاء المنافقون يعتذرون للنبي صلى الله عليه وسلم وكل منهم يبدي عذره، والنبي صلى الله عليه وسلم يقبل بالظاهر ويدع السرائر لله سبحانه وتعالى. وجاء هؤلاء الثلاثة: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع وكل منهم يقول: (يا رسول الله لم يكن لي عذر، فقال: أما هذا فقد صدق)، إذاً: فهذا الذي صدق، من الذي ألهمه أن يصدق مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ أليس هو الله سبحانه وتعالى الذي يلهم عباده أن يصدقوا وأن يتوبوا؟ هؤلاء الثلاثة صدقوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فأخرهم، قال عن كعب: (أما هذا فقد صدق)، فأرجأه لأمر الله سبحانه وحكمه. فهجره النبي صلى الله عليه وسلم، وهجره أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم خمسين يوماً وليلة حتى جاءت التوبة من عند الله سبحانه وتعالى. فهؤلاء الثلاثة ألهمهم الله التوبة فتابوا، فصدقوا في توبتهم، فإذا به يتوب عليهم سبحانه وتعالى، ويعبر في كتابه بهذا التعبير العظيم الجميل يقول: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة:118]، لم يقل: الذين تخلفوا مع أنهم تخلفوا حقيقة، ولكن الله عز وجل لا يعير بالذنب كرماً منه سبحانه وتعالى، ولكن قال: (خلفوا) فالنبي صلى الله عليه وسلم خلفهم وأرجأهم لحكم الله سبحانه، حتى يقضي فيهم الله سبحانه وتعالى، {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} [التوبة:118]، الإنسان مع إخوانه يحبهم ويحبونه ويودهم ويودونه، لكن حين يهجره جميع إخوانه يصعب الأمر على نفسه، وتضيق عليه الدنيا، طالما أنه مؤمن فهو يحب صحبة المؤمنين. أما الفاسق والكافر فإنه يستبدل بالمؤمنين الفجار والكفار والفسقة، لكن هؤلاء إيمانهم صادق، لذلك جلس كل منهم في بيته ينتظر أمر الله على ما فرطوا في دينهم، وما فرطوا في أمر الله سبحانه، فتابوا توبة نصوحاً، فإذا بالله عز وجل يقبل منهم ذلك؛ لأن في قلوبهم حب الله وحب رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وانظر إلى كعب بن مالك وقد ذهب يبحث عن ابن عمه أبي قتادة حتى وجده في حائط له داخل بستان، قال: فتسورت البستان، كأن الرجل من شدة ما هو فيه من غم لم ير باب البستان فتسور البستان من فوق السور، ودخل إليه ثم قال: السلام عليكم فلم يرد عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم منعهم من الكلام مع هؤلاء الثلاثة، فقال: ألا تعلم أني أحب الله ورسوله، فلم يرد عليه، فأقسم عليه قال: الله أعلم، ولم يزد على ذلك. فكأن الدنيا قد أظلمت في عينيه فرجع إلى بيته وهو يتوسل إلى ربه ويتوب إليه سبحانه، حتى أنزل الله سبحانه وتعالى التوبة على هؤلاء، فتاب عليهم وأخبر نبيه صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليهم يبشرهم بتوبة الله عز وجل عليهم، فقرأ عليهم قول الله سبحانه: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} [التوبة:118] أي: ليس لهم ملجأ من الله سبحانه يفرون منه إلا إليه {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} [التوبة:118]، فالله سبحانه ألهمهم أن يتوبوا إليه، {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} [التوبة:118] أي: ليظهروا توبتهم إلى الله عز وجل فيقبل منهم، {إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة:118]، سبحانه وتعالى. فالله صاحب الفضل على عباده، يلهمهم الإحسان ثم يحسن إليهم، ويجازيهم على ذلك سبحانه وتعالى، قال: {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32]، أي: إن فعلك الخير ليس من عند نفسك، ولكن بتوفيق الله سبحانه، وانظر إلى قول شعيب النبي عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88]، فهو يدعو الله أن يوفقه إلى رضوانه سبحانه. وكذلك كل إنسان لا يوفقه إلا الله سبحانه وتعالى، فاعرف الفضل لصاحبه، {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر:32] أي: الفضل من الله عز وجل أن منَّ على هذه الأمة بأن أورثهم هذا القرآن العظيم وجعلهم من أهله، وجعلهم يعملون به، والفضل من الله أن يتوب عليهم وأن يدخلهم جنته، والفضل عليهم أن جعل منهم السابقين، والسابقون هم أعلى ما يكون عند رب العالمين سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب)

تفسير قوله تعالى: (جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب) قال الله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [فاطر:33]. هذا فضل الله سبحانه وتعالى، أدخلهم جناته: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} وقراءة الكل ((جَنَّاتُ)) بضمها، وإن كان في غير القرآن يجوز أن تكون مفعولاً مقدماً على الاشتغال تكون: (جناتِ عدن) لكن في القرآن ليس فيها إلا قراءة واحدة فقط: ((جَنَّاتُ عَدْنٍ)) ((يَدْخُلُونَهَا)) أي: يدخلهم الله سبحانه وتعالى هذه الجنة. يقول: ادخلوا الجنة جزاءً بما كنتم تعملون، فيدخلون الجنةَ، وقراءة الجمهور: ((جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا)) [فاطر:33]، وقراءة أبي عمرو: ((جَنَّاتُ عَدْنٍ يُدْخَلُونَهَا))، أي: يدخلهم الله سبحانه وتعالى هذه الجنات. والجنة بمعنى البستان، والجنات عند الله سبحانه بساتين عظيمة جداً لأصحابها أهل الجنة، درجات بعضها فوق بعض، وعدن بمعنى إقامة دائمة، ومنها المعدن، لكونه مقيماً في داخل الأرض باستمرار: الذهب، والفضة، والحديد، وغير ذلك من معادن الأرض. قال: ((جَنَّاتُ عَدْنٍ)) أي: جنات إقامة دائمة لا يخرجون منها أبداً، ثم قال: ((يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ))، لقد حرم الله على الرجال الذهب في الدنيا فلم يلبسوه فاستحقوا أن يلبسوه في الجنة، وكذلك حرم على رجالهم الحرير في الدنيا فلم يلبسوه فلبسوه في الجنة. فقوله: ((جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ))، والذهب يسمى في الدنيا ذهباً وفي الجنة ذهباً، ولكن هناك فرق بين ذهب الدنيا وذهب الجنة، هذا ذهب يذهب، وذاك ذهب معدن باق عند الله سبحانه وتعالى. هذا المعدن العظيم الذي ذكره لنا تبنى منه القصور في الجنة لأهل الجنة في الجنات، لمن أطعم الطعام، وألان الكلام، وتابع الصيام، وصلى لله بالليل والناس نيام، في هذه القصور غرف يرى ظاهرها من باطنها، ويرى باطنها من ظاهرها، هذه الغرف مبنية من ذهب ومن فضة، ذهبها لم يغط ما بداخلها؛ لأنه غير ذهب الدنيا. ثم قال: ((وَلُؤْلُؤًا))، أي: يلبسهم، ويحليهم الله سبحانه وتعالى اللؤلؤ، وهذه تقرأ بالنصب، وتقرأ بالجر، وتقرأ مهموزة وغير مهموزة، {َلُؤْلُؤًا} [فاطر:33]، فيقرؤها نافع، وأبو جعفر، وعاصم (لؤلؤاً) بالنصب فيها، على الخلاف في الهمزة التي فيها. فيكون المعنى: ويحلون لؤلؤاً على أنها مفعول لهذا الفعل (يحلون) وباقي القراء يقرءونها: ((وَلُؤْلُؤٍ)) بالكسر يعني: يحلون من ذهب وَلُؤْلُؤٍ ونافع، وحفص عن عاصم يقرأان: ((وَلُؤْلُؤًا))، بالهمز وبالنصب فيها، أما شعبة عن عاصم وأبو جعفر أيضاً فيقرأانها: ((وَلُوْْلُؤًا))، بالنصب فيها، وبعدم الهمزة الأولى، يعني: بنقل الهمزة الأولى. أما باقي القراء فيقرءونها بالكسر كما ذكرنا: ((وَلُؤْلُؤٍ)) ولكن أبا عمرو يحذف أيضاً الهمزة الأولى فيقرأ: ((وَلُوْلُؤٍ))، وإذا وقف عليها هشام فإنه يقرؤها: ((وَلُؤْلُو))، وإذا وقف عليها حمزة فإنه يقرؤها: (وَلُوْلُوْ). فقوله: ((يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ)) فالإنسان في الجنة يلبس الحرير ويحلى من أساور من ذهب، ويلبس اللؤلؤ، وينادى على أهل الجنة: (يا أهل الجنة إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً). فأهل الجنة في نعيم مقيم، {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:38]، كذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر واقرءوا إن شئتم: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]). قوله تعالى: ((وَلِبَاسُهُمْ)) أي: ثيابهم، ((فِيهَا حَرِيرٌ)) من يصنع لهم ثياب في الجنة؟ لا توجد مصانع في الجنة تصنع، ولكن هناك شجرة تنبت في الجنة تخرج منها ثياب أهل الجنة. فالله عز وجل يعطيهم ما لم يتخيلوا أبداً من فضله سبحانه وتعالى، ويعطيهم ما هو فوق ذلك، حيث ينادي على أهل الجنة: (يا أهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا ربنا وقد أعطيتنا، فيقول: أفلا أعطيكم خيراً من ذلك؟ يقولون: وما خير من ذلك؟ فيقول: اليوم أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعدها أبداً) فأعظم ما أعطاهم الله سبحانه أن رضي عنهم سبحانه وتعالى، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم، وأن يرضى عنا، وأن يجعلنا من عباده المصطفين الأخيار، أهل الإحسان الأبرار. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة فاطر [32 - 37]

تفسير سورة فاطر [32 - 37] يحمد المؤمنون ربهم في الدنيا على ما أنعم عليهم من نعمة الهداية إلى صراطه المستقيم، وكذلك يوم القيامة حين يدخلهم ربهم الجنة فإنهم يحمدونه ويشكرونه على تفضله عليهم بدخول الجنة، وما رأوا من إكرامه لهم وإفضاله عليهم، فقد أحلهم دار المقامة من فضله ومنته ورحمته، بخلاف الكفار فإن مصيرهم إلى نار جهنم لا يحكم عليهم فيها بالموت فيموتوا، ولا يخفف عنهم من عذابها.

اصطفاء الله عز وجل لأمة محمد صلى الله عليه وسلم

اصطفاء الله عز وجل لأمة محمد صلى الله عليه وسلم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة فاطر: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:32 - 37]. ذكرنا في الحديث السابق أن الله سبحانه وتعالى يمتن على هذه الأمة الإسلامية بنعمة الاصطفاء والاجتباء والاختيار، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143]، وقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، فهذه الأمة خير الأمم وأفضل الأمم، وهي الأمة الوسط أهل العدالة الذين يشهدون على الأمم السابقة قبلهم، أورثهم الله عز وجل الكتاب، أي: أعطاهم الأحكام الشرعية في هذا القرآن العظيم، قال تعالى: ((ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ)) أي: أعطينا الميراث لهذه الأمة، فكأن الكتب السماوية هي الإرث الذي يتركه الأنبياء على نبينا وعليهم الصلاة والسلام، فإن استحق أتباعهم أن يأخذوا هذا الكتاب كان معهم حتى ينتهي أمرهم، وإن تركوا دين ربهم، فإن الله عز وجل يخلف غيرهم ويرسل رسولاً من عنده سبحانه وتعالى، وينزل عليهم شريعة من الشرائع، ويخلف هؤلاء الأمم من كانوا قبلهم، فالله تعالى جعلهم خلائف في الأرض، حتى جاءت أمتنا الأمة المصطفاة، وأنزل الله عليهم هذا القرآن فأورثهم أحكام كتاب ربنا سبحانه وتعالى، وأعطاهم علم هذه الأحكام من شريعة وعقائد وغير ذلك، مما في كتاب الله عز وجل وفي هدي النبي صلوات الله وسلامه عليه. الاصطفاء: هو مشتق من الصفوة، وهو الخلوص، فهي الأمة التي استخلصها الله عز وجل من الأمم، وجعلها الوارثة لعلم النبوة ولهذا الكتاب العظيم ولسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

أقسام المسلمين ومراتبهم وأصنافهم

أقسام المسلمين ومراتبهم وأصنافهم لقد قسم الله تعالى المسلمين من هذه الأمة أقساماً ثلاثة فقال: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32]، فالنبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الناس، والذين أرسل إليهم جميعهم أمته عليه الصلاة والسلام، منهم أمة الدعوة، وهم الذين أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فمنهم من أسلم ومنهم من كفر، ممن حضر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم من بعدهم إلى قيام الساعة، أما الذين استجابوا له فدخلوا حباً في دين الله عز وجل بإرادتهم فهؤلاء أمة الإجابة. وأمة الإجابة هم المسلمون، خرج عنهم المنافقون، والكافرون، فأمة الإجابة هم من قالوا: لا إله إلا الله مستيقنين بذلك. وهم من الأقسام الثلاثة الذين ذكر الله عز وجل في هذه الآية: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32]، فالظالم لنفسه: هو الذي فرط في حق نفسه وفي حق دينه، فارتكب من المعاصي ما شاء الله سبحانه وتعالى، وترك بعض الواجبات التي فرضها الله سبحانه وتعالى عليه، فزادت سيئاته على حسناته، فكان ظالماً لنفسه فاستحق العقوبة، ولكن ينفعه قول لا إله إلا الله يوماً من الدهر، أصابه قبل ذلك ما أصابه. الصنف الثاني: وهم المقتصدون الذين استوت حسناتهم مع سيئاتهم، وهم الذين فعلوا الواجبات وتركوا المحرمات، وقد يحصل منهم التفريط في الأخذ بشيء من المكروهات، وترك شيء من المستحبات، ولكن حالهم على الاستقامة، قصروا في النوافل، ولكن غالب أحوالهم المحافظة على الفرائض، فعلى ذلك كانوا مقتصدين، فاستوى عملهم الحسن مع ما وقعوا فيه من أخطاء، فالله يتجاوز ويعفو سبحانه وتعالى عنهم. الصنف الثالث: هم السابقون إلى الخيرات، (ومنهم سابق بالخيرات) فهؤلاء ما وجدوا وسيلة لفعل الخير إلا واستبقوا إليها، إلا وسنوا للناس السنة الحسنة فيها، فكانوا السابقين بالخيرات، قال الله سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:10 - 14]. فهؤلاء كانوا في قرون الخيرية الأولى التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) قوله: (خير القرون قرني) وهم من أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم وهم أصحابه رضوان الله تعالى عليهم، فهؤلاء خير القرون، وخير الناس. قوله: (ثم الذين يلونهم) أي: الذين لم يروا النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما جاءوا من بعده وشاهدوا أصحابه رضوان الله تعالى عليهم، هؤلاء فيهم الخيرية بعد الصحابة. قوله: (ثم الذين يلونهم)، وهم تابعو التابعين، وهؤلاء فيهم الخير أيضاً. وقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ} [الواقعة:10 - 13] أي: ثلة ممن كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في عصور الخيرية، والثلة: جماعة كبيرة من الناس نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم ومعهم. قوله: {وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:14] أي: من القرون المتأخرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث، (لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه)، فلا يتوقع أن يأتي عهد كعهد الصحابة، إلا أن يشاء الله عز وجل حين ينزل المسيح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ولكن الغالب في الناس أنه لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه وأشد منه في الشر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وتأتي الفتن يرقق بعضها بعضاً، فتأتي فتنة في زمن من الأزمان، ثم تأتي فتنة بعد ذلك تليها، فإذا بالناس الذين يشهدون هذا الشيء الجديد يرققون ما تقدم، ويقولون: إن الذي فات ليس بشيء وهذا أصعب وأشد، ثم تأتي على الناس فتنة بعدها فترقق السابقة وهكذا، كلما يبتلى الناس بشيء من الفتن إذا بهم ينظرون فيها فيقولون: إن هذه أشد وأفحش مما تقدم من الفتن، ولا حول ولا قوة إلا بالله. فالسابقون كانوا في القرون السابقة هم الأكثرية، ولكن في القرون المتأخرة هم الأقلون، كما قال الله سبحانه: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:13 - 14] فما جزاؤهم عند ربهم سبحانه؟ قال: {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ} [الواقعة:15] أي: الأرائك التي يجلسون عليها، تقول: هذا سرير الملك، يعني: العرش الذي يجلس عليه الملك، فهؤلاء ملوك في الجنة، فهم على سرر في الجنة منعمين مرفهين، وهذه السرر مصنوعة من ذهب موضونة، وهم يأكلون ويشربون في جنات الخلود، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

تكرم الله وتفضله على المؤمنين بدخول الجنة والتنعم فيها

تكرم الله وتفضله على المؤمنين بدخول الجنة والتنعم فيها لقد ذكر الله عز وجل عن هؤلاء المؤمنين في هذه السور العظيمة أنه سبحانه تكرم عليهم بفضله الكبير، قال: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا} [فاطر:33]، على قراءة (يُدخلونها) وهي قراءة أبي عمرو، أي: أن الله يدخلهم هذه الجنات العظيمة، وقراءة الجمهور {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [فاطر:33] ففي هذه الجنة يلبسون ما كان قد حرمه الله عز وجل عليهم في الدنيا، من حرير وذهب، فينعمون به في الجنة، قال سبحانه: ((يُحَلَّوْنَ فِيهَا)) أي: فلهم الحلية في الجنة، ((مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ)) لا تنظر إلى ما في الدنيا من أساور فإنها لا تقارن بما في الجنة، فأساورهم في الجنة من ذهب ولؤلؤ. ((وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ)) أي: يلبسون الثياب من الحرير وكما ذكرنا قبل ذلك أن شجرة في الجنة تخرج ثياب أهل الجنة، وهي شجرة طوبى، كما صح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.

تفسير قوله تعالى: (وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن)

تفسير قوله تعالى: (وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن) قال الله تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:34] هذه السورة بدأها الله عز وجل بقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [فاطر:1] وهنا يذكر حال أهل الجنة وأنهم يحمدون الله سبحانه، ويقولون: ((وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ))، والمؤمنون في الدنيا حمدوا ربهم سبحانه، وفي الجنة يحمدون الله على ما صاروا إليه. ((الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ)) أي: الحزن الذي كان في الدنيا؛ لأن الدنيا دار الآفات ودار المحن ودار الفتن والبلاء والمصائب. فالإنسان في الدنيا بين خوف وحزن، خائف من المستقبل، وحزين على الماضي، سواءً كان غنياً أو فقيراً فهو على هذا الحال، فالغني يجمع المال وينظر في أمره ويخاف أن يضيع منه، فهو بين الحزن والخوف، كذلك الإنسان الفقير، حزين على حاله أن الناس معهم مال وليس معه مال، وخائف أن يزداد فقره هذا حال الإنسان في الدنيا بين خوف وحزن، ولكن في الآخرة لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فإنهم عند ربهم سبحانه وتعالى، فهم يثنون الثناء الجميل على الله بما هو أهله، ويقولون: الحمد لله الذي أنعم علينا بأن أذهب عنا الحزن، {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:34]، إن ربنا سبحانه غفور غفر لنا ذنوبنا، شكور يشكر ما قدمناه من عمل ولو كان شيئاً يسيراً، فجازانا على القليل وعلى الكثير بفضله وكرمه سبحانه وتعالى. وقد بين لنا سبحانه في سورة الفرقان صفات عباد الرحمن، فقال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63] وذكر تعالى ما أنعم عليهم فقال: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان:75 - 76]. في هذه الآيات أخبر الله عز وجل عن عباد الرحمن أنهم يجزون الغرفة أي: أعالي الجنات، وعباد الرحمن هم الذين يتوبون إلى الله سبحانه من الذنوب، {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان:71]، فهؤلاء الذين تابوا إلى الله قال فيهم: {فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:70]، فإذا بأهل الجنة حين يدخلونها ينظرون إلى أن الله قد أكرمهم وأعطاهم ثواباً عظيماً لم يخطر على بالهم، حتى إنه حين يحاسبهم سبحانه يدني منه المؤمن بكرمه، ويضع عليه كنفه وستره يوم القيامة، ثم يقرره: عملت كذا يوم كذا، وعملت كذا يوم كذا، يقرره بذنوبه، قد ستره الله سبحانه وتعالى ولم يفضحه سبحانه وتعالى، يقول: (قد سترناها عليك في الدنيا واليوم نغفرها لك، ويأمر الملائكة أن يأتوه بصحيفة سيئاته لينظر فيها، ويقول: واروا عنه كبار سيئاته فيريه أشياء من صغائره التي وقع فيها، والعبد في شدة الخوف أن يرى ما هو أكبر من ذلك) فالله بكرمه يخفي عنه ذلك، فإذا قرره يقول له: (اليوم نبدلها حسنات) أي: هذا الذي رأيته أمامك في هذه الصحيفة سنبدله حسنات ونعطيك مكان كل واحدة تبت منها حسنة عندنا، فإذا بالعبد يفرح بذلك ويتبجح، ويقول لله: (هناك أشياء لا أراها هنا) يعني: من ذنوب قد أخفاها الله عز وجل عنه حتى لا يحرجه ولا يضيق عليه بكرمه وبفضله سبحانه وتعالى يوم القيامة. ويوم القيامة يقتص الله لعباده بعضهم من بعض، حتى يؤتى بإنسان مؤمن وقد أخذ من حسناته حتى لم يبق له إلا حسنة واحدة، فإذا به يخاف أن تضيع هذه الحسنة، والله بكرمه سبحانه ينميها له ويضاعفها له ويدخله بها الجنة سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (الذي أحلنا دار المقامة من فضلة)

تفسير قوله تعالى: (الذي أحلنا دار المقامة من فضلة) قال الله تعالى: {الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر:35] أحلنا أي: أنزلنا وأدخلنا، ((دار المقامة)) أي: الدار التي فيها الإقامة الدائمة وهي الجنة. فالله سبحانه بمنه وكرمه أنزلنا فيها وجعلنا أهلها وجعلها دارنا ننزل فيها ولا نظعن عنها، ولا نخرج منها أبداً، ((مِنْ فَضْلِهِ)) أي: تكرماً منه سبحانه وليس باستحقاقنا؛ لأن أعمالنا لا تساوي أن ندخل هذا المكان العظيم، ولكن بفضل الله أنزلنا فيه، ((لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ)) أي: لا يمسنا فيها تعب، ((وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ)) اللغوب هو الإعياء، فالإنسان إذا عمل عملاً يمسه النصب والتعب، وتكل أعضاؤه، فهو مع العمل بلغ به الجهد أقصاه حتى إنه صار كالمريض، فأهل الجنة لا يمسهم فيها تعب يسير ولا تعب شديد؛ لأنه لا تعب ولا إعياء في الجنة، فأهل الجنة يمرحون ويلعبون ويأكلون ويشربون، وهم في نعيم مقيم في جنات إقامة دائمة ((جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا)). فإذاً: أهل الجنة كانوا في الدنيا في دار عمل وفي دار عناء وتعب؛ لأن الدنيا دار التكليف، فالله عز وجل يكلف عباده ويلزمهم بأشياء فيها مشقة عليهم، فهو ألزمهم أن يصلوا وأن يصوموا وأن يجاهدوا في سبيل الله، فهذه تكاليف شرعية فيها شيء من المشقة، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، فهو سبحانه لم يكلفنا مالا نطيق، لا، ولكن يكلفنا أقل مما نطيق، فقد كلفنا سبحانه وتعالى بخمس صلوات في اليوم والليلة، ونحن نطيق أكثر من ذلك، بدليل أننا نصلي نوافل، وكان ربنا سبحانه قد فرض على النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج خمسين صلاة، ومن فضل الله سبحانه وكرمه أن جعل موسى يراجع النبي صلوات الله وسلامه عليه، حتى خفف الله عن عباده وجعلها خمس صلوات، وقال: (أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي، هن خمس صلوات)، فإذا نظرنا في الخمسين صلاة متى نصلي هذه الخمسين، وكيف نقدر عليها، يقول سبحانه: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، فلم يكلفنا إلا ما نطيق سبحانه وتعالى، فكلفنا أقل مما نطيق فقد كلفنا خمس صلوات في اليوم والليلة. ومن فضله سبحانه أن أمرنا على لسان النبي صلى الله عليه وسلم: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب) رحمة من الله سبحانه وتعالى. كذلك الصيام أول ما فرضه الله على النبي صلى الله عليه وسلم، كان يبدأ من العشاء ويظل المرء صائماً الليل كله والنهار كله إلى أن تغرب الشمس، فجعل في هذا الصيام مشقة؛ ليرينا سبحانه أنه لو شاء لأعنتنا، ولكن الله بالمؤمنين رءوف رحيم سبحانه وتعالى، وهو لطيف بعباده، فجعل ذلك فترة وجيزة ثم خفف سبحانه وجعل الصيام على الهيئة التي عليها الآن، نصوم من الفجر حتى غروب الشمس ونطعم الليل كله حتى الفجر، فضلاً وكرماً من الله سبحانه وتعالى. لذلك أهل الجنة يذكرون ما كانوا عليه في الدنيا، فيقولون: عبدنا ربنا بفضله؛ فهو الذي دلنا على عبادته، وهو الذي أعاننا على عبادته، وهو الذي يسر لنا ذكره وشكره وحسن عبادته، فالفضل منه أولاً وآخراً، ذلك هو الفضل الكبير. كذلك أهل الجنة يأكلون ويشربون ما شاءوا، أما الإنسان في الدنيا فإنه إذا أكل وزاد عن حده انقلب إلى ضده، ولم يقدر على الطعام، وتعب وذهب إلى المستشفى من التخمة التي يصاب بها. كذلك الإنسان يأكل في الدنيا ويخرج ذلك غائطاً وبولاً، أما في الجنة فلا شيء من ذلك، لا قذارة فيها، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ولا بول ولا غائط ولا جشاء ولا حيض ولا نفاس؛ لأن الجنة دار طهرها الله سبحانه وطهر أهلها، فهم يأكلون ما يشاءون، فيخرج هذا منهم عرقاً يسيل من أبدانهم له رائحة المسك، لا يحتاج إلى وضع مسك. وأهل الجنة يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس، يرزقهم الله سبحانه التسبيح ويستمتعون بالتسبيح. في الدنيا الإنسان المؤمن الذي يعرف ربه يستمتع بالتسبيح، يقول: سبحان الله، ويستشعر هذه الكلمة العظيمة، سبحانك ما أعظمك يا رب العالمين، فكأنه يتذوق حلاوة هذه الكلمة بلسانه، ويقول: لا إله إلا الله، فيستمتع بلسانه بذكر الله سبحانه، ويطمئن قلبه بذكر الله سبحانه، فإذا دخل المؤمنون الجنة فهم في غاية الاستمتاع بذلك، فهم يلهمون التسبيح كما تلهمون النفس في الدنيا، وهم في جنة الخلود في نعيم يتذكرون الدنيا، وهم على سرر متقابلين قال تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:25 - 28] أي: أهل الجنة يتحدثون وهم على الأسرة ملوكاً في الجنة يحدث بعضهم بعضاً: يقولون: تذكرون يوم أن كنا في الدنيا نعمل كذا وكذا، وكنا خائفين من ربنا سبحانه وتعالى، وعملنا الأعمال الصالحة بفضل ربنا علينا، ويتذكرون كيف كان الكفار يريدون إغواءهم في الدنيا، فأحد أهل الجنة يتذكر أنه عندما كان في هذه الدنيا كان له صاحب يريد أن يغويه، فقال: {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} [الصافات:51 - 52]، وكان هذا المؤمن شريكاً لرجل من الكفار، فالكافر كان يأخذ ماله ويبني به القصور ويشتري البساتين ويعمل به أشياء كثيرة للدنيا، والمؤمن كان يأخذ ماله فيطعم ويشرب ببعضه، ويتصدق ببعضه، فإذا بشريكه الكافر يسخر منه، ويقول له: لماذا تتصدق بالمال؟ أمن أجل أننا مبعوثون يوم القيامة، يقول: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات:53] أي: سنبعث ونجازى يوم القيامة، فإذا بالله عز وجل يقول للمؤمنين: {هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} [الصافات:54] أي: انظروا ماذا حصل له؟ فاطلع هذا المؤمن فرأى هذا الكافر في سواء الجحيم، {قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} [الصافات:56] أي: كنت ستهلكني في الدنيا إن اتبعتك، {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات:57] معك في هذا العذاب، {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الصافات:58 - 60] فيقول الله تعالى: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61] أي: اعملوا من الآن في الدنيا لمثل هذا الجزاء العظيم ولمثل هذا اليوم الكريم الذي يُكرَم فيه المؤمنون، أما الكفرة فيهينهم الله سبحانه وتعالى، ويدخلهم ناره، ويقول ربنا سبحانه: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} [الصافات:62] أي: أهذا الذي هم فيه خير وإلا شجرة الزقوم التي هي في جهنم؟!

تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا)

تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا) قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر:36]، لما ذكر لنا حال أهل الجنة ونعيمهم المقيم -نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل جنته وأن يجيرنا من ناره- ذكر أهل الكفر، وأنهم حين يدخلون النار يخلدون فيها ولا يخرجون منها أبداً، ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ)) ونار الآخرة لا يطيقها إنسان أبداً، ونار الدنيا التي لا نطيقها يقول عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (إنها جزء من سبعين جزءاً من نار الآخرة) فأقصى ما يكون من نار الدنيا وأشد ما يكون من لهيب الدنيا، إنما هو جزء من أجزاء نار الآخرة، فكيف تكون نار الآخرة، نسأل الله العفو والعافية. وجهنم من أسماء النار، وكأنها مشتقة من الشيء البعيد القعر، يقولون: بئر جهنام بمعنى بئر بعيدة القعر، فنار جهنم هي النار البعيد القعر، يلقى بالحجر في النار فيهوي فيها سبعين خريفاً حتى يصل إلى قعر النار والعياذ بالله، فكأن جهنم أس النار وأصل النار وأساس النار، والدركة السفلى من النار التي فوقها الدركات الأخرى. فالجنة درجات عالية، والنار دركات هاوية، فأهوى ما فيها وأسقط ما فيها وأسفل ما فيها جهنم والعياذ بالله. وجهنم في أصلها شجرة الزقوم، {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ * خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ * ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:43 - 49]، هذا يقال للكافر كـ أبي جهل وأتباعه، الذين كانوا يسخرون من النبي صلوات الله وسلامه عليه حين يذكرهم بالنار، وبهذه الشجرة التي في النار، فيقول أبو جهل: شجرة زقوم يخوفنا منها، وهل تنبت شجرة في النار؟ ما الزقوم؟ تعالوا نتزقم، فيأتي لهم بالتمر فيقول: إنما الزقوم تمر يخلط بالزبد تعالوا نتزقم. يسخر من عذاب الله سبحانه وتعالى، وكان يقول لما يقول له النبي صلى الله عليه وسلم: إن أمثالك مصيرهم النار، يقول: أنا أدخل النار، أنا عزيز في قومي، تخوفني وأنا عزيز في قومي، وأنا أكرم على قومي من أن يتركوني، هذا الجاهل الذي لقبه النبي صلى الله عليه وسلم وكناه بـ أبي جهل لعنة الله عليه، وقال عنه: (هذا فرعون هذه الأمة)، هذا المجرم، قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ} [الدخان:43 - 44]، أي: لـ أبي جهل هذا وأمثاله، {كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ} [الدخان:45]، المهل دردي الزيت، والدردي: هو ما يتبقى في الإناء من الزيت المغلي، وطعمه قبيح جداً لا يستساغ، فهذا هو المهل الذي يكون في بطونهم. والمهل أيضاً: هو صديد أهل النار والعياذ بالله. وقال سبحانه: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الدخان:47] وعتل الشيء، أي: أخذه أخذاً عنيفاً فحمله وألقاه في النار. ثم قال تعالى: {ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ * ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:48 - 49] أي: كنت في الدنيا تقول: أنا عزيز، ذق أيها العزيز، وكنت تقول: أنا كريم، فذق أيها الكريم، وهذا هو الهوان وهذا هو الذل الذي كنت تستهزئ به. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر:36] أي: نار الدنيا إذا أحرقت إنساناً قضى الله عز وجل عليه ومات، أما نار الآخرة فليس فيها موت، وهذا أفظع ما يكون على أهل النار، فالله سبحانه وتعالى ييئسهم من الموت: (لما يدخل أهل النار من الكفار النار، ويدخل أهل الجنة الجنة، يؤتى بالموت بين الجنة والنار على هيئة كبش أملح، والله يخلق ما يشاء سبحانه، فينادى: يا أهل الجنة، فيشرئبون وينظرون، وينادى: يا أهل النار، فينظرون ويظنون أنهم سيخرجون من النار، فيقال للجميع: أتعرفون هذا؟ فيقولون: نعم. إنه الموت، فيأمر الله عز وجل بذبحه بين الجنة والنار، فيذبح الموت، ويقال لأهل الجنة: خلود بلا موت، ويقال لأهل النار: خلود بلا موت، فأهل الجنة يزدادون نعيماً وفرحاً بما أعطاهم الله، وأهل النار يزدادون غماً وبؤساً وشقاءً بأنه لا موت) {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء:56] أي: في نار جهنم كلما نضجت واستوت جلودهم وتفحمت من النار يبدلهم جلوداً أخرى غيرها، {لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:56]، سبحانه وتعالى. قال: ((لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا)) أي: لا يموتون في النار، وإنما يعطي الله عز وجل لهم القدرة على الحياة فيها، يحيون ويتألمون ويقاسون من حرها ولا يموتون أبداً، {وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر:36] أي: لا يخفف عنهم شيء من عذاب النار، {كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر:36] عبر بنون العظمة للدلالة على عظمة الله سبحانه وتعالى، أي: كذلك نجزي من كفر بنا، وابتعد عن ديننا، وعصى رسولنا صلوات وسلامه عليه. وقراءة أبي عمرو: ((كَذَلِكَ يجْزِي كُلَّ كَفُورٍ)) أي: كذلك الجزاء في نار جهنم خالدين فيها، وكل إنسان كفر بالله سبحانه وتعالى وجحد ربه سبحانه، وجحد نعم الله، وأشرك بالله، يجزى هذا الجزاء، فالكفار يدخلون النار ويعذبون عذاباً شديداً فيها، وقد أعذر الله سبحانه وتعالى إليهم، وينادون وهم في النار مالكاً خازن النار، قالوا: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77]، ما هو جوابه؟ {قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77] أي: إنكم مقيمون في النار ولن تخرجوا منها أبداً، قالوا: تعالوا: نصبر مثلما صبر أهل الدنيا في الدنيا على الدنيا فنالوا النعيم، نصبر قليلاًَ في النار، فصبروا فطال صبرهم، ثم جزعوا فقال بعضهم لبعض: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم:21]، قالوا: تعالوا: ننادي ربنا، فإنه كان رحيماً بنا في الدنيا، ولعله يرحمنا الآن، فنادوا ربهم، {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون:106] أي: ربنا كنا أشقياء في الدنيا، وغلب علينا القدر، {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:107] أي: كنا في الدنيا قوماً ضالين ظالمين، {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108] وكلمة اخسأ تقال للكلب، يعني: إذا أردت أن تطرد الكلب إلى مكان بعيد فتقول: اخسأ، فيقال لأهل النار من الكفار ذلك: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون:108 - 111]. أي: فاز أهل الجنة ونجاهم الله سبحانه وتعالى، وضاع أهل النار وخسروا بسبب ما كانوا يصنعون في الدنيا، وهذه الدنيا لا تساوي شيئاً، قال سبحانه: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} [المؤمنون:112] أي: يقال ذلك للجميع، فما جوابهم؟ {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون:113] أي: اسأل الذين يعدون. فأهل النار لا عذر لهم مقبول ولا هم يعتبون وهم في النار، وإنما يرون العذاب.

تفسير قوله تعالى: (وهم يصطرخون فيها)

تفسير قوله تعالى: (وهم يصطرخون فيها) يقول الله سبحانه: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:37] أي: وهم يصرخون، والإنسان إذا كان في مكان ويريد من أحد أن ينقذه يصرخ ويعلي صوته، فإذا بالغ في الصراخ فهو يصطرخ. فالإنسان الصارخ: هو الذي يرفع صوته مستغيثاً، والصريخ المغيث الذي يغيثه، {فَلا صَرِيخَ لَهُمْ} [يس:43] أي: لا أحد يغيثهم وهم في النار، ((وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا)) قائلين: ((رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ)) أي: من الأعمال الطالحة، أخرجنا نعمل أعمالاً صالحة، فيقول لهم: ((أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ)) ألم تعيشوا في الدنيا، وأعطيناكم أعماراً؟ عشتم في الدنيا ثلاثين سنة، وأربعين سنة، وستين سنة، ومائة سنة، هل انتفعتم بهذه الحياة وبهذا العمر الذي عمرتموه؟ أولم نعمركم عمراً علمتم فيه الحق من الباطل، وخبرتم فيه نبيكم صلوات الله وسلامه عليه وعرفتم صدقه؟ أولم نعمركم عمراً يتذكر فيه وفي مثله من تذكر؟ فقد تذكر هؤلاء المؤمنون فدخلوا الجنة؛ لأنهم تذكروا واستحقوا جنة الخلود، ((وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ)) أي: الإنذار من عند الله سبحانه، والنذير هو كتاب ربنا القرآن العظيم، والرسول صلوات الله وسلامه عليه، والقرآن رأوا فيه عبر وعظات في هذه الدنيا، فيما حل بالأمم السابقة من نكبات، وما أحل الله عز وجل بهم من نقمات. فجاءكم النذير ينذركم: احذروا أن تكونوا مثل قوم نوح أو قوم عاد أو قوم ثمود أو أصحاب الأيكة، أو قوم تبع أو غير ذلك ممن أهلكهم الله، ألم يأتكم نذير من عند الله سبحانه، ينذركم ويخوفكم من ذلك؟ أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فلم تنتفعوا؟ ((فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ)) أي: لا أحد ينصر الظالمين يوم يحكم الله عز وجل بالعدل بين العباد فيدخل من يشاء جنته برحمته، ويدخل من يشاء النار بعدله وحكمته. نسأل الله سبحانه أن يغفر لنا وأن يتوب علينا، وأن يدخلنا الجنة وأن ينجينا من النار بفضله ورحمته وهو أرحم الراحمين. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة فاطر [38 - 45]

تفسير سورة فاطر [38 - 45] يخبر سبحانه أنه يعلم غيب السماوات والأرض، ومن باب الأولى أن يعلم ما يشاهد فيها، وأنه يعلم ذات القلوب المخفية وما يدور داخلها، كما يخبر سبحانه أنه جعل الناس خلائف في الأرض، أي: يخلف بعضهم بعضاً، يموت هذا فيجيء هذا، وأن من كفر به سبحانه فإن كفره سيعود عليه بالوبال يوم القيامة، وأن الكافر إذا ارتكب أعمالاً خبيثة زادته عند الله بغضاً، ومن الله بعداً، وأوردته جهنم، ثم يخاطب الله سبحانه الكفار بأن يروه المخلوقات التي خلقتها آلهتهم التي يعبدونها، وهيهات أن يفعلوا!

تفسير قوله تعالى: (إن الله عالم غيب السموات والأرض)

تفسير قوله تعالى: (إن الله عالم غيب السموات والأرض) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: يقول الله سبحانه وتعالى في سورة فاطر: {إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا * قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا * إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا * وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا * اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا * أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا * وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} [فاطر:38 - 45]. يخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات من آخر سورة فاطر بأنه سبحانه علام الغيوب فهو عالم غيب السماوات والأرض وهو عليم بذات الصدور سبحانه. {إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [فاطر:38]، فإذا علم ما غاب فمن باب أولى أن يعلم ما حضر وما شوهد فهو يعلم كل غائب في السماوات والأرض، وكل شيء اختفى في ظلمات الأرض سواء كانت حبة في رطب أو في يابس فإنه يعلمها ويعلم مصيرها، فهو يعلم ما في السماوات وما فوقهن، وما في الأرض وما تحتها وما بين ذلك. {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الرعد:9]، أي: ما غاب وما شوهد {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [فاطر:38]، أي: بخفايا النفوس وبما أخفوه في قلوبهم، وذات الصدر الخفية في صدر الإنسان يعلمها، فهو يعلم ما في داخلها مما أخفاه العبد من نية: خير أو غير ذلك.

تفسير قوله تعالى: (هو الذي جعلكم خلائف في الأرض)

تفسير قوله تعالى: (هو الذي جعلكم خلائف في الأرض) {هو الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا} [فاطر:39]، أي: خلفاً بعد خلف يخلف بعضكم بعضاً، فالله سبحانه جعل العباد خلفاء في الأرض، وخلائف فيها، يخلف بعضهم بعضاً، هذا يذهب وقد سلف ومضى، وذاك يخلفه ويجيء ويكون حاضراً، ثم يمضي عليه زمن فيزول كما زال غيره ويخلفه غيره، فالناس خلفاء في الأرض يخلف بعضهم بعضاً، والناس خلائف في الأرض، أي: خلفاً بعد خلف يخلف بعضهم بعضاً قرناً بعد قرن. وكلمة الخلف تطلق على التالي للمتقدم، إذاً: إذا تقدم إنسان فنقول عنه مضى وسلف، والذي يأتي من بعده نقول له: هذا الخلف لهؤلاء السلف، والناس يخلف بعضهم بعضاً فهم خلفاء في الأرض، وليسوا خلفاء الله في الأرض، فليس الإنسان خليفة لله في الأرض، وإنما الإنسان يخلف غيره من الناس إذا ذهب إنسان جاء إنسان غيره، أما الله فهو حي لا يموت سبحانه، فهو يدبر أمر السماوات والأرض ويحكم فيهن سبحانه بحكمه. وقد جاء عن أبي بكر الصديق أنه لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم قال له البعض: يا خليفة الله! قال أبو بكر رضي الله عنه: لست بخليفة الله ولكني خليفة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه. فالناس يخلف بعضهم بعضاً ولا يخلفون الله في أرضه سبحانه، فالله يحكم في أرضه وفي سماواته ويشرع ما يشاء سبحانه، ولكن الإنسان خليفة في الأرض أي: يخلف بعد أن يمضي غيره، فيأتي هذا الإنسان خلفاً لسلف. {فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} [فاطر:39]، أي: من كفر فعليه وزر كفره وإثم كفره، فهو يحمل فوق كاهله هذا الكفر الذي جاء به في الدنيا يوم القيامة، {وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا} [فاطر:39]، إن الله قد غضب عليه لكفره، فإذا عمل من أعمال الكفر شيئاً ازداد بها مقتاً عند الله، والمقت: هو أشد البغض فتقول: فلان أبغض فلاناً، وفلان مقت فلاناً، فالبغض هو الكراهية، أما المقت فهو أشد الكراهية، فهؤلاء يزدادون بمكرهم وخداعهم وكيدهم للمؤمنين من الله بعداً، ويزدادون عند الله مقتاً، فيمقتهم سبحانه ويغضب عليهم ويبغضهم ويكرههم هم وأفعالهم. قال الله سبحانه: {وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا} [فاطر:39]، أي: مكروا بالمؤمنين كلما زاد عذابهم عند الله، فازدادوا خسراناً وهواناً عنده سبحانه، ولا يحيق مكرهم السيئ إلا بهم.

تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله)

تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله) قال سبحانه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا} [فاطر:40]، يخاطب الله سبحانه هؤلاء الكافرين المشركين الذين عبدوا غير الله سبحانه وكادوا للمؤمنين وأرادوا خداعهم وعمل الحيل لإهلاكهم وإن كانوا هم الذين يهلكون بكفرهم وبحيلهم وبمكرهم بالمؤمنين فإن الله يهلكهم يوماً من الأيام. يقول لهؤلاء: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [فاطر:40]، وشركاءكم منصوبة على المفعولية للفعل رأى ومعناه: أخبروني عن {شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [فاطر:40]. وفيها قراءات: قراءة الجمهور {قُلْ أَرَأَيْتُمْ} [فاطر:40]، ويقرؤها نافع وأبو جعفر بالتسهيل، وذكرنا أن الأجود عند العرب كما يقول الخليل: أنهم إذا التقت همزتان يخففون إحداهما، ومن هذا الباب وقع التسهيل هنا، وكما ذكرنا أنه وجد التسهيل في قراءة حفص عند قوله: (أأعجمي وعربي) وهو من هذا الباب أيضاً؛ فإنه إذا التقت همزتان فإن العرب تحذف الثانية منهما أو تقلبها ألفاً كأن يقول: أعجمي أو آعجمي وعربي على قراءات فيها. وكذلك هنا {قُلْ أَرَأَيْتُمْ} [فاطر:40]، هذه قراءة نافع وأبو جعفر ويقرؤها الكسائي (قل أريتم) وإذا قرأ الأزرق وورش {قُلْ اَرَأَيْتُمْ} [فاطر:40]، فإنه ينقل الهمزة الأولى على طريقته، وأيضاً هناك قراءة أخرى للأزرق يمد مداً طويلاً (قل ارآيتم شركاءكم) فيمدها وينقل الهمزة. {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [فاطر:40]، أي: أخبروني عن هؤلاء الشركاء الذين عبدتموهم من دون الله وطلبتم منهم ما لا يطلب إلا من الله {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ} [فاطر:40]، إذاً: {أَرَأَيْتُمْ} [فاطر:40]، الأولى معناها: أخبروني عن هؤلاء، و {أَرُونِي} [فاطر:40]، أي: اجعلوني أنظر وأبصر إلى هذا الشيء الذي خلقته هذه الآلهة من دون الله؟ {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ} [فاطر:40]، أي هل لهم شراكة في السماوات مع الله سبحانه أخبروني عن ذلك؟ وقد قال إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام في محاجته ومناظرته للنمرود كلمة عظيمة أبهته بها حين قال لقومه: إنه الرب الذي يستحق العبادة من دون الله، قال الله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} [البقرة:258] يعني: لكونه قد أوتي الملك {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة:258]، قال النمرود: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258]، أي: وأنا أيضاً أحيي وأميت أحكم على اثنين بالإعدام ومن ثم أعفو عن واحد وأقتل الثاني إذاً: أحييت هذا الإنسان، وأمت هذا الإنسان، وهذا كلام لا يقبله إنسان عاقل. لذلك إبراهيم أضرب عن هذا الكلام الفارغ الذي يقوله هذا الإنسان، وقال له شيئاً آخر لا يقدر أن يجادل فيه فقال: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة:258]. فالله عز وجل لا شريك له سبحانه لا في الأرض ولا في السماء {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ} [فاطر:40]، أم بمعنى: بل (ءآتيناهم) أي: أعطيناهم كتاباً من عندنا {فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ} [فاطر:40]، أي: فهم على ثقة من هذا الشيء، وعلى بصيرة فيما يقولون ويفعلون ويعبدون الأصنام والأحجار، فهل هم على بينة من هذا الذي يقولونه ويزعمونه؟ وقراءة ابن كثير وأبي عمرو وحفص عن عاصم وحمزة وخلف {عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ} [فاطر:40]، بالإفراد وباقي القراء يقرءون (فهم على بينات منه) بالجمع. وإذا وقف ابن كثير وأبو عمرو عليها فإنهما يقفان بالهاء (فهم على بينه) وباقي من يقرؤها بالإفراد يقف بالتاء (فهم على بينة) ولذلك تجدها مكتوبة في المصحف بالتاء في آخرها. {بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا} [فاطر:40]، أي: اضرب عن هذا الذي يقولون، فإن هؤلاء في غرور فهم يعد بعضهم بعضاً خداعاً وتمويهاً وغروراً زائلاً لا يدوم أبداً، فيقول بعضهم لبعض لا يوجد جنة ولا نار {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24]، فهم في غرور، والغرور: هو الشيء الزائل، فكلامهم كلام فارغ لا قيمة له. وهذا الأحمق الذي يسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:30] أي: النار: فقال: أنا أدفع عشرة من هؤلاء وعليكم الباقي، فهذا المغرور الأحمق أين قوته التي يستطيع بها دفع ملك واحد حتى يقول: أدفع عشرة، وقد كان يلقب بأبي الأشدين ويقول: سأقف على باب النار أسده بكتفي حتى لا يدخل أحد النار، إنه يظن أن النار زنزانة كزنازين الدنيا سيضع يديه عليها فيمنع الناس من الدخول فيها ولم يدر أنها عذاب رب العالمين سبحانه وتعالى. فإنه سيؤتى بهذه النار لها سبعون ألف زمام، والزمام: هو المكان الذي يمسك به، على كل زمام سبعون ألف ملك من ملائكة الله عز وجل، فيأتون بها إلى حيث يشاء الله سبحانه وتعالى، (ويخرج عنق من النار)، ويقول: وكلت بالجبارين، وكلت بالمتكبرين، وكلت بالمصورين فيخطف هؤلاء من الموقف إلى نار الجحيم والعياذ بالله، وكذلك أبو جهل ذكرنا أنه كان يقول: إن محمداً -صلوات الله وسلامه عليه- يخوفنا بالزقوم، وهل تخرج شجرة في النار؟ فيسخر من شجرة الزقوم، والله سبحانه تبارك وتعالى يقول: {بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا} [فاطر:40]. وهكذا هم أهل الظلم في غرور وفي باطل وخيبة وفي خسران يمني بعضهم بعضاً، ويضحك بعضهم على بعض حتى تأتي الطامة الكبرى على الجميع فلا يقدرون على الهرب، ولذلك يقول الله عن المستكبرين هؤلاء وهم في النار: {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} [يونس:54]، أي: خافوا من الضعفاء الذين خدعوهم في الدنيا أن يسمعوهم وهم يقولون: يا رب ندمنا، فيقولون لهم: لماذا أغريتمونا في الدنيا؟ فأسروا الندامة عن أتباعهم وقالوا بينهم وبين ربهم يا رب ندمنا فلم تنفعهم توبة، ولم ينفعهم ندم، وقد ضيعوا أعمارهم في كفر وغرور. وقد كان رجل من هؤلاء الكفار إذا جلس النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الله، ويقرأ عليهم القرآن، ثم يقوم يأتي هذا الرجل ويجلس في مكان النبي صلى الله عليه وسلم، ويحكي عن الأسكندر، وعن كسرى وقيصر، وعن الروم والفرس ثم يقول: أينا أحسن حديثاً أنا أم هو؟ يظن أنه بهذه الخيبة أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم، وكلهم كانوا يعرفون أن النبي صلى الله عليه وسلم صادق وإن كانوا لا يتبعونه حسداً للنبي صلى الله عليه وسلم، واغتراراً بالدنيا، ويعرفون أن هذا الرجل كذاب يقول كلاماً فارغاً، ويحكي حكايات وقصصاً لا غير، فهم يعتقدون أن ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم حق، ولكنهم يجحدون، {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33]. {إِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ} [الأنعام:33]، إن الله عز وجل يطمئن النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية ويخبره أنهم لا يعتقدون أنه كذاب، وأن مرادهم من قولهم كذاب شيء فظيع وهو جحد آيات الله سبحانه، وجحد الشيء هو الإقرار به في النفس مع جحده باللسان فيقره في نفسه، وينكره بلسانه، مثاله: أن يأخذ إنسان من آخر متاعاً أو نحوه، ثم يقول ما أخذت منك فالجاحد مستيقن في نفسه أنه كذاب ويعلم أنه أخذ الشيء ثم هو ينكر بلسانه، كذلك {الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33]، فهم مستيقنون بها في أنفسهم ولكن الذي يظهر على ألسنتهم هو الإنكار. فقد قال بعض الظلمة لبعض سنغلب محمداً صلى الله عليه وسلم ونوثقه أو سننفيه خارج البلد أو نقتله، يعد بعضهم بعضاً بأشياء هي غرور في حقيقتها فلم يقدروا على شيء من ذلك، وقد قال له ربه سبحانه: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67].

تفسير قوله تعالى: (إن الله يمسك السماوات والأرض)

تفسير قوله تعالى: (إن الله يمسك السماوات والأرض) قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} [فاطر:41]، هذه آية من آيات الله سبحانه وتعالى، وما أعظم آيات الله سبحانه فعلى المؤمن أن ينظر في هذه الآيات وأن يتدبر {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا} [فاطر:41]، أما الصنم الذي يعبده هؤلاء فهل يمسك السماوات؟ أو يمسك الأرض؟ وهل يصنع شيئاً؟ إذاً: الصنم لا يتصرف في هذا الكون {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22]، فهم يزعمون أن الأصنام آلهة وها هي تزول وتتكسر وتذهب ومع ذلك تظل الدنيا باقية على ما هي عليه، لم يتغير مجيء الشمس من مشرقها يوماً لأجل أنه كسر صنم، فكيف تعبدونها من دون الله وهي لا تملك لنفسها فضلاً عن غيرها شيئاً؟ فالله سبحانه هو الذي يمسك السماوات وعرفنا كيف يدبر الله سبحانه أمر هذا الكون فالشمس تطلع كل يوم من مشرقها، وتغرب من مغربها، والقمر يأتي في موعده ومن مكانه، ينير في أيام ويستتر في أيام، ويمحق في أيام، والله يقضي ما يشاء خلال العام سبحانه وتعالى. وحين نتأمل مجرات الكون من الذي يمسكها؟ ومن الذي يأتي بها ويذهبها؟ ومن الذي يخلق هذه الأشياء العظيمة التي ينبهر الإنسان حين يتفكر فيها؟ إنه الله سبحانه فقد ثبت كل شيء في مكانه وفي مداره، فهو يجري ويدور وهو في موضعه الذي قضاه الله سبحانه وتعالى له، لا يخرج عنه إلى مكان آخر، فلو تخيلنا أن الشمس خرجت عن مدارها، أو القمر خرج عن مداره ما الذي يحدث؟ ما الذي يحدث لنا ونحن على هذه الأرض العجيبة التي جعلها الله عز وجل مهيئة بسكنى أهلها بهذه الأبعاد السماوية؟ فلو كانت الشمس قريبة من الأرض لاحترقت هذه الأرض جميعها، ولو أن القمر قرب أكثر مما هو عليه من الأرض لزاد المد والجزر ولغرقت هذه الدنيا. فالإنسان يتخيل هذا النظام الدقيق فالقمر يدور حول الأرض في مدار ثابت، ثم يجعله الله ينزل في منازل حولها، ويجعل {الشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس:38]، في مكان وبعد ثابت بينها وبين الأرض، لا يختل نظام دوران الأرض، ولا جري الشمس عن مكانه منذ خلقها الله سبحانه إلى أن يشاء الله عز وجل، وشروق الشمس من مغربها من العلامات الكبرى لقيام الساعة، والله يمسك هذا كله ولو كان غير الله سبحانه يفعل شيئاً ومات هذا الغير؛ لانتهى هذا الشيء وزال وزالت السماوات والأرض ولكن الله وحده هو الذي يمسك هذا كله وغيره لا يملك لنفسه ولا لغيره شيئاً. {وَلَئِنْ زَالَتَا} [فاطر:41]، يعني: السماوات والأرض هل أحد يستطيع أن يثبتها؟ وانظر إلى آيات الله سبحانه حين يذكر القيامة {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:1 - 9]، وقال سبحانه: {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} [الانفطار:1 - 4]. هذا النظام الكوني حين يبعثره الله سبحانه وتعالى، ويقضي عليه بالاضمحلال والزوال هل يقدر أحد أن يثبته على غير ما أراد الله؟ لا أحد يقدر على ذلك، {وَلَئِنْ زَالَتَا} [فاطر:41]، بأمر الله سبحانه وتعالى {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} [التكوير:11]، أي: تكشط كما يكشط الذي يكون فوق الإناء {فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [الرحمن:37]، أي: صارت حمراء كالدهان فتكشط وتزول هذه السماء العظيمة وتتناثر الكواكب والنجوم، ويسقطها الله إلى حيث يشاء سبحانه وتعالى. ومعنى قوله {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير:1]، أي: لف بعضها ببعض ثم تجعل في النار زيادة في عذاب أهلها وكل من عبد الشمس فأنه يتبعها إلى النار، وكذلك القمر يخسف به يوم القيامة، والنجوم تتكور وتنكدر ويذهب بعباد هذه الكواكب إلى النار والعياذ بالله. {إِنْ أَمْسَكَهُمَا} [فاطر:41]، يعني: لا يمسكهما أحد بعد الله سبحانه وتعالى {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر:41]، الحليم: هو الذي لا يعاجل بالعقوبة مع القدرة عليها، والله عز وجل متصف بصفة الحلم، وصفة الحلم قريبة من صفة الصبر والصبر هو الانتظار والإمهال وعدم التعجل تقول فلان حليم يعني: لا يستخفه شيء أي: لا يستفزه ويجعله يندفع ويتهور هذا في الناس، والله سبحانه وتعالى رب الناس وهو حليم صبور سبحانه وتعالى. إذاً: فصفة الحلم والصبر لله تدلان على رحمة رب العالمين وعلى أنه يتأنى على العبد ولا يتعجل عليه بعقوبته، ولكن هناك فرق بين الحليم والصبور: فالحليم قد تأمر عقوبته أما الصبور فهو الذي لا تأمن عقوبته وهو سبحانه الذي قضى أن رحمتي سبقت غضبي، فرحمة الله عز وجل تغلب غضبه وتسبقه. فهو يحلم عن عباده إذا وقعوا في المعاصي فلا يبادرهم بالعقوبة ولكن يصبر عليهم سبحانه وتعالى لعلهم يتوبون، ولذلك جاء في الحديث، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم الملكان: ملك عن يمينك، وملك عن شمالك، الذي عن يمينك يكتب عليك حسناتك والذي عن شمالك يكتب عليك سيئاتك، فجعل الله عز وجل الذي عن يمينك حاكم على الذي عن يسارك، فإذا بدر من الإنسان معصية أمره الذي عن اليمين اصبر عليه لعله يتوب، فيرفع عنه قيل ست ساعات لعله يتوب فإذا لم يتب كتب عليه الذي فعله والله أعلم. فالغرض أن الله سبحانه يحب من عبده أن يتوب، فإذا بادر بالتوبة ورجع إلى الله عز وجل تاب الله عز وجل عليه، وقد يبدل سيئاته حسنات، ولكن العبد الذي يصر على معصية الله سبحانه، هو الذي يستحق عقوبة رب العالمين سبحانه، {غَفُورًا} [فاطر:42] أي: يمحو الذنوب ويسترها، ويعطي للعبد الأجر يوم القيامة إن تاب إليه، وإن شاء الله سبحانه وتعالى تاب عليه بغير توبة.

تفسير قوله تعالى: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم)

تفسير قوله تعالى: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم) قال الله عز وجل: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً} [فاطر:42]، أي: وأقسم هؤلاء الكفار قبل مجيء النبي صلى الله عليه وسلم، واجتهدوا في الأيمان المغلظة، وجهد في يمينه إذا بالغ في القسم {لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ} [فاطر:42]، فهؤلاء الكفار قبل مجيء النبي صلوات الله وسلامه عليه لما رأوا حال أهل الكتاب، وكيف كذبوا رسلهم وغيروا وبدلوا في دينهم، ورأوا منهم أشياء إذا بهم يقولون: لو كان فينا نحن العرب نبي من الأنبياء، فنحن أول من نؤمن به، ولن نتركه أبداً، ولن نكذب كما كذب هؤلاء، وأقسموا على ذلك وكان عندهم من أهل الكتاب بعض الأخبار فإن اليهود كانوا في المدينة بعضهم مع الأوس وبعضهم مع الخزرج، وكانوا مستذلين، لا يعيشون إلا تحت حماية الأوس أو تحميهم الخزرج، فكانوا إذا غلبوا وقهروا واستذلوا يقولون: قد أظلكم زمن فيه نبي والله لنؤمنن به ولنقاتلنكم معه، وانتشرت مقالتهم، وعرف الكفار أن في هذا الزمان سيخرج نبي صلوات الله وسلامه عليه. فالبعض من الكفار كان يحلم أن يكون هو هذا النبي، فبدأ بعضهم مثل أبو عامر الفاسق الذي كان يلقب في الجاهلية الراهب بدأ يتعبد فترة طويلة يريد أن تنزل عليه الرسالة، ويكون هو الرسول، فلما لم تنزل عليه إذا به يكفر أشد الكفر! إذاً ما كانت عبادة الله لتهب لأحد النبوة فالله أعلم بخلقه والعابد الحقيقي هو: الذي يرضى بقضاء الله سبحانه وتعالى نزلت الرسالة عليه أو نزلت على غيره، لا فرق عنده، وطالما أن الله يرضى عنه إذاً يتابع، لكن الله عز وجل أعلم الخلق أن فلاناً هذا الذي يصلي ويصوم في باطنه الشر، وأنه شرير، وأنه لن يزداد بهذا الدين إلا خبثاً على خبث، ويأتي أمر الله عز وجل وتجد هذا الإنسان بمجرد أن يبتلى يخرج عن دينه، ويخرج عن طوره، ويترك هذا الدين، كما فعل هذا الرجل الفاسق الذي لقبه النبي صلى الله عليه وسلم بأبي عامر الفاسق بعدما كان يلقب بالراهب من كثرة عبادته في الجاهلية فقد انقلب إلى النقيض في الإسلام حين وجد الرسالة لم تنزل عليه. وبعض أهل الجاهلية سمعوا أن رسولاً سيخرج اسمه محمد، فبدأ البعض يسمي ابنه محمداً لعله يكون هو الرسول والأمر ليس بالكسب وإنما هو هبة من الله سبحانه وتعالى، فالرسالة هبة من الله يهبها من يشاء من خلقه، فهؤلاء الكفار كانوا ينتظرون متى يأتي هذا النبي، فلما جاء النبي صلوات الله وسلامه عليه وقد كانوا يقولون: أنهم سيكونون أهدى من اليهود، ومن النصارى الذين لم يتابعوا رسلهم عليهم الصلاة والسلام. قال الله عز وجل: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا} [فاطر:42]، أي: لما جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم ازدادوا بعداً عن دين الله سبحانه وتعالى، وما زادتهم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلا بعداً عن الله ونفوراً ونفر بمعنى: فر فكأنهم اشمأزوا من ذلك، {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} [الزمر:45]. قال تعالى: {اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر:43]، أي: يطعنون في النبي صلوات الله وسلامه عليه، ويؤذونه ويؤذون المؤمنين ويستكبرون على دين رب العالمين {وَمَكْرَ السَّيِّئِ} [فاطر:43]، أي: ويمكرون المكر السيئ إذاً: زادهم نفوراً واستكباراً ومكراً سيئاً فهم يمكرون السوء بعباد الله المؤمنين، والمضاف هنا محذوف، والأصل مكر العمل السيئ فحلت الصفة محل الموصوف فقام النعت مقام المضاف هنا، قال {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر:43]، وقراءة الجمهور {وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر:43]، هذا في الوصل وفي الوقف {وَمَكْرَ السَّيِّئِ} [فاطر:43]، لكن حمزة إذا وصلها يسكنها ويقول (ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيَّئُ إلا بأهله) تخفيفاً وهذا التخفيف لأجل توالي الكسرات مع الياءات فكأنه خفف بالتسكين. والمكر بمعنى: الخديعة والكيد والحيلة، فهم يمكرون فيعملون أعمالاً رديئة وخبيثة وحيلاً يحتالون بها على المؤمنين حتى يردوهم عن دينهم، فمكروا المكر السيئ {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر:43]. وهذا وعد من الله سبحانه وإخبار منه أن المكر السيئ يحيق بأهله و {يَحِيقُ} [فاطر:43]، بمعنى: يحيط وحاق به بمعنى: أحاط به على وجه الإهلاك، فيكون المعنى: نزل به هذا المكر الذي مكره والجزاء من جنس العمل، فقد مكرتم مكراً سيئاً حتى تخدعوا المؤمنين فتوقعوهم فيما تريدون من حيل ومكر فالله عز وجل يجعلكم أنتم الذين تقعون في ذلك ويحيق بكم مكركم ونزل بكم ما مكرتموه بالمؤمنين، ولذلك يقول الله سبحانه: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر:43]، ويقول: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} [الفتح:10]، ويقول: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [يونس:23]، فالإنسان الذي يخدع تحيق به خديعته، والإنسان الذي ينكث في عهده ويغدر يتسبب في إصابة نفسه وهلاكه، كذلك الإنسان الذي يبغي فيظلم عقوبته على نفسه في النهاية وهذا في كتاب الله سبحانه وتعالى. ولذلك جاء أن بعض الصالحين قال: لا تمكر ولا تعن ماكراً جاء عن الزهري ورفع للنبي صلى الله عليه وسلم ولا يصح مرفوعاً، ولكنها كلمة حكيمة، لا تمكر ولا تعن ماكراً فإن الله عز وجل يقول: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر:43]، فلا تخدع أحداً لأن خداعك سيعود عليك، فإن الله عز وجل يقول: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر:43]، ولا تبغ ولا تعن باغياً ولا تظلم ولا تعن إنساناً ظالماً فإن الله تعالى يقول: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} [الفتح:10]، ويقول: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [يونس:23]. فمن ظلم رجعت عليه العقوبة بسبب ظلمه، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من غشنا فليس منا) (والمكر والخديعة في النار) فالذي يغش المؤمنين ليس من المؤمنين وليس على طريقة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا على طريقة أهل الإسلام، بل هو مقتد بالكفار، (والمكر والخديعة في النار) فالذي يمكر ويدبر الحيل والمكايد من أجل أن يوقع الناس فيها خداعه يحيق به، ويستحق بسببه أن يكون في النار، فاحذر أن تمكر بالمؤمنين يقول الله سبحانه: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ} [فاطر:43]، بمعنى: عادة الله في الأولين، والعادة عنهم أنهم يكذبون، والعادة من الله عز وجل فيهم أنه ينتقم منهم ويهلكهم {فَهَلْ يَنْظُرُونَ} [فاطر:43]، أي: هل ينتظرون إلا عقوبات الأولين {إِلَّا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ} [فاطر:43]. والجمهور إذا وقفوا على كلمة {سُنَّةَ} [فاطر:43]، يقفون بالتاء وهي مذكورة في المصحف بالتاء المفتوحة، وإذا وقف عليها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب. يقفون بالهاء سنة في الثلاثة المواضع {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [فاطر:43]، أي: أفعاله بالسابقين أنهم يكيدون بالمؤمنين والله يكيد لهم فيهلكهم هذه عادة مطردة في كل زمان، لا تبديل لها ولا تحويل. فمن يستطيع إذا أنزل الله عقوبة على أحد أن يبدلها إلى رحمة مثلاً لا أحد يقدر على ذلك، وكذلك إذا أنزل الله العقوبة على فلان فمن يستطيع أن يحولها إلى آخر لا أحد يقدر على تبديل ما فعله الله، ولا على تحويله من مكانه إلى مكان آخر.

تفسير قوله تعالى: (أولم يسيروا في الأرض)

تفسير قوله تعالى: (أولم يسيروا في الأرض) قال سبحانه: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر:44]. أي: هلا ساروا في الأرض فنظروا كيف فعلنا بالذين من قبلهم، وهم يعرفون ذلك تماماً فهم يمرون بحجر ثمود في ذهابهم إلى الشام ويقولون هنا حجر ثمود، هنا أهلك الله عز وجل ثمود قوم صالح، ويمرون ذاهبين إلى اليمن بديار عاد فيقولون: هنا كان عاد في هذا المكان ويقولون: هنا الفراعنة أهلكهم الله وأغرقهم هذه آثارهم، فهم يعرفون ما الذي صنع الله عز وجل بهم {وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فاطر:44]. وأجسام العباد تقل حتى تصير إلى ما نحن عليه، وكانوا قبل ذلك أعظم أجساداً، وأقوى أبداناً، أعطاهم الله سبحانه وتعالى من القوة ما شاء، وقال عن هؤلاء {وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ} [سبأ:45]، أي: ما بلغتم عشر الذي أتيناه أولئك من قوة وصحة ومن عدد ومال في جيوشهم وفي أنفسهم. قال سبحانه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر:44]، أي: لا شيء يعجز الله، تقول أمسكت فلاناً، أو أردت أن أمسك فلاناً فأعجزني فلم أقدر عليه، لكن لا شيء يفلت من الله سبحانه، ولا شيء يهرب من عقوبته، ولا شيء يعجزه سبحانه، لا في السماوات ولا في الأرض، فهو العليم بكل شيء، وهو القدير على كل شيء سبحانه، {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} [النحل:61]، وهذه تكررت في القرآن كثيراً.

تفسير قوله تعالى: (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا)

تفسير قوله تعالى: (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا) يقول الله: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً} [فاطر:45]، أي: بما اجترحوا من سيئات فلو أن الإنسان إذا أخطأ خطأً صغيراً عاجله الله بالعقوبة وإذا أخطأ خطأ كبيراً عاجله الله بالعقوبة لهلك. كل من فوق الأرض؛ لأن كل بني آدم خطاء، ولكن الله برحمته يصبر ويعفو ويحلم سبحانه وتعالى، قال: {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:45]، والدابة كل ما يدب فوق الأرض من إنسان أو حيوان أو حشرة، فكأن الإنسان إذا أذنب تأتي العقوبة فتهلك الجميع. فالطوفان في عهد نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، لم يغرق الكفرة فقط، بل أغرق كل من فوق الأرض من حيوان وغيره، فكأن العقوبة التي تأتي على الإنسان تعم من فوق الأرض فهو سبحانه يتكرم ولا يؤاخذ العباد بكل ما اكتسبوا وإلا لأهلك جميع من فوق الأرض، {وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [النحل:61]، أي: يؤخر كل إنسان إلى أجله ووفاته {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} [الأعراف:34]، أي: جاء أجل كل إنسان {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} [فاطر:45]، أي: بصير بالذي يخفيه والذي يبديه وبالذي صنعه فوق هذه الأرض فيجازيه الله سبحانه وتعالى عليه. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

يس

تفسير سورة يس [1 - 6] سورة يس لها خصائص ومميزات السور المكية، وهي إحدى السور التي بدأها الله بالحروف المقطعة، ليبين عظم بلاغة هذا القرآن، ويتحدى به المشركين أن يأتوا بآية مثله، ولسورة يس فضائل وإن كانت الأحاديث التي تدل على فضلها ضعيفة، وهي تركز على أمور العقيدة، والإيمان بالبعث والجزاء والحساب والجنة والنار.

خصائص ومميزات سورة يس

خصائص ومميزات سورة يس

اختلاف العلماء في الآية المدنية من يس

اختلاف العلماء في الآية المدنية من يس واختلف العلماء في الآية التي قالوا فيها إنها مدنية فقالوا: قول الله عز وجل: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:12] هذه آية مدنية. وجاء فيها حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه خلت البقاع حول مسجد النبي صلوات الله وسلامه عليه، فأرادت بنو سلمة أن تقرب من مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وخشي النبي صلى الله عليه وسلم أن تخلو جوانب المدينة) فهم في أطراف المدينة حماية لها، فإن كان الجميع يتركون أطراف المدينة ويأتون إلى جوار النبي صلى الله عليه وسلم فإن الأعداء يدخلون بسهولة على المدينة؛ والمنافقين ينشرون أخباراً في أطراف المدينة لا تبلغ النبي صلى الله عليه وسلم بسهولة (فذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية وقال: يا بني سلمة! دياركم تكتب آثاركم)، وحث على لزوم الديار، فيقول: الزموا دياركم تكتب آثاركم، فنهاهم أن يقربوا من المسجد وأمرهم أن يبقوا في أماكنهم، وبين لهم أن أثر مجيء الإنسان من بيته إلى بيت الله عز وجل يكتب فيه بكل خطوة يخطوها المرء حسنة، فذكروا أن هذه الآية في ذلك. والصواب: أن معناها في ذلك، ولكن لم تنزل في ذلك، وليس نزول هذه الآية في المدينة، وإن كان الحديث الذي رواه الترمذي يوهم ذلك، فالصواب أنها نزلت مع باقي السورة حين أنزلها الله عز وجل في مكة، ولكن معنى الآية يوافق الحادثة فقالها لهم النبي صلى الله عليه وسلم.

فضل سورة يس

فضل سورة يس ذكر المفسرون أحاديث كثيرة وآثاراً في فضل هذه السورة، ولكن أكثر ما ذكروه كان ضعيفاً، فمنها قولهم: جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اقرءوا على موتاكم يس) هذا الحديث رواه الإمام أحمد ورواه أبو داود ورواه ابن ماجة وغيرهم من حديث معقل بن يسار بإسناد ضعيف. ولكن الظاهر أن هذه السورة مفيدة فعلاً في قراءتها على الموتى، فقد روى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن صفوان قال: حدثني مشيخة: أنهم حضروا غضيف بن الحارث الثمالي وكونه يذكر مشيخة معناها: عدد من التابعين، وهم وإن كانوا مجهولين ولكن بكثرة العدد ترتفع هذه الجهالة، ويغتفر فيها جهالة آحادهم بمجموعهم، فهم مجموعة من مشيخة التابعين رووا هذا عن غضيف بن الحارث الثمالي، وهو صحابي، فحين اشتد سوقه قال لمن حوله: هل منكم أحد يقرأ يس؟ وكان صالح بن شريح السكوني يحفظها فقرأها، فلما بلغ أربعين آية منها قبض غضيف بن الحارث رضي الله تبارك وتعالى عنه. فقراءة هذه السورة على الإنسان الذي في سياق الموت يخفف عليه خروج الروح، فكان المشيخة من التابعين يقولون: إذا قرئت عند الميت خفف عنه بها، ففيها أنه يستحب أن تقرأ هذه السورة على الإنسان الذي يموت في سياق الموت، ولم يرد أنه بعدما يموت يقرأ عليه ذلك، وإن كان الراجح فيمن قرأ قرآناً وأهدى ثوابه لميت أنه يصل الثواب إليه. فسورة يس ذكر في فضلها أحاديث ضعيفة، وهي من أفضل ومن أعظم سور القرآن، لكن الغرض هو بيان أن الأحاديث التي في الفضائل لابد من صحتها عن النبي صلى الله عليه وسلم، حتى نذكر هذه الأحاديث وننبه فقط على ضعفها. فومن الأحاديث التي جاءت في فضلها وهي أحاديث موضوعة: (إن لكل شيء قلباً وقلب القرآن يس، ومن قرأ يس كتب الله له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات). فعلى ذلك هي أفضل من: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، ونحن نعلم أن أعظم سورة في القرآن هي سورة الفاتحة، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم في فضلها أن من قرأها فكأنه قرأ القرآن عشر مرات. كذلك سورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] قد جاء أنها تعدل ثلث القرآن، وسورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] تعدل ربع القرآن، فإذا كانت سورة يس تعدل القرآن عشر مرات فهذا لا يصح، وهذا موضوع على النبي صلى الله عليه وسلم.

ما اشتملت عليه سورة يس

ما اشتملت عليه سورة يس الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة يس: بسم الله الرحمن الرحيم. {يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ * لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ * وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يس:1 - 10]. سورة يس هي السورة السادسة والثلاثون من كتاب الله سبحانه وتعالى، وهي سورة مكية وقيل: الآية الخامسة والأربعون مدنية. وآيات هذه السورة بحسب العد الكوفي ثلاث وثمانون آية، وبحسب عد غيرهم اثنان وثمانون آية، والاختلاف في عدد آياتها بسبب الخلاف في (يس) هل هي آية منفصلة أم هي جزء من الآية التي تليها؟ فمن عدها منفصلة يعد آيات السورة ثلاثاً وثمانين آية، ومن يعدها متصلة مع ما بعدها يعد آيات السورة اثنتين وثمانين آية. وسورة يس فيها من خصائص السور المكية ما هو معروف في قراءتك لهذه السورة، فتجد خصائص السور المكية واضحة في الرد على المشركين، وفي التأكيد على توحيد الله سبحانه، وعلى أمور العقيدة، والإيمان بالبعث والجزاء والحساب والجنة والنار، كذلك إثبات صفات الأنبياء وما يعتبر فيهم، وإثبات قضاء الله سبحانه وقدره، وإثبات علم الله سبحانه وتعالى، والكلام عن الحشر، وشكر الله سبحانه وتعالى والحث على ذلك، ومعجزة هذا القرآن وكيف أن هذا القرآن الحكيم من عند رب العالمين سبحانه وتعالى، وإثبات الجزاء على فعل الخير، والجزاء على فعل الشر مع ذكر الأدلة الكونية من الآفاق ومن أنفس الناس؛ ولذلك سميت هذه السورة بقلب القرآن، وجاء فيها حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم. أغراض هذه السورة: فيها التحدي بإعجاز هذا القرآن العظيم، والتحدي بدأ بـ {يس} [يس:1] وهما حرفان من حروف المعجم اللغوي، يتحدى الله بهما الكفار ويقول: {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس:2] وصف الله سبحانه القرآن بأنه حكيم، ومن أسماء الله الحسنى الحكيم، والقرآن كتاب {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود:1] فهو كتاب حكيم محكم. فهو القرآن الذي أنقذ الله عز وجل به العرب من الكفر بالله ومن الشرك من الضلال إلى الإيمان والدخول في دين النبي صلوات الله وسلامه عليه. وضرب الله عز وجل في هذه السورة المثل للفريقين: فريق أهل الإيمان وفريق أهل الكفر والطغيان لعلهم يتعظون ولعلهم يتذكرون. ضرب المثل بالأعم وهم القرون السابقة: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ * وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس:31 - 32]. كذلك تخلص من ذلك إلى الاستدلال على تقرير البعث وإثباته بالاستقلال مدمجاً في آياته سبحانه من خلال ذلك الامتنان بنعمه سبحانه تبارك وتعالى، ويخرج من إثبات شيء إلى شيء آخر من غير أن تشعر بالخروج ويسمونه بحسن التخلص فتخرج من شيء إلى شيء، وأنت في سياق واحد عظيم جميل، وذهنك لا يذهب عن هذا السياق بل يشدك إليه. وقد بدأ الله سبحانه وتعالى في هذه السورة بالقسم بهذا القرآن العظيم، وأنه من جنس الحروف التي تتكلمون بها، فهو قد أعجزكم أن تأتوا بمثله وانتهى بالتذكرة بقضاء الله وقدره، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:82 - 83]. هذه السورة ذكرنا أنها سورة مكية نزلت والنبي صلى الله عليه وسلم في مكة، وفي ترتيب نزول القرآن تعتبر الحادية والأربعين على ما ذكره جابر بن زيد، نزلت بعد سورة الجن وقبل سورة الفرقان.

تفسير قوله تعالى: (يس والقرآن الحكيم)

تفسير قوله تعالى: (يس والقرآن الحكيم)

اختلاف المفسرين في معنى (يس)

اختلاف المفسرين في معنى (يس) جاء حديث ضعيف عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: (أن له عند ربه عشرة أسماء من ضمنها طه ويس) وهذا لا يصح عن النبي صلوات الله وسلامه عليه، ولم يصح أنها من أسمائه صلى الله عليه وسلم. وذكر البعض أن ((يس)) كلمة عند العرب معناها: يا رجل! مثل كلمة (طه) ولكن الراجح فيها: أن {يس} [يس:1] حرفان مقطعان من حروف اللغة العربية يتحدى الله عز وجل بهما الكفار، بأن يأتوا بكتاب مثل هذا الكتاب العزيز من جنس هذه الحروف التي يقرءونها ويختمون بها، وما استطاع أحد من فحول بلغاء العرب وفصحائهم أن يأتي بمثل ذلك، ولن يقدروا أبداً أن يأتوا بمثل ذلك. ومن الناس من يحاول أن يأتي بكلام يشبه كلام الله فيأتي بكلام سخيف يضحك منه الناس، ومن هؤلاء الكذابين مسيلمة الكذاب الذي يزعم أنه نزل عليه وحي من السماء وقال كلاماً سخيفاً شهده عمرو بن العاص رضي الله عنه، وكان ممن سمعه، وقال له: والله إنك لتعلم أني أعلم أنك كاذب، ومن يتبعه كانوا يقولون: ولكن كذاب اليمامة خير عندنا من صادق قريش. والغرض أن ربنا سبحانه وتعالى يتحداهم بهذه الحروف التي في أول السور، وغالباً إذا جاءت هذه الحروف يذكر الله عز وجل القرآن أو إشارة إلى القرآن بعدها إلا في مواضع يسيرة، وقد أشار إلى القرآن بعدها بآية، فإذا قال: {الم} [البقرة:1] قال: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2]. {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [آل عمران:1 - 3]. فأي سورة فيها هذه الحروف المقطعة يشير بعدها إلى هذا القرآن، بياناً منه سبحانه أن هذا القرآن من جنس هذه الحروف، ولكن لا يستطيع أحد أن يأتي بمثل هذا القرآن، ولن يستطيع أحد أن يأتي بمثله، إلا أن يكون إنساناً مفترياً كذاباً من كفرة أمريكا وغيرهم، أو رجلاً يهودياً من يهود فلسطين يأخذ من آيات الله ما أراد، فيأخذ من هذه الآيات كلاماً، ويضع بدلاً عنه كلاماً من كلامه السخيف، ويؤلف كلاماً جديداً ويقول: هذه سورة الإنجيل، وهذه سورة التوراة، وهذه سورة كذا، لعنة الله عليه وعلى أمثاله. وقد أنزلوها مترجمة يوزعونها على أتباعهم هناك أو على من يأخذ منهم ذلك، والمسلمون في غفلة عن ذلك؛ لكن من يطلع على هذا الكلام وينظر إلى ركاكته يعرف أن هذا القرآن العظيم محفوظ من الله سبحانه وتعالى؛ لأنه كلام الله الحكيم، قال تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود:1]. هذا هو القرآن الذي أعجز الخلق برصانته ومتانته وبلاغته وفصاحته وشريعته، ومن يسمع كتاب الله يسمع نغماً عظيماً جميلاً، أعجز الأطباء الذين يعالجون الأمراض النفسية في أمريكا بالموسيقى، ويسمونه الطب بالسماع، فلما جربوا سماع القرآن وعالجوا به هؤلاء المرضى، وجوده أعلى ما يكون من تأثير إيجابي في نفسية المريض. فعلى المؤمن أن يتعلم ويعرف ما في القرآن وما في السنة حتى يرد على هؤلاء الكفرة المجرمين الذين {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32]. قال الله عز وجل: {يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس:1 - 2]. أقسم الله عز وجل بهذا القرآن الحكيم، وكما ذكرنا قبل ذلك أن الحكيم من أسماء الله عز وجل، ووصف بها كتابه سبحانه وتعالى، فهو كلامه سبحانه، وهو كلام حكيم رصين، فيه الحكمة وفيه الحكم، وهو كلام محكم، أحكمه الله سبحانه وأتقنه، وأتانا بأحسن القصص فيه وأعظم الكلام وأعظم الموعظة وأعظم الشرائع. و (حكيم) صيغة مبالغة من حاكم، فهو كتاب حاكم مصدق لما بين يديه من الكتاب، ومهيمن شاهد على الكتب السابقة، فهو حكيم بمعنى حاكم، يعني: يحكم بين العباد. إذاً: هذا الذكر مصدقٌ لما بين يديه من الكتاب، ومهيمن عليه، ليحكم الرسول بين الناس به، فهو كتاب حكم وحاكم يحكم بين الناس ويحكم به. إذاً: القرآن الحكيم: القرآن ذو الحكمة، والقرآن المحكم، والقرآن الحاكم، والقرآن الذي لا خلل فيه ولا زلل ولا خطأ، وما من كتاب إلا ويوجد فيه أخطاء مهما راجعه صاحبه، ولذلك الإمام الشافعي رحمه الله لما ألف كتاباً وأرسله إلى ابن مهدي قال: هذا كتابي وأعلم أن فيه أخطاء فصوبها، فإني لا أدري أين هي؟ فإن الله عز وجل ذكر في كتابه فقال: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، أي: فكل كتاب من عند غير الله لابد وأن يكون فيه الاختلاف، ولا بد وأن يكون فيه الخطأ، إلا كتاب الرب سبحانه وتعالى، فهو الكتاب الذي أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير. قوله تعالى: {وَالْقُرْآنِ} [يس:2] هذه قراءة الجمهور، وقراءة ابن كثير إذا وصل، وحمزة إذا وقف: (والقران). وأيضاً عند بعض القراء أنهم يقفون على الساكن قبل الهمزة بخلفهم منهم حفص ومنهم حمزة ومنهم إدريس ومنهم ابن ذكوان فيقرءون (والقرآن الحكيم).

تنوع قراءة القراء في (يس والقرآن الحكيم)

تنوع قراءة القراء في (يس والقرآن الحكيم) بدأ لنا ربنا سبحانه هذه السورة بقوله: {يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس:1 - 2]. وذكرنا أن {يس} [يس:1] آية عند الكوفيين فيقفون عليها، ويجوز أن توصل بما بعدها، وعند غيرهم هي جزء من التي تليها فلا بد من وصلها بما بعدها. وإدغام نون {يس} [يس:1] بالواو التي في قوله: {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس:2] هي قراءة هشام عن ابن عامر والكسائي ويعقوب. وقرأ قنبل عن ابن كثير، وأبو عمرو وحمزة وأبو جعفر بإظهارها. وبعض القراء يجوز عندهم الإدغام ويجوز عندهم الإظهار منهم نافع والبزي عن ابن كثير، ومنهم حفص عن عاصم، وكذلك ابن ذكوان عن ابن عامر، والأشهر في قراءة حفص: {يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس:1 - 2] بالإظهار. وكذلك الياء في قوله: {يس} [يس:1]، أكثر القراء يميلونها، والبعض منهم لا يميلونها، فالذين يقرءونها بالإمالة: شعبة عن عاصم، وحمزة والكسائي وخلف وروح عن يعقوب، وباقي القراء يقرءونها بالفتح بغير إمالة. ويقرؤها أبو جعفر بالسكت عليها؛ حتى يبين أن الياء حرف والسين حرف. والراجح: أن {يس} [يس:1] حرفان كغيرها من حروف الكتاب العزيز: {الم}، ((الر))، {كهيعص} [مريم:1]، فهي حروف مقطعة في أوائل السور، كذلك {يس} [يس:1] حرفان، ويدل على ذلك قراءة أبي جعفر بالسكت على الياء.

تفسير قوله تعالى: (إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم)

تفسير قوله تعالى: (إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم) قال تعالى: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [يس:3]، يقول ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد أقسم له سبحانه بكتابه الحكيم إنه لمن المرسلين. وإذا قال له ربه سبحانه: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [يس:3] كفى، ولكن يقسم له سبحانه لإزالة أي شك وريب في قلوب الناس، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فلا شك في قلبه فإن جبريل يأتيه بهذا القرآن العظيم فلا يحتاج إلى التوكيد، وإنما يحتاج إلى التوكيد أتباع النبي صلى الله عليه وسلم والناس. فقوله: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [يس:3] أي: رسول ونبي صلوات الله وسلامه عليه، نبي نبئ بالغيب عليه الصلاة والسلام، ورسول نزلت عليه شريعة من عند الله رب العالمين، وكل رسول نبي، ولكن ليس كل نبي رسولاً، فالنبي أعم والرسول أخص. الرسول صاحب شريعة يأتي بكتاب من عند الله يحكم الناس به، والنبي يحكم بشرع من كان قبله، فهو متابع منبأ بغيب من عند الله، ولكن لم يختص برسالة، ورسل الله عليهم الصلاة والسلام أقل عدداً من أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام. قال تعالى: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يس:3 - 4] أي: يخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الخبر: ((إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ))، ويخبر بخبر ثان: إنك ((عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ))، والصراط: الطريق الذي يوصل بين شيئين والمعنى: إنك على طريق مستقيم من عند الله سبحانه. والمعنى الآخر لقوله تعالى: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يس:3 - 4] أي: من المرسلين الذين أرسلوا على صراط مستقيم، فكأن المعنى هنا: إنك يا محمد! على طريق الرسل الذين كانوا من قبلك، فهؤلاء على طريق الله وأنت على طريقهم، والكل يدعو إلى الله سبحانه وتعالى. ((عَلَى صِرَاطٍ)) تقرأ بالصاد وتقرأ بالسين وتقرأ بالزاي. أفيقرؤها قنبل عن ابن كثير وكذلك رويس عن يعقوب: (عَلَى سِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) بالسين. ويقرؤها خلف عن حمزة: (على زراطٍ). ويقرأ باقي القراء بالصاد المكسورة: ((عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)).

تفسير قوله تعالى (تنزيل العزيز الرحيم)

تفسير قوله تعالى (تنزيل العزيز الرحيم) قوله تعالى: {تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} [يس:5] يذكر الله سبحانه وتعالى أن هذا القرآن العظيم منزل من عنده سبحانه، وفي قوله تعالى: {تَنزِيلَ} [يس:5] قراءتان: فقراءة ابن عامر وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف: ((تَنزِيلَ)) بالنصب فيها. وباقي القراء يقرءونها: (تنزيلُ العزيز الرحيم) بالرفع. قوله تعالى: ((تَنزِيلَ)) أي: نزله تنزيلاً، فهو مفعول مطلق لفعل محذوف، أي: هذا القرآن نزله الله عز وجل تنزيلاً، وقراءة باقي القراء: (تنزيلُ العزيز الرحيم)؛لأنه خبر لما قبله، والتقدير: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يس:3 - 4] هذا القرآن تنزيل العزيز الرحيم. وقوله تعالى: {تَنزِيلَ} [يس:5] مصدر نزل تنزيلاً، فالقرآن منزل جاء من علو، أي: من عند الله سبحانه وتعالى. وما أكثر الآيات التي تدل على علو الله سبحانه بذاته، فهو مستو فوق عرشه سبحانه وتعالى، قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، فهو عالٍ على خلقه بقهره وقدرته وجبروته سبحانه، وهو القاهر فوق عباده سبحانه وتعالى، كذلك شأنه عظيم، فله علو الشأن سبحانه، قال تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29]. ومن الآيات التي تفيد أن القرآن نزل من عند رب العالمين: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:193 - 195]. قوله تعالى: ((الْعَزِيزِ))، العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، فالعزة صفة من صفاته، والعزيز اسم من أسمائه سبحانه وتعالى. والله عزيز، أي: لا يمانع ولا يغالب سبحانه، إذا قضى أمراً فلا يرد قضاءه أحد، فهو العزيز القوي الذي لا يغالب، القاهر الذي لا يمانع، الذي إذا قضى شيئاً فلابد أن يكون على ما أراد أن يكون. قوله تعالى: (الرَّحِيمِ): اسم من أسمائه، والرحمة صفة من صفاته سبحانه وتعالى. فالرحيم: ذو الرحمة العظيمة البالغة، وقد ذكر سبحانه أن رحمته سبقت غضبه والرحمن والرحيم صيغتها مبالغة، والرحمن: ذو الرحمة العظيمة التي تعم الخلق جميعهم، والرحيم: ذو الرحمة العظيمة التي خص الله بها المؤمنين في الآخرة، قال تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43]، فالرحيم: يرحم خلقه سبحانه فيهديهم ويدلهم على الصواب، وينزل عليهم الكتاب، ويرسل إليهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فهو بعباده رحمان رحيم، فإذا كان في الآخرة كان بالمؤمنين رحيماً. والرحيم قد يوصف به خلق الله سبحانه، أما الرحمن فلا يوصف به إلا الله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون)

تفسير قوله تعالى: (لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم فهم غافلون) لما نزل الله القرآن قال: {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} [يس:6]. أي: لتنذر من هؤلاء العرب قوماً من الأقوام الذين أنت فيهم، وتنذر غيرهم، ولكن ابدأ بهؤلاء. قال تعالى: {مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} [القصص:46]، إذاً: لم يأت العرب من أنفسهم نذير، ولم يأتهم رسول من عند الله سبحانه، وإنما كان الأنبياء من ذرية أخرى ليسوا من هؤلاء العرب، فهذا إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام ليس من العرب، إنما مولده في العراق عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ومن أبناء إبراهيم إسحاق وإسماعيل، وقد أخذ إبراهيم وإسماعيل وهو صغير وذهب به إلى مكة ووضعه هناك مع أمه هاجر، وتركه هنالك، وجاءت رفقة من جرهم كانوا عرباً، فتعلم منهم إسماعيل العربية وكان من أفضلهم فيها، فنافسهم فيها وغلبهم فكان إسماعيل على نبينا وعليه الصلاة والسلام أبا هؤلاء العرب الذين جاءوا بعد ذلك، وكان أباً للنبي صلوات الله وسلامه عليه، فهو ابن الذبيح إسماعيل على نبينا وعليه الصلاة والسلام. ومن عهد إسماعيل إلى عهد نبينا صلى الله عليه وسلم، لم يكن هناك نبي من العرب، بل كل الأنبياء من ذرية إسحاق؛ لكن النبي الوحيد الذي جاء من العرب هو نبينا صلوات الله وسلامه عليه، فهو من ذرية إسماعيل، فلذلك قال الله سبحانه: {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ} [يس:6] أي: ما جاءهم نبي منهم، وإن كانوا قد سمعوا عن الأنبياء الذين جاءوا إلى أممهم بالتواتر، فهم يسمعون عن قوم ثمود، ويسمعون عن قوم عاد، وعن سيدنا نوح وكيف أغرق الله الأرض في عهده لكن لم يكن لهم رسول من أنفسهم، ولذلك امتن الله عليهم وقال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]. قوله تعالى: ((لِتُنذِرَ)) أي: تخوفهم من عذاب الله سبحانه وتعالى، وتهددهم بما عند الله من عذاب ومن نقمة على من يشرك بالله ومن يكذب رسل الله عليهم الصلاة والسلام. قوله تعالى: ((مَا أُنذِرَ)) تحتمل أن تكون (ما) نافية، يعني: ما جاء نذير لآبائهم، أو موصولة فيكون المعنى: الذي أنذر به آباؤهم من قبل، يعني: من القرون الخالية السابقة، من جاءهم من الأنبياء، فقوم عاد جاءهم هود، وقوم ثمود جاءهم صالح، فتنذرهم أنت كما أنذر السابقون قبل ذلك. وقوله تعالى: {فَهُمْ غَافِلُونَ} [يس:6] أي: غافلون عن عذاب الله سبحانه، لا يستجيبون للأنبياء ولا يهتمون بعذاب ربهم سبحانه وتعالى، فالله عز وجل أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم ليبشر المؤمنين، وينذر الكافرين. قال تعالى: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يس:7]. أي: لقد حق القول من الله سبحانه وتعالى، وتحقق ما قضاه وقدره سبحانه أنه فريق في الجنة وفريق في السعير، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن:2] فحقت كلمة ربك سبحانه على الذين ظلموا أنهم أصحاب النار، وحق قول رب العالمين: {عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يس:7]. ومن كتب الله عز وجل له السعادة آمن ودخل في هذا الدين العظيم، ومن كتب عليه الشقاوة لم ينتفع بشيء. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من السعداء، وألا يجعلنا من الأشقياء. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة يس [7 - 11]

تفسير سورة يس [7 - 11] الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان لا يتم إيمان العبد إلا به، وسورة يس إحدى السور التي تبين أن الله قدر كل شيء، والله غيب، وقضاؤه وقدره غيب لا يطلع أحد عليه إلا من شاء الله من خلقه، وللإنسان مشيئة واختيار، ومشيئة الله محيطة به، فعلم الله محيط وسابق لمشيئة الإنسان وأفعاله واختياره.

أول رسول إلى العرب من عهد إسماعيل هو محمد صلى الله عليه وسلم

أول رسول إلى العرب من عهد إسماعيل هو محمد صلى الله عليه وسلم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة يس: {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ * لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ * وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ * إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:6 - 12]. سورة يس من السور المكية التي تتميز بالخصائص المكية، فهي تركز على أمر العقيدة، وتوحيد الله سبحانه، وضرب الأمثلة للناس، وذكر الأمم السابقة كيف كذبوا، وكيف أهلكهم الله سبحانه وتعالى، وعلى صفات الله سبحانه، وأسمائه الحسنى. كذلك إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأنه رسول إلى الخلق، وأن الذين من قبله كذبوا فليس بجديد أن يكذبه الناس، أو أن يعرضوا عنه صلوات الله وسلامه عليه، قال تعالى: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يس:3 - 4]، أي على نفس الطريق الذي كان عليه الرسل قبل ذلك، وهو صراط الله القويم. وهذا القرآن نزل من عند رب العالمين سبحانه، قال تعالى: {تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ} [يس:5 - 6]، والإنذار: التخويف بالتهديد من عقوبة الله سبحانه وتعالى. وقوله تعالى: {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ} [يس:6]، يعني: لم يكن لآبائهم السابقين رسول من قبلك، وهم الآباء الأقدمون من أيام إبراهيم وإسماعيل على نبينا وعليهما الصلاة والسلام، فهم لم يأتهم رسول، لكن عندهم بقية من آثار دين إبراهيم وإسماعيل عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام. ولكن هؤلاء غافلون عن ما نزل من عند رب العالمين سبحانه، وإن كانوا عرفوا أن المسيح أرسل وكذبه قومه، وأن موسى أرسل وكذبه قومه، ولكن كان كل نبي يرسل إلى قومه خاصة، ونبينا صلوات الله وسلامه عليه من خصائصه: أنه فضل على الأنبياء؛ لأنه أرسل إلى الخلق عامة صلوات الله وسلامه عليه.

تفسير قوله تعالى: (لقد حق القول على أكثرهم)

تفسير قوله تعالى: (لقد حق القول على أكثرهم) قال الله سبحانه: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ} [يس:7]، يعني: على أكثر هؤلاء الكفار حقت كلمة العذاب؛ لأنهم لا يؤمنون، ولا يدخلون في دين الله عز وجل فيستحقون العقوبة. والله سبحانه خلق العباد منهم كافر ومنهم مؤمن، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن:2]، العباد مخلوقون وقد علم الله عز وجل أن فريقاً منهم إلى الجنة، وفريقاً منهم إلى السعير. والله كتب عنده مقادير كل شيء، قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29]، وأعطى العباد في هذه الدنيا عقولاً يفكرون بها، فعقل الإنسان يميز بين الجيد والرديء، وبين الطيب والخبيث، وبين الكفر والإيمان. والإنسان يكتسب الشيء، ويكتسب الحسنة والسيئة، ولكن في النهاية: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير:29]، فالله عز وجل يقدر ما يشاء، وبعلمه وبحكمته سبحانه وبقدرته يكون كل شيء على ما يريده سبحانه وتعالى. فأخبر سبحانه أن هؤلاء سيكون الأغلبية منهم كفاراً يستحقون عقوبته وهذا قضاء الله وقدره سبحانه، ولا حجة لهذا الإنسان إن دخل النار؛ لأنه حينما يكتسب المعصية يستشعر في نفسه أنه قادر على الفعل، وقادر على الترك، فهو يملك القدرة والاختيار، لكنه لا يشاء شيئاً إلا وقد شاءه الله سبحانه وتعالى. ولذلك القضاء والقدر سر الله في خلقه، وقد أمرنا أن نؤمن به، ولم يطلب منا مناقشته وفهم كل شيء فيه؛ لأنها من أمور الإيمان، ومن أمور الغيب التي رتبها الله سبحانه وتعالى. فلابد أن تؤمن أن الله على كل شيء قدير، وأنه لا يحدث شيء في خلقه إلا بعلمه وحكمه وحكمته سبحانه وتعالى. إذاً: أمر القضاء والقدر أصل من أصول الإيمان، فالإيمان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره). إذاً: القدر غيب، ولا يطلع الله سبحانه وتعالى أحداً على قدره، إلا أن يكون ملكاً من الملائكة اختصه الله عز وجل بشيء، أو يكون نبياً أو رسولاً، كما أعلم الخضر عن أشياء كما في سورة الكهف، لكن أن يعلم الإنسان علم القدر، ويحيط بما أراد الله سبحانه وتعالى فليس للإنسان ذلك. وقال الله عز وجل: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير:29]. إذاً: لك مشيئة، ولن تغلب مشيئتك مشيئة الله سبحانه وتعالى، فمشيئة الله محيطة بكل شيء سبحانه، وهو الذي شاء أن يكون لك مشيئة، وأن يكون لك إرادة، وجعل لك اختياراً، وبين لك أن هذا خير وهذا شر، فابتعد عن الشر، وخذ الخير. إن الله سبحانه وتعالى هو الذي أعلمك ذلك، وعلم الله علماً سابقاً أنك ستترك هذا وتأخذ هذا، وكتب عنده أنك تكون من أهل النار أو من أهل الجنة، ولكن لم يطلعك على هذا الشيء، إنما أمرك أن تعمل وتختار ما شئت، وسيحاسبك سبحانه على اختيارك؛ ولذلك يوم القيامة يقول الله سبحانه لأهل النار: ادخلوا النار جزاء بما كنتم تعملون، ولا يقول: أنا قدرت ذلك، أو علمت أنكم ستكونون من أصحاب النار فادخلوها. ولذلك عندما يتحاج الضعفاء مع المستكبرين وهم بين يدي رب العالمين، يقول الضعفاء: {هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ} [الأعراف:38]، ولا يقولون: يا رب أنت كتبت علينا الضلال. فيقول الله سبحانه وتعالى: {لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:38]، وما الذي جعلكم تتبعونهم؟ ألم يكن عندكم عقول تفكرون بها؟ ألم يكن بين يديكم كتاب رب العالمين؟ وكان عندكم رسل رب العالمين يدعونكم إلى الله؟ إذاً: أمر القضاء والقدر سر من أسرار الله سبحانه، أمرنا أن نؤمن به، وأمرنا أن نؤمن أنه خالق كل شيء، خلق العباد وأفعالهم، وأنه له مشيئة عامة يحيط بكل شيء، وجعل لعباده مشيئة يختارون بها، وعلم الله عز وجل من عباده من يستحق النار وهو مخلوق لها، ومن يستحق الجنة فهو من أهلها، وأمرنا بالإيمان بذلك. إذاً: الله عز وجل كتب عنده أن هؤلاء في النار، فلن يهتدوا أبداً، وما كتبه الله لن يبدل، يدخلون النار بأعمالهم، وباكتسابهم، وقد علم الله وشاء ذلك سبحانه وتعالى. قال تعالى: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يس:7]، أي: مكتوبون عند الله من أهل الشقاوة وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها). إذاً: الكتاب الذي عند الله سبحانه لم يطلعنا الله عليه، بل جعل ذلك غيباً عنده، وقال: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له)، ولما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، لم يناقشهم النبي صلى الله عليه وسلم في القضاء والقدر؛ لأنه ليس محل مناقشة، إنما القضاء والقدر محل إيمان قال تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3]، فالله غيب، والجنة غيب، والنار غيب، والساعة غيب، والقضاء والقدر غيب. فأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نؤمن بذلك، فقال: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له)، فليس المطلوب منكم المناقشة في أمر القضاء والقدر، إنما المطلوب أن تؤمنوا به، فالإنسان يقول: قدر الله وما شاء فعل، ثم يعمل، ويجد نفسه مختاراً للشيء الذي يريده، ولا أحد يجبره على أن يمد يده على شيء فيأخذه أو يجبره أن يتركه؛ لأنه في كامل قدرته يستشعر أنه قادر على هذا الشيء. وهنا يكون التكليف، وهنا يسألك الله عز وجل لماذا أخذت؟ ولماذا تركت؟ لأنك قادر على العمل.

تفسير قوله تعالى: (إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا)

تفسير قوله تعالى: (إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً)

سبب نزول قوله تعالى: (إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا)

سبب نزول قوله تعالى: (إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً) قال الله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ} [يس:8] جاء في سبب نزول هذه الآية أن أبا جهل بن هشام ورجلين من بني مخزوم تواصوا فيما بينهم أنهم إذا رأوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ويسجد عند الكعبة أن يأخذ أحدهم حجراً ويرضخ به رأسه صلى الله عليه وسلم. فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي إذا بـ أبي جهل لعنة الله عليه يأخذ حجراً ويجري إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبر بقسمه، فلما وصل فزع ورجع خاشعاً ذليلاً لعنة الله عليه وعلى أمثاله، إذ غلت يده إلى عنقه بالحجر الذي معه ورجع فزعاً إلى قومه. فقال الوليد بن المغيرة: أنا أرضخ رأسه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي على حالته ليرميه بالحجر، فأعمى الله بصره، فجعل يسمع صوت النبي صلى الله عليه وسلم ولا يراه، فرجع إلى أصحابه فلم ير أصحابه، فلما نادوه رآهم وقال: والله ما رأيته، ولقد سمعت صوته. فإذا بالثالث يقول: والله لأشدخن رأسه، فلما انطلق وأخذ الحجر فإذا به يرجع القهقرى، ونكص على عقبيه حتى خر على قفاه مغشياً عليه، فقيل له: ما شأنك؟ قال: شأني عظيم، رأيت الرجل فلما دنوت منه فإذا بفحل يخطر بذنبه، ما رأيت فحلاً قط أعظم منه حال بيني وبينه، فواللات والعزى لو دنوت منه لأكلني. فنزلت هذه الآية تبين شيئاً مما يصنعه الله عز وجل بهم في الدنيا، وما يصنعه بهم في الآخرة أشد وأعظم من ذلك، قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ} [يس:8]، أي: أرادوا رمي النبي صلى الله عليه وسلم بالحجر فقيدت أيديهم إلى رقابهم ولم يقدروا على ذلك. وهذه من معجزات النبي صلوات الله وسلامه عليه، وكم أراد الكفار أن يستهينوا ويستهزئوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الله سبحانه وتعالى يثبته ويزعزعهم فيخافون، فهذا أبو جهل لعنة الله عليه يأخذ شيئاً من رجل ولا يعطيه الثمن، فأراد الكفار أن يستهينوا ويستهزئوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رجل منهم: اذهب إلى محمد فإنه سيأتي لك بحقك من أبي جهل. ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم في مكة هو ومن معه من المؤمنين كانوا في حالة ضعف، فكيف سيأتي لهذا الرجل بحقه من فرعون هذه الأمة؟ ومع هذا يذهب الرجل إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم ويطرق عليه بابه ويطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ له حقه من أبي جهل. ويخرج النبي صلى الله عليه وسلم مع المظلوم لينصره صلوات الله وسلامه عليه، حتى ولو كان مستضعفاً في مكة والكفار ينظرون، فخرجوا وراء النبي صلى الله عليه وسلم يتغامزون، ويضحكون، ووصل النبي صلى الله عليه وسلم بالرجل إلى بيت أبي جهل وطرق بابه، فخرج أبو جهل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أعط الرجل حقه، فإذا به يرعب من النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: نعم يا أبا القاسم، ويرجع خاشعاً ذليلاً، ويأتي بالمال ويدفع للرجل حقه. أرادوا أن يسخروا من النبي صلى الله عليه وسلم فيرد الله كيدهم في نحورهم! فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا أبا الحكم ويحك! ما الذي صنعت؟ قال: والله لقد رأيت فحلاً من الإبل أمامي فاغراً فاه، ولو لم أقل له: نعم لأكلني. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38]، وقال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]، فهؤلاء الكفار يرون تأييد الله سبحانه وتعالى لنبيه بالمعجزات، ومع ذلك لم يؤمن منهم إلا القليل، قال تعالى: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يس:7].

معنى جعل الأغلال في أعناق الكفار

معنى جعل الأغلال في أعناق الكفار قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ} [يس:8]. إن من جمال القرآن في تعبيراته وبلاغته، احتماله للمعاني الكثيرة التي تكون كلها صحيحة، فيكون الاختلاف اختلاف تنوع، فالله سبحانه يقول: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالًا} [يس:8]، إما أن يكون يوم القيامة وهم يحاسبون، أو وهم في النار، أو وهم في الدنيا جعل في أعناقهم ذلك دليلاً على المنع والحجز عن شيء أرادوه، فكل هذه المعاني صحيحة. والقيد: الرباط الذي يوثق به الإنسان، سواء كان من حديد أو من غيره، توضع في رجله سلسلة يقيد بها في الأرض. والغل: السلسلة التي تجمع يدي الإنسان إلى عنقه، فتكون اليدان مربوطتين إلى العنق في سلسلة، والرأس مرفوع إلى فوق، والذل عليه فنظره أسفل، فهو مقمح ذليل لا يقدر أن يحرك رأسه، قال تعالى: {فَهُمْ مُقْمَحُونَ} [يس:8]؛ بسبب هذا الوضع الذي يكونون عليه يوم القيامة. قال تعالى: {إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر:26 - 72]، هذا حالهم يوم القيامة. ولذلك إذا رأى الإنسان في منامه الغل فإن ذلك يعني شيئاً سيئاً، وإذا رأى القيد في منامه كان شيئاً حسناً، فالقيد ثبات على الدين. فقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ} [يس:8]، يعني: أيديهم مغلولة تحت أذقانهم، مربوطة بسلاسل في أعناقهم. وقوله: {فَهُمْ مُقْمَحُونَ} [يس:8]، أي: أن الوضع ضيق عليه، فلا يقدر أن يوطئ رأسه فيستريح؛ لأن رأسه مرفوعاً، وعينيه ذليلتان تنظران إلى أسفل. فالإقماح: رفع الرأس وغض البصر، ورفع الرأس هنا ليس من عزته؛ لأنه مجبر على ذلك. والمعنى الآخر لقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ} [يس:8]، أن هذا تمثيل، لما جعلهم الله عز وجل في الدنيا كمثل هؤلاء الذين رءوسهم مرفوعة، وأبصارهم خاشعة ذليلة، لا يقدرون على النظر، ولا يقدرون على شيء.

تفسير قوله تعالى: (وجعلنا من بين أيديهم سدا)

تفسير قوله تعالى: (وجعلنا من بين أيديهم سداً) قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9]. في الآخرة أعماهم الله عز وجل في النار، قال تعالى: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} [طه:102]، أي: سود الوجوه زرق العيون، كأقبح ما يكون الإنسان على هيئة، يحشرون في النار وقد غلت أيديهم إلى أعناقهم، وقد كلحت وجوههم، وتقلصت شفاههم إلى أعينهم وإلى صدورهم من نار الجحيم والعياذ بالله، وجعل الله عز وجل سداً أمامهم وسداً خلفهم، فهم عمي لا يرون شيئاً. وكذلك صنع بهؤلاء الكفار في الدنيا، لم يروا النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبصروه، وتكرر ذلك حين خرج مهاجراً إلى المدينة، ومر على الكفار وقد جمعوا له أربعين رجلاً، كل منهم شاب قوي من قبيلة يحمل سيفاً، فأرادوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم بضربة رجل واحد. وخرج النبي صلى الله عليه وسلم بأمر الله سبحانه وتعالى، وأخذ تراباً من الأرض وألقاه على رءوس الجميع فأعماهم الله فلم يروا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يمر من أمامهم حتى خرج صلوات الله وسلامه عليه. وكذلك في يوم حنين، قال تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا} [التوبة:25]، وإذا بالمسلمين يفرون من الكفار، ولم يبق سوى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه سبعون من آل بيته وأصحابه، وينزل النبي صلى الله عليه وسلم للكفار ويقول: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب)، يقول ذلك في موطن يفر منه الأبطال. ففي الحديث: (ثم يأخذ من الأرض تراباً ويلقيه عليهم ويقول: شاهت الوجوه)، فأعمى الله عز وجل الكفار، ولم يرجع المسلمون إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدأ هؤلاء السبعون في أسر الكفار، فر تسعة آلاف وتسعمائة وثلاثون ممن كان مع النبي صلى الله عليه وسلم، وممن فر ألفان من مسلمة الفتح، ولم يبق إلا سبعون مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يواجه هوازن وغطفان وعددهم عشرة آلاف، يواجههم بسبعين وتراب من الأرض يأخذه ويلقيه على وجوههم، وهو يقول: (شاهت الوجوه) فيعميهم الله سبحانه، ويأسرهم النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، ولا يرجع المسلمون حتى تكون الدائرة على هؤلاء الكفار. فالله عز وجل جعل من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشاهم فلم يبصروا، فنصر نبيه صلوات الله وسلامه عليه في مواطن كما سمعنا. أما يوم القيامة فالله عز وجل يحشرهم عمياً في النار والعياذ بالله، قال تعالى: {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:125 - 126]. {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} [يس:9]، في رواية لهذا الأثر: أن أبا جهل ومعه عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأمية بن خلف كانوا يرصدون النبي صلى الله عليه وسلم ليبلغوا من أذاه، فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه السورة ومعه تراب، وقرأ الآية: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9]، فأطرقوا جميعاً حتى مر النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقدروا له على شيء. {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا} [يس:9]، هذه قراءة حفص عن عاصم. وقراءة حمزة، والكسائي، وخلف، وباقي القراء: (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سُدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سُدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ)، والمعنى واحد يقال: هذا سَد، وهذا سُد، كأنه يسد المكان بين الاثنين. وقوله تعالى: {فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9]، أي: ما يغشى الإنسان، وهو شيء يجعل غشاوة على بصره فلا يرى، والغشى قريب من ذلك، مأخوذ من العشاوة على العين، والغشاوة بالغين: لا يبصر أو لا يرى، والأعشى هو الذي لا يبصر في وقت دون وقت آخر.

قوله تعالى: (وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون)

قوله تعالى: (وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) وقوله تعالى: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} [يس:10]. أي: على هؤلاء الكفار. وقوله تعالى: {أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يس:10]. أي: سواء أنك أنذرتهم أم لم تنذرهم قد علم الله عز وجل ما في قلوبهم، وعلم الله سبحانه وتعالى أنه خلقهم للعذاب، فاستحقوا عذاب رب العالمين سبحانه، فلم يؤمنوا بالنبي صلوات الله وسلامه عليه، ومن هؤلاء أبو جهل، وأبو لهب عم النبي صلوات الله وسلامه عليه. وهؤلاء الكفار علموا ذلك، ومن أعجب ما يكون علم الكافر وكيده للنبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لو فكر في شيء وعلمه لكانت النتيجة: (لا يُؤْمِنُونَ). وقد قال الله سبحانه عن أبي لهب: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:1 - 3]، إذاً: أبو لهب سيموت كافراً؛ لأنه سيصلى ناراً ذات لهب، فهذا أبو لهب كم كاد للنبي صلى الله عليه وسلم، وكلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله لم يقلها. لذلك قال الله سبحانه: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يس:10]، إذاً: رءوس الكفار هؤلاء لن يؤمنوا كما قال الله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب)

تفسير قوله تعالى: (إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب) قال تعالى: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} [يس:11]. أي: أن الذي ينتفع بالموعظة هو ذلك الإنسان المتواضع للرب سبحانه وتعالى، والذي يقبل كلام رب العالمين، ويعمر قلبه بما جاء به النبي صلوات الله وسلامه عليه. وقوله تعالى: (مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ)، الذكر: ما ذكرته به، وما نزل من عند الله سبحانه. وقوله: (وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ)، أي: المؤمن يخاف من ربه، والتعبير القرآني تعبير قوي، فمن المعتاد أن يقال: ويخشى الله شديد العقاب سبحانه وتعالى. لكن الله قال: (وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ)؛ لأنهم مؤمنون، فالله لا يقنطهم من رحمته، أي: أنتم تخافون من الرحمن فلكم عند الرحمن الرحمة العظيمة الواسعة. وقوله تعالى: (فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) أي: فبشر هؤلاء بالمغفرة من الله سبحانه وتعالى، وبشرهم بالأجر الكريم وهو الجنة العالية الغالية، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها.

ما يستفاد من قول الله سبحانه: (وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم) في قضية الإيمان بالقدر

ما يستفاد من قول الله سبحانه: (وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم) في قضية الإيمان بالقدر إذاً: قوله سبحانه: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يس:10]، من مقاصده: أن الله عز وجل قضى عنده أن هؤلاء: (لا يُؤْمِنُونَ)، ولا يتغير قضاء الله وقدره، فلابد أن نؤمن بقضاء الله وقدره، فهو علم أن هذا الإنسان يستحق العذاب فجعله من أهل عذابه، وأن هذا الإنسان يستحق الرحمة فجعله من أهل رحمته سبحانه. وبعض الناس دخلوا في أمر القدر بعقولهم فإذا بهم ينكرون القدر، والبعض الآخر ألزموا أنفسهم به، فسمي هؤلاء الذين ينكرون القدر بالقدرية، وسمي هؤلاء بالجبرية، يقولون: نحن مجبرون، وإذا كنا مجبرين مسيرين فلماذا يعذبنا الله؟ وقال أحد شعرائهم: ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء إن هؤلاء لم يفهموا قضاء الله وقدره على ما أراد الله أن يعلمه عباده. قلنا: إن القضاء والقدر من أمور الغيب، فلابد أن تؤمن بالقضاء والقدر، وتؤمن بأن الله عز وجل له المشيئة النافذة في كل شيء، وتؤمن أن الله أعطاك مشيئة بها تختار، وأنزل الكتاب، وأرسل الرسول صلوات الله وسلامه عليه، فتكليفك حين عرفت من القرآن، وعرفت من السنة، وكذلك أعطاك الله العقل الذي تفكر به، وأعطاك الإرادة لتختار وتكتسب. فعليك أن تقول: إن الله سبحانه جعل لي اختياراً، ولا أشاء شيئاً لم يشأه الله سبحانه، وما أشاؤه قد علمه الله عز وجل قبل ذلك وشاءه، وكل ما يكون في كون الله قد أراده وشاءه سبحانه، ولا شيء في كونه يكون عنوة وقهراً عليه، حاشا له سبحانه وتعالى. إذاً: شعورك هذا محل اختيارك، ومحل كسبك، ومحل تكليفك، وجزاؤك عند الله سبحانه، فلا تقول: إن الله سبحانه هو الذي قدر علي هذا الذنب؛ لأنك عندما تفعل الذنب تستشعر أنك تختاره وتفعل هذا الشيء، فيحاسبك الله على ما اخترته. والقدرية ينفون القدر ويقولون: لا مشيئة لله، المشيئة مشيئتنا نحن، ونحن نخلق أفعالنا ونفعل هذه الأشياء، ومن هؤلاء رجل يقال له: غيلان القدري، سمع به عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فأرسل إليه وأتى به، وقال: يا غيلان بلغني أنك تتكلم في القدر! وعمر بن عبد العزيز هو أحد العلماء، ويقول عنه ابن شهاب الزهري: ما استصغرت نفسي عند أحد من العلماء إلا عند عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه. فلما أتي عمر بهذا الإنسان وقال له: بلغني أنك تتكلم في القدر، يعني: تنفي القدر، فقال: يكذبون علي يا أمير المؤمنين، ثم سكت قليلاً، لكن صاحب البدعة لا يريد إلا أن يظهر بدعته، فقال: يا أمير المؤمنين! أرأيت قول الله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان:2 - 3]، قال: أي: دللناه على الطريق، فالله دلنا فقط، لكن الإنسان يكون إما شاكراً وإما كفوراً، يقول ذلك إشارة منه أن الإنسان هو الذي يفعل الشيء، وأن الله لا دخل له بهذا الشيء. فلما قال ذلك قال له عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: اقرأ يا غيلان فيها، فقرأ حتى انتهى إلى قول الله عز وجل، {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [الإنسان:29]. وفي هذا إثبات مشيئة للعبد، ثم قال: اقرأ يا غيلان فقرأ وقال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30]، فلما قرأها قال: والله يا أمير المؤمنين ما شعرت أن هذا في كتاب الله قط. فأهل البدع يطمس الله عز وجل على عقولهم، وعلى أبصارهم، فيرى صاحب البدعة الشيء الذي يسول له عقله وتفكيره وبدعته فقط، ولا يرى غيره، فهو أعمى عن حجة الغير، لا يرى إلا ما يقول، فهو لما وصل لآخر السورة، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30]، عرف أنه كاذب فيما يدعيه، فقال: ما علمت بذلك إلا الآن، كأنه ما قرأها قبل ذلك. فقال له: يا غيلان، اقرأ أول سورة يس، فقرأ حتى بلغ قول الله عز وجل: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يس:10]، فقال غيلان: والله يا أمير المؤمنين لكأني لم أقرأها قبل اليوم. ثم قال: اشهد يا أمير المؤمنين أني تائب، يعني: تائب عن القول بعدم القدر. فقال عمر: اللهم إن كان صادقاً فتب عليه وثبته، وإن كان كاذباً فسلط عليه ما لا يرحمه، واجعله آية للمؤمنين. وغيلان كذب على عمر بن عبد العزيز في قوله إني تائب، فإنه لم يتب، ولكن لما غلبه عمر في الحجة ولم يستطع أن يتكلم أخبر بأنه تائب. وتمر الأيام ويكون الخليفة هشام بن عبد الملك، وغيلان ما زال على بدعته، فأخذه هشام فقطع يديه ورجليه وصلبه، قال ابن عون: لقد رأيت غيلان مصلوباً على باب دمشق، فقلت: ما شأنك يا غيلان؟ قال: أصابتني دعوة الرجل الصالح عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه. فهذا الإنسان ابتدع ونفى قضاء الله وقدره سبحانه وتعالى، وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الطبراني وهو حديث حسنه الشيخ الألباني وفيه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (القدرية مجوس هذه الأمة، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم). فالذين يكذبون بالقدر جعلهم مجوس هذه الأمة؛ لأن المجوس يؤمنون بالنور والظلام، بأن النور خالق وفاعل، والظلام خالق وفاعل، فينسبون كل خير إلى النور، ويقولون: النور هو الذي خلق الخير، وينسبون كل شر إلى الظلمة، ويقولون الظلمة هي التي خلقت هذا الشر. فكذلك القدرية ينسبون الأفعال إلى أنفسهم يقولون: نحن الذين نكسبها، ونحن الذين نعملها، والله ليس له دخل في شيء، ولا يعلم هذا الشيء، وليس له تقدير في ذلك. والله عز وجل يقول لعباده: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30]، فالله خالق كل شيء سبحانه وتعالى. وكل شيء في هذا الكون خلقه الله عز وجل، خلق المؤمن وهو خير، وخلق الكافر وهو شر، ولكن كل خلق له فيه حكمة، فبحكمته أوجد المؤمن، وأوجد الكافر وأوجد الخير، وأوجد غيره. فالله على كل شيء قدير، وهنا في هذه الآية يقول الله سبحانه: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} [يس:11]، أي: اتبع هذا القرآن الحكيم، واتبع سنة النبي صلى الله عليه وسلم. وقال تعالى: {وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} [يس:11]، وهذا الذي ينفعه عمله أنه يخاف الله، والله غيب. أما الذي يخاف الله حين يرى الله فهذا لا ينفعه إيمانه؛ لأنه انتهى دار التكليف وهي الدنيا، فالإنسان المؤمن الذي خشي الرحمن بالغيب، وعمل صالحاً، واتبع الذكر، بشره ربه سبحانه بالمغفرة والأجر الكريم. نسأل الله عز وجل عز وجل مغفرته وأجره الكريم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة يس [12 - 27]

تفسير سورة يس [12 - 27] يذكر الله عز وجل في سورة يس بعض مظاهر قدرته العظيمة من إحياء الموتى، وكتابة ما يعمله الإنسان من أعمال في الحياة الدنيا سواء كانت حسنة أم سيئة، ويذكر الله عز وجل قصة أصحاب القرية الذين أرسل إليهم رسلاً يدعونهم إلى توحيد الله وعبادته، فكذبوهم وتوعدوهم بالعذاب إن لم يكفوا عن ذلك، فجاء رجل منهم ينصر رسل الله ويدعو قومه فغضب منه قومه فقتلوه فمات شهيداً.

تفسير قوله تعالى: (إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم)

تفسير قوله تعالى: (إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم)

الذي بدأ الخلق قادر على إحياء الموتى

الذي بدأ الخلق قادر على إحياء الموتى الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة يس: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ * وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ * قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ * قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [يس:12 - 19]. يخبرنا الله تبارك وتعالى في هذه الآيات: أنه سبحانه بقدرته العظيمة يحيي الموتى، ويكتب ما قدم الإنسان وما أخر بعده، وما ترك من آثار، وكل شيء قد أحصاه الله سبحانه وتعالى في كتاب عنده، {فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12]. {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:12]، كان الكفار يعترضون على النبي صلى الله عليه وسلم أن دعاهم إلى عبادة الله الذي يحيي ويميت، فقالوا: {أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [الرعد:5] {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [المؤمنون:82] فقال الله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى} [يس:12] {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الروم:11] بدأ الخلق من عدم، أليس الذي بدأه من عدم قادراً على أن يعيده مرة ثانية بعد أن يفنى؟ {بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأحقاف:33]. ((إِنَّا نَحْنُ)) عبر هنا سبحانه تبارك وتعالى بنون العظمة لبيان عظيم فعله، وأنه الله الخالق العظيم الذي يحيي الموتى بقدرته سبحانه، وبغير حاجة إلى أحد من عباده، {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:12]، يحيي الموتى ويبعثهم يوم القيامة للجزاء والحساب.

كتابة الآثار الحسنة والسيئة

كتابة الآثار الحسنة والسيئة قال الله تعالى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:12]. ما يقدمه الإنسان هو ما يفعله الآن، وأثره هو ما يتركه بعد وفاته، فيظل موجوداً باقياً، كالوقف الذي يحبسه، كمبنى يبنيه ويجعله مسجداً لله سبحانه وتعالى، هذا أثر للإنسان بعد ما يموت، حيث يظل الناس يصلون في هذا المكان، فيكون هذا أثراً من آثار هذا الإنسان يكتبه الله سبحانه وتعالى، فآثار المرء تبقى وتذكر بعده بخير أو بشر، ولو سن للناس سنة شر لكانت بعده في الناس يذكرونه بها. من آثار الخير الحسنة التي يتركها الإنسان بعد وفاته: العلم الذي يعلمه، أو النهر الذي يجريه، أو البئر يحفرها للناس، أو بيتاً لابن السبيل بناه، أو مسجداً بناه، أو مصحفاً ورثه، أو ترك أولاداً صالحين يدعون له، كل هذا مما يكون أثراً لهذا الإنسان ينتفع به بعد وفاته. أما الإنسان الذي يسن للناس سنة شر، فيصنع للناس أشياء فيقلده الناس عليها، كإنسان ظلم نوعاً من الظلم وسنه للناس، فصار عليه الناس بعده يسنون هذا الظلم ويتبعونه ويقلدونه، كفرضه على الناس أشياء لم ينزل الله عز وجل بها من سلطان، فيأخذ بها الناس، أو يضرب الناس على أشياء لم يؤمر بها لا في كتاب الله، ولا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا مما يتركه الإنسان ويسنه ويقلده من يليه بعد ذلك، فيأخذ من الناس أموالاً بغير حق، فيقلده الناس في ذلك، فهذا من المظالم. ولذلك يذكر العلماء من ذلك وظيفة وظفها بعض الظلمة على المسلمين، فقلده الناس في ذلك، ثم مات هذا الذي صنع هذه الوظيفة للناس، وجاء من بعده وعملها ومشى عليها، فكانت مظالم من سنها يأخذ أوزار الباقين من غير ما ينقص من أوزارهم شيء. كذلك لو أن إنساناً أحدث للناس بدعة من البدع فاتبعه الناس عليها، كمن أحدث للناس أنواعاً من الكهانة والعرافة وعلم النجوم والسحر والأبراج وغيره، ومات هذا وجاء من بعده يصنع ذلك، فهذا أثر سيئ، ولا يزال عليه اسمه ما وجد العمل بين الناس كما قال الله: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:12]، وهذا نوع من أنواع الآثار.

كتابة آثار خطوات العباد إلى المساجد

كتابة آثار خطوات العباد إلى المساجد كذلك من أثر الإنسان آثار مشيه، كما جاء عن جابر في صحيح مسلم عن النبي صلوات الله وسلامه عليه أن بني سلمة كانت بيوتهم بعيدة عن مسجد النبي صلوات الله وسلامه عليه، وخلت البقاع حول المسجد، فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا إلى قرب المسجد؛ لأن ديارهم بعيدة، وكانوا يحضرون مع النبي صلى الله عليه وسلم جميع الصلوات، فأحبوا أن ينتقلوا قرب المسجد ليهون الأمر عليهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا بني سلمة! دياركم تكتب آثاركم)، يعني: الزموا دياركم، وتكتب آثاركم، والآثار هي الخطوات التي تمشونها إلى بيت الله عز وجل، فهي تعد لكم وتؤجرون عليها. روى هذا الحديث الإمام أحمد بلفظ آخر من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: هممنا أن ننتقل من دورنا لقرب المسجد، فزجرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقال: (لا تعروا المدينة)، يعني: أطراف المدينة يكون سكانها من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من أن ينتقلوا إلى قرب المسجد، وتبقى أطراف المدينة للمنافقين، ويجيء الكفار من هذه الأماكن، قال: (لا تعروا المدينة)، لا تتركوا أطراف المدينة عارية بحيث يقدم علينا أي أحد ولا ندري ما الذي يحدث فيها. قال صلى الله عليه وسلم: (لا تعروا المدينة، فإن لكم فضيلة على من عند المسجد بكل خطوة درجة).

كتابة آثار المكث في المسجد

كتابة آثار المكث في المسجد جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة أحدكم في جماعة تزيد على صلاته في سوقه وبيته بضعاً وعشرين درجة). فمن يصلي في مسجده صلاة الجماعة تزيد على صلاته لوحده في بيته ومحله وسوقه بعضاً وعشرين درجة. ويعلل النبي صلى الله عليه وسلم هذه الزيادة بقوله: (إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد لا ينهزه إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفع بها درجة أو حطت عنه بها خطيئة، والملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه). هذا فضل عظيم من الله عز وجل، كل خطوة تخطوها إلى بيت الله سبحانه يمحو بها عنك خطيئة ويرفع لك بها درجة، وقال: (والملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه). أيضاً: وأنت آت للمسجد أنت في رحمة من الله سبحانه، ولك حكم المصلي كما جاء في الحديث: (إذا أتيتم الصلاة فأتوها وأنتم تمشون ولا تأتوها وأنتم تسعون؛ ولا يزال أحدكم في صلاة ما دام متوجهاً إلى الصلاة)، فحكمك وأنت خارج من بيتك إلى المسجد كأنك في صلاة، وأنت بداخل المسجد جالس تنتظر الصلاة في صلاة، وإن انتهت الصلاة وأنت جالس تذكر الله عز وجل أنت أيضاً في صلاة، والملائكة تحوطك وتدعو لك. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (والملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه، تقول: اللهم صل عليه، اللهم ارحمه)، تدعو له الملائكة أن يثني الله عز وجل عليه، أن يصلي الله عز وجل عليه، أن يرحمه الله سبحانه (ما لم يحدث فيه)، يعني: ما دام على وضوء في بيت الله عز وجل فحكمه أنه كالذي يصلي، والملائكة تدعو له، قال: (ما لم يحدث فيه، ما لم يؤذ فيه). أي: له هذه الفضيلة وهو في المسجد، ولكن ليست له هذه الفضيلة إذا كان على غير وضوء، أو على وضوء لكن كان شغله الشاغل أذية الناس ومضايقتهم، فهو يشاغل هذا، ويرفع صوته على هذا، ويناوش هذا، فهذا لا يستحق أن تدعو له الملائكة. لذا فإن أدب النبي صلوات الله وسلامه عليه في المسجد: أن نتذكر أن المسجد ممتلئ بملائكة الله سبحانه، والملائكة تدعو للمصلين: اللهم صل عليهم، اللهم اغفر لهم، اللهم ارحمهم، فهي تدعو لكم ما دمتم جالسين لذكر الله سبحانه على وضوء لا تؤذون أحداً في بيت الله تبارك وتعالى. الغرض: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في الحديث أن كل خطوة لك أجر فيها، يمحو الله عز وجل عنك بها سيئة، ويرفع لك درجة.

كتابة آثار الماشين في الظلم إلى المساجد

كتابة آثار الماشين في الظلم إلى المساجد جاء عنه صلوات الله وسلامه عليه في الحديث الصحيح قال: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة) أي: الخارجين من البيت لصلاتي الفجر والعشاء في الظلمة. فمن خرج إلى بيت الله سبحانه يبشره النبي صلى الله عليه وسلم بالنور التام يوم القيامة، وهو الذي ذكره الله سبحانه بقوله: {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الحديد:12]، فنور المؤمن يترتب على ما عاناه في الدنيا من بذل لله سبحانه، ومن صبر على الطاعة، فيؤجر الأجر العظيم عند الله سبحانه. ذكر العلماء أن هذه الآية مع الأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها بيان فضيلة من بيته بعيد عن المسجد، ويأتي إلى بيت الله سبحانه حرصاً على الصلاة ألا تفوته تكبيرة الإحرام، وقد ذكرنا قبل ذلك فضيلة حضور الصلاة، وحضور تكبيرة الإحرام مع الإمام، جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (من صلى لله أربعين صلاة في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتبت له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق). المؤمن يحرص دائماً على شهود الجماعة، وأن يكون موجوداً عند تكبيرة الإحرام أو قبلها، ولا يضيع النوافل، ويبدي اهتماماً بالصلاة، فالله عز وجل يعطيه براءتين بشرط أن يكمل أربعين يوماً وهو مواظب على الصلوات الخمس لا يضيع تكبيرة الإحرام: براءة من النفاق؛ لأن المنافق يصلي يوماً ويترك آخر، لكن الذي يواظب أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة، واعتاد أن يحضر مع تكبيرة الإحرام ولا يضيعها، فالله عز وجل يعطيه براءة من النفاق. وبراءة أخرى من النار: فلا يدخل النار بفضل الله ورحمته سبحانه وتعالى.

صلاة الرجل في مسجد الحي

صلاة الرجل في مسجد الحي من كان بيته بعيداً عن المسجد لا يحزن ولكن يفرح؛ لأن خطواته مكتوبة، {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:12]. أما إذا كان بيته قريباً من المسجد فهل يبحث عن مسجد بعيد يذهب إليه حتى تكتب الآثار؟ A ليس الأمر كذلك، طالما أنك قريب من المسجد فالله عز وجل رحمك بذلك، والذي تفعله هو أن تحضر مبكراً إلى بيت الله سبحانه، وتعوض آثار غيرك بالمكث في بيت الله سبحانه وتعالى، فعندما تسمع الأذان تأتي إلى بيت الله، أو تأتي قبل الأذان بفترة، فهذا يعوض لك وتنال من صلاة الملائكة عليك: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، اللهم صل عليه. وهذا أجر عظيم. لكن أن يترك الإنسان المسجد الذي بقربه خاصة إذا كان مسجداً على السنة، ويهتدون بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، ويقيمون فيه سنة النبي صلى الله عليه وسلم فلا معنى أن يترك ذلك وأن يتوجه إلى مسجد بعيد مثلاً وقد لا يكون على هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يكون فيه بدعة من البدع، بدعوى تكثير الخطى، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن مثل ذلك، فقد روى الطبراني عن ابن عمر وصححه الشيخ الألباني رحمه الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليصل الرجل في المسجد الذي يليه ولا يتتبع المساجد)، يعني: لا يقول: أنا أبحث عن أبعد مسجد وأصلي فيه، بل يصلي في المسجد الذي يليه. وهذه لها حكمة في هذا الدين العظيم، فأهل الحي عندما يصلون في مسجد الحي سيعرف من الذي يواظب على الصلاة؟ أهل التقوى والخير والطاعة الذين ذكرهم الله عز وجل في كتابه وقال: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:18]، فإذا كان هؤلاء المهتدون كل واحد ذاهب إلى مسجد، وهم في حي واحد، فلن يتعرف بعضهم على بعض، ولن يستطيع أحد أن يطلب من الآخر شيئاً، ولكن المسجد يجمع الناس، ويؤلف بين قلوب المسلمين، ويعرف المسلم أخاه المسلم، يعرف جاره وقريبه، يعرف من هو مثله مواظب على الصلاة، وتجد محبة عجيبة جداً تجمع قلوب الناس، وخاصة الذين يجتمعون في الصلاة يمشي بعضهم مع بعض، يذكر بعضهم بعضاً، إذا مرض أحدهم عاده الآخر، فيدعو لأخيه، ويسلم عليه، وإذا مات الإنسان فيؤتى به للمسجد، فيقال: فلان الذي كان يصلي معنا صلاة الفجر كل يوم توفي اليوم، فحينها يعرفه الجميع ويصلون عليه، ويمشون في جنازته، ويقفون عند قبره يدعون له. إذاً: الصلاة قربت ما بين الناس، هذه هي الصلاة التي قال الله عز وجل فيها: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45]، والتي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيها للمصلين: (لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم)، فهنا إما أن تسوي الصفوف، وإما أن يفارق الله عز وجل بين القلوب والوجوه. فالصلاة يقف المؤمن فيها بجوار أخيه، لا أحد أفضل من أحد، بل من جاء مبكراً صلى في الصف الأول، ومن جاء متأخراً يصلي حيث وصل به الصف مهما كانت وظيفة هذا الإنسان، فأكرمهم عند الله عز وجل أتقاهم له سبحانه وتعالى، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]. لذلك أهل العلم أن الإنسان لا ينبغي له أن يتتبع المساجد بدعوى أنه تكتب له الآثار، فمن وجد مسجداً قريباً من بيته فإنه يصلي فيه، وإن قام على سنة النبي صلى الله عليه وسلم فليحرص على حضور الصلاة، وأن يحضر مبكراً. والبعض من الناس بيته قريب لكنه يتعمد التأخر حتى يدخل الإمام في الصلاة، وهذا فوت على نفسه خيراً كثيراًَ بتفويته لتكبيرة الإحرام، مع أن ربنا رحمه وجعله قريباً من بيته سبحانه وتعالى حتى يحرص على الصلاة، لكنه يضيع على نفسه ذلك، ولعل البعض في الشارع يتكلم ويسمع الإمام يصلي وهو يكمل كلامه في الشارع، ويضيع على نفسه صلاة الجماعة، أو تكبيرة الإحرام، فاحرصوا على حضور تكبيرة الإحرام، ولا تضيعوا على نفسكم هذا الفضل العظيم من الله، ليكون لأحدكم براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق.

إحصاء أعمال العباد في اللوح المحفوط

إحصاء أعمال العباد في اللوح المحفوط قوله: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12]. الإمام المبين هو اللوح المحفوظ، وهو عند الله عز وجل، مكتوب فيه كل شيء. كذلك صحائف الأعمال للعباد، كل عبد صحيفته يراها يوم القيامة: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:14]، ففي يوم القيامة يجد كل إنسان كتاباً كتبت فيه أعماله من حسنات وسيئات، {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا} [الإسراء:13]. يجد هذا الكتاب منشوراً أمامه، وتتطاير الصحف، فالناس منهم آخذ باليمين ومنهم آخذ بالشمال: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ} [الإسراء:13]، أي: عمله: {فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا} [الإسراء:13]، يتلقى هذا الكتاب إما بيمينه وإما بيساره مفتوحاً أمامه. ويقال: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:14]، هذه صحيفتك، {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29]، هذا كتاب رب العالمين الذي كتب لكل إنسان ما فعل، وعد عليه كل شيء فعله، {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم:84]، يعد ويحصي عليهم كل شيء يقولونه ويفعلونه فهل مكتوب عند الله تبارك وتعالى، ((فِي إِمَامٍ))، صحيفة أعمال، أو اللوح المحفوظ، وهذا الإمام للإنسان يوم القيامة، أي: الكتاب الذي عند الله سبحانه وتعالى، فهو الكتاب المقتدى به، وهو حجة على العباد. قالوا أيضاً: معناه: صحائف أعمال العباد. إذاً: {إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12]، هو اللوح المحفوظ، الذي ينسخ منه ما في أيدي الملائكة، والكتب التي يجد فيها العباد ما عملوا في الدنيا.

قصة أصحاب القرية

قصة أصحاب القرية يذكر القرآن قصة لأناس سبقوا النبي صلوات الله وسلامه عليه، كانوا في عهد المسيح عيسى بن مريم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} [يس:13]. وهم رسل المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، كانوا يدعون أقواماً إلى الله سبحانه وتعالى، وهذه القرية قالوا هي قرية أنطاكيا، وهي في شمال سوريا قريبة من البحر المتوسط وليست عليه، فهذه القرية أرسل الله سبحانه وتعالى إليها ثلاثة من رسل المسيح عليه الصلاة والسلام، أمرهم أن يذهبوا فيدعوا أهل هذه القرية. {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا} [يس:13]، يعني: هذا من الأمثلة التي يتعجب لمثلها، فاحذروا أن تكونوا مثل أهل هذه القرية، كأنه يقول: قص عليهم هذه القصة لتكون لهم كالمثل وكالعظة وكالعبرة حتى لا يقعوا في ذلك، ولا يستحقوا عذابنا بكفرهم. ((إِذْ أَرْسَلْنَا))، الأمر من الله سبحانه، والذي ينفذ هذا الأمر المسيح عليه الصلاة والسلام، فأمر هؤلاء أن يتوجهوا إلى هذه القرية، وقيل: إنهم ذهبوا بعد رفع المسيح عليه الصلاة والسلام وقيل: بل في وجوده، والله أعلم بذلك؛ ولكن القصة هنا لم تذكر وجود أو عدم وجوده. فتوجه اثنان منهما إلى هذه القرية يدعوان ملكها إلى دين الله سبحانه تبارك وتعالى، {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ} [يس:14]، فكذبوا هذين الاثنين: {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس:14]، هذه قراءة الجمهور، وقراءة شعبة عن عاصم: ((فَعَززْنَا بِثَالِثٍ))، والتعزيز بمعنى الشد والتقوية، يعني: شددنا الاثنين بثالث، يقويهما ويتكلم معهما، ويدعو إلى الله سبحانه تبارك وتعالى. {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} [يس:14]، قالوا لملك هذه القرية {إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} [يس:14]، أرسلنا المسيح عليه الصلاة والسلام بدعوة الله سبحانه تبارك وتعالى يدعوكم إلى عبادة الرب سبحانه. وعادة أهل الكفر التكذيب والإعراض، فقالوا: {مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} [يس:15]، من غير أن ينظروا لآية في أيديهم، ولبينة معهم، الكبراء من القوم يصدون خوفاً على الكراسي، فعندما يجيء هؤلاء يدعونهم إلى دين الله فيسلم الضعفاء يشعر الكبراء أن الرئاسة ضاعت منهم؛ لأن هؤلاء الرسل سيحكمون فيهم، فلذلك أول من يصد عن سبيل الله هم الكبراء من القوم الذين يرفضون ويعرضون، ويقولون: أنتم مجانين، أنتم كاذبون. وقالوا هنا: {مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} [يس:15]، وكأنهم دعوهم إلى الرحمن سبحانه، فقالوا: {وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} [يس:15]. قالت الرسل: {رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} [يس:16]، يعني: نحن صادقون فيما نقول، والله يشهد علينا بأنا صادقون فيما نقول: {وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [يس:17]، كما قال الله: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:54]، وقال الله عز وجل لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:21 - 22]، لا تملك أن تحول هؤلاء من كفر إلى إيمان، إنما تملك أن تدعوهم، {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:48]، فيدعوهم النبي صلى الله عليه وسلم والله يقص عليه مثل هذه القصة حتى يطمئن. كذب الذين من قبله وأوذوا أذى شديداً وصبروا كما سننظر في هذه القصة، قال هؤلاء القوم للرسل: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [يس:15 - 17]، ما علينا إلا أن نبلغ رسالة الله سبحانه بلاغاً بيناً واضحاً، ونريكم آيات الله سبحانه وتعالى. {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا} [يس:18]، أي: نحن تشاءمنا منكم. وقيل: إنهم عندما لم يستجيبوا منع عنهم المطر ثلاث سنوات أو فترة طويلة، فقالوا للرسل بدلاً من الاستجابة: أنتم شؤم علينا. {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يس:18]، إما أن تنتهوا عن هذا الذي تدعوننا إليه، وتذهبوا بشؤمكم، أو نرجمكم. والرجم هو القذف بالحجارة حتى القتل، كأنهم يهددونهم بأن يقتلوهم رمياً بالحجارة، سنعذبكم، سنفعل بكم ونفعل من ألوان العذاب، وإما أن تنتهوا عما أنتم فيه. فقالت الرسل: {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} [يس:19]، شؤمكم معكم، شؤمكم منكم، أنتم سبب الكوارث والمصائب التي تحدث لنا. ((طَائِرُكُمْ)): صحف أعمالكم التي تعملونها معكم، كفركم بالله سبحانه تبارك وتعالى هو الذي يجلب عليكم العذاب، والشؤم الحقيقي يوم القيامة حين دخول النار، أما في الدنيا فمهما حدث فهذه أشياء ليست بالأشياء الكبيرة إنما كفركم هو سبب بلائكم. {أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ} [يس:19]، أئن ذكرناكم بالله سبحانه تبارك وتعالى أعرضتم وقلتم مثل ذلك: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [يس:19]. أي: أسرفتم على أنفسكم بالكفر، أسرفتم على أنفسكم حين لم تنظروا فيما دعوناكم وتركتمونا وديننا، وفي كفركم الإسراف وتجاوز الحد، ولا تريدون أن تنظروا إلى الآيات التي معنا. وقد جعل الله عز وجل لهم آيات يعلم بها الناس أن هؤلاء رسل الله، ومعهم معجزات من الله سبحانه وبينات، فلم ينظروا فيما معهم، وقالوا: أنتم قوم كاذبون، ولم يؤمنوا، ولم يصدقوا، قال الرسل: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [يس:19]، أي: مفسدون في الأرض، أسرفتم على أنفسكم بالكفر، ولم تنظروا في آيات الله سبحانه وتعالى.

قصة حبيب النجار

قصة حبيب النجار قال الله تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [يس:20]. والقصص القرآني قصص عجيب جداً، فيه التشويق، والاختصار، وبيان الفائدة، فالقرآن يشير بإشارات لطيفة إلى مجمل الأحداث: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} [يس:20]، يا ترى من هذا الرجل؟ وما حكايته، {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس:20 - 21]. هذا الرجل كان يسمى حبيب النجار، هذا الرجل آمن وكان قبل ذلك كافراً، وجاء عن ابن عباس أنه كان ينحت الأصنام قل ذلك، وأنه كان مريضاً مرضاً شديداً، قيل بالجذام وقيل بغير ذلك، وكان يصنع الأصنام ويدعوها من دون الله سبحانه سنين طويلة فما نفع دعاؤه، فمر به الرسل وهم آتون إلى هذه القرية فدعوه إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، فتعجب من كلامهم، ومن هو الله؟ فدعوه إلى الله سبحانه الذي خلقه، ورزقه، والذي يحيي ويميت، والذي يشفي المرضى، فقال: لو أنا دخلت في دينكم هل سيشفيني الله؟ قالوا: ندعو لك، والله إن شاء يشفيك. فإذا به يتابعهم فيدعون له، فلما دعوا له شفاه الله، فعرف أن الحق هو ما عليه الرسل، فلما عرف ذلك آمن، وكان أهل القرية أهل ظلم وعدوان، فلذلك لم يشتهر عنه أنه آمن بهؤلاء الرسل، وتوجه الرسل إلى غيره يدعونهم إلى الله سبحانه من ضعفاء الناس، فمنهم من استجاب، ولكن الأغلب لم يستجيبوا لهم، وتوجهوا إلى ملك هذه القرية يدعونه إلى الله سبحانه، فلم يستجب لهم، وقيل: استجاب، فالله أعلم بذلك، لكن الأغلب من الكبراء وأهل هذه القرية أنهم لم يؤمنوا، وأصروا على قتل هؤلاء الرسل عليهم السلام. فلما أصروا على القتل، واستفاض الخبر في المدينة أنهم سيقتلون جاء هذا الرجل العابد مسرعاً لينقذ هؤلاء، أو يحاول أن يدافع عنهم ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. قص الله عز وجل علينا قصته فقال: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} [يس:20]، جاء يجري من أقصى المدينة خائفاً على الرسل الذين أرسلهم ربنا سبحانه، وكانوا السبب في أن يرد الله عز وجل عليه صحته وعافيته، فقال: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [يس:20]، هؤلاء أهل خير وليسوا أهل شر كما تزعمون، وليسوا كاذبين وإنما هم رسل من عند رب العالمين سبحانه. {اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس:21]؛ لأنه جرب قبل ذلك، فقد مر عليه الرسل فدعوا له ولم يطلبوا منه أجراً، فهو يعلم أن هؤلاء يدعون إلى الله ولا يطلبون من الناس شيئاً. ويلاحظ أن هذا الرجل جاء مسرعاً وأطال الكلام معهم كأنه يكسب وقتاً للرسل لكي يفلتوا، أو لعل الناس يتركونهم، أو يأتي من ينقذ هؤلاء الرسل، لذلك جادل كثيراً مع هؤلاء القوم: {قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [يس:20]، حتى الآن ما قال لهم: أنا آمنت، ولكن قال: (يا قومي!) أي: أنا منكم، اتركوهم واسمعوا لهم، فهو يحاول أن ينقذ هؤلاء الرسل بأي شيء يقوله لهؤلاء القوم. {اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس:21]، فأنا خبرتهم من قبل، وسمعت كلامهم، وهم على هدى، ولم يقل: أنا آمنت معهم حتى الآن. وحين لم يجد فائدة منهم قال: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:22]، يتكلم عن نفسه: لماذا أنا لا أدخل في دين هؤلاء؟ لم لا أعبد الذي فطرني وهم يدعونني إليه: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:22]، سوف نرجع إلى الله سبحانه وتعالى مرة ثانية. {وَمَا لِيَ} [يس:22]، هذه قراءة الجمهور، وقرأها هشام بخلفه: ((وَمَا لِيْ)) وقوله: (وَإِلَيْهِ تُرْجِعُونَ)، هذه قراءة الجمهور، وقراءة يعقوب: {وَإِلَيْهِ تَرْجَعُونَ} [يس:22]، وكذا في كل كلمة ترجع بمعنى الرجوع إلى الله سبحانه يقرؤها يعقوب: (تَرجع)، ويقرؤها الجمهور: (تُرجع). قال: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} [يس:23]، وهم يعلمون أنه كان يصنع لهم الأصنام قبل ذلك. وقوله: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ} [يس:22]، يعجب من نفسه: كيف يتبين لي الحق ثم لا أعبد الله الذي فطرني؟ أي الذي خلقني تبارك وتعالى، وإليه المصير يوم القيامة. {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ} [يس:23]. هل أعبد آلهة من دون الله سبحانه، وماذا تنفع هذه الآلهة؟ لقد صنعنا أصناماً قبل ذلك ولم تفدنا، كنت مجذوماً سنيناً من الدهر ولم تنفع هذه الأصنام، وإنما الذي نفعني الله سبحانه، وحسن عبادته تبارك وتعالى. ((أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً))، والتقاء همزتين هنا فيها قراءات، فيقرؤها البعض منهم بتسهيل الهمزة الثانية، ويقرأها البعض بتحقيق الاثنتين: فيقرأ ورش وابن كثير ورويس: {أَأَتَّخِذُ} [يس:23]، وقرأ الأزرق عن ورش: (آتخذ من دونه آلهة) بإبدال الهمزة مداً، وقرأها قالون وأبو عمرو ورواية عن هشام: (آاتخذ) بالمد همزة ممدودة وبعدها تسهيل الهمز الثانية، لصعوبة نطق الهمزتين مع بعض، والبعض يفصل بينهما بألف أو يسهل الهمزة الثانية سواء فصل بألف أو لم يفصل، فكأن هنا قالون يقرأها: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} [يس:23]، ويقرؤها هشام: (آأتخذ من دونه آلهة) وله فيها ثلاث قراءات. (يردن) هذه بالكسر، ويقرؤها أبو جعفر وصلاً ووقفاً بالياء، فإذا وقف يقرؤها: (إن يردنيْ) فإذا وصل يقرؤها: (إن يردنيَ الرحمن) ويقرؤها يعقوب وقفاً بالياء: (إن يردني) فإذا وصل قرأها كغيره: {إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ} [يس:23]. أيضاً قوله: (وَلا يُنقِذُونِ) يقرؤها يعقوب بالياء سواء وصل أو وقف، وورش يقرؤها بالياء وصلاً، ويقرؤها وقفاً كغيره: ((وَلا يُنقِذُونِ)). {إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ} [يس:23]. هذه الأصنام لا تشفع عند الله سبحانه تبارك وتعالى، ولا تغني شيئاً، ولا تنقذني من عذاب الله سبحانه تبارك وتعالى. {إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يس:24]، لو أني عبدت هذه الأصنام من دون الله سبحانه: {إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يس:24]، والضلال بمعنى: التيه والبعد، ضل الإنسان الطريق بمعنى: تاه، دخل في صحراء وما عرف يرجع. قراءة الجمهور: {إِنِّي إِذًا} [يس:24]، ويقرؤها نافع وأبو جعفر وأبو عمرو: (إنيَ إذاً لفي ضلال مبين). وقوله: {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} [يس:25] هذه أيضاً سيقرؤها نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر: (إنيَ آمنت بربكم فاسمعون). قوله: {إِنِّي آمَنْتُ} [يس:25]، هو كان مؤمناً قبل ذلك، وكأنه يريد وقتاً يجادل فيه القوم، ولو بدأ بقوله: أنا مؤمن فسوف يقتلونه معهم، ولكن بدا بأنه يحاور ويجادل لعلهم يتركون هؤلاء وينظرون في المعجزات التي أيدهم الله عز وجل بها، ولكن لم ينفع ذلك مع هؤلاء، فلما وصل لذلك: {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ} [يس:25 - 26]، وكأن هنا شيئاً محذوفاً في السياق، وكأنه أول ما قال إنه مؤمن قاموا إليه فقتلوه. وجاء عن ابن مسعود أنهم وطئوه بأرجلهم حتى خرجت قصبة دبره أي: معائه خرجت منه. وقيل: بل رموه في بئر وسدوا عليه البئر ودفنوه حياً رضي الله تبارك وتعالى عنه، فإذا به شهيد عند الله سبحانه، فأدخله الله عز وجل الجنة. ثم قال معبراً عن ذلك، وكأن الدنيا لا تستحق أن تذكر بما فيها من قتل وعذاب مقابل الجنة العظيمة التي عمل لها هذا، وعمل لها الرسل، ويعمل لها المؤمنون، قال الله سبحانه: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ} [يس:26]، قال له ربه أو قالت له الملائكة: ادخل الجنة، فهو شهيد، قال الله سبحانه: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169]، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (الشهداء أرواحهم في أجواف طير خضر تروح في الجنة وتسرح كيف تشاء)، هنا أرواح هؤلاء تدخل الجنة، أما اجتماع الروح في البدن فإنه يوم القيامة حين يوفى الإنسان حسابه يوم القيامة. قال الله سبحانه وتعالى: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ} [يس:26]، هذه قراءة الجمهور، ويقرؤها هشام والكسائي ورويس أيضاً: (قُيل) لبيان أنه مبني للمجهول. {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:26 - 27]. هنا انتهت قصة هذا الرجل الفاضل الذي جعله الله عز وجل قدوة، وكيف أنه بدأ حياته بعبادة غير الله سبحانه، وفي النهاية عبد الله

تفسير سورة يس [13 - 36]

تفسير سورة يس [13 - 36] لما كان النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وأصحابه في مكة مستضعفين أنزل الله تعالى عليه قصة أصحاب قرية أنطاكية وما جرى لرسلهم على أيديهم من تعذيب، ثم كانت العاقبة لرسل الله، ليثبت نبيه وليطمئن قلبه، وقد رد الله شبهة المنكرين للبعث، ولفت أنظارهم إلى ما يستدل به عليه من التأمل في الأرض القاحلة الجرداء حين ينزل الله عليها الغيث فتحيا وتنبت الجنات من النخيل والأعناب، فكذلك نحيا بعد موتنا.

تفسير قوله تعالى: (واضرب لهم مثلا أصحاب القرية البلاغ المبين)

تفسير قوله تعالى: (واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية البلاغ المبين) الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين: قال الله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ * قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ * قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ * وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ * وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ * إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ * يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ * وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ * وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ * سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} [يس:13 - 36]. هذه القصة في سورة يس يذكر الله سبحانه وتعالى فيها كيف كذب السابقون أنبياءهم ورسلهم عليهم الصلاة والسلام، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس أول من كذب من الرسل، ولا قومه أول من كذبوا من الأقوام، بل كُذب الرسل السابقون، وصبروا على ما كذبوا وأوذوا، حتى جاء أمر الله سبحانه وتعالى. وفي هذه القصة يخبرنا الله سبحانه وتعالى أنه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} [يس:13]، أي: اضرب لهم مثالاً من أمثلة صنيعنا بالأمم المكذبة. فهذه قرية من القرى، أرسلنا إليها رسلنا، قال: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس:14]، فالله سبحانه وتعالى أرسل رسولين من حواري المسيح عيسى بن مريم على نبينا وعليه الصلاة والسلام إلى قرية أنطاكية في شمال سوريا، يدعوان القوم إلى الله سبحانه. قال سبحانه: {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس:14] أي: لما كُذب الرسولان كما قدمنا قبل ذلك. والتعزيز بمعنى: الشد، أي: شد وقوى الاثنين بالثالث، وجرى الحوار بينهم: {فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ * قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} [يس:14 - 15]، وعادة الأمم التكذيب وعدم النظر في الآيات والمعجزات التي جاء بها الرسل؛ فكذبوا الثلاثة. قالت الرسل: {إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} [يس:14]، {وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [يس:17]، أي: فنحن رسل الله إليكم، ولا نملك لكم إلا أن ندعوكم إلى الله والهداية بيد الله. فتشاءم القوم بالرسل كعادة أهل الكبر والغرور، فنسبوا إليهم كل مصيبة تنزل عليهم، فهؤلاء لما منع عنهم المطر قالوا: أنتم السبب. قال الرسل: هذا الشؤم الذي تزعمونه معلق بكم، وشؤمكم الحقيقي أعمالكم الخبيثة، وبعدكم عن الله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم)

تفسير قوله تعالى: (قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم) قال تعالى: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ} [يس:19]. أي: عندما نذكركم بالله سبحانه وتعالى تقولون هذا الشيء. وقوله: ((أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ)) يقرؤها أبو جعفر (ءائن ذكرتم) بالمد فيها وتسهيل الهمزة الثانية، وكأن المعنى: لأننا ذكرناكم بالله سبحانه وتعالى فعلتم ذلك، وأعرضتم عن التذكير ولم تؤمنوا ولم تستجيبوا. قالوا: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [يس:19].

تفسير قوله تعالى: (وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى وجعلني من المكرمين)

تفسير قوله تعالى: (وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى وجعلني من المكرمين) فلما قال لهم الرسل ذلك، أرادوا إيذاء الرسل، وبلغ الخبر لرجل ممن آمن بهؤلاء الرسل، يسمى ب حبيب النجار وكان نجاراً، وقيل: كان إسكافياً صانع أحذية، وكان يصنع الأصنام للناس، وعبدها سنين طويلة من دون الله سبحانه، ثم جاءه رسل المسيح عليه الصلاة والسلام فدعوه إلى الله سبحانه، وكان مجذوماً، فدعوا له الله سبحانه فشفي. فما سمع خبر إيذاء المرسلين، جرى إليهم مسرعاً، وقال: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس:20 - 21] فهؤلاء الرسل لم يطلبوا منكم مالاً، ولا مناصب، إنما جاءوا ليدعوكم إلى الرب سبحانه. قال: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:22]، قد ذكرنا أنه أطال معهم في الكلام لعلهم يستجيبون، ولعلهم يخففون عن الرسل فلا يقتلونهم. فقالوا له: وأنت كاذب، ثم قتلوه. قال الله تبارك وتعالى عن هذا الإنسان المؤمن: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يس:22 - 24]. وبعد هذا الحوار الطويل الذي لم يسفر عن فائدة قال: {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} [يس:25] فكشف عن حقيقة أمره، وأنه مؤمن مع هؤلاء الرسل. {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ} [يس:26]، كأنه مجرد أن كشف عن حقيقة أمره أنه مؤمن قتلوه حالاً. وقد جاء ابن مسعود رضي الله عنه أنهم داسوه بالأقدام حتى قتلوه. فلما قتل إذا بالله عز وجل يدخل روحه الجنة ويكون شهيداً عند الله سبحانه، فلما رأى الجنة والنعيم الذي عند الله سبحانه تحسر على قومه، وقال: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:26 - 27]. أي: يا ليت قومي يعلمون بمغفرة ربي لي، وكيف صنع بي في هذا النعيم المقيم، وهذه الجنات العالية العظيمة.

تفسير قوله تعالى: (وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء)

تفسير قوله تعالى: (وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء) قال تعالى: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ} [يس:28]. يعني: هؤلاء أحقر من أن ننزل عليهم جنداً من السماء لإهلاكهم وما كنا لنفعل ذلك بهم. فما كان الأمر إلا أن قال: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} [يس:29]، من جبريل عليه السلام فهلكوا. قوله تعالى: {صَيْحَةً وَاحِدَةً} [يس:29]، منصوبة على أنها خبر كان عند أكثر القراء. وقرأها أبو جعفر: (إن كانت إلا صيحةٌ واحدةٌ فإذا هم خامدون)، فجعل (كان) تامة، و (صيحة) فاعل، والمعنى: ووقعت صيحة واحدة على هؤلاء فإذا هم خامدون. والإنسان عندما تكون فيه النفس يكون حياً، فإذا خرج روحه من جسده همد وخمد، وذهبت منه الحياة. فإذا بصيحة من جبريل على هؤلاء أخمدتهم جميعهم. انظر كيف أخمدهم الله سبحانه وتعالى بصيحة واحدة، ولم ينزل عليهم ملائكة، كما قال تعالى: {إِنْمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]. وقد ذكر الله تعالى هذه القصة في سورة مكية حتى يطمئن نبيه صلى الله عليه وسلم أن الله ينصر رسله، وينصر دينه سبحانه وتعالى. هؤلاء لا قيمة لهم عند الله، فلم ينزل عليهم جنداً من السماء، وفي يوم بدر أنزل الله سبحانه وتعالى ملائكة من السماء على النبي صلوات الله وسلامه عليه، وطمأن المؤمنين بأنه ينزل عليهم من السماء ثلاثة آلاف مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ، وينزل ِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ، فهل يستحق هؤلاء الكفرة الذين مع النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم الملائكة؟ ف A لا، فليس إنزال الملائكة تقديراً لهؤلاء الكفرة، وإنما ذلك لعظيم منزلة النبي صلوات الله وسلامه عليه وعلو قدره، فأراد الله بذلك أن يري المؤمنين والأمم من بعدهم كيف جعل الله سبحانه للنبي صلى الله عليه وسلم منزلة عظيمة أن يقاتل معه المؤمنون من الإنس والملائكة، ويشاهد الناس الكرامات والبركات ومعجزات النبي صلوات الله وسلامه عليه. ولذلك عندما يسمع المؤمنون من يقول: أقدم حيزوم، ويخبرون النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فيقول (هذا جبريل) فيخبر عن جبريل عليه السلام أنه أتى ليقاتل مع المؤمنين، وكذلك أتى جبريل عليه السلام في يوم الخندق، ففرق الله الأحزاب عن النبي صلوات الله وسلامه عليه، وأرسل عليهم جنداً من عنده وريحاً، وأتاهم الرعب والخوف فرحلوا عن النبي صلوات الله وسلامه عليه. وجعلها الله آية للنبي صلوات الله وسلامه عليه قال تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:10 - 11]. فلما ابتلي المؤمنون وزلزلوا جاء النصر من عند الله سبحانه وتعالى، قال سبحانه: {إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب:9]، فنصر الله عز وجل نبيه، وأنزل الملائكة فإذا به يرى جبريل، قال: (أتاني جبريل وعلى ثناياه النقع)، والثنية: السن الأمامية، و (النقع) الغبار والتراب. ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: (وضعت لأمتك، والله ما وضعت الملائكة أسلحتهم)، ثم أمره أن يتوجه إلى بني قريظة، فتوجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة، والملائكة معه. والله قادر على أن يفني اليهود جميعهم ويهلكهم، ولكن هذه سنة الله في الكون كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ} [التغابن:2]، فأراد أن يبتلي أحد الفريقين بالآخر: فالمؤمن يزداد إيماناً ويزداد ثباتاً، ويكون قوياً صلباً في دينه. ولم تقاتل الملائكة إلا في يوم بدر مع النبي صلى الله عليه وسلم، ونزلت في غيره ولم تقاتل، ولكن لتكثر عدد المسلمين. وفي يوم بدر كانت هناك معجزات عجيبة، من ذلك أن يقول رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنه رفع سيفه على الكافر، فطارت رقبته ولم يضربه. فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أيدك الله بملك كريم). ومن ذلك أن العباس عم النبي صلوات الله وسلامه عليه أسره رجل من المسلمين ضعيف وليس في قوة العباس رضي الله عنه، فيقول العباس للنبي صلى الله عليه وسلم: ليس هذا أسرني. فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أعانك عليه ملك كريم). قال العباس رضي الله عنه: أنا لست مع الكفار. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كان ظاهرك علينا) وأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يفدي نفسه، ففدى نفسه رضي الله عنه، وفدى عقيلاً أيضاً ابن أخيه، والله تبارك وتعالى أخلف عليه بعد ذلك كما قال تعالى: {إِنْ يَعْلَمْ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ} [الأنفال:70] الآية. فهنا لما أخبر الله سبحانه أنه ما أنزل من بعده على قومه من جند من السماء، إنما أرسل جبريل عليه السلام فصاح في القوم صيحة، فأهلكهم الله سبحانه وتعالى، فتحسروا على أنفسهم: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} [يس:30]، وجاء التحسر على وجه النداء كأنه قال: يا حسرة أقبلي، والحسرة الندامة والتلهف على الشيء الذي يفوت، ففاتهم الإيمان. و (حسرة) نكرة ولذلك نصب المنادى مع كونه مفرداً، وهذا كقول من وقع في بئر: يا إنساناً أنقذني، وهو لا يعرف المنادى. قال تعالى: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} [يس:30]، أي: تعجبوا لأمر هؤلاء العباد الذين يستحقون أن يتحسروا على أنفسهم وينادوا على الحسرة وعلى الندامة حين لا تنفعهم، فيكون جعلهم محل من يتحسر عليه. أو أن الله سبحانه جعل الويل عليهم، فتكون الحسرة تعني: يا ويل أقبل لهؤلاء، أو يا عذاب أقبل على هؤلاء القوم؛ فإنهم يستحقون ذلك. وفي قوله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ} [يس:30]، قراءتان: قراءة الجمهور (ما يأتِيهِم). وقراءة يعقوب، (ما يأتيهُم من رسول). فأي رسول يبعث إلى قوم لا بد أن سفهاء القوم يسخرون منه ويستهزئون به.

تفسير قوله تعالى: (ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون)

تفسير قوله تعالى: (ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون) قال تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ} [يس:31]. A بلى، قد رأوا هذا الشيء كله، فقد ذهب آباؤهم وأجدادهم، والقرون السابقة الذين ما زالوا يفتخرون بهم، وكل إنسان منهم يقول: كان أبي، وكان جدي ويحفظ نسبه إلى الجد العاشر. فكل هؤلاء ذهبوا، ولم يرجع أحد. وهذا دليل من القرآن العظيم على أنه لا أحد يموت فيرجع إلى الدنيا مرة ثانية إلا أن تكون معجزة لنبي من الأنبياء، فيحيي ميتاً ثم يموت مرة ثانية، كما كانت للمسيح عليه الصلاة والسلام. وما يذكره البعض من الناس من رجوع روح فلان وما أشبه ذلك كله من الكذب والخرافات، فمن مات قد ذهب إما إلى روضة من رياض الجنة، وإما إلى حفرة من حفر النيران في قبره، فهو منشغل بذلك عن أمر الدنيا.

تفسير قوله تعالى: (وإن كل لما جميع لدينا محضرون)

تفسير قوله تعالى: (وإن كل لما جميع لدينا محضرون) قال تعالى: {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس:32]. في قوله: (لما) قراءتان: قراءة ابن عامر وعاصم وحمزة، (إن كل لمّا) بالتشديد. وباقي القراء: (إن كل لَمَاَ) بالتخفيف. و (إن كل لما) مثل: (ما كل إلا كذا) فهذا أسلوب قصر، ويكون المعنى: أن الجميع راجع إلى الله، ولا يفلت أحد من الله سبحانه تعالى. قال تعالى: ({وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس:32]، أي: أن الله يجمعهم ويحضرون بدون اختيارهم يوم الحشر، أما على قراءة الجمهور فالمعنى: إن كل راجع ومجموع إلينا، و (إن) هنا مخففة من الثقيلة، فلما خففت رفع ما بعدها؛ لأنها صارت لا تعمل. وجاءت اللام في (لَمَا) من أجل أن تفرق بين (إن) التي بمعنى (ما) وبين (إن) التي تأتي لتأكيد الجملة بعدها. وسواء كان الأسلوب أسلوب قصر، أو أسلوب تأكيد، فالمقصود أن الجميع محضرون إلى ربهم سبحانه، ليجازيهم على أعمالهم. كان الكفار يكذبون بالعبث والنشور، ويقولون: {أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [الرعد:5]، أي: سنرجع مرة أخرى! فيقول الله عز وجل: انظروا فيما أمامكم من الآيات.

تفسير قوله تعالى: (وآية لهم الأرض الميتة)

تفسير قوله تعالى: (وآية لهم الأرض الميتة) ومن تلك الآيات قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} [يس:33]. في قوله تعالى: (الأرض الميتة) قراءتان: قراءة الجمهور: (الأرض الميتة). وقراءة المدنيين نافع وأبي جعفر: (وآية لهم الأرض الميّتة أحييناها)، بالتشديد. والمعنى: أن الله سبحانه وتعالى أحياها، وكل إنسان له عينان يرى الأرض جرداء، ثم ينزل عليها المطر، فإذا بها كما قال الله تعالى: {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج:5]، فأنبتت ما يأكل الناس والأنعام. قال تعالى: {وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا} [يس:33]، أي: جنس الحب، أي: حبوباً كثيرة أخرجناها فأطعمناكم إياها.

تفسير قوله تعالى: (وجعلنا لهم فيها جنات)

تفسير قوله تعالى: (وجعلنا لهم فيها جنات) قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} [يس:34]، أتيناكم بأقواتكم من الحبوب، وبفاكهتكم من النخيل والأعناب، فإذا عندكم ما تقتاتون عليه وما تتفكهون به. قال سبحانه: {وَجَعَلْنَا فِيهَا} [يس:34]، أي: في هذه الأرض التي كانت ميتة. {جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} [يس:34] فيها النخل الباسقة، وفيها الأعناب العظيمة الجميلة. {وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ} [يس:34]، فجر الله في هذه الأرض من العيون أما الإنسان فيحفر البئر لعله يجد الماء، فقد يجد وقد لا يجد. وفي قوله تعالى: {وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ}، قراءتان: قراءة الجمهور: (من العُيون) بضم العين. وقراءة ابن كثير وشعبة عن عاصم وحمزة والكسائي: (من العِيون)، بكسر العين. وكذلك في الكلمات التي على هذا الوزن كجيوب وبيوت، فتقرأ جُيوب وبُيوت، وجِيوب بِيوت، بالفتح والكسر في القراءات التي ذكرنا.

تفسير قوله تعالى: (ليأكلوا من ثمره)

تفسير قوله تعالى: (ليأكلوا من ثمره) قال سبحانه: {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ} [يس:35]. أي: ليأكلوا من ثمر ما أخرجناه من الأرض، أو من ثمر العيون. وفي قوله تعالى: (من ثمره) قراءتان: قراءة الجمهور: (من ثَمرَه) , بفتح الثاء. وقراءة حمزة والكسائي وخلف: (ليأكلوا من ثُمره)، بضمها، وكأن الثَّمر تجمع على ثمار، ويجمع الجمع على ثُمر. واللام في قوله: (ليأكلوا) إما أن تكون تعليلية أو للعاقبة أي: تكون العاقبة أن يأكلوا من الثمار. قال تعالى: {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} [يس:35] قرأ الجمهور: (وما عملته أيديهم). وقرأ شعبة عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف: (وما عملت أيديهم). قد تكون (ما) نافية، فيكون المعنى: أن الله سبحانه هو الذي أخرج ذلك والتقدير: لتأكلوا هذه الثمار ولم تعمل أيديكم هذه الثمار، إنما الذي خلقها وأوجدها الرب سبحانه وتعالى، الذي أنزل الماء من السماء، وأحيا هذه الأرض. أو تكون (ما) بمعنى (الذي) فيكون قوله تعالى: {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} [يس:35]، أو (وما علمت أيديهم). والمعنى: أن الله خلق لك هذا القمح، ثم أخذته وطحنته ثم عجنته وأدخلته الفرن، فأخرجته خبزاً، فهذا الذي عملت يداك مما أخرجه الله سبحانه، وكلا المعنيين صحيح. قال تعالى: {أَفَلا يَشْكُرُونَ} [يس:35] أي: هلا شكروا الله سبحانه على ما أخرج لهم، وعلى ما رزقهم من عقول فيصنعون ذلك. وانظر إلى البهائم والحشرات والطيور كيف تأكل الثمرة كما هي، وتلتقط الحبة كما هي؛ لكن أنت أيها الإنسان أعطاك الثمار، وأعطاك الحبوب، وأعطاك العقل لتفكر، وألهمك كيف توقد النار وكيف تصنع الطبيخ، وكيف تصنع الحلوى، أفلا تشكر الله سبحانه وتعالى، وكان قادراً على أن يحجب عنك ذلك، فتأكل الطعام كما يخرج من الأرض بدون طبخ وإصلاح.

تفسير قوله تعالى: (سبحان الذي خلق الأزواج كلها)

تفسير قوله تعالى: (سبحان الذي خلق الأزواج كلها) قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا} [يس:36]. أي: يقدس الله تعالى عن ألا يشكر، وينزه عن النقص والعيب، وعن أن يذكر معه غيره، وعن أن يكون له الصاحبة أو الولد، أو الشريك في ملكه، فهو الخلاق العظيم العليم وحده لا شريك له. وقوله (سبحان) مصدر، والفعل سبح، أي: أسبح الله تسبيحاً وسبحاناً، فعبر بالمصدر نيابة عن جملة فيكون المعنى: سبحوا الله تسبيحاً عظيماً. قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا} [يس:36]، (الأزواج) هنا بمعنى: الأصناف والأنواع، فكلها خلقها الله سبحانه وتعالى، من أين؟ قال: {مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ} [يس:36]، فأخرج لكم من الأرض أزواجاً: {وَمِنْ أَنفُسِهِمْ} [يس:36] خلق الذكر والأنثى، وخلق لهم الأولاد والأحفاد والذريات {وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} [يس:36]. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة يس [36 - 44]

تفسير سورة يس [36 - 44] يذكر الله عز وجل أن من آياته العظيمة الباهرة في هذا الكون اختلاف الليل والنهار، وحركة الشمس والقمر، والشمس آية النهار والقمر آية الليل، ومن آياته أيضاً أنه هدى الإنسان أن يصنع السفن الضخمة العملاقة التي تسير على سطح البحار والمحيطات، والطائرات والمركبات الفضائية التي تخترق الجو، والسيارات والقطارات التي تقطع المسافات البعيدة الشاسعة، وهذا كله بفضل الله ورحمته، ولو شاء لحطم ذلك كله.

عظم آيتي الليل والنهار

عظم آيتي الليل والنهار الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة يس: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ * وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ * وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنقَذُونَ * إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [يس:45 - 44]. يعدد الله سبحانه وتعالى لنا نعمه على عباده في هذه الآيات وما قبلها، ومما ذكره قبل ذلك أن قال: {وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} [يس:33]، آية وعبرة وعظة للخلق ومعجزة تدل على قدرة الخالق تبارك وتعالى، أرض ميتة ينزل الله عز وجل عليها المطر فيحيي هذه الأرض بعد موتها، ويخلق فيها ما يشاء سبحانه وتعالى من بساتين وحقول، وأصناف الزروع وثمار الحبوب، يخلق ما يشاء وهو على كل شيء قدير، فيذكر ذلك ثم يقول: {أَفَلا يَشْكُرُونَ} [يس:35] أي: هلا شكروا الله سبحانه على نعمه التي خلقها وسخرها لهم وصنعوا منها بعقولهم وبقوتهم التي أعطاهم الله سبحانه ما يشاءون. قال سبحانه: ((لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ))، ليأكلوا من الثمار التي خلقها الله سبحانه ومما يصنعونه هم بأيديهم، ((وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ)) هذا المعنى الآخر: أنها لم تعمل أيديهم هذه الأشياء، فلا أنزلت أيديهم المطر من السماء، ولا خلقت العيون في الأرض، ولا أخرجت الحبوب منها والثمار، ولكن الله الذي خلق ذلك، أفلا يشكرون الله ويعبدونه وحده لا شريك له. قال الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} [يس:36]، كما قال: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات:49] خلق من الأنعام زوجين الذكر والأنثى، ومن الحشرات كذلك، ومن الدواب كذلك، ومن الإنس كذلك، وقال لنا هنا: ((سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ))، فأخرج لنا الأنواع والأصناف كلها مما تنبت الأرض، ((وَمِنْ أَنفُسِهِمْ)) ومن أنفس الخلق خلق الزوجين الذكر والأنثى، ((وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ)) يخلق ما يشاء، هذه من آياته العظيمة. ومن آياته أيضاً: الليل والنهار، قال سبحانه: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} [يس:37]. وهذا التعبير الدقيق في كتاب الله سبحانه وتعالى يرينا هذه الآية العظيمة، ((وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ)) كأن هذا ينسلخ من ذاك، فيبدو للناس الليل ويظهر للناس النهار على ما يريهم الله سبحانه تبارك وتعالى. يقول أهل العلم: إن الليل يحيط بالأرض من كل مكان، والنهار جزء بسيط إذا قورن بالليل الذي يحيط بالكرة الأرضية من كل مكان، والجزء الذي تتكون فيه حالة النهار هو الهواء الذي يحيط بالأرض، فحينما تنعكس أشعة الشمس على هذا الهواء المحيط بالأرض في الجزء المواجه للشمس إذا بهذا الجزء مضيء، والأرض تدور، فإذا دارت فكأنه ينسلخ عنها هذا الجزء من النهار ويصير ليلاً في المكان الذي دارت إليه، وهكذا لا تزال تدور ويتعاقب فيكم الليل والنهار بمثل ذلك، وهذا لا يكون إلا والأرض على هيئة الدوران، {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} [الزمر:5]، فالكرة الأرضية كالكرة تدور، وفي أثناء دورانها يتعاقب عليها الليل والنهار، وينسلخ النهار من الليل على ما يريد الله سبحانه وتعالى. {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} [يس:37]، الكون كله ليل، وجزء من الكون وهو الهواء الذي فوق الأرض يظهر فيه النهار، ثم ينسلخ بدوران الأرض كما ينسلخ الجلد من فوق الضحية التي تذبحها، قال الله سبحانه: {فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} [يس:37] فالجزء الذي كان مضيئاً من الأرض دار فانسلخ منه نهاره فهم مظلمون الآن.

تفسير قوله تعالى: (والشمس تجري لمستقر لها وكل في فلك يسبحون)

تفسير قوله تعالى: (والشمس تجري لمستقر لها وكل في فلك يسبحون)

مستقر الشمس في مدارها

مستقر الشمس في مدارها قال الله سبحانه: ((وَالشَّمْسُ)) هذه آية من آيات الله سبحانه، {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس:38]. الأرض تدور، والقمر يدور حول الأرض في مدار، وهذه بعض الأشياء في كون الله العظيم الواسع الفسيح، كل شيء يجري في مداره، ويجري لمستقر له، الشموس والأقمار والنجوم والكواكب والمجرات كل شيء يجري ويدور حتى يأتي الأجل المحتوم وينتهي حينما يشاء الله سبحانه، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]. {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس:38] وكأن لها نهاية، تجري وهي تحت عرش الرحمن تبارك وتعالى، تطلع على الناس بإذن الله سبحانه، وتغرب على الناس بإذن الله سبحانه، ففي صحيح مسلم عن أبي ذر قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله عز وجل: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس:38]، قال: مستقرها تحت العرش). كرسي الله عز وجل فوق سماواته، وعرشه فوق ذلك، وإذا قورن كل ما في السماء وكل ما في الأرض بالعرش فهي كسبعة دراهم في ترس، فعرش الله عز وجل هو المحيط بهذا كله، فالشمس مهما جرت فهي تحت عرش الله سبحانه وتعالى. والعرش إذا قورن بالكرسي فهو كالحلقة في فلاة، والله فوق عرشه سبحانه أحاط بكل شيء، فالشمس مهما جرت والكواكب والنجوم مهما دارت فهي تحت عرش الرحمن سبحانه مسخرة بأمر الله تبارك وتعالى {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [الحج:18]، كل هؤلاء قد سخرهم الله سبحانه فأطاعوا ربهم، وسجدوا لله عز وجل طوعاً، وسجد كثير من الناس طوعاً، وكثير حق عليهم العذاب لما أبو أن يعبدوا الله سبحانه وتعالى. فهنا الشمس تطيع الله، وقد سخرها في الفلك، تشرق من مكان وتغرب من مكان، تخرج على الناس ولها مدار تجري فيه. {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس:38]، إذاً: سيأتي عليها يوم وتستقر، وذلك هو يوم القيامة، ويذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الشمس والقمر سوف يكوران، كما روى البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الشمس والقمر مكوران يوم القيامة، وهذا قول الله سبحانه: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} [التكوير:1 - 3])، الآيات.

تكوير الشمس في النار

تكوير الشمس في النار {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير:1] أي: لف بعضها ببعض وألقيت في النار، روى الطيالسي وأبو نعيم من حديث أنس قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الشمس والقمر ثوران عقيران في النار). وهل معنى كونهما في النار أن الله سبحانه يعذبهما؟ لا، لقد أطاعت الشمس ربها سبحانه، والقمر أطاع ربه، والآيات تذكر ذلك: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [الحج:18]. يسجد لله سبحانه وتعالى كل من في السماوات ومن شاء الله عز وجل من أهل الأرض وكذلك الشمس والقمر، ولكن كأن الشمس أداة تعذيب لأهل النار في النار، كما أن النار فيها ملائكة: {عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] موكلون بتعذيب أهل النار، فهؤلاء الملائكة لا يعذبون بالنار ولكن يعذبون أهل النار. والشمس والقمر يجعلهم الله عز وجل أمام من عبدهما من دون الله سبحانه، فعباد الشمس الذين كانوا يسجدون للشمس ويعبدونها من دون الله، وعباد القمر الذين كانوا يعبدون القمر إذا كان يوم القيامة جمعوا معهما ومن كان يعبد شيئاً من دون الله، ثم يأمرهم الله أن من كان يعبد شيئاً يتبعه، فالشمس تمثل لعبادها فيتبعونها فتجري بهم إلى النار فيدخلون وراءها إلى النار، والقمر كذلك، فكأن الشمس والقمر يأخذان من عبدهما إلى نار جهنم، فيصيران أداة لتعذيب أهل النار والعياذ بالله، نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. ولذلك جاء أن الحسن البصري سأل أبا سلمة فقال: وما ذنبهما؟ فقال أبو سلمة منكراً على الحسن: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: ما ذنبهما؟ يعني: الأصل أنك تذعن لما جاء به وتطيع لما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تجادل مع كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وكأن الحسن فهم أنهما يعذبان في النار، ولم يقل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن قال: (إن الشمس والقمر ثوران عقيران في النار)، يعني: على هيئة ثورين معقورين في النار، كأنه يعذب أهل النار بالنظر إليهما: هذا الذي كنتم تعبدونه من دون الله صار ثوراً عقيراً في النار، فهما أداة لتعذيب أهل النار، فالشمس بإحراقها تحرقهم، والقمر كان محرقاً مشتعلاً يوماً من الأيام، فكأن الله سبحانه يعيده إلى ما كان عليه لتعذيب أهل النار، والعياذ بالله.

طلوع الشمس من مغربها

طلوع الشمس من مغربها في الحديث أن (الشمس والقمر يكوران يوم القيامة)، وفي الآية الكريمة: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس:38]، أي: إلى أن يأتي وقت قرارها يوم القيامة حيث تشرق من مشرقها وتغرب من مغربها، فإذا جاءت العلامة الكبرى للقيامة إذا بالله يحبسها عند مغربها ولا يأذن لها في الخروج. ويذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنها تستأذن ربها كل يوم عند المشرق وعند المغرب، فإذا كان يوم القيامة فإذا بالشمس تستأذن الله سبحانه فلا يأذن لها ويقال لها: اطلعي من حيث غربت، وهذه آية من آيات الله سبحانه، وهو علامة كبرى ليوم القيامة، وذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيراً. وعن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة، فلا تزال كذلك حتى يقال لها: ارتفعي ارجعي من حيث جئت، فترجع فتصبح طالعة من مطلعها، ثم تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة، ولا تزال كذلك حتى يقال لها: ارتفعي ارجعي من حيث جئت، فترجع فتصبح طالعة من مطلعها، ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئاً حتى تنتهي إلى مستقرها ذاك تحت العرش، فيقال لها: ارتفعي أصبحي طالعة من مغربك، فتصبح طالعة من مغربها)، أصبحي، يعني: اطلعي في الصباح من مغربك، فتصبح طالعة من مغربها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتدرون متى ذلكم؟ ذاك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيراً). إذاً: الشمس تسجد تحت عرش الرحمن سبحانه في كل مطلع وكل مغرب، وطلوع الشمس في البلد الذي في المشرق يكون قبل طلوعها في البلد التي في المغرب، كأن الشمس في كل مطلع على بلد من البلدان ساجدة لله سبحانه مطيعة لأمر الله، حتى يأتي يوم القيامة، فإذا بالله سبحانه يأمرها أن ترجع وأن تطلع من حيث غربت، فتطلع الشمس من مغربها. {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس:38]، أي: طلوع الشمس من مشرقها وغروبها من مغربها آية من الآيات العظيمة، يعرف ذلك من يدرس علوم الفلك، فيرى كيف تجري الشمس، وكيف تدور هذه الأرض، وكيف تجري الكواكب والنجوم كل في فلك في السماء لا يصطدم مع الآخر، ولا شيء يمنعها إلا قدرة الله سبحانه وتعالى، {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40]. قال سبحانه عن ذلك الكون العظيم وما خلقه الله تبارك وتعالى فيه {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس:38]، {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد:8]، قدر للشمس أن تجري بحسب ما يشاء سبحانه في مدارها، ومستحيل أن تخرج عن هذا المدار، كذلك القمر يجري في مداره الذي قدره الله سبحانه، كل شيء له قدر وقضاء عند الله سبحانه حتى يأتي يوم القيامة، {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس:38].

منازل الشمس والقمر

منازل الشمس والقمر قال تعالى: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40]. إذاً: هذا القمر قدر له الله سبحانه ثمانية وعشرين منزلة ينزل في كل ليلة في منزلة معين لا يخطئه، فالشمس تجري في مستقر لها في جريانها ونزولها، والله عز وجل قدر أشياء لا تخطئ. قال عز وجل: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس:39]، كما أن الشمس تجري إلى مستقرها كذلك القمر قدر الله عز وجل له منازل، أي: جعل له منازل ينزل فيها حتى عاد كالعرجون القديم. وقراءة الجمهور: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} [يس:39] كأنه منصوب على الاشتغال؛ لأن الفعل نفسه: قدرنا القمر منازل، هذه جملة من فعل وفاعل ومفعولين، والتقدير هنا: أنزلناه، (والقمر)، مفعول منصوب، والفعل الذي بعده شغل بمفعوله، ولذلك يسمى هذا بالمفعول على الاشتغال؛ لأن فعله نصب ضميره. وقرأها نافع وأبو جعفر وأبو عمرو وروح عن يعقوب: (والقمرُ قدرناه منازل)، كأنه قال: آية لهم الشمس وآية لهم القمر. فالقمر آية من آيات الله سبحانه، والشمس آية من آيات الله سبحانه تبارك وتعالى، فقدر للشمس ما تجري فيه من مدار في فلك معلوم حتى يأتي وقت استقرارها، وكذلك القمر قدر له الرب تبارك وتعالى منازل كل ليلة ينزل في منزلة معينة. {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ} [يس:39]. العرجون: هو عذق النخلة الأحمر الذي فيه البلح، والعرجون لو تتركه فترة حتى ييبس يزداد انحناؤه ويصفر لونه، وكذلك القمر يصير كالعرجون القديم قبل أن يستتر في آخر الشهر، فهو في نصف الشهر يكون مكتملاً، ثم يتناقص شيئاً فشيئاً حتى يصير كالعرجون القديم. {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40]. في الماضي لم يكونوا يعرفوا مدار أحدهما فهم يرونها في الفضاء فقط، لكن علماء الفلك الآن حددوا المدار الذي تبتدئ منه الشمس، ومستحيل أن يتقابل مدار الشمس مع مدار القمر في يوم من الأيام من أجل أن تدرك هذا القمر أو تلمسه. (ولا الليل سابق النهار) ولكن الليل في مكان والنهار في مكان آخر، يتواليان على الكرة الأرضية، لا الليل سيجري فيدفع النهار ويسبقه، ولا النهار يسبق مع الليل، ولكن كل في فلك يسبحون. وكل هذه الأجرام التي خلقها الله سبحانه في فلك سباحة، وهذا التعبير أعظم وأجمل من أن يقول: يجرون؛ لأن فيها معنى الجري والدروان فقط، والسباحة تدل على أن ما فوقه وتحته فراغ، كالإنسان عندما يدخل في الماء لا يعوقه شيء لا من فوق ولا من تحت، كذلك هذه الشمس وهذا القمر والأجرام كلها تسبح في هذا الفضاء، والإنسان لا يدري كيف تسبح إلا بقدرة الله تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون)

تفسير قوله تعالى: (وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون) قال تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [يس:41]. آية من الآيات العظيمة: أنا حملنا ذريتهم، وكلمة ذرية مأخوذة من الذر، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شر ما ينزل من السماء، ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض وبرأ ومن ما يخرج منها) فهنا ذكر، (ذرأ) أي: بث ونشر وخلق. والذرية هنا بمعنى المخلوقين، فالذرية تطلق على الأبناء والآباء والرجال والنساء، فمن ذلك ما ذكره الله سبحانه تبارك وتعالى هنا في كتابه: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} [يس:41] فالذرية هنا هم الآباء الأولون في عهد نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام الذين خلقناهم وذرأناهم آية لهم، ولو نظروا لعرفوا أننا حملنا آبائهم الأولين الذين كانوا مع نوح في الفلك الذي ما كانوا يعرفون كيف يصنع حتى صنعه نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام. فكان قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الله سبحانه يمرون بنوح ويسألونه: ما هذا؟ يقول: فلك، فيقولون: وما تفعل بها؟ قال: تحمل على الماء، قالوا: أي ماء ونحن في صحراء؟ فكانوا يستهزئون به، قال: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [هود:38 - 39] فصنع هذا الفلك، ولم يكن نوح نجاراً متخصصاً في صنع السفن، وإنما {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} [المؤمنون:27]، فأوحى الله العظيم سبحانه وتعالى إلى نوح أن يصنع هذا الفلك، فعلمه كيف يصنعه، وكان الكفار يمرون ولا يتخيلون كيف يحمل نوح وحده هذا الفلك إلى البحر، وما علموا أن البحر سيأتيهم، فكانوا يسخرون ويستهزئون، فإذا بالله يأمر السماء أن تفتح ماءها على الأرض، وأن تخرج الأرض ماءها، وانطبق ماء السماء على ماء الأرض، وأغرق الله الأرض ومن عليها، ونجى نوحاً ومن معه في فلك يحمل فيها من كل ما خلق الله سبحانه وتعالى زوجين اثنين ذكراً وأنثى، ولم يعش فوق الأرض إلا من كان في هذه السفينة. فآية من آيات الله عز وجل أنه جعلكم ذرية هؤلاء، فتذكروا نعمة الله عز وجل على آبائكم أن أنجاهم فكنتم أنتم أولادهم وأرسلنا إليكم من يدعوكم إلى الله لتؤمنوا، فاحذروا أن يصنع بكم مثل ما صنع بقوم نوح. ومن إطلاق الذرية على النساء ما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه رأى في غزوة من الغزوات امرأة قتلها جنود خالد رضي الله عنه، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى خالد قال للرجل: إلحق بـ خالد وقال له: (لا تقتل ذرية ولا عسيفاً)، والذرية هنا بمعنى امرأة، فكلمة الذرية تطلق في اللغة على هذا كله، وإن كانت أكثر ما تطلق على الأولاد. {فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [يس:41] الفلك: السفينة، والفلك تطلق على المذكر والمؤنث، فتقول: هذه الفلك، وهذا الفلك، والفلك تطلق على المفرد وعلى الجمع، فهي كلمة مفردها فلك وجمعها أيضاً فلك. {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} [يس:41] هذه قراءة الجمهور: ذريتهم. وقرأها نافع وأبو جعفر وابن عامر ويعقوب: ذرياتهم. (المشحون) الممتلئ، سفينة نوح كانت ممتلئة من الإنس والطير وممن شاء الله عز وجل، قال: {احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [هود:40]، تخيل أن كل المخلوقات مثل الأسد والنمر والفهد كل هذه الأصناف التي لا تقدر أن تحصي عددها حمل نوح من كل شيء زوجين وجعلهم معه في السفينة، وأنجى الله عز وجل هؤلاء، وأغرق من على الأرض. {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} [يس:42] آية من آيات الله سبحانه أنه علم نوحاً كيف يصنع هذا الفلك الذي يسع هذا العدد الضخم، والإنسان عندما يتخيل أن رجلاً واحداً يصنع سفينة بهذا الحجم الذي يحمل هذه المخلوقات يقول: هذا شيء بعيد، لكنه توفيق الله والإعانة من الله سبحانه وتعالى. {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} [يس:42] أي لهؤلاء الناس، (من مثله): من مثل هذه السفينة يحملون فيها، وكذلك ما يركبون من مثل ذلك. وتخيل مثل ذلك مما خلق الله عز وجل لهؤلاء ووفقهم أن يصنعوه من سيارة وطيارة وسفينة وعابرات للمحيطات، أي: من مثل الذي علمناه لنوح علمنا هؤلاء وذريتهم أن يصنعوا أشياء فيصنعون من مثله ما يركبون، فالفلك تسبح في البحر، ويصنعون أشياء تسبح في الجو، والله على كل شيء قدير، وهو الذي علمهم ذلك وخلق لهم من مثله ما يركبون، فله الفضل أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، فهو الذي أعطى للإنسان عقلاً يفكر، ففكر في هذا الشيء وأوجد له الأشياء التي صنع منها ما يركبه في البر والبحر والجو. {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنقَذُونَ} [يس:43] نحن أركبناهم هذه السفينة، وعلمناهم كيف يصنعون الفلك، فلما صنعوا الفلك اغتروا وعبدوا غير الله تبارك وتعالى، وإن نشأ نغرق هؤلاء فلا يوجد لهم من يغيثهم إذا أغرقناهم. والصريخ: المغيث والمنقذ، فلا يوجد من ينقذ هؤلاء إذا أردنا أن نهلكهم ونغرقهم {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنقَذُونَ} [يس:43]، والإنسان إذا تطاول على الرب سبحانه أرسل إليه من يقصمه. فالله وحده على كل شيء قدير، والإنسان عاجز لا يقدر، كم صنع الإنسان من سفينة وأراد الله إغراقها فحطمها، ونذكر سفينة تيتانك التي صنعها أصحابها وسموها بالسفينة التي لا تقهر، وإذا بها أول ما نزلت وركبها أغنياء العالم إذا بالله يقصمها، وتقف السفينة وتنكسر نصفين في المحيط ويغرق الجميع. هذا غرور الإنسان الذي يوحي له ويوهمه أنه يقدر على ما لا يقدر عليه أحد، صعدت مركبة إلى القمر ثم المركبة الثانية، وبعد ذلك قالوا: سنعمل على القمر مستعمرة، ومواصلات بين الأرض والقمر، وسنعمل وسنعمل، ثم تصعد مركبة فضائية فتحترق، ثم يعيدوا الكرة وتحترق وتنزل إلى الأرض. الإنسان عندما يغتر ويظن أن بقدرته أن يصنع ويعمل إذا بالله عز وجل يريه آياته ويحطمه ويهلكه ويضيع له هذه الأشياء التي يصنعها، فإذا وصلوا إذا بالله يرينا آيات عظيمة من آياته سبحانه وتعالى التي يذكرها لنا في كتابه. رواد الفضاء الأمريكان عندما تكلموا عن الصعود للفضاء، وقال لهم الناس: هذه الأموال الضخمة التي تصرفونها على القمر اصرفوها على الفقراء، قالوا: نحن طلعنا القمر واكتشفنا منه معلومات تساوي ما أنفقناه حتى نصل إليه. فقيل لهم: ما أهم حاجة وصلتم إليها؟ قالوا: وصلنا لحاجة عجيبة جداً، اكتشفنا أن هذا القمر انشق يوماً من الأيام. وقد قال الله عز وجل ذلك في كتابه من ألف وأربعمائة عام، قال: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح: أن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت نبياً فأرنا آية. فواعدهم ليلة، وأراهم انشقاق القمر إلى فلقتين، فإذا بهم يرون نصف القمر أمام الجبل والنصف الآخر وراء الجبل، قالوا: سحرتنا، فقال بعضهم لبعض: إن كان سحرنا فلن يسحر غيرنا، فلننتظر إذا جاء ركب ونسألهم، وانتظروا أياماً وجاء ركب وسألوهم: الليلة الفلانية هل أحد منكم رأى القمر؟ قالوا: نعم. وما رأيتم؟ قالوا: رأيناه انشق ثم رجع كما كان. هذا قاله النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصدق هؤلاء الكفار، والمؤمنون على استحياء قالوا: انشق القمر مثلما قال ربنا، والبعض منهم قال: بل هو سينشق يوم القيامة {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1] يعني: سينشق القمر يوم القيامة حتى لا يقال لهم: لقد قلتم ما لم نره، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك، وجاء الحديث الصحيح بذلك، وجاء رواد الفضاء ليقولوا: هذا القمر انشق. من أين عرفتم؟ قالوا: رأينا في صور القمر هذا المكان، عرفنا أنه انفلق في يوم من الأيام، ورجع مرة ثانية لمكانه، لكن واضح أثر الشق في القمر كله، هؤلاء يصدقون ما يقوله النبي صلوات الله وسلامه عليه {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت:53]، هذه آية من آيات الرب سبحانه وتعالى. ويقول: {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنقَذُونَ} [يس:43]. لا صريخ: لا منقذ ولا مغيث لهم. ولا هم ينقذون: لا ينقذهم أحد إلا رحمته، فلا أحد يجيرهم ولا يرد عليهم ولا ينقذهم. {إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [يس:44] من رحمة رب العالمين أن شاء سبحانه أن يترك هؤلاء ولا يستأصلهم، يعني: لأجل رحمة من الله سبحانه تركنا هؤلاء، فلم أستأصلهم بعذاب وأخرناهم إلى يوم القيامة لعله يخرج من أصلابهم من يعبدون الله ولا يشركون به شيئاً، ومتعناهم إلى حين حتى يأتي الأجل، ثم عذاب رب العالمين أو رحمته سبحانه. نسأل الله من فضله ورحمته إنه لا يملكها إلا هو. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة يس [43 - 50]

تفسير سورة يس [43 - 50] من نعم الله تعالى على خلقه أن جعل لهم فيما سبق ما يعينهم في أسفارهم وحمل رحالهم، ثم وفقهم بأن صنعوا ما يركبون عليه في البحر والجو، وكل هذا متاع زائل في الدنيا ولو شاء الله ما أوجده لهم، أو أوجده وأغرقهم وأماتهم بسببه، ولكنها رحمة الله بعباده، ورغم ما أعطاهم من نعم إلا أنهم يمنعون أموالهم عن الفقراء، وينسون أن الذي يعطي ويمنع هو الله، بل ويطالبون بالساعة، ولا يعلمون أنها صيحة واحدة تأخذ جميع الأحياء فلا ينصرون.

تفسير قوله تعالى: (وخلقنا لهم من مثله ما يركبون)

تفسير قوله تعالى: (وخلقنا لهم من مثله ما يركبون) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة يس: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ * وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنقَذُونَ * إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ * فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} [يس:41 - 50]. في هذه الآيات من سورة يس يخبرنا الله سبحانه وتعالى عن آياته العظيمة التي يراها الناس في الدنيا ولا يؤمن بها إلا المؤمنون المتقون، ومن تلك الآيات: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [يس:41]، ذكرنا أن الذرية تطلق على الآباء والأبناء والرجال والنساء، وإن كان الغالب في قوله الذرية أنها تطلق على الأبناء، وفي هذه الآية المقصود بهم ذرية آدم ممن ذرأ الله عز وجل وبث ونشر من نفس آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام. (في الفلك المشحون)، يعني: أيام نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، حملنا من ذرية آدم من آباء هؤلاء في سفينة نوح، والفلك هو السفينة. {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} [يس:42] الله سبحانه خلق العباد وما يفعلون، وعلم نوحاً كيف يأخذ الأشجار ويقطعها ويصنع منها سفينة عظيمة تحمل هذا الكم من المخلوقات التي كانت في عهده عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. قوله: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} [يس:42] فيها الإشارة إلى أن الله عز وجل يوفق الإنسان لصنع أشياء ليست على باله، فكانوا في الماضي يركبون الإبل والسفن، وخلق لهم من مثل هذه السفن ما يركبون من سيارات وطائرات وصواريخ ومركبات فضائية وأشياء يركبونها في البر والبحر والجو، فخلق الله عز وجل من مثل ذلك ما يركبه الإنسان في كل زمان ومكان. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (سيكون في أمتي رجال يركبون على السرج كأشباه الرحال، ينزلون على أبواب المساجد، نساؤهم كاسيات عاريات على رءوسهن كأسنمة البخت العجاف، العنوهن فإنهن ملعونات، لو كانت ورائكم أمة من الأمم لخدمن نساؤكم نساءهم كما يخدمكم نساء الأمم قبلكم). هذا الحديث العجيب عن النبي صلى الله عليه وسلم -وهو حديث صحيح- فيه إشارة إلى ما ذكرنا من أن الله عز وجل يوفق الخلق لصنع أشياء ليست على بالهم، فخلق لهم الله سبحانه ما شاء من الإبل والخيل والبغال والحمير ويخلق ما لا تعلمون، لو ذكر لهم في الماضي أنه سيخلق لكم طائرات ما عرفوها، فالله عز وجل لا يكلمهم عن أشياء لا يقدرون أن يفكروا فيها، ولكن قال يخلق لهم من مثله ما يركبون، كما أنه أعانكم فصنعتم هذه السفن التي تركبونها في البحر، كذلك يخلق ما لا تعلمون سبحانه، ويخلق لكم من مثله ما تركبون. قوله صلى الله عليه وسلم: (سيكون في أمتي رجال يركبون على السرج كأشباه الرحال) الرحل: شيء يوضع على الجمل ليوضع عليه كرسي فوق الجمل يركب عليه الإنسان، فيكون ذلك في زمن من الأزمان يظهر فيه العري مثل زماننا هذا وليس أيام النبي صلى الله عليه وسلم، فما كان هناك عري ولا متبرجات ولا كاسيات عاريات، وفي هذا الزمن ظهر ما يركب الناس من سيارات وقطارات، وفي هذا الحديث تحقق ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم، فما يركبونه كأشباه الرحال، يعني: ما يجلس عليه كأشباه هذا الرحل الذي تضعه فوق الجمل، فكأنه يشير للسيارات فهي مسرجة. هؤلاء ينزلون على أبواب المساجد للصلاة ويرى نساؤهم كاسيات عاريات على رءوسهن كأسنمة البخت العجاف، تخيل جنازة جاءت إلى المسجد فينزل البعض للصلاة على الجنازة، والأغلب في السيارات يشاهدون النساء اللاتي في السيارات وهن متبرجات، يقول النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه المرأة المتبرجة: (نساءهم كاسيات عاريات)، يعني: لابسات وكأنهن غير لابسات، مثل اللبس الذي يصف ما تحته، والثياب اللصيقة بجسدها وتحسر عن شعرها وتعري بدنها، قال صلى الله عليه وسلم: (على رءوسهن كأسنمة البخت العجاف) يعني: شعرها فوق رأسها عالٍ، وكما يصنع عند الكوافير فيجعل رأسها مثل القبة التي تشبه سنام الجمل. (العنوهن فإنهن ملعونات)، لعنهن النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر بلعنهن. (لو كانت أمة من الأمم) يعني: لو أن الله عز وجل سيجعل أمة أخرى، وهذا ما لا يكون فإن آخر أمة من الأمم هي أمة الإسلام وعليها تقوم الساعة، لكن لو وجدت أمة أخرى بعدنا لجعل الله عز وجل هؤلاء خادمات عند الأمم الآتية كما جعل نساء بني إسرائيل خادمات عند الأمم التي تليها بسبب تبطرهن على نعمة الله سبحانه، وكفرهن بالله سبحانه وتعالى، قال: (لو كانت وراءكم أمة من الأمم لخدمن نساؤكم نساءهم كما يخدمكم نساء الأمم قبلكم). هذا الحديث العجيب الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم يبين فيه أشياء من معجزاته صلى الله عليه وسلم، يخبر بالشيء فيكون، أخبر صلى الله عليه وسلم أنه سيركب الناس على أشياء كأمثال الرحال ولكن ما هي رحال، فصنعوا السيارات وركبوا القطارات، قال الله سبحانه: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} [يس:42]. {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنقَذُونَ} [يس:43]، لو أردنا ولكن لأجل رحمة الله لم يصنع بهم ذلك. قال: {إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا} [يس:44] ليس أبدياً، ولكن ((إِلَى حِينٍ)) نمتعهم إلى حين حتى يأتي عليهم أجلهم فينظرون كيف نصنع بهم.

تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم)

تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم) قال الله عن هؤلاء الكفار: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [يس:45]. عندما يقول النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الكفار وكذلك يقول الدعاة للكفار: ((اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ)): من وقائع حدثت في الأمم السابقة قبلنا من المثلات، وما نزل من هلاك على هؤلاء القوم من عذاب من عند الله سبحانه. فقوله: (ما بين أيديكم): ما تقدم وسبقكم في الأمم السابقة كيف أهلكنا قوم نوح وعاد وثمود أصحاب الأيكة وقوم فرعون ولوط، أرأيتم ما الذي تقدم؟ هذا ما بين أيديكم من السابقين قبلكم. (وما خلفكم) أي: ما وراءكم من غيب لا يعلمه إلا الله سبحانه بعد ما تموتون وينكشف أمامكم الحجاب، وترون عذاب الله سبحانه وتعالى، فإذا قيل للكفار: اتقوا النقم التي نزلت في السابقين، واحذروا من غضب الله عز وجل وما أعده للكافرين، واجعلوا بينكم وبين غضب الله وقاية من الإيمان والعمل الصالح لعل الله عز وجل يرحمكم {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [يس:45] كان جواب هؤلاء أنهم لا يؤمنون. {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} [يس:46] فكأن الجواب إذا قيل لهم ذلك: أعرضوا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأعرضوا عمن يدعونهم إلى الله سبحانه، وإذا رأوا الآيات البينات لم يزدهم ذلك إلا استكباراً ونفوراً ((وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ)) قرآنية تتلى عليهم، أو آية حسية من آيات الله سبحانه مرئية ((إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ)). {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا} [يس:47] إذا قيل للكافر: أنفق لله سبحانه فقد أعطاك مالاً، فلم لا تعط المساكين والفقراء؟ إذا قيل لهم: أنفقوا مما رزقكم الله، قال هؤلاء الكفار للذين آمنوا: {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يس:47]، أنحن نطعم هؤلاء؟! إذا أراد ربنا أن يؤكلهم أكلهم، ونحن لماذا نرزقهم وأنتم تقولون: ربكم هو الرزاق سبحانه وتعالى، فلو أراد أن يتركهم تركهم، فكأنهم يحتجون بالقدر، الكلام صحيح والمراد به باطل، مثلما قال الكفار: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [النحل:35] فاحتجوا بالقدر على الله سبحانه وتعالى، ونقول: صحيح لو شاء الله لهداكم أجمعين، ولكن هل أمركم الله عز وجل أن تحتجوا بقضائه وقدره، أم أمركم بما تقدرون عليه من عمل؟ أنت تنفق مالك في هذا المجال وفي هذا المجال، لم لم تقل: لو شاء الله ما أنفقت، أو لو شاء الله كان فعل كذا؟ أنت تجوع، فتنفق مالك لكي تأكل، فلماذا لا تحتج بالقدر في هذا الشيء وتقول: لو شاء الله لأطعمني؟ هل منهم من يقول هذا الشيء؟ لا. يحتجون بالقدر فيما يريدون ويتركون الاحتجاج فيما لا يريدون، فهم كذابون يتكلمون على الله بما لا يعرفون. القضاء والقدر أمرنا أن نؤمن به، وكلفنا الله عز وجل بالعمل وبالأخذ بالأسباب، فتعلم أن الله على كل شيء قدير يقدر الأرزاق لعباده، يرزق من يشاء، ويجعل أسباباً للرزق: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:15]، لم لا تجلس في بيتك وتمطر عليك السماء ذهباً وفضة؟ ولكن تخرج لتبحث عن الرزق، فإذا وجدت الرزق فهو قضاء الله وقدره سبحانه وتعالى، فلا تحتج بالقدر على كفر تدعيه وتقول به، فهؤلاء الكفار يقولون لو شاء الله لأطعم هؤلاء الذين نحن نطعمهم، يقولون ذلك لنبيه صلى الله عليه وسلم ولمن يأمرهم بذلك. ولماذا يأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يطعموا هؤلاء؟ هو يأمرهم ابتداء بالإيمان، فيقولون: وإذا آمنا ستقول لنا: أخرجوا من أموالكم نفقات، افعلوا كذا وكذا، أتأمرنا بهذا كله؟ تريد أن تأخذ أموالنا لتطعم الفقراء؟ فكأنهم رفضوا الإيمان حتى لا يتحكم فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول لهم: صلوا، صوموا، زكوا، افعلوا المعروف، وهم لا يريدون أن يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. قالوا: {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يس:47] كما قالوا قبل ذلك: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام:148] كذلك قال سبحانه: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1]، فالمنافقون قالوا: نشهد أنك رسول الله، والله يشهد بكذبهم في هذا الشيء، فيتكلمون بالكلام الكذب، ويشهدون الله سبحانه على ذلك، ويحتجون بأشياء على ربهم سبحانه وتعالى، ويكذبهم ربهم سبحانه فيما يقولون، يقول: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1]؛ لأنهم قالوا: {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون:7]، وقال الله سبحانه: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [المنافقون:7]، الله الغني عنكم وعن أموالكم، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر:15 - 17]. ولكن حين يأمر الأغنياء أن ينفقوا على الفقراء ليس لكون الله سبحانه لا يريد أن يرزقهم، ولكن لتنتفع أنت بما تنفق على الفقير، فتؤجر من الله الغني العظيم سبحانه، ويعطيك الأجر ويزيدك من رزقه، والمال مال الله سبحانه، فإذا كان معك مال وجبت فيه الزكاة، فالمال مالك باستثناء الجزء الذي هو الزكاة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا بأدائها، فإذا ملك الإنسان عشرين ديناراً من الذهب يجب عليه فيها الزكاة ربع عشرها، فيلزمه أن يخرج هذه الزكاة، وإذا كان يملك مائتي درهم من الفضة يلزمه أن يخرج ربع عشرها، إذاً أنت لا تملك هذا الجزء بل هو مال الله سبحانه، وأنت تملك باقي المال، وهذا يلزمك أن تخرجه إلى أصحابه. فالله يرزقك هذا من ماله، أعطاك أنت الألف وأمرك أن تخرج لهذا الإنسان الفقير خمسة وعشرين، فجعل لك أنت سلطة أن تعطي لفلان أو لفلان، أما أن تحتج، وتقول: لو شاء الله لأعطاهم، فقل أيضاً: ولو شاء الله لمنعني ولأعطى هؤلاء، فخف من الله سبحانه وتعالى، وتعامل معه فأعط خلق الله كما أمرك الله سبحانه وتعالى. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يس:47].

تفسير قوله تعالى: (ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون)

تفسير قوله تعالى: (ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون) قال تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس:48] يعني: أنت تأمرنا بتقوى الله، لماذا؟ {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص:16]، هم يدعون ربهم أن عجل يوم القيامة، ويسألون {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس:48]. فيجيبهم ربهم سبحانه وتعالى: {مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} [يس:49] هم يظنون أن يوم القيامة شيء صعب، ولا يعلمون أنه صيحة واحدة بنفخ في الصور يهلك بها جميع هؤلاء، فلا يقدرون على الرجوع إلى أهلهم، ولا يقدرون على حياتهم بعد ذلك إلا أن يحييهم الله للبعث والنشور. ((مَا يَنظُرُونَ إِلَّا)) بمعنى: ما ينتظرون إلا صيحة واحدة وهي النفخ في الصور حين يأمر الله عز وجل إسرافيل أن ينفخ في الصور، فينفخ نفختين، نفخة الإماتة ثم نفخة البعث من القبور. {مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ} [يس:49] تأخذهم هذه الصحية وتهلك كل من فوق هذه الدنيا. {وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} [يس:49] هذه الكلمة (يخصمون) أصلها يختصمون، يعني: يختصمون في أمر الدين والدنيا ويكذب بعضهم بعضاً، ويخاصم بعضهم بعضاً، وهم في وسط هذا الشغل جاءت الصيحة فأخمدت الجميع {فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} [يس:50] لا يقدر أن يوصي بعضهم بعضاً بالمال والأولاد. {تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} [يس:49] فيها ست قراءات، وكل القراءات راجعة إلى معنى الاختصام: أسهل قراءة فيها قراءة حمزة (وهم يخصمون) أي: يجادل بعضهم بعضاً ويختصم بعضهم مع بعض. والقراءة التي عندنا في المصحف ((يَخِصِّمُونَ)) هذه قرأها ابن عامر بخلف هشام ويقرؤها عاصم بخلف شعبة. ويقرؤها غيرهم كـ الكسائي ويعقوب وخلف ((وَهُمْ يَخِصِّمُونَ)). ويقرأ قالون وأبو جعفر (وهم يَخْصِّمُونْ) الخاء ساكنة والصاد مشددة، وأصلها يختصمون، وهذه قراءة لـ قالون، وله فيها ثلاثة قراءات. وقراءة قالون الثانية وقراءة ورش وابن كثير وأبو عمرو بخلف فيه: (وهم يَخَصِّمُون) وهذه قريبة من يَخْتَصِمُون. ويقرأ قالون قراءة ثالثة وأبو عمرو أيضاً بخلفه بالاختلاس. وقراءة شعبة عن عاصم فيها إتباع الكسرة للكسرة فالقراءة: (يِخِصِّمُون) وهذه لغة فيها. وقراءة حمزة (يَخْصِمُون) وهي أسهل هذه القراءات. كل القراءات مرجعها إلى الاختصام، هذا الاختصام والانشغال بالدنيا يوضحه لنا ما رواه الإمام البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى تقتل فئتان عظيمتان يكون بينهما مقتلة عظيمة دعوتهما واحدة)، وهذا حدث بعد عهد النبي صلى الله عليه وسلم بين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومعاوية رضي الله تعالى عنه، بين أهل العراق وبين أهل الشام، حيث حصلت مقتلة عظيمة واقتتال كبير، ولعله يحدث بعد ذلك قرب قيام الساعة. قال: (وحتى يبعث دجالون ثلاثون كلهم يزعم أنه رسول الله)، ثلاثون كذاباً يظهرون للناس قبل قيام الساعة كل واحد منهم يزعم أنه رسول من عند رب العالمين سبحانه وتعالى. (وحتى يقبض العلم) يضيع العلم بقبض العلماء، فإذا بالناس جهلاء يستفتي بعضهم بعضاً فيفتون بجهل. (وتكثر الزلازل) كانوا فيما قبل يقولون: إن البلاد العربية بعيدة عن حزام الزلازل، أما الآن فقد دخلنا في حزام الزلازل. قال: (ويتقارب الزمان) يعني: لا تبقى بركة في الزمان، الوقت كله يجري، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، اقرأ في كتب التواريخ كيف كان الوقت عند السابقين، ستجد فعلاً أن وقتنا قصير، مثلاً: الإمام النووي رحمه الله ما بين الصبح إلى الظهر يحضر اثني عشر درساً، ويموت الإمام النووي عن ست وأربعين سنة ويترك كتباً كثيرة منها المجموع هذا الكتاب الضخم في فقه الشافعي، وكتاب روضة الطالبين، وهو كتاب ضخم من كتب الفقه، وكتاب تهذيب الأسماء واللغات، ورياض الصالحين، وكان ينصح ألا يؤلف أحداً قبل سن الأربعين، يا ترى هل ألف هذه الكتب رحمة الله عليه هكذا؟ عندما ننظر في حفظ هؤلاء للأحاديث مثل الإمام أحمد فقد كان يحفظ الحديث من عشر طرق ومن عشرين طريقاً ويعتبر كل واحد منهم حديثاً، ويقول: أحفظ ألف ألف حديث. أي: مليون حديث. كان الوقت بالنسبة لهم طويلاً، وهو هو نفس الزمان، ولكن اليوم كان يصنع فيه أشياء لا نقدر أن نصنعها نحن الآن لتقارب الزمان ولقلة البركة، اليوم يجري والشهر والعمر كله ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال: (وتظهر الفتن) وما أكثر الفتن الموجودة في عصرنا، وما يأتي بعد ذلك أكثر، نسأل الله العفو والعافية. (ويكثر الهرج) والهرج القتل كما جاء في حديث آخر، يقتل الناس بعضهم بعضاً، ولا يدري القاتل فيما قتل، ولا القتيل فيما قتل، وتكثر شراسة الأخلاق، وزماننا كثر فيه ذلك بسبب ما فيه من فتن عظيمة وبعد عن الله سبحانه وتعالى، وتقليد للغرب الكافر، يخترعون للناس الألعاب على الكمبيوتر والأفلام الجنسية، أو أفلام سب وقتل ونصب وفضائح ويقلد الناس ما يرونه فيها ويقتل بعضهم بعضاً، ثم يندم بعد ذلك ولا ينفعه ندم. (ويكثر فيكم المال) سيجيء زمان يكثر فيه المال، فيفيض المال حتى يبحث رب المال عمن يقبل صدقته فلا يجد، كأنه يقول: أدرك نفسك وتصدق قبل أن يأتي زمان تبحث فيه عمن تعطيه الصدقة فلا تجد، لعل الرجل يتصدق ولعله يتصدق الرجل بالمائة دينار فلا يجد من يأخذ منه. (وحتى يتطاول الناس في البنيان) العمائر الشاهقة العالية وقد حدث ما قاله النبي صلوات الله وسلامه عليه وتطاول الناس في البنيان. (وحتى يمر الرجل بقبر الرجل، فيقول: يا ليتني مكانه) يمر الرجل بقبر الرجل يقول: ياليتني مكانه، من كثرة مصائب الدنيا والابتلاءات يتمنى الموت، ونجد نحن من ينتحر من الفتن ومما صنع في الناس ومما يصنع ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال: (وحتى تطلع الشمس من مغربها) فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون، هذه العلامة الكبرى للساعة، فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً. الشاهد: قال صلى الله عليه وسلم: (ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه) ذهب ليشتري قماشاً فيخرج إلى السوق ويتبايع هو والتاجر، وتقوم الساعة على هذه الصورة، فلا يطوي هذا الثوب ولا يستلم هذا المال. قال صلى الله عليه وسلم: (ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه) حلب الرجل ناقته وأخذ اللبن لكي يشربه، وقبل أن يشرب هذا اللبن تقوم. (ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه) الحوض الذي يسقي فيه الغنم والإبل أحضر له الطوب وملأه ماء وأتى بالإبل لتشرب، فتقوم الساعة قبل ذلك. (ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها) تقوم الساعة والناس في انشغال، وتأتي الساعة عليهم وهم في انشغال عن الآخرة والعمل الصالح. ذكر النبي صلوات الله وسلامه عليه في هذا الحديث الانشغال بالدنيا والفتن والتكذيب بآيات الله سبحانه، ثم تأتي الساعة عليه فلا يقدر على أن يوصي أحداً بخير ولا بماله ولا بتقوى الله، بل يأتي عليه الموت قبل ذلك، وهذا أشد ما يكون على الإنسان أن يؤخذ بغتة، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيح قال: (موت الفجأة أخذة أسف) يعني: الإنسان الذي يمرض قبل وفاته هذه من علامات حسن الخاتمة؛ لأن الله يكفر عنه السيئات بهذا المرض، بينما من يكون فيه غرور وبعد عن الله يخاصم فلاناً ويشتم فلاناً ويؤذي فلاناً ثم يأتيه الموت فجأة، كمن يشرب الحشيش والمخدرات، يموت فجأة فهذه أخذة أسف، أخذة غضبان، وإذا غضب الله على إنسان جعل وفاته وهو في لهوه ولعبه، وجاءه الموت فجأة فلا يقدر على التوبة، أو يقول لا إله إلا الله. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى وآله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة يس [51 - 58]

تفسير سورة يس [51 - 58] خلق الله ملكاً ووكل إليه مهمة واحدة هي النفخ في الصور مرة لصعق الأحياء وأخرى لبعث الأموات، وحينها يخرج المكذبون ويقولون: من بعثنا من مرقدنا؟ فيجابون بأن هذا مصداق وعد الله على لسان المرسلين، وحينها تنصب الموازين، ويحاسب الخلق، فيدخل أهل الجنة الجنة، فينشغلون بلذة ونعيم مقيم، وسلام من رب العالمين.

تفسير قوله تعالى: (ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون)

تفسير قوله تعالى: (ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة يس: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ * إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ * فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ * سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:51 - 58]. يخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن النفخ في الصور، وقيام الساعة، والبعث من القبور، والحساب بين يدي الله سبحانه، وكيف يصير الناس فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير.

النفخ في الصور لصعق الأحياء

النفخ في الصور لصعق الأحياء قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} [يس:51]. الصور: البوق الذي يحمله إسرافيل الملك الموكل بالنفخ، فينفخ فيه بإذن الله سبحانه وتعالى؛ فيصعق من في السموات ومن في الأرض، ثم يؤمر فينفخ فيه نفخة أخرى فإذا هم قيام ينظرون. نفختان ذكرهما الله عز وجل في كتابه: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68]، ينفخ نفخة الإماتة فيموت من في هذا الكون، ثم ينفخ نفخة أخرى لإحياء الموتى، ونفخ إسرافيل في الصور سبب، ولكن الذي يحيي ويبعث الناس ليجازيهم هو الله تبارك وتعالى. {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} [الزمر:68] ومنذ خلق الله تبارك وتعالى إسرافيل وهو معه هذا الصور - وهو البوق الذي ينفخ فيه- ينظر إلى عرش الرحمن ينتظر متى يؤمر بالنفخ في الصور، يخاف أن ينشغل عن ذلك، فهو في نظر دائم متعلق بعرش الرحمن سبحانه حتى يأمره الله سبحانه في وقت حدده يعلمه الله ولا يعلمه غير الله سبحانه وتعالى. {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ} [يس:51] والأجداث جمع جدث، والجدث: القبر، فإذا هم من قبورهم يخرجون وإلى ربهم ينسلون، أي: يمشون مشياً مسرعاً، ويخرجون من القبور ويقومون مسرعين متوجهين إلى مكان اجتماعهم وحشرهم وحسابهم.

النفخ في الصور لإحياء الخلق

النفخ في الصور لإحياء الخلق قال تعالى: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس:52] هذا كلام الكفار حين يبعثون ويعلمون أن مصيرهم إلى النار، فيقولون: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} ويجابون: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ} [يس:52]، أو يقول بعضهم لبعض: هذا الذي كنا نكذب به من قبل، هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون، لم يتبين لهم صدق المرسلين إلا حين جاءتهم الوفاة، حين دخلوا قبورهم، ثم بعثوا بعد ذلك من قبورهم تبين لهم في كل هذه المواطن أن الرسل كانوا على حق في حين لا ينفع ما تبينوه الآن، فقد صاروا إلى الآخرة وليسوا في الدنيا. {قَالُوا يَا وَيْلَنَا} [يس:52] يدعون بالويل، يعني: يا ويلنا احضر، والويل الهلاك، كأنهم يدعو أحدهم على نفسه بالهلاك، يقول: يا ويل احضر، يا هلاك احضر، تعالى الآن خذني. وهذه الكلمة فيها ما فيها من الرعب الذي يخرجون به من قبورهم. {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس:52] والقبر مرقد لصاحبه، وهو إما روضة من رياض الجنة وإما حفرة من حفر النيران، فهم كانوا يعذبون في قبورهم ولكن الله سبحانه حين يأمر بالنفخ في الصور النفخة الأولى فيقضي على جميع الخلق بالموت، ويقضي على أهل القبور بالرقاد، وعندما يرقدون يرفع عنهم العذاب في هذه الفترة ما بين النفخة الأولى والنفخة الثانية. في الصحيحين عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما بين النفختين أربعون. قيل: أربعون يوماً؟ قال: أبيت. قيل: أربعون شهراً؟ قيل: أبيت. قال: أربعون سنة؟ قال: أبيت) راوي الحديث أبو هريرة رضي الله عنه لا يدري أربعون يوماً أو شهراً أو سنة، قال: (أبيت) يعني: أن أتكلم فيما ليس لي به علم، والذي أخبر هو النبي صلى الله عليه وسلم. قال: (ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل، ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظماً واحداً وهو عجب الذنب، ومنه يركب الخلق يوم القيامة)، الإنسان يبلى تماماً في قبره إلا آخر عظمة في العمود الفقري، وهي التي يكون منها الحيوان، وهي كالبذرة للإنسان ينبت منها يوم القيامة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ينزل الله عز وجل من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل) البقل: النبات الذي ينبت ساقه في الأرض وأوراقه عليها مثل الجرجير وغيره مما يخرج على الأرض، ينزل من السماء ماء وتنبت البقول وينبت الإنسان كما ينبت هذا النبات، ينزل من السماء ماء فيجمع الله عز وجل الإنسان من كل مكان وينبت ويخرج مرة أخرى ويركب الخلق يوم القيامة من عجب الذنب. وهنا يسكت حفص بخلف: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ} [يس:52]، وعندما نقول: سكت فهو بغير تنفس، فهي سكتة لطيفة خفيفة، ثم يقرأ ما بعد ذلك فهو إما أن تقف أصلاً عليها ثم تبتدئ من بعدها {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:52]، أو أنك تصل الآية، فإذا وصلت فعند حفص عن عاصم أنك تسكت سكتة حتى تفصل جملة عن جملة بهذا السكت، فيكون سؤالهم: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس:52] أي: من بعثنا من هذا المرقد الذي نحن فيه؟ فيكون الجواب عليه من ملائكة الله عز وجل: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ} [يس:52] يعني: هذا وعد الرحمن، ما وعدكم الرحمن سبحانه {وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:52]، فكأن هذا مبتدأ وما بعده خبر له على هذا السكت. ولو وصل على قراءة جمهور بدون سكت {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:52]، وهو وجه آخر لـ حفص عن عاصم في ذلك، يكون المعنى أنهم {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس:52]. ثم يجيبون على أنفسهم: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:52] يعني: وعد الله تبارك وتعالى قد تحقق الآن وصدق المرسلون الذين كنا نكذبهم.

بعث الخلق بنفخة واحدة

بعث الخلق بنفخة واحدة قال الله عز وجل: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} [يس:53]، (إن) بمعنى: (ما) ما كانت إلا صيحة واحدة. وقراءة الجمهور: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} [يس:53]، على أن صيحة خبر لكان فهي منصوبة. وقراءة أبي جعفر: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس:53] على أن كان تامة، يعني: ما حدثت إلا صيحة واحدة، وليس أكثر من ذلك؛ لبيان قدرة الرب سبحانه وتعالى، فهي صيحة واحدة ينفخ في الصور فيهلك الجميع، وصيحة واحدة فيبعث الجميع، ليس كل إنسان يحتاج لأن ينفخ له في الصور بمفرده، إن كان الرب سبحانه أماتهم فرادى، وكل إنسان جاءته الوفاة في وقته، ولكن لما قضى بالنفخ في الصور ليهلك جميع من فوق الأرض كانت نفخة واحدة، ولما أمر بإحياء الجميع ممن ماتوا قبل ذلك ومن ماتوا بهذه النفخة كانت صيحة واحدة، لبيان أن الله لا يعجزه شيء. {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس:53]، يحضرون أمام ربهم سبحانه، يقفون للجزاء، ليأخذ كل منهم صحيفة عمله، منهم من يأخذها باليمين، ومنهم من يأخذها باليسار من وراء ظهره، {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ} [يس:53] لا أحد يفلت، لا أحد يهرب، لا أحد يذهب بعيداً ويشرد عن هؤلاء، الجميع محصورون مجموعون لله رب العالمين. {فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس:53] فلن يحضر بمزاجه، ولكن محضرون يساقون إلى محشرهم، أمر بهم ربهم فجيء بهؤلاء بين يديه سبحانه وتعالى قد حشروا وأحضروا {فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس:53].

تفسير قوله تعالى: (فاليوم لا تظلم نفس شيئا)

تفسير قوله تعالى: (فاليوم لا تظلم نفس شيئاً) ((فَالْيَوْمَ)) يوم القيامة {لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [يس:54]، {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] سبحانه تبارك وتعالى، لا يظلم أدنى الظلم، ولو ظلم واحداً ظلماً يسيراً، وظلم الآخر ظلماً يسيراً لتجمعت المظالم. ويقول سبحانه: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ} [فصلت:46] بصيغة المبالغة، أي: ليس ظلاماً، فربنا لا يظلم أحداً. يقول الله تعالى: {فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [يس:54]. ((لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا)) الشيء هنا نكرة في سياق نفي، وهو يفيد العموم ((لا تُظْلَمُ)) أي شيء من الأشياء قل أو كثر، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]، الشر اليسير سيراه يوم القيامة وسيرى جزاءه، والخير القليل سيراه يوم القيامة ويرى ثوابه، {فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [يس:54]، لن يقول العبد: يا رب! أنت قدرت علي هذا الشيء. {وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [يس:54]، هل ظلمناك؟ هل ظلمك كتبتي؟ والعبد يقول: لا يا رب لم يظلمني أحد، أنا الذي عملت هذه الأشياء جميعها، فيعترف العبد ويقر على نفسه في وقت لا ينفعه إقراره بين يدي الله عز وجل، هذا الكافر يقر على نفسه، وذاك المنافق ينفي ويقول: يا رب! لا أقبل اليوم شاهداً علي إلا من نفسي، فإذا بالله عز وجل يختم على فمه، وتتكلم أعضاؤه فتشهد عليه، فيدعو على نفسه: ألا سحقاً لكن وبعداً فعنكن كنت أجادل؟ كان يجادل ويناضل ويدافع عن نفسه، فإذا بأعضائه تشهد عليه يوم القيامة، {فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [يس:54]. نفخ في الصور نفخة الموت، فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق حين لا يقال على الأرض: الله الله) يرجع كل الناس إلى الكفر فلا أحد يقول: الله الله، ولا يعرف أحد ربه فتقوم الساعة على هؤلاء. وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يخرج الدجال في أمتي فيمكث أربعين يوماً أو أربعين شهراً أو أربعين عاماً)، هذا قول الراوي وهو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تبارك وتعالى عنه، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه يمكث فيكم أربعين يوماً، يوم من أيامه كشهر، ويوم كسنة، وباقي أيامه كهذه الأيام، ثم يبعث الله سبحانه عيسى بن مريم كأنه عروة بن مسعود فيطلبه فيهلكه). يخرج الدجال في الأرض ويزعم أنه إله، والله عز وجل يفتن خلقه به، فإذا به يمر على قوم فيدعوهم إليه أن يعبدوه فيرفضون، فإذا بأرضهم تصير مجدبة لا مطر ينزل، ولا نبات يخرج، وهم المؤمنون بالله، ابتلاهم الله سبحانه ليرى هل يثبتون أم أنهم يكفرون ويتبعون هذا الدجال؟ هذا الدجال أكثر الذين يتبعونه من اليهود لعنة الله عليهم والمنافقين وغيرهم، فهؤلاء يمر عليهم فيقول: ألا تؤمنون؟ فيؤمنون به، ويستجيبون له، فإذا بالله عز وجل يفتح لهم من الخيرات ليبتليهم ويظلوا على ما هم فيه من الكفر، فيأخذهم الله سبحانه على ذلك. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فيبعث الله عيسى بن مريم كأنه عروة بن مسعود فيطلبه فيهلكه) فينزل المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام في دمشق عند باب لد وينزل ويطلب المسيح الدجال ويقتله في قصة طويلة في حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم. (ثم يمكث) يعني: المسيح عيسى بن مريم على نبينا وعليه الصلاة والسلام (في الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة). صار الناس في خير بعد نزول المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، (يكسر الصليب، ويضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام)، يقول: (ثم يرسل الله ريحاً باردة من قبل الشام)، إذا نزل المسيح عيسى فقتل المسيح الدجال، ومكث في الناس سبع سنين على تقوى وطاعة وليس فيهم معصية. (ثم يرسل الله ريحاً باردة من قبل الشام، فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته)، سبع سنوات والناس على خير، وفي عبادة الله سبحانه، ولما مضت هذه السنوات السبع بدأ يخرج الشر في الناس، فيرسل الله عز وجل ريحاً باردة من قبل الشام فتأخذ جميع الأبرار الأتقياء، فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته، (حتى لو أن أحدكم دخل في كبد جبل لدخلت عليه حتى تقبضه)، فيقضي الله عز وجل بأن يموت كل من هو مؤمن على الأرض. قال: (فيبقى شرار الناس) يعني: لا يبقى على الأرض إلا شرار الناس، (في خفة الطير وأحلام السباع) تقول: هذا إنسان خفيف يعني: متعجل متهور شرير مندفع، هذا الإنسان الذي هو في خفة الطير أول ما يجد شيئاً يندفع إليه. (وأحلام السباع) السبع الذي يبحث عن فريسة يغتصبها ويأكلها، كذلك هؤلاء همهم القتل والقطع والغصب، فهم في أحلام السباع وفي خفة الطير. (لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً، فيتمثل لهم الشيطان، فيقول: ألا تستجيبون؟ فيقولون: فما تأمرنا؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان، وهم في ذلك دار رزقهم حسن)، هذا من الفتنة، ليس معنى أن الإنسان أعطاه الله المال لأن الله يحبه، فالله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولكن لا يعطي الآخرة إلا من يحب، فهؤلاء في أحلام السباع وفي خفة الطير في طيش، ومع ذلك يعطيهم الله سبحانه أرزاقهم، يأتي الشيطان إليهم فيأمرهم أن يعبدوا الأوثان من دون الله فيعبدونها من دون الله سبحانه، وهم مع ذلك دار عليهم رزقهم حسن عيشهم. (ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتاً ورفع ليتاً) نفخ في الصور، جاءت القيامة، وأمر الله سبحانه إسرافيل أن ينفخ نفخة الموت حتى يموت من على الأرض، هؤلاء الأشرار الذين على الأرض لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً، وهم فيما سمعنا من حديث النبي صلى الله عليه وسلم: قد عبدوا الأوثان من دون الله سبحانه، فيأتي عليهم النفخ في الصور فإذا بهم حالاً يخمدون. يقول صلى الله عليه وسلم: (فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتاً)، الليت: صفحة العنق، وأصغى بمعنى: أمال، يعني: سمع صوتاً وهو يميل رأسه وعنقه يتسمع إلى الصوت ويجيء عليه الموت فيموت وهو على هذه الحال. قال صلى الله عليه وسلم: (وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله)، ذكرنا من قبل الإنسان الذي يلوط أو َيليط أو يُليط حوض الإبل، بمعنى: يصلح حوض الإبل بالحجارة، لكي تشرب منه الإبل. قال: (فيصعق ويصعق الناس) يعني: يجهز الحوض لكي تشرب الإبل فلا تدرك الإبل أن تشرب منه. قال: (ثم يرسل الله -أو قال- ينزل الله مطراً كأنه الطل -أو الظل- فتنبت منه أجساد الناس) مطر شديد ينزل من السماء فينبت الله عز وجل هذه الأجساد الميتة. (ثم ينفخ فيه أخرى) هذه النفخة الثانية، وهما نفختان كما قال الله عز وجل: {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68]، قاموا من قبورهم ينظرون حولهم ما الذي يراد بهم؟ إلى أين يذهبون؟ هل أتى ربنا أم لم يأت سبحانه؟ (ثم يقال: يا أيها الناس! هلموا إلى ربكم {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات:24]). (هلموا) احضروا إلى ربكم، ((وَقِفُوهُمْ)) أيها الملائكة! قفوا هؤلاء بين يدي الله عز وجل ((إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ)). (ثم يقال: أخرجوا بعث النار) وهذا يقوله الله عز وجل لآدم، يناديه يوم القيامة: (يا آدم! أخرج بعث النار، يقول: وما بعث النار؟ يقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين) يعني: أخرج من كل ألف من الموجودين في المحشر تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار، وواحد فقط الذي يكون إلى الجنة، نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فذاك يوم يجعل الولدان شيباً، وذلك يوم يكشف عن ساق). هذا اليوم يوم يجعل الله سبحانه وتعالى الولدان فيه شيباً، تشيب فيه رءوس الولدان من شدة ما يرون في هذا الموقف بين يدي الله عز وجل، عندما نذهب لنرى نتيجة الامتحان، ويقال: نصف المدرسة راسبون يفزع الناس من الذي سينجح إذا كان النصف راسباً؟ ما بالك بتسعمائة وتسعة وتسعين في النار، الناجح واحد وتسعمائة وتسعة وتسعون يدخلون النار والعياذ بالله، هؤلاء بعث النار.

تفسير قوله تعالى: (إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون)

تفسير قوله تعالى: (إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون) يقول ربنا تبارك وتعالى: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} [يس:55]. عندما يدخل أهل الجنة الجنة بعد الحساب والموقف بين يدي الله سبحانه وتعالى يدخل أناساً الجنة بغير حساب، وأناساً خفف عنهم الحساب، وأخر آخرين فإذا بأهل الجنة السابقين السابقين يسبقون إليها، وصاروا في الجنة في شغل فكهون. وانظر إلى تعبير القرآن العظيم: ((أَصْحَابَ الْجَنَّةِ)) كأنهم ملكوها، هذه الجنة جنتكم، هذه التي أعددناها لكم. ((فِي شُغُلٍ)) هذه فيها قراءتان: قراءة ابن عامر والكوفيين وأبي جعفر ويعقوب: ((فِي شُغُلٍ)) بضمتين. وباقي القراء نافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب: {فِي شُغْلٍ} [يس:55]. ((فَاكِهُونَ)) أي: منعمون، تقرأ ((فَاكِهُونَ)) وتقرأ ((فَكهُونَ))، مثلما يقال: تامر ولابن، يعني: عنده تمر وعنده لبن، كذلك هذا فاكه يعني: عنده فاكهة عظيمة، ففاكهون يسرون ويضحكون في سعادة هؤلاء أهل الجنة، وكذلك ((فكهون))، يعني: نفوسهم طيبة منعمة بالجنة. ((فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ))، قد شغلوا بما في الجنة من نعيم، شغل الدنيا يتعب فيه الإنسان ويرجع يريد أن ينام ويستريح، فالجنة ليس فيها نوم ولا تعب ولا انشغال بمعاص، بل في شغل مما يسر أهل الجنة، ويجعلهم مشغولين عن غيرهم، ينشغلون عن أهل النار، فلا ينظرون إليهم، حتى وإن كان من أهلهم من دخل النار واستحقها والعياذ بالله، إلا أن يأذن الله عز وجل في الشفاعة فتكون لمن دخل النار من عصاة الموحدين، فيخرجونهم من النار بفضل ربنا سبحانه وتعالى يشفع فيهم من يشاء. لكن أهل الجنة فيما هم فيه من نعيم مقيم مشغولون بفاكهة الجنة، بطعام الجنة، بالحور العين، بالسماع، قد منعوا في الدنيا من سماع الموسيقى والألحان، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)، أقوام يستحلونها، فقد حرمها عليهم النبي صلوات الله وسلامه عليه، وهذا في صحيح البخاري من حديث أبي مالك الأشعري. قال: (فإذا جاءوا يوم القيامة دخلوا الجنة فاستمتعوا بأحلى الأصوات وأحلى النغمات)، فهم في شغل بما ينعمون فيه في الجنة من نعيم مقيم، انشغلوا عن غيرهم ممن دخلوا النار، فيشغلهم الله تبارك وتعالى بالحور العين، يشغلهم بفاكهة الجنة، وبما أحبوا واشتهوا من أشياء، قد صانوا أنفسهم في الدنيا عن معاصي الله فصارت لهم الجنة بما فيها من نعيم من عند الله سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (هم وأزواجهم في ظلال)

تفسير قوله تعالى: (هم وأزواجهم في ظلال) قال تعالى: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ} [يس:56]: كل إنسان مع زوجاته في الجنة، له من الحور العين ما شاء الله تبارك وتعالى، كذلك زوجته التي كانت معه في الدنيا تكون من أجمل ما يكون في الجنة، فها هو وزوجه إذا دخلت معه الجنة كانوا منعمين. {فِي ظِلالٍ} [يس:56]، جمع ظل، هذه قراءة الجمهور. وقراءة حمزة والكسائي وخلف: {فِي ظلل} [يس:56] جمع ظلة، والظلة: الشيء الذي يجعل فوق رأس الإنسان، والجنة ليس فيها شمس تحرق أهلها، ولكن فيها نعيم الزينة فيزين لأهل الجنة مثلما تجد في الأفراح يعمل للعروسة شيء فوق رأسها، ليس لأنه يوجد مطر، وإنما زينة للعرس، وزينة أهل الجنة أعظم من ذلك بكثير، شبهوا بالعروس في الدنيا؛ لأن العروس في الدنيا تتزين لزوجها، فهؤلاء في الجنة زينت لهم الجنة على ما نسمع هنا. يقول سبحانه: {عَلَى الأَرَائِكِ} [يس:56]، الأرائك: جمع أريكة، وهو: الكرسي الكبير المتسع، أو العرش الذي يجلس عليه الملك، أو السرر في الحجال، يقول المفسرون: الأرائك: السرر في الحجال، والحجال: جمع حجلة، والحجلة: البيت الذي يصنع من قماش للعروس لتجلس فيه، مثلما يقولون الآن بألفاظهم: الكوشة، وهي قبة معمول لها زينة من فوقها ومن تحتها وفيها كرسي تجلس عليه العروس، فأهل الجنة في هذه الحجال. {عَلَى الأَرَائِكِ} [يس:56] بيوت عظيمة جميلة مزينة لأهلها. ((مُتَّكِئُونَ)) هذه قراءة الجمهور، وقراءة أبي جعفر: ((متكون)). يتكئ الإنسان أي: يجلس مسنداً ظهره ويده. في الدنيا لا يجلس المؤمن متكئاً وهو يأكل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني لا أجلس متكئاً) الإنسان المرفه يجلس متكئاً على اليمين أو الشمال يأكل، أما الجائع فهو مقبل على الطعام حامد لله سبحانه، شاكر له، جالس جلسة المتخشع، لكن الإنسان البطر الذي عنده الأكل كثير يجلس هذه الجلسة، وهو في الدنيا ممنوع منها، ولكن في الجنة اجلس كما شئت، اتكئ كما شئت، فالآن وقت الجزاء ووقت الثواب ووقت السرور والفرح فاجلس كما شئت. {لَهُمْ فِيهَا} [يس:57] وهم في هذه الجلسة في هذه الخميلة الجميلة متكئون {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ} [يس:57] فاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة، ليس محتاجاً إلى قطع الثمار من الأشجار ولكن يطلب ما يشاء وهو يأتيه، وإذا قطع الثمار من أشجار الجنة نبت مكانه غيره، فثمار الشجرة لا تنتهي، نعيم مقيم لا مقطوع ولا ممنوع، كل مما شئت في الجنة، شيء عظيم وفضل كريم من الله تبارك وتعالى، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل فضله ورحمته. {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} [يس:57]، ما يدعي الإنسان، بمعنى: ما يطلب، ما يسأل، ما يتمنى وما يشتهي، لهم كل ما يدعون، فيطلبون الشيء مهما عظم، فيعطيهم الله ما شاء من فضله ومن رحمته سبحانه وتعالى. {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58]. أعظم ما يكون لهم في الجنة أن يسلم عليهم الرب سبحانه وتعالى، الرب الرحيم، أليس قال لنا: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]؟ وقال: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43]؟ النبي صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين رءوف رحيم، والله كان بالمؤمنين رحيماً يرحمهم سبحانه في الجنة ويعطيهم من فضله ومن رحمته ما يشاءون، وانظر هذا الحديث الذي رواه مسلم عن صهيب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة، وتنجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل) هذا أعظم ما يؤتاه أهل الجنة، لذة النظر إلى وجه الرب تبارك وتعالى، قال: (وتلا النبي صلى الله عليه وسلم: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]) يعطيهم ربهم الحسنى، ويزيد على ذلك أن ينظروا إلى وجهه سبحانه وتعالى. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم ومعهم، وأن يرينا وجهه الكريم سبحانه في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، ونسأله أن يزيننا بزينة الإيمان، ويجعلنا هداة مهتدين. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة يس [55 - 68]

تفسير سورة يس [55 - 68] وصف الله الذين أدخلهم الجنة بأنهم أصحابها؛ ليدل على تمام نعيمهم وخالص ملاذهم فيها، وأخبرنا بأنه سيميز بين المؤمنين والمجرمين الذين نسوا عهد الله إليهم بألا يتبعوا الشيطان، أو لم يأخذوه على محمل الجد، فضل منهم خلق كثير سيصلون النار يوم القيامة بسبب كفرهم، وتشهد على أفعالهم جوارحهم، ويوبقون في نار جهنم التي كانوا بها يكذبون.

أصحاب الجنة فيها

أصحاب الجنة فيها الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة يس: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ * سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ * وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ * أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ * هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ * وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ * وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ} [يس:55 - 68]. هذا موقف من مواقف القيامة يذكره لنا ربنا تبارك وتعالى في حسابه لخلقه يوم القيامة، فريق في الجنة وفريق في السعير. أهل الجنة أدخلهم الله عز وجل الجنة منهم السابقون الذين سبقوا الجميع ودخلوا الجنة بغير حساب أو بحساب يسير، فسبقوا غيرهم ودخلوا الجنة فانشغلوا بما فيها من نعيم عظيم من فاكهة جميلة من حور عين وغير ذلك مما ينعمون به في الجنة، انشغلوا عن حال غيرهم من أهل الموقف الذين ما زالوا في الحساب، وغيرهم الذين دخلوا في النار، فانشغلوا بالنعيم الذي هم فيه عن هذا كله. {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} [يس:56 - 56]. نساؤهم إذا استحققن الجنة كن مع أزواجهن، وإن كن من نساء الجنة فهن أزواج مطهرات من الحور العين: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} [يس:56 - 57]. ينعمون فيها، يجلسون متكئين، في سرر كسرير العروس الذي تجلس فيه في الدنيا وهو مزين بالقباب مزين بالستور مزين بالثياب فيه أرائك فيه عرش تجلس عليه العروس ويجلس عليه معها زوجها، هنا في الجنة ينعمون بذلك، بل بأفضل من ذلك بكثير. {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} [يس:57]، ما يطلبون، ما يسألون الله عز وجل من شيء إلا وأعطاهم بزيادة سبحانه تبارك وتعالى. {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ * سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:57 - 58]. ((وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ سَلامٌ)) على معنيين فيها: أي ما يدعونه خالصاً لهم، ((سَلامٌ)) أي: سالم لهم، كما ذكر الله عز وجل: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} [الزمر:29] يعني: خالصاً له، وهنا (سلام)، ما يدعونه خالص لهم في هذا اليوم لا يشركهم فيه أحد لا يوجد أحد. المعنى الآخر: ((سَلامٌ))، كأنه ابتداء واستئناف، أو: هذا سلام، أو: لكم من الرب الرحيم سلام، أي: تحية مباركة من الله سبحانه تبارك وتعالى، يسلم على أهل الجنة: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر:73]، التسيلم من الله سبحانه، والتسيلم من الملائكة، والمؤمنون يسلم بعضهم على بعض وهم في الجنة، تحيتهم يوم القيامة في الجنة سلام، {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} [إبراهيم:23]. كذلك يقال لهم: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32]، {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58]، {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر:73]، فيكون المعنى هنا، سلام أي: يعطيهم الله سبحانه تبارك وتعالى السلام والأمن، ويحييهم ربهم الحياة الطيبة والتحية العظيمة، سلام قولاً من ربكم سبحانه تبارك وتعالى، فيميز هذا التسليم بأنه قولاً من الله سبحانه تبارك وتعالى، {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ} [يس:58] خالق مالك يملك كل شيء، رحيم بعباده سبحانه تبارك وتعالى، {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58].

تفسير قوله تعالى: (وامتازوا اليوم أيها المجرمون وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم)

تفسير قوله تعالى: (وامتازوا اليوم أيها المجرمون وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم) يقول الله تعالى: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس:59]. قيل للمجرمين: تميزوا، تعالوا من هذه الناحية، يقال: ميزت الناس بعضهم عن بعض إذا فرقت بينهم، فيقال لهم: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس:59]، ابتعدوا عن المؤمنين، لستم معهم في الجنة، ولا لكم نور من نورهم، انحازوا إلى ذات الشمال، فيؤخذون إلى النار والعياذ بالله. {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس:59]، أجرموا في حق دينهم أجرموا في حق ربهم سبحانه أجرموا في حق المؤمنين أجرموا في حق نبيهم عليه الصلاة والسلام، فقيل لهم: انحازوا إلى هاهنا، اجتمعوا إلى النار والعياذ بالله. ويقول لهم ربهم سبحانه: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس:60]، ألم أحذركم قبل ذلك من الشيطان: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6]، ها هي السعير التي حذرناكم منها، وحذرناكم من اتباع الشيطان، فأبيتم إلا متابعة الشيطان حتى أرداكم في الجحيم. ((أَلَمْ أَعْهَدْ)) ألم أوص؟! وصيناكم وحذرناكم من الشيطان، {يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس:60]، ألم نقل لكم قبل هذا: لا تعبدوا الشيطان من دون الله، {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يس:60]، عداوته ظاهرة بينة واضحة، قد أخبرناكم عن عداوة الشيطان، كيف فعل بآدم وأخرجه من الجنة، وكيف فعل بكم وتوعدكم بأن يجعلكم في النار، قد قلنا لكم ذلك، وقد أعذرنا إليكم فلا عذر يقبل منكم اليوم. {وَأَنِ اعْبُدُونِي} [يس:61] اعبدوا ربكم وحده لا شريك له، {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:61]. (وأن اعْبُدُونِي) بالكسر في النون، هذه قراءة أبي عمرو ويعقوب وحمزة وعاصم. وباقي القراء يقرءونها بالضم، كأنهم استثقلوا أن يكون كسر بعده فتح: (وأن اعُبُدُونَي) كأنها أسهل في النطق، (وأن اعُبُدُونَي هذا صراط مستقيم). كذلك: (صراط) تقدمت قبل ذلك أن قنبلاً وورشاً يقرأانها بالسين: (هذا سراط مستقيم)، ويقرؤها خلف عن حمزة بإشمام الصاد زاياً فيقرأها: (هذا زراط مستقيم) والمعنى واحد، وباقي القراء بالصاد المكسورة: (هذا صراط مستقيم)، ولا يبدو على الصاد تفخيم؛ لأنها ليست مضمومة ولا مفتوحة، ولكنها مكسورة بأقل الدرجات فيها. فتقرأ: (هذا سراط) (هذا صراط) (هذا زراط)، والمعنى: هذا طريق، يعني: طريق الله سبحانه طريق لا اعوجاج فيه ولا انحراف، ومن تابع دين الله سار إلى جنة الله سبحانه. {وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:61]، ما بيناه لكم ودللناكم عليه كان هو الصراط المستقيم الذي سوف يقودكم إلى الجنة.

تفسير قوله تعالى: (ولقد أضل منكم جبلا كثيرا)

تفسير قوله تعالى: (ولقد أضل منكم جبلاً كثيراً) قال تعالى: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس:62]. (جبلاً) فيها أربع قراءات: قراءة نافع وأبي جعفر وعاصم: (جِبِلًّا كثيراً) بالكسر للجيم والباء وباللام المشددة المنصوبة. قراءة روح عن يعقوب: (جُبُلًّا كثيراً) بضم الجيم والباء وبتشديد اللام أيضاً. قراءة أبي عمرو وابن عامر: (جُبْلاً كثيراً)، بالتخفيف فيها وبتسكين الباء. قراءة باقي القراء: ابن كثير وورش وحمزة والكسائي وخلف: (جُبُلاً كثيراً) بضم الجيم والباء وبعدم تشديد اللام. فتكون القراءات: (جِبِلًّا)، (جُبُلًّا)، (جُبْلاً)، (جُبُلاً). ومعانيها كلها راجعة إلى الجبلة الخلقة، فالجُبُل هنا أو الجِبِل معناه: الخلق الكثير. فقال سبحانه: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا} [يس:62]، ((جِبِلًّا))، أمة، قالوا: الجبل يطلق على مائة ألف، ويطلق على أكثر من ذلك، والخلق ليسوا مائة ألف، فاحتاج أن يقول فيها كثيراً، أمماً كثيرة، ملايين من الخلق أضلهم الشيطان وأغواهم عن طريق الرحمن. {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس:62]، كل الذي أريناكم من آياتنا في هذا الكون، ومن آيات كتاب ربكم، وما رأيتم من نبيكم صلى الله عليه وسلم، وما حذرناكم من الشيطان، لا يوجد عندكم عقل تعقلون وتعرفون أن هذا هو الحق من عند الله، تركتم هذا واتبعتم الشيطان من دون الله تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (هذه جهنم التي كنتم توعدون)

تفسير قوله تعالى: (هذه جهنم التي كنتم توعدون) قال تعالى: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [يس:63]. (هذه جهنم) الهاوية والعياذ بالله، جهنم النار المسعرة، وذكرنا قبل ذلك أن جهنم اسم من أسماء النار، وكأنها الدركة السفلى فيها، وهي مأخوذة من قول العرب: هذه ركية جهنام، أي: بئر بعيدة القرار، فاسمها جهنم يعني: بعدية القعر، التي يلقى الحجر من شفيرها فيصل إلى قعرها في سبعين سنة، كم عمق هذه النار، كم طولها وكم عرضها، نسأل الله العفو والعافية. {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [يس:63]، التي أخفناكم منها، وقلنا: وعداً علينا حقاً أن نملأ الجنة من المؤمنين، وأن نملأ النار من الغاوين. {اصْلَوْهَا الْيَوْمَ} [يس:64]، (اصلوها) يصلى الشيء بمعنى: يحترق فيه، يصلى الفرن معناه: يدخل فيه فيحترق، فيقول: عانوا حرارتها، قاسوا من لهيبها. {اصْلَوْهَا الْيَوْمَ} [يس:64] لماذا؟ هل قال: لأننا قدرنا عليكم ذلك؟ لا، {بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} [يس:64]، كفرتم؟ يقولون: نعم كفرنا، فإذاً ادخلوا النار جزاء بما كنتم تكفرون: {اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} [يس:64]. هذه جهنم البشعة الفظيعة التي جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم أنه قال عنها: (يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها). تخيل هذا العدد الضخم! هذه جهنم خلقها الله سبحانه تبارك وتعالى، وجعلها عذاباً لمن عصاه سبحانه، هي عظيمة، وقد وعدها الله عز وجل أن يملأها ممن كفر وممن عصاه سبحانه وتعالى، ولا تشبع أبداً، كلما ألقي فيها فوج تقول: هل من مزيد، حتى يسكتها الله سبحانه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى يضع الجبار فيها قدمه فتقول: قط قط)، حينها تسكت ولا تطلب المزيد. يلقى فيها الأفواج وتسألهم خزنتها: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ * وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا} [الملك:8 - 11] بعداً وهلاكاً وتدميراً، {لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:11]. جهنم يأتي بها الملائكة يوم القيامة على هذه الهيئة، ضخمة جداً، ملائكة الله خلقهم الله سبحانه من نور، فهم قوة عظيمة جداً، ويكفي أن ملكاً من ملائكة الله سبحانه أهلك قرى المؤتفكة وحده، نزل جبريل فرفعهم بجناحه فقلبهم، قال سبحانه: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} [النجم:53 - 55]. ملائكة الله أقوياء، {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، يأتون يوم القيامة بأمر الله يحملون جهنم إلى الموقف، إلى حيث يريد الله تبارك وتعالى، ولها سبعون ألف زمام، والزمام هو المكان الذي يمسك منه الشيء، تقول: الحل أن أمسكها بيدها. أما جهنم والعياذ بالله فلها سبعون ألف يد تمسك منها، كل يد من هذه الأيدي وكل زمام من أزمتها عليه سبعون ألف ملك. (يؤتى بجهنم لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك)، كم يكون هذا العدد؟! لو ضربنا سبعين ألفاً في سبعين ألف تساوي أربعمائة وتسعين مليوناً من ملائكة الله عز وجل يحملون جهنم، يؤتى بها ليخيف الله عز وجل بها من يشاء من خلقه. وذكر في الحديث: (أنه يخرج عنق من النار له عينان تبصران، وأذنان تسمعان، ولسان ينطق، فيقول: وكلت بالجبارين، وكلت بالمتكبرين، وكلت بالمصورين)، وكل هذا العنق بأن يخطفهم من الموقف إلى نار جهنم، فيخطف، الإنسان الجبار العاصي لله سبحانه، المتجبر على خلق الله، القاسي القلب، العنيف الشرس في طباعه، يأخذ الناس بالقوة والقهر، يأخذ ما في أيديهم. وبكل متكبر، إنسان فيه كبر، يختال بنفسه، ويرى نفسه أفضل من غيره من الخلق، فيوكل به عنق النار، فيأخذ هذا المتكبر من الموقف، ويلقيه في النار والعياذ بالله. والثالث المصور، الإنسان الذي يصنع الصور، ويرسمها أو ينحت التماثيل وغير ذلك، وكل هذا العنق بهذا الذي يشبه نفسه بالخالق سبحانه وتعالى في النحت والتصوير.

تفسير قوله تعالى: (اليوم نختم على أفواههم)

تفسير قوله تعالى: (اليوم نختم على أفواههم) قال تعالى: {نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65]. حضروا الموقف أمام رب العالمين، فلما سألهم أجابوا {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:42]، ومن حاول أن يكتم الله حديثاً أنطق عليه أعضاءه فاعترفت عليه يوم القيامة. {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} [يس:65]، وجاء في صحيح مسلم من حديث أنس: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك، فقال: هل تدرون مم أضحك؟ قال: قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: من مخاطبة العبد ربه يوم القيامة، يقول: يا رب! ألم تجرني من الظلم؟)، انظروا العبد يوم القيامة، ما زال يجادل ربه: يا رب! ألست حرمت الظلم على نفسك، وأنت أجرت من الظلم عبادك؟ فيقول الله سبحانه: (بلى، فيقول هذا العبد الحقير: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني)، يقول: لا أريد ملائكة تشهد علي، أنا أشهد على نفسي، يظن أن ذلك ينفعه. قال: (فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً، وبالكرام الكاتبين شهوداً، فيختم على فِيه، فيقال لأركانه: انطقي، فتنطق بأعماله، ثم يخلى بينه وبين الكلام)، شهدت عليك أعضاؤك بما عملت في الدنيا، فيقول يدعو على نفسه: (بعداً لكن وسحقاً، فعنكن كنت أناضل) يعني: كان يدافع عن نفسه، عن أعضائه التي أوبقته وشهدت عليه، ضحك النبي صلى الله عليه وسلم على هذا العبد المغرور الأحمق الذي يظن أنه يخدع رب العالمين سبحانه وتعالى يوم القيامة. وفي رواية أخرى لهذا الحديث: (ثم يقال له: الآن نبعث شاهدنا عليك)، وهو يتفكر في نفسه: من ذا الذي يشهد علي؟! العبد يوم القيامة يقول لله: لا أريد أحداً يشهد علي إلا نفسي، قال: (فيختم على فِيه، ويقال لفخذه ولحمه وعظامه: انطقي، فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله، وذلك ليعذر من نفسه)، أنت الذي قلت على نفسك، وأنت الذي اعترفت على نفسك، وذلك المنافق، وذلك الذي يسخط الله عليه، يقول هذا الشيء من أجل أن يأخذ عذاباً فوق العذاب؛ لكفره في الدنيا وكذبه في الآخرة. وروى الترمذي عن معاوية بن حيدة (أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار تجاه الشام، فقال: من هاهنا تحشرون، ومن هاهنا إلى هاهنا تحشرون، ركباناً ومشاة، وتجرون على وجوهكم يوم القيامة على أفواهكم الفدام). يحشرون يوم القيامة، إنسان يقوم من قبره فيحشر ماشياً، إنسان يحشر راكباً يوم القيامة، إنسان يحشر على وجهه، ويجرجر على وجهه، قال النبي صلى الله عليه وسلم -والحديث حسن-: (وتجرون على وجوهكم يوم القيامة على أفواهكم الفدام)، الفدام: مصفاة من قماش توضع فوق الكوز بحيث يصفي الشراب الذي فيه، المعنى: توضع كمامة على أفواهكم فلا ينطق أحدكم. (توفون سبعين أمة، أنتم خيرهم وأكرمهم على الله، وإن أول ما يعرب عن أحدكم فخذه وكفه)، أول ما ينطق من الإنسان ويشهد عليه فخذه وكفه. هنا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن أول ما ينطق من الإنسان فخذه فيتحدث ماذا عمل، وينطق عليه جلده وعظامه، ويده، وفي النهاية فمه يتكلم فيدعو على نفسه بالهلاك كما ذكرنا. يقول الله عز وجل: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ} [يس:65] تنطق الأيدي، {وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} [يس:65]، وهذا من التفنن في القرآن العظيم، لم يقل: تكلمنا أيديهم وتكلمنا أرجلهم، ولكن ذكر أن كل عضو ينطق ويتكلم، ففصل فذكر أن الأيدي تتكلم، والأرجل تشهد، كأنه أقامها مقام الشاهد؛ لأن الإنسان غالباً ما يصنع أفعاله بيده، فكأن اليد بعيدة عن الرجل، والرجل شاهدة على اليد بما فعلته، وعلى الفم بما قاله، فذكر الفخذ وذكر الرجل؛ لأنها شاهدة عليه. {وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ} [يس:65] ضربت فلاناً، أخذت مال فلان، سفكت دم فلان، والرجل تشهد على هذا الإنسان وعلى هذه اليد بما صنعت: {وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65]، بما اجترحوا في هذه الدنيا، بما أصابت جوارحهم فيها، تشهد هذه الأيدي وتتكلم، وتشهد الأرجل بما كانوا يكسبون. {وَلَوْ نَشَاءُ} [يس:66]، لو يشاء الله سبحانه وتعالى، لطمس على أعينهم في الدنيا، وإن فسرت بأنه في الآخرة، ولكن الأوجه أنها في الدنيا، فهذا تهديد ووعيد من الله سبحانه وتعالى. {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا} [يس:66]، والطمس: إزالة الأثر، تقول: طمست الريح الأثر، بمعنى: أزالت الأثر، {عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ} [يس:66]، الصراط الطريق، وفيه من القراءات ما ذكرنا قبل ذلك، {فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} [يس:66]. والمعنى: لو شئنا لطمسنا على أعينهم وقتما كفروا ووقتما عصوا الله تبارك وتعالى، وفي المكان الذي مارسوا فيه الرذيلة، لو أردنا كنا عميناهم في هذا المكان، ثم يرجعون يتحسسون بيوتهم فلا يرون شيئاً في الطريق، {فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ} [يس:66] أي: طريق رجوعهم إلى بيوتهم، فلا يعرفون كيف يهتدون إلى بيوتهم، لو نشاء لعجلنا لهم العقوبة في الدنيا، {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ} [يس:66]. الجمهور يقرأها: (الصراط) بالصاد، وسيقرؤها قنبل وورش بخلف: (السراط) بالسين، وسيقرؤها حمزة بخلف خلاد لأن قبلها ألف ولام، وهنا سيدخل خلاد مع خلف فيها، ولكن بخلف يقرؤها بإشمام الصاد زاياً: (الزراط). {فَأَنَّى} [يس:66] كيف، {يُبْصِرُونَ} [يس:66]. وهذه (أنى) يفتحها الجمهور: (أنَّى). وبخلفه الأزرق عن ورش وكذلك الدوري عن أبي عمرو ويقرأ: (فأنى) بالتقليل فيها. ويقرؤها الكوفيون غير عاصم بالإمالة فيها: (فأنِّى يبصرون). وأنى بمعنى: كيف يبصرون ويهتدون الطريق ليرجعوا إلى بيوتهم وقد أعميناهم؟! {وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ} [يس:67]، المكانة: المكان الذي يزاولون فيه معصيتهم ويمكثون فيه، لو أردنا كنا مسخناهم قردة وخنازير، وقد فعل بالبعض من عباده، ولو شاء لفعل بهؤلاء أيضاً من كفار قريش. {وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ} [يس:67] هذه قراءة الجمهور. وقراءة شعبة عن عاصم: (على مكاناتهم) بالجمع فيها. {فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ} [يس:67]، كنا مسخناهم قردة وخنازير، أو جعلناهم جمادات صوراً وتماثيل، فما قدروا لا مضياً للأمام ولا رجوعاً إلى الخلف، ولكننا أخرنا عنهم العذاب؛ لعل بعضهم يتوب، ويوم القيامة يجدون من عذاب الله سبحانه أهوالاً وأهوالاً.

تفسير قوله تعالى: (ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون)

تفسير قوله تعالى: (ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون) قال الله سبحانه: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ} [يس:68]. {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ} [يس:68]، من نعطيه عمراً يعيش حتى يجاوز الستين السبعين الثمانين المائة، إذا عمرناه نكسناه، والإنسان في حياته يمشي في منحنى سنه وهو صغير من الصفر، ثم يستمر في الزيادة إلى أن يعلو إلى أقصى قوته وشبابه وصحته، ومن ثم يأتي منحنى النزول بعد ذلك حتى يصل إلى الصفر، ويدخل إلى قبره. فالإنسان كلما ازداد عمره في طاعة الله كلما كان خيراً له، فيستغل الإنسان حياته وصحته وشبابه في أن يعبد الله سبحانه، وإذا اكتمل الشباب واكتمل للإنسان القوة فما بعد الكمال إلا النقصان، فبعدما كان يقدر على أن يصلي قائماً يصلي قاعداً، بعدما كان يصلي قاعداً يصلي وهو مضطجع، بعدما كان يعقل الصلاة يتوه فيها ولا يستطيع أن يقرأ شيئاً، وينسى الصلاة، ويقول له أولاده: صل، كبر، قل باسم الله، قل كذا. {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ} [يس:68] يعمر عمراً طويلاً في النهاية {نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} [يس:68]، يرد إلى أرذل العمر. وانظر إلى الفرق بين الصبي الصغير والشيخ الكبير، الصبي الصغير يحبه أهله ويعذرونه فيما يخطئ به، ولكن الشيخ الكبير يتململ منه الكل، لا أحد يطيقه، إذا أخطأ فهو غير مقبول عندهم، إذا مرض لا أحد ينظر إليه، فانظر إلى الفرق بين الصغير والكبير، فالشيخ الكبير وصل إلى مرحلة في العقل كالصبي الصغير لا يفهم. ولكن هذا مستحسن في الصبي ومستقبح في الكبير، وقد سماه الله عز وجل أرذل العمر. {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ} [يس:68]، والتنكيس القلب، والكوز المنكس بمعنى: المقلوب المجخى. (نُنَكِّسْهُ) هذه قراءة عاصم وحمزة. وباقي القراء يقرءونها: (نَنْكُسُهُ)، أي: نرده ونقلبه مرة ثانية إلى مرحلة عدم العقل وعدم الفهم، والنسيان والضعف، فيصبح ضعيفاً شيخاً كبيراً ينسى كثيراً. {أَفَلا يَعْقِلُونَ} [يس:68]، يريدون أن يعيشوا عمراً طويلاً، ماذا يريدون من الحياة، ومن نعمره هذا حاله. لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله أن يرد إلى أرذل العمر، ويقول: (أعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر)، فيتعوذ بالله سبحانه تبارك وتعالى من ذلك. وأيضاً كان يخبر أصحابه ويقول: (خيركم من طال عمره وحسن عمله)، طالما الإنسان في خير وعبادة لله وطال عمره كان خيراً له، والإنسان الذي هو في المعاصي يرده الله عز وجل إلى أرذل العمر فينكسه الله سبحانه ويصير عبرة للخلق. (أفلا يعقلون) وهذه قراءة الجمهور. ويقرؤها نافع وأبو جعفر وابن عامر بخلفه ويعقوب: (أفلا تعقلون)، فهما قراءتان، (أفلا يعقلون) على الغيب لهؤلاء، (أفلا تعقلون) على الخطاب للجميع، أي: (أفلا تعقلون) ما بصرناكم فتعملون لهذا اليوم. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة يس [69 - 83]

تفسير سورة يس [69 - 83] يدلل الله عز وجل على قدرته وملكوته وجبروته بما نشاهده مما بسط علينا من النعم والخيرات والبركات، فرزقنا وسخر لنا كل شيء من بحار وأرض وسماء وحيوانات وأنعام، وما نستفيد منها في الأكل والشرب والكساء، ومع هذا كله تجد من يعبد غير الله تعالى، وينكر البعث والجزاء، وقد رد الله عليهم وأفحمهم في الجواب.

تفسير قوله تعالى: (وما علمناه الشعر وما ينبغي له)

تفسير قوله تعالى: (وما علمناه الشعر وما ينبغي له) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة (يس): {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ * لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ * وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ * لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُحْضَرُونَ * فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [يس:69 - 76]. في هذه الآيات -من آخر هذه السورة الكريمة سورة (يس) - يخبر الله سبحانه وتعالى عن نبيه صلوات الله وسلامه عليه أنه سبحانه ما علمه الشعر، وما من شيء تعلمه النبي صلى الله عليه وسلم إلا وربه الذي يعلمه إياه سبحانه. فعلمه من الغيب ما شاء سبحانه وتعالى، وأخفى عنه من الغيوب ما شاء، أنزل عليه الكتاب وحفظ هذا الكتاب، قال لنبيه صلى الله عليه وسلم وهو يتعجل في حفظ كتاب الله سبحانه: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:16 - 19]. فنهاه عن التعجل، وكان يحاول أنه أول ما ينزل عليه جبريل بالقرآن أن يقرأ مع جبريل، فعلمه الله أن من أدب التعلم أن تستمع، فإذا استمعت ووعيت ذلك حفظناك وبينا لك معانيه. قال له سبحانه: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ} [القيامة:16 - 17] لك في صدرك {وَقُرْآنَهُ} [القيامة:17] وقراءته لك، فتقرأ هذا القرآن بعدما يقرأ جبريل وليس مع قراءة جبريل: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:17 - 18]، تتبع جبريل وهو يقرأ، وتعلم منه ذلك وأنت تنصت له وتستمع لما يقرؤه عليك، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:18 - 19] نبينه لك بعد ذلك، الله هو الذي يحفظ النبي صلى الله عليه وسلم، فلا تتعب سنحفظك وسنعلمك. فما من شيء تعلمه إلا من فضله سبحانه، ومنعه عن أشياء لا يتعلمها صلى الله عليه وسلم، ومنها: الكتابة والقراءة، ولكن (يقرأ) بمعنى يحفظ، أما الكتابة فلم يكن يكتب، وهذه للنبي صلى الله عليه وسلم معجزة، أنه نبي أمي صلوات الله وسلامه عليه، هكذا وصفه ربه: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلَ} [الأعراف:157]. فهو أمي صلوات الله وسلامه عليه، أي: لا يقرأ ولا يكتب، ولكن الله يحفظه ويعلمه ما يشاء، فصفة الأمية في النبي صلى الله عليه وسلم تعتبر من معجزاته، من أنه تعلم هذا العلم كله وهو لا يقرأ ولا يكتب صلوات الله وسلامه عليه. فهنا ربنا تبارك وتعالى يقول: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:69] الشعر من علوم البشر يتعلمه الناس ويجيدونه فيتكلمون به، ويكون للبعض من الناس مدحة أنه يفهم الشعر ويجيده ويتكلم به، لكن النبي صلى الله عليه وسلم ليس له ذلك؛ لأنه لو كان يقول الشعر كما يقول الناس لصدق عليه قول المشركين حيث قالوا: هذا شاعر، وبدأ يلفق أشياء من الشعر ويغير أوزانها ويقول: هذا قرآن فلم يكن يقول الشعر صلوات الله وسلامه عليه، بل لعله إذا تكلم بأبيات من الشعر لا يهمه أن تأتي موزونة أو غير موزونة صلوات الله وسلامه عليه. فربنا يقول: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:69] ليس النبي صلى الله عليه وسلم بمكانة من يتعلم الشعر، وقد ينبغي لغيره أن يتعلمه، فيتعلم العلماء من الشعر ويدرسونه ويقولونه ويتكلمون به، أما النبي صلى الله عليه وسلم فهو ممنوع من ذلك، قال تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:69]. وكان هذا آية من آياته صلى الله عليه وسلم، فعندما يأتي الكفار الذين يجيدون الشعر ويكلمون النبي صلى الله عليه وسلم فيقول لبعضهم: أنت الذي تقول كذا؟ فيقول البيت من الشعر ولا يحسنه النبي صلى الله عليه وسلم، فيقوم الرجل يسمع إليه يقول: صدق الله {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} [يس:69]. فغيره صلى الله عليه وسلم يقوله ويجيده، أما هو فلا يقوله، وإن قال فيأتي بشيء من المصادفة، وانظر مثلاً في قول طرفة بن العبد قاله النبي: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ويأتيك من لم تزود بالأخبار بيت مكسور، لكن انظر إلى صاحب البيت كيف قاله! ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ويأتيك بالأخبار من لم تزود لما قاله النبي صلى الله عليه وسلم ما اهتم أن يأتي به موزوناً. وكذلك لما قيل في رجل: إنه من أشعر الناس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ذاك الذي يقول: ألم ترياني كلما جئت طارقاً وجدت بها وإن لم تطيب طيباً لكن الشاعر ما قاله هكذا، وإنما قال: ألم ترياني كلما جئت طارقاً وجدت بها طيباً وإن لم تطيب كذلك رجل آخر جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب منه أن يمنحه ويعطيه مالاً، وجاء مع مجموعة من المؤلفة قلوبهم، منهم الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن، فـ الأقرع لما وجد أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه هو وفرسه كالذي أعطاه لرجل آخر قال له: أتعطيني أنا والفرس مقدار الذي أعطيته لفلان؟! فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: أتجعل نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع الرجل يقول ذلك، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم مقاله ناداه وقال: أنت الذي تقول: أتجعل نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة؟ انعكس البيت وانقلب سجعه الذي فيه، فالرجل تعجب من النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعلاً لم يتعلم الشعر صلوات الله وسلامه عليه، ولا ينبغي له. والنبي صلى الله عليه وسلم مكث أربعين سنة قبل الرسالة في مكة وما تعلم، قال: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:69] أي: غير ممكن، مع أن أعمامه وأجداده وأخواله يقولون الشعر وهو يسمع منهم ويشكرهم على ما يقولون كما قال العباس في النبي صلوات الله وسلامه عليه فشكره النبي صلى الله عليه وسلم. أما هو صلى الله عليه وسلم فلا يقول الشعر، ولا ينبغي له، يعني: هو ممنوع من أن يتعلمه صلوات الله وسلامه عليه، لا من قومه ولا بوحي من الله تبارك وتعالى. جاء أن أبا بكر رضي الله عنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهياً، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إنما قال الشاعر: هريرة ودع إن تجهزت غازياً كفى الشيب والإسلام بالمرء ناهياً فلما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لم يجد أن يقوله، فما ينبغي له أن يتكلم بالشعر، سمع أبو بكر وعمر النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول ذلك، فقالا للنبي صلى الله عليه وسلم: نشهد أنك رسول الله. يقول الله عز وجل: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:69] أي: ليس له أن يتكلم بالشعر، فإذا جاء في كلامه شيء من الشعر فمن قبيل المصادفة أن يأتي ذلك، أما أنه يجيد قصيدة أو أبياتاً من الشعر وتكون موزونة كما قالها صاحبها فهذا نادر أن يقوله صلى الله عليه وسلم. وإن كان بسليقته كرجل عربي صلى الله عليه وسلم يحب أن يسمع الشعر فكان يقول لـ كعب بن زهير هيه: هات من أبياتك، فيقول له بيتاً وبيتاً وبيتاً، والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع ما يقول من العرب، ولكن هو لا يتكلم بالشعر صلوات الله وسلامه عليه. {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ} [يس:69] هذا القرآن {إِلَّا ذِكْرٌ} [يس:69] كتاب فيه التذكرة، وفيه ذكر للعرب وشرف لهم بأن ينزل هذا القرآن على نبيهم صلى الله عليه وسلم، {وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} [يس:69] مفصح عما تحتاجون إليه من أحكام لدينكم ودنياكم وأخراكم. وكما ذكرنا أن هذه آية من آياته عليه الصلاة والسلام، أما غيره فلا، لو أن أحداً قال: أنا لا أجيد الشعر، فهذه ليست مدحة له، فالإنسان يمدح بكثرة العلوم، ومن ضمن العلوم الشعر أن يتعلمه ويجيده ويقوله، وهو هبة من الله عز وجل يعطي من يشاء ما يشاء سبحانه. ولكن أغلب الشعراء كما قال الله عز وجل: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} [الشعراء:225 - 227] فهؤلاء هم الشعراء الممدوحون. ولذلك جاء عن الخليفة المأمون أنه قال لـ أبي علي المنقري: بلغني أنك أمي، وأنك لا تقيم الشعر، وأنك تلحن، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين! أما اللحن فربما س

تفسير قوله تعالى: (لينذر من كان حيا)

تفسير قوله تعالى: (لينذر من كان حياً) قال تعالى {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا} [يس:70]. أي: ينتفع بإنذار القرآن له من كان قلبه حياً وليس ميتاً ولا قاسياً، وليس قلبه في ظلمات الكفر، ولكن الإنسان الذي يستجيب هو الذي ينتفع بالبشارة والنذارة. (لتنذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين) هذه قراءة بعض القراء منهم نافع وأبو جعفر وقراءة ابن عامر ويعقوب، وباقي القراء: (لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين) أي: لينذر هذا القرآن وهذا الكلام العظيم من رب العالمين من كان حياً. (وَيَحِقَّ) أي: لتكون النتيجة والعاقبة إحقاق ما قاله الله سبحانه على الكافرين أنه أقسم: {لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:119] فاستحق هؤلاء أن يحق عليهم قول رب العالمين سبحانه، وهناك معنى آخر في قوله: {وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} [يس:70] أي: لتجب حجة الله سبحانه وتعالى على هؤلاء الكافرين. فنزل القرآن وربنا أعلم أنهم لم يستجيبوا، ولكن ليحق القول عليهم، ليروا أن هذا جاءهم بموعظة من عند الله وأنهم كذبوا، فإذا أدخلهم النار لم تكن لهم حجة على الله سبحانه.

تفسر قوله تعالى: (أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما)

تفسر قوله تعالى: (أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً) قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} [يس:71]. (أولم يروا) هذه الرؤية القلبية، أي: أولم يعتقدوا فيما يرونه من آيات الله سبحانه التي ينظرون إليها، ويعتبروا بذلك ويتفكروا؟ هلا اعتبروا بذلك؟! قوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:71] أي: أبدعنا وأوجدنا، وخلقنا وصنعنا هذه الأشياء التي يرونها أمامهم: {أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} [يس:71] والله سبحانه خالق كل شيء بـ (كن) فيكون ما شاءه الله سبحانه تبارك وتعالى. والأنعام جمع نعم، والنعم تذكر وتؤنث، تقول: هذه بهيمة الأنعام، وهذا النعم، وهذه النعم، والأنعام تطلق على ثلاثة أشياء: على الإبل والبقر والغنم، فمما خلق الله عز وجل للعباد -وأكثر من يعايشون ذلك هم العرب- الإبل والبقر والغنم، فيرون خلق الله العظيم. {فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} [يس:71] يملكون هذه الأشياء، وإن كان الملك الحقيقي هو لله سبحانه وتعالى، ولكن جعلهم يملكونها ويتوارثونها، يشتريها بعضهم من بعض فيملك في هذه الدنيا.

تفسير قوله تعالى: (وذللناها لهم فمنها ركوبهم)

تفسير قوله تعالى: (وذللناها لهم فمنها ركوبهم) {وَذَلَّلْنَاهَا} [يس:72] أي: سخرناها لهم. {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس:72] الرَكوب غير الرُكوب، الرُكوب الفعل نفسه، والرَكوب: الدابة التي تركبها وهي فَعول بمعنى مفعول، أي: مركوبهم، فمنها ما يرَكبونه. {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس:72]، فيعدد عليهم النعم، هذه الأنعام لكم فيها منافع كثيرة، وذكر الله سبحانه: {مِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل:80] لكم فيها متاع، فتلبسون من جلودها وتصنعون منها الخيام والمتاع والريش. قال سبحانه: {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ} [يس:73] فينتفعون بما شاء الله عز وجل منها، ويشربون من ألبانها وأوداكها وشحومها. {أَفَلا يَشْكُرُونَ} [يس:73] هلا شكروا الله تبارك وتعالى على هذه النعم العظيمة التي سخرها لهم وذللها لهم؟ هذه الأنعام أقوى من الإنسان بكثير، فالجمل العظيم، والبقرة والثور الكبير أقوى من الإنسان، ومع ذلك جعل الله عز وجل قياده بيد هذا الإنسان، يأتي الصبي الصغير فيمسك بالجمل ويمشي به، ولعله يضرب الجمل حتى يجري، فسخر هذا الشيء الضخم الكبير لهذا الطفل الصغير، والله على كل شيء قدير سبحانه، آية من آيات الله تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون)

تفسير قوله تعالى: (واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون) {أَفَلا يَشْكُرُونَ} [يس:73] هلا شكروا الله سبحانه على نعمه العظيمة وتدبروا في ذلك؟! لا، لم يفعلوا، بل قد {اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً} [يس:74] فعبدوا غير الله سبحانه. ولماذا عبدوا غير الله؟ {لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ} [يس:74] يظنون أنهم ينتصرون بهؤلاء، فهذا جهل مطبق، وغباء عجيب في هؤلاء. عبدوا غير الله وهم يعلمون أن الذي خلق هذه البقرة هو الله، والذي خلق لنا هذا الطعام هو الله، من تعبدون؟ قالوا: نعبد هذه الأصنام ولا حول ولا قوة إلا بالله، لماذا يعبدونهم؟ قال: {لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ} [يس:74] فإذا حصلت بينهم حروب أتوا على شجرة يعبدونها من دون الله ويتبركون بها ويعلقون عليها أسيافهم؛ من أجل أن تأتي البركة في السيوف فيعرفوا كيف يقاتلون. ولذلك فإن بعض الصحابة ممن كان قريب عهد بالإسلام خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة، فإذا بهم يجدون الكفار يعلقون أسيافهم بشجرة، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، أي: اتخذ لنا شجرة نعلق عليها سيوفنا ونأخذ منها البركة مثل هؤلاء. قال: (الله أكبر، قلتم كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ)، وهل تؤخذ البركة إلا من الله تبارك وتعالى! فالمقصود: أن الإنسان الذي يكفر يتوجه إلى أشياء حقيرة مثله يطلب منها البركة والنصرة، فهؤلاء إذا خرجوا لقتال ذهبوا إلى أصنامهم يطلبون منها أن تنصرهم، وهم يعرفون أنهم هم الذين صنعوا هذه الأصنام.

تفسير قوله تعالى: (لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون)

تفسير قوله تعالى: (لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون) قال سبحانه: {لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} [يس:75] أين هذه الأشياء التي تنصرهم. {وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُحْضَرُونَ} [يس:75] (وهم) أي: المشركون، (لهم) لأصنامهم (جند محضرون) في الدنيا وفي الآخرة. الكفار يعتقدون أنهم هم المدافعون عن هذه الأصنام، والحراس لها، لا أحد يقدر أن يأتي إلى جنب الصنم، فسيقتلونه دفاعاً عن أصنامهم، فكأنهم يتشرفون بعبادة هذه الأشياء الحقيرة، فجندوا أنفسهم لها يعبدونها من دون الله، ويدافعون عنها، وعجيب هذا الأمر، وهل الإله يحتاج إلى من يدافع عنه؟! شيء مغلوط معكوس من هؤلاء الأغبياء، فيعبدونها لعلها تنصرهم، قال سبحانه: {لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُحْضَرُونَ} [يس:75] في الدنيا هؤلاء المشركون يعتقدون أنهم جنود هذه الآلهة ينصرونها ويدافعون عنها، ويحضرون عندها للدفاع عنها. فإذا جاءوا يوم القيامة كانوا أيضاً محضرين لهذه الآلهة، ففي صحيح البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر يوم القيامة في حديث طويل جداً، وفيه أن الله عز وجل يقول للخلق: (ألا يحب من كان يعبد شيئاً أن يتبعه الآن؟ فيقولون: بلى فيمثل لمن كان يعبد الشمس الشمس، ومن كان يعبد القمر القمر، ومن كان يعبد الطواغيت الطواغيت)، فعباد الشمس تمثل لهم يجرون وراءها إلى النار، وعباد القمر تمثل لهم القمر فيجرون وراءها إلى النار، وكذلك عباد الصليب من دون الله وعباد المسيح يمثل لهم شيطان على هيئته فيتبعونه إلى النار، وعباد عزيز يمثل لهم شيطان على هيئته فيتبعونه إلى النار! قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فيتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت)، يعني: الأصنام التي عبدوها من دون الله عز وجل تمثل لهم يوم القيامة، فيقال: هذه التي كنتم تعبدونها؟ يقولون: نعم هذه التي كنا نعبد، فيقال: اتبعوها، فيكونون كالجنود وراء قائدهم تهوي بهم في النار والعياذ بالله. فقول الله سبحانه: {وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُحْضَرُونَ} [يس:75] أي: في الموقف يوم القيامة، ومحضرون في نار جهنم والعياذ بالله.

تفسير قوله تعالى: (فلا يحزنك قولهم)

تفسير قوله تعالى: (فلا يحزنك قولهم) قال تعالى: {فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} [يس:76] يطمئن نبيه صلى الله عليه وسلم، أن لا تحزن على هؤلاء: {فَلا يَحْزُنْكَ} [يس:76] هذا من الفعل الثلاثي (حزن)، ويأتي من الفعل الرباعي (أحزن)، وقراءة نافع فيها (فلا يُحزِنك قولهم) بكسر الزاي. وهنا وقف لازم: {فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} [يس:76] أي: قولهم إنك ساحر وكاذب وكاهن، فلا تحزن من أقوالهم فقد قيل هذا القول عن الأنبياء من قبلك. {إِنَّا نَعْلَمُ} [يس:76] هذا استئناف كلام جديد، {مَا يُسِرُّونَ} [يس:76] ما يكتمون، {وَمَا يُعْلِنُونَ} [يس:76] يعني: هم وإن أعلنوا لك أنك كاذب فنحن نعلم أنهم في سرهم يعتقدون أنك صادق، ولكن الغيرة والحسد دفعهم إلى هذا الشيء: {إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [يس:76].

تفسير قوله تعالى: (أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة)

تفسير قوله تعالى: (أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة) قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس:77] الإنسان جنس يشمل أي إنسان، ولكن الآية نزلت في مكة على أسباب مخصوصة، فيقال في هذا: إنه من العموم الذي يراد به الخصوص، وقد يراد به عموم الناس. قالوا: هو عبد الله بن أبي بن سلول وقيل: بل هو العاص بن وائل السهمي وقيل: هو أبي بن خلف الجمحي، قالوا: أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم فقال: يا محمد! أترى أن الله يحيي هذا بعد ما رم؟! أي: هذه العظام البالية أتزعم أن ربك يبعثها مرة ثانية؟! فقال صلى الله عليه وسلم: (نعم. ويبعثك ثم يدخلك النار)، فالله سبحانه وتعالى أنزل هذه الآية في هذا السبب، وكونها نزلت في عبد الله بن أبي قول بعيد قليلاً وإن كان هذا قول ابن عباس رضي الله عنهما؛ لأن عبد الله بن أبي كان في المدينة، وهذه الآية مكية وليست مدنية. الغرض أن الله قال لمن قال ذلك ولغيره: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ} [يس:77] إذا أراد جنس الإنسان يكون عاماً {أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس:77] النطفة: الماء الذي ينطِف أو ينطُف، نطف الماء بمعنى: سال وخرج صافياً قل أو كثر، وقد تطلق النطفة أيضاً على الماء القليل، والمقصود به هنا المني. {أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ} [يس:77] من مني: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس:77]. (خصيم): مخاصم مجادل يجادل بالباطل. (مبين): مفصح عما يريد أن يقوله، فهو بين الخصومة والجدل، كما قال الله عز وجل عنهم: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:58] قوم كثيرو الجدل، كم أتعبوا النبي صلى الله عليه وسلم بجدالهم وبباطلهم!

تفسير قوله تعالى: (وضرب لنا مثلا ونسي خلقه)

تفسير قوله تعالى: (وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه) قال الله سبحانه: {وَضَرَبَ لَنَا} [يس:78] يعني: هذا الإنسان، {مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس:78] جاء بعظمة رأس إنسان يفتها في يده ويقول: هذا شيء قد أرم فكيف يعاد؟! {وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس:78] نسي كيف خلقناه. {قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78]. والرميم: البالي القديم العتيق. {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:79] قل لهذا الإنسان: الذي خلقها أول مرة أليس قادراً على إعادتها؟! {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:79]. {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]. كل خلقه الله عز وجل، فهو أعلم بهم، هو بدأهم ويميتهم ويعيدهم مرة ثانية، وهو على كل شيء قدير: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا} [يس:79] من العدم أول مرة {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:79].

تفسير قوله تعالى: (الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا)

تفسير قوله تعالى: (الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً) قال تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا} [يس:80] فجعل لهم آية، فقال: ألا تتعجبون عندما ترون الشيء ونقيضه؟! {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا} [يس:80] فهذه الأشجار التي بداخلها الماء، فإنه يطلع من الجذوع إلى الساق فيروي أوراق النبات وثماره. فالشجرة أكثر تكوينها الماء، فهذا الشجر المكون من الماء إذا أحرق يحترق، وأعجب منه أنه هو يأتي بالنار، ولذلك عند كان العرب مثل معروف يقول: (في كل شيء نار، واستمجد المرخ والعفار). ف هناك شجرتان من أشجار البوادي عند العرب، يأخذ الغصن الطري من الشجرة، ثم يأخذ غصناً من الأخرى فيضع واحداً فوق الآخر، ثم يضرب هذا على هذا فتخرج له ناراً، فقالت العرب: (واستمجد المرخ والعفار) أي: أنه احتوى من النار الكثير. فيقول: ألا تعجبون من هذه الأشياء التي خلقها الله عز وجل؟! هذا غصن طري في يدك بداخله ماء تضرب به على الغصن الآخر فتخرج لك منه نار؟! ألا تعجب من قدرة الله سبحانه: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس:80].

تفسير قوله تعالى: (أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم)

تفسير قوله تعالى: (أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم) قال تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [يس:81]. فهذا سؤال والجواب عنه معروف: بلى إنه سبحانه وتعالى على كل شيء قدير! {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ} [يس:81] الله الخالق العظيم، {بِقَادِرٍ} [يس:81] هذه قراءة الجمهور، وقرأها رويس عن يعقوب (يقدر). الله خالق كل شيء {إِنَّمَا أَمْرُهُ} [يس:82] في غاية السهولة، {إِذَا أَرَادَ شَيْئًا} [يس:82] إذا قضى أمراً أو أراد تكوين شيء، {أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ} [يس:82] بقول: (كن) فيكون الشيء الذي يريده الله تبارك وتعالى. {كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] هذه قراءة الجمهور بضم آخرها (فيكونُ) فيترتب على ذلك التكوين، ويقرؤها ابن عامر والكسائي (فيكونَ) كأن فيها (أن) محذوفة، فالتقدير (فأن يكون) يعني: هذا الشيء؛ ولذلك استحسنوا لمن يقرأ بقراءة الجمهور على الضم أنه يروم آخرها أو يشم آخرها يعني: يبين أن القراءة بالضم، خلاف القراءة الأخرى التي بالفتح. قال تعالى: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [يس:83] الملكوت: الملك العظيم. فسبحان الله: تنزيهاً لله تبارك وتعالى وتعظيماً وتقديساً لله الذي بيده الملكوت. والملكوت فعلوت صيغة مبالغة من الملك يعني: ملك عظيم، وملك الله سبحانه عظيم. (وإليه تُرجعون) هذه قراءة الجمهور، وقراءة يعقوب (وإليه تَرجعون) المرجع إلى الله سبحانه للجزاء والحساب، للجنة أو للنار، نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الصافات

تفسير سورة الصافات [1 - 4] لقد أنزل الله القرآن العظيم، وجعل فيه من العظمة ما يستهوي النفوس لسماعه، ومن أوجه هذه العظمة: أن الله قد يقسم في بدايات بعض السور بمخلوقاته العظيمة كالملائكة وغيرها، وقسم الله بالمخلوق حق له، فيقسم بما يشاء، ولا يقسم العبد إلا بالله، وقسم الله بالملائكة يدل على عظمتها، ومن صفاتها أنها تصف بين يدي الله لإجابة أمره، وتزجر عن القبيح بما ينزل الله معها إلى أنبيائه، وهي أيضاً تتلو كتب الله على أنبيائه وتدارسهم ما أنزل الله تعالى عليهم.

مقدمة بين يدي سورة الصافات

مقدمة بين يدي سورة الصافات الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الصافات: بسم الله الرحمن الرحيم {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا * إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ * رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ * إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات:1 - 10]. هذه هي السورة السابعة والثلاثون من كتاب الله سبحانه وتعالى، وهي سورة الصافات، وهي سورة من السور المكية في كتاب الله عز وجل، وفيها خصائص السور المكية كما سيأتي فيها. وسورة الصافات آياتها مائة وإحدى وثمانون آية على العد البصري وعد أبي جعفر، ومائة واثنان وثمانون آية على عد باقي القراء، وكما ذكرنا في غيرها من السور أن اختلاف القراء في عدد الآيات هو بحسب الوقف، أي: هل هذه رأس آية أم هي جزء من الآية، فبناء على ذلك يختلف العد، وليس المعنى أنه يوجد آية زائدة عن الآيات في العد الآخر، وإنما العد بحسب الوقف نفسه، ولذلك سيختلف القرَّاء هنا في الوقوف كما في الآية: {مِنْ كُلِّ جَانِبٍ} [الصافات:8]، يقف غير البصري على {دُحُورًا} [الصافات:9]، فوقف على كلمة {دُحُورًا} [الصافات:9]. كذلك في قوله سبحانه: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ} [الصافات:22]، يقف عليها على أنها رأس آية غير البصري {وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات:22 - 23]. كذلك قوله: {وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ} [الصافات:167] غير أبي جعفر يقف عليها، وأما أبو جعفر فيصلها بما بعدها. إذاً: الخلاف في عد الآي هو بسبب أين يقف، هل على رأس هذه الآية فيعتبر هذه رأس آية أم على جزء من الآية التي تليها ويعتبر ذلك الجزء آية؟

سبب تسمية السورة بهذا الإسم

سبب تسمية السورة بهذا الإسم سورة الصافات اسمها مأخوذ من بدء هذه السورة، وهو قول الله عز وجل: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} [الصافات:1]، أقسم الله عز وجل بالصافات، فسميت بسورة الصافات؛ لكون هذه الكلمة مذكورة فيها، وإن كانت هذه الكلمة مذكورة في سورة النور وفي سورة الملك، ولكن هناك ذكر الطير صافات، وهنا قصد الملائكة، وهذه السورة نزلت قبل سورة الملك، فسميت بسورة الصافات باعتبار أول آية فيها {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} [الصافات:1]. هذا باعتبار نزول السورة في ترتيب النزول، وأما في ترتيب نزولها من بين السور فهي السادسة والخمسون في ترتيب النزول، أما في ترتيب العد المصحفي فترتيبها في المصحف السابعة والثلاثون في العد، ولكنها السادسة والخمسون في النزول على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد نزلت هذه السورة بعد سورة الأنعام، وسورة الأنعام سورة مكية وهذه بعدها، وقبل سورة لقمان التي قدمنا ذكرها قبل ذلك.

أغراض السورة

أغراض السورة هذه السورة سورة مكية، ففيها أغراض السور المكية، وفيها الخصائص والميزات التي هي موجودة في السور المكية، والسور المدنية فيها التشريع فيأتي فيها الأحكام والأوامر والنواهي، والسور المكية فيها ترسيخ أمر العقيدة، وتوحيد الله سبحانه تبارك وتعالى في قلوب الخلق، ودفع الشرك عن الخلق، وبيان ما يعبدون من دون الله وأنها لا تنفع لا تضر، وبيان أن الإله الحق المستحق للعبادة هو الرب سبحانه تبارك وتعالى الذي يقدر على أن يخلق، وعلى أن يرزق ويدبر الكون سبحانه تبارك وتعالى. إذاً: هذه السورة الغرض منها إثبات وحدانية الله سبحانه تبارك وتعالى، وسوق الدلائل على تلك الآيات التي تدل على أنه وحده هو الذي يستحق العبادة، وأنه وحده المنفرد بالخلق وبتدبير الكون في العالم العلوي والعالم السفلي، بل في كل شيء قد انفرد بالخلق سبحانه، فله الخلق وله الأمر، فهو الذي يعبد وحده سبحانه تبارك وتعالى. وفيها أيضاً الإشارة إلى البعث والنشور وإثبات الحشر والجزاء يوم القيامة، وفيها وصف حال المشركين يوم الجزاء وكيف يفعلون وكيف يندمون على ما قصروا وما فرطوا في هذه الحياة الدنيا، وكيف يقع بعضهم في بعض، ويدعو بعضهم على بعض، ويلعن بعضهم بعضاً، وفيها وصف أحوال المؤمنين بأن الله سبحانه ينجيهم وأنه يدخلهم جنته سبحانه تبارك وتعالى. كذلك يذكر في هذه السورة حال المؤمنين وفرحهم بدخولهم الجنة، وكيف أنهم كما قال تعالى: {أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:27]، وكيف ذكر أحدهم {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} [الصافات:51 - 52]، وأنهم تكلموا وهم في الجنة، وأخبرنا الله عز وجل عن فرحهم وسرورهم وكلام بعضهم لبعض فيها، وكيف أن الله ثبتهم في هذه الدنيا وثبتهم يوم القيامة حتى أدخلهم الجنة. ثم انتقل إلى دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه، وأن الذي دعا إليه هو الذي دعت إليه الأنبياء والرسل قبله صلوات الله وسلامه عليه وأن الدعوة واحدة، والله عز وجل كما جعل لهؤلاء السابقين أعداء ونصرهم عليهم سبحانه تبارك وتعالى، وحقت كلمة الله سبحانه أن رسله هم المنصورون وأنهم هم الغالبون، كذلك يذكر لنبيه صلوات الله وسلامه عليه أنه سينصره سبحانه كما نصر هؤلاء السابقين. وكذلك ذكر الله هنا شيئاً من مناقب الأنبياء السابقين عليهم الصلاة والسلام، الذين دعوا إلى الله سبحانه تبارك وتعالى وخاصة إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فهو إمام الأنبياء، فذكر الله كيف أن إبراهيم هاجر إلى ربه سبحانه، {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات:99 - 101]، وذُكر في السورة قصة الذبيح؛ حتى نعلم كيف أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام استحق أن يكون خليل الرحمن بصبره على ابتلاء الله عز وجل له، وبتنفيذه جميع أوامر الله سبحانه، وبتقديمه ما يحب الله على ما يحبه هو عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. ثم ذكر الله المشركين وكيف أن اعتقاداتهم اعتقادات فاسدة، وأنهم كذبوا ربهم وتعجبوا مما لا يتعجب من مثله، كقولهم: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]، فيعجبون من غير أن يستدعي الأمر عجباً! وذكر الله أنهم كانوا يكذبون النبي صلى الله عليه وسلم وهذا القرآن العظيم، والله عز وجل يجيب ويرد عن نبيه صلى الله عليه وسلم ويعده بالنصر على هؤلاء الكافرين. وقد بدأ هذه السورة بقوله سبحانه تبارك وتعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} [الصافات:1]، فذكر ملائكة الله سبحانه تبارك وتعالى وختم هذه السورة بقوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِين ٍ} [الصافات:171 - 174]، وقوله تعالى: {وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ * سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:179 - 181] {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45]، فبدأ بذكر الملائكة، وانتهى بذكر رسل الله سبحانه، ونصر الله سبحانه لأنبيائه على الكفار.

تفسير قوله تعالى: (والصافات صفا)

تفسير قوله تعالى: (والصافات صفاً) قال الله تعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفّاً * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً} [الصافات:1 - 3] هذه أقسام يقسم بها الله عز وجل تناسب الحال، فقوله: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} تناسب عظمة الله سبحانه تبارك وتعالى. أي: الملائكة التي تصف أجنحتها وتقف صفوفاً بين يدي ربها سبحانه تبارك وتعالى، والملائكة خلق عظيم خلقهم الله عز وجل من نور، وجعل لهم قوة عظيمة جداً، فهم ملائكة الله الذين قال فيهم: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، ومنهم جبريل عليه السلام الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم على هيئته التي خلق عليها مرتين فقط، وخلقه يسد ما بين السماء والأرض وله ستمائة جناح، نزل على قرية واحدة فقلب هذه القرية على أهلها كما قال تعالى: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} [النجم:53 - 55]. ومن الملائكة خازن النار مالك الذي يناديه أهل النار {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77]، ومنهم ميكائيل الذي يأتي بالقطر ويسوق السحاب ويأتي بالمطر من السماء، والناس يسمعون صوت الرعد ويرون البرق فيصيبهم الفزع والهلع والخوف وما ذلك إلا من ملائكة الله الذين يجعل الله عز وجل في أيديهم ما يدبر به أمر خلقه سبحانه تبارك وتعالى. وأما إسرافيل فهو الذي ينفخ في الصور، فيميت الله عز وجل جميع الخلق بهذه النفخة، ثم يأمره أن ينفخ نفخة الإحياء فينفخ فيقوم الناس من قبورهم فزعين. والملائكة يسمعون ويطيعون ويعبدون الله سبحانه، مع قوتهم الهائلة فهم الصافون بين يدي الله سبحانه تبارك وتعالى، أي: يقفون صفوفاً بين يديه خائفين وجلين، فإذا سمع الملائكة الأمر من عند الله سبحانه خروا وضربوا بأجنحتهم خضعاناً لأمر الله سبحانه تبارك وتعالى، والملائكة هم الذين ذكرهم الله سبحانه تبارك وتعالى في قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} [فاطر:1]. فهؤلاء الملائكة الذين خلقهم الله سبحانه تبارك وتعالى، وصفهم هنا مقسماً بهم، والله يقسم بما يشاء، فهو يقسم بنفسه، وبصفاته سبحانه، ويقسم بالملائكة، ويقسم برسوله صلى الله عليه وسلم، فله أن يقسم بما يشاء، أما العبد فلا يجوز له أن يقسم إلا بالله سبحانه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)، فلا تحلف بغير الله. وقد ناسب ذكر الملائكة في أول هذه السورة وذلك لعظمتها، وذكر أنها تصف صفوفاً بين يدي الله عز وجل خاشعة قائمة بين يدي الله عز وجل، فمنهم القائم ومنهم الراكع ومنهم الساجد الذي يكون على هذه الهيئة حتى تقوم القيامة، فإذا قامت القيامة قاموا بين يدي الله عز وجل، وقالوا: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك.

التشبه في الصلاة بوقوف الملائكة عند ربهم

التشبه في الصلاة بوقوف الملائكة عند ربهم روى الإمام مسلم من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مالي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس؟! اسكنوا في الصلاة)، وذلك أنه رآهم يرفعون أيديهم في الصلاة فقال: مالك تحرك يديك مثل ذيل الخيل الشموس النفرة، فالحصان عندما ينفر يحرك ذيله شمالاً ويميناً، فهنا لا ينبغي للمسلم وهو يصلي أن يهز يديه أو يحركها، وبعضهم قبل السلام يحرك يديه شمالاً ويميناً، وهذا قد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر بالسكون فقال: (مالي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس، اسكنوا في الصلاة، ثم خرج علينا فرآنا حلقاً حلقاً فقال: مالي أراكم عزين؟ -أي: مالي أراكم متفرقين- فأمرهم أن يجتمعوا -أي: أن ينضم بعضهم إلى بعض-)، وذلك أنه أراد أن يكلمهم صلى الله عليه وسلم، فإذا كان كل واحد بعيداً من الآخر فكيف سيكلمهم؟ ولذا أمرهم أن يجتمع وينضم بعضهم لبعض. (فأمرهم أن يجتمعوا، ثم خرج علينا فقال: ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها) يعني: إذا قمتم في الصلاة فاقتدوا بملائكة الله عز وجل، (فقلنا: يا رسول الله! وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصفوف الأول ويتراصون في الصف). إذاً: ينبغي عند قيام المؤمنين في صلاتهم أن يتشبهوا بالملائكة في قيامهم بين يدي الله عز وجل، فلا ينبغي للمسلم إذا وجد فرجة في الصف أن يتركها، فتصبح مجموعة في الصف الأول ومجموعة في الصف الثاني، وهؤلاء في أول الجامع وهؤلاء يمينه وهؤلاء شماله! بل عليهم أن يقتدوا ويتشبهوا بملائكة الله عز وجل، فيصفون صفوفاً ويكملون الصف الأول، ثم الثاني، ثم الثالث وهكذا، قال صلى الله عليه وسلم عن الملائكة: (يتمون الصفوف الأول، ويتراصون في الصف).

تواضع الملائكة

تواضع الملائكة هذه الملائكة العظيمة التي تقف بين يدي الله سبحانه تبارك وتعالى، تتواضع للمؤمنين، وهي خلق عظيم من نور، وهي أفضل من بني آدم إلا من فضَّل الله عز وجل من بني آدم عليهم من أنبياء ورسل، فالملائكة أفضل في الجنس من بني آدم إلا من فضلهم الله سبحانه تبارك وتعالى. وتواضع الملائكة للمؤمنين ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما صنع) أي: أن طالب العلم الشرعي الذي يذهب ليتعلم القرآن، ويتعلم السنة، ويتعلم الفقه، ويتعلم دين الله عز وجل وأحكامه، فهذا الإنسان في خروجه من بيته إلى بيت الله عز وجل الملائكة تتواضع له وتفرح به، وتفرش له أجنحتها وتضع أجنحتها رضاً بما صنع طالب العلم. قال صلى الله عليه وسلم: (وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر). وأيضاً ملائكة الله سبحانه تبارك وتعالى إذا سمعوا أمر الله يحصل أنهم يعملون شيئاً، وهو ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كالسلسلة على صفوان ينفذهم ذلك)، والحديث في صحيح البخاري وفيه: (أن الملائكة إذا سمعت أمر الله تضرب بأجنحتها من الفزع) أي: من الخوف أن تقوم القيامة، أو أن يغضب الله، يخافون ذلك مع أن الله سبحانه جعلهم لا يعصون أبداً، ولكن الخوف من الله عز وجل، ومنزلتهم العالية عند ربهم سبحانه جعلتهم يخافون أن تضيع هذه المنزلة، فإذا سمعوا أمر الله ضربوا بأجنحتهم خضعاناً لأمره سبحانه تبارك وتعالى. إذاً بدأت هذه السورة بالقسم بملائكة الله: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} [الصافات:1 - 3]، والراجح من أقوال أهل التفسير: أن هذه الأقسام كلها بالملائكة فهي مناسبة بعضها لبعض.

دور الملائكة في النهي عن القبائح والمعاصي

دور الملائكة في النهي عن القبائح والمعاصي قال الله: {فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا} [الصافات:2] أي: أن الملائكة تنزل بآيات الله سبحانه تبارك وتعالى التي فيها الزجر عن المعاصي، وزجر العباد عن القبائح، فالملائكة تزجر بني آدم عن الوقوع في المعصية بما ينزلونه من عند الله سبحانه على العباد. {فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} [الصافات:2 - 3]، فالملائكة تزجر عن المعاصي، وقد يرسلها الله لتهلك أقواماً بسبب معاصيهم، وهذا زجر عن المعصية وعن قبائح الأمور. {فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} [الصافات:3] أي: أن الملائكة تتلو ذكر الله سبحانه، فهم يسبحون الله سبحانه، ومنهم من ينزل على الأنبياء بكتب الله يقرءون عليهم ويعلمونهم، كما نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم يتلو عليه ويعلمه، فيحفظ منه ويتعلم منه عليه الصلاة والسلام. {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} [الصافات:1 - 3]، وقد قرأ أبو عمرو هذه الآيات الثلاث بالإدغام، وأدغم التاء في الصاد في الآية الأولى، والتاء في الذال في الآية الثانية، والتاء في الذال في الآية الثالثة يعقوب بخلفه، وكذلك حمزة فهو يدغم، فإذا أدغم حمزة فيمد فيها، وإذا أدغم غيره جاز له أن يمد حركتين وأربع وست حركات، والقراءة بالإدغام: هي أن يلغي التاء ويقرأ الصاد مكانها، والقسم في الثلاث الآيات جوابه: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} [الصافات:4]، وهذا هو المقصود من إرسال الرسل، ومن إنزال الكتب، وهو بيان توحيد الله سبحانه، وأنه الذي يستحق العبادة وحده. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الصافات [1 - 7]

تفسير سورة الصافات [1 - 7] أقسم الله تعالى في أوائل سورة الصافات على إثبات ربوبيته من دون الأنداد التي اتخذها المشركون من دونه سبحانه، ثم دلل على ربوبيته بما جعل في هذا الكون من دلائل حكمته وأحديته وقيوميته، ولقد ظهرت في الآونة الأخيرة من بينات الإعجاز وبراهين الإيمان ما يزداد المؤمن به إيماناً، مصداقاً لقوله تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق).

دلالة قسم الله تبارك وتعالى على عظم المقسم عليه

دلالة قسم الله تبارك وتعالى على عظم المقسم عليه الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الصافات: بسم الله الرحمن الرحيم {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا * إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ * رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ * إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [الصافات:1 - 6]. سورة الصافات: هي السورة السابعة والثلاثون من كتاب الله عز وجل، وهي من السور المكية. يقسم الله عز وجل فيها بقوله: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} [الصافات:1 - 3]، والراجح: أنها الملائكة، فيقسم الله عز وجل بملائكته المتصفين بهذه الصفات. قال: (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) أي: تصف الملائكة عند ربها، ويقفون صفوفاً خاشعين بين يدي الله سبحانه تبارك وتعالى، فهي تصطف في عبادة الله، أو تصف أجنحتها خشوعاً لله سبحانه تبارك وتعالى. (فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا) أي: تنزل الملائكة بآيات الله سبحانه تبارك وتعالى التي تزجر بها بني آدم عن معاصيهم وعن قبائحهم، فملائكة الله تزجر العباد بما يأمرهم الله عز وجل به من زواجر وآيات من كتابه، أو بأن يرسل ملكاً من الملائكة ليعاقب الناس على ظلمهم وعلى معصيتهم لربهم. ومن معاني الزاجرات: سوق السحاب من مكان إلى مكان، فتزجر الملائكة السحاب وتسوقها بأمر الله سبحانه من مكان إلى مكان. (فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا) أي: التاليات القارئات لكتاب الله سبحانه تبارك وتعالى، فيقسم الله عز وجل بملائكته المتصفين بهذه الصفات، فهي تتلو كتاب الله كما كان جبريل ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم ويقرأ عليه القرآن فيتعلم النبي صلى الله عليه وسلم منه، وكذلك كانت الملائكة تنزل على الرسل قبل النبي صلى الله عليه وسلم لتتلو ذكر الله وآياته سبحانه تبارك وتعالى عليهم.

إثبات إيمان المشركين بتوحيد الربوبية

إثبات إيمان المشركين بتوحيد الربوبية ثم يأتي بعد هذا القسم الجواب وهو قول الله: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} [الصافات:4]، فأقسم الله بملائكته سبحانه على أن الإله الذي يستحق العبادة هو إله واحد لا شريك له سبحانه، فهو الإله المعبود، وهو الرب الصانع الخالق، {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة:7]، وهو المدبر الرزاق سبحانه تبارك وتعالى، فهذا هو الرب وهذا الإله، وقد كان المشركون يعتقدون أن الرب واحد، كما قال سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87]، فلا يوجد عندهم إشراك في ربوبية الله سبحانه، وأنه الذي يخلق ويرزق ويحيي ويميت، وأنه الذي ينفع ويضر، ولكنهم يعبدون آلهة من دون الله سبحانه تبارك وتعالى مع اعتقادهم أن الذي ينفع هو الرب الذي في السماء سبحانه تبارك وتعالى، ولكنهم عبدوا غير الله سبحانه بسبب الهوى؛ لأن كل إنسان لا يريد أن يستمع من غيره عندما يأمره ويقول له: لي إله، وإلهه يأمره بأن يأمره؛ ولأنه ليس أفضل منه في اعتقاده سبحانه، وهم يعتقدون بأنهم سيكونون مأمورين من قبله صلى الله عليه وسلم، فاستكبروا على الحق الذي جاءهم من عند الله سبحانه، وحالهم كما وصف الله سبحانه: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] أي: ألم يجد ربك غيرك ليبعثه؟ ولماذا لم يبعث أحداً غيرك أعظم أو أغنى أو أقوى منك كـ أبي جهل أو عروة الثقفي أو غيرهم؟ فبين الله سبحانه أن غيرتهم وحسدهم من النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي دفعهم إلى البعد عن دين الله سبحانه. فقال الله سبحانه: (إِنَّ إِلَهَكُمْ لَواحِد) يعني: الذي يستحق العبادة إله واحد سبحانه تبارك وتعالى، وهذا الذي تعجب منه المشركون ولا عجب فيه، فإذا كنتم تقولون: إن الرب الذي يخلق ويرزق وينفع ويضر رب واحد فلم لا تعبدون الرب الواحد سبحانه؟! وكيف تعبدون غيره ممن لا ينفع ولا يضر؟! وكيف يأتي أحدكم إلى الصنم وهو يعتقد أن الصنم لا ينفع ولا يضر ثم يقول له: اعمل لي كذا، وأعطني كذا، ويعبده من دون الله سبحانه تبارك وتعالى؟! أي عقل يدفعهم إلى ذلك؟! ولذلك قالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]، وكانت هذه مغالطة منهم لأنفسهم وغيرهم، فالإنسان إذا لم يعرف الرد على خصمه، لجأ إلى التحريف في الكلام كما هو الحال في هذه الآية، فيقولون: نحن نعبد الله مباشرة دون وسائط فلابد من الوسائط بيننا وبين الله سبحانه تبارك وتعالى، فنحن نعبد هذه الأصنام لكي تقربنا إلى الله عز وجل، وهي حجة سخيفة وغبية، بل عليه اللجوء إلى الله سبحانه دون وسائط، وعليه التقرب إليه والدعاء له سبحانه، ثم هذا الصنم الأصم الأبكم هل يصلح أن يكون واسطة بينك وبين الله سبحانه؟!

إنه فكر وقدر

إنه فكر وقدر ثم عندما يطوفون بالبيت كانوا يطوفون عراة ليس عليهم ثياب، إلا إذا كان من أهل مكة ومن الحمس الذين فيها فيحق له أن يعطيهم من ثيابه فيلبسونها، وهم يحتجون على صنيعهم هذا بأنهم عصاة مذنبون فلا يستطيعون عبادة الله بهذه الثياب الملوثة بالأقذار والمعاصي، والحق أن هذا كلام فارغ لا يعقل، ومع ذلك يصدق بعضهم بعضاً؛ لأن الكفر جمعهم، وجمعتهم كذلك عداوتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فهم مضطرون أن يصدق بعضهم بعضاً في الظاهر، كما زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم ساحر وكذاب مع أنهم في أنفسهم يعلمون أنه ليس بساحر أو كذاب، وقد كان أكثر من دافع عن النبي صلى الله عليه وسلم هو الوليد بن المغيرة، فقد قال لهم: أنا عرفت شعر العرب ونثرها، وعرفت لغة العرب، وعرفت كلام الكهنة والسحرة فلم أجده من هؤلاء، فاحتال عليه أبو جهل وقال له: لقد تركت قومك يجمعون لك المال، فقال: لماذا يجمعون لي المال؟ فقال: لأنهم يزعمون أنك تريد أن تتبع محمداً ليعطيك من المال؟! فإذا بالنعرة تأخذه، وأبو جهل يستغل الفرصة ويقول له: قل فيه شيئاً، وكان قد قال الوليد بن المغيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن القرآن العظيم: إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر، لما قال ذلك، فلما أثاره أبو جهل على النبي صلى الله عليه وسلم قال ما قاله، فيقول الله سبحانه ذاكراً صفة هذا الرجل: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر:18 - 24]، وهو الذي يقول: بأنه عرف كلام السحرة والكهنة، وهذا ليس بساحر أو كاهن، ثم في النهاية يقول مجاملة لقومه؛ لكي لا يقولوا عنه: إنه يريد أن يتبع النبي صلى الله عليه وسلم لكي يعطيه مالاً: (إن هذا إلا سحر يؤثر)! فالكفار يقولون بألسنتهم ما لا يعتقدونه في قلوبهم، وهم كذلك في كل زمان ومكان، وقد حذرنا الله من الكفار بقوله: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، فالله تعالى هو الذي خلقهم، وهو أعلم بما في نفوسهم، ومع ذلك يقع المسلمون ضحايا لتصديق هؤلاء الكفار فيما يكذبون وفيما يقولون عن دين الله سبحانه تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (رب السماوات والأرض وما بينهما)

تفسير قوله تعالى: (رب السماوات والأرض وما بينهما) قال تعالى: {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} [الصافات:5]. الرب: هو الخالق سبحانه، والرب: هو المالك الذي ملك المخلوقات ودبر أمرها. (وَمَا بَيْنَهُمَا) أي: كل شيء بين السماوات والأرض، فهو خالقه ومدبره. (وَرَبُّ الْمَشَارِقِ)، فهو رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق سبحانه وتعالى كذلك. وقد ذكر الله عز وجل المشارق هنا، وذكر أيضاً في كتابه المشرق والمغرب وكرر ذلك فقال لنا في سورة المزمل: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل:9]، وقال لنا في سورة الرحمن: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:17 - 18]، وقال لنا سبحانه: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ} [المعارج:40]، وهنا قال لنا: (وَرَبُّ الْمَشَارِقِ) سبحانه تبارك وتعالى. والحق أن القرآن كلام عظيم، وهو كلام رب العالمين لا يتناقض أبداً، ومن توهم فيه التناقض فإنما هو لقصر فهمه وتفكيره، لكن العلماء ينظرون في هذا القرآن العظيم فيجدونه بليغاً فصيحاً قوياً متيناً، والدليل على ذلك هذه الآيات العجيبة فمرة يقول: (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ)، ومرة يقول: (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ)، ومرة يقول: (بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ)، وكل هذا صحيح، فالمشرق: هو مكان الشروق، والمغرب: هو مكان الغروب، فهناك مشرق ومغرب. أما قوله: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن:17]، فإنك إذا تتبعت فصول السنة ومشرق الشمس في الشتاء في أقصر الأيام، ثم مشرق الشمس في الصيف في أطول الأيام، فستجد أن مشرقها في أطول يوم في السنة غير المشرق الذي تشرق فيه في أقصر يوم في السنة، فكأن المشرق مشرقان مختلفان ينبني عليهما طول اليوم والليل وقصرهما، فحسن إطلاق لفظ المشرق والمغرب بالمثنى في قوله تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن:17]. أما إطلاق لفظ الجمع في قوله تعالى: {بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} [المعارج:40]، فباعتبار أن ما بين أقصر الأيام وأطول الأيام تشرق الشمس كل يوم في زاوية معينة تطلع منها، وتغرب من زاوية أخرى ينبني عليها اختلاف الأيام في الطول والقصر في العام كله، فتشرق الشمس على مكان دون الآخر، فالأرض لها مشارق ومغارب، وللمجموعة الشمسية مشارق حولها، على كل كوكب من هذه الكواكب مشرق ومغرب تشرق فيه، فسبحان الله المدبر الحكيم! وقد اكتشف علماء الفلك هذه الحقيقية بعد أن جاءت في القرآن قبل مئات السنين، فتبارك الله رب العالمين، فإن الإنسان إذا تفكر في القرآن عرف الإتقان والإعجاز الذي فيه، وكيف أن الله يذكر المشرق والمغرب تارة بلفظ الإفراد وتارة بلفظ التثنية والجمع وهو يعلم العلة والحكمة في ذلك، فعندما يقول سبحانه في سورة المزمل: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل:9]، ناسب إفراد الله سبحانه تبارك وتعالى بالعبودية أن يذكر مشرقاً واحداً ومغرباً واحداً، وهو جنس لمكان الشروق والغروب. وفي سورة الرحمن يقول تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} [الرحمن:33]، يخاطب الاثنين، وهو يقول في كل السورة مخاطباً الإنس والجن: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا} [الرحمن:13]، فناسب أن يذكر المشرق والمغرب بلفظ المثنى فقال: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن:17]. وهنا يقول سبحانه: (رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا)، فلأنهما جمع قال: (وَرَبُّ الْمَشَارِقِ)، فجمع فناسب ذلك. وفي سورة المعارج يقول الله سبحانه: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ} [المعارج:40 - 41] أي: أمثال هذه المجموعات من الكفار والبشر الذين يكيدون للنبي صلى الله عليه وسلم، فناسب ذكر المشارق والمغارب باعتبار سياق الجمع. والحاصل: أننا نجد إعجاز القرآن في الحقائق العلمية التي لا تتناقض، وهي مع ذلك في سياق عظيم بديع يلائم الآيات السابقة واللاحقة في السورة التي يذكرها الله سبحانه تبارك وتعالى. ولذلك نقول: إن الذي يتأمل في هذا القرآن ويتعمق فيه يعرف قدر هذا الكلام العظيم الذي لا يدانيه كلام الإنس والجن لو اجتمعوا على أن يأتوا بمثله، فعندما تقرأ هذا القرآن العظيم الفصيح البليغ، وهذا السياق اللغوي الرصين المتين العظيم الجميل، تتعجب من وجوه إعجازه! وهذا من ذلك.

تفسير قوله تعالى: (إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب)

تفسير قوله تعالى: (إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب) قال سبحانه: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [الصافات:6] فيخبر الله سبحانه تبارك وتعالى عن السماء الدنيا، وهي أقرب السماء إلينا، وعدد السماوات سبع طباقاً بعضها فوق بعض، والأرض لا تساوي شيئاً بجوار هذه السماء العظيمة (والسماوات كلها بجوار كرسي الله عز وجل كحلقة في فلاة)، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك الكرسي بجوار عرش الله سبحانه تبارك وتعالى، وقد زين الله عز وجل السماء الدنيا بزينة وهي الكواكب. فخلق الله عز وجل النجوم زينة للسماء، وجعلها هداية للبشر يعرفون بها الطريق، فيعرف بها الشرق من الغرب، وكذلك دلالة النجم الفلاني على أن الطريق من هذا المكان، فجعل الله سبحانه تبارك وتعالى النجم هداية للناس كما قال: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16]، وهذه ثلاث فوائد خلقت من أجلها النجوم، فجعلها الله عز وجل زينة للسماء، وجعل منها ما يقذف ويرمى به الشياطين، وجعلها هداية للناس يعرفون بها الشرق والغرب والشمال والجنوب، ويعرفون الطريق بالنظر إليها، فمن ادعى فوق ذلك فقد ادعى ما ليس له به علم، ومن زعم أنه بالنجوم يعرف الأقدار فقد كذب على الله سبحانه تبارك وتعالى، وادعى غيباً لم يخبره به أحد، ووقع في الكفر بزعمه أنه يعلم شيئاً من الغيب. فقوله: (إِنَّا زَيَّنَّا) ذكر الله عز وجل هنا نون العظمة؛ لأن السماء بنجومها عظيمة جداً، ففيها الشهاب الثاقب وما يدل على عظمته، فعبر بـ (إِنَّا) سبحانه؛ دلالة على العظمة. وقوله: (بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ) هذه قراءة حفص عن عاصم وقراءة حمزة. وقرأها شعبة عن عاصم بفتح الباء: (بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبَ). وقرأها باقي القراء بكسر الباء دون تنوين: (بِزِينَةِ الْكَوَاكِبِ). ولكل وجه معنى، فمن قرأها: (بِزِينَةٍ) كما هي قراءة حفص وحمزة، (الْكَوَاكِبِ) فقال: بأن الزينة هي الكواكب، فجعلها بدلاً مما قبلها. ومن قرأها بقراءة شعبة عن عاصم: (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبَ)، جعلها منصوبة على المحل الذي قبلها، فكأنه قال: إنا زيناها زينة وبدل هذه الزينة قال: الكواكبَ، فهي معطوفة أو منصوبة على المحل الذي قبلها، أو بتقدير: أعني، (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ) أقصد وأعني: (الْكَوَاكِبَ) فهي مفعول على هذا الفعل المضمر، أو أنها بدل اشتمال من السماء. وباقي من القراء يقرءونها على الإضافة: (بِزِينَةِ الْكَوَاكِبِ) فيضيف الكواكب إلى الزينة. والحاصل: أن الله قد زين السماء الدنيا بهذه النجوم العظيمة التي يراها الإنسان على بعد بعيد جداً في السماء وهي صغيرة، فيظنها نقط في السماء وهي أكبر من الأرض بملايين المرات؛ لأن البعد الذي بيننا وبين السماء يصل إلى ملايين الكيلومترات، حتى إن شعاع النجم يستغرق للوصول إلى الأرض أربع سنين ضوئية، بينما تصل أشعة الشمس إلى الأرض خلال ثمان دقائق؛ ولذلك أقسم الله عز وجل بقوله: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:75]، وأنت تستطيع رؤية النجم وقد استغرق أربع سنوات ضوئية! فيقسم الله عز وجل بالموقع الذي كان فيه هذا النجم قبل أن يصل إليك، فهذا أمر عجيب وأعجب منه دقة التصوير القرآني لهذه الحقائق، ففيه دلالة باهرة على أنه كلام رب العالمين سبحانه تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (وحفظا من كل شيطان مارد)

تفسير قوله تعالى: (وحفظاًَ من كل شيطان مارد) ثم قال تعالى: {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} [الصافات:7] أي جعلنا هذه الكواكب تحفظ السماء من استراق الشياطين للسمع. قال: (شَيْطَانٍ مَارِدٍ) الشيطان المارد: هو العاتي الشديد الطاغي الذي خرج عن حدود أمثاله، والذي يريد أن يتسمع ويتصنت على أخبار السماء، فأراد أن يتعالى بعلمه لخبر السماء، فالله عز وجل عندها يقذفه بالشهاب الثاقب كما سيأتي في الآيات بعدها. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الصافات [6 - 12]

تفسير سورة الصافات [6 - 12] لقد زين الله سبحانه وتعالى السماء الدنيا بالنجوم والكواكب ليهتدي بها الإنسان في ظلمات البر والبحر؛ ولتكون رجوماً للشياطين الذين يسترقون السمع، وفي هذا دلالة على أن الأرض خلق السماوات والأرض أكبر من خلق هذا الإنسان الذي يستكبر ويعاند ويكابر ويتحدى الله عز وجل، فعجباً لهؤلاء الكافرين المستكبرين!

تفسير قوله تعالى: (إنا زينا السماء الدنيا)

تفسير قوله تعالى: (إنا زينا السماء الدنيا) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الصافات: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ * فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ * بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ * وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ * وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ * وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ * قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ} [الصافات:6 - 18]. في هذه الآيات من سورة الصافات يخبرنا الله سبحانه وتعالى كيف أنه زين السماء الدنيا بزينة الكواكب، قال: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [الصافات:6]، فالكواكب والنجوم زينة للسماء الدنيا، كذلك فيها رجوم للشياطين، كذلك بالنجم هم يهتدون، يهتدي العباد فيعرفون طرق سيرهم شمالاً من جنوب، وشرقاً من غرب، فيعرفون الشمال والجنوب، والشرق والغرب، عن طريق النظر إلى الكواكب، والنظر إلى النجوم. زين الله عز وجل السماء الدنيا بزينة الكواكب، وجعلها حفظاً من كل شيطان مارد، فيلقي بالكوكب الشاهب المحرق على الشيطان الذي يسترق السمع من السماء، وكانت الشياطين قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم تسترق السمع من السماء في طرقها، يسمعون ما يقول الملائكة بعضهم لبعض: إن الله قضى بأمر كذا وكذا، ويكون كذا وكذا في الأرض، فتأخذ الشياطين ما تسمعه من الملائكة وتنزل به إلى الأرض، وتلقيه إلى الكهان كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك. ففي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (إذا قضى الله الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كالسلسلة على صفوان، ينفذهم ذلك، ((وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)) [سبأ:23]). فالملائكة يأتيهم أمر الله عز وجل فيفزعون حين يسمعون ذلك خوفاً من الله سبحانه وتعالى، وتفزع الملائكة وتضرب بأجنحتها خضعاناً لأمر الله سبحانه وتعالى قال: (كالسلسلة على صفوان)، يسمع صوت عظيم جداً من ذلك، كضرب سلسلة على حجر أصم، ومعنى الصفوان: الحجر الأصم، ينفذهم ذلك، قال تعالى: {إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} [سبأ:23]، وفزع بمعنى: أزيل الفزع من قلوب الملائكة فيطمئنون ويسأل بعضهم بعضاً، ماذا قال ربكم؟ فيجيب من علم بأمر الله سبحانه، ويقول: الحق، ويقول: قال ربنا كذا وكذا، وأمر بكذا. فتسترق الشياطين السمع من السماء، واستراق السمع: من السرقة، بمعنى: يخطف السمع، يسمع ما يريد أن يأخذه قبل أن يحرقه الله سبحانه وتعالى، يسترق السمع من السماء، وينزل به إلى الأرض ليخبر غيره من شياطين الإنس والجن. فيقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث هنا: (ومسترق السمع هكذا واحد فوق آخر)، فوصف راوي الحديث أبو سفيان بيده وفرج بين أصابع يده اليمنى، نصبها، بعضها فوق بعض، (فربما أدرك الشهاب المستمع قبل أن يرمي به إلى صاحبه فيحرقه). إذاً: الشياطين تركب بعضها على بعض وأشار بيده هكذا، شيطان فوق شيطان، يركب بعضهم على بعض؛ حتى يتنصتوا إلى خبر السماء، ماذا تقول الملائكة، (ويسترقون) أي: يسرق الشيء الذي يصنعه، يخطفه وينزل به إلى الذي أسفل منه ويخبره أنه سيحصل كذا، وهذا يخبر الذي أسفل، والله يشاء ذلك، ويريد أن ينزل هذا الخبر إلى الأرض فتنة لأهل الأرض، ولكن الذي استرق السمع وسمع هذا الخبر، يرسل الله عز وجل عليه كوكباً شهاباً حارقاً فيحرقه، وقد يحرق الجميع سبحانه وتعالى، وقد يترك بعضهم يبلغ هذا الخبر إلى الأرض، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فربما أدرك الشهاب المستمع قبل أن يرمي به إلى صاحبه فيحرقه، وربما لم يدركه حتى يرمي به إلى الذي يليه، إلى الذي هو أسفل منه، حتى يلقوها إلى الأرض، فتلقى على فم الساحر والكاهن، فيكذب معها مائة كذبة). فالشيطان يحدث الساحر ويحدث الكاهن سيحصل كذا في يوم كذا، ويكذب فوقها مائة كذبة، والشيطان يكذب على الإنسان، والإنسان يكذب ويزيد فيها أيضاً ويخبر الناس، قال: (فيصدق فيقولون: ألم يخبرنا يوم كذا وكذا، ويكون كذا وكذا، فوجدناه حقاً للكلمة التي سمعت من السماء). هذا لفظ حديث البخاري، وروى البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: (سأل أناس النبي صلى الله عليه وسلم عن الكهان)، الكاهن: هو الذي يخبر بأخبار غيبية، فيكون بعضها كالذي حدث به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنهم ليسوا بشيء -إنهم كذابون- فقالوا: يا رسول الله، فإنهم يحدثون بالشيء يكون حقاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرقرها في أذن وليه كقرقرة الدجاجة فيخلطون فيه أكثر من مائة كذبة). ولو أن الكهان كل الأخبار التي يخبرون بها كانت كاذبة لم يصدقهم أحد، ولم يذهب أحد يستشيرهم في شيء، ولما احتجنا أن يقول لنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تصدقوا كاهناً ولا عرافاً) ولكن لابد أن يبتلى العبد بشيء، أن يصدق هذا الكاهن في شيء؛ ليكون فتنة للناس، والإنسان إذا عرف أن فلاناً كذب، كل كلامه كذب، ولكن متى يحتمل أن يصدق هذا الإنسان؟ لما يتكلم بكلام يظهر أنه حق وكلام آخر يكون فيه كذب. فالله عز وجل يجعل هؤلاء فتنة للناس، أن ينزل الخبر من السماء مع هذا الجني، مع هذا الشيطان فيقرقره في أذن وليه كقرقرة الدجاجة، يعني: ينزل الشيطان ويقرقر مثلما الدجاجة تقرقر، كذلك هو في أذن وليه، يحصل كذا ويحصل كذا، ويحصل كذا، فيكذب الشيطان على الإنسان، والإنسان يكذب فوق ما سمعه، فيحدث الناس بهذا الشيء، فإذا قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تأتوا الكاهن ولا تصدقوا العراف)، ننفذ ما أمرنا به صلى الله عليه وسلم، وننتهي عما نهانا عنه صلوات الله وسلامه عليه، حتى ولو رأينا منهم خبر صدق في يوم من الأيام، فالمفترض علينا أن لا نصدق أحداً يقول هذا، فإنه لا يعلم الغيب، وقد عرفنا أن الشيطان يلقي إلى الكاهن الخبر الصادق مع مائة من الأخبار الكاذبة. قال الله عز وجل: {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} [الصافات:7] يعني: حفظ الله عز وجل السماء من أن يدخلها، أي: يدخل من أبواب السماء، يدخل إلى السماء الدنيا والسماء الثانية والثالثة لا يدخلها، ممنوع الشيطان من ذلك، يسترق السمع تحت السماء فقط ويختلس، أما أنه يخترق السماء هذا لا يكون أبداً، قال: {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} [الصافات:7]، والمارد: المتمرد العاتي الطاغي، الذي جاوز حده. وقوله تعالى: {وَحِفْظًا} [الصافات:7] أي: حفظنا السماء وحفظنا أخبارها، {مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} [الصافات:7].

تفسير قوله تعالى: (لا يسمعون إلى الملأ الأعلى)

تفسير قوله تعالى: (لا يسمعون إلى الملأ الأعلى) قال الله تعالى: {لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى} [الصافات:8]، هذه فيها قراءتان: قراءة حفص عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف: {لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى} [الصافات:8]، وقراءة باقي القراء: (لا يَسْمَعون إلى الملإ الأعلى)، {لا يَسَّمَّعُونَ} [الصافات:8] أصلها: (لا يَتَسَمَّعون) وأدغمت، فالمعنى أنهم: منعوا من ذلك، والقراءة الأخرى: (لا يَسْمَعون) كأنهم يحاولون ولا يقدرون، هناك فرق بين معنى القراءتين. إذاً: قوله تعالى: {لا يَسَّمَّعُونَ} [الصافات:8] من كثرة ما أُلقي عليهم من الشهب فقطعوا الأمل من الاستماع إلى السماء. والقراءة الأخرى: (لا يَسْمَعُون): ما زالوا يحاولون ولكن مُنع عنهم ذلك، فكانت الشياطين قبل النبي صلى الله عليه وسلم الكثيرون منهم يصعدون إلى السماء ويسرقون أخبار السماء وينزلون إلى الأرض، ولكن لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم جُعلت الشهب تلقى عليهم من كل جانب، وقبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم كان يلقى عليهم الشهاب ويأذن الله عز وجل أن ينزل الشيء، ويريد سبحانه وتعالى ذلك ليبين الفرق قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وبعد مبعثه عليه الصلاة والسلام؛ لذلك تعجبت الشياطين لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم وكانت الشياطين تسترق السمع. أما وبعد بعثته عليه الصلاة والسلام وجدوا الأمر خلاف ذلك، فقالوا: حصل شيء في الأرض، إن الشهب تأتي من كل جانب، وكانوا يسمعون وينزلون بالخبر من قبل، أما الآن ليسوا قادرين على ذلك، فعرفوا أنه حصل شيء في الأرض وهو مبعث النبي صلوات الله وسلامه عليه. إذاً: {لا يَسَّمَّعُونَ} [الصافات:8] لا يقدرون على الاستماع، أو لا يفعلون ذلك من كثرة ما يصيبهم من الشهب التي تحرقهم. (ولا يَسْمَعون) فإن حاولوا الاستماع فلا يسمعون شيئاً من أخبار السماء، إلا أن يأذن الله عز وجل بشيء. وقوله تعالى: {إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى} [الصافات:8]، معناه: سكان السماء وأهلها من الملائكة، فالسماء الدنيا والتي تليها يسكن فيها ملائكة الله عز وجل وهم الملأ. وأصل الملأ: علية القوم، كما نقول: الملأ من القوم، وفي القرآن يذكر الله عز وجل الذين كذبوا المرسلين فينزل سبحانه: {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ} [الأعراف:60]، {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ} [الأعراف:109]، إذاً: الملأ: أعلى الناس، أصحاب المناصب في الدنيا، لكن الملأ من أهل السماء بمعنى: أهل العبادة وأهل الطاعة، ملائكة الله عز وجل الذين قربهم واصطفاهم وأعلى شأنهم وأمرهم سبحانه وتعالى، فهم الملأ حقيقة. قال: {لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ} [الصافات:8]. إذاً: الملأ الأعلى هم ملائكة السماء؛ لأنه هناك ملأ أعلى وهناك من هم دونهم، وملائكة الله عز وجل في كل مكان، في الأرض ملائكة، وبين السماء والأرض ملائكة، وفي السماء ملائكة، فكأن المقصد هنا: ملائكة السماء الذين يسمعون خبر الله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (دحورا ولهم عذاب واصب)

تفسير قوله تعالى: (دحوراً ولهم عذاب واصب) قال سبحانه: {دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِب} [الصافات:9] يعني: الشياطين، والمدحور بمعنى: المطرود، ودحوراً بمعنى: طرداً، يطردهم الله عز وجل طرداً بما يلقيه عليهم من الشهب في السماء. فقوله: (دحوراً) أي: مطرودين خاسئين، وقوله تعالى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} [الصافات:9] أي: يعذب الله عز وجل هؤلاء الشياطين بالعذاب الواصب، والواصب: بمعنى اللازم الموجع المؤلم، ولهم عذاب شديد من الله تبارك وتعالى، ملازماً لهم لا يُرفع عنهم، فهم في النار يوم القيامة، يعذبهم الله سبحانه ولا يخرجون منها أبداً. وقوله تعالى: {دُحُورًا} [الصافات:9] مدحورين مطرودين أذلة، ودحرت الإنسان، بمعنى: طردته بإذلالٍ، إذاً: طرد الشيء مع إذلال الذي تطرده، هو الدحر. قال تعالى: {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} [الصافات:10]، فاستثنى سبحانه وتعالى هؤلاء، من أنهم لا يسمعون، فلا يقدرون على السمع إلا من شاء الله عز وجل أن يسمع شيئاً، يخطف الخطفة فيسرق شيئاً يقدر عليه مما سمعه، ويهبط بهذا الشيء إلى الأرض على هذه الهيئة، هيئة الخطف، فقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ خَطِفَ} [الصافات:10] أي: الأخذ السريع للشيء خلساً، ويهوي به إلى الأرض، ولذلك قال تعالى: {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات:10]، خطف الشيطان خطفة، سمع شيئاً من خبر السماء وأراد أن ينزل به إلى الأرض فيأتيه الشهاب فيحرقه، وهنا تظهر إرادة الله سبحانه، إذ أراد الشيطان أن ينزل هذا الخبر إلى أهل الأرض فتنة لهم، فإذا لم يرد الله عز وجل أن ينزل ذلك يحرقه الشهاب قبل أن ينزل إلى الأرض بهذا الخبر.

تفسير قوله تعالى: (فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا)

تفسير قوله تعالى: (فاستفتهم أهم أشد خلقاً أم من خلقنا) قال الله سبحانه تبارك وتعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا} [الصافات:11] يعني: اسألهم. وقراءة الجمهور: {فَاسْتَفْتِهِمْ} [الصافات:11] وقراءة ورش عن يعقوب: (فاستفتهُم). قوله تعالى: {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا} [الصافات:11] أي: من أقوى، هل هم هؤلاء الإنس، الذين هم ضعفاء في الحقيقة، أم من خلقنا؟ وقال الله عز وجل: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [النازعات:27 - 33]، من أشد خلقاً أنتم أم هذه السماء وما فيها من نجوم؟ فهل تستطيعون أن تصعدوا إلى السماء؟ وهل تستطيعون أن تغيروا مسار كوكب من الكواكب التي أراد الله عز وجل أن يسيرها على هذا المسار المحدد؟ كذلك هنا يقول: فاستفتِ هؤلاء المجرمين، أي: اسألهم هؤلاء الكذابين {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ} [الصافات:11]. وقد خلق الله عز وجل السماوات وأحكم خلقها سبحانه وتعالى، واعترف الكفار واعترف الخلق بقوة هذه السماء وشدتها، وكذلك الأرض وكذلك الجبال، فقال سبحانه: {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ} [الصافات:11] هؤلاء الضعفاء {مِنْ طِينٍ لازِبٍ} [الصافات:11] اللزوب بمعنى: اللصوق، أي: طين لاصق، تراب عليه ماء، فعندما تضع يدك عليه يلصق الطين فيها، فالإنسان خلق من صلصال، هذا الصلصال له صلصلة من ماء آسن منتن متغير، فالإنسان مخلوق من طين، {مِنْ طِينٍ لازِبٍ} [الصافات:11] أي: يلصق بعضه ببعض، والكفار كما في هذه الآية أعجبتهم قوتهم، وقالوا عن أنفسهم أنهم قادرون على أشياء كثيرة، وما كان ذلك إلا غباء من هؤلاء الكفار؛ ولذلك يقول الله تعالى عن هذا الإنسان: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ * يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا * أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ * أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:5 - 10]. أليس الله أعطاه ذلك؟! وبعد ذلك يتكبر على خالقه سبحانه وتعالى! قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ * أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} [البلد:4 - 5]، هذه الآية نزلت في رجل من الكفار، كان معجباً بقوته وعضلاته، وكان يرى نفسه أنه قادر على أي حال، واسمه أبو الأشدين، رجل من الكفار أعطاه الله عز وجل قوة، يتكبر بها على غيره، قالوا: كان هذا الرجل شديد البطش، شديد القوة، وهو رجل من بني جمح أبو الأشدين الجمحي، وكانوا يأتونه بالأديم العكاظي، وهي قطعة من جلد شديدة يقف عليها هذا الإنسان، ولفرط قوته وجبروته يقول لهم: شدوها من تحت رجلي، فيشدونها من تحت رجليه فلا يستطيعون، فيتمزق هذا الأديم! فيتعجب من قوته، فصار هذا الإنسان يستكبر على الخلق، ويستكبر على الخالق سبحانه وتعالى، ونزل فيه قوله سبحانه وتعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ * أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} [البلد:4 - 5]، يقول كاذباً: {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا} [البلد:6]، يقول محدثاً الناس: أنا أنفقت في عداوة محمد صلوات الله وسلامه عليه مالاً عظيماً وهو كذاب في ذلك، فالله أعطاه قوة، وأعطاه مالاً، وهذا الرجل لما أنزل الله سبحانه وتعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:30]، إذا بهذا الرجل ومثله أبو جهل لعنة الله عليهما يقولان: تسعة عشر! فيقولون أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمهاتكم، اسمعوا من ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة جهنم تسعة عشر وأنتم الدهم العدد، لا تقدرون عليهم فيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم؟! أي: طالما هم تسعة عشر ملكاً على النار ألا يستطيع كل عشرة منكم أن يمسكوا ملكاً من الملائكة ويحبسوه ويمنعوه فلا ندخل النار، يقول ذلك وهو يعلم في نفسه أنه كذاب هو وأمثاله، لما كانوا يسيرون في الصحراء ويظهر لهم جني من الجن يزعجهم فيخافون ويرتعبون ويرجعون ويقولون: نعوذ برب هذا الوادي، يخافون من الجن، ويخافون من الشياطين، ومع ذلك يظهرون هذا الاستكبار وأنهم يقدرون على ملائكة الله سبحانه وتعالى! ويقول أبو الأسود بن كلدة الجمحي: لا يهولنكم تسعة عشر، أنا أدفع بمنكبي الأيمن عشرة وبالأيسر تسعة! وهذا إنسان أحمق غبي لا يفكر فيما يقول، لكن الحقيقة أنهم يتسلون بكفرهم الذي هم فيه. وفي رواية أخرى يقول: أنا أكفيكم سبعة عشر واكفوني اثنين، أنا عليّ سبعة عشر ملكاً آخذهم وأمنعهم وأنتم عليكم اثنين. وقال أبو جهل: أفيعجز كل مائة منكم أن يبطشوا بواحد منهم ثم تخرجون من النار؟ فأنزل الله عز وجل: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [المدثر:31]، نفتنهم بذلك حتى يقولوا ما لا يعلمون، يقولون: إنهم يمتنعون من دخول النار، وأحدهم يقول: أنا أضع يديّ على النار وأمنع دخول الناس فيها، ونعمل الذي نريده على هذه الدنيا.

تفسير قوله تعالى: (بل عجبت ويسخرون)

تفسير قوله تعالى: (بل عجبت ويسخرون) قال الله سبحانه عن هؤلاء: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} [الصافات:12] مما تقوله لهم، وتذكرهم به. فقراءة الجمهور: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} [الصافات:12]، وقراءة حمزة والكسائي وخلف: (بل عجبتُ ويسخرون) فالله عز وجل يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: تعجب من أمر هؤلاء، والله عز وجل يقول: وأنا أعجب لهؤلاء، والعجب من المخلوق، غير العجب من الله سبحانه وتعالى، العجب من المخلوق أن يندهش لشيء، ويتعجب الإنسان من إنسان آخر كيف يصنع ذلك؟! وكيف يصبر الله عز وجل على مثل هذا الإنسان؟! أما تعجب الله سبحانه إما أن يكون من كفر إنسان وصبر الله سبحانه وتعالى عليه، فهذا الإنسان يستحق أن يعاقب عقوبة شديدة، ولكن الله سبحانه وتعالى يعجب وهو أعلم سبحانه وتعالى، أن هذا مصيره إلى النار، فيعجب مما يصنعه هذا الإنسان، وقد يعجب من إنسان يفعل شيئاً طيباً وهو إنسان، والله يعجب ويضحك ويفعل ما يشاء سبحانه، فنؤمن بصفة الله على النحو الذي يليق به سبحانه وتعالى، فنقول: يعجب مع كمال علمه سبحانه وتعالى. إذاً: الفعل من الله عز وجل له معنى يليق به سبحانه وتعالى، والفعل من العبد على المعنى الذي يكون لهذا العبد، ولا نقول: يشبه الله المخلوقين في ذلك، حاشا له سبحانه، ولكن يضحك كما يشاء سبحانه، وهي صفة جلال وكمال لله، كذلك يعجب كما يشاء سبحانه، وهي صفة جلال وكمال لله، وكما قال هنا: (بل عجبتُ ويسخرون) أي: عجبت من أمر هؤلاء الكفار، كيف يسخرون مع قرب عذابهم الذي يأتيهم من الله سبحانه، كيف أنهم يستكبرون على الله سبحانه مع ضعفهم! عجبتُ لأمرهم، وفي العكس من ذلك في تعجب الله سبحانه وتعالى من الإنسان الصالح والإنسان الطيب، جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يعجب ربك من راعي غنم، في رأس شظية جبل، يؤذن للصلاة ويصلي فيقول الله عز وجل: انظروا إلى عبدي هذا يؤذن ويقيم الصلاة، يخاف مني! قد غفرت لعبدي). فالله عز وجل يعجب لهذا الإنسان الذي هو في رأس جبل، ومع ذلك إذا جاء وقت الصلاة قام يؤذن وأقام الصلاة، مع أنه يعلم أنه لا أحد يأتيه في هذا المكان، ولكن خوفه من الله وحبه لله سبحانه جعله يؤذن في مكان لا أحد يأتي إليه فيه، أذن وأقام وصلى، فعجبت ملائكته من ذلك، وعجب الله عز وجل لأمره، فإذا عجب الله من مثل هذا أثابه سبحانه وتعالى، وإذا عجب من مثل هؤلاء الكفار عاقبهم سبحانه بعقوبته. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الصافات [12 - 40]

تفسير سورة الصافات [12 - 40] ذكر الله في هذه الآيات استكبار الكفار عن الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم واستبعادهم للبعث يوم القيامة، ثم ذكر حالهم يوم القيامة حين يرون ما كانوا ينكرونه، فيتبرأ بعضهم من بعض، ويشترك في العذاب القادة والأتباع، جزاء تكذيبهم وكفرهم وإعراضهم عن قول كلمة التوحيد والإخلاص.

تفسير قوله تعالى: (بل عجبت ويسخرون)

تفسير قوله تعالى: (بل عجبت ويسخرون) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الصافات: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ * وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ * وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ * وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ * قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ * فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ * وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ * هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات:12 - 26]. يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات من سورة الصافات عن حال الكفار في الدنيا ويوم القيامة كيف أنهم في الدنيا استكبروا فكان نتيجة هذا الاستكبار الذل والصغار يوم القيامة بين يدي الله الواحد القهار سبحانه وتعالى، لقد كانوا مستكبرين، متعززين، يظنون أنهم جميع منتصر، فلما جاءوا يوم القيامة جاءوا فرادى {بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات:26]. أي: لقد كانوا في الدنيا ينصر بعضهم بعضاً، وفي الآخرة يتبرأ بعضهم من بعض، ويتهم بعضهم بعضاً، وانظر إلى الآيات كيف قال الله سبحانه؟ وكيف عجب نبيه صلوات الله وسلامه عليه! {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} [الصافات:12] أي: يا محمد عجبت لكفرهم وتكذيبهم مع معرفتهم بالحق الذي جئت به، ومع عدم قدرتهم على الإتيان بشيء من مثل هذا القرآن العظيم الذي جئت به، وهذه قراءة الجمهور كما ذكرنا قبل ذلك وقراءة حمزة والكسائي وخلف {بَلْ عَجِبْتُ} أي: أن الله عز وجل يعجب حيث يقع فعلهم هذا عنده موقعاً شنيعاً منكراً فيعجب سبحانه من كفر هؤلاء الكفار وفعلهم مع النبي صلى الله عليه وسلم فيجازيهم بما نسمع بعد ذلك. {وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ} [الصافات:13] أي: لا يذكرون الله، ولا يذكرون هذه الآيات، فهم غافلون عما جاءهم من آيات من كتاب الله، وعما يرون أمامهم من معجزات على يد النبي صلوات الله وسلامه عليه، {وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ} [الصافات:14] أي: هم يسخرون، ويدعون بعضهم بعضاً للسخرية بالنبي صلى الله عليه وسلم، والسين هنا من الاستفعال وهو الاستدعاء يعني: يناجي بعضهم بعضاً تعالوا استهزءوا وتعالوا اسخروا مما يقول هذا الرسول.

تفسير قوله تعالى: (وقالوا إن هذا إلا سحر مبين)

تفسير قوله تعالى: (وقالوا إن هذا إلا سحر مبين) قال الله تعالى: {وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الصافات:15] أي: مهما رأوا من آية ومعجزة من معجزاته عليه الصلاة والسلام قالوا: هذا سحر تخييل، وخداع، واضح بين. {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الصافات:16] أي: هو يريد أن يخدعنا ويقول لنا: إذا متنا وكنا تراباً وعظاماً إننا سنعود إلى الحياة من جديد، وكما ذكرنا في الحديث السابق {مِتْنَا} [الصافات:16]، قراءة نافع وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف وباقي القراء يقرءونها. (مُِتْنَا) فهل نبعث مرة ثانية ونخرج من قبورنا ((أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ} [الصافات:17]، وأين آباؤنا الأولون لقد ذهبوا فلم نراهم خرجوا أمامنا ولا أجدادنا ولا من قبلهم؟ فهل نبعث نحن وهؤلاء؟ فكذبوا بالشيء الذي لم يروه أمامهم وكأنهم يريدون أن يروا إنساناً يحيا أمامهم حتى يصدقوا ببعث يوم القيامة! ويوم القيامة غيب، وإحياء الموتى إخبار بغيب يكون بعد ذلك، والمؤمنون الذين يؤمنون بالغيب يؤمنون بالله ولم يروه ويؤمنون بالجنة والنار ولم يروهما، يؤمنون بالموقف بين يدي الله عز وجل يوم القيامة ولم يروا ذلك فإذا جاء هذا الغيب، وصار واقعاً مشاهداً لا ينفع نفساً إيمانها حينئذ. قال الله عز وجل آمراً نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم {قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ} [الصافات:18] أي: تبعثون يوم القيامة، وهذه قراءة الجمهور وقراءة الكسائي (نِعم) كما قدمنا، {قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ} [الصافات:18] أي: صاغرون أذلة. {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ} [الصافات:19]، الزجرة: الصيحة وهي النفخة الثانية، لأن النفخة الأولى: ينفخ إسرافيل في الصور فإذا بالخلق كلهم هامدين يميتهم الله سبحانه وتعالى، فينفخ النفخة الثانية فيبعثون من القبور ويقفون بين يدي الله سبحانه {فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ} [الصافات:19] أي: ما الذي يكون، وينظر بعضهم إلى بعض، وينتظرون ما الذي يحدث لهم في هذا الموقف، ويقولون كما قال سبحانه: {وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ} [الصافات:20] أي: يا هلاكنا، هذا اليوم يوم الجزاء الذي كذبنا به قبل ذلك، يا ليتنا نموت الآن، يدعون على أنفسهم بالهلاك في هذا اليوم يوم الجزاء والحساب. {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ} [الصافات:21] أي: الحكم الذي يفصل فيه بين الحق والباطل بين المحقين والمبطلين بين أهل الكفر وأهل الإيمان، فريق في الجنة وفريق في السعير {الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [الصافات:21]. {احْشُرُوا} [الصافات:22] أي: اجمعوا {الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الصافات:22] أي: المشركين بالله سبحانه بعضهم إلى بعض {وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات:22]، ومن كان مشابهاً لهم فاجمعوا كل مجموعة من هؤلاء على صفة واحدة: المشركون القتلة السراق الفجار، كل مجموعة يشبه بعضهم بعضاً فادفعوهم إلى النار والعياذ بالله. والأزواج تطلق على المشاكلين أي المشابهين وتطلق: على الأصناف والأنواع التي بعضها مثل بعض، وكذلك على القرناء، فالإنسان وقرينه من الشياطين يحشران معاً إلى النار، وكذلك الزوج والزوجة إذا كانا يتعاونان على الشر والعياذ بالله. قال: {وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات:22 - 23]، دلوهم على طريق الجحيم والعياذ بالله، والصراط: الطريق {وَقِفُوهُمْ} [الصافات:24] أي: بين يدي الله عز وجل {إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات:24]، سؤال المناقشة، والتبكيت، والتوبيخ، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من نوقش الحساب عذب) أي: الذي يناقشه الله سبحانه الحساب هالك لا محالة، وأما من يعرض عليه حسابه وصحيفة أعماله فالله عز وجل يتغمده برحمته سبحانه، وفرق بين من يناقش ومن يعرض عليه صحيفة العمل. {مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ} [الصافات:25] أي: عجباً لأمركم كنتم تتعجبون في الدنيا، وينصر بعضكم بعضاً، وتقولون نحن جميع منتصر، أين هذا الجمع؟ ولم لا ينصر بعضكم بعضاً؟ أين هذا الذي سيدفع باب النار بمنكبيه حتى يخرج أهل النار منها ويمنع دخول الكفار؟! {بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات:26] أي: اضرب عن هذا فيوم القيامة لا يوجد فيه أن ينصر بعضهم بعضاً، أو يدفع بعضهم عن بعض {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]، كل خليل عدو لخليله يوم القيامة إلا من اتقى الله سبحانه وتعالى. فهم اليوم قد استسلموا لهذا الواقع الذي هم فيه واستسلموا لربهم سبحانه واستسلموا لملائكة الله يعذبونهم.

تفسير قوله تعالى: (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون)

تفسير قوله تعالى: (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) قال الله تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:27] أي: في النار والعياذ بالله، {يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:27] أي: يتلاومون، ويتصايحون ويسب بعضهم بعضاً، ويدعو بعضهم على بعض، وكل إنسان ينسب إلى غيره الذي صنع. قال بعضهم لبعض {قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} [الصافات:28] أي: قال الأتباع لكبرائهم الذين اتبعوهم في هذه الدنيا: {إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} [الصافات:28]، واليمين فيه اليمن والبركة، والشمال كانوا يتشاءمون منه فقالوا: {كُنتُمْ تَأْتُونَنَا} [الصافات:28] أي: من الجهة التي نحبها {عَنِ الْيَمِينِ} [الصافات:28]، من طريق الدين فزينتم لنا الدنيا ودفعتمونا عن الدين العظيم، فلم ندر ما هو الدين ولم نتبع النبي صلى الله عليه وسلم. واليمين أيضاً تطلق على القوة {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} [الصافات:93] أي: كنتم أقوى منا، وكنا ضعفاء فأتيتمونا من جهة الدين فصرفتمونا عن الدين، وأتيتمونا من جهة القوة فغلبتمونا وقهرتمونا، وأتيتمونا باليمين فأقسمتم لنا وحلفتم أنكم تنصروننا، وأنكم على الحق، وأنه ساحر كاذب، فخدعتمونا في الدنيا، ونهيتمونا عن شريعة ربنا سبحانه وتعالى، وصرفتمونا عن الخير إلى الشر. فيرد الكبراء على هؤلاء: {قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الصافات:29] أي: أنتم لم تكونوا مؤمنين أصلاً حتى تزعموا أننا صرفناكم عن الهدى والدين، وأسر الكبراء الندامة في أنفسهم قال تعالى: {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} [يونس:54]. {وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [الصافات:30] أي: لم تكن معنا حجة ندعوكم إليها وإنما مجرد أن دعوناكم اتبعتمونا، {بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ} [الصافات:30]، والطاغي: هو الذي جاوز حده، {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ} [الحاقة:11] أي: جاوز حده فلم يقدروا على منعه، وكذلك الإنسان الطاغي هو الذي جاوز حده ولم يقدر أحد أن يمنعه عما يقوله، أو يقع فيه من الكفر بالله سبحانه وتعالى. {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ} [الصافات:31]، (قول ربنا) أي: كلمته. (إنا لذائقون) أي: كنا داخلون في العذاب والعياذ بالله. قال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173]، فالله سبحانه سبقت كلمته، وحقت كلمته أن على المؤمنين ينصرهم و {حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر:71]. فالله سبحانه وتعالى قضى أن يملأ جهنم من الجنة والناس أجمعين، وقضى سبحانه أن يعذب أهل الكفر وأهل الفجور وأهل المعاصي فقال: {لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:119]، فاحتج هؤلاء يوم القيامة وقالوا قدرنا أن {حَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ * فَأَغْوَيْنَاكُمْ} [الصافات:31 - 32] أي: صرفناكم عن الرشد إلى الغي، وأضللناكم، وخدعناكم عن الإيمان، {إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ} [الصافات:32] أي: إنا كنا ضالين فأضللناكم وصرفناكم عن طريق الله سبحانه. يقول الله سبحانه: {فَإِنَّهُمْ} [الصافات:33] أي: الأتباع والمتبوعون، {يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الصافات:33] أي: العذاب مقسم عليهم فكل إنسان يأخذ نصيبه مما استحق من غضب الله جزاء وفاقاً. قال سبحانه: {إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} [الصافات:34] أي: إن كل من أجرم وعصى ربه سبحانه وخرج عن طريق الله سبحانه وأشرك به وكفر يستحق هذه العقوبة.

تفسير قوله تعالى: (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون)

تفسير قوله تعالى: (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون) قال الله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:35]، {إِنَّهُمْ} [الصافات:35]، تعليلية أي: إنما استحقوا هذا العذاب العظيم لكونهم {كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:35]، أي: كانوا إذا دعوا إلى الله سبحانه وقيل لهم: قولوا لا إله إلا الله فقد قالها النبي صلى الله عليه وسلم للكفار: (قولوا كلمة واحدة تملكون بها العرب والعجم، ويكن لكم في ذلك خير الدنيا والآخرة)، وقالها لعمه أبي طالب: (يا عمي! قل كلمة واحدة، قل لا إله إلا الله)، فاستكبروا وقالوا عنه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]، فتعجبوا من كون النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى عبادة الله وحده، واستكبروا وقالوا كما قال الله سبحانه عنهم: {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات:36] أي: نحن نصدق هذا الشاعر؟! وهم يعرفون أنه ما نطق بالشعر قط، لكن لما جاء التكذيب قالوا بما يعلمون أنهم يكذبون فيه، فرموه بأنه شاعر، وبأنه مجنون، ورموه بالسحر والكهانة، قال الله سبحانه: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:37] أي: بل جاءكم بالقرآن العظيم والشريعة العظيمة من عند رب العالمين، {وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:37] أي: جاء بما جاء به المرسلون قبله فقد جاءوا بالتوحيد: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون:32]، فكل أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام قد جاءوا بلا إله إلا الله، ودعوا إليها جميع الخلق، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يأت بشيء جديد وإنما جاء بتصديق هؤلاء المرسلين بتوحيد الله سبحانه وتعالى. قال سبحانه لهؤلاء الكفار: {إِنَّكُمْ لَذَائِقُوا الْعَذَابِ الأَلِيمِ} [الصافات:38] أي: إننا سنذيقكم العذاب الأليم الموجع. {وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الصافات:39]، أي: وإنما جازيناكم على أعمالكم، وتفريطكم، وتقصيركم، وإجرامكم {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات:40]، واستثنى الله سبحانه وتعالى عباده المخلصين: المؤمنين الذين أخلصوا لله سبحانه، فجعلهم أهل السعادة، وجعلهم في جنته يوم القيامة. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عباده المخلصين المقربين.

تفسير سورة الصافات [19 - 50]

تفسير سورة الصافات [19 - 50] من رحمة الله بعباده أن وصف لهم في كتابه اليوم الآخر وما فيه من الأهوال والسؤال، ليستعدوا له بالأعمال الصالحة، ووصف لهم الجنة ليتنافسوا فيها، فلمثلها فليعمل العاملون.

تفسير قوله تعالى: (احشروا الذين ظلموا)

تفسير قوله تعالى: (احشروا الذين ظلموا) قال الله عز وجل في سورة الصافات: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ * وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ * قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ * فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ * فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ * فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} [الصافات:22 - 34]. يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن أحوال يوم القيامة، وما يكون فيها من ذهاب الكفار إلى الجحيم، وذهاب المؤمنين إلى جنات النعيم، فقال الله عز وجل هنا: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} [الصافات:19] نفخة واحدة ينفخ بها في الصور {فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ} [الصافات:19] أي: يقومون يوم القيامة من قبورهم ينظرون وينتظرون ما الذي يفعل بهم. وقال هؤلاء المجرمون والكفار والفجار: {يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ} [الصافات:20] أي: يوم الحساب والجزاء. فيقال لهم: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [الصافات:21] أي هذا يوم الحكم الذي يحكم الله عز وجل فيه ويفصل بالجزاء بين العباد. {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات:22 - 23] يأمر الله عز وجل بجمع هؤلاء الكفار الذين ظلموا وأزواجهم، والأزواج من كان على شاكلتهم وأمثالهم وأشباههم من رجال ونساء وآلهتهم التي كانوا يعبدونها، قال: {وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ} [الصافات:22 - 23] أي: دلوهم إلى صراط الجحيم وهو إلى طريق الهاوية والعياذ بالله. قال الله تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات:24] قفوهم قبل إدخالهم النار ليسألهم الله عز وجل ويبكتهم ويوبخهم ثم يأمر بهم إلى الجحيم: {مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات:25 - 26] لا ينصر بعضهم بعضاً بل استسلموا بين يدي الله سبحانه. {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:27] صمتوا فترة طويلة وأدخلوا النار فأقبلوا يوبخ بعضهم بعضاً، فيقول أهل النار بعضهم لبعض: {قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} [الصافات:28] أي: كنتم تأتوننا عن طريق الله سبحانه وتعالى فتبعدوننا عنها، أو تأتوننا عن طريق قوتكم، فقد كنتم أقوى منا فأطعناكم فيما ضللتمونا به في هذه الحياة الدنيا. {إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} [الصافات:28] بقوتكم فأغريتمونا وأغويتمونا وذهبتم بنا إلى النار. قال لهم الكبراء: {بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ} [الصافات:29 - 30] أي: نحن ما فعلنا بكم شيئاً، بل أنتم كنتم قوماً طاغين، فقد طغيتم وغويتم وابتعدتم عن الله، ونحن دللناكم على طريق الشر ففعلتم الشر، وما كان لنا عليكم من حجة ولا سلطان ولكن أنتم اتبعتمونا في ذلك فتستحقون ما أنتم فيه من العذاب. قالوا: {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ * فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ} [الصافات:31 - 32] الإغواء هنا بالدلالة أي: دللناكم على طريق الغواية وطريق الشر فذهبتم إليه. {إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ} أي: كنا ضالين حين دللناكم على الشر ففعلتموه. {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} [الصافات:33 - 34] الجميع يعذبون يوم القيامة، فيعذب الذين أغووا وهم الظلمة الكبراء والذين غووا واتبعوا وهم الضعفاء، والكل كان لهم عقول وكانت في قلوبهم فطر ومع ذلك لم يستجيبوا إلى تحذير ربهم سبحانه، ولم يستجيبوا إلى دعوة رسل الله عليهم الصلاة والسلام فاستحقوا ذلك.

الكبر واحتقار الرسل هو سبب عدم سلوك طريق الهداية

الكبر واحتقار الرسل هو سبب عدم سلوك طريق الهداية قال الله عز وجل: {إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} [الصافات:34] لأنهم {كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:35] فقد كانوا يستكبرون على رسل الله عليهم الصلاة والسلام حين دعوهم إلى عبادة الله وحده، وهم إنما استكبروا واغتروا بما هم فيه من باطل. {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات:36] فوصفوا النبي صلوات الله وسلامه عليه بأنه شاعر، وكذبوا وقد علموا أنه ليس بشاعر ووصفوه بالجنون عليه الصلاة والسلام وكذبوا وقد استيقنوا أنه أعقل العقلاء وأحكم الحكماء من البشر صلوات الله وسلامه عليه. قال سبحانه: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:37] فقد جاء بما جاء به من قبله من رسل الله عليهم الصلاة والسلام، فصدق السابقين حين دعوا إلى التوحيد فكان مصدقاً لما بين يديه صلوات الله وسلامه عليه، قال الله عز وجل عن هؤلاء المجرمين: {إِنَّكُمْ لَذَائِقُوا الْعَذَابِ الأَلِيمِ * وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الصافات:38 - 39] ((إِنَّكُمْ لَذَائِقُوا الْعَذَابِ الأَلِيمِ)) أي: عذاب يوم القيامة وعذاب النار الذي كنتم به تكذبون، {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف:76]. هؤلاء أهل النار هذا موقفهم بين يدي الله عز وجل، وهذا مصيرهم إلى النار، أما المخلصون الذين أخلصوا لله سبحانه فقد استثناهم سبحانه، وبين أن لهم جنات النعيم، وأن لهم الرزق المعلوم والدرجات العالية.

تفسير قوله تعالى: (إنا كذلك نفعل بالمجرمين)

تفسير قوله تعالى: (إنا كذلك نفعل بالمجرمين) قال الله عز وجل: {إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} [الصافات:34] لأنهم {كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:35] فقد كانوا يستكبرون على رسل الله عليهم الصلاة والسلام حين دعوهم إلى عبادة الله وحده، وهم إنما استكبروا واغتروا بما هم فيه من باطل. {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات:36] فوصفوا النبي صلوات الله وسلامه عليه بأنه شاعر، وكذبوا وقد علموا أنه ليس بشاعر ووصفوه بالجنون عليه الصلاة والسلام وكذبوا وقد استيقنوا أنه أعقل العقلاء وأحكم الحكماء من البشر صلوات الله وسلامه عليه. قال سبحانه: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:37] فقد جاء بما جاء به من قبله من رسل الله عليهم الصلاة والسلام، فصدق السابقين حين دعوا إلى التوحيد فكان مصدقاً لما بين يديه صلوات الله وسلامه عليه، قال الله عز وجل عن هؤلاء المجرمين: {إِنَّكُمْ لَذَائِقُوا الْعَذَابِ الأَلِيمِ * وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الصافات:38 - 39] ((إِنَّكُمْ لَذَائِقُوا الْعَذَابِ الأَلِيمِ)) أي: عذاب يوم القيامة وعذاب النار الذي كنتم به تكذبون، {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف:76]. هؤلاء أهل النار هذا موقفهم بين يدي الله عز وجل، وهذا مصيرهم إلى النار، أما المخلصون الذين أخلصوا لله سبحانه فقد استثناهم سبحانه، وبين أن لهم جنات النعيم، وأن لهم الرزق المعلوم والدرجات العالية.

تفسير قوله تعالى: (إلا عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق معلوم)

تفسير قوله تعالى: (إلا عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق معلوم) قال سبحانه وتعالى: {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات:40] أي: استثنينا هؤلاء من جملة المعذبين الذين يعذبون في النار، والمعنى: لكن هؤلاء ليس لهم النار وهذا استثناء منقطع، فإلا هنا بمعنى: ولكن، لكن عباد الله الصالحون أدخلناهم جنات نعيم. ((إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ)) المخلصَين والمخلصِين، هم مخلصَون استخلصَهم الله عز وجل أي: اجتباهم وانتقاهم من خلقه واصطفاهم فكانوا لله سبحانه عُبّاداً وعِبَاداً، وأخلصَوا له سبحانه تبارك وتعالى، فهذا فضل الله يجتبي ويختار ويصطفي من يشاء سبحانه وتعالى. والمخلصَين اسم مفعول، أي: أستخلصَهم الله وأخلصَهم ونقاهم، وهذه قراءة المدنيين نافع وأبي جعفر وقراءة الكوفيين كلهم عاصم وحمزة والكسائي وخلف يقرءون: ((إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ)). وباقي القراء يقرءونها: (إلا عباد الله المخلصِين) باسم الفاعل، فهم مخلصَون وهم مخلصِون، مخلصِون: أخلصوا لله سبحانه، فلم يعبدوا إلا الله، وإنما أخلصَوا في دينهم وأخلصَوا في عبادتهم وفي توحيدهم فلم يشركوا بالله سبحانه وتعالى شيئاً، فاجتباهم الله فصاروا كذلك. فهم مخلصَون لأن الله أحبهم واختارهم، وهم مخلصِون في عبادتهم لله سبحانه. قال الله تعالى: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ} [الصافات:41] أي: هؤلاء الذين شرفهم الله وأكرمهم ((لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ)) لهم رزقهم فيها بكرة وعشياً، والرزق في الجنة عظيم كثير، فكل في أي وقت، واشرب ما تشاء، وافعل ما تشاء، وهذا من فضل الله عز وجل على عباده المؤمنين. {أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ} أي: هؤلاء المخلصَون والمخلصِون لهم عطية معلومة لا تنقطع أبداً، ورزق لا ينفد، فهو عطاء من الله غير مجذوذ أي: غير منقطع، وهذا الرزق منه الفواكه ومنه اللحم كما قال الله: {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:21]، ومنه الخير العظيم، فكل ما يشتهيه المؤمن في جنة الخلود يجده. قال الله تعالى: {فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ} [الصافات:42] فمن ضمن رزقهم عند الله عز وجل الفواكه وهي ما يتفكهون بها، والإنسان في الدنيا يحب أن يأكل الفاكهة إذا أكل القوت، ومعنى القوت ما يقيته ويقيم بدنه، وفي الجنة هم قد أحياهم الله عز وجل الحياة الدائمة التي لا تنغيص فيها، فأعطاهم الحياة وأعطاهم أقواتهم وأرزاقهم وفكههم بأعظم الفاكهة، قال: {فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ}. والحال أنه ما يكرمهم به سبحانه وتعالى من فضله وكرمه، {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الصافات:43] أي: التي ينعمون فيها، فهم عباد الله المنعمون في الآخرة، ((فِي جَنَّاتِ)) أي: في بساتين عظيمة عند الله سبحانه فيها النعيم المقيم. {عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الصافات:44] أجلسهم الله سبحانه وتعالى على الأسرة، فلكل منهم عرش في جنة الخلود، والعرش سرير عظيم مثل عرش الملك، فجعلهم ملوكاً في الجنة وجعلهم ((عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ)) كل على كرسيه الذي يجلس فيه ينظر إلى صديقه وإلى رفيقه وإلى حبيبه، ينظر بعضهم إلى بعض، فلا يوجد تدابر في الجنة، فلا يوجد من يعطي الثاني ظهره، ولكن يخاطب بعضهم بعضاً، ويقبل بعضهم على بعض في جنة الخلود، ويتحركون بهذه الأسرة كيفما يشاءون.

تفسير قوله تعالى: (يطاف عليهم بكأس من معين)

تفسير قوله تعالى: (يطاف عليهم بكأس من معين) قال الله سبحانه: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} [الصافات:45] يطوف الخدام عليهم في جنة الخلود، {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} [الصافات:45] هذه قراءة الجمهور: (بكأس)، وقراءة أبي جعفر: (بكاس من معين) والكأس: الإناء الممتلئ من الشراب، فإذا كان فيه الشراب فهو الكأس، وإذا كان فارغاً فهو الإناء أو الوعاء أو القدح، وإنما ملئ من خمر الجنة، ففي الدنيا من شرب الخمر فإنها تؤذيه؛ لأنها رجس من عمل الشيطان؛ فهي تصرفهم عن الصلاة، وتنهاهم عن المعروف، وتدفعهم إلى المنكر؛ وتقطع أرحامهم، وتذهب أموالهم، وتجعلهم إخوان الشياطين. قوله: ((مِنْ مَعِينٍ)) المعين: العين الجارية، فخمور أهل الجنة ليست محتاجة لأن توضع في زجاجات أو أوعية، بل هي عيون في الجنة تخرج وتجري بذلك ولا تكدر أبداً، فقال: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} [الصافات:45] أي: هذا الذي في الكأس من عيون جارية. قال: {بَيْضَاءَ} [الصافات:46] أي: الشراب الذي في الكأس، فالكئوس بيضاء جميلة، وما فيها من خمور لونها أبيض وجميل. {لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} [الصافات:46] بخلاف خمور الدنيا فهي سوداء وكدرة، أما خمور الجنة فهي بيضاء وهي لذة للشاربين يستمتعون بها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) وقال الله: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد:15]. كل هذه أنهار تجري في الجنة، ولا شيء يكدرها، لا تراب أو زبد، ولكنها تجري فيشرب منها أهل الجنة بكئوسهم، ولا يحرمون في الجنة من شيء أبداً. قال الله: {لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} [الصافات:47] الغول: ما يغتال الإنسان فيوجعه ويؤلمه، فالجنة ليس في خمرها غول. {وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} [الصافات:47] أي: لا يوجد من ورائها أمراض ولا أوجاع ولا أشياء يكرهها شاربها، وهذا تعريض بخمر الدنيا ففيها هذا كله، فالذين يشربون الخمور في الدنيا يعلمون مرارة مذاقها، كما أنه بعد أن يشرب الخمرة يذهب عقله، فيفرط في ماله ويفرط في عرضه ويفرط في دينه ودنياه، ثم يأتي الصداع بعد أن تذهب الخمر ويكثر بوله، أما خمر الجنة فلا وجع فيها ولا ألم ولا قيء ولا بول ولا شيء يزعج من يشربها. وقوله: {وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} [الصافات:47] قراءة الجمهور على البناء للمفعول أما حمزة والكسائي وخلف فقرءوا: (ولا هم عنها ينزِفون) والمعنى نزف عقل الإنسان بمعنى ذهب، يقال: نزف وأنزف بمعنى ذهب، وأيضاً نزف الشيء بمعنى: فني ونفد، والمعنى: الخمر لا تنفد ولا تنزف منها العقول ولا تنزف عنها العقول، فتظل ثابتة فلا تتغير الأفهام، ولكن العقل ثابت واللذة من شرب الخمر موجودة، والنعيم نعيم مقيم. وخلاصة المعنى: لا فيها غول وأوجاع ولا شيء يكرهه الذي يشربها.

تفسير قوله تعالى: (وعندهم قاصرات الطرف عين)

تفسير قوله تعالى: (وعندهم قاصرات الطرف عين) قال: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ} [الصافات:48] فعند كل من دخل الجنة زوجات خيرهن زوجته التي كانت في الدنيا، وله الحور العين في الجنة. وقوله: ((وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ)) هي التي قصرت طرفها، والطرف: العين، فهي قاصرة الطرف أي: لا تنظر إلى غير زوجها، ولا تطلب غير زوجها، ولا تتمنى أكثر مما هي فيه من هذا النعيم مع زوجها هذا، بل إنها قصرت طرفها على زوجها لا تريد غيره ولا تنظر إلى سواه. وقوله: {عِينٌ} يقال: امرأة عيناء أي: واسعة العين، فعينها كبيرة جميلة حسناء، فهن قاصرات الطرف في غاية الجمال، قد قصرن طرفهن على أزواجهن: ((عِينٌ)) أي: ضخام العيون، جميلات حسناوات العيون. {كَأَنَّهُنَّ} [الصافات:49] أي: نساء الجنة الحور العين: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} [الصافات:49] قيل: شبه بيض النعامة، إذ إن النعامة تبيض البيضة وتكنها في الرمال وتغطيها حتى لا يسوء منظرها ولا يؤذيها شيء، فنساء الجنة مثل هذا البيض، يقال: كبيض النعام في الهيئة، وبيض النعام أبيض وفيه صفرة، وهذا أجمل ما يكون من ألوان النساء، وهو البياض الذي فيه شيء من الصفرة. وقيل: بل البيض المكنون أي: البياض الداخل، فعندما تسلق البيضة وتزال القشرة الخارجية يتجلى البياض الداخلي فتراه شيئاً جميلاً جداً ناعماً رقيقاً، وكذا نساء الجنة كهذا الذي تراه في الداخل. قوله: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:50] أي: أقبل أهل الجنة بعضهم على بعض، والإقبال هنا للملاطفة في الجنة والحديث الجميل، وعادة أهل الدنيا التسامح وخاصة عند الشراب، فأنت بعد أن تأكل وتتبع الأكل بشرب الشاي تحب أن تتكلم مع من حولك، وكذلك أهل الجنة فبعد أن أكلوا وشربوا يتسامرون ويتكلمون ويتحدثون.

تفسير سورة الصافات [50 - 73]

تفسير سورة الصافات [50 - 73] يذكر الله سبحانه الموقف العظيم بين يديه سبحانه، وما أعد للمؤمنين من نعيم في الآخرة، وما أعد للكافرين من جحيم وحميم، وذكر أنه يحصل التساؤل والتحدث بين أهل الجنة وأنهم يتذكرون من كانوا يضلونهم من القرناء، ففازوا بالجنة لمخالفتهم هؤلاء القرناء بفضله سبحانه وكرمه.

تفسير قوله تعالى: (فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون)

تفسير قوله تعالى: (فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الصافات: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ * أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:50 - 61]. ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات وما قبلها حال الموقف العظيم بين يديه سبحانه وتعالى يوم القيامة، وذكر لنا كيف أنه فعل بالمجرمين ما يستحقونه من عقوبة ومن عذاب جزاء تكذيبهم وإنكارهم توحيد الله سبحانه وتعالى واستكبارهم، قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ * بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:35 - 37]. فهؤلاء يذوقون العذاب الأليم ولا يجزون إلا ما كانوا يعملون، لكن عباد الله المخلصين الذين اصطفاهم الله، واجتباهم واختارهم، وهداهم إلى دينه سبحانه، ووفقهم للعمل الصالح، هؤلاء لهم رزق معلوم. ولهم الفواكه عند رب العالمين، وهم مكرمون في جنات النعيم، ينعمون فيها فهم في عيشة هنيئة، قال تعالى: {عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} [الصافات:44 - 45] أي: بكأس من خمر من عين جارية تجري في أرض الجنة لا تكدر، ولا يتغير لونها، بكأس بيضاء لذة للشاربين، لا فيها غول، ولا فيها أوجاع، ولا هم عنها ينزفون، ولا تذهب عقولهم، ولا تنفد خمرهم، ولا ينفد نعيمهم. وقال تعالى: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ} [الصافات:48] أي: الحور العين في جنات الخلود، {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} [الصافات:49]، جعلهن الله عز وجل لأهل الجنة، وجعلهن مما تسر به أعين أهل الجنة وينعمون، ولهم فيها ما يشتهون، فهم في جنات الخلود على هذا الذي ذكر الله سبحانه تبارك وتعالى. {وََأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الطور:25]، وهم في الجنة يتسامرون، ويتذكرون أحوال أهل الدنيا في شرابهم ويكلم بعضهم بعضاً، كذلك أهل الجنة في نعيمهم، وفي شرابهم يكلم بعضهم بعضاً، ويتساءلون بعضهم مع بعض، قال هؤلاء بعضهم لبعض: {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} [الطور:26]، وكنا نخاف من عذاب رب العالمين، وكنا مشفقين من يوم القيامة، فربنا من علينا ووقانا عذاب الجحيم، {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:28]، ويكلم بعضهم بعضاً بما كانوا يصنعون في الدنيا، قال تعالى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:50]، فقال قائل من هؤلاء يحكي قصته مع صاحبه الذي كان في الدنيا: {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} [الصافات:51] أي: كان لي صاحب مقارن لي، يذهب ويأتي معي هذا القرين، يكذبني في تصديقي بالله سبحانه، ولرسل الله عليهم الصلاة والسلام، قال تعالى: {يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} [الصافات:52]، يتعجب لأمره ويقول: هل تصدق؟! وصل بك الأمر إلى أن تصدق أن هناك بعثاً وحساباً، وأن هناك يوم قيامة؟ أين ذهب عقلك؟! {أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات:52 - 53]، فيتعجب هذا القرين من صاحبه، ويقول: إذا متنا وصرنا تراباً، وصرنا جثثاً، وصرنا عظاماً هل نبعث مرة أخرى بعد ذلك؟ هذا شيء بعيد! وقوله تعالى: {أَئِنَّكَ، يقرؤها قالون، وأبو جعفر، وأبو عمرو بالتسهيل مع المد فيقول: ((آئنك لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ))، ويقرؤها ورش، وابن كثير، ورويس أيضاً بالتسهيل فيها: ((آئنَكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ))، ويقرؤها هشام بخلفه: ((آئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ)). وكل يدل على التعجب من إيمان هذا، وقوله تعالى: {أَئِذَا مِتْنَا}، فيها قراءتان كما قدمنا قبل ذلك. وقوله تعالى: {وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات:53] أي: هل نحن مجزيون؟ ما رأينا أحداً قبلنا مات ثم بعث، فكذب هذا القرين صديقه المؤمن.

تفسير قوله تعالى: (قال هل أنتم مطلعون)

تفسير قوله تعالى: (قال هل أنتم مطلعون) أهل الجنة في نعيمهم العظيم يجعل الله عز وجل لهم ما يريدون فيها، وما يشتهون، وإذا أرادوا أن ينظروا إلى أهل النار جعل لهم ما يمكنهم من ذلك، قال تعالى: {قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} [الصافات:54]؟ فاطلعوا من شرفات في الجنة على أهل النار فنظروا إلى أهل النار، فقوله تعالى: {قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} أي: أتريدون أن تنظروا إلى هذا القرين الذي كان يكذب؟ اطلعوا وانظروا ماذا جرى له! قال تعالى: {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات:55] أي: فاطلع فرآه في قعر الجحيم وفي وسطه، وفي عذاب عظيم أليم، والجحيم: النار المتقدة المضرمة المتأججة، جحمت النار بمعنى: تأججت، واضطرمت، وازداد اشتعالها ولهيبها، ومنه يسمى الجمر، الجحيم، والجاحم، وكذلك الجحمة، والجحمة: عين الأسد؛ لكونه إذا رأى فريسة تحمر عيناه، فهي النار الحمراء المشتعلة المتوقدة الملتهبة، فاطلع فرأى صاحبه {فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات:55]، قال هذا المؤمن: {تَاللَّهِ} [الصافات:56] أي: بالله، والله {إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} [الصافات:56] أي: كدت لتهلكني، وإن أصلها (إنَّ) المثقلة التي تفيد التحقيق والتأكيد، ولذلك قال هنا: {إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} [الصافات:56]، وجاء باللام الفارقة بين إن التي تفيد التحقيق، وبين إن التي تفيد النفي. فقوله تعالى: {إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} [الصافات:56] أي: لتهلكني. قال تعالى: {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي} [الصافات:57] أي: ولولا أن من الله عز وجل علي وعصمني ونجاني من فتنتك ومن غوايتك {لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات:57]، كما أحضرت أنت، فكدت أن أكون مثلك أنا أيضاً، والمحضر: الذي جئ به، وغالباً لا تطلق إلا في الشر، يقال: فلان محضر يعني: أتي به لكي يعاقبوه. فهنا قال: {إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات:56 - 57] يعني: في هذا العذاب الأليم كما أحضرت أنت وأدخلت في هذه النار.

تفسير قوله تعالى: (أفما نحن بميتين)

تفسير قوله تعالى: (أفما نحن بميتين) قال تعالى: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ} [الصافات:58] أي: أنت كنت تقول لي في الدنيا: إننا لن نبعث يوم القيامة، وإذا متنا ليس هناك بعث ولا حساب، {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الأُولَى} [الصافات:58 - 59]، هذا كان كلام الكافر، فالآن انعكس الأمر، إذ إن الكافر كان يتعجب من المؤمن في الدنيا، أما الآن فالمؤمن هو الذي يتعجب من الكافر؛ كنت تقول لي: لسنا بميتين، قال تعالى: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [الصافات:58 - 59]، ها أنت رأيت ما الذي حصل لك الآن في النار والعياذ بالله، إن هذا الذي نحن منه في الجنة والنعيم المقيم لهو الفوز العظيم، قال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الصافات:60] أي: هذا الفوز الحقيقي، فالإنسان في الدنيا لعله يتكلم عن النجاح، ولعله يتكلم عن الفوز، لكن الفوز الحقيقي والنجاح والفلاح العظيم هو ما يكون يوم القيامة في أن يدخل المؤمن الجنة وينجو من النار، {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}. (لمثل هذا) الفوز، ولمثل هذا الفلاح، ولمثل هذا الجزاء: {فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61]، كأن الله عز وجل يقول للمؤمنين: اعملوا لذلك حتى تكونوا مع هذا المؤمن ولا تكونوا مع هذا المغرور في نار الجحيم والعياذ بالله.

تفسير قوله تعالى: (أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم)

تفسير قوله تعالى: (أذلك خير نزلاً أم شجرة الزقوم) قال الله تعالى: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} [الصافات:62]، أذلك الذي رأيتموه من النعيم العظيم، ومن الجنات العظيمة خير في النزل، {أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ}، والنزل أصله: الطعام الذي يكون للضيف، أي: قرى الضيف، وكأنه طعام عظيم يستحق أن ينزل الإنسان فيه، فتقول: أعددت لفلان نزلاً، وتقول: تعال انزل عندي؛ لكي تأكل، فمن عظيم الأكل الذي عندك ينزل عندك، فالنزل: القرى والطعام العظيم الذي يكون للضيف، أهذه الجنة العظيمة وما فيها من فواكه ومن طعام خير نزلاً؟ أي: منزلة ينزل فيها الإنسان من أجل ما فيها، {أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} [الصافات:62]، نسأل الله العفو والعافية! شجرة الزقوم هذه قال الله فيها: {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات:63 - 65]، هذه شجرة الزقوم مأخوذة من التزقم، أي: التلقم، يلقم اللقمة في فمه ويكره عليها وتدفع في فمه، فهو يتزقمه ويأكله ولا يكاد يسيغه، لا يقدر عليه من مرارته وشوكه، ومن الأذى الذي فيه ومن نتنه، فهو يتزقمه وتدفع في فمه كرهاً، فذلك النعيم الذي فيه أهل الجنة وما يشتهونه من لحوم الطير والفواكه، ومن نعيم مقيم خير نزلاً أم هذه الشجرة من الزقوم؟ قال تعالى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان:43 - 46]. فانظر إلى هذه الشجرة التي جعلها الله عز وجل فتنة لهؤلاء الكافرين، قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ} [الصافات:63]، فكانوا يسمعون عن شجرة الزقوم أنها في النار، فيقولون: النار تحرق الشجر، فكيف تنبت شجرة في النار والأصل عندنا أن هذه الشجرة تحرقها النار؟! فيتهكم الكفار على النبي صلى الله عليه وسلم، ويسأل بعضهم بعضاً، ويأتيهم رجل من أفريقيا يسألونه: هل تعرف شجرة الزقوم؟ يقول: نعم، عندنا الزقوم الذي هو تمر بالزبد، فيضحكون ويتقهقهون ويقول بعضهم لبعض: تعالوا نتزقمها تزقماً، عرفنا أن الزقوم الزبد بالتمر! فكان أبو جهل يصنع لهم ذلك ويقول: تعالوا نتزقم، ويقول بعضهم لبعض: يخوفنا محمد -صلى الله عليه وسلم- بشجرة الزقوم وعرفنا أخيراً ما الزقوم الذي يخوفنا منه! والله عز وجل جعلها فتنة لهم لغبائهم وبعدهم عن دين الله عز وجل، ولسخريتهم من النبي صلى الله عليه وسلم وضح وبين لهم ما هذه الشجرة البشعة التي يسخرون منها، قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ} [الصافات:63]، والشجرة الملعونة شجرة ليس فيها رحمة، بل هي شجرة مطرودة من رحمة الله، فهي في أصل الجحيم، تنبت وتتفرع من داخل الجحيم من قعرها، وتخرج أغصانها وأوراقها إلى أعلى الجحيم ليأكل منها كل من في النار والعياذ بالله، كما قال تعالى: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} [الصافات:64]، وقال تعالى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ} [الدخان:43 - 44] أي: طعام كل آثم استحق اللعنة، {كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ} [الدخان:45] أي: إذا نزلت إلى بطون هؤلاء صارت كالمهل، والمهل هو: الزيت المغلي، والمهل أيضاً: الصديد والعياذ بالله، فهو شيء حار جداً ينزل في بطونهم. فقوله تعالى: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} [الصافات:64] أي: أصل منبتها في قعر الجحيم، وقوله تعالى: {طَلْعُهَا} [الصافات:65] أي: ما يطلع منها من ثمار، {كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات:65]، فهي بشعة في طعمها، ومخيفة رهيبة في منظرها في نار الجحيم، ولم نر نحن الشياطين، ولكن عندما يسأل كل إنسان عن الشيطان ما شكله؟ فإنه يستبشع منظر الشيطان وهو لم يره، فهذا يجعله الله لنا تشبيهاً، والله عز وجل أخفاه عنا حتى لا نراه بفضله وبكرمه سبحانه وتعالى. فيخبرنا الله أن هذه الشجرة منظرها كمنظر الشياطين وأنتم لم تروها، ولكن في قلوبكم قبح منظر الشيطان، إذ إن منظره قبيح جداً، قال الله تعالى: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات:65]، والعادة عند الإنسان أنه إذا استوحش من شيء يقول: هذا مثل الشيطان، وإذا أحب شيئاً يقول: هذا ملاك؛ ولذلك في قصة امرأة العزيز لما خرج يوسف، {وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف:31]. فالإنسان لما يرى الصورة الحسنة يقول: ملك، وإن لم ير منظر الملك، ولكن تخيل أنه أجمل ما يكون وهو حقيقة، والشيطان أبشع ما يكون، والله بفضله وكرمه واراه عنا فلا ننظر إلى قبيح منظره، فالله سبحانه بفضله وكرمه يمن على العباد بأن يخفي عنهم ما يؤذيهم وما يستبشعونه من منظر الشيطان. فطلع هذه الشجرة في الجحيم ثمارها، {كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات:65]. ((فإنهم)) أي: أهل النار المجرمون الآثمون، {لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} [الصافات:66]، فهو طعام يكرهه الإنسان، ولكن يأكله جبراً وقهراً واضطراراً، إذ يوضع في فمه ويلقمه، فإنهم لآكلون منها مدفوعة إلى حلوقهم، ومدفوعة إلى بطونهم. وقراءة الجمهور: ((فَمَالِئُونَ))، وقراءة أبي جعفر: ((فَمَالُِونَ مِنْهَا الْبُطُونَ)). قال تعالى: {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ} [الصافات:67]، ثم إن لهم الشوب وهو الخلط، إذ هذه الشجرة بمرارتها ونتنها وغصتها في حلوقهم يسيغونها بماء الحميم، وهو ماء بلغ نهاية درجة الحرارة والعياذ بالله. فالماء في الدنيا حين يغلي يتبخر، لكن الماء في جهنم لا يتبخر، بل يصل إلى أعلى ما يكون من درجات الحرارة ليشرب هؤلاء منه والعياذ بالله، إذاً: طعامهم الزقوم، وشرابهم الحميم. قال الله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ} [الصافات:68]، نسأل الله العفو والعافية، فهو عذاب أليم إذا تخيله الإنسان خاف من رب العالمين سبحانه، وخاف من الوقوع في الذنوب، وهؤلاء في النار كالأنعام وكالبهائم يقادون إلى المرعى إلى شجرة الزقوم ليأكلوا كرهاً، ويقادون إلى الماء فهم: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن:44]، فالنار دركات منها: الجحيم، الهاوية، السعير، الحطمة، فهي دركات في أصلها هذه الشجرة، يأكلون من هذا المكان في النار، ويخرجون منه إلى مكان آخر في النار فيه ماء الحميم، ثم يردون إلى المكان الأول مرة ثانية، فانظر إلى التعبير: {فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا} [الصافات:66 - 67]، أي: خلطاً، {مِنْ حَمِيمٍ * ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ} [الصافات:67 - 68] أي: يردون مرة ثانية إلى الجحيم والعياذ بالله إلى قعر النار، فهم داخلون خارجون من النار إلى النار، ومن دركة إلى أخرى فيها الصديد، وفيها الغساق والحميم، مكان فيه الزقوم يأكلون ويشربون كرهاً في ذلك، فهم يكرهون ذلك، ولكن يجبرون عليه.

تفسير قوله تعالى: (إنهم ألفوا آباءهم ضالين)

تفسير قوله تعالى: (إنهم ألفوا آباءهم ضالين) يبين الله لماذا يعذب أهل النار فقال: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ} [الصافات:69]، أي: وجدوا آباءهم ضالين، صادفوا ووجدوا آباءهم على ضلالة وعن بعد عن الحق فاقتدوا بآبائهم، قال تعالى: {قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22]، وقال تعالى: {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]، قالوا ذلك ولم يعملوا عقولهم، ولم يفكروا فيما يقوله رسولهم عليه الصلاة والسلام؛ فاستحقوا عذاب الله سبحانه، فالله أعذر الخلق، وأنذرهم وبين لهم؛ كي لا يكون للناس على الله الحجة بعد الرسل. فجاءت الرسل ودعوا الخلق إلى الله، فإذا بهؤلاء يرفضون إلا تقليد الآباء، يقولون: الهدى ما وجدنا عليه آباءنا من غير تفكير في ذلك، قال سبحانه: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} [الصافات:69 - 70]، فهم يستحثون الخطا ويركضون وراء الآباء في تقليدهم آباءهم. قال تعالى: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ} [الصافات:71]، أي: ليس هؤلاء فقط الذين ضلوا، بل هم مقلدون لمن سبقهم من الأوائل في الضلال، قال تعالى: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ} [الصافات:71]، فأكثر الخلق كانوا على الضلالة والعياذ بالله، {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116]. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنذِرِينَ} [الصافات:72]، فأنذر الله سبحانه وخوف العباد وحذرهم، {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات:73 - 74]، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عباده المخلصين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الصافات [69 - 80]

تفسير سورة الصافات [69 - 80] يذكر الله سبحانه وتعالى أن ضلال هؤلاء الكفار كضلال آبائهم من قبل، فقد أرسل الله إليهم رسلاً فكانت عاقبتهم وخيمة، كعاقبة قوم نوح ولوط وغيرهم.

تفسير قوله تعالى: (ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين)

تفسير قوله تعالى: (ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الصافات: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنذِرِينَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ * وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ} [الصافات:71 - 83]. لما ذكر الله سبحانه تبارك وتعالى حال أهل الجنة وما متعهم الله عز وجل به في جنات النعيم، وذكر أهل النار وما حدث لهم في جهنم والعياذ بالله، وكيف أنهم تسببوا في ذلك بكفرهم بالله سبحانه، واستكبارهم عن عبادة ربهم سبحانه وتعالى؛ ختم ذلك بقوله: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} [الصافات:69 - 70]. هذا هو التقليد الذي قلد هؤلاء الجاهليون من سبقهم في كفرهم وفي شركهم بالله سبحانه، واتخاذهم من دون الله أولياء يوالون عليهم، ويعادون في محبتهم، هؤلاء ألفوا آباءهم ضالين، ولم يعملوا عقولهم، ولم يتفكروا فيما جاءت به أنبياؤهم عليهم الصلاة والسلام، فهم على آثار آبائهم يهرعون، فهم وجدوا آباءهم ضالين بعيدين عن الحق تائهين متحيرين متشككين يشركون بالله ويعبدون غيره سبحانه وتعالى واتبعوا الأهواء، واتخذوا الأنداد من دون الله، قال تعالى: {فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} [الصافات:70] والإهراع بمعنى: الاندفاع، فهم مسرعون على آثار الآباء من غير تفكير، يقال: أهرع الرجل وهرع أيضاً الرجل بمعنى: اندفع أو قيد إلى شيء وتلفه إلى هذا الشيء الذي يندفع إليه، فأهرع الرجل بمعنى: خف وجرى، وأسرع وتغير على هيئة فيها رعب، فهو قد هرع إلى ذلك الذي ساقه إلى ذلك الهوى والضلال والشيطان، وهم يهرعون ويستحثون على اتباع الآباء فيما هم فيه من ضلالات، وزين لهم الشيطان أن آباءهم أصحاب عصمة، وأن آباءهم يعرفون كل شيء، وأنهم لا يفهمون إلا ما فهمه الآباء، ولذلك كبر عليهم أن يأتيهم رسول من عند الله عليه الصلاة والسلام، يدعوهم إلى مخالفة ما كان عليه الآباء، فيتعجبون: هل أنت خير أم أبوك؟ يقولون ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت العادة عندهم أن يسأل كل واحد منهم الآخر عن ذلك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول هذا الكلام الباطل الذي يريدونه، فكان ينصرف عما يريدون من هذا القول الذي لا معنى له، ويدعوهم إلى الله وإلى كتاب الله، ويحاجهم بالحجة السليمة، والآراء المستقيمة فلا يفهمون، ولا يزالون يتعجبون مما يقول ويقولون: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]. قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ} [الصافات:71] ليس هم الذين ضلوا فقط، ولكن ضل قبلهم أقوام وصدوا عن الهدى، وابتعدوا عن دين الله سبحانه وتعالى، واتخذوا آلهة من دون الله فضلوا وأضلوا غيرهم بأن دعوهم إلى غير الله سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا فيهم منذرين)

تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا فيهم منذرين) قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنذِرِينَ} [الصافات:72] وهذه عادة الله وسنته سبحانه وتعالى في خلقه أنه يقيم على عباده الحجة بما أرسل فيهم من أنبياء ورسل عليهم الصلاة والسلام، وبما أنزل عليهم من كتب من عنده سبحانه. فقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنذِرِينَ} [الصافات:72] يعني: في السابقين، أرسلنا إليهم الرسل لينذروهم ويخوفوهم من يوم القيامة ومن حساب رب العالمين، ومن عذابه ومن عاقبة أعمالهم السيئة، ومن عقوبة الله عز وجل لهم على ذلك، وقراءة الجمهور: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ} [الصافات:72] وقراءة يعقوب: (فيهُمْ) وهم الرسل ينذرون القوم من شركهم، ويخوفونهم من عبادتهم لغير الله، ويخوفونهم بعذاب الله.

تفسير قوله تعالى: (فانظر كيف كان عاقبة المنذرين)

تفسير قوله تعالى: (فانظر كيف كان عاقبة المنذرين) قال الله تعالى: {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ} [الصافات:73] أي: تعجب لأمر هؤلاء، فالمنذر الرسول ينذر قومه عليه الصلاة والسلام، والمنذر: الواحد من القوم، والعاقبة: النهاية وآخر الأمر، ومنه عقب الإنسان: ما يكون خلفه أو تحته، فانظر إلى نهاية هؤلاء كيف استحقوا عقوبة رب العالمين بالإهلاك في الدنيا والإغراق، ثم بالإحراق في النار يوم القيامة. قوله تعالى: {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ} [الصافات:73]، وإذا وقف على هذه الكلمة وغيرها من الكلمات التي هي على جمع المذكر السالم وما ألحق به يقف عليها يعقوب بخلفه بهاء السكت فيقول: {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَه * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينه} [الصافات:39 - 40]. وهنا استثناء يستثني الله عز وجل عباده المخلصين، وهؤلاء ليس عاقبتهم عاقبة سيئة، وهذه الكلمة فيها قراءتان في القرآن كله {الْمُخْلَصِين} [الصافات:40] و (الْمُخْلِصِين)، يقرؤها على اسم المفعول المدنيان نافع وأبو جعفر، والكوفيون: عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف، وباقي القراء يقرءونها على اسم الفاعل: {الْمُخْلِصِين} [الصافات:40] والمعنى قريب، مخلصين: اجتباهم الله واختارهم، واصطفاهم هؤلاء المخلَصون، واختارهم الله عز وجل لكونهم في قلوبهم الإخلاص فهم المخلِصُون: أخلصوا العبادة لله ووحده سبحانه وتعالى ولم يشركوا به شيئاً، ولم يوجهوا العبادة والطاعة لغيره سبحانه فهم مخلِصون لله فاستخلصهم الله وانتقاهم من الخلق وجعلهم أحباءه وأهل جنته سبحانه وتعالى. وهذه السورة كما ذكرنا من السور المكية التي تؤكد معاني التوحيد، وفيها تفصيل قواعد العقيدة في قلب الإنسان، وذكر الله سبحانه وتعالى هنا توحيده والأمر به، وحذر من شرك المشركين وكيف أنهم ضلوا وأضلوا واستحقوا العقوبة والنار، ثم ذكر رسل الله عليهم الصلاة والسلام، وأن دعوتهم هي دعوة التوحيد يدعون إلى عبادة الله سبحانه، فالنبي صلى الله عليه وسلم ليس بدعاً من الرسل، وليس شيئاً جديداً حادثاً، ولكن كل الرسل قبله عليه الصلاة والسلام دعوا أقوامهم إلى توحيد ربهم سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون)

تفسير قوله تعالى: (ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون) قال الله تعالى: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} [الصافات:75] فالله سبحانه وتعالى نعم المجيب ناداه لوط، وناداه نوح، وناداه غيره فنعم المجيب، ومن يجيب إن لم يجب الله سبحانه وتعالى؟ والنداء هنا يتضمن معنى الاستغاثة والدعاء، ومعنى نادانا: استجار بنا واعتصم بنا، فاستغاث نوح بربه سبحانه، ودعا قومه إلى عبادة الله فترة طويلة جداً لم يدع مثلها إلى الله عز وجل نبي من الأنبياء، ولا رسول من الرسل عليهم الصلاة والسلام، فقد دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً حتى مل منهم وظن أنه لن يؤمن من قومه أحد، فأخبره الله أن هذا ظن حقيقي ولن يؤمن من قومه إلا من قد آمن، وما آمن معه إلا قليل، وذكروا أن عدد هؤلاء الذين آمنوا مع نوح عليه الصلاة والسلام وركبوا معه السفينة ثمانون مؤمناً بعد دعوة إلى الله سبحانه وتعالى ليل نهار، قال تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} [نوح:5 - 9] كل هذا وهو يدعو إلى ربه سبحانه وتعالى ليل نهار في زمن طويل بلغ تسعمائة وخمسين عاماً، فلم يستجب له وما آمن معه إلا قليل، فكان عدد من ركب معه هذه السفينة هم من أهله وكان منهم هذه الذرية العظيمة من خلق الله سبحانه من بعد نوح، فكان من شيعته إبراهيم وكل الأنبياء والرسل من بعده عليهم الصلاة والسلام. قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ} [الصافات:75] أي: استغاث بنا، وجأر إلينا وطلب نصرنا، قال تعالى: {فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} [الصافات:75] سبحان الله وتعالى، فيبين لنبيه صلى الله عليه وسلم أننا لم نعجل بعقوبة هؤلاء الأقوام ليس لكوننا لا نستجيب لك، ولا لغيرك من المؤمنين، ولكن لحكمة من الله، فنحن نعم المجيبون، ونعم المجيب الله سبحانه، فهو يستحيي إذا رفع العبد يديه إليه أن يردهما صفراً، ولكن الإجابة من الله بحكمة، ولها وقت فالله عليم حكيم، وهو أعلم بما يستحق العباد، ولعلك تدعو على إنسان والله يعلم أنه سيهتدي بعد ذلك، فلا يستجيب لك في ذلك، ولعلك تدعو لإنسان بالهداية، والله يعلم أنه سيموت ضالاً كافراً، فالله أعلم بخلقه، قال تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].

تفسير قوله تعالى: (ونجيناه وأهله من الكرب العظيم)

تفسير قوله تعالى: (ونجيناه وأهله من الكرب العظيم) قال الله تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الصافات:76] دعا نوح ربه بعدما طال دعاؤه لقومه فترة طويلة حتى أعلمه الله سبحانه بقوله: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود:36] وانتهى الأمر، ليس هناك أحد سيدخل في دينك إلا هؤلاء القلة فقط، فلما وجد نوح أنه لن يدخل في الدين إلا من قد آمن دعا على قومه وقال: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:26 - 27] فقد عهد نوح من هؤلاء القوم ما كانوا يصنعونه من كفر وتكذيب هم وآباؤهم وأجدادهم طوال عمره، فقد مات الأجداد وجاء الأبناء وجاء الأحفاد بعد ذلك، والكل على الكفر والتكذيب، فنوح لا يرى إلا إنساناً يموت كافراً ويولد غيره كافراً ويموت كافراً وهكذا، فقال: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:27] فدعا ربه سبحانه، فاستجاب الله عز وجل دعاءه، قال تعالى: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:11 - 14] هذا الذي فعلناه {جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر:14] قد كفروا بالله سبحانه، وكفروا دعوة نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فاستجبنا لنوح بتكذيب هؤلاء له، وباستغاثته بنا. قال سبحانه: {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الصافات:76] مع أن من أهل نوح ابنه وقد أغرقه الله سبحانه وتعالى، ولما سأل نوح ربه سبحانه: {فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود:45] أي: لقد وعدتني أن تنجيني أنا وأهلي، فوعدك الحق وهذا ابني من أهلي، فقال تعالى: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46] أي: هذا لا ينتمي إليك، أهلك المؤمنون، وأولياؤك الصالحون، هذا كافر بالله سبحانه فلا يستحق أن يكون من أهلك، قال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46] إذاً: قوله سبحانه: {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ} [الصافات:76] أي: أهل دينه من المؤمنين الذين آمنوا معه، وكان عددهم ثمانين رجلاً وامرأة، أسلموا وعاشوا مع نوح ثم بعد ذلك ركبوا معه السفينة، وأنجى الله عز وجل من فيها، وجعل من ذرية نوح الخلق كلهم بعده عليه الصلاة والسلام. إذاً: {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الأنبياء:76] الكرب العظيم هو: ما حدث، وأي كرب أفضع وأعظم من ذلك أن يجد السماء تنفتح بسيول تنزل على الأرض، والأرض تنفجر بعيون تطفو على الأرض، وهو في السفينة ومعه هذا العدد القليل من خلق الله سبحانه، وحمل فيها من كل زوجين اثنين بأمر الله سبحانه وتعالى من المخلوقات التي تستحق أن تحيا، وتستحق أن تكون معه دون البشر الذين كفروا بالله وكذبوا بالله سبحانه وتعالى، فقد ركبوا سفينة صنعها نوح بأمر الله سبحانه، واتسعت لهذا العدد العظيم من خلق الله، قال تعالى: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [هود:40] إذاً: عدد من فيها من خلق الله من غير البشر أكثر بكثير من هؤلاء البشر، فما آمن معه من البشر إلا قليل، لكن الأكثرية من غيرهم، قال تعالى: {مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} [هود:40] وما آمن مع نوح إلا العدد القليل كما ذكر. قوله تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الصافات:76] أي: من الغرق ومن هذا الجو البشع ومن هذه العقوبة الصعبة الأليمة التي نزلت وأخذت هؤلاء الكفار، ونجينا نوحاً على نبينا وعليه الصلاة والسلام وأهله من الكرب العظيم، والكرب: الشيء الذي يغم الإنسان ويحزنه ويجعل الإنسان في ضيق شديد، فقد نجى الله عز وجل نوحاً ومن منعه من الكرب العظيم.

تفسير قوله تعالى: (وجعلنا ذريته هم الباقين)

تفسير قوله تعالى: (وجعلنا ذريته هم الباقين) قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات:77] أي: أبقينا ذرية نوح، فكل الذريات الذين كانوا من قبله أهلكوا، ولم تبق إلا ذرية نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وجاء منها كل الخلق من بعده، فهو الأب الثاني بعد آدم عليهما السلام، فكل البشر من ذرية آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام من ذرية نوح من بعده، إذ لم يعش من ذرية آدم إلا ذرية نوح فقط، وكان منهم الخلق، وجاء في الآثار أن نوحاً عليه الصلاة والسلام كان له أولاد وهم: سام، وحام، ويافث، فـ سام أبو العرب وفارس والروم واليهود والنصارى، وحام أبو السودان من المشرق إلى المغرب، ويافث أبو الصقايلة والترك وغيرهم، فهؤلاء الثلاثة من ذرية نوح الذي كان منهم الخلق بعد ذلك، قال سبحانه: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ} [الصافات:77] أي: ذرية نوح: {هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات:77].

تفسير قوله تعالى: (وتركنا عليه في الآخرين)

تفسير قوله تعالى: (وتركنا عليه في الآخرين) قال تعالى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} [الصافات:78 - 79] أي: تركنا الثناء الحسن والذكر الجميل، وأن يسلم عليه من سمع به ومن علم عنه شيئاً، نقول: نوح عليه السلام، فيذكر في أهل الملة جميعها، فيدعون له، ويسلمون عليه، ويقولون: عليه السلام، والآخرون: من يأتون من بعدهم من كل الأمم، تركنا عليه في هؤلاء الآخرين هذا القول، فقوله تعالى: {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} [الصافات:79] أي: كل من يذكره يسلم عليه ويقول: {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ}. كذلك من معانيها: تركنا عليه الذكر الحسن والتسليم معه، إذاً: من يذكره يذكره بأحسن ذكر على نبينا وعليه الصلاة والسلام، كذلك إبراهيم كما سيأتي بعد ذلك، وقوله تعالى: {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} [الصافات:79] قد يكون معناها: سلامة له من أن يذكر بسوء، يعني: سلمنا ذكره من السوء.

تفسير قوله تعالى: (إنا كذلك نجزي المحسنين)

تفسير قوله تعالى: (إنا كذلك نجزي المحسنين) قال سبحانه: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:80] كهذا الجزاء العظيم الذي جازيناه نوحاً فنجيناه من الكرب العظيم، كذلك ننجي كل محسن من الكرب العظيم، وكذلك كهذا الذكر الحسن الذي تركناه لنوح نترك ذكراً حسناً لكل من آمن بالله واتبع المرسلين، ونترك له ذكراً حسناً فيمن يليه فيدعون له بخير ويذكرونه بثناء حسن جميل. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الصافات [75 - 91]

تفسير سورة الصافات [75 - 91] نوح وإبراهيم عليهما السلام من أولي العزم من الرسل، وقد أخبرنا الله عن بعض قصصهما مع قوميهما، فقد دعواهما إلى الله تعالى، فقوبلا بالعداوة والسخرية والاستهزاء، والإباء والاستكبار عن الدخول في دين الله عز وجل، فكان الجزاء من جنس العمل، حيث خلد الله ذكر نوح عليه السلام وأثنى عليه في الآخرين، وكافأ إبراهيم فجعله أمة وقدوة للعالمين.

تفسير قوله تعالى: (إنا كذلك نجزي المحسنين ثم أغرقنا الآخرين)

تفسير قوله تعالى: (إنا كذلك نجزي المحسنين ثم أغرقنا الآخرين) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الصافات: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ * وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ * فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ * فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ * فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ * قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:80 - 96]. ذكر الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات وما قبلها قصة نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وذكر أن من أتباعه ومن ذريته إبراهيم الخليل على نبينا وعليهم الصلاة والسلام. وقال في قصة نوح: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} [الصافات:75]. {نَادَانَا} أي: استغاث بنا، ودعانا نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام بعدما يئس من إيمان قومه، وبعدما كذبوه تسعمائة وخمسين عاماً، فنجاه الله عز وجل وأهله المؤمنين من الكرب العظيم. قال: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات:77]، فهو أب بعد أب، آدم أبو البشر، وبعده نوح أبو البشر الذين من بعده، وجعلنا ذرية نوح فقط هم الباقين. قال: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:78 - 80]. {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ} بالثناء الحسن، {فِي الْعَالَمِينَ} فكل من يذكر نوحاً يسلم عليه ويثني عليه خيراً؛ لما صنعه مع قومه من دعاء إلى الله سبحانه، ولما صبر على أمر الله سبحانه. قال: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:80] الجزاء الحسن هو الذكر الحسن، والتسليم عليه {نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} أن يكون لهم عاقبة الدار، وأن يكون لهم الجزاء الحسن عند الله، والذكر والثناء الحسن عند الناس. {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} [الصافات:81]. إذاً: الله عز وجل جازاه على إحسانه وإيمانه بأن جعل له الثناء الحسن في هذه الدنيا. {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ} [الصافات:82] يعني: الكفرة وهم الأكثرون، وما آمن معه إلا قليل، وذكرنا أن الذي بقي معه وركب معه السفينة كانوا ثمانين من المؤمنين. {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ} [الصافات:82] وجاء الإغراق عقوبة من الله عز وجل على كفرهم وتكذيبهم، فكانت الأرض تنبع بالمياه، والسماء تنزل بالمياه، والسفينة عامت، وأغرق الله عز وجل الكفار، وكان ابن نوح يظن أنه سيأوي إلى جبل عال مرتفع فيعصمه من هذا الماء، وناداه نوح أن يؤمن ويدخل معه ويركب في السفينة، فأبى إلا الكفر الذي هو عليه، وقال: {سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود:43]. إذاً: صارت الأرض كلها مياهاً، وأمواجاً، فعامت السفينة ورست فوق الأمواج، وبلغت الأمواج علو الجبال فأغرقت ابن نوح، فقال له ربه: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46]، فأهل نوح هم المؤمنون الذين نجاهم الله عز وجل معه في السفينة، وكانوا قليلين من أهله عليه الصلاة والسلام، قالوا: بعض أولاده وحليلات أولاده وأولادهم، يعني: من ذرية نوح المؤمنين الذين ركبوا معه في هذه السفينة، فجعل الله عز وجل منهم الخلق كله بعد ذلك، وأغرق كل الكفار، وصار الناس معتبرين لما حدث في قوم نوح، وكان بين نوح وإبراهيم فترة طويلة تتجاوز الألفين من السنين، وفي خلال هذه الفترة كان عدد الرسل الذين ذكر الله عز وجل رسولين اثنين فقط، والله أعلم هل كان يوجد غيرها من الأنبياء؟ لكن الذي ذكر الله عز وجل في القرآن بين نوح وبين إبراهيم هما هود وصالح عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.

تفسير قوله تعالى: (وإن من شيعته لإبراهيم)

تفسير قوله تعالى: (وإن من شيعته لإبراهيم) قال الله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيْم} [الصافات:83]، شيعة الرجل: أتباعه وأولياؤه ومحبوه، وكذلك أهل الرجل، فهؤلاء هم الشيعة، {إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ} من ذريته وأتباعه في الإيمان إبراهيم الخليل على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وإبراهيم أبو الأنبياء، فكل الأنبياء من بعده هم من ذريته عليه الصلاة والسلام، وإبراهيم معناها بالسريانية: الأب الرحيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فواضح من سيرته كيف كان رحيماً بالمؤمنين، وكيف دعا لأبيه وكان كافراً، ودعا لأهله ودعا للمؤمنين، واستجاب الله عز وجل له في المؤمنين، وجعل من ذريته الأنبياء من بعده، وأبوه كان كافراً فلم يستجب له في استغفاره له ونهاه عن ذلك. إبراهيم له مزايا كثيرة جداً، وصفات وخصائص حميدة وعظيمة ذكر الله عز وجل بعضها في كتابه سبحانه، وهو الذي كان يلقب بأبي الضيفان، كان إكرامه للضيوف إكراماً عجيباً جداً، حتى إنه ليذبح العجل لثلاثة من الضيوف، ثلاثة ضيوف تكفيهم شاة تذبح لهم وتفيض عنهم، فيذبح لهم عجلاً ويجعله لهم مصلياً حنيذاً مشوياً، وهذا من كرم إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام. {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات:84] إذ جاء ربه بقلب موحد لله سبحانه، خالص من الشرك، لا شرك فيه، بقلب نقي تقي عليه الصلاة والسلام، فاستحق أن يكون أمة وحده، جمع من خصال الخير وأعمالها ما لا يجتمع إلا في أمة من الناس، فاجتمع الخير لإبراهيم وحده عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فكان إمام الأنبياء عليه الصلاة والسلام، وكان قدوتهم، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [النحل:123] عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فكان من المحسنين، وجزاه الله عز وجل على إحسانه أن جعله أباً للأنبياء، وجعل له الذكر الحسن في كل الملل. هذا إبراهيم {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات:84] أي: بقلب مخلص من الشرك والشك، لا شك في قلبه، ولا شرك فيه، وكل إنسان يعتريه من الشرك ما يعتريه بحسب ما يشاء الله عز وجل فيه، ويعتريه من الشبهات والشكوك والشهوات حسب ما يقدره الله عز وجل على دفعها أو يهلكه بأن يشغلها قلبه، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يكن في قلبه شيء من الشك، حتى إنه لما قال لربه سبحانه تبارك وتعالى: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة:260] فإذا بالله يسأله: أو لم تؤمن يا إبراهيم؟ لم تسأل هذا السؤال؟ قال: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى} [البقرة:260]، الإيمان هذا لازم له {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] ليزداد يقيناً فوق اليقين، فأنا آمنت بالغيب وأريد المشاهدة أيضاً لأزداد يقيناً فوق اليقين، أما الشك فمستحيل أن يدخل قلب إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ولذلك يقول نبينا صلوات الله وسلامه عليه تواضعاً وهضماً لحق نفسه مع أبيه إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: (نحن أحق بالشك من إبراهيم)، يعني: إبراهيم بلغ المنزلة العظيمة فمستحيل أن يشك في الله، فإياكم أن تظنوا أن إبراهيم يشك، (نحن أحق بالشك من إبراهيم)، هل نشك نحن؟ A لا، وإبراهيم أولى، إبراهيم لا يشك عليه الصلاة والسلام، فيحترمه النبي صلى الله عليه وسلم، ويعظم قدره، ويقول ذلك تواضعاً، وحاشا له صلى الله عليه وسلم أن يشك. {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات:84]، قلب سليم يعلم أن الله حق، فيوحد ربه سبحانه، ويكون خالصاً لربه، ليس فيه شيء من أمور الدنيا، وابتلاه الله عز وجل في سلامة قلبه، هل قلبه كله لله عز وجل أم أن فيه شيئاً للدنيا؟ فإذا به يبتليه في كل من يحبهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فابتلاه في أبيه فدعا أباه إلى دين الله حتى إن أباه يهدده بالرجم والطرد فيقول: {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة:4] ما لم أنه عن ذلك، {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:47]، فيستغفر ربه لأبيه، قال: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا} [مريم:48 - 49] فابتلي في أبيه، وطرده أبوه فهاجر وترك البلد. أحب امرأته فابتلاه الله عز وجل في امرأته ليرى هل حبه لله عز وجل أشد أم أن الدنيا قد تفتنه؟ وإذا به يبتلى فيها ويأخذها جبار من الجبابرة في مصر، يهاجر إبراهيم من بلده ويأتي إلى مصر فإذا بالناس يخبرون الملك: إن رجلاً اسمه إبراهيم قدم ومعه امرأة من أجمل النساء، فيبتلى إبراهيم ويصبر لأمر الله ويدعو ربه سبحانه تبارك وتعالى. وابتلاه الله عز وجل في ابنه وأمره أن يذبح ابنه بيده: هل ابنك أحب أم نحن أحب إليك؟ فإذا به يفعل ما أمر الله عز وجل به، وإذا بالله يرفع عنه هذا البلاء ويقول: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:105]، مثل إبراهيم ونوح والأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذين أحسنوا وصبروا لأمر الله سبحانه. ابتلاه الله في نفسه عليه الصلاة والسلام فيحمل في المنجنيق ويلقى في النار، هل يدعو أحداً غير الله سبحانه أو أنه سيصبر على ذلك؟ وتأتيه الملائكة تسأله: ألك إلينا حاجة؟ يقول: لا، حاجتي إلى الله وحده سبحانه تبارك وتعالى، وهو يلقى في النار ولا يطلب شيئاً إلا من الله عز وجل! ويأتي أمر الله: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69]، فكانت أحلى أيامه تلك التي مكثها في النار والنار حوله، وهو كأنه في جنة بداخلها عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. فهذا القلب السليم الذي وصل به إبراهيم لأن يكون أمة وحده، وأن يكون إماماً للأنبياء عليه الصلاة والسلام.

تفسير قوله تعالى: (إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون)

تفسير قوله تعالى: (إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون) قال سبحانه تبارك وتعالى عن إبراهيم: {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ} [الصافات:84 - 85]، هنا قال: {مَاذَا تَعْبُدُونَ}، وفي الشعراء قال: {مَا تَعْبُدُونَ} [الشعراء:70]، وهذا تفنن في صيغ القرآن، لا تتكرر الصيغة نفسها ولكن يتفنن فيها، ففي كل سورة يذكر ما يليق بها. قال إبراهيم {لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ} [الصافات:85]، منكراً عليهم عبادة الأصنام، وكان أبوه يصنع لهم الأصنام التي يعبدونها من دون الله، قال: {أَئِفْكًا}، والإفك أعظم الكذب المفترى المختلق {أَئِفْكًا} تفترون على الله؟ تصنعون الأصنام بأيديكم وتعبدونها من دون الله عز وجل؟! {أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} [الصافات:86] أتريدون آلهة من دون الله تعبدونها وتعلمون أنها لا تنفعكم ولا تضركم؟ {فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:87]، كيف ذهب وهلكم وظنكم بالله سبحانه تبارك وتعالى؟ أتظنون أنه يترككم تعبدون غيره ويترككم في هذه الدنيا بغير حساب ولا عقوبة؟ ما ظنكم برب العالمين؟ أين ذهب رشدكم؟ كيف ذهب خيالكم في ربكم سبحانه فجعلتموه أقل من هذه الأشياء فعبدتموها من دون الله سبحانه؟! أين ذهبت عقولكم؟

تفسير قوله تعالى: (فنظر نظرة في النجوم)

تفسير قوله تعالى: (فنظر نظرة في النجوم) قال الله تعالى: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ} [الصافات:88] عليه الصلاة والسلام، وكان قومه أهل نجوم ينظرون في النجوم ويتكلمون بالطالع أنه يحصل كذا وسيحصل لنا كذا وإبراهيم عليه الصلاة والسلام يتعامل مع قومه بشيء من الذكاء العظيم الذي وهبه الله عز وجل له، فيوهمهم بالشيء الذي يقصد خلافه حتى ينفذ ما يريد عليه الصلاة والسلام، لما كان مع عباد الكواكب والنجوم دعاهم إلى الله سبحانه تبارك وتعالى ليعبدوه، فإذا بهؤلاء يعبدون الكواكب والنجوم من دون الله سبحانه، فقال لهم: ما الذي تعبدونه؟ قالوا: نعبد هذه الآلهة، فنظر إلى هذه الآلهة التي يعبدونها من دون الله فظهر كوكب فقال: {هَذَا رَبِّي} [الأنعام:76] هو هذا الإله الذي تعبدونه من دون الله وتدعونني إلى عبادته؟! {هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام:76] الذي يطلع ويختفي هذا لا ينفع أن يكون إلهاً، فلما بدأ القمر بعد ذلك بارزاً ومنيراً {قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام:77] في زعمكم، فهذا أكبر من الأول، فيكون هذا هو الرب {هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَاَلَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي} [الأنعام:77] الحقيقي {لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} [الأنعام:77 - 78] هي أكبر شيء، إذاً هذا ربي، وهذا ليس اعتقاداً من إبراهيم، فالمقام ليس مقام نظر أي: أنه يفكر ويبحث عن إله، لا، وإنما المقام مقام مناظرة، وفي المناظرة يتنزل الخصم مع خصمه، كما تجادل شخصاً فتقول: لو فرضنا أن الذي تقوله صحيح، وأنت معتقد تماماً أن الكلام الذي يقوله غلط، فهذا تنزل في المناظرة، فهذا كان من إبراهيم مناظرة وليس نظراً، يتنزل معهم حتى يقنعهم بأنهم على باطل، فقال: {هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} [الأنعام:78] يعني: بزعمكم الذي تقولونه، {فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:78]. إذاً: تدرج معهم بشيء وراء شيء، فلو قال لهم من البداية: هذا كله باطل لا يسمعون منه، ولكن أحب أن يستدرجهم حتى يصلوا في النهاية أنه فعلاً لماذا اختفى الأول والثاني والثالث؟ إذاً: لا تنفع هذه الآلهة، فهذا من إبراهيم مناظرة لقومه، وكم له في ذلك من أشياء. وانظروا إلى مناظرته مع النمرود عندما قال: إنه الرب، وهو الذي يحيي ويميت، إبراهيم يقول: ربي الذي يحيي ويميت، قال: وأنا كذلك أحيي وأميت، قال: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة:258] أعطى خصمه أدلة أمام الأعين لا أحد يقدر يجادل فيها، فهو لما قال: أنا أحيي وأميت أحكم على اثنين بالإعدام فأقول لأحدهما: عفوت عنك وأقتل الثاني، فأنا أحييت هذا وأمت هذا، فالناس سيصدقونه فيما يقول من كلام فارغ، فإبراهيم أعطاه الشيء الذي لا يعرف كيف يناقش فيه، فقال له: أنت تدعي هذا الشيء فهذه الشمس تطلع من هنا فائت بها من هنا، {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:258]. فإبراهيم عليه الصلاة والسلام آتاه الله عز وجل ما يجادل به قومه، ويقنع بكلامه، وإن كان كفرهم يطمس على قلوبهم فلا يعقلون ولا يهتدون. قال تعالى: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ} [الصافات:88] كهيئة المتفكر، وكأنه ينظر الأمر وهو يريد حيلة ليقعد في دار الأصنام فيكسرها، فهم لن يتركوا إبراهيم وهو على خلاف ما يقولون، إذاً دبر حيلة مع هؤلاء، فنظر في النجوم كهيئة المتفكر ثم عندما قال: (إِنِّي سَقِيمٌ) فظنوا أنه نظر في النجوم فتنبأ أنه سيمرض غداً قال: {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89]، فأوهمهم أنه سيأتيه مرض معدي فيخافون ويتركونه {فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ} [الصافات:90]، لئلا يعدينا بمرضه، فهم كانوا خارجين إلى عيد لهم وأرادوا أخذ إبراهيم عليه الصلاة والسلام معهم في عيدهم لعله يقتنع بما هم فيه، ويترك ما يدعوهم إليه، وأراد هو أن يمكث في يوم العيد وهم يخرجون فيأتون بطعامهم ليجعلوه في دار الأصنام لأجل أن تأتيها البركة من هذه الأصنام، فإبراهيم عليه الصلاة والسلام قال: {إِنِّي سَقِيمٌ * فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ * فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} [الصافات:89 - 91] يستهزئ ويستهين بهذه الآلهة، الأكل متروك أمامكم لماذا لا تأكلون من هذا الطعام؟ وضعوا الطعام أمام الآلهة وهم يعرفون أن الآلهة لا تأكل ولا تشرب، وأنها كذب وزور، يفترون على الله الكذب! وقوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89] هذه واحدة من ثلاث كذبات كذبها إبراهيم عليه الصلاة والسلام في حياته كلها، ومن من الناس لا يكذب في حياته إلا هذا العدد؟! وإبراهيم معصوم عليه الصلاة والسلام، والله أذن له في ذلك، وكلامه كان تعريضاً، وظاهر الكلام أنه كذب، قال: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89] وليس مريضاً، ولكن الإنسان عندما يقول: إني مريض يحتمل أنه مريض مرضاً عضوياً أو مرضاً نفسياً أو أن بقلبه علة من شؤم هؤلاء وكفرهم، إذاً: ضاقت نفسه وقلبه عن ذلك، أو {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89] كقوله الله سبحانه: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]، لما كان الموت آتٍ آتٍ وأتى أمر الله قال لنبيه وهو على الحياة: {إِنَّكَ مَيِّتٌ} [الزمر:30] يعني: إنك ستموت، وقال إبراهيم: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89] يعني: سأمرض، ومن الأمراض التي يبتلى بها الإنسان مرض الموت، فينزل في كل إنسان قبل موته ذلك أو بحسب ما يريد الله سبحانه، فكأنه قال: إني سأمرض موهماً لهم بأنه نظر في النجوم فأخبرته بذلك، {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89]. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين وهذا لفظ مسلم - أنه قال: (لم يكذب إبراهيم عليه السلام قط إلا ثلاث كذبات ثنتان في ذات الله قوله: (إني سقيم)، وقوله: (بل فعله كبيرهم هذا)، وواحدة في شأن سارة) أي: زوجته. وحقيقة هذا الذي فعله كان تعريضاً أذن الله عز وجل له في ذلك، فعرض في الكلام فأوهمهم بالشيء الذي هو خلاف الواقع، فلما قال: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89] أي: إني سأمرض، سينزل بي الموت، فظنوا أنه سيمرض بالطاعون ففروا منه مدبرين وتركوه ومرضه عليه الصلاة والسلام. والمرة ثانية: لما كسر الأصنام وسيأتي ذلك {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء:63]؛ ليعرض عليهم إن كانوا هؤلاء ينطقون، ويأكلون ويشربون، إذاً الذي فعل هذا الشيء هو كبيرهم، ولكن أنتم تعرفون أنهم لا يأكلون ولا يشربون فلم يفعل الكبير شيئاً، {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:63]، وهذا الذي قاله إبراهيم كان في ذات الله عز وجل. المرة الثالثة: وإن كانت في ذات الله ولكن لنفسه فيها حظ وشأن، وهي في سارة زوجته. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قدم إبراهيم أرض جبار ومعه سارة)، قدم إبراهيم أرض في مصر مهاجراً، قال: (وكانت أحسن الناس) يعني: كانت سارة أجمل النساء، (فقال لها: إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك، فإن سألك فأخبريه أنك أختي فإنك أختي في الإسلام، فإني لا أعلم في الأرض مسلماً غيري وغيرك). فإبراهيم عليه الصلاة والسلام خاف من الجبار، وهو فر من الجبابرة الذين أرادوا إحراقه وجاء إلى مصر، فإذا بالجبار يعلم أن معه امرأة من أجمل النساء فأراد أن يأخذ امرأته، فلو قال: هي زوجتي لقتله وأخذها، فكأنه دافع عن نفسه بهذا الذي قاله معرضاً: أختي، ويعني: أختي في الإسلام، فهي زوجته وأخته في دين الله سبحانه تبارك وتعالى، (فلما دخل أرض هذا الجبار رآها بعض أهل الجبار فأتاه فقال له: لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي لها أن تكون إلا لك) هؤلاء وزراء السوء! قالوا له: امرأة دخلت الديار ما ينبغي في جمالها إلا أن تكون لك أنت (فأرسل إليها فأتي بها، فقام إبراهيم عليه السلام إلى الصلاة فلما دخلت عليه -على هذا الجبار- لم يتمالك أن بسط يده إليها فقبضت يده قبضة شديدة). إبراهيم قائم يصلي يدعو ربه ويستغيث به، وهي قامت تتوضأ وتصلي وتدعو ربها سبحانه، فإذا بالجبار يبسط يده إليها فيشل الله عز وجل يده وتقبض قبضة شديدة (فإذا به يستجير بها) هذا الملك يستجير بـ سارة ويقول لها: (ادعي الله أن يطلق يدي ولا أضرك ففعلت) ما صدق (فعاد مرة ثانية وأراد أن يأخذها فقبضت يده أشد من القبضة الأولى فإذا بالله عز وجل يرسل عليه ما يصعقه ويغط برجله) ليقع على الأرض صريعاً يخبط برجله، وتقبض يده قبضة شديدة لا يقدر على تحريكها، (فقال لها مثل ذلك مرة ثانية ومرة ثالثة فعلم أنه لن يقدر عليها فقال ونادى من معه: إنك إنما أتيتني بشيطان ولم تأتني بإنسان)، قال للذين نصحوه بها: ما أعطيتم لي إنساناً، أعطيتم لي شيطاناً، وكأنه من خوفه منها أهدى لها هاجر، فأعطاها هاجر فكانت هاجر من مصر، وكانت لهذا الجبار فوهبها لها فكانت أمة لـ سارة وسارة وهبتها بعد ذلك لإبراهيم، فجامعها إبراهيم عليه الصلاة والسلام فكان منها إسماعيل، وكان منها أبناء إسماعيل، وكان م

تفسير سورة الصافات [83 - 101]

تفسير سورة الصافات [83 - 101] يصطفي الله من البشر رسلاً، ويؤيدهم سبحانه بمعجزات وآيات يتجلى فيها حفظ الله لأنبيائه ونصرته لهم، ولكن من أعمى الله بصيرته عن الحق فلا يعقل معجزة ولا آية، ولنا في قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه عظة وعبرة.

تفسير قوله تعالى: (وإن من شيعته لإبراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم)

تفسير قوله تعالى: (وإن من شيعته لإبراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الصافات: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ * فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ * فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ * فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ * قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ * قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ} [الصافات:83 - 98]. يذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات في سورة الصافات قصة إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وأنه من شيعة نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام أي: ممن تبعه من ذرية نوح عليه الصلاة والسلام، وممن تبعه على التوحيد وعلى الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات:83 - 84]، أي: اذكر ذلك حين جاء إبراهيم ربه بقلب سليم، إذ أخلص قلبه لله سبحانه، ووجه وجهه لله، وعمل الأعمال العظيمة يتقرب بها إلى الله سبحانه، لا شرك فيها، ولا شبهة فيها، ولا رياء فيها.

تفسير قوله تعالى: (إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون)

تفسير قوله تعالى: (إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون) قال الله تعالى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ} [الصافات:85] أي: كانوا يصنعون الأصنام، وكان أبوه ينحت الأصنام لقومه، فقال لقومه: {مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا} [الصافات:85 - 86] أي: كذباً، وبهتاناً، وزوراً وآلهة تزعمونها دون الله، تريدون أن تتخذوها وأن تعبدوها. قال تعالى: {فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:87] أي: أين ذهبت عقولكم؟ فظننتم بالله ظن السوء، وظننتم أن هذه تنفع وتضر مع الله سبحانه، وظننتم أن هذه يوجه إليها عباده، وأنتم الذين صنعتموها، {فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}، أنه صانع بكم؟ وقد كفرتم به وأشركتم، هل يترككم على ذلكم؟ قال تعالى: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:88 - 89] أي: نظر كهيئة المتطلع والناظر في النجوم أي: متفكر حتى يظن هؤلاء أنه سيقول شيئاً بناء على نظره في النجوم، {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89]، وكأن المقصد أنه مريض، فيفهمون منه أنه سيمرض بسبب نظره في النجوم، فكأنه اطلع على غيب واطلع على شيء، {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89]، وأوهمهم أنه سيصاب بمرض أو أنه سيكون فيه مرض معدٍ. ولذلك تركوه بعد ما كانوا يريدون أن يأخذوه معهم إلى عيدهم في الصباح لعله يغير رأيه في آلهتهم ويكون مثلهم، فقالوا: إنا ذاهبون إلى العيد واخرج معنا يا إبراهيم، قال: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89]، وكانت فرصة لإبراهيم أن يخرج جميعهم ويكون هو وحده مع الأصنام فيكسر هذه الأصنام لعلهم يرجعون عن عبادتها.

تفسير قوله تعالى: (فتولوا عنه مدبرين)

تفسير قوله تعالى: (فتولوا عنه مدبرين) قال تعالى: {فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ} [الصافات:90]، أي: ذهبوا مهرولين تاركين له؛ لئلا يكون فيه مرض معدٍ يعديهم، وتركوه في هذا المكان وحده عليه الصلاة والسلام، فكسر أصنامهم. قال تعالى: {فَرَاغَ} [الصافات:91] راغ يروغ روغاً وروغاناً بمعنى: يميل ويتحرك بخفة، فتحرك إبراهيم سريعاً إلى هذه الأصنام، وراغ ومال عليها. قال تعالى: {فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} [الصافات:91]، يتهكم ويسخر من هذه الأصنام، وكانوا قد وضعوا طعاماً عند هذه الأصنام؛ لتحصل البركة لهذا الطعام حتى يرجعوا ويأكلوا منه. فقال ساخراً من قومه ومن أصنامهم: {أَلا تَأْكُلُونَ} [الصافات:91] أي: الطعام موضوع، فهل تأكلون من هذا الطعام؟ فقال: {مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ} [الصافات:92]، وقد علم واستيقن أنهم لا ينطقون، ولكن على وجه الاستهزاء من هذه الآلهة الباطلة التي لا تنفع نفسها فضلاً عن غيرها. قال تعالى: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} [الصافات:93] أي: سريعاً جرى إليهم بفأس بيده عليه الصلاة والسلام، وكسر هذه الأصنام جميعها، {إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:58]. فكان يقصد السخرية من هذه الأصنام وبعقول قومه حين يسألونه: من صنع هذا بآلهتنا؟ {إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:59]، فإن كان هؤلاء يأكلون ويشربون ويعقلون، فإن هذا الكبير هو الذي فعل ذلك.

تفسير قوله تعالى: (فأقبلوا إليه يزفون)

تفسير قوله تعالى: (فأقبلوا إليه يزفون) قال تعالى: {فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} [الصافات:94]، ذكر الله سبحانه أنه كسر هذه الأصنام بيمينه وبقوته وقدرته التي أعطاه الله سبحانه إياها، قال تعالى: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} [الصافات:93]، فأقبل القوم، {إِلَيْهِ يَزِفُّونَ}، وفي سورة الأنبياء ذكر الله عز وجل: {إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:58]، ولما رجعوا ونظروا إلى ذلك: {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:59]، وكأن إبراهيم قد تكلم قبل ذلك حين أقسم بالله سبحانه فأسمع بعضاً من القوم فقال: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} [الأنبياء:57]. فسمع البعض ذلك، وكأنهم في ذلك الوقت لم ينتبهوا ما الذي يقصده إبراهيم بذلك، فلما رجعوا وجدوا الأصنام قد كسرت، {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:59]، قال هؤلاء الذين سمعوه: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ} [الأنبياء:60 - 61] أي: أمام الناس حتى يشهدوا عليه بما صنع. وقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَزِفُّونَ}، هذه قراءة الجمهور، والقراءة الأخرى (إِلَيْهِ يُزِفُّونَ) قراءة حمزة، يزفه أي: يجري متعجلاً إلى المكان في شيء من الإسراع والتوجه إلى هذا المكان، فقالوا: {يَزِفُّونَ}، أي: يمشون مشياً سريعاً، ويتحركون حركة بخفة في الجري فيها تقارب الخطا، فهم يندفعون ويسرعون ويدفع بعضهم بعضاً حتى يقبلوا على إبراهيم وينظروا ما الذي صنع!

تفسير قوله تعالى: (قال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون)

تفسير قوله تعالى: (قال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون) فقال يجادلهم: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} [الصافات:95] أي: أتعبدون هذه الأصنام التي نجرتموها وصنعتموها من الخشب، ومن الحديد، ومن الحجارة؟! فقوله تعالى: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ}، أي: ألا تعجبون من أنفسكم قد صنعتم الأصنام ثم عبدتموها من دون الله! قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] أي: هل نسيتم الله سبحانه الذي خلقكم وما تعملون؟ فالله خالق كل شيء سبحانه وتعالى، خلق العباد، وخلق أفعال العباد سبحانه وتعالى، (وما) هنا فيها معنيان: إما أن تكون موصولة، وإما أن تكون مصدرية، وكلاهما صحيح (ما) موصولة بمعنى: والله خلقكم والذي تعملون. إذاً: أنتم صنعتم هذه الأصنام من حجارة ومن نحاس وحديد ومن خشب، والله هو الذي خلق الحجارة والنحاس والحديد والخشب، فكيف تتركون الله الذي خلقكم، وخلق هذه الأشياء وتعبدون هذه المخلوقات؟! أين ذهبت عقولكم؟! وإذا كانت (ما) على المعنى الثاني، أي: مصدرية يعني: خلقكم وأعمالكم. إذاً: الله خالق العباد وأفعالهم، وهذه عقيدة أهل السنة والجماعة، وكل شيء خلقه الله، والعبد يكتسب فعله ولا يخلقه، ولكن الخالق الله، والعبد اكتسب هذه الأفعال، ويجازى العباد على ما اكتسبوا من خير أو شر، فهم اختاروا، واكتسبوا، وفعلوا، والله يجازيهم على كسبهم وعلى اختيارهم. ولما وجد إبراهيم أنهم يريدون أن يعقلوا ذكر الله سبحانه أن إبراهيم: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:63] أي: اسألوا هذا الكبير، فهو الذي كسرها، وهذه واحدة من الكذبات الثلاث التي كذبها إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وكانت في ذات الله، وكان حقيقتها التعريض في الكلام. وقوله تعالى: {إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:63] فيه تعليق الشيء على المستحيل مثل قولك: إن كنت أطير أصعد إلى السماء، وأنت تعلم أنك لا تطير فمستحيل أن تصعد إلى السماء. فكذلك هؤلاء يقول لهم إبراهيم: إن كان هؤلاء ينطقون فهذا الكبير هو الذي صنع بهم ذلك، وهم يعلمون يقيناً أنهم لا ينطقون، إذاً: لم يصنع الكبير شيئاً. قال تعالى: {فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ} [الأنبياء:64 - 65]، إذاً: أين عقول هؤلاء القوم وهم يجادلون؟ {فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ}، لم يرجعوا إلى عقولهم، بل رجع يلوم بعضهم بعضاً، ويقولون: نحن مخطئون، لماذا لم نجعل أحداً منا يحرس الأصنام؟! وإذا كانت تحتاج لمن يحرسها لا تصلح أن تكون آلهة، فقالوا ذلك، {إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} [الأنبياء:64]، حيث لم تحرسوا أصنامكم، {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ} [الأنبياء:65]، دون أن يفكروا في هذا الذي يقولونه، فهذه أصنام تحتاج لمن يحرسها فلا تصلح أن تكون آلهة، ورجعوا على أعقابهم، وانقلبوا على رءوسهم بغباء وقالوا لإبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام: سنكيد لك مثل ما كدت لأصنامنا، قال تعالى: {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} [الصافات:97]، ورجعوا إلى أنفسهم وقالوا لإبراهيم: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ} [الأنبياء:65]، {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:95 - 96].

تفسير قوله تعالى: (ابنوا له بنيانا فألقوه فجعلناهم الأسفلين)

تفسير قوله تعالى: (ابنوا له بنياناً فألقوه فجعلناهم الأسفلين) إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام يناقش هؤلاء فلا يستطيعون أن يردوا عليه بالحجة، فيهزمهم في الرأي فيريدون أن يغلبوه بشيء ثانٍ غير الرأي، طالما ليس هناك فائدة في الرأي، فيقولون: {ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} [الصافات:97] يعني: يبنون له قرناً كبيراً جداً من ورائه سور عظيم ويضعون فيه الحطب والخشب حتى يوقدوا ناراً عظيمة فيحرقوا بها إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. وقوله تعالى: {فِي الْجَحِيمِ} [الصافات:97] في ظنهم أنها جحيم، والجحيم: النار المستعرة، المتوقدة، فقالوا: ألقوه في الجحيم. فكانوا جميعهم يجمعون الحطب والحجارة ويلقونها في هذا المكان الذي سيرمون فيه إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا} [الصافات:98] أي: كادوا لإبراهيم، واحتالوا له الحيل بحيث إنه يكون في بناء محكم، ويرمونه من بعيد بالمنجنيق داخل هذه النار. وهزمهم الله سبحانه وتعالى، وجعلهم الأخسرين، وجعلهم الأسفلين، ولم ينصرهم لا في حجة ولا بغلبة من قوتهم، فهزمهم الله سبحانه وتعالى، إذ قال الله سبحانه: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69]. روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: في قول الله سبحانه: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]، قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]. وروى البخاري أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان آخر قول إبراهيم حين ألقي في النار: حسبي الله ونعم الوكيل)، أي: يكفيني الله. وكان كل من يعرض على إبراهيم المساعدة يقول: الله الذي يكفيني لا أحتاج إلى أحد إلا إلى الله، وكان آخر ما قاله إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهو يلقى في النار: حسبي الله ونعم الوكيل. جاء عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (بنوا حائطاً طوله في السماء: ثلاثون ذراعاً) يعني: حوالى خمسة عشر متراً، لكي يملئوه بالحطب، ويرموا فيه إبراهيم من بعيد على نبينا وعليه الصلاة والسلام، (فلما ألقوه في النار قال: حسبي الله ونعم الوكيل). وروى ابن ماجة، وأحمد من حديث نافع عن سائبة مولاة الفاكه بن المغيرة (أنها دخلت على عائشة فرأت في بيتها رمحاً موضوعاً، فتعجبت فقالت: يا أم المؤمنين! ما تصنعين بهذا؟ فقالت: نقتل به هذه الأوزاغ)، والوزغ: عبارة عن نوع من الأبراص وهو سام فالسيدة عائشة مجهزة الرمح في بيتها رضي الله عنها لتقتل به الأوزاغ، وعللت فقالت: (فإن نبي الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن إبراهيم لما ألقي في النار لم تكن في الأرض دابة إلا أطفأت النار غير الوزغ). فالبشر كفروا بالله سبحانه، وجمعوا الحطب ليحرقوا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وما من دابة إلا وتذهب لتطفئ عن إبراهيم هذه النار التي أوقدها هؤلاء، إلا هذا الوزغ السام، كان ينفخ النار على إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله وسماه فويسقاً أو فاسقاً، ولكن أمر الله أسرع من هذا كله، فقد أتى أمر الله وتغيرت طبيعة النار نفسها، قال تعالى: {كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69]، ولو قال: {كُونِي بَرْدًا}، لكانت باردة فآذته ببردها، ولكن قال: {بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ}، فكانت النار فيها السلامة لإبراهيم عليه الصلاة والسلام باردة عليه، وهنيئاً له هذا الوقت الذي كان فيه. ونجاه الله من أعدائه، إذ هم لا يقدرون أن يقربوا من النار، ولو كانت النار: {بَرْدًا وَسَلامًا} على الجميع لدخلوا إليه وأرادوا قتله بداخلها. ولكن النار التي أججوها خافوا أن يقربوا منها وكانت: {بَرْدًا وَسَلامًا}، عليه، وهم يرونه وينظرون إليه من بعيد وهو في هذه النار في عيشة هنية عليه الصلاة والسلام، ويتعجبون لأمره حتى خرج إليهم يمشي من هذه النار ولم تحرق منه إلا ما كان أغلالاً وقيوداً عليه، وخرج سليماً معافى، فكان من الله عز وجل المعجزة العظيمة في ذلك. فقوله تعالى: {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ} [الصافات:98] أي: المغلوبين، المقهورين بالحجة وبأمر الله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين)

تفسير قوله تعالى: (وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين) خرج إبراهيم من النار ولم يجد فيهم أملاً في الإيمان، فقال: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي} [الصافات:99] أي: مهاجر من هذا المكان الذي تعبدون فيه الأوثان، وأذهب إلى ربي لأعبده سبحانه، وأدعو إليه سبحانه. وقوله تعالى: {سَيَهْدِينِ} [الصافات:99]، هذه قراءة الجمهور، وقراءة يعقوب: (سَيَهْدِيني). قال الله تعالى: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:100]، فدعا ربه سبحانه أن يرزقه من يؤنس وحدته، وكان حتى هذا الحين ليس معه أحد إلا زوجته المؤمنة فدعا ربه أن يؤنسه بولد حليم، وولد صالح قال تعالى عنه: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات:100 - 101]، الغلام: من الغلمة والاغتلام، أي: الاشتداد ومعناه: أنه بلغ الحلم، وكأنها بشارة من الله له أنه سيولد لك ولد ويعيش في هذه الفترة، وقال: حليم، والصبي الصغير لا يوصف بأنه حليم، إنما الحليم يوصف به الكبير، فكأنها بشارة من الله عز وجل أنه سيكون له الولد الذي يحلم ويكبر معه ويكون كبيراً ويسعى معه، فكان له إسماعيل بعد ذلك. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الصافات [99 - 102]

تفسير سورة الصافات [99 - 102] لقد ابتلى الله سبحانه نبيه إبراهيم عليه السلام ليكون أهلاً لحمل رسالة التوحيد، ففي هجرة إبراهيم من بلاد إلى بلاد بلاء له عليه السلام، فقد حصل له من المحن والمشاق ما جعله أهلاً لأن يكون خليل الله، وتتجلى في سورة الصافات طاعة إبراهيم عليه السلام لربه، وطاعة ولده إسماعيل لربه ولأبيه وصبره وحلمه.

تفسير قوله تعالى: (وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين)

تفسير قوله تعالى: (وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الصافات: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:99 - 102]. يذكر الله سبحانه وتعالى قصة الذبيح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام في هذه الآيات من سورة الصافات، قال عن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99]، قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام ذلك بعد أنْ كسر أصنام القوم، وبعد ما أرادوا إحراقه عليه الصلاة والسلام، فنجاه الله عز وجل من النار، وكان مولد إبراهيم في العراق في بلدة اسمها (أور) في جنوب العراق، وكان قومه يعبدون الأصنام وكان أبوه يصنع هذه الأصنام لقومه، فإبراهيم هداه الله سبحانه وتعالى إلى الحق، ودعا أباه فرفض أبوه أن يتابعه، ودعا قومه إلى عبادة الله سبحانه فأبوا، فلما خرجوا إلى عيد لهم قال: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ} [الأنبياء:57] يعني: هذه الأصنام، فسار لها وكسرها وترك كبيرها وقال: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:63].

هجرة إبراهيم عليه السلام من العراق إلى بلاد الشام

هجرة إبراهيم عليه السلام من العراق إلى بلاد الشام أرادوا بإبراهيم كيداً فجعلهم الله عز وجل الأخسرين، ونجاه من هؤلاء، ولما نجاه الله سبحانه وتعالى من النار ووجد أن هؤلاء القوم لا فائدة فيهم، فكر أن يهاجر من أرض قومه ويخرج إلى شمال العراق، وكان مولده في جنوب العراق فخرج إلى شمالها حتى وصل إلى حران، وهي الآن جزء من تركيا، فهاجر إبراهيم عليه الصلاة والسلام وكان مقصده أن يذهب إلى بلاد الشام، فسافر عبر البحر الأبيض المتوسط حتى نزل بعد ذلك إلى بلاد الشام، فمن بلده من الجنوب إلى الشمال في حران، ثمَّ ينزل في بلاد الشام، ثمَّ يصل إلى مصر ويرجع ثانية إلى بلدة الخليل فيذهب إلى مكة، فكانت رحلته رحلة طويلة جداً وشاقة، وكلها بلاء واختبار ومحن ومنح من الله عز وجل لإبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه. خرج إبراهيم من بلدته، وخرج معه في هذه الرحلة لوط ابن أخيه، وهو المؤمن الوحيد الذي آمن به، وكان معه امرأته سارة وهي المؤمنة الوحيدة من النساء، وذكروا أن ممن خرج معه أيضاً فاران أخو أبي لوط، وزوجة فاران هي أم لوط، وكانا كافرين ولم يكونا مسلمين، وذكروا أيضاً ممن خرج مع إبراهيم أبوه آزر وكان كافراً، وكأنه خاف على إبراهيم فخرج معه ليس مهاجراً إلى الله، ولكن خوفاً على ابنه، فخرج معه وتوجه إلى حران، وهنالك مات أبوه آزر في حران، ووجد إبراهيم أهل هذه البلدة كفاراً يعبدون الكواكب من دون الله سبحانه وتعالى. خرج من عند قوم يعبدون الأصنام إلى قوم يعبدون الكواكب من دون الله سبحانه، فناظرهم إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، قال الله عز وجل في سورة الأنعام: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:76 - 78] أي: مما تعبدون من دون الله، وهنا وجه إبراهيم وجهه لله سبحانه، كما وجه وجهه لله من قبل مع قومه عباد الأصنام حين ناظرهم، وناظر الملك النمرود، وكان يدعي الربوبية والألوهية وغلبه إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وهاجر إلى أقصى الشام وناظر عباد الكواكب من دون الله فأبهتهم وغلبهم، ثم بعد ذلك تركهم وانصرف إلى بلاد الشام، في رحلة طويلة جداً من تركيا حتى وصل إلى فلسطين ثمَّ الأردن، وهناك في الأردن ذهب لوط عليه الصلاة والسلام إلى عمور وسدوم يدعو إلى الله سبحانه وتعالى بأمر الله، فكان نبياً من أنبياء الله، وهو ابن أخي إبراهيم، وتوجه إلى هذه البلدة بأمر الله سبحانه.

هجرة إبراهيم إلى فلسطين ثم مصر وذكر ما حصل له مع فرعون

هجرة إبراهيم إلى فلسطين ثم مصر وذكر ما حصل له مع فرعون وصل إبراهيم إلى فلسطين إلى بلدة الخليل وسميت باسمه بعد ذلك، يعبد الله ويدعو إلى الله سبحانه وتعالى، وهنالك حدثت مجاعة فتوجه إبراهيم إلى مصر ليتزود منها، ولما وصل إلى مصر وجدهم كفاراً يعبدون غير الله سبحانه، وإذا بفرعون مصر يعلم أن إبراهيم معه امرأة من أجمل نساء العالمين، فأراد أن يأخذها، وخاف إبراهيم من هذا الفرعون، فقال لامرأته: إني سأخبره أنك أختي، ولو قال له إنها زوجته لقتل إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ففي كل بلدة يبتلى فيها إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وهذه من المحن العظيمة التي يريه الله عز وجل بها فضله عليه سبحانه، بأن ينجيه من كل محنة من المحن، وإذا بهذا الرجل يريد أن يأخذ سارة، فدعت ربها سبحانه على ما فصلنا قبل ذلك، وأصاب الله هذا الفرعون بالصرع، وكان يأخذ عنها أخذاً شديداً حتى يلقى على الأرض ويضرب برجله على الأرض، ويطلب منها أن تدعو له وأن يتركها، مرة واثنتين وثلاثة يحدث به ذلك، وفي النهاية يخدمها هاجر وتأخذ سارة هاجر وتنطلق إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وحتى هذا الحين لم يكن لإبراهيم ولد من امرأته سارة، وقد مضى على زواجه منها عشرون سنة، فأحبت سارة أن يكون لإبراهيم الولد، فوهبت له هاجر ووطأ إبراهيم هاجر وكان له منها إسماعيل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، هذا الغلام الحليم الذي ذكر الله سبحانه وتعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات:101]. وقوله تعالى: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99]، قال ذلك وهو في جنوب العراق لما ترك قومه عباد الأصنام، بعد محنة النار، وتوجه إلى الشمال.

تفسير قوله تعالى: (رب هب لي من الصالحين فبشرناه بغلام حليم)

تفسير قوله تعالى: (رب هب لي من الصالحين فبشرناه بغلام حليم) دعا إبراهيم ربه فقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:100] أي: يدعو ربه أن يعطيه غلاماً صالحاً، قال تعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات:101]، والغلام الحليم: الذي عنده حلم، والذي ابتلي فصبر فكان حليماً، وهو إسماعيل على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فالآية دليل على أن الذبيح هو إسماعيل على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وإن كان اختلف المفسرون في ذلك، فذهب بعض كبار المفسرين كالإمام الطبري وأيضاً القرطبي والبعض من التابعين إلى أن الذبيح إسحاق عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام! ولكن الآية تأبى هذا المعنى، قال تعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات:101]، فالذي كان به هذا الحلم هو الذي أُمِرَ إبراهيم عليه الصلاة والسلام بذبحه وهو إسماعيل، وكان إبراهيم عليه الصلاة والسلام قد وطأ هاجر، فكان له منها هذا الغلام الحليم الذي أمر بذبحه، وقد بشر الله عز وجل إبراهيم بإسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب، أي: بشره بأن يكون له إسحاق من سارة، ومن وراء إسحاق سيأتي له ولد اسمه يعقوب، فإذا كان ربنا سبحانه يبشر إبراهيم عليه الصلاة والسلام بأن إسحاق سيكبر ويبلغ ويخلف، ويجيء منه يعقوب، فكيف تكون هذه البشارة يقطعها الله بأن يأمر بذبحه؟! والله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [يونس:55]، ويقول أيضاً: {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:9]، فقد بشر الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام بأن إسحاق سيعيش وسيكون له الولد وإنما الذي أمر بذبحه إسماعيل عليه الصلاة والسلام.

تفسير قوله تعالى: (فلما بلغ معه السعي قال يا بني)

تفسير قوله تعالى: (فلما بلغ معه السعي قال يا بني) قال الله تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات:102]. هذه فتنة أخرى ومحنة أخرى لإبراهيم عليه الصلاة والسلام بعد هذا العمر المجيد الطويل في الدعوة إلى الله سبحانه، يولد له هذا الولد، وبعدما جاوز إبراهيم الثمانين من عمره عليه الصلاة والسلام، وفوق ذلك يأتيه هذا الغلام الحليم، والذي لم يكن معه في بلده، فإنَّ إبراهيم عليه الصلاة والسلام مجرد أن ولد له إسماعيل إذا بـ هاجر تعلو بنفسها على سيدتها سارة، فتغيضت منها سارة ولم تطق بوجودها، فأمرت إبراهيم أن يغيبها، وتحلف بالله أن تقطع منها أعضاء، فإذا بالله سبحانه تبارك وتعالى يجعل لها ما تبر به عن يمينها، بأن تثقب أذنها، وتختنها فكانت سنة، ثم أمر إبراهيم أن يأخذها ويذهب بها إلى مكة.

هجرة إبراهيم إلى مكة بإسماعيل وأمه هاجر

هجرة إبراهيم إلى مكة بإسماعيل وأمه هاجر الله سبحانه بحلمه ورحمته نظر إلى سارة أنها صبرت مع إبراهيم عمراً طويلاً، فيأمر إبراهيم بأن يأخذ ابنه وأم ابنه إلى مكة ويتركها هنالك، وهذا بلاء آخر لإبراهيم عليه الصلاة والسلام، حيث إنه سيحرم من رؤية ابنه وليس هو الذي سيربيه، فأمره الله أن يذهب به إلى مكة ويتركه؛ حتى لا يكون في قلب إبراهيم مكان إلا لله عز وجل وحده لا شريك له، فيذهب به إلى هنالك ويتركه مع أم ولده وهي هاجر في مكة في أرض لا أحد فيها، ولا ماء فيها ولا زرع، ويعطيها سقاء في إناء، وجراباً فيه تمر ويتركها، وهي تقول: إلى من تتركني في هذا المكان الذي لا إنس فيه ولا ماء ولا طعام؟! ويتركها وينصرف حتى لا يظهر التأثر أمامها، ثمَّ تسأله مرات، فإذا بها تقول: آلله أمرك بذلك؟ قال: نعم، قالت: إذاً فلا يضيعنا. فكان عندها الثقة بالله عز وجل، وأن الله طالما أمر إبراهيم بذلك فإن الله لن يضيعها هي وابنها، وتركها، فلما توارى عنها وراء ثنية، أي: أكمة مرتفعة دعا ربه سبحانه، وأظهر حزنه، وأظهر الشفقة التي كان يخفيها عن هاجر وعن ابنها، قال تعالى عنه: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37]، فيدعو ربه سبحانه ويستجيب الله سبحانه وتعالى له، فيأتي إلى هذا المكان وفد من جرهم ويقيمون في هذا المكان. والغرض أن الله سبحانه وتعالى إذا قطع عن إبراهيم شيئاً، فالله عز وجل يصله دائماً، ويتعرض إسماعيل للبلاء في هذا المكان وأمه كذلك، فالأم ترى ابنها يكاد يموت أمامها، ولا لبن في ثديها ولا طعام، وتذهب من جبل الصفا إلى جبل المروة ذاهبة آتية، وتدعو ربها سبحانه حتى يظهر لها جبريل عليه السلام ويبحث بعقبه في الأرض، فتخرج زمزم العين المعين، التي تكون للخلق جميعهم إلى يوم الدين، نعمة من الله سبحانه وتعالى وشفاء سقيم، وطعام جائع، فمن شرب من زمزم وسأل الله عز وجل فالله يعطيه بفضله وبكرمه سبحانه. ويشب إسماعيل ويأتي أبوه إليه، ويأخذه ويتوجه به إلى مكان ويقول: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات:102]، وهو ما زال غلاماً، والغلام: الشاب الصغير، في هذا الوقت يأتيه أبوه ويقول: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ} [الصافات:102] أي: رؤيا منامية، {أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102]، وكأنه يشاوره، وإن كان في الحقيقة أنَّ إبراهيم سينفذ أمر الله سبحانه، ولكن يريد أن يطيب خاطر ابنه ويطيب قلبه لهذا الشيء، وكأنه يقول: ما رأيك؟ ربي يأمرني أنني أذبحك! {فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102]، فإذا بولده إسماعيل يقول: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102]. وقراءة حفص عن عاصم: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ} [الصافات:102]، وقراءة الجمهور: (يا بنيِّ إني أرى في المنام أني أذبحك). وقوله تعالى: {إِنِّي أَرَى} [الصافات:102]، هذه قراءة الجمهور، وقراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو وأبي جعفر: (إِنِّيَ أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّيَ أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى). وقوله تعالى: (ماذا ترى) قرأها الجمهور: {تَرَى}، وقرأها حمزة والكسائي وخلف: (تُرِى) بالبناء للمجهول، وأيضاً بالإمالة؛ لأن قراءتهم لهذه الكلمة بالإمالة. قال الله تعالى: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات:102]، فقوله تعالى: {قَالَ يَا أَبَتِ} [الصافات:102]، هذه قراءة الجمهور، وقرأها ابن عامر وأبو جعفر: (قَالَ يَا أَبَتَ). قال تعالى: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102]، فظهر حلم إسماعيل عليه الصلاة والسلام حين قال لأبيه ذلك، ويقول: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102]، وهذه إشارة من الله لإبراهيم أنه بشره بغلام حليم، فالحلم من الصبر، والصبر كذلك من الحلم، فكان ما قصه الله عز وجل. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الصافات [99 - 113]

تفسير سورة الصافات [99 - 113] امتحن الله نبيه إبراهيم بأمره بذبح ابنه إسماعيل، فكان التسليم منهما جميعاً، ففدى الله إسماعيل بكبش من السماء جزاء إحسانهما، وصارت الأضاحي سنة من بعده، والإنسان قد يكون صالحاً ولكن لا يمنع ذلك أن يكون من ذريته الصالحون المحسنون والظالمون المسيئون.

تفسير قوله تعالى: (فلما بلغ معه السعي)

تفسير قوله تعالى: (فلما بلغ معه السعي) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الصافات: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} [الصافات:99 - 111]. يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، لما دعا قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وكسر أصنامهم وسفه معبوداتهم، واجتمعوا أن يكيدوا له كيداً عظيماً وأن يلقوه في النار ليحرقوه، فأنجاه الله سبحانه وتعالى من النار فأرادوا به كيدا فجعلهم الله عز وجل الأسفلين والأخسرين. قال إبراهيم: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99]. فخرج مهاجراً إلى الله، وإبراهيم كان مولده في جنوب العراق في بلدة اسمها أور، وهاجر من هذا المكان إلى شمال العراق إلى حران وهي في تركيا الآن، ووجد قومها يعبدون الكواكب من دون الله سبحانه، وناظرهم وأبهتهم وغلبهم بالحجة، وتركهم وهاجر إلى الله سبحانه إلى بلاد الشام، ودعا ربه سبحانه {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات:100 - 101]. فبشره الله سبحانه وتعالى بغلام حليم، يولد له، ووصفه بهذه الصفة أنه حليم، وكأنه يستعد هذا الغلام لأمر من الأمور التي يبتلى بها كما ابتلي أبوه عليه الصلاة والسلام، هذا الغلام هو إسماعيل الذي ولد لإبراهيم بعد هجرته من حران في شمال العراق أو في تركيا، ونزل اتجاه البحر المتوسط إلى بلاد الشام، وهنالك أقام إبراهيم فترة وبشره الله سبحانه وتعالى بالغلام الذي ولد له، وحدثت مجاعة في بلاد الشام، فجاء إبراهيم إلى مصر، وأخذ فرعون مصر منه زوجته في قصة ذكرناها قبل ذلك، وأهدى لها هاجر، فهي أمة لـ سارة وسارة أهدتها لإبراهيم، وسارة كانت عقيمة، فوهبت هذه الجارية لإبراهيم عليه الصلاة والسلام لعله يكون له منها الولد، فكان الولد الذي بشر الله عز وجل به الغلام الحليم، جاء على كبر سن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأمره الله عز وجل أن يأخذ هذا الولد ويذهب به إلى مكة ويتركه هناك كما ذكرنا في الحديث السابق، ولما بلغ معه السعي، أي: أنه أدرك السعي مع والده في شئونه، وبلغ الحلم ثلاث عشرة سنة أو فوقها، إذا بأبيه يأتي إليه ويقول: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102]. قال: (يَا بُنَيَّ) هذه قراءة حفص عن عاصم وباقي القراء يقرءونها: ((يَا بُنَيِّ إِنِّي أَرَى)). أيضاً قوله: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ}، يقرؤها نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر: ((إِنِّيَ أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّيَ أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى)). وهذا من إبراهيم نوع من تطييب الخاطر وتطييب القلب لابنه، وإلا فهو سينفذ أمر الله سبحانه وتعالى. وقوله: {فَانظُرْ مَاذَا تَرَى}، هذه قراءة الجمهور، وقراءة حمزة والكسائي وخلف: (تُرى) بالبناء للمجهول والإمالة. {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102]، وكان الجواب من هذا الغلام الذي وصفه الله عز وجل بالحلم أنه عاقل ويتروى في أمره ويصبر، فهو غلام حليم، كما قال الله تعالى: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102]. ستجدني إن شاء الله من الصابرين، والبلاء بلاء عظيم، إذ إنه سيذبح؛ ولذلك استثنى وقدم مشيئة الله سبحانه وتعالى، وكان من المتوقع أنه سيفزع، ولكن قال: إن شاء الله، قال الله تعالى: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102]. وقراءة الجمهور: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ} [الصافات:102]، وقراءة نافع وأبي جعفر: ((سَتَجِدُنِيَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ)).

تفسير قوله تعالى: (فلما أسلما وتله للجبين)

تفسير قوله تعالى: (فلما أسلما وتله للجبين) قال الله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:103] أي: أسلما أمرهما لله سبحانه، استسلم الغلام لأمر الله سبحانه وسلم نفسه لأبيه، وأوثقه أبوه، قال تعالى: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:103]، وتل الشيء بمعنى: وضعه، وهنا كأنه ألقاه للجبين، وهذه من رحمة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وذكر أنها بمشورة إسماعيل، إذ خشي أن أباه لا يقدر أن يذبحه، فطلب من أبيه أن يذبحه من قفاه؛ لأنه لعله ينظر إلى وجهه فيصعب عليه تنفيذ أمر الله، فألقاه على جبينه، وجعل وجهه إلى الأرض حتى لا يرى وجهه.

تفسير قوله تعالى: (وناديناه أن يا إبراهيم)

تفسير قوله تعالى: (وناديناه أن يا إبراهيم) قال الله تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ} [الصافات:104]. الواو تفيد مطلق العطف، ولم يقل: فناديناه للترتيب والتعقيب؛ لأن الأمر جاء سريعاً من الله سبحانه، فكانت الواو أسرع من الفاء ومن ثم، فقال: {وَنَادَيْنَاهُ}. فالأمر لإبراهيم امتحان، ونجح إبراهيم في الامتحان، قال تعالى: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات:105]. أي: أنت صدقت واستيقنت بأمر الله سبحانه، وأظهرت أن حبك لله فوق حبك لولدك، وفوق حبك لكل شيء ونجحت في الامتحان، فلا تفعل شيئاً، قال تعالى: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:105].

تفسير قوله تعالى: (إنا كذلك نجزي المحسنين وفديناه بذبح عظيم)

تفسير قوله تعالى: (إنا كذلك نجزي المحسنين وفديناه بذبح عظيم) قال الله تعالى: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:105] أي: كهذا الجزاء العظيم الذي جازينا به إبراهيم عليه الصلاة والسلام، كذلك نجزي كل إنسان يحسن في عبادته لله سبحانه، وننجيه من الكرب والغم كما نجينا إبراهيم، ونجينا ابنه كذلك. قال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ} [الصافات:106] أي: الاختبار والامتحان الصعب، الشديد المبين، فهو بين تماماً صعوبة هذا الامتحان الذي اجتازه إبراهيم عليه الصلاة والسلام ونجح فيه، فهو البلاء البين الواضح الجلي. وقوله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:107]، فدى الله عز وجل إسماعيل بكبش عظيم، وصفه الله عز وجل بذلك بأنه عظيم، أي: في هيئته وفي منظره، ومن هنا جاء استحباب التضحية بالكبش العظيم. فآتاه الله عز وجل مع جبريل كبشاً أقرن، وكانت قرون هذا الكبش معلقة في الكعبة حتى فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة، وأمر عليه الصلاة والسلام؛ حتى لا تشغل من يصلي، وهذا من الأدلة على أن الذبيح كان إسماعيل وليس إسحاق، فإن إسحاق لم يذهب إلى هنالك، إنما الذي ذهب إلى هنالك هو إسماعيل، فقد عاش وتربى هنالك، وفداه الله عز وجل بالذبح العظيم.

تفسير قوله تعالى: (وتركنا عليه في الآخرين)

تفسير قوله تعالى: (وتركنا عليه في الآخرين) قال الله تعالى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ} [الصافات:108] أي: تركنا على إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام الثناء الحسن في الآخرين، في الأمم التي تخلف وتأتي بعده إلى يوم الدين، فكل من يذكر إبراهيم من أهل كل ملة يصلون ويسلمون عليه، ويقولون: عليه الصلاة والسلام. قال الله سبحانه: {كَذَلِكَ} [الصافات:110]، أي: كهذا الجزاء العظيم {نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:110]. وكرر ذلك مرتين: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:105]. الأولى نجزي المحسنين بأن ننجيهم من الغم ومن الكرب ومن الهم، فالإنسان الذي يريد من الله عز وجل أن يستجيب له في الضراء فليكن محسناً، وليكن مؤمناً، وليتقرب إلى الله سبحانه وتعالى في وقت الرخاء، ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يستجاب له في الضراء فليكثر من الدعاء في الرخاء) فالذي يعود نفسه على كثرة الدعاء في وقت الرخاء والسعة والغنى، فهذا جدير أن يستجاب له إذا نزلت به مصيبة؛ لأنه متعود في وقت النعمة على أن يدعو ربه، والعادة في الإنسان أن طبيعته عجيبة، كما يقول الله سبحانه: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7]. فالإنسان إذا وجد نفسه مستغنياً يترك العبادة ولا يدعو ربه سبحانه وتعالى! فالإنسان يجاوز حده ويترك عبادة ربه سبحانه وتعالى إذا رأى نفسه قد استغنى في زعمه، لذلك فإن الذي يستجيب لله عز وجل في وقت البلاء هو ذلك الإنسان الذي اعتاد على حسن العبادة لربه سبحانه في كل أحواله. فكأنه في الأولى قال: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:105] أي: ننجيه من الغم، وفي الثانية قال: {كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:110] يعني: يثني عليهم ويأتي بعدهم من يذكرهم بخير، فالله عز وجل يجعل الذكر الجميل والثناء الحسن للإنسان الذي يحسن في عبادة ربه سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (إنه من عبادنا المؤمنين)

تفسير قوله تعالى: (إنه من عبادنا المؤمنين) قال الله تعالى: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} [الصافات:111]. (إنَّ) هنا تعليلية، أي: لأنه من عبادنا المؤمنين، أو توكيد وتحقيق، أي: إن إبراهيم كان حقيقاً بذلك، فهو مؤمن عليه الصلاة والسلام، وهو الذي لم يشك في ربه أبداً، ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (نحن أحق بالشك من إبراهيم) والمعنى: لو كان إبراهيم يشك، لكنا نحن أولى بالشك منه، ومعلوم أننا نحن لا نشك، ومستحيل أن يشك إبراهيم في قدرة ربه سبحانه وقد وصفه الله عز وجل بأنه من المؤمنين، قال تعالى: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} [الصافات:111].

تفسير قوله تعالى: (وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين)

تفسير قوله تعالى: (وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين) قال تعالى: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:112] هذه البشارة الثانية، إذ كانت البشارة الأولى بالغلام الحليم وهو إسماعيل، وجاء الغلام الثاني، وبين الاثنين ثلاث عشرة سنة، فإسماعيل أكبر من إسحاق بثلاث عشرة سنة، فكافأ الله عز وجل إبراهيم بأن يكون له ولد من سارة، من زوجته العجوز العقيم التي صارت كبيرة في السن ومثلها لا يلد، فكانت هذه معجزة من الله سبحانه، أن يصير لها الولد، فبشر بإسحاق وأنه سيكون نبياً، ومعلوم أن الأنبياء لا يكونون في سن صغير وهم أطفال، ولكن يكون نبياً عندما يدرك ويبلغ ويكون كبيراً، والعادة في الأنبياء أنهم ينبئون بعد سن الأربعين، إلا عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام نبئ وهو صغير، فكون ربنا سبحانه وتعالى يبشر إبراهيم بإسحاق، وأن إسحاق سيكون نبياً فهذه بشارة بعد بشارة، وهذا ينافي أن الله عز وجل يأمره بذبحه، وهنا في هذه الآيات لما أمر الله عز وجل إبراهيم في الرؤيا أن يذبح ولده، جاء في التوراة وغيرها أنه يذبح بكره، وبكره كان إسماعيل، إذ هو أكبر من إسحاق، فهنا البشارة بأن إسحاق سيكبر وسيصير نبياً وسيكون له العقب بعد ذلك. قال تعالى: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ} [الصافات:113] أي: جعلنا البركة في إبراهيم، وجعلناها أيضاً في إسحاق، يعني: في الذرية الكثيرة؛ لأن ذرية إسحاق منها كل الأنبياء ما عدا نبينا صلوات الله وسلامه عليه، هو وحده من ذرية إسماعيل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. وقال تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا} [الصافات:113] أي: إبراهيم وإسحاق: {مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات:113]. والمعنى: أن الأب قد يكون صالحاً، والأولاد قد يكون فيهم الصالحون وقد لا يكون فيهم ذلك، فهذا إبراهيم عليه الصلاة والسلام وابنه إسحاق من ذريتهما الأنبياء، ولكن لا يمنع إذا كانت الذرية فيها الأنبياء وهم أفضل خلق الله عليهم الصلاة والسلام أن يكون فيهم غير ذلك ممن يعصون الله سبحانه وتعالى، فمن ذرية إسحاق جاء يعقوب بعد ذلك وجاء الأسباط، وجاء منهم بنو إسرائيل، وعرفنا كيف صنع بنو إسرائيل مع ربهم سبحانه وتعالى، في كثرة تكذيبهم وإعراضهم ومناوشاتهم لأنبيائهم عليهم الصلاة السلام، فهنا يخبرنا ربنا أن من هذه الذرية الصالحون المحسنون، ومنهم المسيئون الظالمون ظلماً بيناً واضحاً، قال الله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، وكل إنسان يحمل إثمه معه يوم القيامة؛ ولذلك قام النبي صلى الله عليه وسلم فنادى الناس وعم وخص، دعا القبائل ودعا بني هاشم، وخص من هؤلاء أقرب الناس إليه فاطمة رضي الله عنها، وقال للجميع: (لا أغني عنكم من الله شيئاً، لا أغني عنكم من الله شيئا) فهذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول لابنته فاطمة التي هي بضعة منه عليه الصلاة والسلام: (لا أغني عنك من الله شيئاً) فكيف بغيرها؟ فعلى ذلك الإنسان لا ينظر إلى صلاح أبيه، فإن الله تعالى يقول: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، فلا هو الذي سيحمل اسمك، ولا أنت الذي ستأخذ فضله، ولكن: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38]. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الصافات [114 - 127]

تفسير سورة الصافات [114 - 127] يمن الله سبحانه على بعض خلقه بالنبوة والرسالة وبالثناء الجميل بين الناس، وقد ذكر سبحانه في سورة الصافات قصص بعض الأنبياء مع أنبيائهم ذكراً سريعاً، وهذا أيضاً من حسن سياق كتاب الله وقوة بلاغته.

تفسير قوله قوله تعالى: (ولقد مننا على موسى وهارون)

تفسير قوله قوله تعالى: (ولقد مننا على موسى وهارون) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الصافات: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ * وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ * وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ * أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ * اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} [الصافات:114 - 132]. ذكر الله سبحانه وتعالى قصة إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام وكيف دعا قومه إلى عباده الله سبحانه وكسر أصنامهم، ثم هاجر من بين أظهرهم وقال: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99] فبشره الله سبحانه بغلام حليم وكان من أمره ما كان، وأمر الله بذبحه، فنفذ أمر الله سبحانه تبارك وتعالى ففداه الله بذبح عظيم، وهذا الغلام الذي فداه الله هو ولد هاجر، واسمه إسماعيل على نبينا وعليهم الصلاة والسلام، وبينه وبين إسحاق ثلاث عشرة سنة، وإسحاق هو ابن سارة، فبشره الله سبحانه أنه سيولد له ولد من زوجته العجوز الكبيرة، ويكون نبياً من بعده، وسيكون له عقب من ذريته، قال تعالى: {وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71] أي: إسحاق سيكون نبياً وسيكون له الولد وهو يعقوب. قال الله تعالى: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:112] {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا} [الصافات:113] أي: من ذرية إبراهيم وإسحاق المحسن ومنهم الظالم لنفسه ظلماً بيناً، قال تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات:113]، فالمحسن من ذريتهما هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والرسل، كذلك المؤمنون الأتقياء والأولياء وغير ذلك من عباد الله سبحانه، ومنهم الذين يظلمون أنفسهم ظلماً بيناً، فيعبدون غير الله سبحانه، فمن ذرية هؤلاء جاء من عبد غير الله سبحانه وادعى الشرك لله سبحانه، قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} [المائدة:18] فهؤلاء يقولون: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18] فيزعمون أنهم لله عز وجل بمنزلة الولد وأنه يحبهم ويرحمهم، فقال لهم سبحانه موبخاً لهم: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} [المائدة:18] أي: عبيد من عبيد الله سبحانه كغيركم من العبيد يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، وقال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30] ثم يزعمون أن الله لا يعذبهم، فهؤلاء الذين عبدوا غير الله سبحانه وزعموا الصاحبة والولد لله هم الذين ظلموا أنفسهم ظلم بيناً عظيماً بدعائهم الولد لله والشريك له حاشى له سبحانه وتعالى. ثم قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} [الصافات:114] هذان من ذرية إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، إبراهيم ابنه إسحاق، وإسحاق ابنه يعقوب وهو إسرائيل، ويعقوب ذريته الأسباط، ومن أبناء يعقوب لاوي، ومن أحفاد هذا الابن كان موسى بن عمران وأخوه هارون بن عمران عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، فموسى وهارون من أحفاد يعقوب على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ومن نفس هذه الذرية إلياس، فهو من أبناء هارون على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ويرجعون في النهاية إلى يعقوب، ويعقوب هو إسرائيل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام. قال تعالى: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} [الصافات:114] من الله عز وجل عليهما، وذكر قصة موسى في القرآن في مواضع كثيرة، يذكر موسى ويذكر رسالته، ويذكر دعوته لبني إسرائيل، فهو من أكثر الأنبياء عليه الصلاة والسلام ذكراً في القرآن، فهو من أولي العزم من الرسل، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن ينظر في قصته وأن يعتبر بذلك، وقد كان إذا أوذي صلى الله عليه وسلم يقول: (رحم الله أخي موسى! لقد أوذي أكثر من هذا فصبر) فهو صاحب الشريعة التي كانت قبل شريعة النبي صلى الله عليه وسلم، فالمسيح عمل بشرع موسى عليه الصلاة والسلام بتوراته، فموسى صاحب كتاب وصاحب شريعة، إذ حكم بين الناس بالتوراة، فقد نزلت التوراة فيها هدى ونور، وجاء القرآن شريعة بعد التوراة، أما الإنجيل فكان كتاباً فيه موعظة يعظ الله عز وجل بها بني إسرائيل، وأما الحكم فكان بالتوراة؛ فلذلك الشريعة التي سبقت شرع محمد صلوات الله وسلامه عليه هي التوراة التي نزلت على موسى، ويوضح ذلك قول الله تعالى: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى} [هود:17] أي: من قبل هذا القرآن وقبل محمد صلى الله عليه وسلم كتاب موسى، إذ كان عيسى يحكم بهذه التوراة، فلم يكن له شريعة مستقلة، وهو أحد أولي العزم من الرسل، وهو ممن ابتلاهم الله سبحانه، فحكم بالتوراة، ثم رفعه الله عز وجل إليه، فإذا نزل في آخر الزمان حكم بالقرآن العظيم، فصاحب الشريعة قبل النبي صلى الله عليه وسلم هو موسى عليه الصلاة والسلام، وقد من الله سبحانه وتعالى وتفضل وأعطى النعم لموسى وهارون وأعظم نعمة الله سبحانه عليهما أن جعل موسى رسولاً وجعل هارون نبياً ووزيراً لموسى عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} [الصافات:114].

تفسير قوله تعالى: (ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم)

تفسير قوله تعالى: (ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم) قال تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الصافات:115] نجى الله عز وجل موسى ونجا هارون من الكرب العظيم، والكرب العظيم هو الذي ابتلي به بنو إسرائيل في مصر فكانوا أرقاء لفرعون وقومه وجنوده، فالله عز وجل نجى موسى وهارون ولم يتعرضا لذلك، فموسى تربى في بيت فرعون، وكان موسى يأمر وينهى، وأعطاه الله سبحانه وتعالى ما شاء من فضل وكرم عليه، وكذلك نجاه من الغرق سبحانه، فأغرق فرعون وجنوده، ونجاه هو وبني إسرائيل من الغرق، ونجاهم من ظلم فرعون بفضله سبحانه وتعالى. قال الله تعالى: {وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} [الصافات:116] أي: نصرنا موسى وهارون ومن اتبعهما من المؤمنين فكانوا المغالبين، فأهلك الله عز وجل فرعون وجنوده، وأظهر موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام فكانوا هم الغالبين ومن اتبعهما من المؤمنين. إذاً: (نَصَرْنَاهُمْ) أي: نصرنا المؤمنين موسى وهارون ومن معهم من المؤمنين. وقوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُمَا} [الصافات:117] هذا كان لموسى وهارون على نبينا وعليهم الصلاة والسلام، آتاهما الكتاب المستبين، والذي نزل عليه الكتاب هو موسى عليه الصلاة والسلام، وهارون تابع لموسى وهو نبي، فموسى رسول ونبي، والمطلوب منه أن يبلغ رسالة وأن يبلغ شريعة، فهو صاحب كتاب، أما هارون فهو نبي يوحى إليه، ولكن ليس صاحب رسالة، فهو يبلغ ما يأمره به موسى عليه الصلاة والسلام. قال سبحانه: {وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ} [الصافات:117] المستبين: الذي استبانه الناس وتبينوا صدقه وتبينوا نوره وظهر الحق الذي فيه، يقال: هذا كتاب بين، أي: جلي واضح لا لبس فيه ولا غموض فيه، بل هو نور من الله سبحانه. قال الله: {وَهَدَيْنَاهُمَا} [الصافات:118] أي: موسى وهارون عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، وقوله تعالى: {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الصافات:118] أي: الطريق القويم، وهو دين الله الإسلام العظيم الذي دعا إليه كل الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، قال نوح عليه الصلاة والسلام: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:72]، وقال موسى لقومه: {يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس:84]، فهي دعوة الله سبحانه لكل خلقه أن يكونوا على هذا الإسلام العظيم، أن يسلموا أنفسهم وقلوبهم ويوجهوا وجوههم إلى الله الواحد لا شريك له، ويعبدونه لا يشركون به شيئاً. وقوله تعالى: {الصِّرَاطَ} تقرأ بثلاث قراءات: الصراط بالصاد، والسراط بالسين، والزراط بالزاي إشماماً، تشم السين حرف الزاي، يقرؤها بالسين: قنبل عن ابن كثير ورويس، وباقي القراء يقرءون هذه الكلمة بالصاد، ويقرؤها خلف عن حمزة: (الزراط المستقيم)، ويقرؤها خلاد بخلفه، والمعنى واحد في الجميع، {وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الصافات:118] أي: الطريق القويم إلى الله عز وجل، هذه الشريعة العظيمة شريعة الإسلام.

تفسير قوله تعالى: (وتركنا عليهما في الآخرين)

تفسير قوله تعالى: (وتركنا عليهما في الآخرين) قال تعالى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ} [الصافات:119] أي: تركنا على موسى وهارون، {فِي الآخِرِينَ} أي: أثنينا عليهما، ووضعنا لهما الثناء الحسن على ألسنة الخلق الذين يأتون بعد ذلك، فيذكرون موسى وهارون بالتسليم وبالثناء وبالمدح لما فعلاه وبلغاه من رسالة الله سبحانه، وتركنا عليهما في الآخرين الثناء الجميل، ومن هذا الثناء الجميل: {سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} [الصافات:120] أي: كل من يذكر موسى وهارون عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام يسلم عليهما كما ذكر الله سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (إنا كذلك نجزي المحسنين)

تفسير قوله تعالى: (إنا كذلك نجزي المحسنين) قال الله: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:121] أي: إنا كهذا الجزاء العظيم نجزي المحسنين، قال: (كَذَلِكَ) ذلك: اسم إشارة للبعيد، واسم إشارة للشيء المعظم، أي: كذلك الذي تركناه عليهما من فضلنا العظيم وأثنينا عليهما وجعلنا الثناء الحسن على ألسنة الخلق، نفعل بكل إنسان محسن، نترك له ذكراً جميلاً وثناءً حسناً على ألسنة من يأتون بعده، فيذكرون الإنسان المحسن، يقولون: رحمه الله كان رجلاً محسناً، ويذكرون من فضله فيدعون له، فالله عز وجل يجعل ذلك على ألسنة من يشاء من خلقه؛ ولذلك جاء في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في الإنسان الذي يتوفى إذا تكلم الناس عنه بخير: (أنتم شهداء الله في الأرض، وقال: وجبت وجبت وجبت) أي: وجبت له الجنة بثناء الناس عليه، وآخر أثنى الناس عليه شراً فقال: (وجبت وجبت وجبت) أي: وجبت له النار؛ لأنهم شهداء الله في الأرض. فالله يجعل ملائكة تنطق على لسان أحدكم، فالنطق يكون شيئاً عفوياً، فقد يكون إنسان لا يقصد شيئاً فيتذكر فلاناً فيقول: الله يرحمه، لقد كان رجلاً طيباً، وكان رجلاً صالحاً، فالملائكة تجعله ينطق بذلك، فيكون الثناء الحسن من الله سبحانه وتعالى على هذا الإنسان.

تفسير قوله تعالى: (إنهما من عبادنا المؤمنين)

تفسير قوله تعالى: (إنهما من عبادنا المؤمنين) قال تعالى: {إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} [الصافات:122] أي: لأنهما من عبادنا المؤمنين، أو تحقيق ذلك وتوكيد ذلك: إنهما حقاً من عبادنا الذين آمنوا وصدقوا، أي: موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام.

تكرار قصة موسى في القرآن بسياق مختلف وبتعبير لا يمل القارئ من إعادة قراءته

تكرار قصة موسى في القرآن بسياق مختلف وبتعبير لا يمل القارئ من إعادة قراءته ذكر الله عز وجل قصة موسى في سور متعددة، ففي سورة البقرة ذكر شيئاً منها، وذكر القصة في سورة الأعراف فأطال فيها، وذكر القصة في سورة طه فأطال فيها، وذكرها في سورة القصص، وكذلك في سورة النمل، وفي سورة الشعراء، فالله عز وجل فصل هذه القصة في مواضع من القرآن، وفيها تفنن عظيم، وفيها إعجاز من هذا القرآن العظيم، وهو أن القصة قصة واحدة وفي مواضع كثيرة لا تمل أن تقرأها في أي موضع كان، وفي كل موضع تجد فوائد، وفي كل موضع تجد سياق القصة متوافقاً مع الفواصل التي في السورة، ففي هذه السورة يقول تعالى: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الصافات:114 - 115] آيات قصيرة ومختومة بشيء معين، هي فواصل السورة، وتجد القصة مسوقة على نفس هذا السياق، فإذا ذكر القصة في سورة طه ذكرها بطريقة معينة، {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [طه:9 - 12] فترى فواصل الآيات كلها مشابهة بعضها لبعض، وتجد السياق والوزن وتسمع الصوت الموسيقي في الآية موافقة لهذه السورة، وللقصة التي في هذه السورة وهذا تفنن عظيم جداً، فلو قلت لإنسان: اذكر لنا قصة كاتب عظيم بارع واكتب لي قصته ثلاث مرات بسياقات مختلفة، فإذا كتبها مرة ثانية تمل من قراءة ذلك، ولا يقدر هو على أن يأتي بمثل ما جاء به كتاب الله عز وجل، وهذا شيء من إعجاز القرآن العظيم وهو: أن القصة تساق في مواضع كثيرة، ويذكر هنا أشياء لا يذكرها هنا، ويذكر هنا أشياء هي موجودة هنا، ولكن يزيد فيها شيئاً يكون حسناً في هذا الموضع، مع الموافقة للتلاوة، إذ السورة نفسها تمشي مع الوزن كله، وأذنك تسمع ولا تمل من السماع، كذلك الحس لهذه الآيات، وموسيقى كل آية وأنت تسمعها هي نغمة واحدة، ولا تنافر بين قصة وقصة في كتاب الله سبحانه وتعالى وفي السورة نفسها، ففي سورة الصافات الفواصل كلها قصيرة والآيات قصيرة والختم فيها الغالب بالنون، أو بالوزن على: هارون، الغالبين، المستبين، المستقيم، فالوزن على ذلك، فتسمع السورة وفيها جمال عظيم عند سماعها، وهناك جمال في فهمها وفي معانيها ومبانيها وفصاحتها وبلاغتها وفي سرد القصة نفسها والتشويق الذي فيها، هذا كلام الله عز وجل لا يمل منه سامع ولا يمل منه جليس.

تفسير قوله تعالى: (وإن إلياس لمن المرسلين فإنهم لمحضرون)

تفسير قوله تعالى: (وإن إلياس لمن المرسلين فإنهم لمحضرون) قال تعالى: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:123] نبي الله إلياس من أحفاد هارون، فهو إلياس بن ياسين بن فنحاص بن عيزار بن هارون، فهو الابن الرابع لهارون على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وهارون هو الجد الرابع له، فإلياس من أنبياء الله عز وجل لبني إسرائيل، ذكره الله عز وجل وأشار إلى شيء من قصته فقال تعالى: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:123] إلياس: هو إلياسين وألياس، وهي كلمة أعجمية وعربتها العرب، فدخلت في لغتهم، فلذلك تنطق بوجوه، فقراءة الجمهور: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}، وقراءة ابن عامر: (وإن ألياس)، فالكلمة ليست عربية أصلاً وعربتها العرب فنطقت بها بطريقتهم. قوله تعالى: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} أي: كان نبياً ورسولاً من رسل الله سبحانه إلى قومه، قال تعالى: {إِذْ قَالَ} [الصافات:124] أي: اذكر كيف دعا قومه وقال لهم: ألا تتقون؟ {أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} [الصافات:125] إذاً: هو نبي لبني إسرائيل عليه الصلاة والسلام وكان بعد سليمان، وكان سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام ملكاً على بني إسرائيل، وأعطاه الله سبحانه وتعالى الملك والحكمة، وجمع له ما شاء من نعم لم تكن لأحد من بعده، فقد سخر له الإنس والجن والرياح في مملكته، يذهب كيفما شاء، والله عز وجل يسر له ذلك، ولما مات سليمان عليه الصلاة والسلام تنازعت بنو إسرائيل فتفكك ملك سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ولم يقدر أحد أن يجمع هذا الملك من بعده، وكان في بني إسرائيل ملوك، فكان إلياس يدعو أحد ملوك بني إسرائيل، إذ كانت امرأته تعبد صنماً من الأصنام، ورأى الملك أن غيره من الناس من بني إسرائيل في البلدان الأخرى يعبدون غير الله سبحانه، فأخذ يقلدهم ويترك امرأته تعبد العجل وتدعو إلى عبادة الصنم الذي صنعته، واسم الصنم بعل، وسميت البلده باسمه (بعلبك)، وهي مدينة من المدن الموجودة في لبنان، وأنكر إلياس عليهم عبادة هذا الصنم من دون الله سبحانه، فدعاهم إلى الله فرفضوا أن يأتوا إلى ربهم خاشعين، فأنكر وقال: {أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ * اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات:125 - 127] أي: للعذاب. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الصافات [123 - 132]

تفسير سورة الصافات [123 - 132] لقد توالى إرسال الرسل إلى بني إسرائيل، فكلما مات رسول بعث الله غيره، ولقد قص الله عز وجل علينا في كتابه أخبار بعض هؤلاء الرسل، وبعضهم لم يقص الله علينا قصصهم، ومن الرسل من ذكر الله عز وجل قصصهم في القرآن كثيراً كموسى عليه السلام، ومنهم من لم يذكر قصته إلا مرة واحدة كإلياس عليه السلام.

تفسير قوله تعالى: (وإن إلياس لمن المرسلين إنه من عبادنا المؤمنين)

تفسير قوله تعالى: (وإن إلياس لمن المرسلين إنه من عبادنا المؤمنين) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الصافات: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ * أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ * اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} [الصافات:123 - 132]. أشار الله سبحانه تبارك وتعالى في سورة الصافات إلى بعض أنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام إشارات، بين فيها كيف أنه سبحانه أرسلهم بالتوحيد إلى قومهم، ليدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فكذبهم القوم؛ فجاءت عقوبة الله سبحانه تبارك وتعالى على هؤلاء. فالغرض من ذكر هؤلاء الرسل عليهم الصلاة والسلام توطين النبي صلى الله عليه وسلم، وتثبيته ومن معه من المؤمنين على ما هم عليه من ابتلاء من الله سبحانه تبارك وتعالى، فقد أعطاهم سبحانه هذا الدين العظيم، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو قومه، وكان يثبته الله عز وجل بما يذكر له من قصص المرسلين السابقين عليهم الصلاة والسلام، وكيف ابتلاهم الله ونصرهم وجازاهم خير الجزاء، وعقب وراء ذكر كل قصة بقوله: ((إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ))، فالمقصد بيان نصر الله عز وجل للمرسلين وللمؤمنين، وكيف نصرهم حتى يطمئن المؤمنون أنه مهما طال بهم العذاب وطال عليهم الأذى فإن نصر الله آت، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173]، فعباد الله المرسلون ينصرهم الله، ويجعلهم الله عز وجل هم الغالبين، وهذه الآيات تدل على ما ذكر الله سبحانه. قال تعالى: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}. هذه الآية فيها قراءتان؛ بهمزة القطع وبهمزة الوصل، فقرأ بهمزة الوصل ابن عامر بخلف هشام وقرأ باقي القراء بهمزة القطع ((وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ)) أي: إنه كان نبياً من أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام مرسلاً إلى بني إسرائيل، {لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:123] أي: ممن أرسلناهم وجعلناهم أنبياء لبني إسرائيل، وقد كان بعد موسى بزمن ليس بالطويل، فقد كان جده الرابع هارون على نبينا وعليه الصلاة والسلام فهو (إلياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فإلياس من ذرية هارون، وقد أرسل إلى بني إسرائيل يدعوهم إلى الله سبحانه تبارك وتعالى.

حال بني إسرائيل قبل إلياس عليه السلام

حال بني إسرائيل قبل إلياس عليه السلام كان إلياس بعد زمن سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وقد وحد الله عز وجل بني إسرائيل في عهد سليمان، فلما مات سليمان عليه الصلاة والسلام تفرقوا وتقسمت ممالك بني إسرائيل، وأصبحوا في كل ما هم فيه من باطل ومن تفرق فرحون، فإذا بهم يعبدون غير الله، وكان ملوكهم يعبدون غير الله سبحانه تبارك وتعالى. وقد كان أحد الذين أرسل إليهم إلياس ليدعوهم إلى الله سبحانه قد اتخذ صنماً يعبده من دون الله، وقد ذكر المفسرون: أن امرأته كانت من عباد الأصنام، وصنعت صنماً اسمه (بعل) وعبدته من دون الله، فتركها على ذلك حتى فتنت الناس بذلك، وجعلت لهذا الصنم سدنة يخدمونه، ودخل الناس في عبادة هذا الصنم من دون الله، وكانت في بلدة من بلدان لبنان في الشام، وسميت هذه البلدة باسم هذا الصنم بعلبك، فعبد من دون الله، وقد كان هذا الملك الذي صنع ذلك من بني إسرائيل، وكان المفترض فيه أن يكون على التوحيد، فأرسل الله عز وجل إليه إلياس يدعوه إلى الله سبحانه، وينكر عليه ما هو فيه من عبادة غير الله سبحانه.

بيان دعوة إلياس لقومه

بيان دعوة إلياس لقومه قال الله عز وجل: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ} [الصافات:123 - 124] (ألا تتقون) أي: ألا تخافون الله سبحانه تبارك وتعالى فتجعلون وقاية بينكم وبين عذاب الله بتوحيدكم الله سبحانه وبعملكم الصالح، وتعتصمون من عذاب الله بتقواه وبالعمل له. {أَتَدْعُونَ بَعْلًا} [الصافات:125] أي: أتعبدون هذا الصنم من دون الله سبحانه؟ والبعل يأتي بمعنى: الرب. فكأنه يقول: أجعلتم هذا الصنم رباً من دون الله سبحانه تبارك وتعالى تدعونه وتلجئون إليه من دون الله؟ {وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} [الصافات:125] سبحانه تبارك وتعالى أي: أفتتركون الرب العظيم الذي هو خالق كل شيء وهو أحسن الخالقين سبحانه ولا خالق سواه سبحانه. وقال هنا: {أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} [الصافات:125] وكأنه في المعنى: أن هناك خالقاً آخر مع الله سبحانه تبارك وتعالى، لكن الخلق يأتي بمعنى: التقدير، وبمعنى: الإنشاء من العدم، ولا يقدر على ذلك إلا الله سبحانه تبارك وتعالى. والإنسان قد يقدر فيسمى خالقاً من هذا المعنى، فإن الله عز وجل هو الخالق الباري المصور، فالخالق هو الذي يقدر الشيء أن يكون كذا وكذا، والباري الذي ينفذ ويوجد هذا الشيء الذي قدره سبحانه تبارك وتعالى، وهو المصور الذي يعطي لهذا الشيء الذي أوجده الصورة التي يتميز بها عن غيره. إذاً: فمن معاني الخلق: التقدير للشيء، وقد يكون الإنسان مقدراً، مثل الإنسان الذي يبني عمارة فيقدر أن القواعد ستكون كذا، والأساس كذا، والأعمدة كذا. وأما التنفيذ فإنها مرحلة أخرى بعد ذلك. فعندما قال: {اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14] أي: أحسن المقدرين سبحانه تبارك وتعالى، فلا يقدر شيئاً ولا يدبر أمراً إلا ويكون على ما قاله الله سبحانه، كما قال تعالى: ((إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)) أي: على ما أراده الله سبحانه، ومستحيل أن يتخلف عما قدره الله عز وجل عليه. إذاً فقوله تعالى: {اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14] ليس معناها: أنه يوجد غير الله يوجد الشيء من العدم إلى الوجود، كلا، وإنما جاءت على أحد معاني الخلق وهو التقدير، فجعل الله عز وجل في خلقه من يفكرون في إنشاء أشياء، ويقدرون هذه الأشياء في تفكيرهم، فإذا قدروا ذلك فقد تأتي على ما قدروه وقد لا تأتي على ما قدروه. والله عز وجل إذا قدر شيئاً لابد أن يكون على ما قدره سبحانه، تبارك الله أحسن الخالقين. قال هنا: {أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} [الصافات:125] فكلمة الخالق فيها معنى: التقدير، وفيها معنى: الإحياء، وفيها معنى: الإيجاد. فإذا أتت وحدها فإن كل هذه المعاني تدخل تحتها، فإن الله هو الخالق الذي أوجد كل شيء سبحانه وقدره وأخرجه من العدم وجاء به إلى الوجود سبحانه تبارك وتعالى. وإذا أتت هذه الكلمة مع غيرها من أسمائه الحسنى سبحانه، فإن كل اسم يأخذ معنى واحداً من المعاني. فعندما يقول: {الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر:24]، فيكون الخلق بمعنى: التقدير. والباري بمعنى: أنه أوجد هؤلاء إلى البر، أي: أوجد من عدم. والمصور بمعنى: أنه أعطاهم الصورة التي يتميزون بها عن غيرهم.

تفسير قوله تعالى: (أتدعون بعلا آبائكم الأولين)

تفسير قوله تعالى: (أتدعون بعلاً آبائكم الأولين) قال إلياس لقومه: {أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ * اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} [الصافات:125 - 126] أي: أتذرون أحسن الخالقين الذي هو الله سبحانه تبارك وتعالى. وهذه فيها قراءتان في لفظ الجلالة (الله) فقرئ بالنصب وهذه قراءة حفص عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف ويعقوب، وباقي القراء يقرءونها بالرفع على الابتداء، فعلى قراءة النصب كأنه تذرون أحسن الخالقين الله بدل مما قبلها، فكأنه قال: تذرون الله سبحانه تبارك وتعالى. ومعنى قراءة الرفع اللهُ الذي هو ربكم ورب آبائكم الأولين. والله هو الرب سبحانه تبارك وتعالى، ولكن الفرق بين الكلمتين في المعنى: أن الله يدل على ألوهية الله سبحانه، والرب يدل على ربوبية لله سبحانه، ومقتضى الألوهية أن يُعبد الله سبحانه تبارك وتعالى، فالله هو المعبود، يعني: أن الخلق يتوجهون إليه بالعبادة، فهو المألوه وحده، وهو المستحق وحده أن يعبد لا شريك له. ويأتي الرب بمعنى الخالق، وبمعنى: المربي، وبمعنى: الواجد، وبمعنى: المعطي سبحانه تبارك وتعالى. فالله المعبود هو الرب الخالق سبحانه تبارك وتعالى. وقد كان الكفار لا يختلفون في ربوبية الله سبحانه تبارك وتعالى، وأنه رب؛ لذلك كانوا إذا سئلوا: من خلقكم؟ يقولون: الله. وإذا سئلوا: من الذي يعطيكم الرزق، ومن الذي يطعمكم ويسقيكم؟ قالوا: الرب سبحانه تبارك وتعالى. فهو لكونه رباً فهو يقدر على ذلك سبحانه. فإذا سئلوا: من تعبدون؟ فيقولون: نعبد أصناماً وأوثاناً من دون الله سبحانه، فيشركون في ألوهيته، قال الله عز وجل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87]. وقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9]، فهم لا يختلفون في أن الذي يخلق هو الله سبحانه، فمن ادعى أن غير الله يخلق، وأن هذا الوصف لغير الله كان كاذباً، وهو أول من يكذب نفسه. ولذلك لم يدع ذلك سوى اثنين النمرود الذي كان في عهد إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وفرعون الذي كان في عهد موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام. فأما النمرود فقال: أنا أحيي وأميت، فأخزاه الله حالاً بمناظرة إبراهيم له، {قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258] فأبهته الله سبحانه وأخزاه عندما {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة:258] أي: إن كنت تقدر على ذلك، وتقول: إنك رب فهات الشمس من المغرب، {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة:258]. فأخزاه الله سبحانه تبارك وتعالى حالاً. وأما فرعون الذي كان في عهد موسى: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] وهم يعلمون أنه لا يصلح لذلك، ولا يقدر على ذلك، وهو كذاب، وهو يعلم أنه كذاب، ولذلك أخزاه الله سبحانه، فإنه لما غرق في اليم قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90] فإذا به يكذب نفسه، فأهلكه الله عز وجل بعد ما صرخ بهذه الكمة وبين أنه كذاب فيما يقول. فدعوى الربوبية لم يكن أحد يدعيها، وإنما كانوا يدعون الألوهية، فيطلبون من غيرهم أن يعبدوهم من دون الله، ويفعلون ما لا يجوز إلا لله سبحانه تبارك وتعالى، فهذا إشراكهم بالله سبحانه، أنهم كانوا يعبدون معه غيره. إذاً: الذي جمع بين الربوبية والألوهية هو الله الرب سبحانه وحده لا شريك له، وهو الذي يستحق العبادة، فهو الذي يقدر على أن يخلق، وعلى أن يرزق، وعلى أن يحيي، وعلى أن يميت، وعلى أن يعطي، وعلى أن يمنع، وعلى أن يعز، وعلى أن يذل، فهو واحد لا شريك له، وهو الذي يستحق أن يعبد. قال تعالى: {اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} [الصافات:126] يعني: الذي خلقكم ورزقكم، وقبل ذلك خلق آبائكم الأولين.

تكذيب قوم إلياس لإلياس عليه السلام

تكذيب قوم إلياس لإلياس عليه السلام قال تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات:127] يعني: أنه ناقشهم وخاطب عقولهم وقال لهم: هذا البعل أنتم صنعتموه، فمن كان قبل بعل هذا الذي تعبدونه من دون الله؟ الله هو الذي خلق آبائكم وخلق أجدادكم، وهو الحي الذي لا يموت، وأما هذا فإنه صنم صنعتموه بأيديكم، فاعبدوا {اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ * فَكَذَّبُوهُ} [الصافات:126 - 127]، أي: أعرضوا عن هذا الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، وقد كان هذا الملك الذي عبد هذا الصنم من دون الله عز وجل يسمع لـ إلياس ويستجيب له قبل ذلك، ولكن فتنته الدنيا، وفتنته امرأته، فعبد البعل الذي صنعته من دون الله سبحانه تبارك وتعالى، وفتن في ذلك. قال الله عز وجل: {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات:127] أي: محضرون لعذاب الله سبحانه، فذكروا أن الله سبحانه تبارك وتعالى لما بعث إليه إلياس عليه الصلاة والسلام ودعاهم إلى الله كذبوه وأعرضوا عنه، فدعا على قومه فابتلاهم الله سبحانه، وخرج وترك هؤلاء القوم، فلم يذكر الله عز وجل لنا ما حدث بعد ذلك، إلا أنهم محضرون إلى عذاب الله يوم القيامة. قال تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات:127]، أما في الدنيا فابتلاهم الله عز وجل بأن ضيق عليهم أرزاقهم، وسلط بعضهم على بعض، وأما في الآخرة {فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات:127]، أي: إلى عذاب الله، وكلمة: (محضر) غالباً لا تأتي إلا في الشر، فمحضرون يعني: يساقون ويدعَّوْن إلى نار جهنم دعاً. ((فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ)) أي: إلى عذاب الله سبحانه تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (إلا عباد الله المخلصين)

تفسير قوله تعالى: (إلا عباد الله المخلصين) قال الله تعالى: {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات:128] فاستثنى الله سبحانه ممن يحضرون إلى عذابه المخلصين، فهؤلاء يأتون يوم القيامة ويدخلهم ربنا جنته، وهم المخلصون. والمخلصون فيها قراءتان في كل المصحف، فتقرأ: المخلَصين والمخِلصين، وهذه الآية التي هنا يقرؤها نافع وأبو جعفر، وعاصم وحمزة والكسائي وخلف. (المخلَصين) ويقرؤها باقي القراء (المخلِصِين)، وعندما تأتي في الكلمة قراءتان فكأنهما حكمان في هذه الكلمة. فالقراءة الأولى: المخلَص. الذي اصطفاه الله سبحانه. أي: أن هذه هبة من الله عز وجل لهذا الإنسان، ومنحة من الله لهذا الإنسان، أن الله اصطفاه واستخلصه وهداه سبحانه تبارك وتعالى، والقراءة الثانية: المخلِص أي أخلص العبد بتوفيق الله سبحانه، فهو قد أخلص قلبه لله سبحانه، وأخلص في العبادة ولم يشرك بالله، فهذا المخلِص فعل منه، والمخلَص اصطفاء من الله عز وجل له. فهؤلاء مُخْلِصُون وكذلك مُخْلَصُون.

تفسير قوله تعالى: (وتركنا عليه في الآخرين سلام على إل ياسين)

تفسير قوله تعالى: (وتركنا عليه في الآخرين سلام على إل ياسين) قال تعالى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ} [الصافات:129] أي: تركنا على إلياس في الآخرين. {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} [الصافات:130] أي: تركنا عليه في الأمم التي تأتي من بعده أن يدعون له ويسلمون عليه، ويذكرونه بالثناء الحسن، ويقولون: سلام عليه وعلى آله، وإل ياسين فيها قراءتان: قراءة الجمهور: {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} [الصافات:130]، وقراءة نافع وابن عامر ويعقوب (سلام على آل ياسين)، كأنه هو وأبوه (آل ياسين)، فأهله آل ياسين، فعلى القراءة الأولى السلام عليه، وعلى القراءة الأخرى السلام عليه وعلى آله، وكأن آل ياسين أهله، وأهل كل نبي أتباعه من المؤمنين، فيكون المعنى: سلام عليه وعلى من اتبعه من المؤمنين، فدخل فيها هو ومن معه على هذه القراءة الثانية. {إِنَّا كَذَلِكَ} [الصافات:131] أي: كهذا الجزاء الجميل وكهذا الثناء الحسن وكهذا النصر الذي نصرناه {كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:131]، أي: بمثل ذلك. {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} [الصافات:132] أي: نصرناه ونجيناه من قومه وتركنا عليه الثناء الحسن لأنه من عبادنا المؤمنين، وكذلك كل إنسان محسن ومؤمن نترك له الذكر الجميل والثناء الحسن. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عباده المخلِصين المخلَصين المحسنين المؤمنين. أقول قولي هذا، وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الصافات [133 - 138]

تفسير سورة الصافات [133 - 138] يخبر الله سبحانه أن لوطاً عليه السلام من الرسل الذين أرسلهم إلى الناس فدعا قومه إلى توحيد الله وترك الفاحشة التي كانوا يرتكبونها، فأبوا وهموا بقتله، فأنجاه الله والمؤمنين معه إلا امرأته فإنها كانت كافرة فأبقاها الله مع قومها في العذاب، ودمرهم ودمر معهم قريتهم وجعل مكانها بحيرة ليعتبر الناس، وقد كان كفار قريش يمرون على تلك القرية في الصباح وفي الليل حين يذهبون إلى الشام للتجارة فحذرهم الله أن يصيبهم ما أصاب قوم لوط.

تفسير قوله تعالى: (وإن لوطا لمن المرسلين)

تفسير قوله تعالى: (وإن لوطاً لمن المرسلين) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الصافات: {وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ * ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ * وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ * وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:133 - 144]. ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه السورة قصصاً للأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام مختصرة، والمقصد من هذه القصص التي ساقها أن يثبت الله عز وجل قلوب المؤمنين، ويعلموا أنه ناصرهم وأنه معهم، وأنهم إذا ابتلاهم الله عز وجل في هذه الدنيا فليس المعنى أنه يدوم عليهم البلاء حتى يلقوا الله سبحانه وتعالى، ولكن يبتليهم ويرفع عنهم البلاء سبحانه وتعالى، ثم يبتليهم ثم يرفع عنهم البلاء، وهكذا حتى يميز الخبيث من الطيب: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]. والإنسان حين يسمع قصص الصالحين، وأحوالهم ونصر الله عز وجل للمؤمنين، ولأنبيائه عليهم الصلاة والسلام؛ يصبر ويتصبر، فقد ذكر الله عز وجل قصة إبراهيم وما صنعه سبحانه بإبراهيم الخليل، إذ ابتلاه الله سبحانه ابتلاءات كثيرة فصبر عليها، فمدحه في كتابه وقال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل:120] عليه الصلاة والسلام، فقد كان وحده أمة من الأمم. وذكر الله عز وجل في هذه السورة، قصة أخرى لإسماعيل أشار فيها عز وجل أنه وهب لإبراهيم عليه الصلاة والسلام غلاماً حليماً ثم ابتلاه فأمره أن يذبحه برؤيا منامية رآها، فلما كاد يفعل ذلك رفع الله عنه ذلك البلاء، وفداه بذبح عظيم. ثم ذكر الله سبحانه وتعالى قصة موسى وهارون باختصار، وكيف أنه سبحانه وتعالى آتاهما الكتاب المستبين: {وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الصافات:118]، {وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} [الصافات:116]. فكان من فضل الله عز وجل عليهما أن ابتلاهما ثم رفع عنهما البلاء ونصرهم بفضله سبحانه وتعالى. وذكر قصة إلياس على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وكيف أن الله سبحانه أرسله إلى قومه، فكذبوه، فذكر الله عز وجل أنهم من المحضرين إلى عذابه، والمقصد هو بيان أنه ما من نبي يبعثه الله، إلا ويبتليه الله ويبتلي قومه، ثم ينصر المؤمنين، ويهلك الظالمين، وهذه قصة لوط ساقها الله هنا باختصار، وإن كان قد فصلها في غير هذا الموضع من كتابه.

تفسير قوله تعالى: (إذ نجيناه وأهله أجمعين)

تفسير قوله تعالى: (إذ نجيناه وأهله أجمعين) قال سبحانه: {وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:133]. هذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام هو لوط بن فاران، وهو ابن أخي إبراهيم على نبينا وعليهم الصلاة والسلام، وإبراهيم هو عم لوط عليه الصلاة السلام، وإبراهيم نبي من أولي العزم من الرسل عليهم الصلاة والسلام، ولوط نبي من أنبياء الله عز وجل، هاجر مع إبراهيم وكان موطنه بالعراق، فهاجر معه إلى بلاد الشام، وهنالك ذهب لوط بأمر الله عز وجل إلى قرى سدوم وعمورية يدعوهم إلى الله سبحانه، فوجد القوم يعبدون غير الله ويأتون الفاحشة، يأتي الرجال الرجال، ويتركون النساء! قال الله عز وجل: {وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ * ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ * وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الصافات:133 - 138]. آيات يذكرها الله عز وجل هنا، وهي آيات قصيرة فيها بيان كيف أرسل الله عز وجل لوطاً إلى قومه، فالله عز وجل أثبت له الرسالة في كتابه سبحانه، فلوط نبي أرسله الله عز وجل إلى قومه، يدعوهم إلى توحيد الله، فهو من أنبياء الله عليه الصلاة والسلام، ومن جملة رسل الله عليهم الصلاة والسلام، {وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ} [الصافات:133 - 134]. فقد كان في كرب قبل ذلك وهذا من تفنن القرآن العظيم، فإنه في كل موضع من المواضع يذكر ما يليق به، فهذه السورة آياتها قصيرة، فيناسب ذكر القصص باختصار، فهو يذكر أموراً من كل قصة، والغرض هو بيان أن الله عز وجل أوحى إلى المرسلين: {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:172 - 173]. فيبين الله عز وجل كيف نصرهم، وجعلهم الغالبين. فقد نجاه الله وأهلك غيره، فإن القرى التي كان فيها، كانت تعبد غير الله، فدعاهم إلى عبادة الله فلم يستجيبوا له، وكانوا يأتون الفاحشة فيأتي الرجال الرجال، فمنعهم وحذرهم من عقوبة الله سبحانه فأبوا إلا أن يقتلوه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فأتى إليه قومه، وقد ابتلاهم الله ببلاء عظيم، حيث أرسل إلى هذه القرية ثلاثة من الملائكة على هيئة الشباب الحسان الملوك، فإذا بامرأة لوط تخبر قومها، وكانت كافرة، وقد ضرب الله عز وجل بها المثل في القرآن للكفر الذي يضر أصحابه، وإن كانوا مع الصالحين، ولكن الله سبحانه وتعالى فرق بينها وبين هذا الرجل الصالح {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ} [التحريم:10]. فامرأة نوح كانت كافرة، والعدل أن تكون مع قومها في العقوبة، ولا تكون مع نوح النبي على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فأهلكها الله عز وجل وأغرقها مع من أغرق، وامرأة لوط كانت كافرة، فقد دلت قومها على ضيوف لوط عليه الصلاة والسلام، فابتلاهم الله سبحانه وتعالى وجعل في قلوبهم القسوة، وأعمى أعينهم فلا يبصرون، وأخذهم إلى دار لوط، ويصرون على إخراج الضيوف وأخذ هؤلاء الضيوف، فإذا بلوط النبي عليه الصلاة السلام يقول: {هَؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ * وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ * قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ} [الحجر:68 - 70]. أي: ألم نأمرك أن لا تدخل أحداً بيتك؟! يقول الله عز وجل: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72]. يقسم الله للنبي صلى الله عليه وسلم بحياته وعمره عليه الصلاة والسلام إنهم لفي سكرة وغفلة وغباوة حيث إنهم يريدون أضياف لوط عليه الصلاة والسلام، فقالت الملائكة للوط: لا تخف ولا تحزن، وبشره الله عز وجل بعد ما ضاقت به نفسه، وضاق به بيته، وضاق به الأمر حتى قال: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80]، أي: لو أني أقدر عليكم، فهو ينظر إلى القوة التي حوله من الناس وما معه إلا ابنتان في البيت، فقد كان لا يجد من الناس أحداً يدافعهم معه فكأنه يقول: لو كان معي جيش لحاربتكم به. يقول النبي صلوات الله وسلامه عليه: (رحم الله أخي لوطاً حيث قال: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80]). كأنه نسي في هذه اللحظات الصعبة الشديدة -حيث كان قومه يدفعون عليه الباب، يريدون الدخول، وهو يدفع الباب من الداخل يمنعهم من الدخول، وهم يهددونه بالقتل- أن الله عز وجل ناصره سبحانه وتعالى، فقال: هذه الكلمة {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80]. فإذا بالضيوف يظهرون حقيقة الأمر: {قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ} [هود:81]. أي: لا تخف نحن معك والله عز وجل هو الذي أرسلنا ويبشره الله عز وجل: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود:81]. ويخرج الضيوف فيلقون على وجوههم التراب فتعمى أبصارهم، فيرجعون عن لوط وهم يتوعدونه ويقولون: في الصباح سترى ما نفعل بك، ويأمر الله سبحانه لوطاً ان أخرج أنت وأهلك ولا تلتفت ولا تنظر إلى خلفك أنت ومن معك، قال: {إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود:81]. ويخرج لوط ومعه ابنتاه وتخرج معه امرأته، والله عز وجل لا ينجي إلا المؤمنين، وهذه امرأة كافرة، تتبع لوطاً النبي عليه الصلاة والسلام، وتريد أن تنجو، فكان لوط يحذر من معه ألا أحد يلتفت وراءه، فإن الله سيهلك هذه القرية، ولا ينظر أحد إلى خلفه، ويتبعون لوطاً عليه الصلاة والسلام ويأتي عذاب الله عز وجل على القرية قال سبحانه: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} [النجم:53 - 55]. أي: بأي نعم ربك تجادل أو تشك؟! فهؤلاء جاءهم العذاب، فقد نزل عليهم ملك من ملائكة الله قلب عليهم قريتهم، وأمطر الله عز وجل عليهم حجارة من سجيل، فإذا بلوط وابنتاه يخرجون كما أمر الله سبحانه وتعالى، وامرأته تنظر خلفها، وتندب حظها، وتبكي قومها، فيأتيها حجر من السماء فيهلكها مع قومها.

تفسير قوله تعالى: (إلا عجوزا في الغابرين)

تفسير قوله تعالى: (إلا عجوزاً في الغابرين) قال الله سبحانه: {إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ} [الصافات:135]. هذه المرأة العجوز المشئومة، أهلكها الله سبحانه مع من أهلك، وغبر الشيء بمعنى بقي، فقد أبقاها الله مع قومها للعذاب. {ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ} [الشعراء:172] أي: سحقناهم حيث جاء العذاب المفزع من رب العالمين سبحانه، فأهلك جميع من في هذه القرية. وانظروا إلى صيغة التدمير فقد دمرهم ودمر ديارهم وما هم فيه تدميراً عظيماً.

تفسير قوله تعالى: (وإنكم لتمرون عليهم مصبحين)

تفسير قوله تعالى: (وإنكم لتمرون عليهم مصبحين) قال الله تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ} [الصافات:137]. أي: أنتم تسافرون إلى بلاد الشام ذاهبين آيبين، فترون البحيرات وتقولون عن البحر الميت: هذا المكان كان فيه قوم لوط، وجعل الله ماء هذه البحيرة شديد الملوحة والمرارة، حتى يعتبر الناس. وقوله: ((مُصْبِحِينَ)) يعني: في أسفاركم، وبالليل أيضاً تمرون فتقولون: هنا أهلك الله عز وجل قوم لوط: {وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الصافات:138] أفلا تعقلون كيف نزل العذاب بهؤلاء؟! {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:2]. فهم لم يتفكروا فتفكروا أنتم في مصيرهم، واحذروا أن تقلدوهم فيأتيكم عذاب الله كما أتى هؤلاء الأقوام. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدين والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصبحه أجمعين.

تفسير سورة الصافات [139 - 148]

تفسير سورة الصافات [139 - 148] الصبر وسيلة من وسائل الدعوة إلى الله، والنبي إذا كلفه الله بأمرٍ فإنه لا ينبغي له أن يفعل شيئاً إلا بإذن الله أولاً؛ ولذلك كانت الدعوة على النبي تكليفاً حتى يأذن الله له في ترك قومه، ولكن لو أن الداعي ترك من كان يدعوهم وغاضبهم فلا شيء عليه في ذلك، وقصة يونس مثال على ذلك، وفيها فوائد عظيمة يستفيد منها المؤمن في حياته.

تفسير قوله تعالى: (وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون)

تفسير قوله تعالى: (وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الصافات: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:139 - 144]. هذه قصة أخرى من قصص القرآن العظيم يذكرها الله عز وجل في هذه السورة باختصار، وي قصة يونس النبي عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، قال الله تعالى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الصافات:139 - 140]، القصة وذكرت في هذه السورة مختصرة، وذكرت أيضاً في سورة الأنبياء، وذكرت في سورة يونس، وذكرت في سورة القلم. وفي كل موضع يذكر الله عز وجل شيئاً وفائدة من الفوائد في هذه القصة العجيبة العظيمة. يونس بن متى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام كان نبياً أرسله الله سبحانه وتعالى إلى قومه، وكانوا في بلدة تسمى نينوى، بلدة بالموصل في العراق بحذاء بلدة كربلاء. أرسل الله يونس إلى هؤلاء القوم، وكانوا كفاراً يعصون الله سبحانه وتعالى، فدعاهم إلى ربه سبحانه فترة طويلة، فلم يستجيبوا لدعوته، فلما لم يستجيبوا وأبوا إلا العناد والتكذيب، حذرهم من غضب الله سبحانه وتعالى، وأنه ستأتيهم عقوبة الله وعذابه، وخرج مغاضباً لقومه وتركهم، وأخبرهم أن الله سبحانه سينزل عليهم العذاب خلال ثلاثة أيام، فلما سمعوا ذلك، ووجدوا نبيهم قد تركهم إذا بهم يرجعون إلى الله سبحانه، ويخافون من عقوبته سبحانه. وهذه الأمة الوحيدة التي حدث لها ذلك، قال الله عز وجل في سورة يونس {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ} [يونس:98]، لولا بمعنى: هلا {كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا} [يونس:98]، هل آمنت قرية من القرى حين يأتيها عذاب الله عز وجل وينفعها هذا الإيمان؟ ما حدث هذا أبداً إلا {قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:98]. إذاً: هذه القرية الوحيدة التي آمنت بالله ونفعها الإيمان، والعادة أن العذاب إذا نزل لا يرفع، فإذا جاء عذاب الله ورآه الناس استحقوا هذا العذاب، ولكن هؤلاء رأوا أن نبيهم غادرهم وتركهم، فاستيقنوا بمجيء العذاب، فلجئوا إلى ربهم سبحانه، فتابوا فتاب الله سبحانه وتعالى عليهم قبل أن ينزل العذاب عليهم.

تفسير قوله تعالى: (إذا ابق إلى الفلك المشحون)

تفسير قوله تعالى: (إذا ابق إلى الفلك المشحون) قال الله سبحانه: {إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الصافات:140] وأبق بمعنى: ترك المكان، وذهب بإرادته وهو مستطيع لذلك، يقال: عبد آبق يعني: هارب من مولاه، ترك مولاه على قدرة في ذلك، فترك سيده وانصرف عنه، فهذا ترك قومه وخرج بغير إذن ربه سبحانه وتعالى، هذا نبي من الأنبياء، وكل نبي يكلفه الله عز وجل بشيء لا بد أن يفعل هذا الشيء الذي كلفه الله عز وجل به. ويونس فعل ما أمره الله عز وجل به، ولكن لم يستأذن ربه سبحانه أن يترك هذه القرية، وكأنه لما أنذرهم بعقوبة الله وانتظر هذه العقوبة أن تنزل خلال ثلاثة أيام، مرت ثلاثة أيام ولم ينزل شيء، فهو أمام قومه سيظهر أنه كاذب، ولذلك غادرهم ولم يرجع إلى هؤلاء القوم لما وجد أن العذاب لم ينزل، فغادر القوم وركب السفينة وخرج من عند هؤلاء. وهنا في خروجه مغاضباً لقومه وخروجه بغير إذن ربه استحق أن يلومه الله سبحانه وتعالى، ولكن يونس على نبينا وعليه الصلاة والسلام نبي من المسبحين لله سبحانه وتعالى، وممن لم يزل يصعد إلى السماء منه دعوة صالحة لربه سبحانه وتعالى، فقد كان يكثر من الدعاء في كل وقت فنفعه ذلك، قال الله عز وجل: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ} [الصافات:143 - 144] أي: في بطن الحوت إلى يوم يبعثون، فكان من المسبحين، والمسبح بمعنى: المصلي، والمسبح: المنزه والمقدس لله سبحانه، والمكثر من التسبيح. قال الله تعالى عنه هنا: {وَإِنَّ يُونُسَ} [الصافات:139]، وفي سورة الأنبياء: {وَذَا النُّونِ} [الأنبياء:87]، وفي سورة نون {كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم:48]، فالنون: الحوت، وصاحبه هو يونس على نبينا وعليه الصلاة والسلام. قال هنا: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات:139 - 141]، وفي سورة الأنبياء قال: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:87 - 88]. وفي سورة القلم قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ * لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ * فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القلم:48 - 50]، لولا نعمة الله عز وجل عليه لذمه الله سبحانه، لأنه لم يستأذن ربه سبحانه، فغاضب قومه وخرج وتركهم، وهذا لو فعله إنسان داعٍ يدعو إلى الله في مكان، وغضب من القوم ولم يستجيبوا وتركهم، لم يكن عليه شيء، ولكن هذا نبي من أنبياء الله لا يتحرك ولا ينطق إلا بأمر الله سبحانه، ولذلك لم يجعل الله له هذه كالخطيئة التي تكون لغيره، إذاً: حسنات الأبرار كما يقولون سيئات المقربين. والإنسان يزداد قربه من الله عز وجل، ولا يكون حسناً لغيره قد يكون سيئة لهذا، وقد رأينا كيف عاتب الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم حين عبس من إنسان أعمى في شيء لو فعله غيره ما عوتب على ذلك، ولكن مقام النبي صلى الله عليه وسلم مقام عالٍ جداً عند الله عز وجل، إذ جاءه ابن أم مكتوم والنبي صلى الله عليه وسلم مشغول يدعو الكفار إلى دين الله، ويرجو أن يستجيبوا لدعوته عليه الصلاة والسلام، فلم يزل يقول: علمني مما علمك الله، علمني مما علمك الله، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يعبس وما زاد على ذلك، وعبس يعني: قطب جبينه صلى الله عليه وسلم، فقد كره أن يقطع عليه حديثه صلى الله عليه وسلم مع الناس، فعاتب الله نبيه صلى الله عليه وسلم؛ لأن مقامه مقام عالٍ جداً عند ربه سبحانه، ولذلك يعاتبه على الشيء الذي لو فعله غيره لا يلام على هذا الشيء، فقال: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس:1 - 4]. والله سبحانه عاتب يونس النبي، بل عاقبه سبحانه وتعالى، وقال: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:143 - 144]، ذو النون يونس بن متى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام دعا قومه إلى الله سبحانه، فلما لم يستجيبوا حذرهم من عقوبة الله، وأعلن بأنهم يستحقون العقوبة، وأنها تنزل عليهم بعد ثلاثة أيام، فإذا بهم يتوبون إلى الله، ويقبل الله عز وجل منهم ذلك، فيرفع عنهم هذا العذاب، فلما وجد يونس أن القوم مكذبون وأن العذاب لم ينزل، فإنهم سيقولون عنه: إنه كاذب، فتركهم وركب السفينة وخرج من عندهم، قال تعالى: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء:87] يعني: فظن أن الله لن يضيق عليه، وفي القراءة الأخرى: (فظَنَّ أَنْ لَنْ يُقدر عَلَيْهِ) يعني: لن يضيق عليه. والأمر واسع ويذهب أينما يريد يدعو إلى الله، ولكن ليس بغير إذن من الله، فلذلك لما ركب السفينة مع قومه وهم يعلمون أنه من أنبياء الله فإذا بالسفينة تهبُّ عليها ريح شديدة وتثقل السفينة وتكاد تغرق بأصحابها، فإذا بهم يتعجبون ما حالها؟ السفن حولهم كثير إلا سفينتهم تكاد تغرق! فيقول لهم يونس عليه الصلاة والسلام: إن فيها عبداً آبقاً، يقصد نفسه عليه الصلاة والسلام. فيقول بعضهم لبعض: لا بد أن نلقي واحداً منا في الماء من أجل أن تخف هذه السفينة، فقال: ألقوني أنا، إن فيها عبداً آبقاً لمولاه، فيقترعون ثلاث مرات، وتطلع القرعة على يونس عليه الصلاة والسلام، وإذا به يتهيأ ليلقي نفسه في البحر، وإذا بحوت يأتي إليه بجوار السفينة بجوار المكان الذي يلقي نفسه منه، ويذهب إلى المكان الآخر فيأتي الحوت فيه، فعاد إلى المكان الأول فيلقي نفسه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فيلتقمه الحوت، وأوحى الله عز وجل إلى الحوت أن لا يلتقمه وأنه لم يجعله له رزقاً، فكان في بطن الحوت، في ظلمة الليل، وفي ظلمة البحر، وفي ظلمة بطن الحوت، قال: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87].

تفسير قوله تعالى: (فساهم فكان من المدحضين)

تفسير قوله تعالى: (فساهم فكان من المدحضين) يقول الله سبحانه: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات:141] أي: فقارع يعني: أجريت القرعة، ودخل من ضمن من يقترعون، قال تعالى: {فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات:141]، أي: من المشئومين، أو من المقروعين، أو من المغلوبين، يعني: هو الذي أصبحت عليه القرعة أنه يلقي بنفسه في البحر. قال تعالى: {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} [الصافات:142] الحوت: السمكة العظيمة وكان يطلق على كل سمكة حوت، قوله تعالى: {وَهُوَ مُلِيمٌ} [الصافات:142] أي: آت بما يلام عليه، وفرق بين ملوم ومليم، تقول: فلان ملوم هناك من يلومه، ومن الممكن أنه يستحق، ومن الممكن أنه لا يستحق اللوم، إذاً: هذا نعاتبه، ويمكن أن يستحق ذلك أو لا يستحق، لكن {مُلِيمٌ} [الصافات:142] قد استحق ذلك، وقد أتى بما يستحق عليه أن يلومه وأن يعاتبه الله سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (فلولا أنه كان من المسبحين)

تفسير قوله تعالى: (فلولا أنه كان من المسبحين) قال الله تعالى: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} [الصافات:143]، كانت له فضيلة أنه كان كثير التسبيح، وكثير الصلاة عليه الصلاة والسلام. قال تعالى: {لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ} [الصافات:144] أي: في بطن الحوت، قال تعالى: {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:144]، والله على كل شيء قدير سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (فنبذناه بالعراء وهو سقيم)

تفسير قوله تعالى: (فنبذناه بالعراء وهو سقيم) قال الله تعالى: {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ} [الصافات:145] أي: ألقيناه وأمرنا الحوت بعدما طاف به في البحار أن يلقيه على جزيرة من الجزر، على أرض من الأراضي، قال تعالى: {وَهُوَ سَقِيمٌ} [الصافات:145] يعني: خرج من داخل بطن الحوت وهو مريض من الفترة التي مكثها بداخل بطن الحوت. في هذه الفترة الذي كان فيها مريضاً داخل بطن الحوت كان يصلي لله سبحانه وتعالى، فسمع تسبيح الحصى، وتسبيح الأسماك، وتسبيح الكائنات في البحر، فسبح ربه سبحانه وألهمه الله سبحانه أن يقول هذه الكلمة العظيمة: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]. جاء في حديث رواه الترمذي عن سعد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدعُ بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له)، فالله رحمته عظيمة وواسعة، كما استجاب ليونس عليه الصلاة والسلام يستجيب لغيره، قال الله تعالى: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:87 - 88]، إذاً: ليس هو وحده، بل كل مؤمن ننجيه إذا دعانا واستجار بنا، وكان من المسبحين لربه سبحانه تبارك وتعالى. قوله تعالى: {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ} [الصافات:145] أي: في مكان لا شجر فيه ولا شيء يستفيد منه ليريه نعمته عليه، فالله أنعم عليه فلا يفعل شيئاً بغير إذنه. قال الله تعالى: {وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ} [الصافات:146] الله عز وجل خلق له وأنبت له شجرة من يقطين، واليقطين: القرع، ولليقطين فوائد كثيرة، ففي هذا المكان الذي ليس فيه شجر يستظل بورق اليقطين؛ لأن ورقه كبير له ظل، ونباته يؤكل سواء كان رطباً أو مطبوخاً، ومن ميزاته أن الذباب لا يقرب شجر اليقطين، فكان من الله عز وجل فضلٌ ونعمة على يونس في هذا المكان، قال تعالى: {وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ} [الصافات:146]، فكان يشرب من الماء ويأكل من هذا الشجر حتى صح بدنه ورجع إلى عافيته.

تفسير قوله تعالى: (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون)

تفسير قوله تعالى: (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون) قال الله: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات:147]، أرسله الله عز وجل إلى قومه أو إلى غيرهم، رجع إلى قومه يدعوهم وكانوا مائة ألف، أو أرسله إلى غيرهم سبحانه وتعالى. وقال سبحانه: {فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ} [الصافات:148] يعني: في هذه الدنيا، متعناهم بإيمانهم فيها إلى حين، فقد استجابوا لدعوته، والله سبحانه وتعالى لم يحرمه من خير، وهذا فضل الله عز وجل، ولو شاء لقبضه على ذلك فكان مليماً وآتياً بما يلام عليه عند الله، ولكن الله تكرم عليه سبحانه وأرسله مرة أخرى؛ ليدعو إلى الله سبحانه وتعالى. وذكر الله عز وجل ذلك في سورة الأنبياء، إذ ذكر أنه ينجي المؤمنين، فالإنسان المؤمن يتعلم من هذه القصة أنه لا يترك أمر الله سبحانه وتعالى؛ لأنه لا يدري ما يكون وراء ذلك، ولا يترك دين الله سبحانه وتعالى والدعوة إليه سبحانه، بل يقتدي بأنبياء الله الذين دعوا وصبروا في دعوتهم إلى الله سبحانه، والله قادر على التغيير، والإنسان الذي تراه يستحق العذاب قد يرى الله عز وجل أنه لا يستحق ذلك، فيرفع عنه العذاب الذي تتوهم أنه من أهله، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)، فلعل هذا الإنسان الذي أدعوه خير مني، ولعلي أراه الآن عاصياً ويكون مؤمناً تقياً بعد ذلك، ولعل الإنسان ينظر إليه أنه يستحق النار، وهو عند الله عز وجل يستحق أن يكون من أهل الجنة بما قدر الله عز وجل أن يفعله بعد ذلك. وفي سورة القلم يقول الله للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} [القلم:48] بمعنى: كظم الغيظ، وكظم الغضب ونادى ربه سبحانه: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]، قال تعالى: {لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ} [القلم:49]، ولكن الله لم يذمه سبحانه وتعالى، إذ قال: {فَاجْتَبَاهُ} [القلم:50]، أي: اصطفاه الله عز وجل، فجعله من الصالحين. فقال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم:48]، تحذيراً للنبي صلى الله عليه وسلم، ويقول في سورة الحاقة: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:44 - 46]، هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلو أنه افترى علينا وحاشا له صلوات الله وسلامه عليه {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:45 - 46]، فالله سبحانه يقول هذا على نبيه وحبيبه وخليله صلوات الله وسلامه عليه فكيف بغيره؟! لذلك لا يجوز لأحد أن يأمن عذاب الله سبحانه، أو يأمن عقوبة الله سبحانه، أو يحسن الظن بنفسه، أو يسيء الظن بغيره، بل يجب على الإنسان أن يحسن الظن في الله سبحانه وتعالى. وفي قصة يونس يقول النبي صلى الله عليه وسلم محذراً: (لا يقولن أحدكم إني خير من يونس بن متى)، لا يقولن أحدكم ذلك، لعل إنساناً يسمع هذه القصة فيقول: سيدنا يونس هرب، والنبي صلى الله عليه وسلم صبر، إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم أحسن، فإن هذه المقارنة تكون على وجه النقيصة للنبي يونس عليه الصلاة والسلام، فيحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، ونحن نعلم ونستيقن أن النبي صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم، قال صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) يعني: لا أقول هذا من جهة الافتخار، ولكن أقول بالتحدث بنعمة الله سبحانه وتعالى عليَّ، فكذلك إذا ذكرنا أنه خير الأنبياء لا يكون ذلك على وجه تفضيل النبي صلى الله عليه وسلم والانتقاص للغير، أما أن يذكر على وجه المقارنة، كأن تقول: يونس عمل كذا، والنبي صلى الله عليه وسلم عمل كذا، إذاً: النبي أحسن من يونس فإن هذا لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، وقال: (لا ينبغي لعبد أن يقول إني خير من يونس بن متى). وقد أنبت الله عز وجل على يونس عليه الصلاة والسلام شجرة اليقطين، فأحبها النبي صلوات الله وسلامه عليه، وهي شجرة قرع يجعلها الله عز وجل في هذا الموضع نعمة على هذا العبد، ففيها فضل وفيها خير، فأحب النبي صلى الله عليه وسلم هذا الطعام، وجاءت أحاديث عنه صحيحة في سنن ابن ماجة وفي مسند الإمام أحمد منها: حديث لـ أنس رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب القرع)، وهو الدباء، وفي حديث آخر قال: (بعثت معي أم سليم بمكتل فيه رطب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجده، وخرج قريباً إلى مولىًً له دعاه، فصنع له طعاماً، فأتيته وهو يأكل، قال: فدعاني لآكل معه، قال: وصنع ثريدة بلحم وقرع)، فالرجل صنع ثريدة الطعام كأنه الفتيت وفيه اللحم ومعه قرع، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه القرع، قال أنس: (فإذا هو يعجبه القرع، فجعلت أجمعه فأدنيه منه صلى الله عليه وسلم)، وهذا من أدب أنس رضي الله عنه، حيث وجد النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يأكل الدباء، فكان يجمعه قريباً من النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليأكل منه عليه الصلاة والسلام، قال: (فلما طعمنا منه رجع إلى منزله عليه الصلاة والسلام، ووضعت المكتل بين يديه -هدية أرسلتها أم سليم له برطب- فجعل يأكل) يعني: فاكهة أكلها صلى الله عليه وسلم وقسَّم منه حتى فرغ من آخره، يعني: لم يأكل وحده، وإنما أعطى لمن معه من هذه الهدية التي جاءته. وفي حديث آخر رواه ابن ماجة أيضاً وهو حديث صحيح عن جابر بن طارق بن عوف قال: (دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم في بيته وعنده هذا الدباء، فقلت: أي شيء هذا؟ قال: هذا القرع -وهو الدباء- نكثر به طعامنا). فالإنسان المؤمن يحب ما أحبه النبي صلى الله عليه وسلم، وهنا ننبه على شيء، وهو أن بعض أعداء هذا الدين لما عرفوا هذه الأحاديث أخذوا يستهزئون من ذلك، والمسلمون بجهلهم لا يعرفون هذا الشيء، فمنهم من يقول لك: أتحب القرع؟! فيجعل الشيء الذي كان يحبه النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً للتهكم فيتهكمون به، وهو يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الدباء، فلا يحل لمسلم أن يستهين أو يتهكم أو يسخر مما كان يحبه النبي صلى الله عليه وسلم أو يقول شيئاً على وجه التعريض، فيقصد معنى آخر، كأن يقصد السخرية من النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الصافات [149 - 160]

تفسير سورة الصافات [149 - 160] ينكر الله سبحانه على المشركين في جعلهم لله تعالى البنات سبحانه ولهم ما يشتهون من الذكور، فينسبون إلى الله عز وجل القسم الذي لا يختارونه لأنفسهم، وقد جعل المشركون بين الله سبحانه وبين الجنة نسباً، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.

تفسير قوله تعالى: (فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون)

تفسير قوله تعالى: (فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} [الصافات:149]، يذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات لنبيه صلوات الله وسلامه عليه كيف أن هؤلاء الكفار كذبوا على الله سبحانه وافتروا أعظم الكذب بأن ادعوا أن الله اصطفى البنات لنفسه سبحانه، وأنه اتخذ الصاحبة، فكأنهم زعموا وشبهوا أن الله سبحانه وتعالى كالبشر، فالبشر لهم أبناء ويتناسلون، فقالوا: إن الله عز وجل كذلك! واصطفى لنفسه البنات من الجن أو من الملائكة! وكان له نسل حاشا لله وتعالى علواً كبيراً عما يقولون! فقالوا: الملائكة بنات له، فقال لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {فَاسْتَفْتِهِمْ} أي: اسألهم. وقوله: {فَاسْتَفْتِهِمْ} [الصافات:149] هذه قراءة الجمهور وقراءة رويس (فاستفتهُم)، على أصل الضمير في الضم. ((أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ)) هذا السؤال ليس سؤال استفهام؛ لأن A حاشا لله عز وجل أن يتخذ صاحبة وولداً، وهم كذابون فيما يقولون، وإنما الاستفهام للتقريع والتوبيخ فيما يقولون، على سبيل الإنكار عليهم.

الحكمة من سرد قصص الأنبياء

الحكمة من سرد قصص الأنبياء هذا السؤال كان بعد أن قص الله سبحانه على النبي صلى الله عليه وسلم قصص مجموعة من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وهذه السورة كما ذكرنا سورة مكية، نزلت والنبي صلى الله عليه وسلم يؤذى من قومه، وأصحابه يفتنون ويبتلون ويعذبون من الكفار، فالله يثبت نبيه صلى الله عليه وسلم ويثبت المؤمنين بذلك، فهذا نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام قال الله عنه: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} [الصافات:75]، وذكر باختصار قصة نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام. ثم ذكر: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ} [الصافات:83]، وذكر باختصار قصة إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام مع عباد الأصنام، وكيف كسر أصنامهم، وكيف ذهب مهاجراً إلى ربه سبحانه وتعالى، وكيف بشره الله سبحانه بالغلام العليم، وجاءه إسماعيل على نبينا وعليه الصلاة والسلام، رأى في المنام أنه يذبح ولده، وأن الله أمره بذلك، فلما علم الله سبحانه وتعالى صدقه فداه بذبح عظيم, وكانت آية من آيات الله سبحانه، ثم بشره بإسحاق، وكل من جاء من الأنبياء بعد إبراهيم هم من ذرية إسحاق عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، إلا نبينا صلى الله عليه وسلم فهو الوحيد من الأنبياء من ذرية إسماعيل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. ثم ذكر الله عز وجل بعد ذلك ذكر موسى وهارون وكيف ابتلاهم الله سبحانه وتعالى، وآتاهما الكتاب المستبين، ونصرهم الله سبحانه وتعالى بعد ما ابتلي موسى وهارون عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، وساقها باختصار. وذكر بعد ذلك قصة إلياس عليه السلام وكان من المرسلين، وكيف كان قومه يعبدون صنماً اسمه بعل عبدوه من دون الله، فأهلكهم الله سبحانه وتعالى. ولوط على نبينا وعليه الصلاة والسلام دعا قومه إلى عبادة الله، وكانوا يأتون الفاحشة ويشركون بالله ويأتون الذكران من العالمين، فلما أبوا إلا الإعراض والتكذيب، وأرادوا قتل نبيهم أهلكهم الله سبحانه: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الصافات:137 - 138]. وذكر قصة يونس على نبينا وعليه الصلاة والسلام كيف أنه أبق إلى الفلك المشحون، {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} [الصافات:141 - 142]، ثم نجاه الله سبحانه وبعثه إلى مائة ألف أو يزيدون، {فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [الصافات:148]. إذاً: قصص الأنبياء التي يسوقها الله سبحانه وتعالى المقصد منها: تسلية النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وأن يأخذوا منها العظة والعبرة، وأن الله يترك عباده هؤلاء فترة لعلهم يؤمنون، ولا يتركهم إهمالاً لهم ولكن إمهالاً منه سبحانه وتعالى، يمهلهم، ويحلم بهم سبحانه ويصبر عليهم لعلهم يؤمنون، وهو أعلم سبحانه وتعالى من الذي يستجيب ومن الذي لا يستجيب، ففي قصص الأنبياء العبرة للنبي صلى الله عليه وسلم: اصبر ولا تعجل، {وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ * لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ} [القلم:48 - 49]، فمنها يتعلم النبي صلى الله عليه وسلم ويتعلم المؤمنون عدم العجلة، أي: لا تكن كيونس على نبينا وعليه الصلاة والسلام حين تعجل وغضب من قومه وتركهم؛ لأنهم لم يؤمنوا، وإذا بالله عز وجل يتوب عليه، وقومه تابوا إلى الله. فهذه القصص فيها إخبار النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن الله قد يبادر ويعاجل بالعقوبة، وقد يمهل القوم لحكمة منه سبحانه، فلا تعجل، أي: اصبر لأمر الله سبحانه وتعالى، فإن الفرج يأتي بعد الضيق، وكما قصصنا عليك قصص هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فتوجه الآن إلى هؤلاء الكفار، وأمرهم بالمعروف وانههم عن المنكر، واسأل هؤلاء: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} [الصافات:149]. أي: آلله اصطفى لنفسه البنات، وتقولون: هن لله سبحانه وتعالى، ولكم أنتم البنون وتفتخرون بهم؟!

الحكمة من سرد قصص الأنبياء على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنين

الحكمة من سرد قصص الأنبياء على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنين هذا السؤال كان بعد أن قص الله سبحانه على النبي صلى الله عليه وسلم قصص مجموعة من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وهذه السورة كما ذكرنا سورة مكية، نزلت والنبي صلى الله عليه وسلم يؤذى من قومه، وأصحابه يفتنون ويبتلون ويعذبون من الكفار، فالله يثبت نبيه صلى الله عليه وسلم ويثبت المؤمنين بذلك، فهذا نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام قال الله عنه: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} [الصافات:75]، وذكر باختصار قصة نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام. ثم ذكر: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ} [الصافات:83]، وذكر باختصار قصة إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام مع عباد الأصنام، وكيف كسر أصنامهم، وكيف ذهب مهاجراً إلى ربه سبحانه وتعالى، وكيف بشره الله سبحانه بالغلام العليم، وجاءه إسماعيل على نبينا وعليه الصلاة والسلام، رأى في المنام أنه يذبح ولده، وأن الله أمره بذلك، فلما علم الله سبحانه وتعالى صدقه فداه بذبح عظيم, وكانت آية من آيات الله سبحانه، ثم بشره بإسحاق، وكل من جاء من الأنبياء بعد إبراهيم هم من ذرية إسحاق عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، إلا نبينا صلى الله عليه وسلم فهو الوحيد من الأنبياء من ذرية إسماعيل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. ثم ذكر الله عز وجل بعد ذلك ذكر موسى وهارون وكيف ابتلاهم الله سبحانه وتعالى، وآتاهما الكتاب المستبين، ونصرهم الله سبحانه وتعالى بعد ما ابتلي موسى وهارون عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، وساقها باختصار. وذكر بعد ذلك قصة إلياس عليه السلام وكان من المرسلين، وكيف كان قومه يعبدون صنماً اسمه بعل عبدوه من دون الله، فأهلكهم الله سبحانه وتعالى. ولوط على نبينا وعليه الصلاة والسلام دعا قومه إلى عبادة الله، وكانوا يأتون الفاحشة ويشركون بالله ويأتون الذكران من العالمين، فلما أبوا إلا الإعراض والتكذيب، وأرادوا قتل نبيهم أهلكهم الله سبحانه: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الصافات:137 - 138]. وذكر قصة يونس على نبينا وعليه الصلاة والسلام كيف أنه أبق إلى الفلك المشحون، {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} [الصافات:141 - 142]، ثم نجاه الله سبحانه وبعثه إلى مائة ألف أو يزيدون، {فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [الصافات:148]. إذاً: قصص الأنبياء التي يسوقها الله سبحانه وتعالى المقصد منها: تسلية النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وأن يأخذوا منها العظة والعبرة، وأن الله يترك عباده هؤلاء فترة لعلهم يؤمنون، ولا يتركهم إهمالاً لهم ولكن إمهالاً منه سبحانه وتعالى، يمهلهم، ويحلم بهم سبحانه ويصبر عليهم لعلهم يؤمنون، وهو أعلم سبحانه وتعالى من الذي يستجيب ومن الذي لا يستجيب، ففي قصص الأنبياء العبرة للنبي صلى الله عليه وسلم: اصبر ولا تعجل، {وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ * لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ} [القلم:48 - 49]، فمنها يتعلم النبي صلى الله عليه وسلم ويتعلم المؤمنون عدم العجلة، أي: لا تكن كيونس على نبينا وعليه الصلاة والسلام حين تعجل وغضب من قومه وتركهم؛ لأنهم لم يؤمنوا، وإذا بالله عز وجل يتوب عليه، وقومه تابوا إلى الله. فهذه القصص فيها إخبار النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن الله قد يبادر ويعاجل بالعقوبة، وقد يمهل القوم لحكمة منه سبحانه، فلا تعجل، أي: اصبر لأمر الله سبحانه وتعالى، فإن الفرج يأتي بعد الضيق، وكما قصصنا عليك قصص هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فتوجه الآن إلى هؤلاء الكفار، وأمرهم بالمعروف وانههم عن المنكر، واسأل هؤلاء: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} [الصافات:149]. أي: آلله اصطفى لنفسه البنات، وتقولون: هن لله سبحانه وتعالى، ولكم أنتم البنون وتفتخرون بهم؟!

تفسير قوله تعالى: (أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون)

تفسير قوله تعالى: (أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون) قال الله تعالى: {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ} [الصافات:150] قوله: ((أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ)) هنا ذكر الملائكة، وسيذكر بعد قليل الجن، وكأن المشركين زعموا أن الله سبحانه اصطفى من الجن من اصطفاه لنفسه صاحبة له، وكان له منها البنات وهم الملائكة، فكأنه يقول: من أخبركم أن الملائكة بنات الله سبحانه وتعالى؟! فقال: ((أَمْ خَلَقْنَا)) أي: أتقولون ذلك وتزعمون أننا خلقنا إناثاً وأنتم شاهدون، ورأيتمونا ونحن نخلق الملائكة، ورأيتم أننا اصطفينا لأنفسنا منهم بنات؟!

تفسير قوله تعالى: (ألا إنهم من إفكهم ليقولون)

تفسير قوله تعالى: (ألا إنهم من إفكهم ليقولون) قال الله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الصافات:151 - 152] أي: أنهم من شدة كذبهم يزعمون أن الله سبحانه صار له الولد حاشا لله عز وجل! {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء:43] وهم يقيناً كاذبون فيما يقولون. {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} [الصافات:153] من قال لكم: إنه اختار واجتبى البنات له وميزهم على البنين، والبنون لكم، ولذلك كانوا في الجاهلية يقتلون البنات ويقولون: هن لله، ويأخذون البنين، فكان الرجل من العرب إذا بشر بالأنثى كما قال الله: {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيم ٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} [النحل:58 - 59]، هذا حالهم عندما يبشر أحدهم ويخبر بالبنت، فإذا كنت تستبشع هذا لنفسك، فكيف تزعمه لله الذي خلقك سبحانه وتعالى؟! وكيف تقولون: {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ}؟ {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [الصافات:154] أي: قياس هذا الذي تقولونه؟ ترضون لأنفسكم بالشيء الأعلى وتزعمون أن الأدنى لله سبحانه وتعالى، كيف تحكمون بذلك؟ قرأ الجمهور: ((أَصْطَفَى)) بهمزة قطع، وقرأ ورش بخلفه بهمزة وصل فيها إذا وصل، وكذلك قرأها أبو جعفر: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * اَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} [الصافات:152 - 153]، هذه قراءة ورش بخلفه، فإذا بدأ بها قال: {اصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ}، والجمهور ومنهم ورش أيضاً يقرءون: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} [الصافات:152 - 153]، فإذا بدءوا قالوا: {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ}.

تفسير قوله تعالى: (أفلا تذكرون)

تفسير قوله تعالى: (أفلا تذكرون) قال الله تعالى: {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الصافات:155] أي: هلا تذكرتم ولم تنسوا، واعتبرتم ونظرتم فيما تقولون وتفكرتم في ذلك؟ وقوله: ((أَفَلا تَذَكَّرُونَ)) هذه قراءة حفص عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف: ((أَفَلا تَذَكَّرُونَ)) وباقي القراء يقرءونها: ((أَفَلا تذكرون)) أي: تتذكرون كيف بدأ الله الخلق وكيف خلقكم من عدم سبحانه وتعالى؟ وأن الفقير هو الذي يحتاج إلى من يخلفه، أما الله تعالى فهو الغني لا يحتاج إلى شيء سبحانه. وقال تعالى: {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ} [الصافات:156] أي: ألكم حجة من الله سبحانه بينة قاطعة تشهد لكم بما تقولون؟ {فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الصافات:157] أي: إذا كان عندكم مثل هذا القرآن، أو عندكم كتاب من كتب الله يقول لكم فيه الله عز وجل هذا الذي تزعمون فأتوا به، {إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الصافات:157]، في دعواكم.

تفسير قوله تعالى: (وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا)

تفسير قوله تعالى: (وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً) قال الله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات:158]، قوله: ((وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ)) أكثر المفسرين على أن الجنة هنا بمعنى الملائكة، والجنة أصلها من جنة الشيء بمعنى خفي واستخفى، فالملائكة سموا جناً لعدم ظهورهم أو أنها مأخوذة من الجنة، والجنة بمعنى الجنان وأنهم خزانها، فكأن المعنى: كيف أن هذه الملائكة الخفية تزعمون أنهم بنات الله سبحانه وتعالى؟! {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [الصافات:158] وكأن النسب هنا بمعنى المصاهرة أو بمعنى الأولاد، فهم جعلوا الملائكة بنات له، تقول: أنا أنسب لأبي، وأنسب لجدي وهكذا، فكأنهم نسبوا الملائكة إلى الله، فقالوا: الملائكة بنات الله، سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً؛ فهؤلاء العرب زعموا ذلك، منهم: جهينة، وخزاعة، وبنو مليح، وبنو سلمة، وبنو عبد الدار، فهؤلاء مجموعة كانوا يزعمون أن الملائكة بنات له، وأن الله اصطفى من الملائكة من ناسبهم وتزوج منهم وكان له منهم البنات، تعالى عما يقولون علواً كبيراً، قال مجاهد: ذكروا ذلك لـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فقال أبو بكر رضي الله عنه: فمن أمهاتهم؟ أي: إذا كان الملائكة بنات الله فمن أمهاتهم؟ فقالوا: مخدرات الجن، والمرأة المخدرة هي المختبئة في البيت، فكان عند العرب المرأة المخدرة هي المرأة الشريفة التي تكون في بيتها مصونة، فزعموا أن الجن منهم مخدرات يعني: أن من الجن شريفات عفيفات محبوسات في البيوت فتزوج الله عز وجل منهم، حاشا له سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً. وقال سبحانه: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات:158]، سواء كان الجنة الملائكة أو الجن فهم محضرون لحساب يوم القيامة، فإذا كان الله عز وجل يجمع الرسل ويأتي بالمسيح عيسى بن مريم فيسأله الله سبحانه وتعالى وهو أعلم أنهم كذبوا عليه {أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة:116]، ومع ذلك سيسأله الله أمام الخلق: هل أنت قلت ذلك؟ فإذا كان هذا المسيح والله عز وجل يعلم أنه صادق فكيف بغيره؟ فالله يأتي بالجميع الملائكة والجن والإنس وكل خلقه ويسأل: هل أنتم بنات الله كما قيل عنكم؟! إذاً: علمت الجنة أنهم محضرون بين يدي الله سبحانه، وعلمت الشياطين أنهم محضرون للعذاب يوم القيامة.

تفسير قوله تعالى: (سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين)

تفسير قوله تعالى: (سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين) قال الله تعالى: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات:159]. أي: تعالى الله سبحانه وتنزه وتقدس عما يصفونه من كذب وضلال {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات:160] أي: هؤلاء لم يصفوا الله سبحانه إلا بما قاله عن نفسه سبحانه، ولذلك الإنسان المؤمن لا يصف ربه سبحانه بما عني له في خاطره أو في عقله فيصف ربه بما شاء، لا؛ لأن صفات الله توقيفية، فالإنسان لا يسمي ربه إلا بما سمى به نفسه، أو سماه به الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا يصفه سبحانه إلا بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله صلوات الله وسلامه عليه. قوله: (إلا عباد الله المخلِصين) مخلَص ومخلِص في كل القرآن يقرؤها نافع وأبو جعفر والكوفيون كـ عاصم وحمزة والكسائي وخلف: ((الْمُخْلَصِينَ)) وباقي القراء يقرءونها: (المخلِصين)، ولها معنيان: المخلَص وهو الذي اصطفاه الله عز وجل واختاره، والمخلِص وهو الذي عبد الله سبحانه ولم يشرك به شيئاً، فهؤلاء المخلَصون والمخلِصون يذكر الله عز وجل أنهم لم يكذبوا على الله سبحانه، ولم يصفوا الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وهؤلاء ذكرهم الله قبل ذلك أن لهم جنات النعيم، وأن لهم الحور العين، ومما يشربون من أنهار الجنة ومن النعيم الشيء العظيم، وهنا ذكر الله سبحانه أنهم لا يصفون الله إلا بالحق الذي جاء في الكتاب والسنة. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الصافات [161 - 173]

تفسير سورة الصافات [161 - 173] يأمر الله عباده بالإيمان بالقضاء والقدر، ومنهج أهل السنة والجماعة في ذلك: أن الله خالق العباد وأفعالهم، وقد جعل الله للعبد اختياراً وإرادة ورغبة فيما يعمل، وعلم الله وأحاط بما يفعله عباده من قبل، والهداية بيده سبحانه وكذلك الإضلال، فمن كتب الله له الهداية اهتدى، ومن كتب عليه الضلال أضله الله، ولله ملائكة يعبدونه ويسبحونه وينزهونه، وكل منهم له مقامه المعلوم لا يتجاوزه، وقد وعد الله المؤمنين بالنصر ولو بعد حين.

تفسير قوله تعالى: (فإنكم وما تعبدون إلا من هو صال الجحيم)

تفسير قوله تعالى: (فإنكم وما تعبدون إلا من هو صال الجحيم) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الصافات: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ * وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ * وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ * لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأَوَّلِينَ * لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:161 - 173]. في هذه الآيات من آخر سورة الصافات يخبر الله سبحانه وتعالى عن هؤلاء الذين يعبدون غير الله سبحانه، ويضلون الخلق ويدعونهم إلى عبادة غيره سبحانه، أنهم لا يقدرون أن يضلوا أحداً إذا أراد الله عز وجل له الهداية، والأمر كله بيد الله سبحانه وتعالى، فهو القادر على كل شيء، يهدي من يشاء ويعصم ويعافي من يشاء، ويضل من يشاء، ويخذل ويبتلي عدلاً، فبيده كل شيء سبحانه، والمؤمنون مأمورون بأن يؤمنوا بقضاء الله سبحانه وقدره، فقد عجز الخلق أن يتفكروا فيه، والله سبحانه لم يأمرهم أن يتفكروا فيما وراءه، ولكن أمرهم أن يؤمنوا به، وقضاء الله مبني على علم الله وعلى حكمته وقدرته، فلا شيء يجري في الكون إلا بعلمه وحكمته وقدرته سبحانه وتعالى، فما شاء كان، ولابد أن يوجد هذا الذي شاءه الله سبحانه، وما لم يشأ مستحيل أن يوجد هذا الذي لم يشأه الله سبحانه، فخلق العباد فريقاً للجنة وفريقاً للسعير، ولم يخبر العباد من هؤلاء الذين هم في الجنة ومن هؤلاء الذين هم في النار، ولكن أمرهم أن يؤمنوا بقضاء الله وقدره، فهذا أحد أصول الإيمان أن تؤمن بالقضاء والقدر. وظهرت الفرق بين الناس، فهذه فرقة تزعم أن الله عز وجل خلق العباد وهو الذي يلزمهم ويجبرهم على ما يفعلون، فيعترضون على الله سبحانه إذا كان هو الذي خلقهم فلماذا يحاسبهم؟ وفريق آخر يقولون: الله سبحانه لم يقدر شيئاً، بل العباد يفعلون أفعالهم، ويختارون ما يشاءون، ثم الله يحاسبهم بعد ذلك، وهذه الفرقة تسمى الجبرية، أي: أن الله أجبرهم على ذلك، وكلا الفريقين في ضلال مبين، ولكن أهل السنة والجماعة يقولون: القدر سر من أسرار الله سبحانه وتعالى، كما أن الغيب كله من أسرار الله سبحانه لم يطلعنا على شيء، فنحن نقول: آمنا بالله سبحانه ولم نر الله سبحانه، وآمنا بالجنة والنار ولم نر الجنة ولا النار، وآمنا بملائكة الله سبحانه ولم نر الملائكة، قال تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3]، كذلك القضاء والقدر من غيب الله سبحانه ومن سره أمرنا أن نؤمن به، ونؤمن أن كل شيء بيد الله سبحانه، وأن الله إذا شاء شيئاً لابد أن يكون، وإذا لم يشأ فمستحيل أن يكون هذا الشيء الذي لم يشأه سبحانه وتعالى. والله خلق عباده فمنهم كافر ومنهم مؤمن، فهو يحاسب عباده على أعمالهم، وهو الذي خلق العباد وما يفعلون، والعبد يكتسب فعله الذي يفعله، فهو مختار مريد، والعبد يختار ما يريده والله من وراء ذلك محيط، له قضاؤه وقدره سبحانه وتعالى، فالله قدر الأقدار، وعلم كل شيء، وجعل فريقاً في الجنة، وفريقاً في النار، وجعل للعبد اختياراً يختار به الشيء، فهو يستشعر حين يعصي أنه مريد لذلك، وأنه يفعل ذلك برغبته، وأنه يعصيه، إذاً: لا يحتج أحد على الله عز وجل بالقضاء والقدر، ولا يقول: يا ربي أنت خلقتني للنار، وما أدراه أنه خلقه للنار؟ أو يقول: يا ربي أنت قدرت المعصية، وهو يستشعر أنه يفعل المعصية ويستشعر أنه مريد ومختار وراغب في هذا الذي يفعله! فالله يحاسبه على هذا الذي هو فيه. إذاً: نؤمن أن الله قدر كل شيء، وعلم كل شيء سبحانه وتعالى، وشاء سبحانه وتعالى ما كان موجوداً في خلقه. قال سبحانه: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} [الصافات:161] يقول للكفرة المشركين أنتم أيها الكفار وما تعبدونه من دون الله. قوله تعالى: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} [الصافات:162] لستم مظلين أحداً من خلق الله. قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات:163] إلا من قدر الله عز وجل له ذلك. فالله يثبت في هذه الآية كما أثبت في آيات أخرى كثيرة أنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء سبحانه وتعالى، ولا يقدر إنسان غاوٍ أن يغوي أحداً أو يضله أو يخرجه عن طريق الله، إلا والله قد شاء ذلك، وأراده وقدره سبحانه وتعالى. قال تعالى: ((إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ)) إلا من خلقه الله سبحانه وتعالى، وعلم أن هذا من أهل الجحيم ومن أهل النار. ذكروا أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ذكر عنده أقوام القدر، وأنكروا أن هناك قضاء وقدراً، وقالوا: أفعال العباد خلقها العباد، وبعد ذلك ربنا يحاسبنا على هذه الأفعال، وكأنهم ينكرون أن الله يعلم الأفعال قبل حدوثها، وينكرون أن الله يقدر هذه الأشياء، فقال عمر بن عبد العزيز: لو أراد الله أن لا يعصى ما خلق إبليس وهو رأس الخطيئة، فالله سبحانه وتعالى قال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن:2] فالله خلق العباد، وأراد الله أن يوجد في هذا الكون الخير والشر، وأن يكون هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار، فخلق الجنة وخلق لها أهلاً لحكمة منه سبحانه، وخلق النار وخلق لها أهلاً لحكمة منه سبحانه وتعالى، وخلق إبليس ليضل به من يشاء من خلقه سبحانه. ولذلك يقول عمر بن عبد العزيز يرد على المكذبين بالقدر: لو أراد الله أن لا يعصى ما خلق إبليس، والمكذبون بالقدر يقولون: إن الله لا يريد المعصية وكأنهم يقرون أنه غُلِبَ في ذلك، وحاشا له سبحانه وتعالى، فإنه لا يكون في كونه إلا ما يريده سبحانه، فله الإرادة الكونية القدرية وله الإرادة الشرعية.

الإرادة الكونية القدرية والإرادة الشرعية

الإرادة الكونية القدرية والإرادة الشرعية الإرادة الكونية القدرية: أن يوجد في هذا الكون ما أراده الله سبحانه من خير وشر وإيمان، أو طاعة أو معصية، وما أراده الله لا بد أن يكون. والإرادة الشرعية: هي التي ينبني عليها ما يحبه الله سبحانه وتعالى، والعباد لا يتجاوزون أبداً ما أراد الله سبحانه من كون وقدر، ولا يقدر أحد أن يتجاوز ذلك، كأن يأمر الله فيقول: كن فيكون، ويحيي إنساناً، يقول: كن حياً، يكون حياً، كن إنساناً يكون إنساناً، كن جماداً يكون جماداً، كن نباتاً يكون نباتاً، مت فيموت الإنسان، امرض فيمرض الإنسان، فهذه إرادة كونية قدرية. أما الإرادة الشرعية كأن يقول: صل، صُم، مر بالمعروف وانهَ عن المنكر، أطع الله، فهذه إرادة شرعية جعل الله العباد ملزمين بها شرعاً، ويحاسبهم على هذه الأفعال، وجعل لهم اختياراً في ذلك، وهو أعلم ما الذي يختارونه، وهو أعلم بخلقه أنهم يستحقون الجنة أو يستحقون النار، وقد خلقهم الله عز وجل لما شاء سبحانه. إذاً: الإرادة الكونية القدرية لا يخرج عنها أحد أبداً، أما الإرادة الشرعية فقد يفعل الإنسان ما يريده الله سبحانه وما يحبه وقد لا يفعل ذلك، فإذا فعل ما أحبه الله، أثابه الله، وإذا ترك ذلك عاقبه الله سبحانه تبارك وتعالى، لكن هؤلاء خلطوا بين الاثنين وقالوا: إن الله أراد أن لا يعصى فعصي سبحانه! فنقول: هذه إرادة شرعية وليست إرادة كونية قدرية، فالإرادة الكونية القدرية أنه خلق العباد، وعلم أن منهم كافراً ومنهم مؤمناً، وأراد ذلك سبحانه، أما الإرادة الشرعية: هي ما يحبه الله فأحب من عباده الطاعة وكره منهم المعصية، وترك لهم الاختيار يختارون ولا يخرجون عما شاءه الله سبحانه. يقول عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لو أراد الله أن لا يعصى ما خلق إبليس وهو رأس الخطيئة، وإن في ذلك لعلماً في كتاب الله عز وجل عرفه من عرفه وجهله من جهله ثم قرأ هذه الآيات: ((فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ)) * ((مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ)) * ((إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ)) قال: إلا من كتب الله عز وجل عليه أن يصلى الجحيم أن يدخلها، قال: وفصلت هذه الآية بين الناس، وفيها من المعاني أن الشياطين لا يصلون إلى أحدٍ من خلق الله سبحانه كتب له أن لا يهتدي، فالشيطان لا يصل إلى إضلال من كتب الله عز وجل له الهدى، ولا يصل أحد إلى هداية إنسان قد قدر الله عز وجل عليه الشقاوة، فلا يتغير ما في علم الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: ((فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ)) * ((مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ)) والفتنة الإضلال والإخراج عن دين الله سبحانه وعن أمره، أي: ما أنتم عليه بمضلين أحداً إلا من قدر الله عز وجل له ذلك، قال تعالى: ((إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ)) (يصلى) معناها: يقاسي حرها، و ((الْجَحِيمِ)): النار المستعرة. فقوله تعالى: ((إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ)) أي: يدخل الجحيم فيعاني من حرها وقسوتها.

تفسير قوله تعالى: (وما منا إلا له مقام معلوم)

تفسير قوله تعالى: (وما منا إلا له مقام معلوم) قال تعالى: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} [الصافات:164] وهذا على لسان ملائكة الله سبحانه تبارك وتعالى يقولون ذلك، والآية بدأها الله عز وجل بذكر الملائكة، قال تعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} [الصافات:1] وهنا يتكلم بلسان الملائكة، يقول: كل منهم له مقام معلوم عند الله سبحانه وتعالى، لا يقدر ملك أن يتجاوز هذا المقام المعلوم، قيل: هذه الآية نزلت لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم وعرج به إلى السماء، فوصل إلى سدرة المنتهى فتأخر جبريل ولم يصحب النبي صلى الله عليه وسلم، وتركه جبريل فتعجب النبي صلى الله عليه وسلم! فنزلت هذه الآية بعد ذلك تبين، قال تعالى: ((وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ)) يعني: موضع للعبادة لا يتجاوز هذا المكان إلى أعلى منه، وكل ملك من الملائكة له موضع لا يتجاوزه، فقوله تعالى: ((وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ)) أي: مكان وموضع في عبادة الله سبحانه معلوم. وجاء في حديث رواه الترمذي عن أبي ذر -وهو حديث حسن- قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما في السماء موضع قدم إلا عليه ملك ساجد أو قاعد) وذكر حديث بطوله وفيه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط) يئط المبنى أو يئط السقف أو تئط الدابة يعني: يحدث لها صوت من الأثقال التي فوقها، كذلك السماء أثقلها ما فوقها من خلق الله سبحانه، من ملائكته الذين يعبدونه، وقال هنا في حديث أبي ذر: (إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله)، فكل مواضع السماء فيها ملائكة خاشعون لله سبحانه ساجدون له، قال: (والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله)، ويقسم النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والله لو تعلمون ما أعلم) يعني: مما سيكون من حساب وعقاب وموقف بين يدي الله سبحانه يوم القيامة، (ولخرجتم إلى الصعدات) الصعدات: الأفنية والطرقات لخرجتم إليها تجأرون، أي: تضجون إلى الله بالدعاء والبكاء، قال أبو ذر لما روى هذا الحديث: لوددت أني كنت شجرة تعضد، يعني: يا ليتني كنت نباتاً يأكلني من شاء الله من خلقه، ولا أكون من الخلق فأبعث يوم القيامة وأقف بين يدي الله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (وإنا لنحن الصافون)

تفسير قوله تعالى: (وإنا لنحن الصافون) ذكر الله عن الملائكة قولهم: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} [الصافات:165] الصافون صفاً أي: الواقفون صفاً، فكأن الملائكة يذكرون أنهم يصفون بين يدي الله عز وجل في العبادة قائمين مصلين مسبحين له سبحانه وتعالى في صفوف، ولذلك أمرنا أن نقف في صفوفنا في الصلاة كما تقف الملائكة، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها قالوا: وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصف الأول ويتراصون في الصف)، فالملائكة إذا وقفوا بين يدي الله سبحانه يتمون الصفوف، وهذا شيء ننبه إليه كثيراً، فمن المصلين من يملئون نصف المسجد ويتركون أطراف المسجد وهذا خطأ! وسنة النبي صلى الله عليه وسلم أولى، فالأولى أن تتشبه بملائكة الله سبحانه وتعالى في إكمال الصف الأول ثم البدء بالصف الثاني حتى يكتمل، ويبدأ بالصف الثالث حتى لا يكون هناك فراغات في الصفوف، فقد قال الله تعالى عن الملائكة: ((وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ)) هذا معنى، ومن معاني (الصافون): أي: تصف أجنحتها تأدباً وخشوعاً بين يدي الله عز وجل وانتظاراً لأمر الله ولتنفيذه يعني: على رغبة واستعداد، فالله يأمرهم وهم يصفون أجنحتهم قائمين بين يدي الله عز وجل ينتظرون متى يأتي أمر الله فينفذون أمره سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (وإنا لنحن المسبحون)

تفسير قوله تعالى: (وإنا لنحن المسبحون) قال الله تعالى: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} [الصافات:166] هذا رد على الكفار الذين عبدوا الملائكة من دون الله سبحانه، الملائكة تقول: نحن عباد الله سبحانه، ولسنا نستحق أن نعبد، بل نحن عبيد لله سبحانه نسبحه ونصطف صفوفاً بين يديه خاشعين عابدين له سبحانه وتعالى. فقوله تعالى: ((وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ)) بمعنى: المصلون، وبمعنى أيضاً: المنزهون لله سبحانه وتعالى أي: نحن المصلون ونحن المنزهون لله سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (وإن كانوا ليقولون)

تفسير قوله تعالى: (وإن كانوا ليقولون) قال الله تعالى: {وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ} [الصافات:167] أي: وإن كان الكفار ليقولون: {لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأَوَّلِينَ} [الصافات:168] هذا قبل بعثة النبي صلوات الله وسلامه عليه، إذ كان الكفار صرعى في جهلهم وجهالاتهم، فكان أهل الكتاب يقولون لهم: أنتم مشركون تعبدون الأصنام، وهذا من كفركم، وجهلكم، فكانوا إذا قيل لهم ذلك يردون على هؤلاء بقولهم: {لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأَوَّلِينَ * لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات:168 - 169] أي: لو أن الله نزل علينا كتاباً لكنا سبقنا غيرنا في عبادة الله، وكنا نحن العباد المخلصين الذين اجتباهم الله سبحانه وتعالى. وهذه فيها قراءتان: قراءة نافع وأبي جعفر وقراءة الكوفيين (المخلِصين) بمعنى: المجتبين اجتبانا الله واختارنا، والقراءة الأخرى: (المخِلصين) قراءة باقي القراء بمعنى: لأخلصنا العبادة وما أشركنا بالله سبحانه. قال سبحانه: {فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الصافات:170] أي: كفروا بالقرآن وكفروا بالنبي صلوات الله وسلامه عليه، فيهددهم الله سبحانه، فسوف يعلمون نتيجة تكذيب هؤلاء لربهم سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين)

تفسير قوله تعالى: (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين) قال سبحانه: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:171] أي: سبق من الله عز وجل الوعد لرسل الله عليهم الصلاة والسلام، قال: ((إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ)) هذا وعد من الله أنه ينصر رسله سبحانه وتعال. ((وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)) فمن كان من جند الله سبحانه، فله وعد من الله بأن ينصره، وأن يجعله الغالب وليس المغلوب، وهذا الوعد من الله لابد أن يكون وإن تأخر، ولا يشترط أن يكون في أول الأمر. وهذه الآيات نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مكة، في الوقت الذي كان يؤذى فيه هو والمؤمنون، فيطمئنهم الله بأنكم منصورون وغالبون، وتمر السنون فيهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ثم يجاهد في سبيل الله ويأتي نصر الله وتفتح مكة بعد ذلك، وصدق الله العظيم: ((إِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)) فأخبر عن عباده المرسلين أنه ينصرهم، وأنهم يغلِبون، فكان ما أخبر الله عز وجل به. نسأل الله عز وجل أن ينصر الإسلام والمسلمين في كل مكان. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الصافات [171 - 182]

تفسير سورة الصافات [171 - 182] من سنن الله عز وجل الكونية أنه يبتلي رسله وأنبياءه وأولياءه، لكنه سبحانه يجعل العاقبة لهم، فعلى المسلم أن يسلك سبيل الصلاح والخير وإن ابتلي، فإن الله عز وجل سيجعل له العاقبة إن كان متمسكاً بشرعه سبحانه وبهديه.

تفسير قوله تعالى: (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين)

تفسير قوله تعالى: (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في آخر سورة الصافات: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِين ٍ * وَأَبْصِرْهُم فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ * أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ * وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ * وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ * سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:171 - 182]. ختم الله سبحانه تبارك وتعالى سورة الصافات بوعده سبحانه تبارك وتعالى لعباده المرسلين بأن ينصرهم سبحانه وأن يجعلهم هم الغالبين. قال سبحانه: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:171] أي: سبق وعدنا لعبادنا المرسلين، وقضينا بذلك وقدرناه: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51]، وعداً من الله، ووعد الله حق: أنه ينصر عباده ورسله، وأن من اعتصم بالله سبحانه وقاه سبحانه وكان معه، ومن استنصر بالله فتح عز وجل له، وكان سبحانه معه، حتى وإن تأخر النصر، فإنه سبحانه لم يقل: إن النصر يأتي سريعاً، بل في آخر سورة يوسف قال الله سبحانه: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110]. فالله سبحانه تبارك وتعالى يقدر ما يشاء، والعادة منه سبحانه أنه ينصر عباده، إذا استنصروا به وإذا اعتصموا به، وإذا لجئوا إليه، وإذا أقاموا دينه، وإذا توكلوا عليه، فالنصر له أسباب، فيأخذ المؤمن بأسباب النصر: من توكل على الله سبحانه، ومن دعوة إلى الله، ومن توحيد لله سبحانه، ومن عقيدة سليمة في قلبه، ومن إعداد القوة لأعداء الله سبحانه، امتثالاً لقوله سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60]. فمن اعتصم بالله سبحانه فالله يعصمه والله ينصره، ولكن هل معنى ذلك أن عباد الله المؤمنين لا يُقتلون؟ وأنهم لا يفتنون؟ وأنهم لا يهزمون أحياناً؟ A لا، ولكن النتيجة في النهاية أن ينصر الله عز وجل دينه، ولكن لا بد من البلاء، كما قال سبحانه: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]. فلا بد من المحن، ولا بد من البلاء، حتى يميز الله الخبيث من الطيب، ولذلك ذكر الله سبحانه وتعالى هذه السورة المكية للنبي صلى الله عليه وسلم لتثبيته، وليطمئن المؤمنين فيما هم فيه من بلاء ومحن، فقد نزلت هذه السورة في وقت بلاء على النبي صلى الله عليه وسلم، ووقت محن على المؤمنين، فأنزل الله هذه السورة ليثبتهم ويطمئنهم؛ لأنهم سينصرون يوماً من الأيام، وهذا النصر جاء بعد نزول هذه السورة بسنين، فقد هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وهو خائف من المشركين، والمشركون يتبعون النبي صلى الله عليه وسلم ويبحثون عنه، ويجعلون دية لمن يأتي به صلوات الله وسلامه عليه، ويهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهنالك يدعو إلى ربه سبحانه، حتى نصره الله سبحانه في يوم بدر، ثم هُزم المؤمنون في يوم أحد، ثم بعد ذلك يأتي يوم الخندق، وينصر الله عز وجل المؤمنين، وفر المشركون، وأتى جند من جند الله عز وجل من رياح بعثها الله عز وجل على المشركين من غير أن يقاتل المؤمنون، ولكنهم خندقوا حول المدينة، وانتظروا الفرج من الله، فجاء نصر الله سبحانه وتعالى، فينتصرون أحياناً وقد ينتصر الكفار عليهم حيناً، حتى يأتي وعد الله سبحانه، ويأتي نصر الله، قال سبحانه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] أي: فتح مكة، {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:2 - 3]. فهذا النبي صلى الله عليه وسلم نصره الله سبحانه وفتح له مكة التي كانت دار كفر، فصارت معقل الإيمان بعد ذلك، فتحها الله عز وجل بعد نزول هذه السورة بسنين، فنصر الله عز وجل لم يقل الله: إنه يأتي سريعاً، ولم يقل: إنه مجرد ما يدعوه إنسان يأتيه النصر حالاً، وإنما قال لنا: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2] وقال لنا: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ} [يوسف:110] أي: أصابهم اليأس من إيمان قومهم، فلم يؤمنوا، وتعبوا من قومهم الكفار {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} [يوسف:110] أي: ظنوا أن قومهم لن يدخلوا في دين الله سبحانه تبارك وتعالى، وأن الله عز وجل سينصرهم يوماً من الأيام، ولكن تأخر وعد الله سبحانه، وتأخر نصر الله سبحانه، وظن المؤمنون أن وعد الله سبحانه لن يأتي: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} [يوسف:110]، فظن الرسل واستيقنوا أو ظنوا ظناً غالباً أن قومهم لن يدخلوا في الإيمان، وأتباع الرسل من المؤمنين ظنوا أن الله لن يفعل هذا برسله ولن ينصرهم، فإذا بنصر الله يأتي في هذا الحين، ولذا قال: {جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف:110]. فينجي الله سبحانه تبارك وتعالى من يشاء، وليس شرطاً لنصر الله عز وجل أنه لا يكون هناك قتلى، بل لابد وأن يوجد قتلى، بل قد قتل أعداء الله في حين من الأحيان أنبياء الله على نبينا وعليهم الصلاة والسلام، فقتلوا زكريا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وقتلوا يحيى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وأرادوا قتل المسيح عيسى بن مريم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فرفعه الله سبحانه، وأرادوا قتل موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فالله عز وجل يخبرنا عن قصص هؤلاء: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى} [يوسف:111] أي: ليس حديثاً كذباً، ولكن الله عز وجل يخبرنا بالحق، حتى نطمئن بوعد الله سبحانه، وننتظر نصر الله سبحانه: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:171]. وعد من الله لكل الرسل أن الله ينصرهم، حتى وإن قتل أناس من المؤمنين، فمصيرهم إلى الجنة، وهم من أعظم الشهداء. وقوله: {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ} [الصافات:172] أي: رسل الله عليهم الصلاة والسلام. وقوله: {وَإِنَّ جُندَنَا} [الصافات:173] أي: جند الله، فإذا كان الإنسان يستحق أن يكون من جند الله استحق نصر الله سبحانه، فإن جند الله هم الذين في قلوبهم العقيدة السليمة، وفي قلوبهم الإيمان بالله سبحانه، وتوحيد الله سبحانه، وطاعة الله سبحانه، والتوكل على الله سبحانه، ويعدون العدة لأعداء الله، فهؤلاء يغلبون الكفار.

تفسير قوله تعالى: (وتول عنهم حتى حين وأبصر فسوف يبصرون)

تفسير قوله تعالى: (وتول عنهم حتى حين وأبصر فسوف يبصرون) قال تعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِين ٍ} [الصافات:174]. أي: أعرض عن هؤلاء، حتى يأتيك أمرنا، وهنا الأمر بالإعراض عنهم نسخ بما جاء من أمر الله عز وجل بقتال هؤلاء الكفار في قوله عز وجل: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5]. يبقى هنا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر وبالصفح وبالتولي والإعراض عن هؤلاء إلى حين، فقد أرجأه ربه سبحانه إلى أن ينزل من القرآن ما فيه الأمر بقتال هؤلاء، فجاءت هذه الآية التي في سورة براءة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال هؤلاء. فالله سبحانه قال له هنا: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِين ٍ * وَأَبْصِرْهُم فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} [الصافات:174 - 175]، أي: اصبر عليهم، وأبصر ما الذي يحدث لهم وما الذي يحدثونه، فسوف يجدون عاقبة ذلك وعقوبته من ربهم سبحانه. ((وَأَبْصِرْهُم فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ)) سوف يبصرون حين لا ينفعهم الإبصار، يبصرون فيرون ملائكة الله وهم ينزلون عليهم فيقتلونهم، وقد رأوا في يوم بدر كيف نزلت الملائكة تقاتل هؤلاء الكفار، وتقطع رءوسهم، وتدفعهم وتضربهم، ورأى المؤمنون كيف نصرهم الله عز وجل على هؤلاء الكفار، والمعنى: وأبصر هؤلاء الكفار، فسوف يبصرون عذاب الله سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (أفبعذابنا يستعجلون.

تفسير قوله تعالى: (أفبعذابنا يستعجلون.) قال تعالى: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} [الصافات:176]، ماذا يستعجل هؤلاء الجهلة المغفلون؟! يستعجلون عذابنا فما الذي يكون في عذاب الله سبحانه؟! وكم يستعجلون ويدعون ويقول قائلهم الجاهل كما حكى الله عنه: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32]! ويقول جاهلهم الآخر كما حكى الله عنه: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص:16]. فيدعون ربهم بالعذاب على أنفسهم: وعدت بعذابنا فعجل لنا وهات العذاب الذي ذكرته الآن، فيقول الله عز وجل لهؤلاء المغفلين: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} [الصافات:176]. ثم قال: {فَإِذَا نَزَلَ} [الصافات:177] هذا العذاب: {بِسَاحَتِهِمْ} [الصافات:177]، بفنائهم وبدورهم، إذا نزل هذا العذاب عليهم: {فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ} [الصافات:177]. وكانت عادة الله سبحانه أن ينزل العذاب وقت الإشراق ووقت الصباح، ولذا قال: {فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ} [الصافات:177] أي: حين يأتي عليهم العذاب من رب العالمين، وأكد الله عز وجل لهم ذلك وكرر فقال: {وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ} [الصافات:178]، أي: استمر على ما أمرك الله إلى أن يأتي الأمر من عندنا لتقاتلهم. ثم قال: {وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} [الصافات:179]، وكل هذا حتى يطمئن النبي صلى الله عليه وسلم بنصر الله وبإنجاز الله وعده، فسوف يبصرون ما يأتيهم من عذابه سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (سبحان ربك رب العزة عما يصفون)

تفسير قوله تعالى: (سبحان ربك رب العزة عما يصفون) قال تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ} [الصافات:180]، نزه الله سبحانه نفسه عما قاله المشركون من أن الله اتخذ صاحبة، ومن أن الله اتخذ الولد، ومن أن الملائكة بنات الله، ومن أن الله تزوج من الجن، فنزه سبحانه تبارك وتعالى نفسه فقال: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ} [الصافات:180]. ووصف نفسه سبحانه بأنه الرب سبحانه، وأنه رب العزة سبحانه، فهو العزيز الغالب الذي لا يقهر، والعزة لله سبحانه، فهو العزيز، ويجعل العزة للمؤمنين، فيعزهم ويجعلهم يعتزون على أعداء الله سبحانه وتعالى، فالله صاحب العزة، فهو رب العزة، والعزة لله، والعزة للمؤمنين، وعزة الله صفة من صفاته سبحانه وتعالى، وعزة المؤمنين فعل من الله عز وجل بالمؤمنين فيخلق للمؤمنين ما يتعززون به، وجعل في أنفسهم العزة والأنفة من أن يشركوا بالله سبحانه وتعالى، فهو العزيز ولله العزة سبحانه، وهذه العزة تليق به سبحانه، وللنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين العزة التي تليق بهم كمخلوقين. ثم قال تعالى: {وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:181]. يسلم الله عز وجل على المرسلين، والسلام: الأمن والطمأنينة والحياة العظيمة الجميلة السالمة عند الله سبحانه، والذكر الحسن لهؤلاء والثناء الحسن عليهم. فيعلمنا الله عز وجل أن نسلم على رسل الله، فإذا ذكروا قلنا: النبي عليه الصلاة السلام، أو النبي عليه السلام، أو صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً. فهذه السورة ختمها الله عز وجل بآية العز فقال: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:180 - 182]. فيستحب أن الإنسان إذا ختم الشيء أن يذكر الله سبحانه مسبحاً إياه سبحانه مسلماً على الأنبياء والمرسلين، حامداً رب العالمين سبحانه. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الزمر

تفسير سورة الزمر من الآية [1 - 2] سورة الزمر من أعظم السور المكية، وفيها نفي الشرك وإثبات التوحيد، وذكر الدلائل على بطلان الشرك وذكر أدلة التوحيد، فهي سورة كافية شافية في أمر التوحيد والإيمان.

بين يدي تفسير سورة الزمر

بين يدي تفسير سورة الزمر الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الزمر: بسم الله الرحمن الرحيم: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ * لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ * خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [الزمر:1 - 6]. هذه السورة التاسعة والثلاثون من كتاب ربنا سبحانه وتعالى وهي سورة الزمر، وسورة الزمر من السور المكية، قيل: إلا بعض الآيات منها نزلت في المدينة، والراجح: أن جميع آيات هذه السورة آيات مكية. وعدد آياتها: خمس وسبعون آية، واختلف علماء العد في هذه الآيات، فذهب من عد من الحجازيين والبصريين إلى أن عدد الآيات فيها: اثنان وسبعون آية، وفي العد الشامي: ثلاث وسبعون آية، وعد الكوفيين: خمس وسبعون آية، وكما ذكرنا قبل مراراً: أن علماء القرآن في عدهم الآيات ينظرون أين وقف النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون وقوف النبي صلى الله عليه وسلم على الفاصلة وهي رأس الآية، وقد يقف النبي صلى الله عليه وسلم على موضع من المواضع فيكون رأس آية عند بعض علماء القرآن، ولا يكون رأس آية عند البعض الآخر، فهذا سبب الخلاف. ففي قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر:3]، فقوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)) غير الكوفيين يعتبرون هذه رأس آية، وعند الكوفيين ليست رأس آية، وإنما ما بعدها ((إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ)). وعد الكوفيين قوله سبحانه: {دِينِي} [الزمر:14] هذه رأس آية. وقوله تعالى: {فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:23] رأس آية، وقالوا: قوله تعالى: ((فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)) جاءت مرتين: والمرة الثانية عدوها رأس آية. وكذلك قوله: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الزمر:39]، {مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر:2] عدها الكوفيون والدمشقيون ولم يعدها غيرهم. وقوله: {فَبَشِّرْ عِبَادِي} [الزمر:17] تركها المكي والمدني الأول في هذه السورة، وعد مكانها: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [الزمر:20] إذاً: هنا لا نقول: عدوا اثنين وسبعين آية، أو عدوا ثلاثاً وسبعين آية، أو عدوا خمساً وسبعين آية، بل هي موضع الوقف، أين وقف النبي صلى الله عليه وسلم؟ فالبعض يقول: وقف في هذا الموضع، إذاً: هذا رأس آية، والبعض الآخر يقول: لا، وقف هنا لانقطاع النفس وليس رأس الآية، وإنما رأس الآية التي بعدها، والآيات هي نفسها آيات هذه السورة، ولكن الخلاف أين وقف؟ فالاختلاف في ذلك.

خصائص سورة الزمر

خصائص سورة الزمر سورة الزمر من السور المكية، وتتميز هذه السورة العظيمة بالخصائص المكية، وهذه السورة نزلت بعد سورة سبأ وقبل سورة غافر، هذا في ترتيب النزول، وحسب ترتيب نزول السور على النبي صلى الله عليه وسلم تعد هذه السورة هي التاسعة والخمسون، يعني: في ترتيب عد نزول السورة على النبي صلى الله عليه وسلم. إذاً: حين نقول: ترتيب النزول هذا شيء، وترتيب المصحف شيء آخر، فترتيب المصحف ليس على ترتيب نزول السور، ولا على ترتيب نزول الآيات، فقد تنزل السورة قبل السورة، إذْ السورة موضعها في كتاب الله عز وجل ليست على ترتيب نزولها، إذاً: ترتيب السور في القرآن توقيفي على ما قرأه النبي صلى الله عليه وسلم مع جبريل في آخر عرضة عرضها جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم، فكان هذا الترتيب الذي عندنا في كتاب الله سبحانه وتعالى، فكانت تنزل سورة، وتنزل آيات، فيقال له: ضعها في موضع كذا من سورة كذا، وتنزل آيات، فيقول: ضعها في موضع كذا من سورة كذا، فلما أتم الله عز وجل هذا القرآن العظيم عرضه جبريل مع النبي صلى الله عليه وسلم مرتين في آخر عرضة عرضها عليه، وكان ذلك في آخر حياته صلى الله عليه وسلم، في آخر رمضان صامه النبي صلى الله عليه وسلم وقامه فكان على هذا الترتيب الذي بين أيدينا. سورة الزمر سميت بسورة الزمر؛ لأن (كلمة (زمراً) ذكرت فيها. وذكر الإمام القرطبي وتبعه غيره ممن بعده من المفسرين أنها تسمى بسورة الغرف أيضاً لكون هذه الكلمة ذكرت فيها فسميت بذلك، وهذا من قول وهب بن منبه. والتسمية بالزمر كانت من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت السيدة عائشة تخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ هذه السورة قبل نومه، فجاء في سنن الترمذي من حديث أبي لبابة قال: قالت عائشة رضي الله عنها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم لا ينام على فراشه حتى يقرأ بني إسرائيل والزمر) حتى يقرأ بني إسرائيل، أي: سورة الإسراء، فهي تسمى بسورة بني إسرائيل، وبسورة سبحان؛ لأنها بدأت بذلك، فكان إذا أراد أن ينام صلى الله عليه وسلم وهو على فراشه قرأ سورة سبحان، أي: سورة الإسراء، وقرأ أيضاً سورة الزمر صلوات الله وسلامه عليه، وليس دائماً ولكن أحياناً كان يقرأ هذا، وأحياناً كان لا ينام حتى يقرأ سورة: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك:1]، ويقرأ سورة: {الم * تَنزِيلُ} [السجدة:1 - 2] إذاً: كان أحياناً يقرأ هذه، وأحياناً يقرأ هذه، وجاء عنه أنه كان يقرأ سوراً قبل أن ينام منها: المسبحات يعني: كل السور التي بدأت بسبحان، سبح، ويسبح. إذاً: سبع سور كان يقرؤها النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن ينام ويخبر أن فيها آية من أعظم الآيات. هذه السورة مكية، وفيها خصائص السور المكية، وهي: أمر ترسيخ العقيدة في القلوب؛ لأن القرآن المكي ليس فيه أحكام كثيرة، فالأحكام كانت في المدينة، ففي المدينة نزلت الأحكام الشرعية والفقهية على النبي صلى الله عليه وسلم، في العبادات والمعاملات وفي الجهاد في سبيل الله عز وجل، هذه كلها في المدينة، لكن في مكة كان الاهتمام بالتربية، بأن ينشأ المسلمون على العقيدة، ويمتلئ القلب بنور الدين وبنور الإيمان، فهنا ترسيخ أمر العقيدة، ونفي الشرك عن القلوب. إذاً: هنا كانوا قريب عهد بشرك وهم في مكة، فكان القرآن ينزل عليهم ليعلمهم توحيد الله سبحانه، ويرسخ ذلك في قلوب المؤمنين، فأغراض هذه السورة هي أغراض السور المكية، وترتيب أمر التربية الأهم ثم ما هو مهم بعد ذلك، فأهم الأشياء نفي الشرك من قلوبهم، وإثبات وتقرير التوحيد في القلوب، فبدأت هذه السورة بالإشارة تنويهاً إلى شأن هذا القرآن العظيم، تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم. إذاً: القرآن العظيم نزل من عند الله، وأشار في مواضع من هذه السورة العظيمة إلى هذا القرآن، سواء قال: القرآن، أو قال: الكتاب، أو أشار إليه بالضمير في مواضع، يشير إلى هذا القرآن كيف يتعامل معه المؤمنون حين يسمعون هذا القرآن، قال تعالى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23] فقد بدأ الله هذه السورة بالإشارة والتنويه إلى عظمة هذا القرآن الذي نزل من عند الله سبحانه، وفي هذه السورة إثبات تفرد الله سبحانه وتعالى بالألوهية، وأنه وحده الذي يستحق ذلك، وإبطال ما كان عليه المشركون من شرك بالله سبحانه وعبادة غيره، وإبطال ما يتعللون به من كلام فارغ باطل حين يسألون: لم تعبدون هذه الأصنام من دون الله؟ فيقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] فيكذبهم الله عز وجل فيما يقولون في هذه السورة وفي غيرها. كذلك فيها نفي ما كانوا عليه من ادعاء أن الله عز وجل اتخذ الولد، تعالى الله سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً، ففيها نفي هذا الشرك بالله سبحانه وأن يكون يتخذ ولداً، قال تعالى: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الزمر:4] حاشا له أن يكون له الولد سبحانه! ولكنه الله الذي خلق كل شيء، ولو أراد أن يكون له ولد سبحانه وتعالى لاصطفى من خلقه ما يشاء ووصفه بذلك، أما أنه يتناسل كالبشر حاشا له سبحانه وتعالى، فالبشر بعجزهم يحتاجون لبقاء نوعهم في هذا الكون، فيحتاجون لذلك، فالرجل يحتاج للمرأة، والاثنان يحتاجان للولد، لأن هذا يصير شيخاً، وهذه تصير عجوزاً، فتقل القوة والقدرة، وهذا يموت وتموت هذه، فيبقى النسل امتداداً للوالد وللوالدة، ولكن الله سبحانه هو الحي الذي لا يموت، والباقي أبداً سبحانه وتعالى، من الأزل وإلى الأبد سبحانه وتعالى، لا يفنى ولا يبيد ولا يكون إلا ما يريد سبحانه وتعالى، فلذلك الله هو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، ولو كان له ولد سبحانه وتعالى لكان فيه صفات الربوبية وصفات الإلهية، ولكان محتاجاً أن يكون له ولد، ويعجز هذا الأب طالما أنه احتاج إلى أن يكون له ولد في يوم من الأيام، فالله لا يحتاج إلى شيء، ولا يعجزه شيء سبحانه وتعالى، والذي يحتاج إلى الولد هو المخلوق، أما الخالق فهو متعال عن ذلك سبحانه. في هذه السورة الاستدلال على وحدانية الله سبحانه، وأنه الواحد سبحانه وتعالى الذي لا شريك له، ويذكر لنا الدلائل على ذلك، بأنه خلق السموات والأرض سبحانه وتعالى، وخلق الإنسان من هذه النطفة، وأنزل لنا سبحانه وتعالى ثمانية أزواج من هذه الأنعام. كذلك يذكر لنا التطور العجيب في خلق الإنسان من نطفة أمشاج سبحانه وتعالى، وطوره إلى أن كان جنيناً في بطن أمه ونزل طفلاً، ثم صار بالغاً، ثم صار شيخاً، فأطوار خلق هذا الإنسان ينبهنا على أن هذا الإنسان كان ضعيفاً ويصير في النهاية إلى الموت بعدما يكون شيخاً كبيراً. أيضاً: فيها الاستدلال من فعل هؤلاء المشركين على حاجتهم إلى الله سبحانه وتعالى، طالما أنت محتاج إلى الله تقول: يا رب يا رب، قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزمر:8]، فالإنسان محتاج إلى الله سبحانه، يجأر إليه في وقت الضر فيقول: يا رب يا رب، فطالما أنك محتاج إلى الله فلماذا لا تعبده في كل وقت؟ وما الداعي لأن تشرك به سبحانه وتعالى؟ كذلك فيها الدعوة إلى التدبر في هذا القرآن، قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23] هذه دعوة للتدبر في هذا القرآن، والله نزل أحسن الحديث؛ إذ كانوا يسمعون الأحاديث من العرب، كانوا يسمعون أخبار الفرس وغيرهم والنوادر والحكايات، وكانوا يقولون الأشعار، فيخبرهم الله أن أحسن حديث عندكم هو كتاب الله سبحانه وتعالى، نزله الله يشبه بعضه بعضاً في الحسن والإتقان والإحكام، ليس فيه أننا نقول: هذه الآية محكمة ومتقنة وهذه الآية ليست كذلك، بل كل القرآن على هذا المستوى الراقي العالي المعجز للخلق جميعهم، فيتحدى الله خلقه بالقرآن كله، أو ببعض هذا القرآن أن يأتوا بسورة من مثله فلا يستطيعون، فهو متشابه في الحسن وفي الجمال وفي الإتقان، وفي الإحكام وفي الإعجاز كله يشبه بعضه بعضاً في ذلك. وهو مثانٍ يكرر الله عز وجل فيه التثنية، ويكرر فيه الحكم والمواعظ والقصص على نحو عجيب فريد، فتسمع القصة في سورة فتعجب لجمالها، فتسمعها في سورة أخرى فتتعجب كيف يتنوع الأمر والسورة والقصة واحدة مذكورة هنا ومذكورة هنا، ومذكورة هنا! وفي كل موضع توافق السورة ولا تخالفها في هيئتها وتجد فيها من الحكم الشيء العظيم. كذلك في هذه السورة تنبيه الناس إلى كفرهم بالله سبحانه، وعدم شكرهم نعمته، يعطيهم الله النعم فلا يشكرونه سبحانه وتعالى، فينبههم إلى أن يشكروا الله؛ لأن الإنسان الذي يشكر الله يشكر نفسه، والنفع يعود إليه، والضر ليس على الله وإنما ضره عليه. كذلك فيها المقابلة بين حال أهل التوحيد، وبين حال أهل الشرك، كيف أن أهل التوحيد استحقوا دخول الجنة، قال تعالى: {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [إبراهيم:23]، وأدخل الذين كفروا نار جهنم والعياذ بالله، هذا مآل المؤمنين، وهذا مصير الكافرين. كذلك فيها التحذير مما حل بالأمم السابقة، وهذه من خصائص السور المكية، فالله سبحانه يحذر الناس أن يحل بهم من العقوبات ومن المثلات ما حل بالذين

أدلة وحدانية الله في سورة الزمر وبعض ما ذكر فيها

أدلة وحدانية الله في سورة الزمر وبعض ما ذكر فيها في هذه السورة الاستدلال على وحدانية الله سبحانه، وأنه الواحد سبحانه وتعالى الذي لا شريك له، ويذكر لنا الدلائل على ذلك، بأنه خلق السموات والأرض سبحانه وتعالى، وخلق الإنسان من هذه النطفة، وأنزل لنا سبحانه وتعالى ثمانية أزواج من هذه الأنعام. كذلك يذكر لنا التطور العجيب في خلق الإنسان من نطفة أمشاج سبحانه وتعالى، وطوره إلى أن كان جنيناً في بطن أمه ونزل طفلاً، ثم صار بالغاً، ثم صار شيخاً، فأطوار خلق هذا الإنسان ينبهنا على أن هذا الإنسان كان ضعيفاً ويصير في النهاية إلى الموت بعدما يكون شيخاً كبيراً. أيضاً: فيها الاستدلال من فعل هؤلاء المشركين على حاجتهم إلى الله سبحانه وتعالى، طالما أنت محتاج إلى الله تقول: يا رب يا رب، قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزمر:8]، فالإنسان محتاج إلى الله سبحانه، يجأر إليه في وقت الضر فيقول: يا رب يا رب، فطالما أنك محتاج إلى الله فلماذا لا تعبده في كل وقت؟ وما الداعي لأن تشرك به سبحانه وتعالى؟ كذلك فيها الدعوة إلى التدبر في هذا القرآن، قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23] هذه دعوة للتدبر في هذا القرآن، والله نزل أحسن الحديث؛ إذ كانوا يسمعون الأحاديث من العرب، كانوا يسمعون أخبار الفرس وغيرهم والنوادر والحكايات، وكانوا يقولون الأشعار، فيخبرهم الله أن أحسن حديث عندكم هو كتاب الله سبحانه وتعالى، نزله الله يشبه بعضه بعضاً في الحسن والإتقان والإحكام، ليس فيه أننا نقول: هذه الآية محكمة ومتقنة وهذه الآية ليست كذلك، بل كل القرآن على هذا المستوى الراقي العالي المعجز للخلق جميعهم، فيتحدى الله خلقه بالقرآن كله، أو ببعض هذا القرآن أن يأتوا بسورة من مثله فلا يستطيعون، فهو متشابه في الحسن وفي الجمال وفي الإتقان، وفي الإحكام وفي الإعجاز كله يشبه بعضه بعضاً في ذلك. وهو مثانٍ يكرر الله عز وجل فيه التثنية، ويكرر فيه الحكم والمواعظ والقصص على نحو عجيب فريد، فتسمع القصة في سورة فتعجب لجمالها، فتسمعها في سورة أخرى فتتعجب كيف يتنوع الأمر والسورة والقصة واحدة مذكورة هنا ومذكورة هنا، ومذكورة هنا! وفي كل موضع توافق السورة ولا تخالفها في هيئتها وتجد فيها من الحكم الشيء العظيم. كذلك في هذه السورة تنبيه الناس إلى كفرهم بالله سبحانه، وعدم شكرهم نعمته، يعطيهم الله النعم فلا يشكرونه سبحانه وتعالى، فينبههم إلى أن يشكروا الله؛ لأن الإنسان الذي يشكر الله يشكر نفسه، والنفع يعود إليه، والضر ليس على الله وإنما ضره عليه. كذلك فيها المقابلة بين حال أهل التوحيد، وبين حال أهل الشرك، كيف أن أهل التوحيد استحقوا دخول الجنة، قال تعالى: {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [إبراهيم:23]، وأدخل الذين كفروا نار جهنم والعياذ بالله، هذا مآل المؤمنين، وهذا مصير الكافرين. كذلك فيها التحذير مما حل بالأمم السابقة، وهذه من خصائص السور المكية، فالله سبحانه يحذر الناس أن يحل بهم من العقوبات ومن المثلات ما حل بالذين من قبلهم. كذلك يعلم الله عز وجل المشركين في هذه السورة أنه لا يعبأ بهم سبحانه وتعالى، فليس لهم عند الله سبحانه وتعالى منزلة إلا أن يعبدوه وحده لا شريك له؛ فإذا كانوا هم وأصنامهم وشركاؤهم لا قيمة لهم إلا بأن يوحدوا الله وأن يدخلوا في دين الله، ففيها أنه يتحدى هؤلاء فيدخلهم يوم القيامة النار، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر:71]. إذاً: أدخل الذين كفروا إلى النار زمراً وأفواجاً، فإذا دخلوا النار بكتوا بهذا الذي يقوله لهم ربهم، وتقوله لهم ملائكة الله سبحانه، وجوزوا يوم القيامة بما أنكروه في الدنيا، فقد أنكروا البعث، وأنكروا الحساب والجزاء، فجوزوا بذلك يوم القيامة، وهذا كله في سياق هذه السورة وغيره كثير مما نراه في هذه السورة المكية العظيمة.

تفسير قوله تعالى: (تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم)

تفسير قوله تعالى: (تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم) بدأ الله سبحانه وتعالى هذه السورة بقوله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر:1] أي: هذا تنزيل الكتاب، أو تنزيل هذا القرآن من عند الله سبحانه العزيز الحكيم، وكلمة تنزيل مصدر نزل تنزيلاً، فنزل القرآن من عند الله، والنزول: الهبوط من أعلى إلى أسفل، فالقرآن نزل وجاء من فوق، فالله عز وجل نزل أحسن الحديث، وهذا دليل من الأدلة الكثيرة على علو الله سبحانه وتعالى وأنه فوق سمواته. نزل هذا القرآن كله في ليلة القدر كما قال الله سبحانه: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1]، نزل إلى بيت العزة في السماء الدنيا كما صح ذلك عن ابن عباس رضي الله وتعالى عنهما ثم نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك من وقت أن نزل عليه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] إلى أن نزل آخر هذا القرآن العظيم، فنزل نجوماً على النبي صلى الله عليه وسلم، أي: مقطعاً؛ يعني: سوراً سوراً أو آيات تنزل على النبي صلوات الله وسلامه عليه. فهذا القرآن نزل من السماء من عند الله، (تنزيل الكتاب)، هذه اللام هنا: للعهد، يعني: هذا الكتاب المعهود الذي تعرفونه من الله الإله الذي يستحق أن يعبد، نزل عليكم هذا القرآن، وفيه إشارة إلى أن القرآن نزل لتعبدوا الله سبحانه وتعالى العزيز الحكيم. (الله): لفظ الجلالة ومعناه: المعبود سبحانه، العزيز بمعنى: الغالب القاهر الذي لا يمانع ولا يغالب، الذي إذا قضى شيئاً لابد أن يكون كما أراد سبحانه وتعالى، وهو الحكيم في أقواله. والحكيم في أفعاله، والحكيم لها معان كما ذكرنا قبل ذلك، فالحكيم: الذي له الحكمة، والحكيم: الذي له الحكم، والحكيم: الذي يحكم الأشياء ويتقنها في صنعتها سبحانه وتعالى، فهنا الله الحكيم سبحانه وتعالى الذي لا يخرج شيء عن علمه وعن حكمته، كل شيء يدور في هذا الكون ويوجد فيه بحكمة من الله علمها من علمها وجهلها من جهلها، وليس بالضرورة أن يعلم كل إنسان الحكمة في كل أمر من أوامر الله سبحانه وتعالى، ولكن يستيقن المؤمن أن كل شيء يجري بحكمته سبحانه وتعالى. إذاً: الله عز وجل الحكيم الذي له الحكمة سبحانه وتعالى، وكل شيء له عند الله عز وجل حكم معينة يعلمها سبحانه، وخلق هذا الشيء من أجلهم. والحكيم مأخوذ أيضاً: من الحكم يعني: الذي له الحكم والذي له الأمر، يأمر فلا بد أن يطاع سبحانه وتعالى، إذاً: الحكيم بمعنى: الحاكم أيضاً: الذي له الحكم يحكم بما يريد. والحكيم أيضاً: يأتي بمعنى: المحكم، ومحكم بمعنى: متقن، يعني: الذي أتقن كل شيء خلقه سبحانه، وكل خلق من خلق الله عز وجل ينظر إليه الإنسان فيرى من الله سبحانه وتعالى إتقاناً في صنعه لهذا الشيء، في الإنسان في الحيوان في السماء في الجماد في النبات، في كل شيء فيه بديع خلق الله سبحانه، وفيه إتقان هذا الصنع منه سبحانه، فهو المحكم سبحانه وتعالى. والمحكم أيضاً: المدبر للأمر فيكون على ما أراده سبحانه وتعالى، ولا يخرج شيء عن إرادته الكونية القدرية سبحانه وتعالى. إذاً: يحكم الشيء فلا يدخل في إحكامه فساد ولا خلل ولا زلل في خلقه سبحانه وتعالى، فعبر بهذه اللفظة الواحدة الحكيم عن كل هذه المعاني التي ذكرناها، إذاً: نزل القرآن من عند الله الذي هو إله يستحق وحده العبادة الذي هو العزيز الغالب، وإذا علمت أنه العزيز سبحانه فما الذي يدفعك إذا كان ربك سبحانه أنزل القرآن ألا تهتم لأمره، ولا تستجيب له؟ هو الحكيم سبحانه الذي له الحكمة البالغة، ويكرر: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [الزمر:2] إنا: هنا عبر بنون العظمة، فالقرآن العظيم نزل من عند رب العالمين، والله تكلم بهذا القرآن، والله أنزل هذا القرآن، فقال: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ} [الزمر:2] إلى النبي ليس على غيره وإنما عليه صلوات الله وسلامه عليه جاء هذا القرآن العظيم، قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [الزمر:2] إذاً: النزول من السماء حقاً، لا يأتي من مكان آخر غير السماء، ونزل متلبساً بالحق، وفي هذا القرآن الحق، فيه الشريعة العظيمة التي يحق الله عز وجل بها الحق ويبطل بها الباطل، وإذا نزل القرآن بالحق فاتبع هذا القرآن، قال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر:2] اعبد ربك ولا تشرك به أحداً، وجه وجهك وأخلص قلبك، وامش على صراط الله سبحانه، وأخلص له دينك. نسأل الله سبحانه أن يرزقنا الإخلاص في السر والعلن. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الزمر [1 - 4]

تفسير سورة الزمر [1 - 4] أمر الله عز وجل نبيه بالإخلاص في العمل والعبادة لله سبحانه، وهو أمر لجميع المؤمنين، فالمشركون لم يخلصوا عبادتهم لله، بل أشركوا مع الله آلهة أخرى، وحجتهم أنها تقربهم إلى الله زلفى، وقد بين الله ضلالهم وبعدهم عن الحق والهدى.

تفسير قوله تعالى: (تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم)

تفسير قوله تعالى: (تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الزمر: بسم الله الرحمن الرحيم، {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ * لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الزمر:1 - 4]. هذه السورة الكريمة هي السورة التاسعة والثلاثون من كتاب الله عز وجل سورة الزمر، وهي من السور المكية، ونعرف من خصائص السور المكية ترسيخ أمر العقيدة في قلوب المؤمنين، أمر التوحيد، وضرب الأمثلة في ذلك، وبيان أن الله سبحانه وتعالى الذي تفرد بالخلق هو الوحيد سبحانه، وهو وحده الذي يتفرد بالأمر بالتشريع، وهو الذي يتفرد بالعبادة وحده لا شريك له فيعبد دون من سواه. فبدأ بذكر هذا الكتاب العظيم وقال: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر:1]، يعني: أن هذا القرآن العظيم نزل من عند الله، نزله الله سبحانه إنزالاً وتنزيلاً من عنده، نزل من السماء إلى الأرض عن طريق جبريل، جاء به للنبي صلى الله عليه وسلم في خلال ثلاث وعشرين سنة، وقد نزل هذا القرآن وفيه أحكام الشريعة والهداية لهذه الأمة، وفيه النور من الله سبحانه وتعالى. قوله تعالى: ((مِنَ)) أي: بدأ الإنزال من عند الله والانتهاء إلى هذه الدنيا إلى النبي صلوات الله وسلامه عليه ليتعلم الناس منه صلوات الله وسلامه عليه أحكام الله. وقال تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ} [الزمر:1] أي: هذا الكتاب المعهود، فاللام: للعهد يعني: هذا القرآن العظيم، هو الكتاب الذي تعرفونه وتعهدونه. وقوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ} [الزمر:1]، الله الذي تفرد بأن يعبد وحده لا شريك له، فهو الله المألوه المعبود سبحانه، العزيز الذي لا يحتاج إلى أحد، الغالب على أمره سبحانه، القاهر فوق عباده، الذي إذا قضى أمراً مستحيل أن يغالب وأن يمانع فيه، الحكيم الذي له الحكمة العظيمة البالغة في إنزال هذا الكتاب على هذا الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه، إذ نزل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم منجماً لا ينزل في وقت واحد، ولكن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم خلال ثلاث وعشرين سنة.

تفسير قوله سبحانه: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين)

تفسير قوله سبحانه: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصاً له الدين) قال الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر:2]، فعبر بنون العظمة هنا، فالكتاب عظيم، والله عظيم سبحانه، وهو الذي أنزل هذا القرآن وتكلم به سبحانه وتعالى، وأمر عباده أن يحفظوه، وأن يعملوا بمقتضاه، وأن يعملوا بما شرعه الله عز وجل فيه. قال: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ} [الزمر:2] أي: إلى النبي صلى الله عليه وسلم وليس إلى غيره. وقوله تعالى: {الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [الزمر:2]، هذه قراءة الجمهور، وقرئت بالإدغام: ((الْكِتَاب بِّالْحَقِّ))، قرأها أبو عمرو بخلفه، ويعقوب أيضاً بخلفه. فقوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [الزمر:2] أي: نزل فيه الحق، متلبساً بالحق، نزل حقاً من السماء على النبي صلوات الله وسلامه عليه. وذكرنا قبل ذلك أن الله عز وجل أنزله في ليلة القدر، قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1]، قال ابن عباس: نزل من عند الله عز وجل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في بيت العزة، ثم نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في خلال دعوته صلوات الله وسلامه عليه. قال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر:2]، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعبد الله وحده لا شريك له، وأن يخلص له الدين، وإخلاص الشيء بمعنى: تنقية الشيء، تقول: خلصت الماء من الشوائب، وأخلصت العسل من الشوائب. إذاً: أخلص الدين لله معناه: خلص الدين ونقاه فجعله له وحده، فلا يكون في هذا الدين شائبة شرك، ولا يكون فيه كدرات الكفر والبعد عن الله سبحانه، والله أغنى الأغنياء عن الشرك سبحانه وتعالى، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي غيري تركته وشركه)، والذي يعمل عملاً لله ولغير الله يتوجب العمل للاثنين، يقول: هذا لله ولفلان، فالله عز وجل أغنى الشركاء عن الشرك، لا يريد هذا العمل ويرده على صاحبه، فيذهب به صاحبه إلى هذا الشريك فيأخذ منه الثواب إن كان يقدر على ذلك! فالعمل لا يكون إلا لله وحده لا شريك له، فلا يجوز للإنسان أن يشرك بالله غيره سبحانه في الدعاء وفي جميع عباداته. إذاً: العبد يتوجه إلى الله سبحانه وتعالى وحده، فلا يصح أن يقول: هذه لله ولسيدي فلان، لا يكون النذر إلا عبادة، ولا تكون العبادة إلا لله وحده لا شريك له. ففي هذه الآية أمر من الله لسيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه بأن يخلص لله، وهو الذي لا يشرك بالله صلوات الله وسلامه عليه، فكأن الأمر له وللمسلمين جميعاً، فأنت يا محمد عليه الصلاة والسلام مأمور أن تعبد الله ومنهي أن تشرك بالله سبحانه، وهو لا يفعل ذلك ولا يقع في الشرك. فكأن الخطاب لغيره عليه الصلاة والسلام، أن اقتدوا بالنبي صلى الله عليه وسلم فيما أمرناه وفيما اجتنبه صلوات الله وسلامه عليه. فقوله تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر:2] أي: بكل أنواع العبادات، تقرب إلى الله عز وجل وأنت مخلص لله لا تشرك به أحداً سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (ألا لله الدين الخالص)

تفسير قوله تعالى: (ألا لله الدين الخالص) قال تعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3]، تأكيد على هذا المعنى العقدي أن الدين لله سبحانه وتعالى، والدين: التشريع من عند الله سبحانه، والتقرب بتطبيق هذه الشريعة يكون لله سبحانه وتعالى. إذاً: الدين من عند الله، والتقرب بتنفيذ هذا الدين لله سبحانه وتعالى، وكل عمل من العبادات يحتاج إلى الإخلاص، والإخلاص لا يكون إلا بنية، حتى تفرق بين عمل وبين عمل آخر. ولذلك كانت كل عبادة من العبادات لا بد فيها من النية حتى يثاب عليها العبد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات)، فالعمل الصالح لا تؤجر عليه إلا بنية خالصة لله سبحانه، وكم من عمل يعمله الإنسان ويكون ظاهره الصلاح ولا يثاب عليه، فيكون هذا العمل في ظاهره أنه يعمل عملاً صحيحاً ولكن في الباطن يريد به السمعة ويريد به الرياء، ولا يستقيم العمل الصالح على طريق الله سبحانه إلا بالنية الخالصة من العبد. لذلك احتاج كل عمل إلى نية، وأي عمل فيه قربى أو ثواب لا بد من نية صحيحة من العبد حين يعمله، ولذلك قال العلماء: هذه الآية فيها دليل على وجوب النية في كل عمل يعمله الإنسان، ومن أعظم الأعمال التي يعملها الإنسان الصلاة والوضوء الذي لا تصح الصلاة إلا به. إذاً: الصلاة لا بد فيها من نية، والوضوء أيضاً لا بد فيه من نية، وبعض أهل العلم خالف في ذلك، فذهب الأحناف إلى أنه لا يشترط للوضوء النية، وكأنهم حكموا على أمر الوضوء بأنه رفع الحدث حكمه حكم إزالة النجس عن الإنسان، ولا يحتاج فيه إلى نية، قالوا: فكذلك رفع الحدث منه، فلو أن على ثوب الإنسان نجاسة أو على بدنه نجاسة لم تصح صلاته بهذه النجاسة، ويلزمه أن يغسلها، فلو أنه غسل ثوبه أو غسل يده أو غسل عضواً من أعضائه وهو لا يستحضر النية إلا أنه غسل هذا الموضع بالماء حتى أزال منه النجاسة؛ صار طاهراً مع أنه لم ينو، ولو أن عليه نجاسة ونزل عليه ماء من السماء فأزال هذه النجاسة صار طاهراً من النجاسة ولكن ليس متوضئاً، فلا يكون الوضوء ولا يكون الاغتسال لرفع الحدث إلا بنية، قال تعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3]، والنبي صلى الله عليه وسلم يخبرنا في الحديث: (إنما الأعمال بالنيات)، كذلك جاء عنه صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الوضوء شطر الإيمان)، هذا لفظ الترمذي، ولفظ الإمام مسلم: (الطهور شطر الإيمان). إذاً: التطهر جزء من الإيمان، و (الوضوء شطر)، ولا يكون شطراً من الإيمان إلا وهو عبادة، إذاً: الوضوء شرط لصحة الصلاة وهو عبادة، ولذلك قال: (الوضوء شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان)، إلى آخر الحديث. فبدأ بالطهور أو بالوضوء، فلا يكون هذا الوضوء وضوءاً تؤجر عليه إلا بنية، وقد ذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الذي يتوضأ: (تخرج خطاياه وذنوبه مع آخر قطرة من ماء)، إذاً: كل ما مر الماء على عضو من أعضاء الوضوء خرجت معه الذنوب فكيف يكون الوضوء بهذا القدر العظيم يكفر الله عز وجل به الذنوب ولا يكون عبادة؟! فإذا أردت أن ينقي الله عز وجل عنك الذنوب وتصح صلاتك فتوضأ، والوضوء لا يكون إلا بنيته، إذاً: لا بد أن تنوي هذا الوضوء عند البداية؛ لتستحضر النية أنك تتوضأ، فتفرق بينه وبين غسل الوجه مثلاً بغرض التنظيف أو بغرض التبرد.

معنى قوله تعالى: (والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى)

معنى قوله تعالى: (والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الزمر:3] يعني: الذين عبدوا أصناماً من دون الله سبحانه، والأولياء جمع ولي، والولي: القريب فتقول: هذا وليي، أي: هذا قريبي، فيتخذ ولياً قريباً له أو شيئاً قريباً منه، يتخذه مدافعاً له وحامياً ومناصراً وناصراً له، فالأولياء اتخذوا هذه الأشياء من دون الله سبحانه وتعالى يتقربون إليها ويطلبون أو يرجون نفعها، وأن تمنع عنهم ضراً من الأضرار، أو أنها تقربهم إلى الله سبحانه وتعالى. فهؤلاء اتخذوا أولياء من دون الله يوالونهم ويعادون فيهم، فهذه الولاية يقول الله سبحانه فيها: ((وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا} [الزمر:3]؛ لأنهم يقولون ذلك، يدافعون عن أنفسهم حين يقال لهم: هذه الأصنام التي تعبدونها هل تنفعكم وتضركم؟ هل تملك لنفسها ذلك فضلاً عن أن تملك لغيرها؟ فيقولون: لا، هم يعرفون أنهم صنعوا الصنم بأيديهم، وهذا الوثن الذي يعبدونه هم الذي نقوه من الحجارة ومن غيرها، فالشيطان يلقي في قلوبهم هذه الحجة الباطلة، وهو قولهم: ما نعبدها إلا لتقربنا إلى الله سبحانه وتعالى. يعني: كأنهم يريدون أن يقولوا: إن عبادتنا أصلاً لله، ولكن هذه الأصنام واسطة بيننا وبين الله سبحانه، من الذي جعل هذه الأصنام واسطة بينكم وبين الله سبحانه، فتعبدونها من دون الله وهي لا تملك لنفسها ولا لكم نفعاً ولا ضراً؟! فيقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] أي: ازدلافاً إلى الله وتقرباً إليه سبحانه وتعالى بذلك. والإنسان حين يتقرب إلى الله لا يتقرب إليه إلا بما شرعه سبحانه وتعالى، ولا يصح للإنسان أن ينقي لنفسه عبادة من العبادات، ويقول: سأتقرب إلى الله بالشيء الفلاني، وإذا كان الإنسان يأنف أن يعطي له آخر شيئاً على وجه الهدية إلا أن يكون يحب هذا الشيء الذي يهدى إليه، ويأنف أن يأخذ شيئاً هو يبغضه من إنسان يريد أن يهديه هذا الشيء الذي يبغضه، فكيف يتقرب إلى الله عز وجل بما يكره الله سبحانه وتعالى ولا يرضاه هو لنفسه؟ فالله سبحانه يخبر عنهم أنهم يجادلون بالباطل ويقولون: إنها تقربنا إلى الله زلفى. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر:3] أي: يوم الفصل يوم القيامة، {يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر:3]، فيحكم بين أهل الأديان فيما اختلفوا فيه، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ} [التوبة:30]، وقال المشركون: الملائكة بنات الله، عبد هؤلاء المسيح، وعبد هؤلاء عزيراً، وعبد هؤلاء الملائكة، وعبد هؤلاء الأوثان والأصنام، فالله يحكم بين هؤلاء الجميع فيما اختلفوا وزعم كل منهم أنه على الحق، فيجازي كل إنسان بما يستحق. وجاء في الحديث أن الله سبحانه وتعالى يقول لعباده يوم القيامة: (ألا يحب من كان يعبد شيئاً في الدنيا أن يتبعه؟ فيقولون: بلى) أي: نريد، فمن كان يعبد الشمس يرى الشمس أمامه ويتبع هذه الشمس، فيجري وراءها حتى تهوي به في النار، ومن كان يعبد القمر يتبع القمر، ومن كان يعبد الجان يتبع الجان إلى النار والعياذ بالله، ومن كان يعبد المسيح يمثل له شيطان في هيئته فيتبعه إلى النار، ومن كان يعبد العزير يمثل له شيطان في هيئته فيتبعه إلى النار وهكذا، كل من عبد من دون الله سبحانه وتعالى آلهة اتبع هذه الآلهة إلى النار والعياذ بالله.

معنى قوله تعالى: (إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار)

معنى قوله تعالى: (إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار) قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر:3] الذي كذب على الله وافترى على الله سبحانه وقال: الله يحب كذا والله يريد كذا، فأمر العباد بمعصية الله سبحانه وزعم أن الله يريد ذلك، وأمر العباد بالكفر وبالشرك بالله؛ استحق من الله أن يضله، والله يهدي من يشاء فضلاً منه سبحانه، ويضل من يشاء عدلاً منه سبحانه وتعالى، ولا يسأل عما يفعل، والإنسان لا يقول: لماذا فلان هذا ضال؟ ولماذا فلان هذا كان مهتدياً؟ الله يفعل ما يشاء سبحانه. وليس الأمر بيد الإنسان ولا بيد المخلوق وإنما الهدى هدى الله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ربه سبحانه لعمه أبي طالب أن يهديه الله، وأن يدخل في هذا الدين، وكان يدعو عمه لذلك حتى آخر حياته ومع ذلك قضى الله أن يموت أبو طالب على الكفر، وآخر كلمة قالها وهو يموت: هو على ملة عبد المطلب، والله يحكم ما يشاء سبحانه، وحزن النبي صلى الله عليه وسلم وكان في غاية التألم والتوجع لعمه، فأنزل الله سبحانه وتعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] أي: كلهم كانوا في ضلالة فهدينا من أردنا، ومن استحق ذلك هديناه، {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]، سبحانه وتعالى. هذا عم النبي صلى الله عليه وسلم الذي رباه والذي دافع عن النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك لم يدخل في دينه، وقد تمنى أن يدخل في الدين، ولكن خشي أن يقولوا: خاف من الموت فدخل في دين النبي صلى الله عليه وسلم! وهذا عجيب جداً، أن يموت على ملة عبد المطلب، أي: على الشرك بالله سبحانه وتعالى. فالله سبحانه وتعالى يقول: {لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر:3]، من علم الله سبحانه وتعالى في قلبه الكفر، وفي لسانه التكذيب بهذا الدين، فالله أعلم به أنه لا يستحق ذلك، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتمنى أن يعز الله عز وجل هذا الإسلام بأحد العمرين إما أبي جهل أو بـ عمر بن الخطاب، وكان الاثنان من أشد الناس عداوة للنبي صلوات الله وسلامه عليه، كلاً منهما يريد الفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين، فمن الله سبحانه على عمر رضي الله عنه فدخل في هذا الدين، وخذل أبا جهل، وأصر على ما هو فيه حتى قتل وألقي في قليب بدر في يوم بدر، فالله يهدي من يشاء، وهو أعلم من يستحق الهدى فيهديه سبحانه، خلقه وعلم أن هذا للجنة سبحانه وتعالى، وخلق هذا للنار، والله يخلق ما يشاء ويفعل ما يشاء ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، قال لنا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر:3]. والهدى من الله عز وجل على أمرين: يهدي بمعنى: يدل، وهذا للجميع، يدل المؤمن ويدل الكافر، ينزل الكتاب ويرسل الرسول عليه الصلاة والسلام، ويهدي بمعنى: يعين على التحويل، أي: يحول القلب من قلب منكوس إلى قلب معتدل مستقيم، فهذا لا يكون إلا للمؤمنين. إذاً: يهدي الله عز وجل جميع خلقه بأن يدلهم على الصواب، قال تعالى: {هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} [الأنعام:153]، والمؤمن له العون من الله يعينه الله سبحانه وتعالى، والذي يعلم الله عز وجل من قلبه أنه كاذب وأنه كفار، لا يعينه على أن يسلك الطريق السوي؛ لأنه لا يستحق ذلك، {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر:3].

تفسير قوله تعالى: (لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء)

تفسير قوله تعالى: (لو أراد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى مما يخلق ما يشاء) قال الله تعالى: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الزمر:4]، هؤلاء الذين يزعمون أن الله اتخذ الملائكة بناتاً، واتخذ المسيح ولداً، ينزل الله آيات رداً عليهم، فقوله تعالى: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ} [الزمر:4] أي: أن يجعل لنفسه ولداً، ومستحيل أن يتناسل كما يتناسل البشر، فالبشر لعجزهم ولضعفهم يحتاجون لبقاء نوعهم فكان البقاء بهذا التناسل. أما الله سبحانه القوي العزيز لا يحتاج إلى أحد، فالإنسان يكون صغيراً ويصير شاباً قوياً مغروراً، ثم يصير شيخاً فانياً كبيراً، فيحتاج إلى من يكون بعده ويعينه، فإذا مات خلفه الذي بعده، ولكن الله الحي الذي لا يموت سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى أحد، فهو الأزلي الأبدي سبحانه وتعالى. فالإنسان لا يقيس الخالق على نفسه؛ لأن الإنسان مخلوق ضعيف، والله الخالق القوي لا يحتاج إلى شيء، ولو أراد الله أن يتخذ ولداً فمستحيل أن يكون هذا عن طريق التناسل أو عن طريق اتخاذ صاحبة، فإنه سبحانه {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:3 - 4]، لم يخلف ولداً سبحانه وتعالى، ولم يكن له أب أتى به، حاشا له سبحانه وتعالى، ولم يتخذ: {صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا} [الجن:3]، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4]، أي: لا يكافئه أحد لا مخلوق إنسي ولا جني ولا ملكي ولا شيء يكافئه سبحانه وتعالى. فلو أراد الله أن يصطفي ويقول: هذا ولد، ولا يكون ولداً على الحقيقة: (لاصْطَفَى) من خلقه ما يشاء سبحانه وتعالى، فقوله تعالى: (لاصْطَفَى)، أي: فلاناً منه بمنزلة الولاء، ولكن حاشا له سبحانه، لا يتخذ ولداً وليس له صاحبة سبحانه. فالإنسان حين يسمع ذلك يقول: سبحان الله، لا يحتاج ربنا إلى شيء سبحانه، لا صاحبة ولا والد ولا ولد. قال سبحانه: {هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الزمر:4]، سبحانه وتعالى الذي لا شريك له، المستحق للعبادة وحده لا شريك له، القهار الذي قهر كل شيء وغلب كل شيء، وعلا على كل شيء، فله القهر وله العلو على كل شيء سبحانه. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الزمر [5 - 6]

تفسير سورة الزمر [5 - 6] آيات الله الكونية كثيرة، ومن أعظمها خلق السماوات والأرض، وتكوير الليل على النهار، وتسخير الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى، فهذه آيات كبرى تدل على وجود الله وعلى إثبات صفاته العلى، وتدعو الإنسان إلى توحيده وإفراده بالعبادة دون ما سواه.

تفسير قوله تعالى: (خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار)

تفسير قوله تعالى: (خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار) الحمد لله رب العالمين، وأشهد لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الزمر: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ * خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [الزمر:5 - 6]. يذكر الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات قوته وقدرته على الخلق سبحانه تبارك وتعالى، وينبهنا أن ننظر في هذا الكون في خلق السماوات وخلق الأرض، وجاء في القرآن تكرار ذكر خلق السماوات وخلق الأرض، وفي ذلك آيات لأولي الألباب، وفي ذلك آيات لقوم يتفكرون، فقال الله سبحانه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191]. فهؤلاء هم أولو الألباب الذين يتفكرون في هذا الخلق العظيم فيتعظون ويعتبرون، ويعرفون قدرة الخالق سبحانه، فيعبدونه وحده لا شريك له، ولذلك لما نزلت هذه الآيات من آخر سورة آل عمران قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (لقد أنزلت علي هذه الليلة آيات ويل لمن قرأها ثم لم يتفكر فيها!)، فكأن المؤمن مأمور بالتفكر، إذا قام من نومه تفكر في خلق السماوات والأرض، وفي الليل والنهار، وفي العبرة في الإماتة والإحياء، فالنوم أخو الموت، فهو الموتة الصغرى، فإذا استيقظ يقول: الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور، فإليه البعث وإليه المصير، والعود والمرجع إليه سبحانه تبارك وتعالى، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استيقظ من الليل قرأ العشر الآيات الأخيرة من سورة آل عمران وهذه أولها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران:190].

عظم خلق السماوات والأرض

عظم خلق السماوات والأرض خلق الله السماوات والأرض بالحق، خلقها الله عز وجل حقاً، وخلقها خلقاً متلبساً بالحق، وخلقها ليحق الحق سبحانه تبارك وتعالى، ولذلك أنزل ووضع الميزان بين العباد حتى يقيموا القسط بينهم، ويقيموا العدل بينهم، فأخبرهم أنه خلق السماوات والأرض بالحق، وكل شيء مخلوق بالحق من الله سبحانه، خلقه حقاً، وخلقه ليحق الحق، ويظهر آيات عظمته وعظيم قدرته سبحانه تبارك وتعالى. والسماوات لا يحيط بها الإنسان، ولا يعرف كنه حقيقة كل ما فيها، إنما يعرف الإنسان جزءاً من السماء وهو الذي يواجه الإنسان على هذه الأرض، أما ما خفي عنه من السماوات فهو أعظم بكثير مما يراه الإنسان ويطلع عليه، فالإنسان يرى الشمس ويرى القمر ويرى النجوم، ونحن في هذا الكون نعيش في مجرة من مليارات المجرات التي حولنا، هذه المجرة التي تدخل فيها الشمس ويدخل فيها القمر، وتدخل فيها هذه الأرض، وتدخل فيها كل هذه النجوم التي تعد بمليارات المليارات في المجرة الواحدة، والمجرات عددها مليارات المليارات، وقد اكتشفوا منها مائتين مليون مجرة!! وكم من المجرات لم يكتشفوها إلى الآن؟! قبل عشر سنوات قالوا: اكتشفوا حوالى خمسين مليون مجرة من المجرات، ثم بعد ذلك وصل العدد إلى مائتين مليون مجرة، وكل مجرة فيها العدد الضخم من الكواكب والنجوم، فهذا الكون هائل جداً، وعظيم جداً، وربنا يذكر عن نفسه سبحانه أنه هو الذي خلق ذلك، وهو الكبير المتعال، حين تدخل في الصلاة تكبر ربك فتبدأ الصلاة بقول: الله أكبر، الله أكبر من كل شيء، الله الكبير الأكبر المتعالي سبحانه. والله يخاطب العرب الذين لا يعرفون شيئاً عن علم الأفلاك وعلم النجوم وعلم الكون الذي حولهم، العربي كان ينظر إلى الشمس تشرق من المشرق وتغرب من المغرب، ولا يدري أن الأرض مكورة مثل الكرة، كان يرى نفسه يمشي على الأرض وهي مسطحة، فكان الاعتقاد السائد أن الأرض سطح مسطح، لأن الناظر إليها يراها كذلك، ولكن الله يشير في القرآن إلى التكوير، فيقول: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} [الزمر:5]، وقال عن الأرض: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} [النازعات:30 - 31] وقال سبحانه: {وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا} [الشمس:6]، فقد بسطها الله سبحانه ومهدها ووطأها ووسعها ودحاها بمعنى بسطها سبحانه، وجعلها قابلة لأن يسير عليها الإنسان، وجعلها واسعة فسيحة أمام الإنسان، والذي على الأرض لا يراها كرة لعظيم سعتها، فالله سبحانه تبارك وتعالى جعلها واسعة، فمساحة هذه الأرض التي يسير عليها الإنسان حوالى خمسمائة وواحد وثمانين مليون كيلو متر مربع! فالأرض واسعة دحاها الله ووسعها سبحانه تبارك وتعالى، وطحاها بأن جعلها كالكرة، فلوسعها يراها الإنسان منبسطة أمامه، ولكن هذه الآية تشير إلى أنها كرة كغيرها من النجوم والأفلاك التي خلق الله سبحانه تبارك وتعالى.

تكوير الليل على النهار

تكوير الليل على النهار قال الله: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} [الزمر:5] هذا إشارة إلى التكوير بمعنى اللف، والعربي يفهم من هذا أن الليل يجيء فوق النهار كما تكور الشيء، قال الله: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} [الأعراف:54] فكأنه غشاء هذا فوق هذا، مثل تكوير العمامة، فكأن الليل يأتي فوق النهار ويتكور عليه ويلفه فيخرج النهار، والنهار كذلك يلف عليه فيخرجه {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} [الأعراف:54] ينسلخ هذا من هذا عن طريق هذا الغشاء. والنهار الذي يجلي الشمس يقولون: هو ذرات من الأتربة ونحوها في الغلاف الجوي تجعل أشعة الشمس التي تسقط عليها تنعكس وتظهر ضوء النهار، وإلا في خارج هذا الغلاف لا يرون شمساً ولا قمراً، بل يرون الكون مظلماً خارج هذه الكرة الأرضية وخارج الغلاف الجوي. فالله عز وجل يجعل الأرض تقابل الشمس فيكون السطح المقابل للشمس نهاراً، قالوا: والأرض تدور حول نفسها فيكون السطح الآخر الذي كان مظلماً مواجهاً للشمس، ويكون هو الذي ينير، والأرض تدور حول نفسها خلال اليوم فيأتي الصباح ثم يأتي العشي ولا تزال هكذا، فالأرض تدور، والسطح المواجه للشمس يكون على هيئة نصف كرة منيراً، والسطح الغير مقابل للشمس في الناحية الأخرى يكون على هيئة نصف كرة مظلماً، فكأنه يتكور هذا فوق هذا، وهذا فوق هذا، كأنه غشاء فوقها، فإذا دارت الأرض جاء غشاء الظلمة في الناحية الأخرى وهكذا. فالأرض الآن تتكور وتدور، والشمس والقمر كل منهما يجري إلى أجل مسمى، وكل شيء في هذا الكون يدور ويلف حول نفسه وحول غيره، ويدور الفلك كله دوران عجيب جداً! دوران عكس عقرب الساعة، كالمسلمين حين يطوفون حول الكعبة من الشمال إلى اليمين، فالكون كله يدور في هذا الاتجاه، وكأن كل شيء يتحرك في مكانه ساجداً لله سبحانه، ومطيعاً لله سبحانه، ومسبحاً بحمده سبحانه.

تسخير الشمس والقمر

تسخير الشمس والقمر قال الله عز وجل: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} [الزمر:5] الله عز وجل سخر الشمس والقمر، فكأنه يقول لهؤلاء الذين يعبدون الشمس: الشمس مسخرة قهرها الله سبحانه الذي خلقها وسيرها كما يريد سبحانه تبارك وتعالى، وكذلك يقول لمن عبدوا القمر من دون الله سبحانه: الله الذي خلقه والله الذي يسيره والله الذي يسخره. فمن عبد الشمس ومن عبد القمر ومن عبد مخلوقاً مثله استحق أن يعذب يوم القيامة؛ ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الشمس والقمر ثوران عقيران في النار)، فهذه الشمس بلهبها العظيم وبدرجة حرارتها المستعرة تكون في النار يوم القيامة، وليس دخول الشمس في النار عذاباً لها، ولكن تعذيباً للكفار، فهي كتلة ملتهبة يعذب بها من عبدها في هذه الدنيا، والقمر يكون ملتهباً كما كان قبل أن يطمسه الله سبحانه تبارك وتعالى، فيكون في النار ملتهباً مشتعلاً يعذب به من عبدوه من دون الله. وجاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عز وجل يقول: ألا يحب من كان يعبد شيئاً أن يتبعه؟ فيقولون: بلى، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس) أو كما قال، فتأخذهم إلى النار يتعذبون بلهيبها في النار فضلاً عن عذابهم في نار جهنم والعياذ بالله، كذلك القمر، وكذلك كل من عبد من دون الله سبحانه.

معنى قوله تعالى (كل يجري لأجل مسمى)

معنى قوله تعالى (كل يجري لأجل مسمى) قال الله: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ} [الزمر:5] أي كل من الشمس والقمر {كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر:5]، وتكرر هذا في القرآن في سورة الزمر هنا وفي سورة الرعد وفي سورة فاطر، وجاء مرة واحدة في القرآن بإلى: {كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [لقمان:29] في سورة لقمان، فكل يجري لأجل سماه الله سبحانه تبارك وتعالى، يجري للأجل المحدود الذي حدده الله وقدره، وإلى الأجل أي إلى هذه الغاية التي وضعها الله سبحانه تبارك وتعالى، فكل يجري للأجل ساعياً نحو هذا الأجل حتى إذا وصل إلى الأجل قامت عليه الساعة، فكل يجري إلى أجل وكل يجري لأجل مسمى. والأجل قدره الله سبحانه تبارك وتعالى، فالشمس تجري لأجل مسمى، وتشرق الشمس من مشرقها في الوقت الفلاني على المكان الفلاني، وتشرق على البلد الأخرى في الوقت الفلاني، والآن عرفوا هذا الشيء، فهنا في مصر وقت الشروق في الوقت الفلاني، وفي العراق وقت الشروق في الوقت الفلاني، وفي الحجاز وقت الشروق في الوقت الفلاني، حتى في البلد الواحدة في المحافظة الفلانية تشرق الشمس في الوقت الفلاني، وفي المحافظة الثانية تشرق بعدها بدقيقة أو بدقيقتين أو بست دقائق، كل يجري لأجل مسمى يحدده الله سبحانه تبارك وتعالى. والشمس تجري في هذا الفلك تحت عرش الرحمن سبحانه تبارك وتعالى، فهي ساجدة لله سبحانه تبارك وتعالى، وفي كل وقت شروق تسجد الشمس لله وتستأذن ربها سبحانه تبارك وتعالى في الشروق، حتى يأتي وعد الله سبحانه، فتأتي القيامة وتأتي العلامات الكبرى، ثم يأمر الله سبحانه بتكوير الشمس: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير:1] أي: التفت بعضها على بعض، وانطمس ضوءها، وانطفأ لهيبها، وأسقطها الله سبحانه تبارك وتعالى، قال سبحانه: {وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} [التكوير:2 - 4] إلى آخر ما ذكر الله عز وجل مما يحدث حين تقوم الساعة، نسأل الله العفو والعافية. {كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر:5] فالشمس تجري لأجل مسمى، والقمر يجري ويدور حول هذه الأرض لأجل مسمى، فيكون الليل والنهار ويكون اليوم ويكون الشهر وتكون السنة لأجل مسمى لا يتغير حتى يأتي أمر الله سبحانه، فالسنة الشمسية ثلاثمائة وخمسة وستون يوماً، واليوم مقداره أربعة وعشرون ساعة، لا يوجد جزء من ثانية يزيد أو ينقص فيها، فهو أجل مسمى يحدده الله سبحانه تبارك وتعالى!

قدرة الله عز وجل

قدرة الله عز وجل قال الله: {أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} [الزمر:5] ختم سبحانه تبارك وتعالى الآية ببيان قدرته سبحانه، فهو عزيز قادر قاهر غالب لا يمانع، إذا أمر الشمس تسير الشمس حيث أمر الله سبحانه، والقمر يدور كما أمر الله سبحانه، والأرض كذلك، وعلى الإنسان حين يقول له ربه: افعل كذا ألا يمانع ربه سبحانه، بل عليه أن يطيع ربه حين أراه الله آياته، ولا يخرج عن طاعته. والله سبحانه قادر على أن يسخر هذا الإنسان كما سخر الشمس والقمر، ولكن الله جعل في هذا الإنسان إرادتين، جعل إرادة منه سبحانه في هذا الإنسان كونية قدرية يستحيل أن يتعداها الإنسان، كن فيكون، فالله سبحانه أراد أن يوجد في الوقت الفلاني فخلق هذا الإنسان في هذا الوقت، أراد الله له أن يموت في الوقت الفلاني فمستحيل أن يتأخر أو يتقدم عن وقت وفاته {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34]، وإذا أراد الله عز وجل لهذا الإنسان أن يمرض في الوقت الفلاني فلابد أن يكون. وجعل الله لهذا الإنسان مشيئة يختار في أشياء، والله أعلم ما الذي يختاره هذا الإنسان، والله أعلم هل هذا الإنسان يستحق الجنة أو يستحق النار. والمشيئة الشرعية تدخل تحت ما يحبه الله سبحانه، فالله يحب منكم كذا فافعلوه، يحب منكم أن تحسنوا فأحسنوا، يحب منكم أن تطيعوا فأطيعوا، يحب منكم أن تصلوا فصلوا، فهذه مشيئة شرعية من الله سبحانه. وجعل للعبد الاختيار هنا: اختر أن تصلي أو لا تصلي، والإنسان يجد في نفسه القدرة على أن يصلي، فيقوم بهذا العمل فيعمله أو يتركه فلا يعمله، وعلى هذه المشيئة يحاسب الله عز وجل العبد، فلو شاء الله لجعلها مشيئة كونية قدرية فيصلي العبد رغماً عنه، ولكن الله جعل لك اختياراً، فأنت حين تقوم تجد أنك ممكن أن تقوم وممكن أن تقعد، فجعل الله لك اختياراً وكسباً، وهو يحاسبك على هذا الاختيار وعلى هذا الكسب، وأنت لن تخرج عما قدره الله وعما علمه الله عز وجل منك. وقد أخبرنا الله أنه سخر الشمس والقمر إشارة لنا إلى الأشياء التي هي أعظم منا {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} [النازعات:27]، فإذا علمت أن خلقك ضعيف، ولست قدر هذه السماء في خلقها، ولا قدر هذه الأرض في قوتها، ولا قدر هذه الجبال في شموخها وارتفاعها، بل أنت إنسان ضعيف؛ فاعبد ربك كما عبدته هذه المخلوقات. ولما ذكر الله ما يدل على القوة والبطش والشدة ذكر ما يدل على الرحمة منه سبحانه فقال: {أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} [الزمر:5]، فالله الغفار والغفور وغافر الذنب سبحانه تبارك وتعالى، وهذه من أسمائه الحسنى سبحانه، وأصل الغفر التغطية والستر والمحو، فالله يغفر أي يستر ذنبك، والله يكفر السيئات، ويمحو هذه السيئات، فالله عز وجل {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} [غافر:3] أي يستر على العبد ذنبه، فإن تاب محاه الله سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها)

تفسير قوله تعالى: (خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها) قال الله سبحانه: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [الزمر:6] أي آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام {ُثمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الزمر:6]، هذا أصل خلق الإنسان، خلق آدم من تراب، ولما وجد آدم في الجنة آنسه الله بأن خلق من داخله حواء، والله يخلق ما يشاء ويفعل ما يريد سبحانه تبارك وتعالى. قال: {ُثمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الزمر:6]، وقال في الأعراف: {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189]، فالله خلق المرأة للرجل ليسكن إليها، فهي مخلوقة من ضلع من أضلاع هذا الرجل حتى يستشعر أنها منه، فيستشعر الألفة والمحبة والمودة والرحمة بين الرجل وبين أهله. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الزمر [6 - 7]

تفسير سورة الزمر [6 - 7] الله عز وجل هذه الجموع من البشر المتتابعة إلى يوم القيامة من نفس واحدة خلقها من طين، وخلق منها زوجها ليأنس بها ويسكن إليها، وقد خلق الإنسان في ظلمات ثلاث وهو في بطن أمه يوصل إليه ما ينفعه، ويمنع عنه ما يؤذيه، وكل ذلك دليل على أن الله هو الرب المالك المستحق للعبادة وحده، فمن العجب أن يصرف الناس عن هذا الحق الواضح فيعبدوا غيره!

تفسير قوله تعالى: (خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها)

تفسير قوله تعالى: (خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها) الحمد لله رب العالمين، وأشهد لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [الزمر:6]. في الآية السابقة أخبرنا الله تبارك وتعالى عن عظيم قدرته في خلقه للسماوات، وخلقه للأرض، وفي تكوير الليل على النهار، وكيف أنه جعل الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى، كما قال سبحانه: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن:5] أي: بحساب من الله سبحانه وتعالى، فقدر مواقيت الأشياء حتى يأتي الأجل المسمى والأجل المعلوم وتقوم الساعة، فيكون ذهاب هذه الأشياء كما يريد الله سبحانه. وذكر هنا خلق الإنسان فقال: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر:6]. فمن قدرة الله العظيم سبحانه تبارك وتعالى خلق الإنسان من نفس واحدة هي آدم عليه السلام، خلقه من تراب، خلقه من ماء، خلقه من طين، خلقه من صلصال من حمأ مسنون، خلقه من صلصال كالفخار، هذه مراحل خلق آدم، فبعد أن كان عدماً أوجده الله سبحانه من تراب بأن قبض قبضة من جميع أنواع هذه الأرض وألوانها، إذ منها الأبيض، والأحمر، ومنها الأسود، ومنها الصعب الوعر، فجاء خلق آدم عليه السلام وبنيه على ما يكون من هذه الأرض جميعها، فمنهم الأبيض، ومنهم الأحمر، ومنهم الأسود، ومنهم اللين الطيب ومنهم الرديء الخبيث، ومنهم الصعب الوعر، ومنهم السهل، كما صح في ذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. فخلق آدم عليه السلام من تراب هذه الأرض، ونفخ فيه من روحه، وأسكنه جنته، ثم قدر ما يشاء، ونزل آدم عليه السلام إلى هذه الأرض، ثم أنزل الله الكتب، وأرسل الرسل؛ لهداية بني آدم حتى يرجعوا إلى الجنة مرة أخرى. وفي قوله تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [الزمر:6] قراءتان: قراءة الجمهور: (خَلَقَكم) وقراءة أبي عمرو ويعقوب: بالإدغام فيها. قوله تعالى: (من نفس واحدة) يعني: من آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام الذي ذرأ الله عز وجل من ذريته النسل. وقوله تعالى: (ثم جعل منها زوجها) أي: جعل من هذه النفس الواحدة وهي آدم زوجها، وهي حواء وخلقها من ضلع آدم حتى يأنس إليها وتأنس إليه، فكأن آدم عليه السلام كان في الجنة واستشعر أنه وحده من جنس الآدمي واحتاج لأحد يكون معه من جنسه، فالله عز وجل آنسه بـ حواء في جنته.

معنى قوله تعالى: (وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج)

معنى قوله تعالى: (وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج) قال سبحانه: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر:6] (وأنزل لكم) قراءة الجمهور، وأدغمها أبو عمرو ويعقوب. وقوله تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر:6] بينها في سورة الأنعام فقال: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الأنعام:143] {وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ} [الأنعام:144]. فالأنواع أربعة، ومن كل نوع: ذكر وأنثى، فهم ثمانية أزواج: من الضأن ومن المعز ومن الإبل ومن البقر. فخلق الله الأنعام وأسكنها في هذه الأرض، وجعلها ثمانية أزواج نزل أصلها من عند الله سبحانه، ثم توالدت هي فنزلت من بطونها أبناؤها، وهذه بهيمة الأنعام لا تطلق إلا على هذه الثلاثة الأنواع: الإبل والبقر والغنم، والغنم يدخل فيه المعز. فامتن الله سبحانه وتعالى على العباد بأن خلق لهم هذه الثمانية الأزواج، وجعلها من أفضل أموال الناس وجعل الزكاة فيها. فمن كان يملك شيئاً من بهيمة الأنعام بلغ النصاب، وحال عليه الحول يلزمه أن يخرج زكاة بهيمة الأنعام.

معنى قوله تعالى: (يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق)

معنى قوله تعالى: (يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق) قال تعالى: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ} [الزمر:6] أي: أن الله سبحانه وتعالى يخلق العباد في بطون أمهاتهم أطواراً. ففي البداية تلتقي النطفة بالبويضة، فتلقح هذه البويضة ثم تصير جنيناً ينقسم عدة انقسامات حتى يصبح إنساناً. فكان ابتداء الخلق من تراب، ثم من نطفة، ثم من مضغة، وهذه مضغة مخلقة وغير مخلقة ليبين لكم ويقر في الأرحام ما يشاء، ثم يخرجكم طفلاً ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخاً. فهذه مراحل الخلق، مرحلة وراء مرحلة، ومن الناس من يبلغ ذلك، ومنهم من يموت قبل ذلك في أي مرحلة من هذه المراحل. وخلق الإنسان عجيب جداً، فإذا تأمل أصل خلقته وهو هذه النطفة فتخيل هذا الشيء الضعيف جداً الذي لا يرى بالعين أبداً، بل لابد من مجهر كبير يرى به هذا الحيوان المنوي الذي يخرج منه في الدفقة الواحدة ملايين، وواحد فقط هو الذي يلقح هذه البويضة ليكون منها هذا الإنسان! فكان نطفة يستقذرها صاحبها، فصار منها هذا الإنسان الذي عاش على هذه الأرض، وعمل صالحاً أو طالحاً ثم رجع إلى ربه؛ ليجازيه ويحاسبه بعد ذلك. هذا خلق الإنسان الذي ينبغي على كل مؤمن أن يتأمله ولا يستكبر؛ فإنه يعرف من أين أتى. ولذلك مر رجل على أحد الصالحين وكأن الصالح لم يهتم به وكان من أبناء الملوك فقال: أما تعرفني؟ كأنه يقول: مررت بي من غير أن تقوم لي؟! قال: أعرفك، كنت نطفة مذرة، وتصير إلى جيفة قذرة، وأنت بين ذلك تحمل العذرة. فالله تعالى حين يسوق لنا بديع قدرته أن خلقنا من نفس واحدة يذكرنا أنه هو الذي كرمنا كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الإسراء:70]. ولذلك لما نظر إبليس لأصل خلقة آدم عليه السلام تعالى عليه واستكبر وأبى أن يسجد له، وقال: أأسجد له، وخلقتني من نار وخلقته من طين. فكرم الإنسان ليس بأصل خلقته ولكن بتكريم الله عز وجل له، فالإنسان لا يتعالى، ولينظر إلى أصله من تراب يداس عليه، وسيتحلل جسده ويصير تراباً مرة أخرى، فلم التعالي؟! ولم البعد عن الله سبحانه تبارك وتعالى؟! ولم يقول الإنسان مغتراً بنفسه أنا أنا أنا؟! من تكون أنت؟! قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الزمر:6] الجعل له عدة معان منها: الخلق. ولها في كتاب الله تعالى عشرة أو أحد عشر معنى، منها هذا المعنى الذي هو الخلق.

معنى قوله تعالى: (يخلقكم في بطون أمهاتكم)

معنى قوله تعالى: (يخلقكم في بطون أمهاتكم) قال سبحانه: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} [الزمر:6] فكلمة (أمهاتكم) في الوصل بما قبلها فيها ثلاث قراءات: قراءة الجمهور (في بطون أمهاتكم). وقراءة حمزة (في بطون إمِّهاتكم). وقراءة الكسائي (في بطون إمَّهاتكم)، هذه الثلاث القراءات في الوصل، والكل إذا بدأ من عندها قال: (أمهاتكم). وكذلك كلمة (يخلقكم) فيها إدغام أبي عمرو ويعقوب يقول: (يخلكُّم). ثم قال تعالى: {خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ} [الزمر:6] من المعلوم أن داخل الإنسان مظلم، ولا يكون منيراً إلا ما ينير الله عز وجل من قلوب وبصائر بفضله وبرحمته سبحانه وتعالى. فالله عز وجل يخبر بأشياء عجيبة جداً لم يتبينها الإنسان قبل ذلك فقال: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} [الزمر:6] وهذا الخلق الذي يليه خلق يكون بداخل الجسد في ظلمات ثلاث ولكن ما هي الظلمات الثلاث؟ قالوا: خلق الإنسان يكون من البويضة ومن الحيوان المنوي، وهذه البويضة خرجت من المبيض في ظلمة بداخل المرأة وانتقلت من المبيض إلى قناة فالوب ظلمة أخرى وفي هذه القناة لعلها يأتي إليها الحيوان المنوي فيلقحها، وهي في هذه الظلمة بالداخل، وتنتقل بعد ذلك إلى داخل الرحم وقد لقحت أو لم تلقح، فانتقلت من ظلمة إلى ظلمة فخلق الإنسان في هذه الظلمات الثلاث التي لا يذكر منها الإنسان شيئاً. كان عدماً فصار هذا الخلق الذي في ظلمات، من الذي رعاه في هذه الظلمات وحفظه أن يضيع؟ هو الله سبحانه تبارك وتعالى. فحين نقول: إنه في الدفقة الواحدة التي هي نحو اثنين أو ثلاثة سنتيمتراً من مني الإنسان يكون فيها ملايين الحيوانات المنوية، والذي يلقح البويضة واحد فقط من كل هؤلاء؛ ليكون هذا الإنسان، فمن الذي اختار الواحد من هذه الحيوانات دون الملايين غيره؟! إن الله سبحانه تبارك وتعالى هو الذي قدر أن تلقح هذه البويضة فيأتي منها الإنسان، أو لا تلقح فلا يكون شيئاً، أو تنزل وهي على هذه الحال، أو يكون منها الإنسان إلى أن يصل إلى مرحلة معينة وبعد ذلك يموت. فالله عز وجل على كل شيء قدير خلقكم في ظلمات ثلاث ليريكم أنه الذي حفظكم في هذه الظلمات. ويونس على نبينا وعليه الصلاة والسلام لما خرج مغاضباً لقومه، وظن أن الله لن يقدر عليه، وركب في السفينة؛ فإذا بالسفينة تهيج عليها الرياح، وتعلوا عليها الأمواج، وتكاد أن تغرق بمن فوقها. فقيل فيها: عبد آبق، فيقترعون؛ لينظر من الذي يلقى في البحر حتى تنقذ السفينة، فخرجت القرعة عليه ثلاث مرات، فألقى بنفسه في البحر، فجاء الحوت فالتقمه. {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنبياء:87] في ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت، فمن الذي حفظه في هذه الظلمات حتى لا يموت ويهلك داخل بطن الحوت؟ إنه الله سبحانه وتعالى. فلما تذكُر ذلك تذكَّر أنك أيضاً كنت في مثل هذه الحال في بطن أمك في ظلمات، والذي كان معك يرعاك ويهيئك ويقدر لك الخلق بعد الخلق هو الله الحنان المنان سبحانه وتعالى، فتتذكر نعمة الله عليك ورحمته بك وبوالديك فتشكر ربك سبحانه وتحمده.

معنى قوله تعالى: (فأنى تصرفون)

معنى قوله تعالى: (فأنى تصرفون) قال سبحانه: {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [الزمر:6] أي: الله الرب الذي له الملك الذي لا إله إلا هو، تأكيد على معاني العقيدة. يبين الله تعالى الخلق ويبين القدرة ثم يذكر الذي فعل ذلك وهو الرب سبحانه وتعالى، الذي لا معبود حق سواه، فكيف تنصرفون عن توحيده؟ وكيف تشركون به؟ وقوله تعالى: {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} يقال: يصرف الإنسان بمعنى: ينصرف، و (أنى) بمعنى: كيف. أي: عجباً لكم أين ذهبت عقولكم حتى ذهبتم وانصرفتم عن عبادته، وعن توحيده إلى أن تشركوا به سبحانه تبارك وتعالى!! قال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} [الزمر:6] (الله) المألوه المعبود الذي يستحق العبادة وحده، أي: ذلكم الخالق العظيم هو الله سبحانه له الملك. وقوله: (ربكم) الرب: الذي خلق وأوجد وأنعم وربى، الذي أعطى للإنسان ما جعله إنساناً. وقد كان أهل الجاهلية لا يشركون في الربوبية، ولم يزعموا أن أحداً غير الله يخلق، أو أن أحداً غير الله يرزق، ويعتقدون أن من يفعل كل ذلك هو الرب جل وعلا. لكن لو قيل لهم: من تعبدون؟ قالوا: نعبد الأصنام؛ لتقربنا إلى هذا الرب. إذاً: أهل الجاهلية لم يكونوا يشركون في الربوبية، لكن حين يتوجهون بالعبادة يعبدون غير الله زاعمين أن هذه العبادة أفضل. فالشيطان خدعهم وزين لهم أن يعبدوا غير الله بدعوى أنكم أحقر من أن تعبدوا الله مباشرة، لن اجعلوا واسطة بينكم وبين الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ} [الزمر:6] فالرب هو الذي خلق كل شيء، والذي يملك كل شيء، له الملك وله ملكوت كل شيء، فهو المالك، ويحكم فهو الملك سبحانه وتعالى. قال تعالى: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [الزمر:6] (لا إله): أي: لا معبود حق (إلا هو) إلا الله، فهذه دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ودعوة الأنبياء من قبله أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]. وقال: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:65]. {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:73]. فالأنبياء كلهم يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ولذلك لما أدرك فرعون الغرق {قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90]. يقول الله سبحانه: ((فَأَنَّى تُصْرَفُونَ)) [الزمر:6] أي: كيف تنصرفون عن عبادته وعن طاعته سبحانه وتعالى إلى عبادة غير الله. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الزمر [7 - 8]

تفسير سورة الزمر [7 - 8] الله عز وجل لا تنفعه طاعة الطائع ولا تضره معصية العاصي، ونتيجة العمل تعود على العبد نفسه إن خيراً فخير وإن شراً فشر، لكن المولى سبحانه يحب الطاعة ويكره الكفر والمعصية، وهو عدل لا يجازي نفساً إلا على كسبها لكمال علمه وخبرته.

تفسير قوله تعالى: (إن تكفروا فإن الله غني عنكم)

تفسير قوله تعالى: (إن تكفروا فإن الله غني عنكم) الحمد لله رب العالمين وأشهد لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الزمر: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الزمر:7]. في هذه الآية يذكر الله سبحانه وتعالى لعباده غناه عنهم، وعن عبادتهم، فالله هو الغني الحميد، {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [إبراهيم:19 - 20]. خلق الله الإنسان في هذه الدنيا وجعل له الاختيار: إما أن يعمل العمل الصالح، وإما أن يعمل غير ذلك. فالله خلق الإنسان وعلمه البيان، وجعل له في هذه الدنيا سبيلين كما قال سبحانه: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10]، فمن اتبع سبيل أهل السعادة كان من أهلها في الآخرة، ومن التزم طريق أهل الشقاوة كان من أهلها في الآخرة، ولا ينفع ربه بطاعته، ولا يضر ربه سبحانه تبارك وتعالى بمعصيته. فقال لعباده: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} [الزمر:7] فلو كفر العباد فلن يضروا الله سبحانه وتعالى شيئاً، وقد قال لهم في الحديث القدسي: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً. يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم؛ كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً). فلو كان جميع العباد على الطاعة لن ينفعوا ربهم بشيء، ولو كانوا كلهم على المعصية وعلى الكفر لم يضروا ربهم شيئاً، إنما ذلك راجع إلى العبد فهو الذي ينتفع بعمله، ولا يضر إلا نفسه. ولذلك في تتمة هذا الحديث القدسي يقول: (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله) أي: فالله الذي دله على الخير، والله الذي وفقه له. (ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)، فالإنسان حين يجد يوم القيامة سيئاته قد غلبت حسناته، وأنه صار من أهل النار؛ فلا يلومن إلا نفسه، فقد دله الله عز وجل على الحق فأبى إلا اتباع الباطل. قال الله تعالى لنا هنا: {إِنْ تَكْفُرُوا} [الزمر:7] أي: إن تعرضوا عن عبادة الله تبارك وتعالى، وتشركوا بالله سبحانه، ولا تشكرون ربكم، والكفر عكس الإيمان، وأصل كلمة الكفر: الستر والتغطية، فكأن الإنسان غطى على نعمة الله ولم ينسبها إليه، وجحد هذه النعمة ولم يشكرها. يقول الله تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} [الزمر:7] فهو غير محتاج لعبادتكم ولا تنفعه طاعتكم.

معنى قوله تعالى: (ولا يرضى لعباده الكفر)

معنى قوله تعالى: (ولا يرضى لعباده الكفر) الحمد لله رب العالمين وأشهد لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الزمر: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الزمر:7]. في هذه الآية يذكر الله سبحانه وتعالى لعباده غناه عنهم، وعن عبادتهم، فالله هو الغني الحميد، {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [إبراهيم:19 - 20]. خلق الله الإنسان في هذه الدنيا وجعل له الاختيار: إما أن يعمل العمل الصالح، وإما أن يعمل غير ذلك. فالله خلق الإنسان وعلمه البيان، وجعل له في هذه الدنيا سبيلين كما قال سبحانه: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10]، فمن اتبع سبيل أهل السعادة كان من أهلها في الآخرة، ومن التزم طريق أهل الشقاوة كان من أهلها في الآخرة، ولا ينفع ربه بطاعته، ولا يضر ربه سبحانه تبارك وتعالى بمعصيته. فقال لعباده: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} [الزمر:7] فلو كفر العباد فلن يضروا الله سبحانه وتعالى شيئاً، وقد قال لهم في الحديث القدسي: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً. يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم؛ كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً). فلو كان جميع العباد على الطاعة لن ينفعوا ربهم بشيء، ولو كانوا كلهم على المعصية وعلى الكفر لم يضروا ربهم شيئاً، إنما ذلك راجع إلى العبد فهو الذي ينتفع بعمله، ولا يضر إلا نفسه. ولذلك في تتمة هذا الحديث القدسي يقول: (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله) أي: فالله الذي دله على الخير، والله الذي وفقه له. (ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)، فالإنسان حين يجد يوم القيامة سيئاته قد غلبت حسناته، وأنه صار من أهل النار؛ فلا يلومن إلا نفسه، فقد دله الله عز وجل على الحق فأبى إلا اتباع الباطل. قال الله تعالى لنا هنا: {إِنْ تَكْفُرُوا} [الزمر:7] أي: إن تعرضوا عن عبادة الله تبارك وتعالى، وتشركوا بالله سبحانه، ولا تشكرون ربكم، والكفر عكس الإيمان، وأصل كلمة الكفر: الستر والتغطية، فكأن الإنسان غطى على نعمة الله ولم ينسبها إليه، وجحد هذه النعمة ولم يشكرها. يقول الله تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} [الزمر:7] فهو غير محتاج لعبادتكم ولا تنفعه طاعتكم. قال سبحانه: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7] أي: لا يحب سبحانه وتعالى الكفر، ولا يرضى من عباده أن يكفروا به. فإذا كان لا يرضى منهم ذلك؛ فإنه يحاسبهم ويعاقبهم عليه. وإذا كان الله سبحانه وتعالى لا يرضى لعباده ذلك فلم أوجد الكفر في هذه الدنيا؟ يقول سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [التغابن:2]. فالله خبير بعباده وبصير بهم، لحكمة يعلمها سبحانه أوجد العباد في هذا الكون؛ ليكون منهم المؤمنون وليكون منهم الكافرون، وليس من حق العبد أن يعترض على ربه ويقول: لم خلقت الكفر؟ فالله أعلم وأحكم. لكن بالإمكان أن نلتمس الحكم بعد التسليم، فمن ضمن الحكم: إظهار مقتضى أسمائه الحسنى وصفاته العلى، وأنه الرحمن العلي الحكيم القادر سبحانه وتعالى، وأنه المقدر لأمور عباده. فالإنسان يعلم من صفات الله سبحانه أنه على كل شيء قدير، وأنه لو شاء لهدى الناس أجمعين، وأنه يريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر، وأنه يحب منهم الإيمان، ويكره منهم الكفر والفسوق والعصيان. فهو سبحانه يحب الإيمان ومع ذلك أوجد الكفر حتى يبتلى أهل الإيمان، ويظهر إيمانهم، هل هو إيمان بالله يدفعهم للعمل الصالح، والأمر المعروف والنهي عن المنكر أم هو إيمان باللسان فقط؟ فابتلى الله المؤمن بالكافر، وابتلى المطيع بالعاصي، وابتلى أهل السعادة بأهل الشقاوة.

الفرق بين المشيئة الكونية والمشيئة الشرعية

الفرق بين المشيئة الكونية والمشيئة الشرعية قال سبحانه: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7] أي: لا يحب سبحانه وتعالى الكفر، ولا يرضى من عباده أن يكفروا به. فإذا كان لا يرضى منهم ذلك؛ فإنه يحاسبهم ويعاقبهم عليه. وإذا كان الله سبحانه وتعالى لا يرضى لعباده ذلك فلم أوجد الكفر في هذه الدنيا؟ يقول سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [التغابن:2]. فالله خبير بعباده وبصير بهم، لحكمة يعلمها سبحانه أوجد العباد في هذا الكون؛ ليكون منهم المؤمنون وليكون منهم الكافرون، وليس من حق العبد أن يعترض على ربه ويقول: لم خلقت الكفر؟ فالله أعلم وأحكم. لكن بالإمكان أن نتلمس الحكم بعد التسليم، فمن ضمن الحكم: إظهار مقتضى أسمائه الحسنى وصفاته العلى، وأنه الرحمن العلي الحكيم القادر سبحانه وتعالى، وأنه المقدر لأمور عباده. فالإنسان يعلم من صفات الله سبحانه أنه على كل شيء قدير، وأنه لو شاء لهدى الناس أجمعين، وأنه يريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر، وأنه يحب منهم الإيمان، ويكره منهم الكفر والفسوق والعصيان. فهو سبحانه يحب الإيمان ومع ذلك أوجد الكفر حتى يبتلى أهل الإيمان، ويظهر إيمانهم، هل هو إيمان بالله يدفعهم للعمل الصالح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أم هو إيمان باللسان فقط؟ فابتلى الله المؤمن بالكافر، وابتلى المطيع بالعاصي، وابتلى أهل السعادة بأهل الشقاوة.

معنى قوله تعالى: (وإن تشكروا يرضه لكم)

معنى قوله تعالى: (وإن تشكروا يرضه لكم) قال الله: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر:7] أي: يرضى ويحب من عباده أن يشكروه. فالعبد إذا شكر الله زاده، قال الله عز وجل: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]، والشكر يكون باللسان وبالقلب وبالعمل. فإذا شكر الإنسان ربه بقلبه اطلع على ذلك، وعلم أن هذا القلب قلب شاكر. والشكر باللسان، كأن يقول: الحمد لله والشكر لله، ويثني على الله عز وجل الثناء الحسن على ما أنعم به وأعطاه. والشكر بالفعل كأن يعطيه الله المال فيتصدق، يريد بذلك وجه الله سبحانه، ويعطيه القوة والقدرة فيعين غيره من أهل الحاجات ابتغاء وجه الله سبحانه. وفي قوله تعالى: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر:7] ثلاث قراءات، وأصل (يرضه) يرضاه لكم، ولكن جزمت هنا لوقوعها في جواب الشرط، فتقرأ بالاختلاس، (يرضهُ لكم)، وتقرأ بالإشباع (يَرْضَهُ لكم)، وتقرأ بالتسكين (يرضهْ لكم). والقراء على ستة أقسام في هذه القراءات الثلاث: فمنهم من يقرؤها بالاختلاس فقط، (وإن تشكروا يرضه لكم) وهذه قراءة حفص عن عاصم، وقراءة نافع، وأيضاً قراءة حمزة وكذلك قراءة يعقوب. ومعنى الاختلاس أنه لا يجعل الضمة التي على الهاء في قوله (يرضهُ) كأنها واو فلا يقول: (يرضهو لكم). ومنهم من يقرأ بالإشباع فيها وهم ابن كثير والكسائي وخلف فيقرءون (وإن تشكروا يرضهو لكم). ومنهم من يقرأ بالإسكان فقط وهذه قراءة السوسي عن أبي عمرو (يرضهْ لكم). وباقي القراء لكل منهم وجهان: إما أن يقرأ بالإسكان أو الإشباع كما هي قراءة الدوري عن أبي عمرو وقراءة ابن وردان عن أبي جعفر وابن جماز عن أبي جعفر. ومنهم من يقرأ بالإسكان وبالاختلاس وهم: هشام وشعبة عن عاصم وابن ذكوان وابن وردان عن أبي جعفر.

معنى قوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى)

معنى قوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الزمر:7] الوازرة بمعنى: الحاملة للوزر، وهذا وصف للنفس. والمعنى: أن النفس التي تحمل الإثم لا تحمل إثم نفس أخرى، فلا يأتي يوم القيامة إنسان ويقول: أنا داخل النار فهاتوا ذنوبكم وأنا أحملها عنكم. فالإنسان يحمل وزره فوق ظهره، ويسأل عن عمله: فإن كان وزره على نفسه حمل إثمه، وإن كان سن للناس السنن السيئة ففعلوا مثلما يفعل حمل إثمه وآثامهم من غير أن ينقص من آثامهم شيء. وهذا ابن آدم الذي سن للناس القتل يوم أن قتل أخاه، فتأتي كل نفس قاتلة يوم القيامة وتسأل عما فعلت وتحاسب وتعاقب على ذلك، وهو يعاقب عن عمله وفوقه مثل آثام هؤلاء الذين سن لهم ذلك. وكذلك كل من سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء. والعكس في الحسنات، فمن سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من حسناتهم شيء. وقول الله عز وجل هنا: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الزمر:7] كأنه يرد على الكفار الذين قال بعضهم لبعض: اتبعونا وسنحمل آثامكم كما قال الله تعالى عنهم: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} [العنكبوت:12] وهذا كذب، إذ إنهم يهرفون بما لا يعرفون، ويتكلمون بما لا يفهمون، فمن أمر بالمنكر فعليه إثمه وإثم فعله له. ثم قال تعالى: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزمر:7] فالمرجع إلى الله سبحانه، فينبئكم أي: يخبركم سبحانه وتعالى، والإنباء الإخبار بالغيب. فكل ما يفعله هذا الإنسان مكتوب عند الله في كتاب، ونحن نفعل الذنوب وننساها والله لا ينسى شيئاً أبداً. فإذا جاء العبد يوم القيامة أراه الله صحيفة عمله وما فيها من الحسنات والسيئات، فيخبرنا بما غاب عنا وبما فعلناه في الدنيا ونسيناه. ثم قال سبحانه: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الزمر:7] أي: هو العليم سبحانه بما خفي وما ظهر، والعليم بما دق وما عظم وما جل، والعليم بالقريب والبعيد. وقد قلنا: خلق الإنسان ويحاسبه؛ ليظهر مقتضى أسمائه الحسنى وصفاته العلى، وأنه العليم والقدير وأنه الكبير سبحانه وتعالى. يجمع الخلق جميعهم من لدن آدم إلى قيام الساعة يوم القيامة ويحاسب الجميع ولا يخفى عليه شيء. فكم من أبناء آدم يحاسبون يوم القيامة! كم من الجن ومن الشياطين من أبناء إبليس يحاسبون يومئذ! بل إنه عليم بما يختلج في صدر الإنسان مما لا يتكلم به، عليم بالنوايا، عليم بأفعال القلوب فكيف بالأفعال الظاهرة التي يفعلها الإنسان؟!

تفسير قوله تعالى: (وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه)

تفسير قوله تعالى: (وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيباً إليه) قال سبحانه: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} [الزمر:8] طبيعة عجيبة في الإنسان وهي طبيعة نسيان المنعم سبحانه وتعالى، فالعبد يعطيه الله عز وجل فيحمد الله، ثم يعطيه ثانية فيحمده، فإذا أعطاه ثالثة نسي أن يقول: الحمد لله، ولعله يكتم ذلك ولا يزال يكتم حتى يقول أمام الناس: لم يعطني ربي شيئاً، وأعطى فلاناً ولم يعطني! فتجده ينظر إلى غيره، وينسى أنه يتكلم بلسان ويمشي برجل، ينسى هذه النعم، وينظر لشيء من حطام الدنيا، فإذا أصابه ألم جأر إلى ربه بالدعاء والشكوى، وتذكر ذنوبه؛ فيرجع إلى ربه منيباً إليه. قال تعالى: {ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ} [الزمر:8] أي: ملكه وأعطاه سبحانه وتعالى، {نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} [الزمر:8] أي: نسي دعاءه السابق بعد كشف الغمة والكرب، ونسي أنه كان يوحد الله سبحانه. وكان أهل الجاهلية عندهم من ذلك العجب، إذ كانوا في وقت النعمة يشركون، ويعبدون غير الله سبحانه، ويقولون: نعبد الأصنام لتقربنا إلى الله؛ فإذا نزل بهم الضر رجعوا إلى ربهم سبحانه. ومن أمثلة ذلك: قصة عكرمة رضي الله عنه لما أن فر من النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة، وكان أبغض شيء إليه الإسلام، إذ ورث ذلك عن أبيه أبي جهل، واتجه صوب البحر، فلما ركب السفينة هاجت الأمواج، واضطرب البحر، فناداهم ربان السفينة قائلاً: يا أيها الناس! ادعوا ربكم فإنه لا ينقذكم مما أنتم فيه أحد سواه. فصكت العبارة أذن عكرمة رضي الله عنه، وبدأ يفكر فيما يعبده من الأصنام وأنها لا تنفعه في هذه المصيبة، فقال: والله لئن أنجانا الله من هذا لأرجعن إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولأضعن يدي في يده فلأجدنه رءوفاً رحيماً. وفعلاً نجاهم الله سبحانه وتعالى من الكرب، ورجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم وحسن إسلامه بعد ذلك. كان ذلك سلوك أهل الجاهلية السابقة، أما جاهلية اليوم فقد صارت أشد من الجاهلية في الماضي، ففي الماضي كانوا يدعون ربهم وقت الضر، أما الآن ففي وقت الضر يقولون: يا بدوي! يا أبا العباس! فينسى الله تبارك وتعالى، لا في وقت الرخاء يدعوه، ولا في وقت البلاء يوحده، ينسى ربه ويصرف العبادة لغير الله. وتجد كثيراً من الناس بدلاً من أن يناجي ربه يقول: يا بدوي، مدد يا فلان. ماذا يملك له فلان هذا؟! والله سبحانه الذي بيده النفع والضر يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] ولم يقل: ادعوا فلاناً، ولا ادعوا فلانة. في هذه الآية ربنا تبارك وتعالى ينعى على الإنسان ما هو فيه من جحود ونكران لنعم الله سبحانه، وأنه في وقت ضره يذكر، ووقت النعمة ينسى. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر للعباد بأن يكثروا من ذكر الله سبحانه وتعالى، وألا ينسوا ربهم سبحانه فقال: (من سره أن يستجاب له في وقت البلاء فليكثر من الدعاء في وقت الرخاء). فالإنسان إذا كان في وقت رخائه يكثر من الدعاء، ويكون صوته مسموعاً في السماء، فإذا جاءه بلاء فالله سبحانه وتعالى يكشفه عنه لكثرة ما كان يدعو قبل ذلك، فهو يدعوه في الضراء وفي السراء. أما الذي لا يذكر ربه إلا في وقت النقمة ووقت البلاء فهذا لا يستحق كشف بلائه إلا أن يتغمده الله عز وجل برحمته. فإذا أردت أن يستجيب الله لك ويكشف ما ينزل بك من الشدة فأكثر من الدعاء في وقت رخائك يستجب لك في وقت بلائك. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الزمر [8 - 9]

تفسير سورة الزمر [8 - 9] أخبر الله جل وعلا أن الإنسان بفطرته البشرية إذا مسه ضر لجأ إلى ربه بالدعاء، وجأر إليه بأصناف شتى من الأدعية، ومجرد ما أن يحصل على مبتغاه إذا به ينسى ما كان يدعو إليه من قبل، وليس هذا حال المؤمنين، فلا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون.

تفسير قوله تعالى: (وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه)

تفسير قوله تعالى: (وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيباً إليه) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الزمر: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ * أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:8 - 9]. يذكر الله تبارك وتعالى في هذه الآيات من سورة الزمر طبيعة موجودة في كل إنسان إلا من رحم الله تبارك وتعالى، وهو أنه إذا كان في وقت البلاء وفي وقت الضر يجأر إلى الله سبحانه، ويرفع يديه، ويعبد ربه سبحانه تبارك وتعالى، ويطلب منه أن يبعد عنه البلاء ويقول: يا رب يا رب! فإذا كشف الله عز وجل عنه الضر وأعطاه من نعمه سرعان ما ينسى ربه سبحانه، وينسى شكر هذه النعمة، ويستقل نعمة الله سبحانه تبارك وتعالى، وينظر إليها أنها قليلة، وينظر إلى غيره ويطمع فيما أعطى الله عز وجل غيره. قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ} [الزمر:8] أي: شيء من الضر، {دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا} [الزمر:8] أي: راجعاً إليه {ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ} [الزمر:8] أي: ملكه وأعطاه نعمة منه {نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ} [الزمر:8] أي: نسي دعاءه لربه من قبل، فنسي التوحيد ونسي دعاءه ربه سبحانه أن يكشف عنه البلاء وأشرك بالله {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} [الزمر:8]، والند هو النظير والشريك، فجعل لله شركاء يدعوهم من دون الله سبحانه تبارك وتعالى. {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} [الزمر:8]، هذه قراءة الجمهور، وقراءة ابن كثير وأبي عمرو وقراءة رويس عن يعقوب: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ}، فهي من الرباعي من (أضل) أي: أنه أضل غيره، ومن الثلاثي من (ضل) أي: ضل هو بنفسه، فهنا معنيان: ضل عن سبيل الله سبحانه تبارك وتعالى بأن دعا غير الله فصار في ضلالة، ودعا غيره إلى أن يعبدوا غير الله فأضل غيره عن عبادة الله سبحانه، فهو يضل لا يهتدي، يضل: يزيغ عن طريق الحق، ويتبع الباطل، ويضل غيره: يتسبب في إضلال الغير. قال سبحانه: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} [الزمر:8] أي: لهذا الإنسان الجاحد نعم الله عز وجل عليه، الكافر بربه سبحانه، الذي ينسى ربه في وقت رخائه، ويدعو إلى ربه في وقت بلائه: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا} [الزمر:8]، مهما تمتعت بهذا الكفر، وبهذا الذي تصنعه، وبهذا الضلال فهو قليل مهما عشت في هذه الدنيا، فتمتع قليلاً بهذا الذي أنت فيه: {إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزمر:8]، هذا الجزاء وهذه نهاية هذا الإنسان أن يكون في النار والعياذ بالله، جزاءً وفاقاً.

تفسير قوله تعالى: (أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما)

تفسير قوله تعالى: (أمّن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً) قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9]، (أمن هو) هذه الكلمة فيها قراءتان: قراءة نافع وابن كثير وحمزة: {أَمَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ}، وقراءة الجمهور: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ}، وفيها معنيان: الهمزة هنا إما بمعنى الدعاء فتكون بمعنى: يا من هو قانت آناء الليل! ساجداً وقائماً يدعو ربه، ويرجو رحمة الله عز وجل، تمتع بعبادتك الله سبحانه تبارك وتعالى في الدنيا، واستمتع بالجزاء الحسن يوم القيامة، فكأنه يقول: إن الكافر عبد غير الله وضل وأضل فقيل له: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا} [الزمر:8]، والذي هو قانت لله سبحانه، وداعٍ ربه، وساجد ومصلٍ، وعابد لله، تمتع بعبادتك فإنك من أصحاب الجنة. فهذا معنى من المعاني على قراءة (أَمَن هو)، والمعنى الآخر: (أمّن) فهي همزة الاستفهام، وكأنه يقول: هذا الكافر خير أم المؤمن؟ فكأن المعنى في قوله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9] هل هذا خير أم الإنسان الذي كفر بالله سبحانه؟ فهذا على قراءة (أمَّن). قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ} [الزمر:9]، والقانت هو المطيع الخاشع والمذعن لله سبحانه تبارك وتعالى، الذي يطيع ربه سبحانه وهو قانت قائم في صلاته. {آنَاءَ اللَّيْلِ} [الزمر:9] أي: ساعات الليل. {سَاجِدًا وَقَائِمًا} [الزمر:9] أي: يراوح بين القيام وبين السجود، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث أنه سئل عن أحب الصلاة وأفضل الصلاة فقال: (طول القنوت)، وهذا الحديث في مسند أحمد أي: طول القيام. وروى الإمام مسلم في الصحيح من حديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصلاة طول القنوت). وهذه الهيئة من أفضل الهيئات في الصلاة، وأفضل منها السجود، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في السجود: (إنه أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فحري أن يستجاب له)، والسجود أفضل وأخشع هيئة يكون عليها العبد، ولكن القيام فيه فضل بسبب الأذكار، فالسجود لا يجوز فيه قراءة القرآن فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن القراءة في الركوع وفي السجود، ولكن في القيام يجب عليك أن تقرأ فيه القرآن فصار أشرف ما يكون في القيام هو قراءة القرآن، وأفضل هيئة يكون عليها العبد السجود فذكر الله الهيئتين {سَاجِدًا وَقَائِمًا} [الزمر:9]. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقوم الليل حتى تتورم قدماه، فقيل له: لمَ تفعل ذلك؟ فقال: (أفلا أكون عبداً شكوراً)، فكان يقوم من الليل وقتاً طويلاً كما أمره الله سبحانه في قوله: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل:2 - 4]، فكان فرضاً عليه فقام قياماً طويلاً، ثم نسخت الفرضية فلم يترك القيام صلوات الله وسلامه عليه بل جعلت قرت عينه في الصلاة والتقرب إلى الله سبحانه تبارك وتعالى. وكأن من أفضل ما يكون أن تقرأ قراءة طويلة في الصلاة، وهذا إذا كنت وحدك، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم أحياناً بسورة البقرة، وسورة النساء، وسورة آل عمران، وذات مرة قام صلى الله عليه وسلم فقرأ في ركعة واحدة بسبع سور طوال من كتاب الله سبحانه تبارك وتعالى، قرأ بها صلوات الله وسلامه عليه في ليلة واحدة وهذه الهيئة ليس كل إنسان يطيقها؛ ولذلك فعلها النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة النافلة في قيام الليل، لكن في صلاته بأصحابه كان يطيل إطالة لا يشق عليهم بها صلوات الله وسلامه عليه، فيقرأ في صلاة الفجر من الستين إلى السبعين آية أو أقل من ذلك أو أكثر من ذلك صلوات الله وسلامه عليه، ويقرأ بما لا يشق على الناس. وجاء في الحديث نفسه أن رجلاً بعد أن سأله عن أفضل الصلاة قال: (أي الجهاد أفضل؟ قال: من عقر جواده، وأريق دمه) أي: جاهد في سبيل الله بنفسه، وأفضل شخص من فقد جواده وقتل في سبيل الله فهذا أفضل ما يكون، (قيل: يا رسول الله! أي الهجرة أفضل؟ فقال عليه الصلاة والسلام: من هجر ما كره الله عز وجل)، وهي الهجرة الدائمة، أما الهجرة من مكة إلى المدينة ففرضت في وقت معين، وبعد ما فتحت مكة انتهى الفرض؛ لأنه قبل الفتح كانت الهجرة من مكة إلى المدينة واجبة وفريضة على كل مسلم. فالهجرة المقصودة في الحديث هي هجرة الذنوب والمعاصي، فتهجر ما يكره الله سبحانه تبارك وتعالى. (قال الرجل: يا رسول الله! فأي المسلمين أفضل؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده)، وهذا أفضل المسلمين، الإنسان الذي يأتمنه الناس على دمائهم وعلى أعراضهم، والذي لا يخاف منه الناس، ولا يخافون بطشه وبأسه، ولا يخافون غدره وخيانته، الذي يأتمنونه فهم يسلمون من لسانه فلا يتكلم فيهم بما يسوءه ويسلمون من يده فلا يؤذيهم. (قال: يا رسول الله! ما الموجبتان؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئاً دخل النار)، فالذي يموت على التوحيد وجب له أن يدخل الجنة، هذه موجبة، والموجبة الأخرى من أشرك بالله وهذه التي تلزمه أن يكون من أهل النار والعياذ بالله.

معنى قوله تعالى: (يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه)

معنى قوله تعالى: (يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه) يقول الله سبحانه: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9]، هذه فيها زيادة على الصلاة، فالإنسان يصلي الصلوات التي كتبها الله عز وجل عليه ويزيد على ذلك النافلة وخاصة قيام الليل، فهل يستوي هذا الذي يقوم بالليل مع الذي يترك قيام الليل؟ لا يستويان أبداً. قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]، هل يستوي أهل العلم مع أهل الجهل؟ هل يستوي من هو عالم بالله بمن هو جاهل بربه سبحانه تبارك وتعالى؟ A لا، لا يستوي من علم الله سبحانه تبارك وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى علماً يحدث في قلبه خشية من الله عز وجل، والعلم المقصود هو الذي يجعل في قلب الإنسان الخوف من الله والذي يورث الخشية، لا العلم الذي يدفع الإنسان للغرور فكلما ازداد الإنسان علماً ازداد علماً بجهله، وكلما ازداد علماً ازداد تواضعاً وخوفاً وخشية من الله كما قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]. أما بعض الناس فقد يتعلم يباهي بعلمه ويجادل به السفهاء، فيضيع هذا الدين مع أهل الباطل، فهذا ليس العلم الذي يريد الله عز وجل، ولا هؤلاء الذين شرفهم وفضلهم، وإنما يفضل الله ويشرف من استفاد بهذا العلم خشية وتقوى لله سبحانه، فقيد هنا بقوله: {سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ} [الزمر:9] أي: يخاف من الآخرة، ويخاف من حساب الله سبحانه، {وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9]، وهنا يؤكد لنا الله في كتابه ما يربي عليه أهل الإيمان من الخوف من الله، والرجاء فيما عند الله سبحانه تبارك وتعالى، قال تعالى: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] أي: كانوا لنا عابدين بالخشوع لله سبحانه تبارك وتعالى، فالمؤمن يعبد ربه راجياً جنته ومع رجائه يخاف من الله سبحانه، فيكون بين الخوف والرجاء، يرجو رحمة الله، ويخاف من ذنوبه، ولو أنه عبد الله بالرجاء فإنه سيقول: إن ربنا غفور رحيم، فلا يصلي ولا يصوم ولا يفعل شيئاً من طاعة الله، بحجة إن ربنا غفور رحيم، والكثير من الناس عندما يقال له: لماذا لا تصلي؟ يقول: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45]، وأنا لا أعمل فحشاء ولا منكراً. وأي منكر أشد من تركه للصلاة! قال عليه الصلاة والسلام: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)، فالذي يقول مثل هذا الكلام إنسان جهل عبادة الله سبحانه، ومنّى نفسه بالأماني، وهو مرتكب للكبائر ومع ذلك يحسن الظن بنفسه ويقول: أنا أرجو رحمة الله سبحانه تبارك وتعالى، فإن أجل الله لآت، ربنا يخبرنا بذلك، والذي أخبرنا بالأجل أخبرنا بالجنة والنار، والذي يطيع يدخل الجنة، والذي يعصي يدخل النار، وأخبرنا عن عباده الصالحين أنهم يتقربون إلى الله: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:90]. فالعبادة تكون بالرغبة فيما عند الله فيطمع الإنسان في رحمة الله، مع الرهبة مما عند الله، فالله جعل للعبادة ركنين: ركن الخوف وركن الرجاء، تعبد ربك بهما، فمهما وقعت في الذنوب فارج رحمة الله، وعليك أن تتوب إلى الله عز وجل، أما أن يصر العبد على الذنب ويقول: أنا أرجو الرحمة، فأين الخوف من عذاب الله سبحانه تبارك وتعالى؟! قال الله عز وجل: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} [الرعد:6]، {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:165]. دخل النبي صلى الله عليه وسلم على رجل وهو يجود بنفسه في مرض الوفاة فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: (كيف تجدك؟) قال: أجدني أرجو رحمة الله، وأخاف ذنوبي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما اجتمعا في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أمنه الله مما يخاف، وأعطاه ما يرجو)، فإذا اجتمعت الرهبة والخوف في قلب العبد فإن الله يؤمنه مما يخاف، ويعطيه ما يرجو. قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] أي: هل يستوي من يعلم عن ربه سبحانه تبارك وتعالى أنه القوي العزيز سبحانه، وأنه الغفور الرحيم مع من لا يعلم ذلك؟ وهل يستوي الذي يعلم شرع الله سبحانه وهذا الدين المحكم العظيم مع من يجهل دين الله سبحانه؟ فالإنسان الذي يتكلم في الدين لا يجوز له أن يتكلم إلا بعلم من كتاب ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)، فبلغ عن النبي صلى الله عليه وسلم ولو آية، ولو حديثاً، ولو حكماً شرعياً، واحذر أن تكذب على النبي صلى الله عليه وسلم فتقول عنه ما لم يقل صلوات الله وسلامه عليه، فقد قال: (ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار). قال تعالى: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9] أي: يتذكر أصحاب القلوب السليمة، وأصحاب الفطر المستقيمة، والبصائر النيرة من أهل الإيمان الذين تنفعهم الموعظة من الله عز وجل. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الزمر الآية [10]

تفسير سورة الزمر الآية [10] يأمر الله عباده المؤمنين بالتقوى، فلا يخافون لومة لائم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الدين، والالتزام بشريعة الله، وإن وجد العبد نفسه غريباً بين المجتمع فإن له أجراً مضاعفاً عند الله سبحانه، وله مبشرات من الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهكذا عاقبة من صبر على الأذى والاستهزاء من قبل العصاة والخارجين عن دين الله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (قل يا عبادي الذين آمنوا اتقوا ربكم)

تفسير قوله تعالى: (قل يا عبادي الذين آمنوا اتقوا ربكم) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الزمر: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]. في هذه الآية من سورة الزمر يأمر الله عز وجل عباده المؤمنين بتقوى الله سبحانه تبارك وتعالى فقال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ} [الزمر:10] فالمؤمنون هنا يخاطبهم الله عز وجل بذلك، وهم أهل لذلك، والخلق كذلك كلهم مأمورون بأن يتقوا الله سبحانه، وأن يدخلوا في دينه، فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [النساء:1]، وهنا يخص المؤمنين ليبين فضلهم وفضيلتهم، فقال: {قُلْ يَا عِبَادِ} [الزمر:10] ونسبهم لنفسه سبحانه تبارك وتعالى وأضافهم إليه تشريفاً لهم، أي: يا عبادي أنا، فهم عباد الله سبحانه، وكأن غيرهم ليسوا عباده سبحانه تبارك وتعالى، والمعنى عباده الذين وحدوه، في حين أن غيرهم عبدوا الهوى والشيطان، وعبدوا الطواغيت من دون الله سبحانه. فعباد الله هم الذين آمنوا وصدقوا بما جاء من عند الله سبحانه، عرفوا ربهم فعبدوه وأخلصوا له الدين، فأمرهم أن يستقيموا على ذلك، وأن يحذروا أن يغضبوه سبحانه تبارك وتعالى. وقوله: {اتَّقُوا رَبَّكُمُ} أي: اتقوا غضب الله وعقوبته، واتقوا معاصي الله، واتقوا أن تقعوا في الفحشاء وكبائر الذنوب أو صغائرها، كل ذلك يدخل تحت قوله: {اتَّقُوا رَبَّكُمُ}. ثم وعدهم بفضله وبكرمه سبحانه فقال: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} [الزمر:10] يجازيهم الله عز وجل في الدنيا قبل الآخرة، فيعطي المحسنين في هذه الدنيا حسنة منه سبحانه، والحسنى عظيمة من الله، فيعطيهم الله عز وجل صحة وعافية، ويعطيهم أموالاً، ويعطيهم من نعمه سبحانه ما شاء. أعطاهم الإيمان وأعطاهم من فضله حسنة في الدنيا، فإذا أعطاهم في الدنيا فهي بشارة في الآخرة من أن لهم فوق ذلك بشرط الإيمان، أما الكافر فيعطيه الله عز وجل في الدنيا حتى لا يكون له عند الله عز وجل شيء، ويوم القيامة يوفيه جزاءه وعقابه وحسابه بما قدمت يداه، فكأن العطاء في الدنيا يكون حسنة لهذا المؤمن. أما الإنسان الكافر فيعطيه الله سبحانه تبارك وتعالى في الدنيا استدراجاً له، ويعطيه حتى لا يكون له عند الله شيء، قد يفعل الكافر الشيء الذي فيه إحسان كأن يحسن إلى إنسان فيتصدق عليه، وينفع إنساناً آخر، فيفعل شيئاً من الخير، فإذا فعل جازاه الله في الدنيا، وأعطاه صحة وعافية ومالاً وولداً، وأعطاه من الدنيا حتى لا يكون له عند الله شيء. فإذا جاء يوم القيامة وجد هذا الذي قدمه في الدنيا هباءً منثوراً، فقد جوزي عليه في الدنيا فليس له عند الله شيء، فيوم القيامة يعذبه الله سبحانه على كفره وجحوده وإشراكه بالله سبحانه تبارك وتعالى، فالمؤمن يأخذ الحسنة في الدنيا من فضل الله، وله يوم القيامة الجزاء الحسن.

الأمر بالهجرة عند اشتداد الأذى

الأمر بالهجرة عند اشتداد الأذى قال سبحانه: {وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} [الزمر:10] هذه إشارة إلى الهجرة؛ لأن السورة كما ذكرنا سورة مكية، وجاءت والمؤمنون في شدة وصعوبة من العيش، وفي أذى شديد من الكفار، فالله عز وجل يشير للمؤمن إشارة إلى أن يهاجر، فأرض الله واسعة، اخرجوا من هذه الأرض إلى أرض أخرى تعبدون الله فيها، فخرجوا وهاجروا إلى الحبشة بعد خمس سنوات من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لهم، فهاجروا إلى الحبشة الهجرة الأولى، ثم هاجروا مرة ثانية إلى الحبشة، ثم بعد ذلك كانت الهجرة إلى المدينة، وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم. فهذه إشارة لكل المؤمنين في كل زمان، فأرض الله واسعة، فما الذي يجعلكم تمكثون في أرض تفتنون فيها؟! فإذا كان المؤمن في أرض يجبر فيها على أن يكفر بالله سبحانه، وعلى أن يواقع الفواحش وما يغضب الله، فإن الله يأمره أن يهاجر {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء:97]، فليس للإنسان عذر أن يقول: كنت مستضعفاً طالما أنه لا يتمكن من إقامة دينه، ولا يتمكن من عبادة الله وتوحيده في المكان الذي هو فيه، فيجبر على الكفر بالله وعلى ارتكاب الفواحش، فليس له عذر أن يقول: أنا مستضعف فيها، هاجر من هذا المكان واذهب إلى مكان آخر، خذ بالأسباب حتى ينجيك الله سبحانه تبارك وتعالى في الدنيا والآخرة. الذي يمكث في أرض فيها الفتنة فيترك الصلاة والصوم وعبادة الله، ويقول: أنا مستضعف، ليس له عذر عند الله عز وجل، ليس لك عذر في ترك الصلاة ولا ممارسة الفواحش، قال صلى الله عليه وسلم: (من وجد منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)، إذا وجد منكراً هل ينكر بأن يفعل هو هذا المنكر ويقع فيه ثم يدعي أنه مستضعف في الأرض؟ لا، ليس له عذر في أن يترك صلاته وعبادته ويقول: أنا مثلي مثل الناس، وهذا مثل بعض الناس الذين يذهبون إلى بلاد الكفر فيؤذيهم أهل الكفر، وتجد المرأة في هذه البلاد كانت محجبة ومنقبة فتخلع حجابها ونقابها وتمشي بين الناس كاشفة الرأس وتقول: أنا مستضعفة! من الذي ألزمك أن تكوني بين الكفار وفي ديارهم ثم تقولين: إنني مستضعفة؟! وكذلك الرجل يقول: لو رأوني أصلي طردوني من العمل، لا ما أصلي في هذا المكان، هل عذرك أنك تترك صلاة لله سبحانه تبارك وتعالى بدعوى أنك تعمل في بلاد الكفار؟! ويقول: أنا مضطر في طبخ الخنزير وتجهيز الخمر! فما هو عذره في هذه الأشياء؟! ليس له عذر فيها، ولا يجوز له أن يمكث في ديار يفتن فيها في دينه، لم يعذره الله سبحانه تبارك وتعالى، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ} [النساء:97] يعني: ما الذي جعلكم ترتكبون المعاصي وتمكثون في هذه الأماكن التي فيها الفواحش؟ قالوا: كنا مستضعفين في الأرض، {قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:97]. واستثنى الله سبحانه فقال: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} [النساء:98]، فهنا عذر الله سبحانه تبارك وتعالى الإنسان الضعيف الذي حاول وأراد أن يخرج من بلاد الكفر، فأسروه وحبسوه وأجبروه، فهذا الذي استضعف لا يستطيع حيلة ولا يجد وسيلة للهرب، فهذا هو المضطر اضطراراً حقيقياً، أما الإنسان الذي يزعم أنه ليس قادراً على السفر، فنقول: جرب واعزم على السفر، فإذا لم تستطع كان لك العذر عند الله سبحانه.

عظم الصبر على البلاء

عظم الصبر على البلاء قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] الصابرون يوفون الأجر من الله سبحانه تبارك وتعالى، وأتى بأداة الحصر هنا كأن هؤلاء اختصهم الله سبحانه تبارك وتعالى بأن قربهم منه وأعطاهم الفضل العظيم، وابتلاهم في الدنيا فكان البلاء عليهم شديداً جداً، وعندما نقرأ في سير الصحابة والتابعين وغيرهم من الصالحين نرى كيف ابتلى الله عز وجل هؤلاء الصحابة الابتلاء العظيم، أوذوا وعذبوا في سبيل الله سبحانه تبارك وتعالى، فتمسكوا بدينهم وصبروا عليه حتى تكون لهم الآخرة، قال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]. فصبر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عيشهم في مكة عيشاً شديداً، فصبروا على الجوع حتى إنهم ليأكلون الأشياء الشديدة، وكانوا لا يجدون ما يأكلونه فيربطون الحجارة على بطونهم، وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل في مكة، وفي المدينة فعل صلوات الله وسلامه عليه. حوصروا في شعب أبي طالب ثلاث سنوات لا يأتيهم أحد من خارجهم بطعام، ولا يمكن أن يتزوج منهم إنسان من مكة من غير المؤمنين، فضيقوا عليهم أشد التضييق، وصبر المؤمنون مع النبي صلوات الله وسلامه عليه على دين الله رب العالمين عندما ابتلاهم الله سبحانه بالأذى من هؤلاء الكفار. فكانوا يأخذون بلالاً فيسحلونه على الأرض ويجرجرونه على ظهره على الأرض في حر الظهيرة، في درجة حرارة تجاوزت ستين درجة مئوية في صيف مكة المتقد الصعب الشديد، يجرجرونه على الأرض ويضعون فوق صدره الصخرة العظيمة وهو يقول: أحد أحد، لا يفتن عن دينه رضي الله تبارك وتعالى عنه، ويصبر على ذلك أعظم الصبر. وآل ياسر يمر بهم النبي صلى الله عليه وسلم ويقول لهم: (صبراً آل ياسر؛ فإن موعدكم الجنة)، يعذبون ويعلقون، وتقتل سمية أم عمار، يطعنها أبو جهل بحربة في قبلها فيقتلها لعنة الله عليه، فتكون شهيدة رضي الله تبارك وتعالى عنها، ولا يقدر النبي صلى الله عليه وسلم أن يخلصهم من هؤلاء فيمر بهم ويصبرهم ويقول: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة). وهذا رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اسمه خباب رضي الله تبارك وتعالى عنه، كانوا يلقونه على جمر على ظهره، فلا يطفأ هذا الجمر إلا ودك ظهره رضي الله تبارك وتعالى عنه، يفعلون به هذا الفعل البشع حتى إنه يكاد أن تزهق روحه في ذلك ويصبر على أمر الله سبحانه تبارك وتعالى. صبروا لأمر الله فنجاهم الله سبحانه تبارك وتعالى مما كانوا فيه من الأذى حتى فتح الله عز وجل للمؤمنين الفتح العظيم، وجاء نصر الله، وبشر الله سبحانه تبارك وتعالى هؤلاء المهاجرين المجاهدين في سبيل الله بالأجر العظيم، قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]، الصابرون لا يوفون إلا هذا الأجر من الله سبحانه تبارك وتعالى، ولا يعطون إلا ما يليق بالله عز وجل أن يعطيه لهم، فيوفون أجرهم بغير حساب، فيعطى الإنسان الحسنة بعشر أمثالها، والآخر الحسنة بسبعمائة، وهذا يدخل الجنة بدون حساب، خذ ما شئت، فيعطي الله عز وجل لهذا الصابر الأجر بغير حساب. والصابرون ذكرهم الله عز وجل في كتابه سبحانه، ومدحهم جل وعلا، ومن أعظم ما يعطيهم أن يعطيهم الأجر بغير حساب ولا نهاية، وكذلك يكون موقفهم بين يدي الله عز وجل يسيراً، فصبروا على الجوع والأذى، وصبروا على هذه الدنيا، فإذا أتوا يوم القيامة وقيل لهم: نحاسبكم، قالوا: علام نحاسب؟ لم تعطنا مالاً فتحاسبنا عليه، وقد ابتلينا في كذا وكذا فيقال لهم: ادخلوا الجنة، فلا يقفون مع الناس موقفاً طويلاً، ولكن حساباً يسيراً، ويدخلون إلى جنة الله سبحانه تبارك وتعالى، نسأل الله أن يجعلنا من أهلها. روى الحاكم وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما رزق عبد خيراً له ولا أوسع من الصبر)، إن الله سبحانه تبارك وتعالى يعطي العبد العطاء منه سبحانه، فمن أعظم ما يعطاه العبد الصبر، فيصبر، والصبر أنواع، يصبر على طاعة الله فلا يزال مستقيماً على صلاته وصيامه، وعلى كل عبادة الله سبحانه تبارك وتعالى. كذلك يصبر على ترك المعاصي، لا تفعل كذا لا تفعل كذا فيبتلى، وتأتيه الأشياء من الدنيا أمام عينيه لينظر إليها فيغض طرفه ولا ينظر إليها، ولا ينظر إلى ما حرم الله سبحانه تبارك وتعالى، ولا يمد يده ولا لسانه ولا شيئاً إلى ما حرم الله سبحانه تبارك وتعالى، فهذا من فضل الله عز وجل عليه. كذلك يصبر على قضاء الله وقدره إذا نزل به البلاء، فيصبر ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون. هؤلاء هم الذين مدحهم الله بقوله: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] وقال: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35]، فهؤلاء الصابرون لهم هذا الأجر والفضل من الله عز وجل أولاً وآخراً، فهو الذي مدحهم سبحانه تبارك وتعالى بإيمانهم، وهو الذي وفقهم لهذا الإيمان. فيكون الإيمان فضلاً من الله وهبة منه سبحانه، أن هدى الشخص إلى الهدى والإيمان، ثم رزقه الصبر سبحانه، ثم ابتلاه فصبر بما رزقه الله، ثم أعطاه الجنة فضلاً من الله ونعمة منه، (ما رزق عبد خيراً له ولا أوسع من الصبر). كذلك جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن من ورائكم أيام الصبر للمتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليه أجر خمسين منكم، قالوا: يا نبي الله! أو منهم؟ قال: بل منكم)، انظر! يقول لأصحابه: سيأتي بعدكم أيام الصبر، وكأنه قال هذا الشيء بعدما فتح الله عز وجل لأصحابه شيئاً من الدنيا، فأخبرهم أنه ستأتي أيام أخر أشد فتناً مما أنتم فيه، وهذه الأيام يخبر فيها النبي صلى الله عليه وسلم أن المتمسك فيها بدينه له أجر كبير، فقال: (المتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليه) الصحابة متمسكون بالكتاب والسنة، متمسكون بأمر الله وبعبادة الله سبحانه، كذلك من يتابعهم في ذلك ويتمسك بأمر الله عز وجل له أجر خمسين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كما في هذا الحديث. وفي حديث آخر عند الطبراني من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: (له أجر خمسين شهيداً)، بشارة من الله عز وجل على لسان النبي صلى الله عليه وسلم لكل مؤمن يتمسك بدين الله سبحانه تبارك وتعالى في وقت غربة هذا الدين، وفي وقت كل الناس على غير دين الله سبحانه تبارك وتعالى. حتى من يقول: أنا مسلم ينكر على الإنسان المتمسك بدينه، ويستهزئ به، يقول: أنا مسلم وأنا أصلي وأنا كذا، ويسخر منك لأنك لك لحية، ويسخر منك لأنك تلبس ما كان يلبسه النبي صلى الله عليه وسلم من قميص وثياب، فيسخر من المؤمن، فلا يجد من يعينه على طاعة الله، بل يجد من يصده ويمنعه عن طاعة الله. فهذا المؤمن كالقابض على الجمر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فله أجر خمسين شهيداً)، وهذا مما يطمئن المؤمن أن يجد نفسه غريباً، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (طوبى للغرباء) تجد المرأة المؤمنة من حولها يسخرون منها ويقولون: ما هذا النقاب الذي تلبسينه؟ تلبسين خيمة؟ تسوي مثل العفريت؟! فيسخرون منها، فتجد نفسها في غربة بين الناس، فتطمئن بذلك، وتطمئن بذكر الله، وتطمئن بوعد الله، وتثق فيما قال الله سبحانه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] فيفرح الإنسان المؤمن أن يكون له من الأجور كأجر خمسين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكأجر خمسين شهيداً، وتكون له الجنة بغير حساب، فاصبروا على أمر دينكم وتمسكوا به، وإياكم والفتن والبدع! واحذروا من الأهواء، والمؤمن يلزم طريق الهدى ولا يضره قلة السالكين، ويحذر من طرق الضلالة ولا يغتر بكثرة الهالكين. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الزمر [10 - 13]

تفسير سورة الزمر [10 - 13] أعظم ما أمر الله به التوحيد، وأعظم ما نهى عنه الشرك، والإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد، والخلوص من الشرك وأهله، والانقياد لله بالطاعة، وقد أمر الله بهذه الأمور في سورة الزمر.

تفسير قوله تعالى: (قل يا عبادي الذين آمنوا اتقوا ربكم)

تفسير قوله تعالى: (قل يا عبادي الذين آمنوا اتقوا ربكم) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الزمر: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ * قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الزمر:10 - 13]. أمر الله سبحانه تبارك وتعالى نبيه صلوات الله وسلامه عليه أن يقول للمؤمنين الذين آمنوا وصدقوا بما جاء من عند ربهم أن يتمسكوا بتقوى الله سبحانه تبارك وتعالى، فقال: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ} [الزمر:10]، فالله عز وجل ينادي عباده المؤمنين، وهو في القرآن قد يخاطب المؤمنين وقد يخاطب المؤمنين والكفار، وإذا خاطب الجميع قال: يا أيها الناس! وإذا خاطب المؤمنين قال: يا أيها الذين آمنوا! والسور المكية غالباً ما ينادي فيها الجميع ليدخلوا في دين الله سبحانه تبارك وتعالى، ولكنه يخص المؤمنين الذين صدقوا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه وآمنوا بما جاء من عند الله سبحانه، فيقول: يا عبادي! فيشرفهم بإضافتهم إليه سبحانه كقوله في سورة الفرقان: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]. فيناديهم: أن اتقوا ربكم، فقد آمنوا وصدقوا الرسول صلى الله عليه وسلم، وفعلوا ما أمر الله عز وجل به، فيقول لهم: تمسكوا بذلك، ولا يزالون على ذلك حتى يلقوا ربهم سبحانه. قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} [الزمر:10] وهذه بشارة من الله سبحانه للمحسنين، والمحسن هو الذي يعبد الله كأنه يراه، وهو الذي يعلم أن الله يجازيه ويحاسبه، فللذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة، فالله عز وجل يعطيهم الحسنة في هذه الدنيا فضلاً عما يعطيهم يوم القيامة من الحسنى وزيادة قال عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، فيكون لهم في الدنيا حسنة وهي ما ينعم الله عز وجل عليهم ويتفضل بأن يرزقهم وأن يعافيهم وأن ينصرهم وأن يكون معهم سبحانه تبارك وتعالى، فيعطيهم المال ويعطيهم الأولاد ويوفقهم للعمل الصالح، وهذه حسنة الدنيا، وأما حسنة الآخرة فهي الإحسان العظيم من الله سبحانه. قال تعالى: {وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} [الزمر:10]، وهذه إشارة إلى الهجرة، فإن هذه السورة مكية، فقد نزلت والمؤمنون يؤذون وينالون من الشدة والضنك والعذاب من الكفار ما لا يعلمه إلا الله سبحانه، فيخبرهم أن أرض الله واسعة ويقول لهم: هاجروا من هذا المكان. قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] فالذين صبروا على الأذى والذين صبروا على الطاعة، والذين صبروا عن معاصي الله سبحانه يوفون أجورهم من الله، ويعطيهم أجوراً عظيمة لا نهاية لها، فالإنسان يعطى على الحسنة بعشر أمثالها، والصابرون يوفون بغير حساب وبغير نهاية فيعطيهم عطاءً غير مجذوذ وغير منقطع فضلاً منه سبحانه. وذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن الصابرين الذين يتمسكون بدينهم وما يكون لهم من الأجر، وأنه قد يبلغ أجر أحدهم أجر خمسين من أصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه، وليس معنى ذلك أنه أفضل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فأفضل القرون هم قرن النبي صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (خير القرون قرني) فلا أحد خير من هؤلاء الأفاضل رضي الله عنهم، ولكن هؤلاء الذين جاءوا بعد ذلك ولم يجدوا على الخير معيناً فالله سيعطيهم أجوراً عظيمة حتى يدركوا السابقين برحمة الله سبحانه تبارك وتعالى، قال الله: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:10 - 14] أي: جماعات كثيرة من الأولين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان، وقلة من الآخرين الذين صبروا على طاعة الله سبحانه فضاعف لهم الأجور ليلحقوا بالسابقين، وأعطى للواحد منهم على صبره أجر خمسين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ليبلغ الدرجات ولا يحرمه الله عز وجل من رفقة هؤلاء عند الله سبحانه. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (لا تسبوا أصحابي فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) فلو أن إنساناً منا أنفق كقدر جبل أحد ذهباً وأنفق صحابي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مداً أي ملء الكفين أو نصيفه أي ملء كف واحدة فقط كان ما ينفقه الصحابي أعظم مما ينفقه من بعده، فقد وصلوا لدرجات عالية عند الله، ولولا ما لهم من فضيلة لما اختصهم الله عز وجل بنبيه صلى الله عليه وسلم أن يكونوا في قرنه ويكونوا معه، فالذين من بعدهم يرحمهم الله سبحانه تبارك وتعالى ويضاعف لهم الأجور؛ لأنه بعمل أحدهم مستحيل أن يصل إلى ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم، فيضاعف الله له فيعطي أجر الخمسين منهم وأجر الخمسين شهيداً حتى يبلغ منازل هؤلاء فيكرمه الله عز وجل بأن يلحقه بهم. ومن الأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الإيمان: الصبر والسماحة) وهذا الحديث في مسند الإمام أحمد من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، جاء عند ابن أبي شيبة من حديث جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أن أعظم خصال الإيمان الصبر والسماحة، فالإنسان المؤمن الذي صدق بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابع دين الله سبحانه، من خصائصه أنه صابرٌ لأمر الله سبحانه، فهو مطيع يفعل ما يؤمر ولو ناله من المشقة ما ناله، فإنه يفعل ما أمر الله سبحانه وما أمر النبي صلوات الله وسلامه عليه، فهو وقاف عند كتاب الله وعند حدود الله، تنزل به البلايا والمصائب فيصبر على ذلك، فمن أهم خصال المؤمن المصدق بما جاء من عند الله سبحانه أنه صابر على أمر الله سبحانه، والأمر الثاني: السماحة والبذل، فيبذل ويعطي من إحسانه ومن خلقه ومن طيبة نفسه فيعين غيره بما يقدر عليه ولو ببشاشة الوجه وبتبسمه في وجه أخيه المؤمن، فمن خصال الإيمان بل من أعظم خصاله الصبر والسماحة. كذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد من حديث محمود بن لبيد قال: (إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن صبر فله الصبر، ومن جزع فله الجزع) وهنا علامة إيمان الإنسان أنه يصبر على أمر الله سبحانه، ومن علامة حب الله عز وجل للعبد أن يبتليه الله سبحانه تبارك وتعالى، فيبتلى الرجل على قدر دينه، وأشد الناس ابتلاءً الأنبياء ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على قدر دينه فإن كان في دينه صلابة وقوة زيد له من البلاء، وإن كان في دينه قلة ورقة خفف الله عز وجل له من البلاء. فابتلى أنبياءه وابتلى الرسل عليهم الصلاة والسلام وابتلى المؤمنين لينظر أيهم أحسن عملاً، (فمن صبر فله الصبر) يعني له جزاء صبره، (ومن جزع) أي: من البلاء بالنفور والاعتراض على أمر الله سبحانه تبارك وتعالى فله الجزع، ولم يحصل في دنياه سوى الخوف من البلاء والمصائب فكان أن يبتلى يوم القيامة بالعذاب والعياذ بالله. فالإنسان المؤمن إذا نزلت به البلية تصبر لأمر الله كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200]، فيصبر لأمر الله سبحانه، ولعله لا يقدر فيصابر نفسه ويجاهدها على أن تصبر ويرضى بأمر الله سبحانه تبارك وتعالى: (وإنما الصبر عند الصدمة الأولى)، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، والذي يصبر تنزل عليه المعونة من الله سبحانه تبارك وتعالى، فربنا كريم يبتلي عباده فإن صبروا جاء العون منه سبحانه تبارك وتعالى، وما على العبد إلا الأخذ بالأسباب، والعون من الله. وصح الحديث عن النبي صلوات الله وسلامه عليه قال: (إن الله تعالى ينزل المعونة على قدر المئونة، وينزل الصبر على قدر البلاء) ولعل الإنسان حين يتخيل أنه لو حصلت مصيبة كذا ما أحد سيصبر على ذلك، فتحدث ويصبّر الله عز وجل من يشاء، فيتعجب الإنسان بصبر إنسان ما على ذلك، فالله عز وجل بفضله وبكرمه هو الذي يعين على هذا الأمر فيتجلد المؤمن ويصبر لأمر الله، فإن الصبر ينزل من عند الله على قلب المؤمن فيتسلى بأمر الله سبحانه تبارك وتعالى، ويتصبر على أمره، والله ينزل الصبر على قدر البلاء. فالمطلوب من الإنسان أنه إذا نزل به أمر الله سبحانه: أن يتجلد وأن يتصبر وأن يقول كما علمه الله سبحانه: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:156 - 157]، فإذا صبر المؤمن على قضاء الله إذا بالمعونة تأتيه من عند الله والتجلد والصبر ينزل عليه ويعطيه الله عز وجل المغفرة والرحمة ويعطيه الهداية فيهديه في الدنيا وفي الآخرة. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (إن النصر مع الصبر، وإن الفرج مع الكر

تفسير قوله تعالى: (قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين)

تفسير قوله تعالى: (قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين) يقول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر:11]. هذه قراءة الجمهور، وقرأها نافع وأبو جعفر: ((قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ))، والنبي صلى الله عليه وسلم مأمور أن يعبد الله سبحانه، وأتباع النبي صلى الله عليه وسلم، ومأمورون أيضاً بما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم ومأمورين كذلك بالإخلاص لله، وتوجيه العبادة لله وحده، وألا يشركوا بالله شيئاً، وألا يراءوا وألا يسمعوا، وألا يظهروا للناس شيئاً يبتغون من الناس مدحاً على هذا الذي يظهرونه من عبادة الله. فالنبي صلى الله عليه وسلم وجه إلى الله العبادة وحده لا شريك له، وأخلص لله فتوجه بقلبه ووجهه وبدنه ونفسه لله سبحانه تبارك وتعالى. قال تعالى: {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} [الزمر:12] هو أول المؤمنين وأول المسلمين في هذه الأمة صلوات الله وسلامه عليه، وهنا النبي صلى الله عليه وسلم تابع من قبله من أنبياء الله ورسله عليه الصلاة والسلام، فهو أول من أسلم نفسه ووجهه لله سبحانه وأخلص قلبه وآمن بربه سبحانه في هذه الأمة.

تفسير قوله تعالى: (قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم)

تفسير قوله تعالى: (قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم) قال تعالى: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الزمر:13] أيضاً هذه قراءة الجمهور، وقرأها نافع وأبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو: ((قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)) وحاشا له أن يقع في معصية الله صلوات الله وسلامه عليه. وهذه سورة من السور المكية التي يهتم ربنا سبحانه تبارك وتعالى في الآيات التي فيها بتربية المؤمنين على طاعة الله سبحانه وعلى العمل الصالح وعلى الإخلاص لله سبحانه تبارك وتعالى، فهنا ينبهنا إلى أن هذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام:15] أي: يخاف من عذاب يوم القيامة، وظل هذا الأمر إلى أن هاجر إلى المدينة وإلى أن أنزل الله عز وجل عليه في سورة الفتح: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:2]، وهذه كانت في الحديبية في ذي القعدة من السنة السادسة من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم. وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهو لا يدري ما الذي يكون معه ومع غيره إلى أن أنزل الله عز وجل عليه في يوم الحديبية: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} [الفتح:1 - 3]، فجاء الفتح من عند الله سبحانه، مع أن المؤمنين كانوا خارجين من الحديبية على أنهم مهزومون وعلى أنهم مأخوذ عليهم الشروط الثقيلة، وعمر وغيره يسألون النبي صلى الله عليه وسلم: أو فتح هو؟ فيقول عليه الصلاة والسلام: نعم إنه فتح. وكان من أعظم الفتح على النبي صلى الله عليه وسلم، فما فتح على الإسلام من خير إلا بفضل الله عز وجل ثم بما حدث في هذا اليوم فرجع المؤمنون وحدث التواصل بين أهل المدينة وبين أهل مكة، فدخل في دين الله في خلال سنتين أكثر مما دخل فيه قبل ذلك بكثير، فتعرف المشركون على دين الله سبحانه، ولم يزل يهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويأتي إليه حتى إنه في يوم الحديبية كان عدد المؤمنين مع النبي صلى الله عليه وسلم ألفاً وخمسمائة، وفي فتح مكة كانوا عشرة آلاف فكان الفتح بعد ذلك، وبشره الله بأن يغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وأن يتم عليه النعمة، فأتم عليه النعمة وأكمل له هذا الدين العظيم، فلما كمل الدين توفي النبي صلوات الله وسلامه عليه. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عباده المؤمنين. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الزمر [11 - 16]

تفسير سورة الزمر [11 - 16] يأمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم وأمته أن يخلصوا العبادة لله تعالى، والمؤمن لابد أن يحب الله ويخافه، ويحب الجنة ويسأل الله إياها، ويخاف من النار ويتعوذ بالله منها، فالخاسر من دخل النار فخسر ما كان معه في الدنيا وخسر الآخرة، وقد ذكّر الله الناس بالنار وحال أهلها تخويفاً لعباده لعلهم يتقونه سبحانه ويتقون النار.

تفسير قوله تعالى: (قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين)

تفسير قوله تعالى: (قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الزمر: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} [الزمر:11 - 16]. يأمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلوات الله وسلامه عليه في هذه الآية أن يخبر الخلق بأنه مأمور صلوات الله وسلامه عليه بعبادة الله وحده لا شريك، وبذلك بعث صلوات الله وسلامه عليه، بعث ليعبد الله وليأمر الخلق بعبادة الله سبحانه، وهي دعوة كل رسل الله وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام، يدعون إلى عبادة الله، وإلى الإخلاص في العبادة، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]، وقال تعالى في سورة الزمر: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر:11]. وأمر الله عز وجل الأنبياء والرسل أن يقولوا لقومهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، فالله الإله الواحد الذي يستحق العبادة وحده لا شريك له، ولا إله حق سواه سبحانه وتعالى. فقوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر:11] أي: أعبد الله موجهاً له عبادتي وحده لا شريك له، والإخلاص: التنقية، أي: تنقية الشيء من الشوائب وتصفيته، والأخلص: هو العسل الذي نقيته وصفيته مما به من شوائب وكدرات، فكذلك العبادة توجهها لله سبحانه وحده لا شريك له، ولا يكون فيها شوائب شرك بالله سبحانه، وليس فيها رياء ولا سمعة، وليس فيها عمل يبتغى به الأجر من غير الله، أو عمل يقصد به الله وغير الله، ولكن العمل لا يقصد به إلا الله وحده لا شريك له، هذا هو الإخلاص الذي لا تقبل عبادة بدونه.

أركان العبادة

أركان العبادة العبادة لها ركنان ترتكز عليهما: الركن الأول: الإخلاص في عبادتك، فالعبادة تخرج من قلبك، وتوجهها إلى ربك سبحانه وتعالى، والركن الثاني في العبادة: المتابعة للنبي صلوات الله وسلامه عليه. والإخلاص بغير متابعة لا يصح، والمتابعة بغير إخلاص لا تصح، فالعمل يحتاج إلى ركنين: إخلاص ومتابعة، فتخلص لله سبحانه، ولا تعبد إلا الله سبحانه، ولا تعمل العمل إلا له سبحانه، ولا تبتغي الأجر إلا منه سبحانه وتعالى، وهذا العمل لا بد أن يكون موافقاً لهذه الشريعة حتى تؤجر عليه، فالإخلاص بغير متابعة يوقع العبد في الاختراع في الدين والابتداع، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)، ويقول: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) أي: مردود عليه. فلو أن الإنسان قال: أنا مخلص، وأنا أحب الله، وأعبده، لكن سأعبد الله بما أريده أنا، وأصلي بالطريقة التي تعجبني، وأصوم بالطريقة التي تعجبني، وكأنه يشرع لنفسه، فإن الله يأبى إلا أن يكون له سبحانه الأمر كما أن له الخلق سبحانه، قال تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]، فهو الذي يخلق سبحانه وتعالى، وهو الذي يأمر سبحانه، وهو الذي يشرع، ولا يجوز لعبد أن يشرع لنفسه ولا لغيره، ولكن الشريعة لله سبحانه، هو الذي يشرع لعباده وهو أعلم بخلقه، وأعلم بما تستقيم به أمور الخلق، فيشرع لهم ما ينفعهم سبحانه وتعالى. إذاً: العبادة لا بد فيها من أن تتابع هذا الدين، وأن تخلص لله سبحانه وتعالى فيه، حتى تقبل هذه العبادة، فبدأ بنبيه صلى الله عليه وسلم وقال: قل لهؤلاء جميعهم: {إِنِّي أُمِرْتُ} [الزمر:11]، وهذه قراءة الجمهور، أما قراءة نافع وأبي جعفر: (قل إنيَ أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين). والدين لها معان، الدين بمعنى: الشريعة، وبمعنى: العبادة، وبمعنى: الجزاء والحساب، فالدين هنا بمعنى: شريعة الله سبحانه فيما شرع من عبادة، فأعبد ربي مخلصاً له عبادتي، وقال الله تعالى: (وَأُمِرْتُ)، فهو ليس من عند نفسه، بل أمره الله عز وجل بذلك، قال تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:7]، صلوات الله وسلامه عليه، فالله الذي هداه، والله الذي اصطفاه واجتباه، والله الذي علمه ورباه سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (وأمرت لأن أكون أول المسلمين)

تفسير قوله تعالى: (وأمرت لأن أكون أول المسلمين) قال الله تعالى: {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} [الزمر:12] أي: من هذه الأمة صلوات الله وسلامه عليه؛ لأن الأنبياء والرسل من قبله قد أمروا أن يكونوا من المسلمين فكانوا، وكان آدم على دين رب العالمين، وأسلم نفسه لرب العالمين سبحانه. وكان نوح مسلماً كما قال تعالى عنه: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:72]، كذلك موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس:84]، وكذلك المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام والحواريون، قال تعالى: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:52]. فدين الله هو دين الإسلام، ودين الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، والشريعة التي جاءت من عند الله سبحانه أن اعبدوا الله حتى وإن كان الاختلاف بينهم عليهم الصلاة والسلام في أمور تشريع الله عز وجل لهم، وفي الفقه وفي الدين، فالله عز وجل يفعل ما يشاء. ولكن الدين الذي يتعبدون به لله الإخلاص والتوحيد، فهما شرع كل الرسل، فالخضوع لله والقنوت لله، والإذعان لله، والمتابعة لما يأمر الله عز وجل به، واجتناب ما نهى الله عز وجل عنه، كل أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام مأمورون بذلك، وهو الإسلام: أن يسلم العبد نفسه لله، فيحكم الله عز وجل فيه بما يشاء سبحانه وتعالى، وأن يوجه العبد عبادته لله وحده لا شريك له. قال تعالى: {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} [الزمر:12] صلوات الله وسلامه عليه، فأول المسلمين في هذا العصر هو محمد صلوات الله وسلامه عليه، وهو أول من أسلم لرب العالمين سبحانه وتعالى، وقبله أنبياء ومرسلون في العصور السابقة مسلمون، ولكن هو أول هذه الأمة إسلاماً صلوات الله وسلامه عليه.

تفسير قوله تعالى: (قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم)

تفسير قوله تعالى: (قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم) قال الله تعالى: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الزمر:13]، هذه قراءة الجمهور، وقراءة نافع وأبي جعفر وابن كثير وأبي عمرو: (قل إنيَ أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم)، فهو صلى الله عليه وسلم مأمور بأن يقول ذلك، وأن يعبر عما أحدث الله عز وجل في قلبه من خوف من الله سبحانه، ومن رهبة منه سبحانه، والعبادة على هذين الأمرين: أمر الرغبة والرهبة. إذاً: للعبادة ركنان: الإخلاص والمتابعة، وللعبادة وصفان: أن يكون الإنسان يرغب فيما عند الله، ويرهب مما عند الله سبحانه وتعالى، ولذلك وصف أنبياءه ورسله الكرام عليهم الصلاة والسلام بقوله تعالى: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:90]. فمن يزعم أن أفضل الدين أن يعبد الله بالرهبة فقط، أي: بالخوف من الله فقد كذب، ومن زعم أن أفضل الذين أن يعبد ربه بالرغبة فقط فقد كذب، إنما دين الله يكون بين الأمرين، وهذا خير العبادة، لا كما يزعم فلان أو فلانة وتقول القائلة من هؤلاء: يا رب! إن كنت أعبدك خوفاً من نارك فأحرقني بها، وإن كنت أعبدك طمعاً في جنتك فاحرمني منها. فلماذا تعبد الله سبحانه وتعالى وهي لا تريد جنة ولا هي خائفة من النار؟! هذا لا يكون، وكأن هذه تزعم أنها أرقى وأعلى من مراتب الأنبياء والرسل الذين قال الله عز وجل فيهم عليهم الصلاة والسلام: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:90]، وقال عن نبيه سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الزمر:13]، فهو يخاف من عذاب يوم القيامة صلوات الله وسلامه عليه. فيدعو النبي صلى الله عليه وسلم ربه سبحانه خائفاً من الله، وكم تعوذ بالله من النار، وكم سأل ربه الجنة، فجاء الرجل الذي كان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: (إني أدعو في الصلاة أسأل الله الجنة، وأتعوذ بالله من النار، ولا أدري ما دندنتك ولا دندنة معاذ) يعني: أنت تقول كلاماً كثيراً في الدعاء لا أعرف أن أقوله، ومعاذ كذلك يقول كلاماً كثيراً وأنا لا أعرف هذا الكلام، ولكن أقول: يا رب! أسألك الجنة وأخاف من النار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (حولها ندندن)، فلابد أن نخاف من النار فنتعوذ بالله من النار، ونحب الجنة، فنسأل الله عز وجل جنته. فالإنسان لا يبالغ في دعوى المحبة لله عز وجل حتى يكون في النهاية زنديقاً والعياذ بالله، خارجاً عن دين الله، فلا يصح أن يقول الإنسان لربه: أنا لا أخاف من نارك، أنا لا أريد جنتك، أنا أحبك فقط، هذا لا يكون أبداً؛ لأن العبادة التي تكون لله لا بد أن يكون فيها كمال الحب لله، مع كمال الذل لله سبحانه وتعالى، وهذا لا يكون إلا لله وحده لا شريك له، وقد يكون في الدنيا الإنسان يحب إنساناً فيبالغ في محبته، يحب زوجته ويحب إنساناً أو إنسانة فيبالغ في ذلك، ولكن هو لا يخاف منها، فهذه ليست عبادة، هذه محبة. وقد يخاف إنسان من حاكم ظالم، يرعب من ذكر اسمه، ولكنه لا يحبه، أما مع الرب سبحانه وتعالى لا بد من الاثنين: كمال الحب لله عز وجل، مع كمال الذل بين يديه، والخوف منه سبحانه وتعالى. قال تعالى: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الزمر:13] أي: يوم القيامة نسأل الله العفو والعافية.

تفسير قوله تعالى: (قل الله أعبد مخلصا له ديني)

تفسير قوله تعالى: (قل الله أعبد مخلصاً له ديني) قال الله تعالى: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} [الزمر:14]، انظر التوجيه ليبث العقيدة ويثبتها في القلوب، بدأ بنبيه صلى الله عليه وسلم، هذا حاله صلى الله عليه وسلم، وهو من هو؟! فكيف بغيره؟! فكل إنسان يحتاج إلى أن ينقي قلبه من الشرك بالله سبحانه، وأن يوجه عبادته لله سبحانه، وأن يحب الله سبحانه، وأن يخاف منه سبحانه وتعالى، وأن يتابع دينه سبحانه كتاباً وسنة، وأن يخلص له سبحانه وتعالى. قوله تعالى: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} [الزمر:14] الأصل: قل: أعبد الله، ويتقدم الفعل على الفاعل والمفعول، أي: أعبد أنا الله، ولكن حين يقدم المفعول على الفعل، فهذا لمزيد التأكيد والاختصاص، والمعنى: الله وحده لا شريك له، فلو قال: أعبد الله، فقد يحتمل الكلام أنه يعبده ويعبد غيره، فلمزيد من التأكيد يقول: إياك نعبد وحدك يا رب، لا أعبد أحداً غيرك، فقوله: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ} قدم لفظ الجلالة وموقعه هنا المفعول، فقدمه على الفعل وعلى الفاعل للاختصاص والتأكيد على أمر التوكيد، أي: أنا أعبد الله وحده لا شريك له، وكلامه لا يحتمل غير ذلك، فلا يحتمل شركاً بالله سبحانه، أو أن يعبد الله ويعبد غيره سبحانه وتعالى. فقوله تعالى: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا} [الزمر:14] أي: موجهاً عبادتي له وحده سبحانه، وقوله: {مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} أي: عبادتي، وطاعتي، وتقربي، أتقرب إليه وحده لا شريك له.

تفسير قوله تعالى: (فاعبدوا ما شئتم من دونه)

تفسير قوله تعالى: (فاعبدوا ما شئتم من دونه) قال الله تعالى: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر:15]، وليس الأمر هنا أمر إباحة ولا طلب، ولكن أمر تهديد ووعيد، كقوله سبحانه: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت:40] أي: إنه بما تعملون عليم سبحانه وتعالى وخبير، فالله بصير بالعباد، وعليم وبصير بهم، فهو يقول لهم: اعملوا ما شئتم، سنجازيكم أشد الجزاء، وأشد العقوبة، فكذلك قوله هنا: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ} [الزمر:15]، ليس معناه: إباحة، والذي يريد أن يعبد شيئاً يعبده، ليس معناه كذلك، وكذلك قوله سبحانه: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6]، ليس معناه: كونوا مثلما أنتم على هذا الدين الباطل، فدينكم لكم وأنتم تجازون عليه، ولكم أجر من الله عليه، ليس معناه ذلك، ولكن المعنى: ديني يختص بي، فلي الجزاء عند الله سبحانه، والتوحيد أنتفع أنا به، وأنتم في شرككم، لا تنتفعون بما أنتم عليه طالما أصررتم على ذلكم، فجزاؤكم عليكم بسبب كفركم، وبسبب اتخاذكم غير الله أنداداً وشركاء، فدينكم وشؤم ما أنتم عليه من عبادة غير الله يختص بكم، فالجزاء عليكم يوم القيامة. وقوله تعالى: {وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6] أي: الدين القيم الذي أُثاب عليه، وعليكم وبال شؤمكم فيما اتبعتم من باطل وشرك بالله سبحانه وتعالى. فقال تعالى: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ} فالأمر هنا للتهديد والتوبيخ لهؤلاء فيما يعبدون من دون الله. قوله تعالى: (فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ) هذه قراءة الجمهور، وقرأها: (ما شيتم) الأصبهاني عن ورش، وأبو جعفر وأبو عمرو أيضاً بخلفه ويقف عليها حمزة هكذا: (فاعبدوا ما شيتم).

معنى قوله تعالى: (قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم)

معنى قوله تعالى: (قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم) قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:15]، فقوله تعالى: (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ) أي: الهالكين، وقوله تعالى: (الَّذِينَ خَسِرُوا) أي: الخسران الحقيقي، فالتاجر في الدنيا يقول: أنا خسرت في تجارتي ألف جنيه، هذا خسران، والثاني يقول: أنا خسرت ألفين، أنا أشد منك، والثالث كذا، والرابع يقول: أنا خسرت كل شيء، فإذا كان هذا في الدنيا، فكيف بالذي خسر الآخرة كلها، وليس له أي ثواب على ما فعل في الدنيا؟! هؤلاء هم الخاسرون الخسران العظيم، هلكوا يوم القيامة فكانوا من أهل النار، هذا هو الخسران الحقيقي؛ إذ خسر نفسه، وخسر ماله، وخسر أهله، فقد كان هذا الرجل الكافر في الدنيا له أهل وبنون وزوجة ومال، له في الدنيا ما له من أعمال ومن أنصار، فلما جاء يوم القيامة لم يضع منه هؤلاء فقط، بل ضاعت منه نفسه وخسرها، والإنسان في الدنيا يحتاج للمال ويحتاج للأولاد ويحتاج للأفراد الذين معه من أجل أن يتقوى بهم ويتعزز بهم، فيفتخر ويقول: عندي مال، وعندي أهل، وعندي كذا، فيخسر ويفقد ذلك من لحظة موته، فيضيع الذي يموت وينتهي أمره، إذ إن الأهل والأولاد تركوه فصار في القبر وحده، فإذا به يوم القيامة يؤمر أن يدخل النار، قال تعالى: {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [الطور:14]، فخسر نفسه التي كان يفديها بأي شيء، فكان من أهل النار. فقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:15] أي: خسراناً حقيقاً، خسراناً لا نجاح بعده. وقوله تعالى: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:15] أي: في الدنيا كان له الأهل والولد، فيستمتع بذلك، قال الله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:46]، فلما دخلوا النار خسروا هؤلاء، فليس له زوجة يستمتع بها في النار، وإذا كانت زوجته كافرة مثله فهي في النار وهو في النار، لا ينتفع أحدهما بالآخر. كذلك ما من مخلوق يخلقه الله عز وجل من هؤلاء البشر إلا وله منزلان: منزل في الجنة ومنزل في النار، مؤمناً كان أو كافراً، فيخلق الله عز وجل هذا المنزل هذا وهذا المنزل، فإذا حرم هذا الإنسان من الجنة يزاد له في عذابه فيقال له: انظر أين كنت ستكون! هذا منزلك في الجنة لو أنك عبدت الله سبحانه وتعالى، فهذا أشد ما يكون على نفسه، إذ ينظر إلى القصر وإلى الحور العين، كل ذلك خسره، وهذا الخسران المبين، قال تعالى: {أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر:15]، فخسر ما كان سيكون له من أهل لو أنه عبد الله سبحانه وتعالى، خسر نفسه وخسر هذه الجنة وخسر الأهل فيها، فكان في النار وحيداً لا أهل له يستمتع بهم فيها، ولا شيء يرفع عنه العذاب ولا يخفف عنه. وقوله تعالى: {خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ} [الزمر:15] هذه قراءة الجمهور، وقراءة يعقوب (وأهليهُمْ). {أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر:15] أي: الخسران المبين المفصح عن نفسه، المبين لحال صاحبه، تقول: بان الأمر، يبين الأمر، بين الأمر، فهو بين هذا الأمر، بين يعني: واضح جلي. إذاً: هو الخسران الجلي الذي لا يستطيع أحد أن يقول: هذه ليست خسارة، ففي الدنيا خسران في مكان، ونجاح في مكان آخر، لكن هذا خسران لا نجاح فيه ولا ربح بعده، قال تعالى: {أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر:15]، خسرانهم يبينه ربهم سبحانه أنهم دخلوا النار.

تفسير قوله تعالى: (لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظل)

تفسير قوله تعالى: (لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظل) قال تعالى: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر:16]، لهم من جهنم مهاد، ومن فوقهم غواش، فالمهاد نار والعياذ بالله، ولحافه الذي يغشى به ويتغطى به نار والعياذ بالله. والنار دركات بعضها أسفل من بعض، فهذه نار لهم من فوقهم كالظلل، أي: طبقات من نار، ومن تحتهم النار كذلك طبقات، بعضها فوق بعض، فهم في دركاتها، هذا أسفل، وهذا أسفل منه، وهذا أسفل منه. قال تعالى: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر:16] أي: أغشية وطبقات من النار، ومن تحتهم ظلل، وذلك العذاب الرهيب الأليم يخوف الله به عباده، قال تعالى: {ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ} [الزمر:16]، فالله يريد من عباده أن يخافوا منه سبحانه، وحتى يخافوا من الله ويحدث لهم الرهبة في قلوبهم قال: {يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} [الزمر:16]، ينادي الله عز وجل على عباده: اتقون، خافوني، ارهبوني، اخشوا يوم القيامة، احذروا الوقوع في الشرك، ومعاصي الله سبحانه وتعالى. وقوله: (يَا عِبَادِ) قرأها رويس في حالة الوقف والوصل: (يا عبادي فاتقون). وقوله: (فَاتَّقُونِ) يقرؤها يعقوب: (فاتقوني) إذا وقف عليها، وإذا وصلها. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الزمر [17 - 18]

تفسير سورة الزمر [17 - 18] مدح الله المؤمنين الأبرار الذين اجتنبوا عبادة الطاغوت وكفروا به، ووصفهم سبحانه بأنهم يستمعون الكلام فيتبعون أحسنه، وهو الموافق لكتاب الله سبحانه وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فكان جزاء هؤلاء المؤمنين أن هداهم الله إلى الحق، وذكر أنهم أولو الألباب وأصحاب العقول السليمة.

تفسير قوله تعالى: (والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها)

تفسير قوله تعالى: (والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الزمر: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ} [الزمر:17]. أخبر الله سبحانه وتعالى عن حال الكفار وعبادتهم غير الله سبحانه وتعالى، فاستحقوا الخسران المبين يوم القيامة، فخسروا أنفسهم وأهليهم، ودخلوا النار فكانوا وحدهم فيها، لا أهل لهم، لا مال لهم، لا ولد لهم، فقد خسروا كل شيء، خسروا حتى أنفسهم، فذلك هو الخسران المبين. والنار كما ذكرنا دركات بعضها أسفل بعض، قال تعالى: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر:16]، فوقهم أطباق من النار، وتحتهم أطباق من النار، ووصف الله عز وجل هذه النار بأنها الحطمة التي يحطم بعضها بعضاً، وأنها نار السعير الملتهبة المشتعلة، {الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ} [الهمزة:7 - 8]، فهذه نار جهنم موصدة عليهم، ولو كانت مفتوحة ما قدروا أن يهربوا منها، ولكن زيادة في التنكيد والتنكيل والعذاب قال: {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} [الهمزة:8 - 9] أي: هناك عمد ممددة على أبوابها فلا تفتح لهم أبوابها أبداً والعياذ بالله. ثم بعد ذلك أخبر الله عن المؤمنين وحالهم في الدنيا فقال: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى} القرآن يرهب ويرغب، ويخوف ويطمئن، وينذر ويبشر، فلما أخبر عن حال الكفار أهل النار أخبر عن حال المؤمنين الأبرار الذين اجتنبوا عبادة غير الله سبحانه، اجتنبوا عبادة الطاغوت، وكفروا بالطاغوت كما أمرهم الله سبحانه، قال: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:256].

حقيقة الطاغوت ومعانيه

حقيقة الطاغوت ومعانيه الطاغوت في الأصل من الطغيان، والطغيان هو مجاوزة الحد، والطاغوت المخلوق هو الذي يجاوز حده فيدعي لنفسه ما ليس له، فيدعي أنه يستحق أن يعبد من دون الله، أو أن يعبد مع الله سبحانه، أو أنه يعلم ما لا يعلمه إلا من علم الغيب ونحو ذلك، فعلى ذلك يدخل في الطاغوت كل إنسان تمرد على طاعة الله سبحانه، وطغى وجاوز حده، وزعم أنه يستحق أن يعبد من دون الله كفرعون وغيره ممن زعم أنه للناس رب، فقال فرعون: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، فكان طاغوتاً لعنة الله عليه. كذلك النمرود زعم للناس أنه الرب وأنه يحيي ويميت فكان طاغوتاً. إذاً: الطاغوت هو كل من عبد من دون الله، أو ادعى لنفسه أنه يستحق أن يعبد وأنه إله أو أنه رب، كذلك الطاغوت كل من كان رأساً في الضلالة، فهذا هو الطاغوت، ولذلك أخبر الله سبحانه عن المنافقين الذين يزعمون الإيمان ومع ذلك يتحاكمون إلى الطاغوت: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:60] أي: هؤلاء أناس من المنافقين زعموا أنهم آمنوا بالله وباليوم الآخر، فلما اختلف بعضهم مع بعض اليهود في أمر من أمور الدنيا وفي حطام من حطام الدنيا، إذا باليهودي كان على حق فيريد أن يتحاكم للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يعلم أنه لا يقبل رشوة صلوات الله وسلامه عليه، ولا يحكم إلا بالحق عليه الصلاة والسلام، لكن هذا المنافق الذي يزعم أنه مسلم يأبى ويطلب من اليهودي أن يذهب معه إلى الضليل كعب بن الأشرف وهو رجل من كبار اليهود، يأكل السحت ويأكل الرشوة، فطلب المنافق من اليهودي أن يتحاكما إلى هذا الطاغوت، ولما يسأل المنافقون عن ذلك تجدهم يتعللون فيقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: نحن خشينا أن نرهقك بأسئلتنا، وأن نشق عليك، ففضحهم الله سبحانه بأنهم كذبوا، وأنهم ما أرادوا ذلك إلا لكون هذا الكافر الضليل كعب بن الأشرف يحكم بالباطل، ويأكل الرشوة على الحكم، فمن أكل الرشوة على الحكم كان داخلاً تحت هذا المسمى الطاغوت. إذاً: من كان كبيراً في قومه يدعوهم إلى الضلالة والبعد عن الله فهو طاغوت. والطاغوت يطلق أيضاً على الأصنام التي صنعوها وعبدوها من دون الله. والطاغوت يطلق على الشيطان؛ لأنهم عبدوا الشيطان من دون الله سبحانه. كذلك الطاغوت يطلق على الكهنة والعرافين؛ لأنهم يزعمون أنهم يعلمون الغيب من دون الله سبحانه وتعالى، أو أن الله أطلعهم على أشياء من الغيب، فيخبرون أنهم علموا كذا وسيحدث كذا، والشيء المسروق في المكان الفلاني، فهؤلاء من الطواغيت. والطاغوت يطلق على مردة أهل الكتاب الكبار منهم الذين يدعون إلى عبادة غير الله سبحانه وتعالى. وعموماً يطلق هذا اللفظ على كل مجاوز لحدَّه في معصية الله سبحانه وتعالى، وفي الطغيان، وفي الكفر.

حال المؤمنين مع الطاغوت بكل أنواعه

حال المؤمنين مع الطاغوت بكل أنواعه قوله: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ} أي: المؤمنون ابتعدوا عن هؤلاء ولم يعبدوا إلا الله سبحانه؛ لأنهم لم يغرهم الشيطان فلم يتبعوه، ولم يعبدوا وثناً من دون الله، ولم يتابعوا الكفار في الأرض وإنما اتبعوا دين الله سبحانه، ولم يشرعوا للخلق خلاف ما أنزل الله سبحانه وتعالى، وأيضاً كل من شرع عبادة أو حكماً بغير ما أنزل الله سبحانه وتعالى فهو طاغوت. قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ} [الزمر:17] رجعوا إلى ربهم سبحانه، {لَهُمُ الْبُشْرَى} [الزمر:17] أي: يبشرهم الله سبحانه وتعالى وهم في الدنيا بأن لهم عند الله المنزلة العظيمة والمنزلة الحسنة، وأن لهم الحسنى وزيادة، لهم جنة الله سبحانه التي أخبر عنها في كتابه، والتي بشر بها المؤمنين فقال: {فَبَشِّرْ عِبَادِ}. قوله: {فَبَشِّرْ عِبَادِ} يقف عليها يعقوب: ((فبشر عبادي)) بالياء، وكذلك إذا وصلها يقول: ((فبشر عبادي))، وكذلك السوسي عن أبي عمرو له أربعة وجوه في هذه الكلمة، فهو إما أنه يقف عليها بالياء ((فبشر عبادي)) فإذا وصل فيصلها بالكسرة فقط فيقول: (فبشر عبادِ)، وإما أنه في الحالين كـ يعقوب هذا وجه آخر له، وإما أنه في الحالين على عدم الياء فيقول: {فَبَشِّرْ عِبَادِ} في حال الوقف والوصل، ولكن على قراءة السوسي تكون الياء مفتوحة فيها (فَبَشِّرْ عِبَادِيَ).

تفسير قوله تعالى: (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه)

تفسير قوله تعالى: (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:18]، القول هو الكتاب والسنة، وهذا هو أحسن القول، قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23]، فالمؤمنون يستمعون أحسن القول وهو ما جاء في القرآن وما جاء في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، أما ما عدا ذلك من الكلام فلا يتبعونه، فهم يتبعون أحسن القول، وأحسن الحديث. ويقول ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية: هو الرجل يسمع الحسن والقبيح فيتبع الحسن ويترك القبيح، أو يتحدث بالحسن ويترك القبيح، هؤلاء سمعوا كلام الله وكلام رسول الله صلى فاتبعوه, وسمعوا من دعاهم إلى الضلال فلم يتبعوه.

علاقة هداية الناس وإضلالهم بالقضاء والقدر

علاقة هداية الناس وإضلالهم بالقضاء والقدر قوله: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ)) أي: هداهم الله للإيمان، وهذا أمر الله سبحانه وتعالى الذي يؤكده في قلوب المؤمنين أن الهدى هدى الله سبحانه، وأنه منة من الله أن يمن على المؤمنين بالهدى، يهدي من يشاء بفضله، ويضل من يشاء بعدله. والله له التقدير سبحانه فهو يقدر ما يشاء، خلق عباده وأمرهم أن يؤمنوا بالقضاء والقدر، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ويؤكد على هذا المعنى في السور المكية، وأيضاً في السورة المدنية، ولكن أكثر ما يكون في السور المكية، وأصول الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقضاء والقدر. فقضاء الله وقدره يؤكد على المؤمن أن يؤمن به، ولا شيء يكون في ملك الله لا يريده الله سبحانه، ولكن يوجد في ملك الله ما لا يحبه الله، فإذا ذكر أنه لا يريد كذا ولا يحبه وكان هذا الشيء موجوداً في ملكه فهو من الإرادة الكونية، فهذا الكافر يوجد في ملك الله، والله لا يحب الكافر ولكن أوجده الله لحكمة منه سبحانه وتعالى، بخلاف المشيئة فإنه لا يكون إلا ما شاءه سبحانه. إذاً: يؤكد الله على المؤمن الإيمان بالقضاء والقدر، فيؤمن أن كل شيء يجري في كون الله بقضاء الله سبحانه، ولذلك لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الأعمال: هل نحن نعمل في شيء قد فرغ منه أو في شيء نستقبله؟ فأخبر أنه قد جرى في قضاء الله وقدره أن فلاناً في الجنة وفلاناً في النار، وفلاناً شقياً وفلاناً سعيداً، فقالوا: لم العمل طالما أنه مكتوب؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له). كأنه منعهم من الجدل في أمر القضاء والقدر؛ لأنه امتحان من الله سبحانه، هل تؤمن أو لا تؤمن؟ الله عز وجل يخبرك عن الجنة ويخبرك على النار، ولم يخاطب عقلك بأن تبحث عن الجنة ولا أن تبحث عن النار، وإنما أمرك أن تؤمن بذلك، وأخبر عن السماوات السبع، وعن كرسيه سبحانه، وعن عرش الرحمن سبحانه، وأنه الرحمن على العرش استوى، وأمرنا أن نؤمن بذلك ولم نر الله سبحانه، قال عن المؤمنين: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:3]، فالمؤمن يؤمن بالله، والله غيب سبحانه، وهذا الإيمان أن تؤمن بالغيب الذي أخبرك الله عز وجل به، تؤمن بملائكة الله، والملائكة غيب لم تر الملائكة، تؤمن باليوم الآخر، تؤمن برسل الله السابقين على النبي صلى الله عليه وسلم، وتصدق النبي صلى الله عليه وسلم وتتابعه عليه الصلاة والسلام، وأنت لم تر هؤلاء الأنبياء السابقين، ولم تر النبي صلى الله عليه وسلم إنما رآه من كانوا معه، وإنما أنت عرفت معجزاته، وأعظم المعجزات التي أتى بها صلى الله عليه وسلم هذا القرآن العظيم الذي أعجز الخلق ولا يزال يعجزهم إلى يوم القيامة، فالله نزل الكتاب فرأيت الإعجاز في هذا الكتاب، ورأيت الصدق من النبي صلوات الله وسلامه عليه، فأنت مأمور أن تتفكر في ذلك، وأن تنظر في ذلك، هل هو نبي أو ليس نبياً؟ كل نبي لا بد أن يدعو إلى دين ومعه معجزة تؤيده، ومعجزته صلى الله عليه وسلم هذا الكتاب العظيم القرآن، فإذا عرفت أنه صادق وأنه حق انقطع الأمر عند ذلك، أما أن كل شيء من الغيب يريد العبد أنه يتفكر فيه بعقله فلا؛ لأنا لم نؤمر بهذا الشيء، ولذا كان غيباً، ولو شاء الله لجعله شهادة، ولو جعله شهادة لآمن كل الخلق، ولم يكن منهم المؤمن ولا الكافر، ولو أن الله سبحانه أطلعنا على الجنة لما تركها أحد أبداً، ولو أن الله أطلعنا على النار لما أراد أحد أن يدخلها أبداً، ولكن الله أخفى ذلك، وأمر العباد بأن يعبدوه، وجعل الجنة محفوفة بالمكاره، والنار بالشهوات، وابتلى العباد، فهل يؤمنون أم يكفرون؟ وقد علم الله سبحانه من منهم سيؤمن ومن منهم سيكفر، وقضى وكتب عنده كل شيء، وأمرنا أن نؤمن بأنه قدر الأشياء فأحكمها سبحانه وتعالى، ولا يكون في ملكه إلا ما يريد. قال لنا سبحانه: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ)) أي: هدى الله المؤمنين منه سبحانه، فعلى المؤمن أن يستشعر ذلك، فأنت حين تقوم من نومك في وقت الفجر تتوضأ للصلاة وتذهب إلى بيت الله وتصلي، وغيرك من الناس نائم لا يبالي بالصلاة، أليس من كرم الله سبحانه وتعالى عليك أن أيقظك دون غيرك، ومن فضل الله عليك أن من عليك فهداك فجئت إلى بيت الله فصليت، فأخذت أجر الجماعة، فكان لك من الله الأجر العظيم؟ هذا توفيق من الله وهدى من الله سبحانه وتعالى. فالمؤمن حين يسمع كلام الله عز وجل وحين يستمع إلى آيات قضاء الله وقدره، وحين يرى نفسه قد وفقه الله للطاعة؛ يحمد ربه سبحانه وتعالى على ذلك، ولا يجادل، وكونك صليت وغيرك لم يصل هذا قضاء الله سبحانه وتعالى، أنت وهو أمرتما أن تأخذا بالأسباب، فأنت أخذت بالأسباب فقمت، وهو لم يأخذ بالأسباب، وعلم الله ما في قلبه فلم يوفقه لذلك، والله يحكم ما يشاء سبحانه وتعالى. إذاً: علينا أن نؤمن بالقضاء والقدر الذي يؤكده الله عز وجل في كل كتابه، فكل شيء عنده بمقدار، ويقول لنا هنا: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ)) أي: من عليهم بالهدى سبحانه، ((وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ)) أي: أصحاب العقول السليمة المستقيمة، أصحاب البصائر. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الزمر [15 - 20]

تفسير سورة الزمر [15 - 20] وعد الله من اجتنب عبادة الطاغوت وأناب إلى الله فعبده وحده واتقاه بالجنة، وقد أعد الله فيها لعباده المتقين ما لم يخطر على بال أحد، وقد وصفها الله في كتابه بما يرغب العباد فيها، ويجعلهم يشمرون إليها.

تفسير قوله تعالى: (والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها)

تفسير قوله تعالى: (والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الزمر: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ * أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَنْ فِي النَّارِ * لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} [الزمر:17 - 20]. أخبر الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات عن حال المشركين الذين اتبعوا الباطل وعبدوا غير الله سبحانه، وأخبر عن المؤمنين الذين اجتنبوا الطاغوت وعبدوا ربهم وحده لا شريك له، فأما من عبد غير الله سبحانه وأشرك بالله سبحانه فقد قال لهم ربنا سبحانه: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر:15]. فالذين عبدوا غير الله سبحانه، فأشركوا بالله واتبعوا الهوى، واتبعوا الشيطان، واتبعوا الطواغيت من دون الله سبحانه؛ فربنا سبحانه يخبر عن حالهم يوم القيامة فيقول: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} [الزمر:16]، فهي نار مؤصدة مشتعلة يحطم بعضها بعضاً، وأهلها فيها ومن فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل، من تحتهم مهاد من النار ومن فوقهم غواش تغشيهم من ألحفة النار والعياذ بالله. وهم في النار لا يخرجون منها فقد سبقت فيهم كلمة الله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس:96]، فكفروا بربهم وأشركوا به فاستحقوا العذاب، وأما المؤمنون الذين اجتنبوا الطاغوت، واجتنبوا أن يتبعوا الشيطان، واجتنبوا أن يتبعوا كل مارد عاتٍ عن أمر الله سبحانه، وكل غاو مضل؛ فهؤلاء لهم من فضل الله سبحانه تبارك وتعالى البشرى، قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ} [الزمر:17]. والطاغوت هو من طغى وجاوز حده، فكل ظالم جاوز حده فهو الطاغوت، إذا كان يدعو إلى نفسه فيزعم أنه رب البشر كما زعم فرعون والنمرود، أو زعم أن من حقه أن يشرع للخلق ما لم ينزل الله عز وجل به سلطاناً، أو زعم أنه يعلم الغيب من دون الله سبحانه أو مع الله سبحانه أو أن الله أطلعه على الغيب ولم يكن نبياً ولا رسولاً؛ فهؤلاء الطواغيت الذين كذبوا على الله وافتروا فاستحقوا العذاب. فالذين اجتنبوا الطواغيت أن يعبدوها وأنابوا إلى ربهم، فرجعوا منيبين إليه طائعين مخبتين؛ لهم البشرى، يبشرهم الله بجنته سبحانه تبارك وتعالى. قال {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر:17 - 18] وقد ذكرنا أن يعقوب يقرؤها وقفاً ووصلاً (فبشر عبادي)، والسوسي يقرؤها في الحالين بالياء أو بدون الياء.

تفسير قوله تعالى: (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه)

تفسير قوله تعالى: (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) قال الله عز وجل في المؤمنين: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:18] يستمعون الكلام فينتقون أطايب الكلام، وأطيب الكلام كلام رب العالمين، وكلام النبي الأمين صلوات الله وسلامه عليه، فهم يستمعون القول فيأخذون أحسن الحديث وهو كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتبعونه ويعملون به. {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ} [الزمر:18] هداهم: من عليهم بالهدى سبحانه، والهدى هدى الله يهدي به من يشاء من عباده، فالله يهدي جميع عباده بمعنى يدلهم على الطريق كما قال: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10]، فدل على طريق الخير وبين طريق الشر، اتبعوا هذا واجتنبوا هذا. والمؤمن يزيده الله سبحانه هدى من عنده وتوفيقاً للعمل الصالح، فالله يؤيد المؤمن فيأخذ بما أمره الله عز وجل، وأما الكافر وأما المنافق وأما الفاجر فيخذله الله سبحانه تبارك وتعالى، وقد دله ولكنه اتبع هواه فحق عليه كلمة الله فكان من الخاسرين، قال الله في المؤمنين: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ} [الزمر:18] دلهم ووفقهم سبحانه وحولهم من ضلال إلى خير.

تفسير قوله تعالى: (أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار)

تفسير قوله تعالى: (أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار) قال الله سبحانه عن أهل الباطل: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} [الزمر:19] استحقوا العذاب، فالله عز وجل أعلم بخلقه، خلق هؤلاء إلى الجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، وهؤلاء إلى النار وبعمل أهل النار يعملون، فالله أعلم بمن يستحق الجنة من عباده فيوفقه إلى طريقها، وأعلم بمن يستحق النار من عباده فيخذله عن طريق الجنة، ولا يوفقه لطريقها. قال سبحانه: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} [الزمر:19] كأنه يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: أفمن حق عليه كلمة العذاب فاستحق أن يدخل النار هل تنقذه أنت؟ لا يقدر النبي صلى الله عليه وسلم أن ينقذ أحداً، قال له الله عز وجل في القرآن مبيناً وظيفته: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران:144]، صلوات الله وسلامه عليه {أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا} [آل عمران:144]. إذاً النبي صلى الله عليه وسلم ليس إلا رسول من عند رب العالمين، هو بشر يدعو إلى ربه صلوات الله وسلامه عليه، قال الله: {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ * إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [فاطر:23 - 24]، فهو بشير يبشر من يعمل الصالحات بالجنة، ونذير ينذر ويرهب ويخوف من عمل غير الصالحات، ومن أشرك بالله؛ فيخوفه بالنار، فهو رسول من رب العالمين عليه الصلاة والسلام، وهو بشير ونذير صلوات الله وسلامه عليه. أمره ربه سبحانه أن يدل الناس على الخير وأخبر أنه يهدي عليه الصلاة والسلام فقال: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]، وأخبره أنه لا يقدر أن يحول أحداً من شيء إلى شيء إلا بإذن الله فقال: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56]، إذاً فهو يهدي عليه الصلاة والسلام بمعنى يدل، {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] أي: تدل فتقول للناس: هذا طريق الجنة اعملوا كذا ولا تعملوا كذا، وأنت لا تهدي بمعنى لا تقدر أن تهدي إنساناً قد أشقاه الله سبحانه، فالذي يحول القلوب هو الله سبحانه تبارك وتعالى، فلا يملك النبي صلى الله عليه وسلم أن يغير قلب إنسان؛ ولذلك قال للأقرع بن حابس لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً! فقال: أو أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟)، فهو لا يملك أن يدخل رحمة في قلب إنسان أو أن يخرجها من قلب إنسان، إنما الذي يملك ذلك الله سبحانه، لكن هو يقدر على أن يدله ويرشده صلوات الله وسلامه عليه كما نقول: هذا رجل يهدي في الطريق، فالنبي صلى الله عليه وسلم يهدي بمعنى يدل عليه الصلاة والسلام، أما الذي يهدي بمعنى يحول ويغير فهو الله سبحانه، ولا يملك ذلك أحد إلا الله، وهذا معنى قولك: لا حول ولا قوة إلا بالله، فهذه الكلمة كنز من كنوز الجنة، ومعناها لا حيلة لأحد ولا قوة لأحد ولا قدرة لأحد أن يغير شيئاً إلى شيء إلا أن يعينه الله سبحانه تبارك وتعالى، ففيها التبري من الحول والقوة، فكأن الإنسان يقول: أنا يا رب لا أملك شيئاً، أنت تملك كل شيء، أنت الذي توفق إلى الخير وأنت الذي تعين عليه. {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} [الزمر:19] و A لا يقدر النبي صلوات الله وسلامه عليه أن ينقذ من في النار، إنما الذي يدخل العباد الجنة أو النار الله سبحانه تبارك وتعالى، بالتوفيق للإيمان أو بالخذلان عن ذلك إلى المعاصي والكفر والطغيان.

تفسير قوله تعالى: (لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية)

تفسير قوله تعالى: (لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية) قال الله سبحانه: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ} [الزمر:20] كلام الله عظيم، والقرآن الكريم يجعل العبد بين أمرين بين الترغيب والترهيب، بين الحب لله سبحانه والخوف من الله سبحانه تبارك وتعالى، بين الطمع فيما عند الله سبحانه وبين الخوف مما عند الله، ذكر الله أهل النار وأخبر أن من فوقهم ظللاً من النار ومن تحتهم ظلل، وأنهم في دركات من النار تغطيهم نار وأسفلهم نار والعياذ بالله، ثم ذكر أهل الجنة حتى لا ييئس الإنسان من رحمة رب العالمين سبحانه، فأهل الجنة في نعيم مقيم قال الله: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} [الزمر:20] و (لكن) هنا ليست استدراكاً، فالاستدراك لابد أن يكون قبله نفي نحو: ما جاءني زيد لكن جاءني عمر، فتنفي شيئاً وتثبت شيئاً آخر، أما (لكن) لكن هنا فللتغيير من قصة إلى قصة، من ذكر شيء إلى ذكر شيء آخر، فلذلك لم يسبقها نفي. وقوله: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ} [الزمر:20] الغرفة بمعنى المكان العالي المرتفع، والغرفة في بيت الإنسان أعلى البيت وأشرف المكان، هذا أصل كلمة الغرفة، فهي المكان المرتفع الذي يأوي إليه الإنسان ويحبه ويكون أشرف الأماكن عنده. فالمؤمنون في غرف في علالي، بعضها أعلى من بعض كما أن الكفار في دركات بعضها أسفل من بعض، قال الله: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ} [الزمر:20] وهي أعالي الجنات {مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ} [الزمر:20] فذكر الغرف وهي العالية وفي أعلى منها أيضاً في الجنة للمؤمنين {غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ} [الزمر:20] بناها ربنا سبحانه تبارك وتعالى، جعلها لبنة من ذهب ولبنة من فضة، وجعل فيها الأنهار، وجعل حصباءها المسك الأذفر، وجعل فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، فهي غرف مبنية، يقول ابن عباس: من زبرجد وياقوت، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، وغرف يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها)، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم خيمة في الجنة طولها خمسون ميلاً من درة مجوفة، وهذه للمؤمن من ضمن خيماته ومن ضمن قصوره، سميت خيمة ولكن حقيقتها أنها جوهرة مجوفة طويله، فهذه خيمة لمؤمن في الجنة! نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل جنته. قال الله سبحانه: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنهار} [الزمر:20] أي من تحت أشجارها، ففي الجنة أشجار عالية، وتجري من تحتها الأنهار، كأنه يريد صورة التنزه في الدنيا، ففي الجنة سترى ما تشتهيه، وتتنزه في الجنة، وتنظر إلى ما يذكره الله سبحانه تبارك وتعالى، وأنهار الجنة ذكرها الله سبحانه فقال: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد:15]. جاء في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم)، فأهل الجنة درجة فوقها درجة، درجة فوقها درجة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يقال لقارئ القرآن) أي: الذي يحفظ القرآن (اقرأ وارتق فإن لك بكل آية درجة في الجنة) فكل آية يصعد بها درجة في الجنة، منازل بعضها فوق بعض حتى يصل إلى أعلى المنازل، وهي منازل من يحفظ القرآن كله، ويعمل بما أمر الله عز وجل فيه ويجتنب ما نهى الله عز وجل عنه. فأهل الجنة الذين تحت ينظرون إلى أهل الغرف، كما تنظر أنت إلى الكوكب الغابر في السماء، كما تنظر إلى نجم بعيد في السماء، تنظر إليه وتتشوق إليه، وترفع بصرك، كذلك أهل الجنة ينظرون إلى أهل الغرفات كما ينظر أحدكم إلى كوكب عال في السماء. (قالوا: يا رسول الله! تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم، فقال: بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين)، فكل مؤمن صدق الرسول صلوات الله وسلامه عليه وعمل بذلك يستحق أن يكون من أهلها. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الزمر الآية [20]

تفسير سورة الزمر الآية [20] وصف الله ما أعد لعباده المؤمنين في الجنة ليرغبهم فيها، ويزهدهم في هذه الدنيا الفانية، فذكر أن لهم غرفاً من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار، والله لا يخلف الميعاد.

تفسير قوله تعالى: (لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية)

تفسير قوله تعالى: (لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية) الحمد لله رب العالمين، وأشهد لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الزمر: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ} [الزمر:20 - 21]. يخبرنا الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات وما قبلها عن حال المؤمنين يوم القيامة وعن نعيمهم في الجنة، وعن حال الكفار وما يعذبون به في النار، فأما الكفار فهم في طبقات جهنم ودركاتها، {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف:41] لهم عذاب أليم عند الله سبحانه وتعالى جزاءً بما كانوا يعملون. أما المؤمنون فهم الذين اتقوا ربهم فخافوا من الله في الدنيا، وخافوا أن يغضبوا ربهم سبحانه، واتقوا عذاب الله وعقوبته، فأطاعوا ربهم بكل وجه من وجوه الخير والإحسان، وعبدوا الله وهم مستيقنون أنه ربهم سبحانه، وأنه يجازيهم على الإحسان في عبادتهم بالحسنى وزيادة، فكان لهم من الله الغرف التي جعلها في جنته، والغرف أعالي الجنات، قال تعالى: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ} [الزمر:20]، ولابد وأن تكون الغرفة مبنية ولكن لتمييزها عن غيرها فهي مبنية لبنة من ذهب ولبنة من فضة، ومن زبرجد ومن ياقوت وأشياء لم يعهدها الإنسان ولم يرها، حيث يكون له قصر مبني من ذهب، أو مبني من لؤلؤ أو خيمة من لؤلؤة مجوفة، فهذا من نعيم الجنة. فيذكر الله أنها مبنية، والذي بناها لهم ربهم سبحانه وتعالى، وجهزها لهم وجعلها جنات عاليات، نسأل الله أن يجعلنا من أهلها.

معنى قوله تعالى: (تجري من تحتها الأنهار)

معنى قوله تعالى: (تجري من تحتها الأنهار) قال تعالى: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا} [الزمر:20] أي في أرضها ومن تحت أشجارها، فتجري أنهار الماء الذي لا يأسن أبداً، والذي لا ينتن، فماء الدنيا ينتن لو وقف، لذلك يحتاج أن يجري ويصب في البحر ثم يتبخر ثم يرجع إلى أصله وينزل من السماء على أعالي الأرض ويجري، فبجريان الماء لا يتعفن، أما ماء الجنة فلا يحتاج إلى ذلك فهو غير آسن، لا يأسن أبداً ولا يتكدر ولا يعتليه ما يعتلي ماء الدنيا من قذر ونحوه، يجري في أرض الجنة ومع ذلك لا يحدث له شيء من الكدورة ولا يتعفن لا يأسن. قال تعالى: {أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} [محمد:15]، فلبن الدنيا يتغير، والأبحاث تقول: إنه في كل ساعة يتغير اللبن من حال إلى حال، يعتليه من آفات، ويعتليه من حرارة ومن برودة، فلبن الدنيا من الأشياء التي لا يستقيم بقاؤها على حال واحد إلى أن ينتن مع مضي الساعات عليه، لكن لبن الجنة لبن عظيم لا يتغير أبداً، مهما بقي، وهو في أنهار يجري أمام أهل الجنة يشربون منه ما يشاءون ولا يتغير عليهم أبداً. قال تعالى: {وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} [محمد:15]، {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ} [الواقعة:19]، لا يعتريهم ما يعتري الناس الذين يشربون الخمور من صداع ومن نزيف للعقول في الدنيا، فأهل الجنة لا تذهب عقولهم أبداً ولا يصدعون، ولا تغتالهم خمر الجنة، فهي لا تشبه خمر الدنيا إلا في الاسم فقط، ولكنها أعظم وأحلى وأجمل، ولا غول فيها ولا تعب من ورائها ولا صداع فيها ولا ألم فيها، فهي نعيم لأهل الجنة. قال تعالى: {وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد:15] عسل الدنيا مهما بلغ أعلى الحلاوة وأجمل الطعم فالإنسان لو أكل منه كثيراً يجزع منه، أما عسل الجنة لا جزع فيه أبداً، عسل صاف لا كدورة فيه، ولا شوائب فيه، فأنهار من لبن وأنهار من ماء وأنهار من عسل وأنهار من خمر تجري من تحت أشجار الجنة فيتمتع الإنسان المؤمن في جنة الخلود، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها. وهذا وعد الله، قال تعالى: {وَعْدَ اللَّهِ} [الزمر:20] أي: وعدكم الله وعداً فهو مصدر لفعل محذوف تأكيداً من الله عز وجل أن هذا وعد أكيد من رب العالمين. قال تعالى: {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} [الزمر:20] وعد للفريقين لأهل الجنة ولأهل النار، فأهل النار في الجحيم وفي العذاب المقيم، وأهل الجنة في النعيم وفي هذه الأنهار والعيون وفي الطعام والشراب الذي يمتعون به في الجنة، فوعد هؤلاء ووعد هؤلاء ولا يخلف الله الميعاد.

من أسباب دخول الجنة

من أسباب دخول الجنة جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وأحمد من حديث علي رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها) والغرف بمعنى القصور العالية لأهل الجنة، وذكرنا أن الغرفة للإنسان في الدنيا بمعنى المكان العالي الذي يستريح فيه، والمكان الذي هو لأهل الشرف، فالإنسان أشرف الأماكن عنده وأعلى الأماكن عنده الذي يسمى بالغرفة. فالجنة فيها غرف في أعالي الجنات، ولهم قصور في أعالي الجنات، فيقول عليه الصلاة والسلام: (إن في الجنة غرفاً) هذه الغرف التي لأصحابها تكون مبنية من ذهب ومن فضة، ومع ذلك فإن صاحبها إن كان بداخلها يرى خارجها من خلالها وإذا كان خارجها ينظر إلى داخلها فيرى ما يريده من داخلها. قال: (يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها)، كالزجاج فأنت ترى داخل الزجاج من الخارج، أما في الجنة لم يقل لنا من زجاج، فالزجاج شيء رخيص في الدنيا، ولكن الجنة مبنية القصور من ذهب، ومع ذلك بلغ من شفافيته وبلغ أن يكون صاحبه بداخل هذا القصر المبني من طوبة من ذهب وطوبة من فضة أن يرى ما خارجه وهو في داخل هذا القصر، فإذا كان في الخارج وأراد أن ينظر في داخل قصره نظر واستمتع بما فيه من حور عين وغيرها! ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قام أعرابي تعجب وانبهر مما سمع فقال: (لمن هي يا رسول الله؟! فقال صلى الله عليه وسلم: لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام). الذي يفعل ذلك له هذه المنزلة العظيمة وهذه القصور الراقية الغالية عند الله سبحانه تبارك وتعالى، (لمن أطاب الكلام)، أطاب الكلام بمعنى: حسن خلق الإنسان، فلا يخرج من فيه غير الكلام الطيب، فليس كلامه بذيئاً ولا مؤذياً، وليس كلامه في أمر الدنيا وإنما كلامه في الأمر الذي يقربه من الله عز وجل، وكلامه طيب؛ لأنه يراقب الله سبحانه، ولأنه لا يريد أن يؤذي أحداً من خلق الله تبارك وتعالى، فأطاب كلامه فكان إنساناً هيناً ليناً حسن الخلق، يتكلم بالكلام الطيب والكلام الذي يخرج من فم الإنسان يعبر عن الوعاء الذي في الداخل، وهو قلب الإنسان، فإذا كان كلاماً طيباً دل على طيبة القلب، وإذا كان كلاماً خبيثاً دل على خبث القلب. قال عليه الصلاة والسلام: (وأطعم الطعام) أي: أعطى الطعام وبذل مما عنده من طعام، فأعطى الفقراء وأعطى المساكين وأعطى على وجه الهدية، وأنفق النفقات الواجبة والمستحبة عليه، وبذل لله سبحانه تبارك وتعالى. كذلك قال: (وأدام الصيام) أي: واظب على الصيام، فلم يصم أياماً وترك الصيام بعدها، ولكنه واظب على الصيام، فيصوم الفريضة ويصوم النافلة، ويداوم الصيام، ويخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن رب العزة سبحانه قال: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) فالصوم عبادة باطنة وعبادة سرية بين العبد وبين الرب، والإنسان يقول: أنا صائم، وأنت لا تدري هل هو فعلاً صائم أم لا، فالله وحده يعلم ما في قلب هذا الإنسان هل هو صائم صوماً صحيحاً وإلا صام عن الطعام وعن الشراب ووقع في أعراض الناس ووقع في الحرام، فالله أعلم بمدى صحة صوم هذا الإنسان، فكان الصوم لله سبحانه تبارك وتعالى. فالصوم عباده قاصرة على الإنسان، وإطعام الطعام عبادة متعدية، فالإنسان المؤمن عباداته متعدية فينتفع الغير بها، وعباداته في السر بينه وبين الله فينتفع بها، ومن العبادة المتعدية تطييب الكلام فتعبد لله سبحانه بأن حسن خلقه، فرأى الناس منه ذلك، فاستحسنوا كلامه ولم يقبح منه شيء ليتكلموا به، فتعدى نفعه لغيره. وذكر في الحديث عبادة قاصرة ينتفع بها وهي قوله: (وصلى لله بالليل والناس نيام)، فاستحق الجنة، فالجنة يستحقها صاحبها لعمل السر وعمل العلن، والعمل القاصر الذي ينتفع به نفسه والعمل الذي يتعدى النفع فيه للغير، فإذا جمع هذا كله استحق الجنة. وروى النسائي من حديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أنا زعيم) أي: أنا ضامن (أنا زعيم لمن آمن بي وأسلم وهاجر ببيت في ربض الجنة، وببيت في وسط الجنة، وأنا زعيم لمن آمن بي وأسلم وجاهد في سبيل الله ببيت في ربض الجنة وببيت في وسط الجنة وببيت في أعلى الجنة). فالمهاجر الذي آمن بالله وآمن برسول الله صلى الله عليه وسلم أسلم نفسه لله سبحانه فعمل بما أمر الله سبحانه، يقول عليه الصلاة والسلام: أنا زعيم وضامن له ببيتين بيت في ربض الجنة، وكلمة ربض تطلق على أقل الأشياء، كأنه يقول: في أدنى الجنة، والجنة ليس فيها شيء دنيء، ولكن الجنة بعضها أعلى من بعض، وببيت في وسط الجنة، فالجنة فيها منزلة أدنى المنازل وهي أعلى ما يكون وأفضل ما يكون، وأعلى منها درجة أخرى وهي وسط الجنة، وأعلى منها الغرف، فضمن النبي صلى الله عليه وسلم للإنسان الذي آمن وأسلم وهاجر في سبيل الله وترك الكفر إلى الإيمان، وترك بلد الكفر إلى بلد الإسلام، وترك بلد المعاصي إلى مكان الطاعات، ببيتين في الجنة، بيت في ربض الجنة وبيت في وسط الجنة. قال عليه الصلاة والسلام: (وأنا زعيم لمن آمن بي وأسلم وجاهد في سبيل الله) والمجاهد هو الذي يجاهد بنفسه ويجاهد بماله ويجاهد بكلمته وبلسانه ويجاهد بقلبه، ويجاهد في سبيل الله سبحانه تبارك وتعالى: فيأمر المعروف وينهى عن المنكر، ويجاهد الكفار والمنافقين وأهل المعاصي، فحياة المؤمن جهاد في سبيل الله سبحانه تبارك وتعالى حتى يلقى الله، فالمؤمن المجاهد يقول له النبي صلى الله عليه وسلم: أنا ضامن لك أيها المؤمن المسلم المجاهد في سبيل الله بثلاثة بيوت: ببيت في ربض الجنة وبيت في وسط الجنة وبيت في أعلى غرف الجنة. قال عليه الصلاة والسلام: (من فعل ذلك) أي: أسلم وآمن وكانت حياته جهاداً في سبيل الله سبحانه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من فعل ذلك فلم يدع للخير مطلباً، ولا من الشر مهرباً) فكانت حياته كلها جهاداً في سبيل الله، في كل مكان أنت فيه تجاهد في سبيل الله، في بيتك تجاهد مع أهلك مع أولادك، في عملك تجاهد في عملك فتتقن وتحسن عملك، وتجاهد الكفار، والمنافقين، والعصاة، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؛ فحياة المؤمن كلها لله (لم يدع للخير مطلباً)، كأن كل وجوه الخير أتى بها وكل وجوه الشر فر منها، قال: (لم يدع للخير مطلباً ولا من الشر مهرباً، يموت حيث شاء أن يموت) ففي أي مكان يموت فيه هذا الإنسان فإن كل عمله خير، فهو مجاهد في سبيل الله. وورد حديث آخر رواه أبو داود عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً) أي: للإنسان الذي يترك المراء، وهو الجدل فمن حسن الخلق المؤمن أنه لا يجادل، وإذا جادل جادل بالتي أحسن، ولا يجادل إلا إذا كان محتاجاً لذلك؛ لينصر دين الله سبحانه، فليس الجدل للجدل ولا لضياع الوقت، فقال: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً). فالإنسان قد يجادل وهو يقول: أنا على الحق فلابد أن أجادل! فلا تعود نفسك على ذلك إلا إن احتاج الناس إلى ذلك فجادل بالتي هي أحسن. قال عليه الصلاة والسلام: (وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً) فالمؤمن يترك الكذب رأساً، فلا يكذب أبداً إلا في المواطن التي أباحتها الشريعة كالحرب فالحرب خدعة، فإن احتاج إلى ذلك فعل بالإصلاح بين الناس، كذلك مع امرأته أن يذكر لها أنها أجمل النساء ونحو ذلك جاز له ذلك، وفي غير ذلك لا يجوز للإنسان أن يكذب، وفي هذه المواطن له أن يعرض في الكلام ولا يصرح بالكذب، فهذا البيت الذي في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، فدع الكذب ودع المراء. قال عليه الصلاة والسلام: (وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه) فكان حسن الخلق أعلى ما يكون، وجزاؤه أفضل ما يكون عند الله سبحانه تبارك وتعالى. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل جنته وأن يجيرنا من ناره. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الزمر [20 - 21]

تفسير سورة الزمر [20 - 21] يخبر الله عز وجل في كتابه عن ثواب المتقين الذي أعده لهم سبحانه، وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام المؤمنين ببعض صفات الجنة وأهلها، وأخبر الله في كتابه عن قدرته وأنه وحده الذي ينزل من السماء ماءً فيسلكه في آبار الأرض وعيونها ثم يخرج به زرعاً ألوانه مختلفة، وأنواعه متنوعة، وهذا من كمال قدرته وعظمته سبحانه، ثم يجعل ذلك الزرع حطاماً يابساً، وهذا هو مثل الحياة الدنيا، فطوبى لمن ترك زينة الحياة الدنيا ونافس الصالحين للحياة الأخرى.

تفسير قوله تعالى: (لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية)

تفسير قوله تعالى: (لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الزمر: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ * أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:20 - 23] في هذه الآية من سورة الزمر يخبرنا الله سبحانه وتعالى عما أعده للمؤمنين الصادقين المحسنين من غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار، والقرآن مليء بهذا الأمر العظيم وبوعد الله سبحانه وتعالى للمؤمنين، وبذكر الجنة العظيمة العالية والغرف التي فيها التي أعدها الله سبحانه وتعالى للمتقين وللمحسنين الذين يحبون الله ويحبهم الله سبحانه وتعالى، والغرفة: هي الجنة العالية، فلهم جنات عاليات، فأهل الجنة يتراءون أهل الغرف أي: أهل الجنات العالية كما ينظر أحدكم إلى الكوكب الدري الغابر في السماء، فمنازل أهل الغرف في أعالي الجنات، (مبنية) أي: أن الذي بناها هو الله سبحانه وتعالى بأمره سبحانه، والذي جعل فيها غرسها هو الله سبحانه، والذي أجرى فيها أنهارها هو الله سبحانه؛ إكراماً للمؤمنين فهي دار الكرامة، وهي دار السلام مبنية بلبنة من ذهب ولبنة من فضة، جنتان كل ما فيهما من فضل الله سبحانه مباح للمؤمنين، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث في هذه الجنات العظيمة، فعن أبي سعيد الخدري فيما رواه البخاري ومسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة! فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟) أي: بما عطاهم من فضله سبحانه فقد أدخلهم الجنة وأعطاهم ما شاءوا وزادهم سبحانه (فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من العالمين؟!) وكل إنسان في الجنة يرى نفسه من أفضل الذين أعطاهم الله سبحانه وتعالى، وأهل الجنة لا حسد بينهم، فلا يحسد بعضهم بعضاً، بل إن أهل المنزلة الدنيا في الجنة يرون أنفسهم أعطوا ما لم يعط أحد من العالمين، بل إن آخر أهل النار خروجاً من النار وآخرهم دخولاً الجنة، يرى أن الله فضله على غيره من العالمين فيقول: الحمد لله الذي نجاني منك، لقد أعطاني الله ما لم يعط أحداً من العالمين! فالله بكرمه وفضله يجعل كل إنسان من أهل الجنة يستشعر أنه أعطي ما لم يعط أحداً من الناس، وإن كان بعضهم فوق بعض في المنازل، فيقول لهم سبحانه: سأعطيكم أفضل من ذلك يعني أعطيتكم الجنة وأعطيتكم الغرف وأعطيتكم الأنهار وأعطيتكم ما شئتم في الجنة (ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟! قالوا: ربنا وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً)، وهذا أفضل نعيم يعطاه أهل الجنة، فكل إنسان حين يرى النعيم أمامه يخاف أن يزول عنه، وأن يأتي يوم من الأيام فلا يجده، فالله سبحانه وتعالى يدخلهم الجنة ويقول لهم {لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الأعراف:49] أي: لا تخافون من المستقبل وأنه ربما يذهب عنكم هذا النعيم الذي أنتم فيه، بل أنتم خالدون في الجنة، أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً، وهم قد وجدوا في الدنيا كيف سخط الله على أقوام فخسف بهم ومسخهم وعاقبهم، كما قال الله: {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} [العنكبوت:40]، أما إذا دخل أهل الجنة الجنة فلا يرون شيئاً من ذلك أبداً، بل إن الله ينعم عليهم بالرضوان الأبدي فلا يسخط عليهم أبداً نسأل الله عز وجل أن يجعلنا معهم ومنهم. وجاء في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ينادي منادي) يعني لأهل الجنة (إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً) فذلك قوله عز وجل: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43] أي: يقال لأهل الجنة: ورثتم هذه الجنة فصارت لكم وآلت إليكم، ولكم فيها كلما ذكر في هذا الحديث وما ذكره الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم. وقوله: (إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً) أي: أنه لا مرض في الجنة، في الدنيا يعاني الإنسان من المرض حتى إذا دخل الجنة عرف فضل الله سبحانه وعرف النعمة العظيمة التي هو فيها، والدنيا دار الأمراض ودار الهموم وما ينغص حياة الإنسان، هذه هي الدنيا وهي دنيا لذلك، لكن الجنة فيها النعيم المقيم. (وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً) أي: لا موت في الجنة، الموت كان في الدنيا أما في الجنة فالنعيم المقيم والخلود العظيم. (وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا) الإنسان في الدنيا يفرح بشبابه ويخاف أن يأتي عليه الهرم، فيأتيه حتى يعجز عن المشي وعن القيام، وأهل الجنة يطمئنهم الله: أنتم شباب في الجنة، ولن تزيد أعماركم بل تسبقون أنتم على العمر الذي دخلتم فيه الجنة عمر ثلاث وثلاثين سنة، وهو أفضل ما يكون في العمر، فيظل أهل الجنة شباباً أبد الآبدين. (وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً) أي: لكم النعيم السرمدي من الله، فلا بأس في الجنة ولا حزن ولا مرض ولا تعب {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43] أي: بسب ما كنتم تعملون، فعمل الإنسان سبب لدخوله الجنة وليس ثمناً لها، فالباء باء السببية وليست الثمنية، فمهما عملت من عمل لن يكون أبداً ثمناً للجنة، فإن الجنة عالية وغالية، وعمل الإنسان لا يبلغ ثمنها ولكن يدخل الجنة بفضل الله ورحمته سبحانه وتعالى، والعمل سبب لدخولك الجنة. وجاء في حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] فقال صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه) أي: يريد أن يوفيكم إياه (فيقولون: وما هو؟! ألم يثقل موازيننا، ويبيض وجوهنا، ويدخلنا الجنة، وينجنا من النار؟!) أي: لقد أعطانا كل هذا النعيم ثم يريد أن يعطينا؟! (قال: فيكشف الحجاب) وحجاب الله عز وجل النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره، وهذا في الدنيا لو كشف الحجاب لأحرق كل شيء، فنوره لا يطيقه أحد في الدنيا؛ لأن الإنسان غير مهيأ لذلك، ولذلك قال موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف:143]، والجبل مع قوته العظيمة لم يطق أن يرى شيئاً من نور الله سبحانه وتعالى، فكيف بالإنسان الضعيف؟! لكن يوم القيامة يجعل الله عز وجل للمؤمنين قوة أخرى وجسداً آخر غير الذي كان في الدنيا يطيق المؤمن به أن يرى نور الله سبحانه وتعالى، ويستمتع بالنظر إلى وجهه سبحانه، وهذا أعظم ما يستمتع به أهل الجنة، وكلما ازدادت منزلتهم كان نظرهم إلى الله أكثر وأكثر، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أكثرهم نظراً إلى وجهه الكريم سبحانه وتعالى. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فيكشف الحجاب فينظرون إليه -أي: ينظرون إلى الله سبحانه وتعالى- فوالله ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من النظر) يعني إليه (ولا أقر لأعينهم) فهذا أعظم ما في الجنة، وهو أعظم من كل نعيم، وهو أنعم النعيم وأعظم النعيم، وهو أن ينظروا إلى وجه الله سبحانه وتعالى. ومما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما رواه مسلم من حديث عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وذكر حديثاً طويلاً وفيه (وأهل الجنة ثلاثة ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال) هؤلاء من أكثر أهل الجنة: ذو سلطان كالحاكم والأمير ومن له سلطة، وفقه الله سبحانه أن يحكم بين الناس بالعدل والقسط، (متصدق) يعطي ولا يحبس المال عن الناس ولا يبخل عليهم، (موفق) أي: يوفقه الله سبحانه وتعالى لطاعته وللحكم بما أنزل من عنده سبحانه وتعالى. قال: (ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم) هذا الإنسان ليس قاسي القلب؛ ولذلك مدح الله عز وجل الم

تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض)

تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءً فسلكه ينابيع في الأرض) يقول الله للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بالتبع {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ} [الزمر:21] هذا مثال مما يراه الناس أمامهم ليعرفوا به ضآلة هذه الدنيا، وقصر عمرها، فالمطر الذي ينزل من السماء ينمو به الزرع، وسرعان ما يصفر هذا الزرع ثم يصير حطاماً وينتهي أمره، وأنت في كل يوم ترى النبات يحيه الله سبحانه ثم يمر عليه الوقت فإذا به يموت بعد ذلك، فهذه الدنيا مهما ازداد أمرها فمصيرها في النهاية إلى النقصان والزوال، والزينة التي عليها التي تعجبك الآن هي التي تكرهها أنت بعد ذلك، فإن النبات حين ينمو فيراه الإنسان أمامه أخضر وأحمر وأصفر يفرح ببهجة هذا النبات ومنظره، فإذا يبس وصار هشيماً فإن الإنسان يتضايق منه ويجمعه ويرميه في الحضرة! وهذا هو حال الدنيا، الذي تسر به الآن وتفرح به هو الذي تتأذى منه بعد ذلك، وإذا كانت الدنيا على هذا الحال فعلى الإنسان أن يحب ربه سبحانه وتعالى، وأن يطمح فيما عند الله من النعيم المقيم وليس في هذه الأشياء الفانية. {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} والكل يرى ذلك {فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ} [الزمر:21] يبين لنا قدرته سبحانه وتعالى في هذه الآية، فإن المطر الذي نزل من السماء لو اجتمعتم أنتم ومن في الأرض جميعاً على تخزين هذا الماء ما استطعتم ذلك، لكن الذي يقدر على ذلك هو الله سبحانه وتعالى، ولو احتبس في مكان واحد لأنتن وتعفن، ولكن الله الكريم سبحانه يجريه أنهاراً ويجعله عيوناً ويجعل منه مياهاً جوفية في باطن الأرض، وهذا شي عجيب جداً! فالماء يحتفظ بما هو عليه من خصال وهو أنه طاهر ومطهر وأنه نقي وطيب حتى يتدخل الإنسان لإفساده، لكن الله سبحانه وتعالى الذي أنزل المطر من السماء حفظ هذا المطر، فإنه حين ينزل من السماء يجري أنهاراً وبتغيره من مكان لآخر يحتفظ بخصائصه ويحتفظ بصفاته، ولو أنه وقف في مكان لأنتن وتعفن وأصابه ما على الأرض من قاذروات، لكن الله سبحانه يحفظه ويسلكه ينابيع في الأرض، فمنه ما ينزل إلى باطن الأرض حيث لا جراثيم ولا عفونة ولا شيء في المياه الجوفية فيكون نقياً إلى أن يتدخل الإنسان بسفاهته فيعمل الآبار ويصرف الصرف الصحي على المياه الجوفية فيلوث المياه الجوفية التي جعلها الله عز وجل في مكان لا تصل إليه المكروبات، فيفسده الإنسان بسوء تصرفه وسوء صنيعه، ويجريه أنهاراً جميلة فيها الماء الطيب الرقراق الصافي حتى يفسده الإنسان بالمصانع والصرف الصحي على الأنهار، ويجعله بحاراً تتبخر منها المياه التي تنزل بعد ذلك صافية حتى يفسدها الإنسان فيصرف عليها مجاريه وصرفه الصحي، فيتأذى الإنسان من سوء صنيعه وعدم تفكيره وعدم إحسانه في ذلك، وإلا فإن الله سبحانه أنزل الماء صافياً طيباً طاهراً مطهراً فهو الطهور الذي نزل من عند الله ليطهر به عباده. {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ} سلكه أي: أدخله، وكأن المرور الرقيق السريع يسمى سلك، تقول: سلكت الخرزة في السلك إذا أدخلت السلك داخل خرم الخرز، كذلك الماء يسلكه الله سبحانه وتعالى في الأرض وينزل حتى يدخل في العيون وفي الآبار وأنت لا تشعر بذلك، وهو ينزل ويسلكه الله سبحانه وتعالى في داخلها ثم تنبع الينابيع والعيون من الأرض ثم يخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه، هذا أحمر وهذا أخضر وهذا أصفر وهذا كذا، ويكون مختلف الأصناف، ثم الزرع يهيج فتراه مصفراً، هذا الزرع الذي خرج ونما وأعجبك يهيجه أي ينميه أقصى النمو ثم بعد ذلك يصير حطاماً يابساً، فبعد أن كان أخضر يانعاً صار هشيماً! {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ} [الزمر:21] أي لأصحاب القلوب وأصحاب الفطر أصحاب العقول ليتفكروا أنه مهما ازدهرت الدنيا وتزينت فإنها ترجع بعد ذلك إلى ما كانت عليه كهذا النبات، فلا تغتر بهذه مهما جاءتك الدنيا. فالإنسان يكون في الدنيا في عدة مراحل منها مرحلة الشباب والحيوية والقوة فإذا وصل فيها إلى نهايتها بدأ في النزول حتى يصل إلى الصفر ويرجع إلى الأرض التي خلق منها مرة أخرى، فالإنسان مهما علا سينزل ولابد، فليكن هذا النزول والعودة إلى الله سبحانه نزولاً حميداً وعوداً حميداً إلى الله سبحانه وتعالى، فلا تغتر بشبابك فإنها تأتي الكهولة والشيخوخة بعد ذلك، ولا تغتر بمالك فإنك ترجع إلى ربك بغير مال ويأخذه غيرك من أولادك أو من الناس، ولا تغتر بصحتك فإنه يأتي عليك المرض الذي يمنعك مما كنت تقدر عليه، ولا تغتر بالدنيا فإنها تزول من أصحابها، فليكن اعتماد الإنسان وثقته على فضل الله، وعلى كرم الله، فيعبد ربه ويعلم أنه لن يدوم في هذه الدنيا، فينمو ثم يصير حطاماً، فترجع إلى ربك سبحانه ليجازيك على إحسانك بهذه الغرف العظيمة التي عنده، وعلى إساءتك إما بالعفو وإما بالمؤاخذة. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الزمر [21 - 23]

تفسير سورة الزمر [21 - 23] لقد أنزل الله الله سبحانه وتعالى من السماء ماءً فأخرج به زرعاً يكون سبباً لحياة الخلق، وكذلك أنزل من السماء قرآناً بواسطة الروح الأمين إلى قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليبلغه للعالمين ليكون سبباً لحياة القلوب، والمؤمن على نور من ربه، ولا يستوي مع قاسي القلب الغافل عن ذكر الله.

تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض)

تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الزمر: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ * أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:21 - 23]. يخبرنا الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات عن قدرته العظيمة سبحانه تبارك وتعالى، حيث بدأ بذكر إنزال المطر من السماء، وسلكه ينابيع في الأرض {ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا} [الزمر:21]، هذه الدورة التي يراها الإنسان أمامه في الطبيعة التي خلقها الله سبحانه تبارك وتعالى، يجد فيها إحياء هذا النبات الذي يستفيد منه الإنسان ثم موت هذا النبات، ثم الإحياء ثم الموت وهكذا، دورة يتذكر بها الإنسان أنه مثل هذا النبات أحياه الله سبحانه ثم يميته، وهو يرى الأمثلة على ذلك في الكون وفي الإنسان وفي الحيوان كيف يخلقها الله سبحانه؟ وكيف أنزل الله المطر من السماء سبحانه تبارك وتعالى فجعل منه كل شيء حي؟ فاستفاد منه الإنسان والحيوان والنبات والأرض، ليرينا كيف يخلقه وكيف ينزله رحمة منه سبحانه تبارك وتعالى بخلقه، وكيف يحيي به الأرض بعد موتها. وكما أنزل الله هذا المطر من السماء ليحيي به الأرض، أنزل القرآن ليحيي به القلوب، فأشار إلى هذا القرآن وذكر القرآن العظيم أحسن الحديث كتاباً متشابهاً، والمطر فيه الحياة وفيه الغوث للخلق كذلك هذا القرآن فيه حياة القلوب، وفيه الإغاثة للخلق والإجارة من أن يعذبوا في النار لو أنهم آمنوا بهذا القرآن، فإن هذا القرآن حافظهم عند الله سبحانه تبارك وتعالى، واستحقوا به أن ينالوا رحمة الله.

تفسير قوله تعالى: (أفمن شرح الله صدره للإسلام)

تفسير قوله تعالى: (أفمن شرح الله صدره للإسلام) ذكر الله أنه لا يستوي من شرح الله صدره للإسلام بهذا القرآن العظيم مع إنسان ترك القرآن وراءه ظهرياً ولم يؤمن به فقال تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزمر:22]، وهل يستوي الذي علم من القرآن وتعلم وعمل واهتدى بهذا القرآن العظيم مع من لم يستفد منه شيئاً؟ وقس على ذلك إنزال المطر من السماء على أرض خصبة فينبت ما فيها من زرع، وعلى أرض أخرى قاحلة يتسرب من خلالها ويذهب إلى مكان بعيد فلا يستفيد أصحاب الأرض بهذا المطر الذي جاء من السماء. كذلك القرآن ينزل على قلوب العباد فتختلف في تقبله كما تختلف الأرض في تقبل الماء، فهذه أرض زراعية جيدة وهذه أرض أقل جودة، وهذه أرض سبخة، وهذه أرض زرعها مر، فينزل المطر على الأرض كلها، فتنبت بما فيها أو لا تنبت أصلاً. كذلك القرآن فهذا إنسان صالح قلبه فيه النور فيهديه الله سبحانه تبارك وتعالى، وهذا إنسان طالح يعرض عن الله سبحانه تبارك وتعالى قلبه المظلم فلا يستفيد بشيء من القرآن، فالقرآن العظيم يهدي به الله من يشاء، ما قال: يهدي به كل الخلق، ولكن رجع الأمر إلى قضاء الله وقدرته سبحانه يهدي من يشاء فضلاً منه سبحانه، ويضل من يشاء عدلاً منه سبحانه. فهل من شرح الله صدره للإسلام كمن لم يشرح الله صدره للإسلام؟ وشرح بمعنى: بسط ووسع وفسح في صدره، فانفسح صدر الإنسان ليستوعب هذه المعاني التي جاءت في هذا القرآن العظيم. وهل يستوي هذا الصدر الرحب الفسيح الذي يفرح بكتاب الله سبحانه ويتأمل فيه ويتدبر معانيه ويعمل بما فيه، مع إنسان ضاق صدره وتحرج حتى صار شديد الضيق بهذا القرآن، فلا يفهم ولا يعقل وكل همه أن يرد عليه وأن يرفضه؟ فالإنسان الذي شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ صار عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ، فاستجاب لنور القرآن فأصبح نوراً على نور. والإنسان الذي لا يستفيد بهذا القرآن فهو من القاسية قلوبهم من ذكر الله، الذين قال فيهم: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ} [الزمر:22]، وويل: وعيد من الله سبحانه تبارك وتعالى للإنسان القاسي القلب، وقسا قلب الإنسان بمعنى صلب حتى صار صلباً جامداً كالحجارة بل هو أشد قسوة من الحجارة، وهذا لا تنفع معه الموعظة إنما الذي يلينه نار جهنم والعياذ بالله. والويل الهلاك والإبعاد، وهو واد في قعر جهنم جعله الله لهذا الإنسان الذي قلبه قاس ولا ينتفع بهذا القرآن ولا يستشفي به يتركه وراءه ظهرياً. وقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:22] يعني: قلوبهم خالية من ذكر الله فلا يذكرون الله سبحانه تبارك وتعالى، وتقسو قلوبهم إذا ذكر الله سبحانه تبارك وتعالى. والمؤمن عندما يذكر ربه يستجيب ويخضع لله سبحانه، ويدعو ربه أن يكون من أهل التقوى. وإنسان آخر تنصحه بأن يتقي الله فإذا به يعاند ويقول لك: اذهب اتق الله أنت، همه أن يجيبك بمثل ما تقول، فلا ينتفع قلبه بسماع الموعظة ولا يريدها؛ لأن قلبه قاس. والمؤمن إذا سمع القرآن انفسح قلبه وانشرح وتذكر الدار الآخرة فعمل لهذه الدار الآخرة.

حديث في تفسير قوله تعالى: (أفمن شرح الله صدره للإسلام)

حديث في تفسير قوله تعالى: (أفمن شرح الله صدره للإسلام) سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فقال: (إذا دخل النور القلب انشرح وانفتح، قالوا: وما علامة ذلك؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله). والحديث إسناده ضعيف، ولكن المعنى صحيح، فالقرآن إذا دخل قلب الإنسان تذكر الآخرة فإذا بضيق الدنيا كله يزول عنه، وتنفسح له هذه الدنيا بنظره إلى الآخرة. ويؤيد هذا المعنى ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وصح عنه في قوله: (أكثروا ذكر هاذم اللذات) أي: الموت يهذم لذات الإنسان فأكثروا من ذكره، فإنه ما ذكر في ضيق إلا وسعه، ولا في سعة إلا ضيقها. والإنسان إذا ضاقت به كروب الدنيا وما ينزل عليه من مصائب ويبتلى فيها من أحداث وتذكر هذه الأشياء تضايق، فإذا نظر أن هناك موتاً بعد ذلك استراح؛ لأنه يخرج من هذه الدنيا وما فيها من كروب واستراح عند الله لو أنه صبر على ذلك. وذكر الموت يوسع عليه حاله فإن الدنيا ومصائبها لا تدومان لأحد، ونهاية ذلك موت، فإذا صبرنا في الدنيا وجدنا الفرج والفسحة عند الله سبحانه تبارك وتعالى. فذكر الموت يطمئن الإنسان وحين يقرأ كتاب الله سبحانه فيذكر الدار الآخرة ينشرح وينفسح الصدر وينيب إلى دار الآخرة وهي دار الخلود، ويتجافى عن دار الدنيا وهي دار الغرور، ويستعد للموت قبل نزوله. وما ذكر الموت في سعة إلا ضيقها، والإنسان يفرح بنفسه لأنه في صحة وعافية وعنده مال كثير وهو في سعة وغبطة، فعندما يتذكر الموت وأنه سوف يترك كل هذه الأشياء، لا يتوسع زيادة عن اللزوم في هذه الأشياء لأنه سيتركها، فلمن يجمع هذا المال ويثمره؟ والإنسان لم ينه عن جمع المال فما نهانا ربنا عن ذلك، ولكن المنهي عنه هو الانشغال عن الدار الآخرة، فهو يجمع من الدنيا المليون وراء الثاني والثالث فماذا يعمل به؟ ويترك المال للورثة ويجازى عليه، فيجب عليه أن يقف مع نفسه وقفة ليحاسبها، فالموت يضيق عليه أمره، ويجب عليه أن يلوم نفسه في هذه الدنيا حتى لا يفرط فيها فتضيع يوم القيامة.

تفسير قوله تعالى: (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها)

تفسير قوله تعالى: (الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً) يقول الله سبحانه: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:23]. كما أنزل الله المطر من السماء ليبين قدرته سبحانه تبارك وتعالى، فالمطر ينتفع به الخلق فتحيا به أرضهم ونباتهم والقرآن أعظم من ذلك، وهو أنزل من السماء نزل به الروح الأمين على قلب النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه ليكون من المنذرين، فانتفع المؤمنون فآمنوا وصدقوا وعملوا بما فيه. والقرآن أحسن الحديث، قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف:3]، وفيه أحسن الأحكام وأجملها، جاء عن سعد بن أبي وقاص أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا لرسول صلى الله عليه وسلم: (لو حدثتنا)، وأحياناً الإنسان قد يحدث له شيء من الملل فيحتاج من يذكره، فالصحابة يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: (لو حدثتنا -أي: سليتنا قليلاً بحديث- فأنزل الله سبحانه تبارك وتعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [الزمر:23]) أي: لستم محتاجين أن تتسلوا بقصص وحكايات، فالقرآن فيه أحسن الحديث. وفرق بين سماع الآيات القرآنية وسماع الأحكام الفقهية، فعندما تقرأ كتاب فقه أو أصول فقه فإنك تمل، والقرآن لا يمل جليسه أبداً، والقرآن العظيم ليس مجرد كتاب قصص أو تاريخ أو فقه، بل هو كتاب قائم بذاته ونسج فريد لغيره من الكتب. والقرآن تقرأ فيه الموعظة وبعد قليل يذكرك بالجنة ويحذرك من النار ويعطيك حكماً من الأحكام ويذكرك بالأمم السابقة وبنبي من الأنبياء وبحادثة من الحوادث التي كانت موجودة، فما يزال يدخلك في شيء ويخرجك منه من غير ما تشعر بالخلاف، ولو تقرأ كتاب فقه ثم كتاب حديث ثم كتاب أصول فقه ثم كتب قصص، فقرأت في هذا قليلاً زهقت منه وتركته وأتيت بالثاني، فتحس أنك خرجت من شيء إلى شيء آخر، أما القرآن فلا تستشعر بذلك فتجد السورة تتناول أشياء كثيرة وتخرجك من شيء إلى شيء آخر، وحسن السياق الذي في القرآن هو حسن الخروج من الشيء والدخول في الشيء الثاني من غير أن تشعر أنك خرجت من شيء ودخلت في شيء آخر، فهناك فرق بين هذا وذاك. فلا يمل قارئ القرآن أبداً، وكلما قرأه ازداد إقبالاً على القرآن، وهذا القرآن عجيب فأول ما تقرأ الآيات في البداية تشعر أنك ما زلت لم تدخل ثم تجد نفسك داخله في شيء حتى تستشعر بشيء عجيب جداً فيشدك القرآن فلا تريد أن تتركه. انظر وأنت تصلي التراويح وراء الإمام وتتأمل في معاني القرآن، دعك ممن يصلي ودماغه ليس في القراءة، فليس هذا الذي نتكلم عنه، قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [محمد:24]، فعند تدبرك للقرآن فإنك لا تمل منه، فإذا ركع الإمام تريد أن تسمع أكثر، فلا تمل أبداً من القرآن. فالقرآن العظيم أحسن الحديث، وأعظم الكلام، ولا أدل على ذلك من العرب الذين استمعوا إليه، ولم يرفضوا القرآن لأنه لا يعجبهم، إنما رفضهم للقرآن كان لحسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم أن هذا الكلام العظيم الجميل ينزل عليه وحده دون غيره، ولذلك يقول زعيمهم الوليد بن المغيرة عن هذا القرآن: والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر، فلما قال ذلك قال له الكفار: ستجعله يتمسك بالذي هو فيه، فقد سحرك يا ابن المغيرة وفعل بك كذا، فما زالوا وراءه إلى أن فكر بماذا سيرد على النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:18 - 25]. وذلك لأن الكفار أحرجوه أشد الإحراج، إذ قال أحدهم: إني تركت قومك وهم يجمعون لك مالاً، قال: ولم يجمعون لي ذلك وقد علموا أني أغناهم؟ قال: لأنك تريد أن تتابع محمداً صلى الله عليه وسلم حتى يعطيك المال! فهذا الذي جعله يأنف ويستكبر فرجع عن كلامه وما زال يفكر حتى قال: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:24 - 25]. أي: هذا كلام سحر وكلام قول البشر، ولكن لا يضرنا ما قاله هذا الكافر فقد ذهب للقاء ربه سبحانه ولجزائه الذي يستحقه، ولكن ما قاله في البداية كان هو الحق. وكان أبو جهل والوليد بن المغيرة وغيرهما من الكفار يذهبان ليستمعوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذا القرآن، لذلك فالمؤمن يكفيه هذا الحديث العظيم كتاب رب العالمين.

معنى قوله تعالى: (كتابا متشابها مثاني)

معنى قوله تعالى: (كتاباً متشابهاً مثاني) وقوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزمر:23] يعني: لا يوجد في القرآن تفاضل بين الآيات والسور، وأن هذه السورة أجمل من الأخرى، فالقرآن يشبه بعضه بعضاً في بلاغته وفصاحته ودقته وإحكامه وصدقه، فهو كله كلام عظيم يشبه بعضه بعضاً. وقوله تعالى: {مَثَانِيَ} [الزمر:23] أي: من التثنية وهي التكرار، فقد كرر الله سبحانه تبارك وتعالى فيه المواعظ، فيذكر موعظة في سورة ثم يذكرها في سورة أخرى، ويذكر قصة موسى في سورة ثم يذكرها في سورة أخرى ولا تمل من سماع ذلك ومن قراءته، وكله فيه تكرار فلا يمل من سماعه، بل يستفاد من كل موضع فيه مما أراد الله سبحانه تبارك وتعالى أن يبينه فهو كتاب متشابه وهو كتاب مثاني. وذكر الله القرآن ووصفه بأنه محكم، قال تعالى {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1]، فالقرآن كله محكم أي: متقن، وكله متشابه أي: يشبه بعضه بعضاً في الروعة وفي الجمال وفي الإتقان، وذكر بأنه محكم ومتشابه، قال تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران:7]، إذاً القرآن كله محكم أي: متقن ومتشابه أي: يشبه بعضه بعضاً في الإحكام وفي الفصاحة وفي البلاغة، ولا يختلف اثنان في فهم الآيات ومنه ما أراد الله سبحانه أن يجعل فيه شيئاً يشتبه على من لا يفهم هذا القرآن حتى يعلم الإنسان أن فوق كل ذي علم عليم، قال تعالى: {قل هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]، فهل يستوي العالم مع الجاهل؟ فالجاهل يرجع لأهل العلم فيقول: ماذا أراد الله بالآية الفلانية؟ وما معنى ذلك؟ إذاً: الآيات المتشابهات معناها قد يشكل على الإنسان أن يفهم هذا الشيء فيقول الذين لا يفهمون لأهل العلم: ماذا أراد الله بهذا مثلاً؟ فأهل العلم يبينون لهم معنى ذلك فيرتفع الإشكال عن الذي لا يفهمون، فهي حكمة من الله سبحانه تبارك وتعالى أن يظهر فضل أهل العلم، وأنه لا يستوي الجميع. والقرآن كتاب عظيم، وكل من يقرأ القرآن يفهمه، ولكن فهم هذا غير فهم هذا غير فهم هذا، فيفهم الفقيه أحكاماً معينة لدقة فهمه، ويستوعب مسائل لا يفهمها غيره، والعالم الأصولي يفهم أصوليات وكليات لا يفهمها غيره من الناس، والإنسان الذي يقرأ في التاريخ ينظر في تاريخ وقصص الأنبياء ويعرف منها ويجمع فيها ما لم يعرفه غيره، ففوق كل ذي علم عليم، فالله فوق الجميع سبحانه تبارك وتعالى، فيريهم بهذه المنازل أن هذا القرآن نزل من عند العليم الخبير سبحانه تبارك وتعالى.

معنى قوله تعالى: (تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم)

معنى قوله تعالى: (تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم) قوله تعالى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزمر:23] المؤمن حين يقرأ هذا القرآن وحين يستمع للمواعظ ويتأمل فيها ويتدبر وتصفو نفسه يقشعر جسده وجلده وتبكي عيناه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله)، ووعد من الله سبحانه ألا تمس النار هاتين العينين (عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله). فهنا ذكر: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ} [الزمر:23]، فالمؤمن وهو يقرأ القرآن إذا تذكر النار يقشعر جلده ويخاف من الله سبحانه، واقشعرار الجلد ليس معناه أنه يظهر أمام الناس وهو يرتعش من ذلك، ولكن المعنى أن تأخذه قشعريرة، فيجد في جلده شيئاً من الاضطراب. قال تعالى: {ثُمَّ تَلِينُ} [الزمر:23] حين يذكر الجنة وحين يذكر رحمة رب العالمين وفضل الله سبحانه تبارك وتعالى وأن الحسنة بعشر أمثالها ويضاعف الله لمن يشاء وأن السيئة سيئة واحدة فإنه يلين ويخبت ويعرف رحمة الله فيركن إلى رحمته سبحانه تبارك وتعالى. قال تعالى: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23]، فالمؤمن حين يذكر الله سبحانه يطمئن بالله {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]، {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ} [الأنعام:88]، وفي هذا القرآن الهدى من الله، والذي يحدث في هذا الإنسان من قشعريرة ومن اضطراب وخوف ثم لين إلى ما جاء من ذكر الله سبحانه، هذا من فضل الله على هذا الإنسان أن يجعله يخاف من الله ويبكي من خوف الله سبحانه تبارك وتعالى، ويفرح بنعمة الله، وهذا من هدايته لهذا الإنسان، فالله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، فقال: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الرعد:33]، فالذي يضله الله سبحانه لن يجد له من يهديه. وهذه الآية يقف عليها ابن كثير بالياء، فإذا وصل أثبت الياء ((وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادي))، أما غيره فلا يقفون عليها إلا بالسكون، فـ ابن كثير يقرؤها بالياء في الوقف فقط والله أعلم. نكتفي بهذا القدر، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الزمر [23 - 31]

تفسير سورة الزمر [23 - 31] كل إنسان سيحاسب وحده يوم القيامة، فيسأل عن أعماله وما اقترفته يداه، وقد أخبرنا الله عز وجل في كتابه الكريم عن هذه الحقيقة، وبينها في كتابه أعظم بيان، وأخبر سبحانه أن عاقبة الأعمال السيئة الخزي في الدنيا والآخرة، فعلى المسلم أن يحذر المعاصي، ويعلم أنه ملاق ربه، ومؤاخذ على جميع أعماله.

تفسير قوله تعالى: (أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة)

تفسير قوله تعالى: (أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الزمر: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ * كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر:24 - 31]. لما أخبر الله سبحانه تبارك وتعالى أنه نزل أحسن الحديث وهو هذا القرآن العظيم كتاباً متشابهاً يشبه بعضه بعضاً في الحسن والجمال والبلاغة والفصاحة والصدق، أخبر أن المؤمنين يستمعون إلى هذا القرآن فتقشعر جلودهم من خوفهم من ربهم سبحانه تبارك وتعالى، {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23]، ذلك الذي يحدث لهم. وذلك القرآن العظيم الذي جاء من عند ربهم هدى من الله، يهدي به سبحانه عباده إلى تقواه سبحانه تبارك وتعالى، كما قال سبحانه: ((ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ))، فالهدى بيد الله يهدي من يشاء، ويضل من يشاء. ((وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)) أي: الذي يضلله الله سبحانه فلن يجد من يهديه إلى صراط الله سبحانه تبارك وتعالى. ثم قال تعالى: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} هذا قسم منه سبحانه وتعالى، والقرآن كلام الله رب العالمين سبحانه، وقد نزل بلغة العرب، وكان العرب يحذفون بعض المعاني من كلامهم إذا فهمت من الكلام، فكأن الله يقول هنا: أهذا الذي يتقي بوجهه سوء العذاب كمن ينجو من عذاب الله سبحانه؟ وهل يستوي هذا مع هذا؟ وترك لنا أن نفهم باقي هذه الجملة. وهذا من فصاحة القرآن العظيم، أن يعبر بالشيء على أشياء. فقال: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ}، وتخيل هذا الإنسان الذي يتقي في الدنيا العذاب، ويتقي في الدنيا السوء بيده، فلو أن هذا الإنسان وجد أمامه ناراً لدفعها بيده، فإنه يدفع بيده الشيء ليصرفه عن نفسه، ويتقيه بوجهه، وأشرف ما في الإنسان وجهه، ولذلك نهينا شرعاً عن ضرب الوجه، سواء كان المضروب مسلماً أو كافراً؛ لأن الله عز وجل كرم وجه ابن آدم. ولكن هذا الإنسان الذي كفر بالله سبحانه تبارك وتعالى، وأعرض عن ذكر الله، وأهان أولياء الله يستحق أن يهان يوم القيامة، فإنه يدفع بوجهه -وهو أشرف ما فيه- عن نفسه العذاب، فيداه مغلولتان إلى عنقه، فلا يقدر أن يدفع عن نفسه العذاب بكفه، وقد سميت الكف كفاً؛ لأن الإنسان يكف عن نفسه الشر بها، ويدفع بها عن نفسه. ويوم القيامة لا يقدر الإنسان أن يدفع عن نفسه بيديه؛ لأنهما قد كتفتا ووثقتا، فلا يقدر أن يدفع إلا بوجهه. فيلقى هذا الإنسان في النار، وقد غلت يداه إلى عنقه، فلا يقدر أن يدفع النار إلا بأشرف ما فيه وهو وجهه، فهل هذا الذي يتقي سوء العذاب ويتقي النار بوجهه يستوي مع المؤمن الصالح الذي يدخل الجنة؟ {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} كهذا الإنسان المؤمن الذي دخل الجنة؟ A لا، لا يستوي أبداً الكافر مع المؤمن، ولا يستوي العاصي مع المطيع، ولا يستوي أصحاب الجنة وأصحاب النار. قال تعالى: {وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ}، وأيضاً يقال للكافر: ((ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ))، فقد كنت في الدنيا تظن نفسك عزيزاً، وتتعزز على أهل الإيمان، وتظن بنفسك أنك كريم على قومك، وأنهم ينصرونك، ولا يسلمونك إلى العذاب، فأين ذهب ذلك وأنت الآن في النار؟! يقال هذا لـ أبي جهل ومن كان معه، فإن أبا جهل زعم في الدنيا أنه أكرم على قومه من أن يتركوه، وأنهم يدافعون عنه، وقال: إذا دخل النار فإن قومه يدافعون عنه. ويأتي أبو الأشدين ويقول: أنا أصرف عنكم النار، وسأقف على باب النار وأضع يدي الاثنتين عليها، فلا أحد يستطيع أن يدخل النار، وسأمنعكم منها! فيقال لهم يوم القيامة: ((ذوقوا ما كنتم تكسبون)) أي: ما كسبتم في الدنيا من شر ومن كفر ومن أعمال سيئة، فذوقوا ما كنتم تكسبون، وما كذبتم في الدنيا وقلتم: لا ينفعكم الآن.

تفسير قوله تعالى: (كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون)

تفسير قوله تعالى: (كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون) قال تعالى: {كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} [الزمر:25]، أي: ليس هذا التكذيب شيئاً جديداً عند هؤلاء القوم، فقد كذب الذين من قبلهم، وقد أذاقهم الله عز وجل سوء صنيعهم وسوء تكذيبهم بعذاب في الدنيا قبل الآخرة. قال تعالى: ((فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ)) وكم أُخذ آمن من مأمنه! فهم ظنوا أنهم آمنون، وظنوا أنهم في مأمن من مكر الله سبحانه، فجاءهم العذاب في مأمنهم الذي كانوا فيه، كما قال تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:40] وقال هنا: ((كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ)). ((فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ)) أي: الذل والهوان والفضيحة في الدنيا، فقد أخزاهم الله سبحانه تبارك وتعالى، وأذلهم وعاقبهم بهذا الخزي في الدنيا. قال تعالى: ((فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ)) أي: هذا الذي ذاقوه في الدنيا شيء يسير من عذاب الله سبحانه، وأما عذاب يوم القيامة فهو أشد وأقوى، ولا يستطيعون أن يصرفوا عن أنفسهم عذاب الله لا في الدنيا ولا في الآخرة. ((وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ))، كأن فيها معنى تحسر العباد على أنفسهم. أي: لو كان يعلمون علماً ينفعهم ما وقعوا في الكفر بالله سبحانه تبارك وتعالى، ولكن كان علمهم علماً لا يتجاوز آذانهم ولا يدخل إلى قلوبهم، ولو كانوا يعلمون حقيقة هذا الأمر لما كفروا بالله، ولما عصوا ربهم سبحانه تبارك وتعالى، ولاتقوا هذا العذاب الذي عند الله سبحانه، ولكن سوء صنيعهم أورثهم النار يوم القيامة، وأورثهم الذل والهوان والخزي في الدنيا، والعذاب في الآخرة.

تفسير قوله تعالى: (ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل)

تفسير قوله تعالى: (ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل) قال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الزمر:27]، فالله الكريم سبحانه تبارك وتعالى نزل هذا الكتاب قرآناً عربياً غير ذي عوج ((بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ)) أي: واضح يبين عن نفسه، ويفصح عن معانيه، ويوضح مبانيه. و (مبين) اسم فاعل، فتقول: هذا مبين، أي: مفصح، يبين ما فيه. فالقرآن واضح، والكلام الذي فيه أيضاً واضح، فإذا قال: (احذروا النار)، فلا أحد يشكل عليه هذا المعنى. وإذا قال: (اعملوا للجنة)، فلا أحد يشكل عليه هذا المعنى. فالقرآن بين وواضح وجليّ، وكل إنسان يفهم من كتاب الله سبحانه ما يريده الله سبحانه منه أن يفهمه من الأحكام. فقد ضرب الله في هذا القرآن أمثالاً بأشياء صغيرة وبأشياء كبيرة، فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26]، فالبعوضة الصغيرة يضرب بها المثل، ويتأمل الإنسان ويتعجب مما ذكر الله عز وجل في القرآن من أمثال! فإذا كان الإيمان في قلبه انتفع بهذه الأمثلة، وعمل بمقتضى ما يذكر الله سبحانه. وإن كان لا يفهم، ولا إيمان في قلبه فيقول: ماذا أراد الله بهذا المثل؟ فلماذا يذكر الله البعوضة؟ ولماذا يذكر الذبابة؟ ولماذا يذكر العنكبوت؟ قال تعالى: {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم:25] أي: لعلهم يتفكرون في هذه الأمثال، ويعرفون قدرة الله سبحانه تبارك وتعالى، ويعرفون ما يريده الله وما يراد بهم. قال تعالى: ((وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ)) أي: كل مثل من الأمثال التي تنفعهم ذكرناها لهم في كتابنا، لعلهم يتذكرون لِمَ خلقهم الله سبحانه؟ فيتفكرون في ذلك فيعملون، ويتذكرون فلا ينسون ما يراد منهم وما يراد بهم، ويذكرون الله سبحانه تبارك وتعالى فيعتبرون ويتبصرون.

تفسير قوله تعالى: (قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون)

تفسير قوله تعالى: (قرآناً عربياً غير ذي عوج لعلهم يتقون) قال تعالى: {قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الزمر:28] قد شرف الله العرب بأن أنزل القرآن بلغتهم، قرآناً عربياً، كما قال تعالى: ((بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ)). وقال هنا: ((غَيْرَ ذِي عِوَجٍ)) أي: لا يوجد فيه إشكال ولا اختلاف، فلا يشكل على من يقرؤه، وإنما يفهم ما يريده الله سبحانه تبارك وتعالى فيه، فلا تضاد فيه، ولا خلاف، وإنما قرآن عربي بلسان عربي مبين كما قال تعالى: {قُرآنًا عَرَبِيًّا} [الزمر:28]. والقرآن فيه قراءتان في كل القرآن، قراءة ابن كثير (القران، قران، قراناً)، وقراءة باقي القراء بالهمزة (القرآن، قرآن، قرآناً). فيقول الله سبحانه بأن هذا القرآن ((قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ)) أي: لا اختلاف فيه ولا تضاد، وليس فيه حكم يناقض حكماً آخر، وإنما الله سبحانه يشرع لعباده ما ينتفعون به في هذا القرآن، فإذا قرأ العبد المؤمن هذا القرآن انتفع بما فيه، وإذا أشكل عليه شيء رده إلى الله وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيفهم منه ما يريد، ورده أيضاً إلى أهل العلم فيفهمونه ما يشكل عليه. {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الزمر:28] أي: غضب الله سبحانه، فيعملون بطاعته، فينجون من النار.

تفسير قوله تعالى: (ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون)

تفسير قوله تعالى: (ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون) قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:29]. وقد قال قبل ذلك: ((وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ))، فكأن هذا توطئة لما يذكره هنا، وتقدمة لما يذكره هنا، فهذا مثل من الأمثال. فقوله: ((رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ)). الرجل هنا عبد يملكه مجموعة من الناس، فالعبد الذي يملكه رجل واحد هل يستوي مع عبد يملكه مجموعة من الناس؟ فتفكروا في ذلك، فإن الله عز وجل يقول: ((ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ))، والمشاكسة: صعوبة الخلق، واختلاف التضاد، والإنسان الذي يريد الخلاف يسمى مشاكساً، وإنسان شكس أي: يحب الخلاف. فلو أن مجموعة أخلاقهم صعبة ومختلفة، وبعضهم ينقض بعضاً، ويكيد لبعض ملكوا عبداً واحداً فإن هذا يقول له: اعمل كذا، والثاني يقول له: لا لا تعمل هذا الشيء، وإنما اعمل كذا، ويقول الثالث: لا اذهب إلى المكان الفلاني الآن. فيبقى هذا العبد متحيراً متخبطاً، أيسمع كلام هذا أو يسمع كلام هذا؟ فكلهم يملكونه! فهو محتار ينفذ كلام مَنْ مِن هؤلاء المتشاكسين؟! ((وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ)) أي: يملكه رجل واحد، والقراءة الأخرى: ((سالماً لرجل))، يعني: عند واحد يسلم به هذا الواحد ويسلم نفسه إليه، وخالص لهذا الواحد. والمعنى على القراءتين: ((رجلاً سالماً لرجل))، ((ورجلاً سلماً لرجل)) أنه خالص لواحد يملكه، فهذا الواحد إذا رآه متعباً أراحه، ثم استعمله بعد ذلك. وأما الشركاء المتشاكسون فلا يهمهم تعبه، وإنما يهمهم أن ينفذ الذي يريدونه؛ لأن لكل أحد حصة فيه، فهل يستوي هذا مع هذا؟ لا، فالذي يملكه رجل واحد مستريح؛ لأنه لا تضاد في الكلام، ولا توجد صعوبة في الأخلاق، فهو واحد يملكه واحد، وأما من يملكه مجموعة فإنه يكون متحيراً مضطرباً لا يعرف كيف يتصرف مع هؤلاء. ولله عز وجل المثل الأعلى، فهل هذا الإنسان الذي يعبد الله وحده لا شريك له يستوي مع من يجري به هواه فيعبد الشياطين والأصنام، ويعبد آلهة من دون الله؟ لا، وإنما هذا مضطرب متحير، لا يعرف ما الذي يريده، فيذهب إلى سدنة الأصنام، فهذا يقول له: اعمل كذا، وهذا يقول له: اعمل كذا، وهذه الأصنام هم الذين خلقوها بأيديهم وصنعوها. فهل يستوي من يعبد الله مع من يعبد هذه الأصنام، ويعبد خلق الله سبحانه تبارك وتعالى؟ لا يستوون. فالذي يعبد الله قد استراح، وعرف ربه سبحانه، وعرف ما الذي يريده الله عز وجل منه، فمشى في طريق الله سبحانه. وأما الذي يعبد أصناماً وأنداداً من دون الله سبحانه فهو متحير متخبط، فهو يعبد هذا الصنم الآن، ثم يعبد غيره، عندما يجده لا ينفعه؛ لأن الشياطين والسدنة تتلاعب بهذا الإنسان، فهذا يأمره بشيء، وهذا يأمره بشيء، وهذا يأمره بشيء، فهو مضطرب متحير، فلا يدري أهذا الإله أفضل أم هذا أفضل؟ فإذا كان في الحضر عبد صنماً، وإذا كان مسافراً صنع صنماً آخر يعبده في سفره، فإذا رجع إلى الحضر رمى الصنم الذي كان يعبده في السفر وعبد الآخر! فهو متحير مضطرب لا يدري أين الحق، فهل يستوي هذا مع هذا الذي عبد الله وحده لا شريك له؟ يقول الله سبحانه وتعالى: ((هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ)) أي: احمدوا ربكم على توفيقه لكم، وعلى أن أرشدكم وهداكم أن تعبدوه وحده لا شريك له كما قال تعالى: ((أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ))، فيطمئن قلب المؤمن لأنه عبد الله وحده لا شريك له، فالله الذي خلق كل شيء هو الذي يستحق العبادة وحده، والمؤمن يستشعر أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، فيستشعر الله الكبير، الله العظيم، الله الجليل، الله الرحيم، فيعبد ربه؛ لأنه يستحق العبادة وحده. وأما الكافر فقلبه متحير مضطرب، لا يعرف أين الحق والصواب؟ وهو يعرف أن هذه الأصنام لا تنفع ولا تضر، ومع ذلك يعبدها! فإذا سئل: لماذا تعبدها وهي لا تنفع ولا تضر؟! لم يكن له حجة إلا أن يقول: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22]، ومستحيل أن يكون آباؤنا يعملون شيئاً خطئاً! فهو يمشي على ما كانوا يمشون عليه، وهو مضطرب متحير لا يعرف أين الحق والصواب! قد أضله الله سبحانه تبارك وتعالى. فيا أيها المؤمن! احمد الله، واثن على ربك الثناء الحسن الذي يستحقه سبحانه، على أن هداك ودلك على طريقه سبحانه وعلى طريق جنته. {الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ} [الزمر:29] أي: أكثر الخلق {لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:29]؛ ولأنهم لا يعلمون فهم يتبعون الهوى، ويتبعون الشياطين ولا يعرفون طريق الحق، حتى وإن بصروا به لم يدخل في قلوبهم نور الإيمان.

تفسير قوله تعالى: (إنك ميت وإنهم ميتون)

تفسير قوله تعالى: (إنك ميت وإنهم ميتون) ثم يقول الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]. فربنا هدى المؤمنين وسيموتون بعد ذلك ويدخلون الجنة، فهم لن يعمروا في هذه الدنيا، كما قال تعالى: ((إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ))، فالإنسان المؤمن يعيش في هذه الدنيا، وهو يعرف أنه سيموت يوماً من الأيام، كما قال تعالى: ((إِنَّكَ مَيِّتٌ))، وميت معناه: الشيء الذي هو حي الآن فإنه متوقع له ذلك. بخلاف: (ميْت) بالتخفيف، فإن معناه: أنه قد مات، وبخلاف مائت الذي هو وصف للإنسان الذي يموت، فهو مائت. وميت صفة مشبهة باسم الفاعل، بمعنى: أنه الآن حي وسيأتي عليه الموت بعد ذلك. ولذلك يقول هنا للنبي صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّكَ مَيِّتٌ)) أي: حي الآن لكن توقع الموت، ولابد أن يأتي عليك هذا الموت. ((إِنَّكَ مَيِّتٌ)) وهم أيضاً سيموتون: ((وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ)). وسورة الزمر سورة مكية، وقد قال الله عز وجل فيها للنبي صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّكَ مَيِّتٌ))، وهو في مكة. ولما مات النبي صلى الله عليه وسلم كأن المسلمين نسوا هذه الآية وما عرفوها، فلم يستحضروها، حتى عمر رضي الله عنه بدأ يخلط في الكلام من شدة وقع هذا الأمر على نفسه، وكان يقول: ما مات! وإنما هي أربعون يوماً، وسيرجع لكم مرة أخرى، فجاء بشيء ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، ولا قاله أحد قبل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما قال هذا مع شدة الاندهاش والتحير من وقع المصيبة عليهم، فبدءوا يتكلمون بكلام لا يفهم، حتى ثبتهم الله الكريم سبحانه بـ أبي بكر رضي الله عنه، فتلا عليهم هذه الآية، والآية الأخرى، فقال للناس: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا} [آل عمران:144]. فذكر لهم هذه الآية، وهي في سورة آل عمران، وهي سورة مدنية، وهذه السورة سورة مكية. فقد ذكر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في القرآن المكي: أنك ميت، وفي القرآن المدني كذلك، ومع ذلك نسي المسلمون المدني والمكي من شدة الدهشة التي نزلت عليهم بموته صلى الله عليه وسلم، وعظيم المصيبة التي أصابتهم، فنسوا حتى ذكرهم أبو بكر، فكأنها لم تنزل إلا في هذا الحين. قال الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّكَ مَيِّتٌ)) وهم أيضاً جميعاً مسلمون وكفار سيموتون، ((وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ)).

تفسير قوله تعالى: (ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون)

تفسير قوله تعالى: (ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون) قال تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر:31] أي: ثم إن المرجع إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، والخصومة بين يدي الله سبحانه تبارك وتعالى، فيجثون للخصومة، فهذا يقول: هذا ظلمني، وهذا أكل مالي، وهذا سفك دمي، وهذا فعل كذا وكذا، فيختصم المؤمنون مع الكفار، ويختصم الظالم مع المظلوم، ويختصم البر مع الفاجر يوم القيامة. وجاء عند الترمذي: أن الزبير رضي الله تبارك وتعالى عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية، فقال: (يا رسول الله! أيكرر علينا ما كان بيننا في الدنيا يوم القيامة؟) يعني: في الدنيا تعاركنا مع بعض، وتشاجرنا مع بعض، وشتم بعضنا بعضاً، وانتهى هذا الشيء، وتصالحنا بعد هذا، فهل سيكرر مرة ثانية يوم القيامة، ويسألنا ربنا يوم القيامة عن هذا الشيء؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم، ليكررن عليكم حتى يؤدى إلى كل ذي حق حقه. فقال الزبير: والله إن الأمر لشديد، إن الأمر لشديد) يعني: نحن ظننا أنه في الدنيا تخاصمنا وانتهى الأمر، وقد يصطلح الناس في الدنيا على شيء من الظلم؛ لأن المظلوم لم يستطبع أن يأخذ حقه، فرضي بهذا الشيء؛ لأنه لم يعرف أن يعمل شيئاً غيره، والله الحكم العدل سبحانه تبارك وتعالى، أعلم بما في نفوس الخلق، فيعلم أن هذا قد رضي أو لم يرض، فيكرر الأمر يوم القيامة، فيختصمان بين يدي الله العزيز الحكيم الحكم العدل سبحانه تبارك وتعالى، فيفصل بين عباده. قال تعالى: ((ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ))، كان الصحابة يتعجبون من هذه الآية، ويقولون: في ماذا؟ ونحن إخوة متحابون يحب بعضنا بعضاً، فظنوا أنها مقيدة بأنهم يختصمون مع الكفار، ولكن الآية قالت: ((ثُمَّ إِنَّكُمْ)) يعني: كلكم، فالكل يختصم يوم القيامة عند الله. فيختصم المسلمون مع الكفار، ويختصم المسلمون بعضهم مع بعض. قال بعض الصحابة: تعجبنا حين أنزل الله عز وجل ذلك، فقلنا: كيف نختصم ونبينا واحد وديننا واحد؟ حتى رأيتُ بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف! رأوا ذلك لما اختصموا في يومي صفين والجمل، ولما حدث بينهم شيء من الخلاف، وقاتل بعضهم بعضاً. فقالوا: عرفنا أن هذا الشيء فينا، ويوم القيامة الله عز وجل يفصل بيننا فيما كان بيننا من خصومات. قال أبو سعيد رضي الله عنه: فلما كان يوم صفين وشدّ بعضنا على بعض بالسيوف قلنا: نعم، هو هذا، قلنا: نعم، هو هذا، فإن الآية عامة: ((ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ)). وجاء في الحديث الذي رواه الإمام مسلم من حديث أبي هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا دينار) يعني: الإنسان المفلس هو: الذي ليس له شيء، لا درهم ولا دينار. قال صلى الله عليه وسلم: (إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا؛ فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار). فهذا مفلس يوم القيامة، والإفلاس في الدنيا سهل؛ لأن الإنسان لن يعيش في الدنيا إلا عمره، فسواء عاش مفلساً، أو عاش فقيراً فهو في النهاية إلى الموت. أما يوم القيامة فإنه يوم الجزاء، يأتي فيه الإنسان المفلس ومعه صلاة وصوم وزكاة، وقد عمل أعمالاً كثيرة، فلما وقف للحساب قيل له: أنت صليت وصمت وعملت كذا، ولكنك ضربت فلاناً، فأنت ظالم، أعطه جزاء ما ضربته، فيدفع من حسناته؛ لأنه لا توجد أموال يوم القيامة، ولكن يعطيه من حسناته. ويأتي الآخر ويقول: جرحني، فيؤمر بإعطائه ثمن هذه الجراح، فيدفع له من حسناته. والثالث يقول: قذفني، والرابع يقول: سبني وشتمني، والخامس يقول: عمل فيّ كذا، وعمل كذا، فيعطى لهؤلاء من حسنات هذا الإنسان، حتى يصير مفلساً لا شيء عنده، وقد بقي أناس آخرون يشتكون منه أنه عمل فيهم كذا وكذا، فيقال له: أنت ظالم لهم، فيؤخذ من سيئاتهم فتوضع عليه، فيحملها عنهم، ثم يدفع في النار والعياذ بالله! فقد صار مفلساً، وأي حسرة على نفس الإنسان أشد من هذه الحسرة، حين يرى الحسنات تؤخذ منه، والسيئات توضع عليه بسبب ما قدم!! ولذلك المؤمن كيس فطن، لا يدفع السيئة بالسيئة ولكن يدفع بالحسنة السيئة؛ لأنه يخاف من الناس أن يأخذوا من حسناته، فلا يتكلم في أعراض الناس، ولا يشتم الناس، ولا يسخر من الناس؛ لأنه لا يريد أن يكون مفلساً، فالمؤمن عاقل وحكيم، فلا يفرط في حسناته في الدنيا، حتى لا تضيع منه يوم القيامة. فهنا المؤمن حين يتذكر الآخرة يمسك لسانه، ويكف يده، ويحفظ فرجه، ويخاف على عينه، ويخاف على بدنه، فلا يكون مفلساً يوم القيامة. قال الله سبحانه: ((ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ)). نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصلّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الزمر [30 - 38]

تفسير سورة الزمر [30 - 38] ذكَّر الله تعالى عباده بحقيقة لابد أن يصل إليها كل مخلوق وهي الموت، وبعد الموت الوقوف بين يدي الله سبحانه، وذكر الله تعالى أنه لا أظلم ولا أكذب من الذي يفتري على الله تعالى ويكذب بالقرآن والسنة، أما الذي يصدقهما فهو مع المتقين في جنات النعيم، وذكر الله تعالى أن الله تعالى كافٍ عبيده وناصرهم على أعدائهم؛ ولذا فإن عباد الله تعالى لا يخافون إلا منه جل شأنه.

تفسير قوله تعالى: (إنك ميت وإنهم ميتون)

تفسير قوله تعالى: (إنك ميت وإنهم ميتون) الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله، وعلى آله وصحابته والتابعين وسلم تسليماً كثيراً. ثم أما بعد: يقول الله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] المعنى: إنك ستموت، ففي الآية الإخبار بما سيكون، ولا أحد يفر من الموت، وأيضاً منها التحذير من تضييع العمل الصالح في هذه الدنيا، فإذا كنت ستموت فاعمل ليوم تبعث فيه ويجازيك الله سبحانه على ما قدمت فيه، فهو خبر للنبي صلى الله عليه وسلم ولغيره من الخلق حتى يعملوا لهذا اليوم الذي يرجعون فيه إلى ربهم يوم القيامة، قال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6]، ويوم يجزيهم الله سبحانه تبارك وتعالى ويختصم أهل الخصومات بعضهم مع بعض، فالمؤمنون مع الكفار، والمطيعون مع العصاة، والظالم والمظلوم، وكل إنسان له خصومة مع الآخر، فالله سبحانه الحكم العدل الذي يحكم بين عباده بالحق.

تفسير قوله تعالى: (ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون)

تفسير قوله تعالى: (ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون) قال تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر:31] فيجادل بعضكم بعضاً، ويتكلم بعضكم مدافعاً عن نفسه، والإنسان يدلي بالحجة في الدنيا وقد تكون صدقاً أو كذباً، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعضه). وقد يخدع الإنسان القاضي بما يقوله من زور ومن شهود زور، أما يوم القيامة فلا أحد يكذب على الله، وإن كذب فضحه الله سبحانه تبارك وتعالى. فالمنافق قد يكذب يوم القيامة ويظن أنه يهرب من الله سبحانه وأنه يخدعه في الآخرة، ولكن الله يفضحه ويختم على فيه فينطق جسد الإنسان بما كان يعمل في الدنيا، ويظهر في يوم القيامة من هذا الإنسان الكلام الذي كان يخفيه في الدنيا فيبديه الله عز وجل على جوارحه.

تفسير قوله تعالى: (فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه)

تفسير قوله تعالى: (فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه) يقول لنا ربنا سبحانه: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [الزمر:32]. و A لا أحد أظلم من الذي كذب فافترى على الله فزعم أن لله الولد والصاحبة، وزعم أن الله لم يرسل رسوله ولم ينزل كتابه. ويكذب بالصدق، أي: بالقرآن وبالحديث اللذين جاءا من عند الله. ويقول تعالى: ((أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ)) أي: أليس هو في هذه النار الموقدة البعيدة القعر؟! وكلمة جهنم: مأخوذة من قولهم: البئر الجهنام والمعنى: البعيد القعر السحيق جداً، فنار جهنم مستعرة وقعرها بعيد وسحيق. ومثوى: مكان إقامة يثوي فيه أصحاب النار، أي: يخلدون فيها. والمعنى: أليس فيها مكان يقيم فيه الكافرون الذين جحدوا ربهم سبحانه، وجحدوا ما جاء من عند الله وافتروا عليه الكذب؟ و A بلى، فيها مثوى ومحل إقامة لمن كفر بالله سبحانه. أما الذي جاء بالصدق من عند الله سبحانه وصدق به فله جزاؤه وأجره عند الله.

تفسير قوله تعالى: (والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون)

تفسير قوله تعالى: (والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون) يقول سبحانه: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر:33] أي: جبريل جاء بالحق وهو القرآن، فقد نزل به من السماء على النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذه من جبريل وبلغه للخلق، وأخذه المؤمنون من النبي صلى الله عليه وسلم، وتوارثوا ميراث النبوة وهو الدعوة إلى الله فبلغوا الآخرين، فكل من بلغ كتاب الله سبحانه فقد جاء بالصدق وبالحق من عند الله سبحانه تبارك وتعالى. ومن عمل بمقتضى هذا الذي بلغه من عند الله سبحانه فإنه من المتقين. والمتقون هم الذين اتقوا غضب الله سبحانه، والذين ينجيهم الله من عقوبته يوم القيامة.

تفسير قوله تعالى: (لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين)

تفسير قوله تعالى: (لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين) يقول الله سبحانه: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر:34] الأتقياء الذين صدقوا بكتاب ربهم سبحانه وعملوا به وبلغوا الآخرين، لهم ما يشاءون في جنات الخلود، وهذا الأجر الحسن والعظيم جزاء لهؤلاء المحسنين، الذين آمنوا واتقوا ربهم وأحسنوا، قال سبحانه: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60]. فالله سبحانه يعطيهم جناته ويكفر عنهم سيئاتهم.

تفسير قوله تعالى: (ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا)

تفسير قوله تعالى: (ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا) يقول تعالى: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا} [الزمر:35] ليكفر: اللام للعاقبة، أي: تكون عاقبة هؤلاء أن يكفر الله سبحانه تبارك وتعالى عنهم أسوأ ما عملوا، وأسوأ ما وقعوا فيه هو الشرك بالله سبحانه، فكانوا مشركين قبل أن يأتيهم النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا مكذبين جاحدين، فلما جاءهم القرآن العظيم آمنوا وصدقوا، فالإسلام يَجبُّ ما قبله، فالله يكفر عنهم أسوأ ما وقعوا فيه من الشرك بعدما أسلموا. ومعنى: ((لِيُكَفِّرَ)) أي: ليمحو ((عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ)) فأسوأ ما يكون من أشياء وقعوا فيها من الشرك بالله فقد كفرها الله سبحانه، وباقي الذنوب يكفرها الله عنهم من باب أولى، بل من فضله ورحمته يبدل هذه الذنوب إلى حسنات، فالله عز وجل رءوف بعباده ولطيف بهم سبحانه، يكفر عنهم أسوأ الذنوب وهو الشرك بالله سبحانه، ثم يبدل سيئاتهم حسنات من فضله ورحمته سبحانه ويدخلهم الجنة. قال سبحانه وتعالى: ((وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ)) فالإنسان يعمل الحسنة ويتمنى لو أنه زاد عليها، فانظر إلى فضل الله سبحانه، فمثلاً: إنسان يريد أن يتصدق بعشرة جنيه فلم يجد إلا جنيهاً واحد فتصدق به، فإذا بالله يعطيه على نيته أجر العشرة الجنيه، فهذا أحسن الذي كانوا يعملون. ولذلك فالمؤمن يتمنى من ربه ما يشاء، ويحب الصالحين، ويحب أن يكون معهم، فالله يعطيه أحسن ما يتمناه هذا العبد، لذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم يطمع المؤمنين في ربهم فقال: (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى من الجنة، فإنه أعلى الجنة وأوسطها وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة)، فإذا سألت ربك فلا تطلب أدنى الأشياء، ولكن اطلب أعلى ما يكون، واستعذ بالله من عذابه ومن ناره واسأل الله الجنة، فإذا سألت ربك الجنة فإنه يمن عليك بها. ولذلك جاء في حديث للنبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من سأل الله الجنة ثلاث مرات قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة) فإذا سألت ربك: اللهم إني أسألك الجنة، اللهم إني أسألك الجنة، اللهم إني أسألك الجنة، فإن الجنة تقول لله سبحانه تبارك وتعالى: رب أدخله الجنة (ثلاثاً). وإذا تعوذت بالله من النار ثلاث مرات: اللهم إني أعوذ بك من النار، اللهم إني أعوذ بك من النار، اللهم إني أعوذ بك من النار، فإذا بالنار تطلب من الله سبحانه أن ينجيك منها، فتقول: اللهم نجه مني، اللهم أعذه مني، اللهم أجره مني. وفي حديث آخر: (من سأل الله الجنة في يوم سبعة مرات) فمن سأل الله سبع مرات أن يدخله الجنة، فإن الجنة تدعو الله سبحانه أن يدخله فيها، فإذا كنت أنت تدعو والجنة تدعو لك والملائكة يستغفرون لك فهذا فضل الله عظيم وكبير، ولا يهلك على الله إلا هالك بأن يدخل النار ويستحقها، وذلك إذا كانت الحسنة بعشرة أمثالها والسيئة بسيئة واحدة فالذي يدخل النار فإنه قد خالف الله سبحانه وما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، فأفرط على نفسه وأسرف وضيع عمره هباء فيستحق ما وقع فيه، نسأل الله العفو والعافية.

تفسير قوله تعالى: (أليس الله بكاف عبده)

تفسير قوله تعالى: (أليس الله بكاف عبده) قال الله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍُ} [الزمر:36] أليس الله يكفي عبده وينصره ويمنعه من أعدائه ويدفع عنه الشرور؟ أليس الله بقادر على ذلك؟ و (عبده) يدخل فيه كل عبد لله سبحانه، فالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم والمؤمنون الذين يتبعونهم بإحسان كلهم عبيد لله. فيقول الله سبحانه: أليس الله كافي هؤلاء وحسبهم سبحانه تبارك وتعالى فيكفيهم شرور الخلق؟ و A بلى. وهذه فيها قراءتان: قراءة حمزة والكسائي وخلف وأبي جعفر (أليس الله بكاف عباده) على الجميع. وقراءة الإفراد لباقي القراء ((أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ)) والمعنى واحد، فعبد جنس، والجنس يدخل فيه الواحد والاثنين والجماعة، فالقراءة الأولى ترجع للقراءة الثانية في المعنى، وهو أن الله يكفي جميع عباده سبحانه، فكل من اتقي الله يقيه الله سبحانه تبارك وتعالى الشرور ويدافع عنه، قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38]. قال تعالى: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [الزمر:36] الكفار يخوفون النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالشركاء الذين عبدوهم من دون الله، ويحذرون النبي صلى الله عليه وسلم من أنه إذا شتم الأصنام فإنها ستعذبه وستخذله وستفعل به كذا، فهؤلاء الذين من دون الله لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً. وقد جاء في الأثر أن الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أتسب آلهتنا؟! لئن لم تكف عن ذكرها لتخذلنك، أيْ: ستتسلط عليك وستخليك، أو لتصيبنك بسوء، وجاء أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل خالداً ليكسر العزى وهو تمثال للكفار، قال الله سبحانه: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم:19 - 20]. فهذه آلهة عبدوها من دون الله سبحانه، فاللات: اسم محرف للفظ الجلالة الله، وسموا اللات آلهة وأنثوها وعبدوها من دون الله. والعزى: كانت شجرة يعبدونها من دون الله سبحانه تبارك وتعالى، وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم خالداً ليقطعها، فلما ذهب إليها وأمسك بالفأس ليقطعها قال له السادن: أحذرك منها يا خالد من أن تعمل فيك فإن لها شدة ولا يقوم لها شيء، وأراد أن يخوف خالداً من الشجرة التي يعبدونها من دون الله ويحذره منها وهذا ما يقوله الكفار في كل زمان، حين يعبد الناس غير الله سبحانه يظنون في أنفسهم أن هذا الذي يعبدونه ينفع ويضر، فيحذرون من ينكر عليهم كمن ينكر عليهم عبادة القبور، فيزعمون أن السيد فلاناً سيعمل كذا وكذا، ويزعمون أشياء فيكذبون على الله سبحانه تبارك وتعالى، ويخوفون أنفسهم بأشياء باطلة. فهؤلاء أقوام قد ماتوا لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً فكيف يملكون لغيره؟ ولكن القلب إذا خرب إذا بصاحبه يهرف بما لا يعرف، فيتكلم بالأشياء الكاذبة فيقول: هذا سيدي فلان سيعمل فيك كذا، وإذا قلت لأحد هؤلاء المشركين: احلف إنك ما عملت كذا، يقول: والله ما عملت كذا وهو كاذب، وحين يقال له: احلف بسيدي فلان، فيقول: لا أحلف، فهو لا يخاف من الله سبحانه تبارك وتعالى، فيحلف كذباً بالله، فإذا حلف بسيدي فلان يخاف منه، وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فضلاً عن غيره، كذلك كان هؤلاء المشركون يعبدون أصناماً صنعوها ومع ذلك يخافون منها ويخوفون النبي صلى الله عليه وسلم بها. قال الله سبحانه تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:36] أين ذهبت عقول هؤلاء حين عبدوا هذه الحجارة التي كسروها وصنعوا منها هذه التماثيل؟! فأضلهم الله فهم لا يهتدون، فأهل الشرك ذهبت عقولهم فلا يدركون ولا يفهمون فيعبدون مالا ينفعهم ولا يضرهم! فالله هو الذي يهدي وهو الذي يضل سبحانه تبارك وتعالى، فتجد الإنسان عقله كبيراً وقوياً في أمور الدنيا فهو عالم في الذرة أو عالم في كذا وكذا، وفي أمور الآخرة متحير لا يعرف من يعبد هل يعبد الطبيعة أو كذا؟ وترى الناس في اليابان عقولهم عقول جبارة، وربنا جعل فيهم آيات عجيبة جداً، ومع ذلك تلاقي أحد الأطباء يذهب إلى المعبد من أجل أن يعبد من دون الله مالا ينفعه ولا يضره، فيأخذ جرساً ويذهب به إلى المعبد من أجل أن يوقظ الإله، فهذا الإله الذي هو محتاج إلى من يوقظه محتاج إلى غيره! قال الله تعالى: ((مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)) أي: من أضله الله من الكفار طمس النور الذي في العقول فإذا بهم لا يفكرون ولا يفهمون، ومن يهديه ويدله على الصواب إذا أضله الله سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (ومن يهدي الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام)

تفسير قوله تعالى: (ومن يهدي الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام) قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ} [الزمر:37] إذا هدى الله عز وجل عبداً من عباده لا يقدر أحد أن يضله وإن اجتمع عليه الثقلان. وقال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ} [الزمر:37] فالله عزيز سبحانه تبارك وتعالى، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، فإذا قال له: كن فلابد أن يكون ما أراده الله، فهو العزيز الغالب القاهر الذي لا يغالب ولا يمانع أبداً، ويأمر بالشيء ولازم أن يكون هذا الشيء على ما أراده الله سبحانه تبارك وتعالى. ((أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ)) و A بلى، الله عزيز وينتقم ممن يعصيه وممن يغضبه.

تفسير قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله)

تفسير قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله) قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر:38] بين تعالى أن هؤلاء الذين يعبدون الأصنام من دون الله مقرون في أنفسهم بأن الخالق الله، ومع ذلك عبدوا غيره، فهذه الأصنام لا تخلق ولا ترزق فالذي يخلق ويرزق هو الله. والشيطان سول للكافرين وزين لهم أن يعبدوها لتقربهم إلى الله تعالى، فجاءهم من باب التواضع أن لا يعبدوا الله تعالى مباشرة وإنما بواسطة الأصنام إذ قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]. قال الله سبحانه: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر:38]. الكفار يقرون بأن الذي خلق السماوات والأرض هو الله سبحانه تبارك وتعالى، ولا أحد من الكفار يعترض على ذلك، فإن اعترض كان كذاباً وأظهر الله سبحانه كذبه على لسانه، فهذا النمرود لما قال: أنا أحيي وأميت فضحه الله حالاً أمام أتباعه، إذ قال له إبراهيم: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة:258] أي: فإن كنت تزعم إنَّ مقامك مقام الربوبية وأنت الذي يخلق ويرزق فأت بالشمس من المغرب! فبهت الذي كفر وافتضح أمام أتباعه وأشياعه. فمقام الربوبية لم يدعها إلا اثنان: النمرود وفرعون، ففرعون زعم أنه ربهم الأعلى، فأغرقه الله ثم قال: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل، فأهلكه الله وأغرقه سبحانه. والذي يزعم أنه إله فليبدل النجوم من مكانها، وليأت بالشمس في الليل إلى غير ذلك من الآيات الكونية التي لا يتحكم بها إلا الله. والإنسان لا يستطيع أن يدعي لنفسه الربوبية فيقول أنه الخالق، ولكن يدعي الألوهية فيقول: اعبدوني من دون الله، سواء صرح بذلك أو لم يصرح، فيجعل التقديس لنفسه ويتوجه إليه غيره بالطلبات فيطلب منه ويعبده ويبجله ويقدسه من دون الله سبحانه تبارك وتعالى. فهنا قال الله سبحانه: ((قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ)) أي: هذه الآلهة التي تتوجهون إليها بالعبادة ((إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ)) وقراءة الجمهور (أَرَادَنِيَ) وقراءة حمزة (أَرَادَنِيْ) بالسكون. وقوله تعالى: ((هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ)) على الإضافة، والأصل: هل هن كاشفات يكشفن الضر الذي يريده الله عز وجل بكم؟ وهذه فيها قراءتان: قراءة الجمهور على إضافة اسم الفاعل، وكذلك قوله تعالى: ((هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ)) والقراءة الثانية قراءة أبي عمرو ويعقوب ((هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتٌ ضُرِّهِ)) على أن اسم الفاعل منون قام مقام الفعل وما بعده مفعولاً به، وكذلك قوله تعالى: ((هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتٌ رَحْمَتِهِ))، والمعنى: الذي تعبدون من دون الله إذا أراد الله بعباده أن ينزل عليهم من بأسه ومن بطشه هل تقدر هذه الآلهة أن تمنع ذلك؟ ف A لا تقدر، ولو أراد الله أن يفتح رحمة على من يشاء من عباده المؤمنين هل تقبل هذه الآلهة أم تمنع رحمة الله؟ A لا تقدر على ذلك، فإذا كانت الآلهة لا تملك ولا تقدر فالله وحده لا شريك له هو حسبي وكافيّ، وهو الكافي سبحانه، وهو الذي يدافع عني وهو الذي ينصرني. قال تعالى: {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر:38] فيفوض المؤمنون أمورهم إلى الله، ويعتمدون عليه وحده لا شريك له، فهو وكيلهم وهم يبرءون من الحول والقوة إلا بالله سبحانه وهذا معنى لا حول ولا قوة إلا بالله. نسأل الله أن يجعلنا من المتوكلين عليه أحسن التوكل. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الزمر [38 - 42]

تفسير سورة الزمر [38 - 42] أمر الله عز وجل نبيه أن يقول للمكذبين من قومه: استمروا على ما أنتم عليه من الضلال والتكذيب فإني مستمر على ما أنا عليه من التوحيد والهداية، وستعلمون إذا رجعنا إلى ربنا سبحانه من الذي يستحق العذاب المخزي والمقيم المستمر الذي لا ينقطع؟ نحن الذين عبدنا الله ووحدناه أم أنتم الذين عصيتموه وأشركتم به؟ والله سبحانه قد أنزل الكتاب المشتمل على الحق من عنده، فمن تمسك به اهتدى، ومن لم يتمسك به ضل وغوى، ونبيه ليس وكيلاً على العباد، وإنما هو رسول إليهم يبين لهم طريق الحق ليتبعوه، ويحذرهم من طريق الشر ليجتنبوه.

تفسير قوله تعالى: (قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعملون)

تفسير قوله تعالى: (قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعملون) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الزمر: {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ * إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ * اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر:39 - 42]. يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات وما قبلها عن قدرته العظيمة سبحانه وتعالى في الخلق وفي الإحياء وفي الإماتة، ويدل عباده على أنه وحده الذي بيده مقاليد كل شيء، بيده الخير، يرسل لمن يشاء ويمسك عمن يشاء سبحانه وتعالى، فما أرسل فلا أحد يقدر أن يمنعه، وما أمسك فلا أحد يقدر أن يرسله، فبيده الخير وحده لا شريك له، والذين يدعون من دون الله سبحانه {َلا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا} [الفرقان:3]، فقال الله سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25]، لقد أقر المشركون أن الذي خلق السموات والأرض هو الله سبحانه وتعالى، فقال لهم: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الزمر:38] أي أخبروني عن هؤلاء الذين عبدتموهم من دون الله، من الأصنام والأوثان والأحجار، هل تملك مع الله سبحانه وتعالى في ملكه شيئاً؟ {إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} [الزمر:38] أي: إذا أراد الله عز وجل أن يبتلي العبد ببلاء من عنده، أو بمصيبة من المصائب هل تقدر هذه الأصنام أن تكشف هذه المصيبة عن هذا العبد؟ {أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} [الزمر:38]، و A لا تقدر الأصنام على ذلك، إنها لا تملك لنفسها شيئاً ولا لغيرها شيئاً، فكيف تنفع وتضر مع الله سبحانه وتعالى؟ قل لهؤلاء: {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ} [الزمر:38] أي: يكفيني طالما أنكم اعترفتم أن هذه الأصنام لا تلمك لنفسها ولا لغيرها شيئاً، فلا أعبد ما تعبدون من دون الله، يكفيني أن أعبد الله سبحانه وتعالى، فهو يكفيني وهو الذي يدفع عني ويحميني، وهو الذي أعبده وأتوجه إليه وحده لا شريك له. {حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر:38] أي: إنني أتوكل على الله مع المتوكلين عليه، فهو الذي يرزقني، وهو الذي يعطيني، وهو الذي يمنحني من فضله سبحانه ومن رحمته. يقول سبحانه: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الزمر:38]، يقول لهؤلاء مخاطباً عقولهم: أفرأيتم هذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله، وهم يعرفون تماماً أنهم هم الذين صنعوها بأيديهم، ومع ذلك عبدوها من دون الله سبحانه، فيقول: أخبروني عن هؤلاء؟ ما الذي تملكه؟ وما الذي نفعتكم به حتى عبدتموها من دون الله سبحانه، وحتى أصررتم على ذلك؟ هم لا يجاوبون بالعقل، وإنما A { إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22]، {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]! يضحك عليهم الشيطان، ويخدعهم بمثل ذلك، حتى إن أحدهم يقول: أبي أعلم مني، وأبي كان يفعل ذلك، فأنا أفعل كما فعل أبي! فالله سبحانه يعجب الخلق من هؤلاء، أين عقول هؤلاء حين عبدوا هذه الأصنام؟!

تفسير قوله تعالى: (قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون)

تفسير قوله تعالى: (قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون) قال الله سبحانه: ((قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ)) أي: استمروا على ما أنتم فيه، {إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [الزمر:39] قراءة الجمهور: و ((اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ))، وقراءة شعبه عن عاصم: (على مكاناتكم) والمعنى على طريقتكم التي أنتم عليها، وليس المعنى أنه يبيح لهم أن يعبدوا غير الله، ولكن كأنه يقول لهم: اعملوا وستجزون، ففيها تهديد لهؤلاء، فطالما أنكم ترفضون ما أنا عليه من التوحيد وما أنا عليه من الحق، مع علمكم بأن هذا الكتاب كتاب من عند رب العالمين، وأنه الكتاب الحق، وأنما أنتم فيه هو الباطل؛ فاستمروا على ما أنتم فيه حتى تلقوا ربكم فيجازيكم على ما تصنعون، والمكانة والمكان بمعنى الجهة التي تمكنت عندكم، ((اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ)) أي: على جهتكم، وعلى طريقتكم، وعلى ما أنتم فيه، وهذا فيه تهديد لهؤلاء. ((إِنِّي عَامِلٌ)) أي: على مكانتي، وعلى جهتي، وعلى ما مكنني فيه ربي سبحانه، فأنا عامل على التوحيد، وعلى عبادة الله سبحانه وحده لا شريك له، ((فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)) هذا تهديد ووعيد لهؤلاء، {مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} [هود:39] أي: من هو الذي سينزل عليه عذاب من عند رب العالمين فيخزيه، ويقهره ويذله، ويذيقه الهوان، ((وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ)) والذي يستحق هذا العذاب، هو الذي ألغى عقله، وعبد غير الله سبحانه، أقر بأن الله سبحانه هو الرب ومع ذلك وجه العبادة إلى غيره، فيحل عليه عذاب مقيم، لا يصرف عنه بل هو ملازم له ملازمة الغريم في نار جهنم والعياذ بالله.

تفسير قوله تعالى: (إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق)

تفسير قوله تعالى: (إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق) قال الله عز وجل: {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنْ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [الزمر:41]، الكتاب هو القرآن العظيم، وعبر بنون العظمة، ليدل على أنه كتاب عظيم يستحق من التعظيم ما يستحقه، ((إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ))، وفي سورة النساء، قال: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء:105]، فالله أنزل الكتاب من السماء، وهذا دليل من الأدلة على علو رب العالمين سبحانه، وأنه فوق سمواته مستو على عرشه سبحانه، وقد نزل الكتاب مع روح القدس جبريل الأمين، نزله ربه سبحانه على قلب النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه لينذر به، وليهدي به من شاء الله سبحانه. وقوله: (الكتاب) أي: الكتاب المعهود المعروف، وهو القرآن العظيم. (للناس بالحق) أي: إنزاله من السماء حقاً ونزل مشتملاً على الحق، ففيه الحق من عند رب العالمين، وفيه أحكام الشريعة، ليحكم بين الناس بالعدل وبالحق، فنزل حقاً من عند رب العالمين، ونزل مشتملاً على كلام رب العالمين، وعلى الشريعة الحقة من الله سبحانه. (فمن اهتدى فلنفسه) أي: من أخذ بهذا القرآن وتمسك به فلنفسه النفع، ولنفسه الرحمة من الله سبحانه وتعالى، فالإنسان هو الذي ينتفع بتلاوة القرآن وبالعمل به، ولن ينفع ربه شيئاً سبحانه وتعالى، بل إن النفع يرجع على من يؤمن برب العالمين، ويصدق بكتابه ويعمل به. (ومن ضل) أي: من انحرف عن طريق رب العالمين، وترك العمل بما جاء من عند رب العالمين، من جعل كتاب الله وراءه ظهرياً. (فإنما يضل على نفسه) أي: وبال الضلال على نفسه، وشؤم ضلاله على نفسه، فهو الذي تتنزل عليه العقوبة من عند رب العالمين بسبب ضلالة. قال: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [الزمر:41]، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبره ربه سبحانه أن يتوكل عليه فقال: {حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر:38]، وأخبره أنه ليس وكيلاً على الخلق، فليس مفوضاً إليه أمر الخلائق عليه الصلاة والسلام، {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران:144]، {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ * إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:23 - 24]. إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم منذر، ومبشر، ورسول من عند رب العالمين، (ما على الرسول إلا البلاغ)، أما أن يكون وكيلاً على الخلق، ومراقباً وحفيظاً عليهم ومغيراً ما هم فيه إلى شيء آخر فهذا لا يملكه صلى الله عليه وسلم، ولذلك يقول له ربه سبحانه، {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]، وهذا موافق لهذا المعنى، ولما يقول: {وََإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]، فهو موافق له، فهو يهدي بمعنى: يدل عليه الصلاة والسلام، ولا يهدي بمعنى لا يغير ما في القلوب عليه الصلاة والسلام. فهو عليه الدلالة يدل الناس، هذا طريق الحق فاتبعوه، لكن هل يملك أن يقهرهم على التغير عما هم فيه إلى شيء آخر؟ لا، الذي يحول القلوب هو الله سبحانه وتعالى، فليس النبي صلى الله عليه وسلم موكلاً بتغييرهم من حال إلى حال، وهو كقوله سبحانه: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:22] أي: لا تملك السيطرة على القلوب، إنما يملك ذلك الله سبحانه وتعالى، فالله يغير القلوب، والنبي صلوات الله وسلامه عليه يدل على الخير الذي جاء من عند رب العالمين سبحانه، قال: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [الزمر:41] يعني: لم نوصك عليهم، ولست مسيطراً عليهم، مغيراً لما في قلوبهم، فأنت لا تملك ذلك، وإنما يملكه الله سبحانه فهو نعم المولى، ونعم الوكيل، ونعم الحفيظ سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها)

تفسير قوله تعالى: (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها) يقول الله لنبيه عليه الصلاة والسلام وللناس: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر:42]، في هذه الآية دليل على قدرة الله سبحانه العظيم، فهو يذكر لنا في هذه الآيات شيئاً وراء شيء، يذكر أنه الذي خلق السماوات والأرض، والسور المكية فيها كثير من ذلك، ففيها بيان قدرة الله سبحانه وتعالى، وأنه الخالق، وأنه الرب، فيخاطب العقول، هل الذي يخلق كمن لا يخلق؟ هل يستوي من يخلق ومن لا يخلق؟ هل يستوي العبد مع ربه، حاشا لله سبحانه وتعالى. فالله الذي خلق السماوات والأرض، والله هو الذي خلق هذه الأنفس، والله هو الذي يتوفى هذه الأنفس، فهل تملك آلهتكم من ذلك شيئاً؟ يقول الله عز وجل: {اللَّهُ يَتَوَفَّى} [الزمر:42] أي: يقبضها وافية سبحانه وتعالى، و ((الأَنْفُسَ)) أي: الأرواح، {وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر:42]، فالله يقبض نفوس خلقه إذا ناموا، والنوم أخو الموت كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الطبراني في الأوسط والدارقطني من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: (أينام أهل الجنة؟ فقال: لا، النوم أخو الموت، وأهل الجنة لا يموتون)، فلا ينام أهل الجنة، والنوم يحتاجه الإنسان ليستريح، فإن الدنيا دار عناء وتعب ومشقة، فيحتاج الإنسان للنوم ليستريح من تعبه ومشقته، أما الجنة فهي دار السعادة، ودار الراحة، والإنسان مستريح فيها لا يحتاج إلى أن يجدد نشاطه بنوم، بل عمره كله في الجنة في استمتاع وراحة ونعيم مقيم. فيقول: ((اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا)) أي: إذا جاء وقت الموت قبض الله نفوس خلقه، والتي لم تمت يتوفاها في منامها، فهذا نوع من الوفاة، والله أعلم به وبحال عباده فيه، والأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف. خلق الله عز وجل الأرواح قبل أن يخلق هذه الأجساد {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا} [الأعراف:172] أي: لئلا تقولوا {يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:172]، وغفل العباد عن ذلك، ولكن أوجد الله عز وجل في قلوبهم الفطر التي تدلهم على أن الله هو الذي يستحق أن يعبد وحده لا شريك له، فالله هو الذي خلق أرواح عباده، فيقبض هذه الأرواح في وقت وفاتها، ويقبضها أيضاً في وقت نومها، فتخرج الأرواح في وقت نوم الإنسان بطريقة الله أعلم بها، ولكنها ليست كالطريقة التي تخرج حين يموت العبد، وإن كان هذا نوع من الخروج، وتلتقي الأرواح كما يشاء الله سبحانه، ويتعارف بعضها مع بعض، فما تعارف منها ائتلف، فتجد الإنسان يرى غيره أول مرة، وما رآه قبل ذلك، ومع ذلك يستريح إليه ويحبه ويتحدث معه، فيقول: (ما تعارف منها ائتلف)، أي: ما تعارف منها حين قبضها الله سبحانه وتعالى ائتلف، (وما تناكر منها اختلف)، فهنا يخبرنا ربنا سبحانه أنه يقبض الأرواح في حالين، في حال الوفاة، وهو القبض الذي لا رجوع فيه للروح إلى الجسد مرة أخرى في هذه الدنيا، وإنما ترجع إليه حين تقوم الساعة، وقبض آخر لكن الروح ترجع فيه إلى الجسد. قال: {وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر:42] يقبضها الله سبحانه في وقت نومها قبضاً يعلمه الله سبحانه، وليس كقبض الروح الذي تخرج فلا ترجع إلى الإنسان. قال الله سبحانه: {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر:42]، التي قضى عليها الموت يمسكها، فلا ترجع إلى جسدها مرة أخرى، والتي لم يقض عليها الموت ترجع إلى جسدها، وهذه الآية أجملت ذلك وفصله ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث كيفية خروج الروح من البدن في الموت، وأن الله عز وجل يرسل ملك الموت فيأتي ملك الموت إلى من قضى الله سبحانه وتعالى عليه الموت، فيقول: (اخرجي أيتها الروح)، إن كانت روحاً طيبة قال: (اخرجي إلى روح وريحان ورب غير غضبان)، وإذا كانت روحاً خبيثة قال: (اخرجي أيتها الروح الخبيثة، كنت في الجسد الخبيث إلى رب غضبان)، فتخرج هذه وتخرج هذه، كما يشاء الله سبحانه وتعالى. فهو سبحانه أجمل في قوله: {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} [الزمر:42] كيفية خروجها، وأنه جاء إليها ملك الموت فأخرجها، أما الأخرى فلم يخبر النبي أن ملك الموت هو الذي جاءها ولكن الله هو الذي فعل بها ذلك، ثم ترجع إلى الجسد مرة ثانية كما يشاء الله سبحانه وتعالى. ((قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ)) هذه قراءة الجمهور، وقراءة حمزة والكسائي وخلف: ((فَيُمْسِكُ الَّتِي قُضَي عَلَيْهَا الْمَوْتُ)). قال: ((وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى)) أي: ويرسل النفس التي لم يقض عليها بالوفاة إلى أن تعمر العمر الذي كتبه الله، إلى الأجل المسمى. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر:42]، فهذا نائم وهذا ميت، هذا كهذا ولكن الميت له حال والآخر له حال آخر. وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (إن الله قبض أرواحنا ولو شاء لردها إلينا)، ومناسبة هذا أنه (كان صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في سفر ثم قال لـ بلال: اكلأ لنا الفجر)، فقد نزلوا آخر الليل. قبل أن يطلع الفجر، فأرادوا أن يناموا من شدة التعب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ بلال رضي الله عنه (اكلأ لنا الفجر) أي: احرس لنا الفجر، (فجلس بلال رضي الله تعالى عنه، ثم نام بلال ونام المسلمون ولم يستيقظوا إلا بعد طلوع الشمس)، لحكمة من الله سبحانه، فلما قام الصحابة فزعوا لذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم طمأنهم بأن الذي فعل بهم ذلك هو الله سبحانه وتعالى، فقال: (يا أيها الناس! إن الله قبض أرواحنا، ولو شاء ردها إلينا)، فالله أراد أن يناموا في هذا الوقت حتى يبين لنا حكم من وقع في مثل ذلك: (فالنبي صلى الله عليه وسلم قام وتوضأ، وتوضأ معه أصحابه، وصلى سنة الصبح ثم صلى الفجر) فبين لنا بفعله صلى الله عليه وسلم أن من نام عن صلاة الصبح، فعليه أن يفعل كالذي قام في وقتها، يصلي النافلة قبلها، ثم يصلي صلاة الصبح بعد ذلك. وفي الحديث: (إن الله قبض أرواحنا)، وهذا نوع من أنواع الموت، وهو النوم، ثم رد الله سبحانه وتعالى الأرواح بعد ذلك. وجاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أوى أحدكم إلى فراشه فليأخذ داخلة إزاره، فلينفض بها فراشه وليسم الله فإنه لا يعلم ما خلفه بعد على فراشه، فإذا أراد أن يضطجع فليضطجع على شقه الأيمن، وليقل: باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين). من السنة أن تنفض الفراش قبل أن تنام عليه، وإذا نمت فمن السنة أن تضع يدك تحت خدك الأيمن، وتقول: (باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين)، وهذا دعاء عظيم من الأدعية التي علمنا إياها النبي صلى الله عليه وسلم، (إن أمسكت نفسي)، فالذي سينام بين أمرين إما أن يقوم من نومه وإما أن يموت، (إن أمسكت نفسي) أي: قبضت روحي في هذا النوم (فارحمها) أي: فاغفر لها، (وإن أرسلتها) أي: إن بعثت روحي مرة أخرى وتركتني أعيش، (فاحفظني بما تحفظ به عبادك الصالحين)، وهذا من الأدعية الجميلة المهمة، ومنه أن يحفظه كحفظه لعباده الصالحين، وهو سبحانه حفظ عباده الصالحين فوقاهم شرور الخلق، ويقيهم الابتلاءات إلا ما شاء سبحانه وتعالى، ويحفظ عليهم دينهم فيذكرون الله ويقرءون القرآن ويعملون الصالحات، فيحفظهم على ما يحب لهم من خير من كل وجه من الوجوه، ويحفظ لهم تقواهم. نسأل الله عز وجل أن يحفظنا بما يحفظ به عباده الصالحين. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الزمر [43 - 47]

تفسير سورة الزمر [43 - 47] ذم الله تعالى المشركين في اتخاذهم شفعاء من دون الله من الأصنام والأنداد التي اتخذوها من تلقاء أنفسهم بلا دليل ولا برهان على ذلك، وهي لا تملك شيئاً من الأمر؛ بل ليس لها عقل تعقل به، ولا سمع تسمع به، ولا بصر تبصر به، فكيف يعبدونها من دون الله سبحانه، وهو الخالق والفاطر للسماوات والأرض وكل شيء؟!

تفسير قوله تعالى: (أم اتخذوا من دون الله شفعاء)

تفسير قوله تعالى: (أم اتخذوا من دون الله شفعاء) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر:43 - 44]. يخبرنا ربنا سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن حال المشركين الذين اتخذوا من دون الله أنداداً وشركاء، وزعموا أنهم شفعاء لهم عند ربهم سبحانه، وأنهم يقربونهم إلى الله سبحانه. هذه السورة كما ذكرنا من السور المكية التي نزلت، والشرك يملأ الأرض، والمشركون يعبدون غير الله سبحانه، والمؤمنون قلة يدعون الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فالله عز وجل يفضح هؤلاء المشركين الذين يقرون بأن الله هو الرب، وأن الله هو الخالق، وأنه خلق السماوات والأرض، ويملك كل شيء، ومع ذلك إذا توجهوا بالعبادة عبدوا غير الله سبحانه وتعالى. يقول الله عز وجل هنا: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ} أي: بل اتخذوا من دون الله سبحانه وتعالى هذه الأصنام، وظنوا أنها تقربهم من الله، وأنها تشفع لهم عند الله سبحانه وتعالى! والشفيع بين الناس هو الإنسان الذي يأتي إلى غيره في حاجة له، فيقول: يا فلان اشفع لي عند فلان، فكنت وحدك وتراً، فأخذت هذا شفعاً معك، فصرتما اثنين، فهو يعاونك في هذه الحاجة حتى يقضيها لك هذا الإنسان. إذاً: أصل الشفاعة من الشفع، والشفع هو الزوج، كأنك وحدك لا تقدر عليها، فتحتاج إلى غيرك ليكون معك ويقويك حتى تقضي هذه الحاجة. فهنا هؤلاء زعموا أن هذه الأصنام تكون معهم وتقربهم عند الله سبحانه وتعالى، وتشفع لهم عند الله، فقال سبحانه: ((أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ))، أي: هل اتخذوا من دون الله هذه الأصنام تشفع لهم وتأتي معهم عند الله سبحانه، لترفع حاجتهم عند الله؟ ومن الذي أخبرهم بذلك؟ وهل عندهم أثارة من علم من عند الله سبحانه بذلك أم جاءهم رسول يأمرهم بأن يفعلوا ذلك؟ ليس عندهم هذا ولا ذاك، بل كذبوا على أنفسهم وكذبوا على ربهم سبحانه. قال سبحانه: ((قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ)) أي: هؤلاء الشفعاء لا يملكون شيئاً، وهذه الأصنام لا تملك شيئاً، ولا تعقل ما يراد منها، ولا تفهم ما يقولونه لها، فهل تجيبهم إذا دعوها؟! هم يعرفون تماماً أن الأصنام لا تتكلم ولا تدفع عن نفسها شيئاً، فإذا كانت كذلك فكيف تعبدونها من دون الله سبحانه؟ قال الله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر:44] أي: الشفاعة لا يملكها إلا الله سبحانه وتعالى، ولذلك يقول في كتابه: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]، وقال تعالى: {لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم:87]، وقال سبحانه: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] أي: من هذا الذي يشفع عند الله سبحانه؟ فهذا الذي يشفع عند الله لا يشفع إلا بإذن الله سبحانه؛ ليرينا قدرته وقوته، وأنه وحده الفعال لما يريد، ولا أحد يملك مع الله شيئاً، ولذلك في مقام الشفاعة العظمى لنبينا صلوات الله وسلامه عليه يأتي يوم القيامة حتى يشفع عند ربه سبحانه لفصل القضاء بين العباد، فيخر ساجداً، ويتركه الله ما يشاء سبحانه وتعالى، فهو عندما يسجد لله يفتح الله عليه بمحامد يعلمه الله عز وجل إياها، فيحمد ربه ويمجد ربه سبحانه، حتى يشفع عند ربه سبحانه فيأذن له ربه سبحانه، بعدما يتركه ما يشاء سبحانه؛ ليرينا أنه لا أحد يملك الشفاعة، فيسجد لربه ما شاء الله سبحانه، ثم بعد ذلك يقال له: (يا محمد! ارفع رأسك، واشفع تشفع، وسل تعط) كل هذا حتى نعلم أنه لا يملك الشفاعة إلا الله، حتى رسولنا صلوات الله وسلامه عليه إلا أن يأذن الله سبحانه وتعالى له، وهذا معنى قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، فيأذن له ربه سبحانه ويقول له: (ارفع رأسك، واشفع تشفع، وسل تعط، فيقول: يا رب أمتي أمتي). فالإذن بهذه الشفاعة يملكه الله وحده؛ لأن كل الشفاعة يملكها الله سبحانه وتعالى وحده، فإذا قام الأنبياء ليشفعوا فإنهم لا يشفعون إلا أن يأذن الله عز وجل لهم، كذلك إذا قام المؤمنون ليشفع بعضهم لبعض برفع بعضهم درجات عند الله سبحانه، وأن يخرج بعضهم من النار بإذنه سبحانه وتعالى، فلا يقدر أحد أن يشفع لأحد إلا أن يأذن الله سبحانه وتعالى فتشفع الرسل، وتشفع الملائكة، لكن بعدما يأذن الله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (قل لله الشفاعة جميعا)

تفسير قوله تعالى: (قل لله الشفاعة جميعاً) قال: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر:44] أي: أنه سبحانه يملك السماوات وما فيها وما فوقها، ويملك الأرض وما فيها وما فوقها وما تحتها، فهو يملك كل شيء سبحانه، وله ملكوت كل شيء ثم إليه المرجع سبحانه، فيملك العباد ويملك ما يملكون، ويجازيهم يوم القيامة على ما قدموا وفعلوا. فقوله: ((ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)) هذه قراءة الجمهور، وقراءة يعقوب (ثم إليه تَرجِعون) على البناء للفاعل، أي: ترجعون أنتم إلى الله رب العالمين سبحانه ليجازيكم.

تفسير قوله تعالى: (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة)

تفسير قوله تعالى: (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة) قال الله تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر:45] انظر إلى المشرك بالله كيف عاثت الشياطين في قلبه فساداً، فإذا به إذا ذكر الله وحده سبحانه الذي يقر هذا المشرك بأنه الذي خلق السماوات والأرض، فقيل له: قل: لا إله إلا الله، يشمئز وينفر ويرفض هذا، ويعرض عن الله سبحانه وتعالى، والاشمئزاز هو الانقباض، فالمشرك ينقبض قلبه عند ذكر الله؛ لأن قلبه خرب لا يعرف التوحيد، ولذلك تجد المشركين يستهزئون من المؤمنين الموحدين الذين يدعونهم إلى عبادة الله وحده، فيقول قائلهم: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]، {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ * أَؤُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} [ص:7 - 8] فهؤلاء الذين يتهكمون على النبي صلى الله عليه وسلم، ويتهكمون على مقام التوحيد، ويقولون: ((أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا)) تناسوا أنهم أقروا أن الخالق واحد سبحانه وتعالى، فنقول لهذا وأمثاله: لم لا تعبد هذا الخالق الواحد الذي أقررت أنت بأنه الذي خلق السماوات والأرض؟ فالنعرة الجاهلية والتعصب القبلي الذي عندهم، وكل قبيلة عندها صنم خاص بها، كل هذا جعله يقول: هل كلنا نعبد إلهاً واحداً ويأتي هذا الواحد ويقول لنا: اعملوا كذا، ولا تعملوا كذا؟! لا، لا نريد هذا الشيء، فكل واحد منهم يريد أن يعبد ما يشاء؛ بسبب هذه النعرة الجاهلية التي عندهم، كانوا يتنافسون أيام الجاهلية، هؤلاء يسبقون هؤلاء، كلهم يريد أن يكون السابق، ويريد أن ينفرد كل بالمدائح دون غيره، فكل هذا جعل أحدهم يقول: منكم رسول يا بني هاشم ونحن من أين نأتي برسول مثله؟ فيرفضون التوحيد بسبب هذه النعرة! كأن الدين لعبة يتلاعبون به، هؤلاء لا يحكمون عقولهم، ولا يفهمون ما يقال لهم، والكافر لا يحاول أن يفكر في هذا الشيء، ولذلك لما دخلوا في دين الإسلام بعد ذلك كانوا يضحكون على أنفسهم، كانوا يجلسون مع النبي صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الفجر في المسجد حتى شروق الشمس، وهم يذكرون الله، فإذا شرقت الشمس انتظروا حتى ترتفع فيصلون الضحى، ثم يذكرون أشياء مما كانوا عليه في الجاهلية، ويضحكون على أنفسهم فيما كانوا يصنعون. الإنسان هو الإنسان، هو هذا الذي كان مشركاً يوماً من الأيام، فالآن دخل في دين الله سبحانه، فإذا به يضحك على نفسه، كيف كان يعبد الصنم الذي صنعه هو بيده؟! كيف صنع صنماً من عجوة ثم لما جاع أكل هذا الصنم الذي يقربه إلى الله حسب زعمه؟! فكانوا يضحكون على أنفسهم فيما كانوا يفعلونه أيام جاهليتهم. كان أهل الجاهلية إذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوبهم وانقبضت ونفرت؛ لأنهم لا يؤمنون بالآخرة، وكانوا يقولون: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24] أي: سنموت بعد هذه الدنيا ولن نرجع بعد ذلك، فلذلك يرفضون أن يدخلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم لا يصدقون بوجود الآخرة، وأنهم راجعون إلى الله، ليجازيهم في الدار الآخرة. ثم قال: ((وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ)) أي: إذا ذكر بعضهم لبعض هذه الأصنام والأوثان فرحوا بها، وذهبوا إلى أوثانهم وأصنامهم، وطيبوها وغسلوها ومسحوها، وتقربوا إليها من دون الله سبحانه مستبشرين بذلك، ((إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)) أي: يظهر في وجوههم البشر والفرح والسرور.

تفسير قوله تعالى: (قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة)

تفسير قوله تعالى: (قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة) قال الله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر:46]، هذه الآية العظيمة الجميلة التي تكسب المؤمن حين يتلوها الثقة بالله سبحانه وتعالى، والتوكل على الله سبحانه، والركون إلى ربه سبحانه، والخضوع له سبحانه، والتسليم والتفويض إليه سبحانه. فقوله: ((قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) يعني: قل: يا ألله، يا فاطر السماوات والأرض. ((اللهم)) هذا نداء، معناه: يا ألله، فهنا جمع بين صفة الإلهية، وأنه الإله المستحق للعبادة، وبين صفة الربوبية، وأنه الرب الذي يخلق ويرزق ويفعل ما يشاء ويحكم بما يريد سبحانه. قوله: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ} [الزمر:46] يعني: يا من فطر السماوات، أي: خلقها على غير مثال سابق سبحانه وتعالى، لم تكن هناك سماء فخلق هذه مثلها، لا، بل فطرها وابتدعها سبحانه وتعالى، كذلك الأرض فطرها الله سبحانه وتعالى على غير مثال سابق. ثم قال: ((عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ)) يعني: يا عالم الغيب والشهادة، يا من تعلم كل شيء، وما خفي عن الخلق لا يخفى عليك، ما يشاهده الخلق وما غاب عنهم أنت تعلمه، فأنت عالم الغيب والشهادة. ثم قال: ((أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)) يعني: أفوض أمري إليك أنت تحكم بيننا وبين هؤلاء المشركين، وأنت تقضي بيننا وبين هؤلاء الظلمة، وأنت تحكم يوم القيامة بيننا فيما اختلفنا فيه. هذه الآية العظيمة كان نبينا صلى الله عليه وسلم يستفتح بها في قيام الليل، كما جاء في الحديث في صحيح مسلم من حديث السيدة عائشة رضي الله عنها وقد سألها حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن النبي صلى الله عليه وسلم: (بأي شيء كان يستفتح النبي صلى الله عليه وسلم قيام الليل؟ فقالت السيدة عائشة رضي الله عنها: كان إذا قام من الليل افتتح صلاته يقول: اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)، فكان يستفتح قيام الليل بسؤاله ربه سبحانه بأسمائه الحسنى التي جاءت في هذه الآية، من أنه فاطر السماوات والأرض، وأنه عالم الغيب والشهادة سبحانه، وقبلها يقول: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل)، وهؤلاء هم أعظم ملائكة الله سبحانه وتعالى، والله أعظم وأعلى وأجل وأكبر سبحانه وتعالى، فكأنه يقول: يا ألله يا من خلقت هؤلاء الملائكة العظماء كجبريل وميكائيل وإسرافيل، ويا من فطرت وخلقت السماوات على غير مثال سابق، وخلقت الأرض اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك. والمؤمن لا يمل من سؤال ربه الهداية، تسأل ربك الهداية سبحانه وتعالى في كل صلاة من الصلوات الخمس، فأنت تقرأ الفاتحة في كل ركعة وتقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] أي: الطريق القويم، طريق رب العالمين، فالله يهديك ويدلك ويثبتك، فلا تزال على ذلك حتى تصل إلى الجنة ويدخلك الجنة، فلذلك تحتاج إلى سؤال الله سبحانه الجنة وسؤاله أن يهديك طريقها، وقد شاء الله عز وجل أن يهدي خلقاً وأن يضل خلقاً، فاختلف الخلق في ذلك، فمنهم من ضل ومنهم من اهتدى، والله عز وجل شاء ذلك، فاطلب منه الهداية وقل: اهدني لما اختلف فيه من هذا الحق بفضلك وبإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

تفسير قوله تعالى: (ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لا فتدوا به من سوء العذاب)

تفسير قوله تعالى: (ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعاً ومثله معه لا فتدوا به من سوء العذاب) قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] يخبرنا سبحانه عن يوم القيامة وما يكون فيه فيقول: ((وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا)) أي: الذين ظلموا أنفسهم بأن أشركوا بالله سبحانه وتعالى، وأشركوا معه غيره، والذين عصوا ربهم ولم يتابعوا الرسول صلوات الله وسلامه عليه، لو أنهم يوم القيامة معهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه أضعاف مضاعفة، معهم كنوز الأرض جميعها أو مع أحدهم ومثلها معها لافتدى بها من عذاب يوم القيامة، يفتدي من النار بكنوز الأرض، كيف وهو لا يملكها، لم يملكها في الدنيا وليس معه شيء منها في الآخرة، قال: ((لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)). ثم قال: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} هذه الآية العظيمة فيها معان عظيمة ينبغي للإنسان أن يتأملها، وأن يراجع نفسه وعمله مع هذه الآية: ((وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ)) [الزمر:47] أي: بدا لهم من الله، كأن الإنسان ظلم نفسه في الدنيا وأحسن الظن بزعمه أنه إذا رجع إلى الله فإنه سيكرمه وسيدخله الجنة، هو أحسن الظن في نفسه وأساء العمل، فلما جاء يوم القيامة بدا له ما لم يكن يحتسب! قال الله عز وجل عن الكفار: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] أي: هؤلاء الكفار عملوا في الدنيا أعمالاً يرونها صالحة، ومن أسلم منهم كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم بعد إسلامهم، يقول الرجل: (إن أبي كان يصنع كذا وكذا وكذا، كان يطعم في الجاهلية، وكان يسقي الحجيج، وكان يعتق الرقاب، فهل ينفعه ذلك؟ فيقول له صلى الله عليه وسلم: إنه لم يقل يوماً من الدهر: رب اغفر لي وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم) يعني: أنه كان يعمل هذه الأشياء في الدنيا ليس لله سبحانه، فكونه يطعم الحجيج ويسقيهم، ويفك الرقاب، ويعين الإنسان المظلوم، لا ينتفع بذلك، ((وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ)) فالإنسان الذي يرائي بعمله في الدنيا، فيعمل حتى يقال عنه: عالم، وحتى يقال عنه: جريء، وحتى يقال عنه: شجاع، وحتى يقال عنه: قارئ، وحتى يقال عنه: منفق وجواد، فإذا جاء يوم القيامة: ((وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ)). يقول مجاهد في تفسير هذه الآية: عملوا أعمالاً توهموا أنها حسنات، فإذا هي سيئات. وقال غيره: عملوا أعمالاً وتوهموا أنهم يتوبون إلى الله قبل الموت. والإنسان يخدع نفسه بالتسويف ويقول: في هذا اليوم سنعصي ربنا وغداً سنتوب فخدع نفسه فخدعه الله سبحانه وتعالى، ولم يأت هذا اليوم الذي توهم أنه يتوب، وإنما عاجله الموت وبادره قبل أن يتوب، ((وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ)). يقول الإمام الثوري رحمه الله: ويل لأهل الرياء، ويل لأهل الرياء، هذه آيتهم وقصتهم، هذه آيتهم وقصتهم. أي: المراءون الذين يراءون بأعمالهم، ويطلبون من الناس المدح على أعمال المفترض أنها تكون لله سبحانه وتعالى، لكنهم طلبوا من الناس المدح فمدحهم الناس وضاع ثواب العمل، فوجدوا من الله ما لم يكونوا يحتسبون. يقول عكرمة بن عمار: جزع محمد بن المنكدر عند موته جزعاً شديداً، ومحمد بن المنكدر كان من الزهاد العباد الصالحين، فلما جاءه الموت وجدوه في غاية الجزع والخوف فقالوا: كيف تجزع وأنت تموت، وقد كنت تصلي وتقوم الليل وتكثر من الذكر؟! ما هذا الجزع؟ قال: أخاف آية من كتاب الله! قالوا: أي آية؟ قال: هذه الآية: ((وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ))، هذا العابد الزاهد خاف في آخر عمره من هذه الآية: ((وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ)) فكيف بغيره؟! فالإنسان المؤمن يحاسب نفسه، ويراجع نفسه في كل عمل من الأعمال، هل هو مخلص لله أو غير مخلص؟! هل هو متابع للنبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من عند الله أم مبتدع في دين الله سبحانه؟! فليحذر كل من هذه الآية، وليحذر أن يرائي في الدنيا وأن يعمل أعمالاً ليست على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فيأتي يوم القيامة ويرد عليه عمله، ويقال له: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد). نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الزمر [47 - 52]

تفسير سورة الزمر [47 - 52] حين يرى المشركون الجنة قد أزلفت، والنار قد برزت، يتمنى المفرطون أن ينجوا من المصيبة التي نزلت بهم، ولو ببذل دنياهم التي طالما تقاتلوا عليها، وكفروا وعصوا من أجلها؛ لأنه ظهر لهم من الأمر ما لم يكن في الحسبان، ففي تلك المواطن تسكب العبرات حقاً، وتتقطع الأفئدة حزناً وندماً، فأين من يستعد لهذا اليوم؟! فعلى العبد أن يلتزم العبادة في السراء والضراء، وعند النعمة والبلاء، ويعلم أن الملك ملك الله يبسط الرزق لمن يشاء ويضيق على من يشاء، وله الحكمة البالغة في ذلك سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب)

تفسير قوله تعالى: (ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الزمر: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ * وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ * قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الزمر:47 - 52]. يخبر الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات من سورة الزمر عن حال المشركين يوم القيامة، وحال الظلمة والمجرمين، أنه لو كان لأحدهم يوم القيامة ملء الأرض من الذهب، ومثله معه أي: ملؤها مرة أخرى لافتدى بها يوم القيامة من سوء العذاب ومن سوء الحساب، ما تقبل منهم! قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} [الزمر:47] أي: الذين كذبوا وأشركوا بالله سبحانه {مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:47]، وإذا كان المرء في الدنيا لا يملك ما في الأرض جميعاً فكيف به يوم القيامة؟! إذ الأرض يوزعها الله عز وجل بين عباده، فهذا يملك شيئاً وذاك يملك شيئاً، ولا أحد من ملوك الأرض يملك جميع ما في الأرض، ولكن الله عز وجل يُملّك من يشاء ما يشاء من الدنيا، فيملك ناساً بعضاً من كنوزها، وآخرين منافعها، وهكذا ويخاطبهم الله في الآية على فرض أن يملك أحدهم يوم القيامة مثل هذه الأرض، فيملك كنوزها ومثل هذه الكنوز معها لافتدى بهذا كله من عذاب الله يوم القيامة، قال تعالى: {لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47]، فقد كانوا في الدنيا في غفلة، وكان أحدهم يسوف ويقول: غداً أتوب، وغداً أوحد الله ولا أشرك به، وغداً أفعل كذا، ولكن هذا الغد لم يأت إلا وقد ماتوا على كفرهم وعلى شركهم، وعلى فسوقهم وعصيانهم، فماتوا على غير توبة، فإذا بهم يوم القيامة يودون الرجوع ولا رجوع، ويودون أن لو يفتدوا وكيف وهم لا يملكون شيئاً، ولو كانوا يملكون شيئاً ما تقبل منهم ذلك؟! قال الله سبحانه: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] أي: بدا لهم من الله عز وجل ما لم يكن في ضميرهم، وما لم يدر في خلدهم أن يفعل بهم ذلك، وإن قالوا: كنا نحسن الظن، لكنهم أساءوا العمل، أو قالوا: كنا نحسن الظن، لكنهم وقعوا في الشرك بالله سبحانه، فلم يَتقبل منهم شيئاً من أعمالهم. قال تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} [الزمر:48]، فقد كسبوا السيئات، وجزاء سيئة بمثلها، وأساءوا فكان لهم من الله عز وجل ما يسوءهم، وهو العقاب الشديد، فكان الجزاء جزاءً وفاقاً، {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ} [الزمر:48] أي: عقوبات ما اجترحوا في الدنيا وكسبوا من الكفر والمعاصي. وقوله تعالى: {وَحَاقَ بِهِمْ} [الزمر:48] أي: نزل بهم نزول مصيبة، (حاق) بمعنى: أحدق بهم وأحاط بهم، فلم يفلتوا منه، وما ذلك إلا جزاء: {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الزمر:48] أي: ما كانوا يسخرون من المؤمنين في الدنيا، ومن البعث والنشور، ومن القيام من القبور، ومن الحساب والجزاء، ومن عقوبة الله سبحانه تبارك وتعالى يوم القيامة.

تفسير قوله تعالى: (فإذا مس الإنسان ضر دعانا)

تفسير قوله تعالى: (فإذا مس الإنسان ضر دعانا) قال تعالى: {فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:49]، فالله عز وجل بعد أن يخلق الإنسان يرزقه، ويعطيه من الدنيا ما يشاءه سبحانه تبارك وتعالى، ويبين له طريقه إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، عله أن يشعر بنعم الله عز وجل عليه ليل نهار، ومع ذلك ينسى شكر هذه النعم من الله سبحانه، فإذا مسه شيء من الظلم لجأ إلى ربه، فدعاه رافعاً يديه: يا رب! يا رب! وكلما استشعر الإنسان أنه ضعيف وأنه عاجز، أو استشعر أنه مريض لجأ إلى الله، وناداه: يا رب! يا رب! ونحن نرى الطلاب عندما يدنوا الامتحان يسعون إلى المساجد، فتجد أحدهم يصلي الفجر، ويلهج بالدعاء: يا رب! ويطلب النجاح، فإذا ظهرت النتيجة ونجح نسى ذلك كله! وعاد إلى تضييع الصلاة، كذلك المرء عندما يبحث عن وظيفة يصلي استخارة، ويصلي للحاجة، ويدعوا ربه قائلاً: يا رب! يا رب! فإذا قبل في العمل نسى ربه سبحانه تبارك وتعالى! فكلما احتاج الإنسان إلى ربه وغلب على ظنه أنه الآن محتاج وأنه فقير إلى الله يتذكر ويرجع إلى الله ويقول: يا رب! يا رب! قال تعالى: {فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ} [الزمر:49] أي: إذا أصابه شيء من مصائب الدنيا وما يتضرر ويتأذى به، أو يسهر من أجله، أو يبحث عن الدواء من أجل ذلك، يفزع إلى الله وينادي: يا رب! يا رب! وقوله سبحانه: {دَعَانَا} [الزمر:49] أي: دعا ربه سبحانه، ثم قال سبحانه: {ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ} [الزمر:49] والتخويل بمعنى: التمليك، أي: ملكناه، وأعطيناه شيئاً من هذه الدنيا قال سبحانه: {ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا} [الزمر:49]، ونسب الله النعمة إلى نفسه، فهو صاحب جميع النعم سبحانه تبارك وتعالى، إلا أنه بعد أن ينعم على هذا الإنسان يغتر بنفسه ويتكبر وينسب النعمة إلى نفسه، قال تعالى: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} [الزمر:49] والإنسان عندما يذكر بالله سبحانه ونعمه عليه ويقال له: من الذي علمك إلا الله؟ ومن الذي أعطاك المال إلا الله؟ يجيب قائلاً: إن الله ما أعطاني إلا لأني أستحق ذلك، غروراً منه! فيرى نفسه مستحقاً، ويقول أيضاً: لو لم أكن مستحقاً لم يعطني الله، أو يقول: لو لم أكن ذكياً لم أتفوق، ولو لم أكن قادراً على الكسب والعمل لم يعطني الله سبحانه، فكان قوله هذا رجوعاً إلى الكفر مرة أخرى. وفي الآية يذكر الله عز وجل غرور هذا الإنسان، وكفره لنعمه ربه بعد أن دعاه في وقت الضر قال تعالى: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} [الزمر:49]، وقوله: (على علم) محتملة لعدة معاني وكلها صحيحة، منها: أن ينسب العلم لنفسه، كأنه يقول: على علم مني؛ لأنني تعلمت، أو كوني تعلمت ولدي خبرة في الدنيا، ولأجل ذلك استطعت أن أكسب، وهو بذلك ينسى الله سبحانه تبارك وتعالى، وقد يكون المعنى: إنما أوتيته على علم من الله، أنني أستحق ذلك، ولأجل استحقاقي أعطاني، وقد كان الكفار المجرمون ومن على شاكلتهم يتطاولون على المؤمنين، ويقولون: أنتم تقولون: هناك جنة ونار! وتقولون: إننا سنبعث يوم القيامة، أليس الله قد أعطانا في الدنيا ومنعكم، وما ذاك إلا أننا أفضل منكم، وكذلك إذا بعثنا يوم القيامة فسيعطينا الله أفضل منكم! وهم بقولهم ذاك قد قاسوا الآخرة على الدنيا، وكأنهم يرون أن الله أعطاهم لكونهم يستحقون ذلك، ونسوا أن الله يملي للكافرين قال تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183]. ثم أضرب عن قوله: إنما أوتيته على علم، فقال تعالى: {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} [الزمر:49] أي: ما هم فيه من نعم إنما هي فتنة فتنهم الله سبحانه تبارك وتعالى بها، ومن معاني الفتنة: الاختبار، فالمعنى: اختبرهم فرسبوا في الاختبار. ثم قال سبحانه: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:49] أي: لا يعلمون أن هذا استدراج من الله لهم، وأن هذا امتحان وأنهم رسبوا فيه، وأنهم إلى النار سائرون.

تفسير قوله تعالى: (قد قالها الذين من قبلهم)

تفسير قوله تعالى: (قد قالها الذين من قبلهم) بين الله سبحانه أن الكافرين ليسوا أول من قال هذا، بل قد قاله أقوام قبلهم فقال تعالى: {قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الزمر:50]، فهذا كلام يحصل من كل كافر مستكبر ومشرك مغرور يقول هذا، وإذا ذكر بالله سبحانه تبارك وتعالى يقول: ما أعطاني الله إلا لأني أستحق ما أعطانيه. ثم بين سبحانه أن ما كسبوه وحازوه لا يغني عنهم شيئاً قال سبحانه: {قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الزمر:50] أي: لقد كان من قبلهم أذكياء، وكسبوا من الدنيا مكاسب كثيرة، إلا أنهم تركوها لمن بعدهم، وذهبوا إلى الله، فلم يغن عنهم ما كسبوا شيئاً، بل تركوه وحوسبوا عليه.

تفسير قوله تعالى: (فأصابهم سيئات ما كسبوا)

تفسير قوله تعالى: (فأصابهم سيئات ما كسبوا) قال تعالى: {(فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} [الزمر:51] أي: أصابتهم عقوبة ذنوبهم التي اكتسبوها، ثم ألحق بهم من تبعهم فقال: {وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} [الزمر:51] أي: والذين ارتكبوا ما ارتكبه الذين من قبلهم سنعاقبهم يوم القيامة على ما اكتسبوا من السيئات بالسوء، ومصيرهم النار يوم القيامة، فهم في قبضتنا. قال تعالى: {وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الزمر:51] أي: لا يعجزوننا ولا يهربون منا، تقول: انطلق جارياً حتى أعجزني، تريد أنك ما استطعت اللحاق به حين فر منك، فيكون معنى قوله سبحانه: {وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الزمر:51] أي: مهما جروا في الدنيا، ففروا إلى الجبال، أو إلى أي مكان سنأتي بهم يوم القيامة، وما هم بمفلتين من قبضتنا.

تفسير قوله تعالى: (أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر)

تفسير قوله تعالى: (أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) بين الله سبحانه في الآية فضله على العباد فقال: {أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الزمر:52]، والإنسان المؤمن يعلم ذلك، ويقول: بلى نعلم ونستيقن أن الرزق رزق الله سبحانه، وأن المال مال الله، وأن العبد عبد الله، وأن الله يعطي ما يشاء لمن يشاء، كما أن المؤمن يعلم أن الله إذا أعطاه في الدنيا لم يعطه لفضله عند ربه، بل ما أعطاه الله سبحانه إنما هو محض فضلٍ ورحمة منه سبحانه تبارك وتعالى، وليس معنى ذلك أن الله لا يكرم المؤمنين، بل قد يكون عطاء الله سبحانه للعبد إكراماً له، وقد يكون عطاؤه له استدراجاً له؛ ولذلك فالمؤمن لا يأمن مكر الله سبحانه، ولا يأمن استدراج الله، فإذا أعطاه الله المال عرف حق الله سبحانه في هذا المال، فأخرج الزكاة، وأعطى من أوجب الله عليه أن يعطيهم من قرابته، أو ممن يحتاجون إليه، بل إن المؤمن وصل إلى ثقة بأن المال مال الله، وأن المال لا ينقص أبداً من الصدقة كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، بل قد أقسم النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما نقص مال من صدقة. إذ إن الإنسان مهما أعطى لله، فالله سبحانه يخلف عليه، والله وحده هو صاحب المال، وهو صاحب الرزق سبحانه، يبسط ويوسع على من يشاء من عباده، وليس كل من وسع الله عز وجل عليه يحبه، وليست التوسعة شرطاً لحب الله، بل كم قد أعطى الله إنساناً كافراً من الدنيا أموالاً كثيرة، فكان ذلك استدراجاً له، وكم منع من إنسان طيب فقيه في هذه الدنيا، حتى إنه لا يجد ما يأكله، وقد يبيت الليلة الأولى والثانية والثالثة ولا يجد ما يملأ بطنه! وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شبع في الدنيا من خبز شعير عليه الصلاة والسلام، حتى فتحت عليه الدنيا، فلما فتحت عليه الدنيا قبضه الله سبحانه تبارك وتعالى، وما استمتع مما في الدنيا بشيء، وقد كان الصحابة يذكرون النبي صلى الله عليه وسلم ويبكون لما عاش عليه من الكفاف، وكان أبو هريرة يصنع العيش الحوارى، وهو الخبز الأبيض، ويطعم الناس ويبكي ويحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم ما ذاق هذا، فالمسلمون يستمتعون بالشيء الذي فتح الله على نبيه صلى الله عليه وسلم به، وقد ذهب النبي ولم يأخذ من هذه الدنيا شيئاً، فصلوات الله وسلامه عليه. وقد ثبت أن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: كان يمر الهلال وراء الهلال وراء الهلال، ثلاثة أهلة، أي: شهران يمران على بيت النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يوقد في بيته ناراً لطبيخ أو لطعام عليه الصلاة والسلام، وإنما كان الطعام التمر والماء! ولم يمنعه الله الدنيا ظناً بها عليه الصلاة والسلام، وإنما أراد الله عز وجل أن يجعله وصحبه القدوة والأسوة لمن بعدهم، حتى نعلم أن الله إذا أعطى العبد من الدنيا ليس معناه أنه يحبه سبحانه تبارك وتعالى، ونعلم أن الله إذا حرم آخر منها ليس معناه أنه يكرهه، وإنما قد يعطي لإنسان من المؤمنين من فضله سبحانه؛ لأنه لا يصلح لهذا العبد في علم الله إلا ذلك، فيتفضل الله سبحانه وتعالى عليه، أو لكون الله يعلم حيث يعطي هذا المؤمن أنه سينفق من هذا المال على من يحتاج إليه، وأنه سيضعه في حقه، فأعطاه الله سبحانه، وجعله قدوة لغيره، وقد يحرم الله إنساناً آخر مع أنه مؤمن؛ لأنه يعلم أن هذا سيصبر على الفقر، وأنه يكون قدوة في ذلك، فمنعه ليكون إماماً وقدوة لغيره في ذلك. فالله أعطى الأول علماً منه أن هذا لو حرمه لضاع وفسد، فأعطاه رحمة منه سبحانه تبارك وتعالى، وحرم الثاني مع أنه من المؤمنين لما سبق في علم الله أنه لو أعطاه لفسد ولطغى، فمنعه الله سبحانه تبارك وتعالى. فالله بيده الفضل، يبسط لمن يشاء ويقدر، أي: يضيق على من يشاء سبحانه تبارك وتعالى، فإذا رأيته أعطى إنساناً ومنع آخراً، فاعلم أنه لحكمة منه سبحانه تبارك وتعالى، وبيان آية من آياته. قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الزمر:52]، فالمؤمن ينبغي أن يرضى بما هو فيه، ويحمد الله عليه ويردد في نفسه: الله أعلم بحالي، أليس من الممكن أنه لو أعطاني أكثر مما أنا فيه أني قد لا أصلي الفجر، أو لو أعطاني أكثر مما أحوزه الآن قد لا أدعوه، فالله يحب أن يسمع صوتي وأنا أناجيه وأقول: يا رب! يا رب! وينتبه العبد هنا إلى أنه لو امتنع عن الدعاء فقد يجلب على نفسه السخط من الله سبحانه، كما أن الإنسان لو اطلع على الغيب لرضي بما هو فيه من الواقع، ارض بما قسم الله سبحانه تبارك وتعالى لك، واعلم أن الذي يدبر الكون هو الله وحده، العليم الحكيم سبحانه تبارك وتعالى، وهو أعلم بما يصلحك أكثر من نفسك سبحانه تبارك وتعالى، وما يدريك! فقد يمرضك وأنت تريد أن تعمل شيئاً معيناً، فلا تعمله بسبب المرض، فلعلك لو خرجت إلى هذا الخير بظنك وبزعمك لفاتك باباً آخر أدركته بمرضك، فكان المرض الذي أنت فيه أفضل من هذا العمل، وما يدريك! لعلك لو خرجت إلى عمل من أعمال الخير لغلبك الشيطان فراءيت وسمعت بعملك، فالله منعك من الرياء ومن السمعة عندما ابتلاك بالمرض، فأنت لا تدري ما الذي يدبره الله سبحانه بعلمه وقدرته وحكمته، فعليك أن ترضى بقضاء الله سبحانه تبارك وتعالى، كما ينبغي عليك أن تدرك أن القضاء واقع رضيت أم لم ترض، إلا أنك في الرضا أخذت الأجر، وفي السخط حل عليك سخط الله سبحانه تبارك وتعالى. لذلك على المؤمن أن يؤمن بالله تمام الإيمان، فيؤمن بحكمة الله، ويؤمن بقدرة الله، ويؤمن أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأن الله يعطي من يشاء تفضلاً وتكرماً منه، ويمنع من يشاء بحكمته وعدله سبحانه تبارك وتعالى، فإن أعطاك فهو محض منة منه، وإن منعك فلم يمنعك حقاً ليس لك عند الله، بل يعطيك ما كتبه على نفسه وتفضلاً منه لعباده سبحانه تبارك وتعالى. قال سبحانه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الزمر:52]، فالمؤمن من يتفكر ويتأمل في قضاء الله وقدره، ولا يدخل الجنة إلا من يؤمن بأصول الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر خيره وشره، حلوه ومره، كل من عند الله سبحانه تبارك وتعالى.

تفسير سورة الزمر الآية [53]

تفسير سورة الزمر الآية [53] أمر الله نبيه أن ينادي من أسرف على نفسه بالمعاصي والذنوب وتابع نفسه وهواه ألا يقنط من رحمة الله الواسعة العظيمة، فإن الله لا يتعاظمه ذنب، فهو يغفر الذنوب كلها صغيرها وكبيرها عظيمها وحقيرها لمن تاب إليه وأناب.

تفسير قوله تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله)

تفسير قوله تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الزمر: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]. في هذه الآية يخبرنا الله سبحانه وتعالى عن عظيم رحمته سبحانه وأنه يغفر الذنوب جميعاً، يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل. والقرآن مليء بآيات رحمة الله رب العالمين سبحانه، وأيضاً فيه ما يبين شدة بطشه وانتقامه وبأسه وعذابه سبحانه وتعالى، فيذكر الرحمة والعذاب؛ حتى لا ييئس الإنسان المذنب من رحمة رب العالمين، وحتى لا يطمع الإنسان المسيء في رحمته سبحانه ويتناسى عذابه؛ فيقول: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:12 - 16]، فبطشه شديد وهو الغفور الودود سبحانه وتعالى. وقال: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر:49 - 50]، وقال: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} [الرعد:6]، فالله سبحانه ذو مغفرة للناس مع ظلمهم ومع إساءتهم، ومع ذلك هو شديد العذاب على من يسيء ولا يتوب إلى الله سبحانه وتعالى. يقول الله سبحانه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53]، رحمة الله واسعة لمن تاب إلى الله سبحانه وتعالى، فلا تغتر بأنه غفور رحيم، ولا تيئس من رحمة ربك، فالمؤمن بين أمرين: بين الخوف من ذنوبه وعقوبتها وبين رجاء رحمة الله سبحانه وتعالى ومغفرته للذنوب، وإذا رجا العبد رحمة الله وخاف من عذابه، كان أهلاً لأن يرحمه الله وأن ينجيه من عذابه، وإذا اغتر الإنسان برحمته وترك ما دل على أنه يعذب بالذنب ويأخذ به سبحانه وتعالى وتناسى، فأساء في الدنيا وأسرف على نفسه وعصى الله سبحانه، واستهان بعقوبته سبحانه؛ فإنه مستحق لعذاب رب العالمين سبحانه وتعالى، حتى ولو كان ممن يحفظون القرآن، ويجاهدون في سبيل الله طالما أنه وقع في الاستهانة بعذاب الله سبحانه، وطالما أنه عمل لغير الله وليس لله سبحانه، فراءى في الدنيا وسمع وانتظر المدح من الناس، ولن ينتفع بشيء من الذي كان يفعله. فالإنسان المؤمن يخلص لله سبحانه ويتابع كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويخاف من عذاب الله ويرجو رحمة الله، وهذا هو الذي يستحق المغفرة من الله سبحانه وتعالى. وهذه الآية نزلت في العهد المكي، فكان النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه يعملون ويخافون من الله سبحانه، ولا يشركون به، وكانوا قلة، ومع ذلك كان سبحانه وتعالى يأمرهم: توبوا إلى الله سبحانه اعملوا من الصالحات. وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وبقي كثير من المسلمين في مكة ممن كانوا يكتمون الإسلام ولا يقدرون على الهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فمنهم من استطاع ثم رجع وفتن، كما جاء في الحديث: أن هشام بن العاص فعل ذلك، ثم نزلت هذه الآيات على النبي صلوات الله وسلامه عليه وكأن هذه الآية من هذه السورة نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة والسورة مكية، ولا يمنع أن تكون السورة مكية وينزل بعضها في المدينة على النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كانت لهذا السبب فتكون نزلت في المدينة، ولا يمنع أن تكون نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، ثم نزل بها جبريل مرة أخرى على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة يذكره بهذا الحكم. وقد هاجر عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه إلى المدينة، وأراد عياش بن ربيعة وهشام بن العاص أن يهاجرا، فاستطاع عياش أن يهاجر مع عمر ولم يستطع هشام بن العاص فأخذه أهله وفتنوه فافتتن، فلما نزلت هذه الآية كتب بها عمر إلى هشام بن العاص فقرأها فعلم أن له توبة، فهاجر فكان من المؤمنين بعد ذلك رضي الله تبارك وتعالى عنه. وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن ناساً من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا، وزنوا وأكثروا، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن) فهم ناس من أهل الجاهلية أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا له: هذه الدعوة دعوة جميلة، وهذا الدين دين عظيم، ولكن نحن قتلنا في الجاهلية، ووقعنا في الفواحش، فلو أخبرتنا أن لنا توبة لدخلنا في هذا الدين، فنزل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} [الفرقان:68 - 70]، فالله سبحانه وتعالى جعل لهم ما يكفر عنهم هذه السيئات وهو أن يتوبوا، ويدخلوا في دين الله عز وجل، فإذا فعلوا ذلك تاب الله عز وجل عليهم. ونزلت: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ). وهذه السورة مكية فقد نزلت بمكة وهذه الآية منها أو أن بعض الآيات نزلت بعدما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم فألحقت بالسورة، أو أنها نزلت كلها في مكة ثم جاء جبريل ليخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الآيات في هؤلاء الذين لم يهاجروا وفتنوا ثم أرادوا أن يهاجروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتلاها النبي صلى الله عليه وسلم فتذكرها عمر وأرسل بها إلى هشام بن العاص، فراجع نفسه وهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتاب إلى الله سبحانه وتعالى.

الأدلة على سعة رحمة الله

الأدلة على سعة رحمة الله الأحاديث التي جاءت في رحمة رب العالمين كثيرة جداً، وهي تدل على رحمته سبحانه لمن أذنب وأسرف على نفسه ثم راجع نفسه فتاب إلى الله سبحانه وتعالى. ومن هذه الأحاديث ما رواه الإمام البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي سعيد الخدري وهذا لفظ الإمام مسلم وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب، فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً فهل له من توبة؟!). والراهب هو العابد من النصارى، وكون الإنسان عابداً، لا يشترط أن يكون عالماً، فقد يكون الإنسان كثير العبادة لكنه يجهل كثيراً من أحكام رب العالمين، فلما ذهب إليه هذا الإنسان المذنب المسرف على نفسه وقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً فهل له من توبة؟ (قال: لا، فقتله فكمل به المائة!) وهذا حال اليائس من رحمة الله سبحانه: فلسان حاله يقول: طالما أنني ليس لي توبة، فسوف أقتلك أيضاً، فقد قتلت تسعة وتسعين نفساً فلا يضيرني أن أكمل المائة! (ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على رجل عالم فقال: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟) إن هذا إنسان شرير ولكن في نفسه ما يدفعه إلى الخير، وما يدفعه إلى التوبة وهو يريد أحداً يدله على أن يتوب إلى الله. (فقال له العالم: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة؟! انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناساً يعبدون الله، فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء) فهذا الإنسان الشرير كان في أرض فيها أشرار، يساعد بعضهم بعضاً على الشر، لذلك الذي يتوب لا بد أن يمتنع عن مرافقة الأشرار الذين كان معهم قبل ذلك، أما إنسان يقول: أنا تائب وهو لم يزل مع رفقائه الذين كان يمشي معهم كقطاع الطريق وأهل الإدمان وأهل المخدرات، فهذا لا يدل على توبته، فإن التائب يقلع عن ذلك، ويبتعد عن رفقاء السوء؛ لأنهم يغوونه ويردونه إلى ما كان فيه، فهذا العالم قال له: من يحول بينك وبين التوبة؟! ولكن أنت مع أناس أشرار، فأقلع عن الشر وابتعد عن أهل الشر، واذهب إلى الأرض الفلانية فإن فيها أناساً صالحون، فاعبد الله معهم. فالرجل تاب إلى الله عز وجل وترك هؤلاء وهاجر إلى البلاد الأخرى ليعبد الله. (فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب) عندما هاجر من الأرض التي فيها أشرار وهو تائب توبة صادقة، ودليل توبته أنه خرج من أرضه إلى أرض أخرى؛ ليعبد الله عز وجل فيها، فلما نصف الطريق، مات فجاءت ملائكة الرحمة وملائكة العذاب يختصمون، يعني: يجادلون. (قالت ملائكة الرحمة: جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله) فهذه نية التائب إلى الله. (وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم) هذا كله من الله عز وجل ليرينا سبحانه وتعالى أنه غفور رحيم، وتختصم الملائكة ليرينا أنهم لا يعلمون الغيب، وأرسل الله عز وجل إليهم من يحكم بينهم ليرينا سبحانه وتعالى أن الحكم له وحده، وأن الملائكة لا تقدر أن تحكم في شيء إلا أن يعلمهم الله سبحانه وتعالى، والملائكة تخاف من ربها سبحانه، {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء:27] فجاء هذا الملك في صورة آدمي يفصل بين ملائكة الرحمة وملائكة العذاب. (فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له فقاسوا) هذا لفظ الإمام مسلم. وفي لفظ الإمام البخاري: (أنه لما أدركه الموت ناء بصدره نحوها) أي: وهو يموت انحرف بصدره شيئاً لكي يقترب من أرض الرحمة. وفي لفظ آخر: (أن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى الأرض أن تضايقي من هاهنا واتسعي من هاهنا) يعني: تباعدي من أرض العذاب، وتقاربي من أرض الرحمة وكله بيد الله سبحانه، فالعبد عبده والأرض أرضه والسماء سماؤه والملائكة ملائكته سبحانه وتعالى، وهو بهذا يرينا رحمته. (فقاسوا ما بين الأرضين فكان أدنى إلى الأرض التي أراد وهي أرض الرحمة، فقبضته ملائكة الرحمة). وهذه الحادثة أراد بها الله سبحانه أن يرينا رحمته العظيمة سبحانه، فإذا كان العبد الذي قتل مائة نفس له توبة، فكيف بغيره؟! فمن تاب تاب الله عز وجل عليه، ولكن لا ننسى أبداً أن التوبة لا بد فيها من الصدق، فالتوبة ليست كلاماً، يقول الإنسان: أنا تبت إلى الله عز وجل، بل لا بد من صدق القلب؛ ولذلك هذا العبد لما أراد أن يتوب وذهب إلى الراهب يأسه الراهب من التوبة، فمن قهره على أنه حرم من التوبة قتل الراهب أيضاً، فهو قتل تسعة وتسعين نفساً؛ لأنه إنسان شرير وغير صالح، فلما دله العالم على أن له توبة، تاب إلى الله فصدق، فنفعته التوبة. فإن قيل: والذين قتلهم ما مصيرهم؟ A لا يضيعون عند الله عز وجل، ولكن الله الحكم العدل سبحانه، خزائنه ملأى، والله بيده الرحمة وبيده العذاب، عفا عن هذا وأعطى هؤلاء، إذا كان في الدنيا الإنسان الذي يقتل له قتيل له أن يأخذ الدية ويعفو عن القاتل، فكيف بالآخرة والكل يحتاج إلى جنة الله وثواب الله ورحمة الله، فالله يرضي هؤلاء، بقوله: أعذب هذا أو أدخلكم الجنة، فالإنسان يقول: أدخلني الجنة، ماذا سأستفيد من عذاب هذا الإنسان؟ فيعطيه الله سبحانه وتعالى برحمته الواسعة، فالإنسان الذي يفعل الذنب له توبة إذ تاب إلى الله، وصدق في توبته، أما الإنسان الذي يحتال ويكذب ويخدع إنما يخدع نفسه ولا يضر ربه شيئاً سبحانه وتعالى. فعندما نأخذ أحاديث الرحمة لا ننسى ما جاء في عذاب الله سبحانه وتعالى، فالمؤمن بين الخوف وبين الرجاء. ومن الأحاديث العظيمة التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم في التوبة، ما رواه الإمام الترمذي عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تبارك وتعالى: يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي). (ما دعوتني) يعني: طالما دعوتني، ورجوتني سأغفر لك، فالعبد الذي يكثر من الدعاء: يا رب! اغفر لي، يا رب! تبت إليك، ويؤنب نفسه ويحاسبها، يقول له ربه: أغفر لك طالما عرفت أنك مخطئ وتبت إلي، فإذا تاب العبد إلى الله تاب الله عز وجل عليه. (يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي) الله عظيم سبحانه وتعالى ولا يتعاظمه ذنب، وكونه يغفر لعبده فإن ذلك لا يضره شيئاً. ومهما عملت من المعاصي وتبت إلى الله سبحانه وتعالى غفر لك ذنوبك حتى لو كانت قد بلغت عنان السماء. (يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب) (بقراب): أي بملء. (الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة) إذا جاء العبد تائباً إلى ربه سبحانه موحداً له عالماً به وبأسمائه الحسنى وصفاته العلى، فإن الله يتوب عليه مهما عمل، فالتوبة الصادقة جزاؤها من الله المغفرة. ومن الأحاديث العظيمة الجميلة في هذا المعنى ما رواه الإمام مسلم من حديث أبي أيوب الأنصاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو أنكم لم تكن لكم ذنوب يغفرها الله لكم، لجاء الله بقوم لهم ذنوب يغفرها لهم) أي أن ابن آدم كتب عليه نصيبه من الوقوع في المعصية، (كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. ومن أسماء الله الحسنى: الغفور لمن يعصي ربه سبحانه، فلا بد أن يحقق مقتضى هذا الاسم من أسمائه. ومن أسمائه الحسنى الرحيم الذي يرحم خلقه سبحانه وتعالى؛ ولذلك جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه عز وجل: (قال: أذنب عبد ذنباً، فقال: اللهم اغفر لي ذنبي) وعندما تقع في الذنب، بادر بالتوبة إلى الله عز وجل، واعترف بذنبك وتقصيرك، وتحلل ممن أسأت إليه، ورد المظلمة إلى أصحابها، وارجع إلى ربك سبحانه، فلما رجع العبد إلى ربه سبحانه قال تبارك وتعالى: (أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به) (علم) بمعنى: استقين أن الله يحاسب على الذنب؛ لذلك تاب، فلما تاب غفر الله له سبحانه، (ثم عاد فأذنب ذنباً)، وكل بني آدم خطاء، الإنسان قد يقول: أنا تائب إلى لله من هذا الذنب ولن أعمل هذا الذنب مرة أخرى، وبعد ذلك يغلب عليه شقاؤه فيقع في الذنوب، ثم يراجع نفسه فيتوب إلى الله عز وجل، فهذا أذنب مرة ثانية. (فقال: أي ربي!) يعني: يا ربي!. (اغفر لي ذنبي، فقال الله تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنباً فعلم أنه له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فأذنب ذنباً، فقال: أي ربي! اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت فقد غفرت لك!)، فرحمة الله وسعت كل شيء، وطالما تاب العبد إلى الله، واستيقن أنه سيعذبه عليه أن يرجع ويتوب توبة صادقة إلى الله سبحانه، فلا ييئس ولا يقنط من رحمة الله، بل يبادر بالتوبة إلى الله، فإن الله يغفر الذنوب سبحانه وتعالى؛ لذلك يجب على المؤمن أن يراجع نفسه دائماً، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها). فعندما تعمل السيئة أتبعها مباشرة بحسنة حتى تمحو هذه السيئة، أما أن الإنسان يقع في الإساءة ويظلم الخلق، ويقع في الذنوب كبائرها وصغائرها وبعد ذلك يستهين ويقول: الله غفور رحيم، فهذا لا يدخل تحت هؤلاء؛ لأن العبد قال: يا رب! رجعت إليك، تبت إليك، أنا أذنبت ذنباً، اغفر لي؛ فالله عز وجل يغفر له؛ لأنه رجع إلى ربه تائباً. والنية في قلب الإنسان والصدق في قلبه لا يطلع عليه إلا ربه سبحانه، فإن صدق العبد في توبته تاب الله عز وج

تفسير سورة الزمر [53 - 55]

تفسير سورة الزمر [53 - 55] من رحمة الله عز وجل بعباده أن دعاهم إلى التوبة والرجوع إليه، ففتح لهم أبواب رحمته، وناداهم بألطف النداء، ونسبهم وأضافهم إليه سبحانه ليقبلوا عليه، وليسلموا له وجوههم وقلوبهم؛ لينالوا الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة، وحذرهم من التجافي عن هذا النداء، وبين سوء عاقبة ذلك، وكل ذلك رحمة بهم ليعودوا إليه.

تفسير قوله تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ولا تقنطوا من رحمة الله)

تفسير قوله تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ولا تقنطوا من رحمة الله) الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، أما بعد: فقال الله عز وجل في سورة الزمر: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الزمر:53 - 55]. هذه الآيات في آخر ربع من هذه السورة الكريمة سورة: الزمر، يقول الله عز وجل لعباده: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53] وهذه من أرجى الآيات التي في كتاب الله سبحانه تبارك وتعالى، وقولنا: أرجى، من الرجاء، أي: الآية التي يرجو بها العباد مغفرة الله، ويرجون من ورائها رحمة الله سبحانه تبارك وتعالى. ومن آيات الرجاء في غير هذه السورة: قوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] أي: أن الإنسان إذا وحد ربه سبحانه بالتوحيد الخالص، ولم يشرك بالله سبحانه، فيرجى له أن يغفر الله سبحانه تبارك وتعالى. ومنها: قول الله سبحانه تبارك وتعالى في سورة الأعراف: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:156 - 157]. فبهذه الآيات يرجو العباد رحمة الله سبحانه تبارك وتعالى، ولا ييئسون من رحمة الله، فإنه لا ييئس، ولا يقنط من رحمة الله سبحانه إلا القوم الكافرون، ولا ييئس من رحمة الله إلا القوم الخاسرون، الذين خسروا الدنيا والآخرة، أما المؤمن فلا ييئس أبداً من رحمة الله سبحانه، حتى وإن وقع في الذنوب فإنه سرعان ما يتوب، ويرجع إلى الله؛ لأنه يعلم أن له رباً يأخذ بالعفو، ويغفر الذنب سبحانه تبارك وتعالى. وفي الآية خطاب من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم أن: {قُلْ يَا عِبَادِيَ} [الزمر:53] أي: خاطب عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم، وظلموا أنفسهم، وتجاوزوا في أمر الطاعة، فتركوا من طاعة الله ما تركوا، كالهجرة في سبيل الله سبحانه تبارك وتعالى، ففتنوا حين فتنهم المشركون، فأخبرهم أنهم إذا تابوا إلى الله؛ فإن الله يتوب عليهم. وسبق أن هذه السورة سورة مكية، وكان نزول هذه الآية لسبب سيأتي بيانه، وإن كان العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولكن السبب يقيناً داخل في معنى الآية عموماً.

سبب نزول قوله تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم)

سبب نزول قوله تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم) جاء عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لما اجتمعنا على الهجرة استعدت أنا وهشام بن العاص بن وائل السهمي وعياش بن أبي ربيعة بن عتبة، فقلنا: الموعد أضاة بني غفار، أي: أن عمر رضي الله عنه أراد أن يهاجر هو وهشام بن العاص بن وائل، وعياش بن أبي ربيعة بن عتبة بن أبي ربيعة، فتواعد الثلاثة على مكان اسمه: أضاة بني غفار ليلقى بعضهم بعضاً هناك، ثم يهاجروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد سبقهم إلى المدينة صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم لبعض: من تأخر منا فقد حبس، فليمض صاحبه. أي: أنه من تأخر منهم عن هذا الموعد ليعلم الباقون أن الكفار قدروا عليه وأمسكوه، فلا ينتظروه، ولينصرفوا مهاجرين إلى المدينة. قال عمر: فأصبحت أنا وعياش بن عتبة، وحبس عنا هشام بن العاص - وهو أخو عمرو بن العاص رضي الله عنه - وإذا به فتن فافتتن، أي: أن الكفار أخذوه إلى أبيه العاص بن وائل السهمي، فأخذ ابنه وفتنه عن دينه ففتن، ورجع إلى ما كان عليه من الكفر. وبعد أن هاجر عمر وعياش إلى المدينة تاركين هشاماً بعد أن فتنه المشركون، ورجع إلى ما كان عليه المشركين أو وافقهم فيما هم فيه، يقول عمر رضي الله عنه: فكنا نقول بالمدينة: هؤلاء قد عرفوا الله عز وجل وآمنوا برسوله صلى الله عليه وسلم، ثم افتتنوا لبلاء لحقهم، فلا نرى لهم توبة، أي: بعدما عرف هؤلاء الإسلام، وعرفوا دين النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رجعوا إلى الكفر بعد أن فتنهم الكفار، فلا توبة لهم، قال عمر: وكانوا هم أيضاً يقولون ذلك، كأن من فتن من المسلمين، ورجع إلى ما كان عليه من الكفر، وطاوع الكفار لا توبة له. يقول عمر رضي الله عنه: فأنزل الله عز وجل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]. ثم قال عمر: فكتبتها بيدي، أي: فرح عمر بذلك وكتبها بيده، قال: ثم بعثتها إلى هشام، قال هشام: فلما قدمت علي هذه الآيات خرجت بها إلى ذي طوى، فقلت: اللهم فهمنيها! وكأنه لم يفهمها، فأخذها وخرج إلى مكان خالٍ يتفكر فيها ويدعو ربه سبحانه، فصدق مع الله سبحانه تبارك وتعالى ففهمه إياها، قال هشام: فعرفت أنها نزلت فينا، فرجعت فجلست على بعير، ثم لحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: أنه هاجر إلى المدينة، وشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالإيمان، فقال في عمرو بن العاص وأخيه هشام بن العاص: (إنهما مؤمنان) رضي الله عنهما، فهذا الرجل فتن فافتتن، ثم أنزل الله عز وجل هذه الآيات، فتاب وهاجر إلى النبي صلوات الله وسلامه عليه. ويذكر ابن عباس رضي الله عنهما سبباً آخر فيقول: كان قوم من المشركين قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، فبعثوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لنا توبة؟ أي: هذا الذي جئت به كلام عظيم - والقرآن كله كلام عظيم - فإذا كان لنا توبة دخلنا معك، وإن لم يكن لنا توبة فعلام ندخل في الدين، ونحن معذبون؟! فإذا بالله عز وجل ينزل هذه الآيات العظيمة: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53]. أيضاً قوله سبحانه في آخر سورة الفرقان: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]، إلى أن قال عز وجل: {وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:68 - 70] ففرحوا بهذه الآيات، ودخلوا في دين الله تائبين إليه سبحانه تبارك وتعالى.

الجمع بين قوله تعالى: (إن الله يغفر الذنوب جميعا) وقوله: (إن الله لا يغفر أن يشرك به)

الجمع بين قوله تعالى: (إن الله يغفر الذنوب جميعاً) وقوله: (إن الله لا يغفر أن يشرك به) قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] فقوله سبحانه في الآية: (إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) إطلاق، وقد جاءت آية أخرى مقيدة لهذه الآية وهي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:48] فكأن الآية الأولى وهي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53] تدل على أن الله يغفر الذنوب جميعاً بما فيها الكفر، والشرك بالله سبحانه قبل وفاة العبد، فإذا تاب العبد من الكفر والشرك تاب الله عز وجل عليه وغفر جميع ذنوبه، ودلت الآية التي في سورة النساء، - وسورة النساء مدنية - وهي قوله سبحانه تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] على أن العبد إذا توفي على الشرك والكفر فلا يغفر له ذلك، أما من مات وقد اجتنب الشرك، ووقع في المعاصي فهو تحت المشيئة، إن شاء الله غفر له، وإن شاء عذبه سبحانه تبارك وتعالى، لكنه من الموحدين وهو سيدخل الجنة بإذن الله.

دعوة الله لعباده إلى العودة إليه

دعوة الله لعباده إلى العودة إليه يقول الله سبحانه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر:53] نادى الله عباده بقوله: يا عبادي! وقد شرفهم بأن أضافهم إليه سبحانه تبارك وتعالى، والمعنى: هؤلاء عبادي أنا خلقتهم، وأنا التواب الرحيم، فأتوب عليهم. قوله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر:53] هذه قراءة الجمهور ومنهم: نافع وأبو جعفر وابن كثير وابن عامر وعاصم، بفتح الياء في قوله: (يا عبادي). وباقي القراء يقرءونها: ((قل يا عباديْ الذين أسرفوا على أنفسهم)) بسكون الياء في قوله: ((يا عباديْ)). وقوله: {لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53] فيها قراءتان: الأولى: بالفتح، فتقرأ هكذا: (لا تقنَطوا)، أي: لا تيئسوا من رحمة الله سبحانه، وهذه قراءة الجمهور. وقراءة البصريين: أبي عمرو ويعقوب والكسائي وخلف: ((لا تقنِطوا من رحمة الله)) بالكسر، وكلاهما بمعنى اليأس من رحمة الله سبحانه تبارك وتعالى. وفي الآية يبشر الله سبحانه هؤلاء ويفتح لهم باب الرحمة، بل أبواب رحمته سبحانه تبارك وتعالى، فيقول لهم: لا تيئسوا مهما وقعتم في الذنوب، أو فعلتم من المعاصي، فمن تاب إلى الله فالله يتوب عليه؛ لأن رحمته سبحانه واسعة لا يقنط منها أحد، قال تعالى: {لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53].

ذكر معنى اسمي الله الغفور والرحيم

ذكر معنى اسمي الله الغفور والرحيم بين سبحانه سعة عفوه ومغفرته فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53] الغفر بمعنى: الستر والتغطية، ومنها: المغفر، وهي: الحلقات من الحديد التي يلبسها المقاتل، ليتقي بها سيوف الأعداء، يستر نفسه بالحديد، والله الغفار سبحانه، والغفور، وغافر الذنب، وكلها من أسمائه الحسنى سبحانه وتعني: الذي يستر الذنب، ويغطيه، ويكفر سيئات العبد فيمحوها تبارك وتعالى، ثم بين سبحانه أنه لا يستثني ذنباً فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53] والآية تدل على مغفرة جميع الذنوب حتى الكفر بالله سبحانه والشرك به فإنه يغفره، طالما تاب العبد من الكفر، ومن الشرك؛ لأنه هو الغفور الرحيم، ولم يكتف بقوله: (إن الله يغفر الذنوب)، بل جاء بالتأكيد فقال: (جميعاً)، أي: كل الذنوب يغفرها سبحانه، وزاد المعنى تأكيداً بقوله: (إنه هو الغفور)، أي: الذي يستر الذنوب ويكفر السيئات، ويمحوها، بل ويبدلها حسنات، {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (فرحيم) صيغة مبالغة من الرحمة، فهو الرحمن، وهو الرحيم سبحانه، وكلا الاسمين عظيم وجميل. فالرحمن: رحمته لجميع خلقه، فهو يرحم الجميع، ومن رحمته لجميع خلقه سبحانه: أن ترفع الدابة حوافرها عن ابنها كي لا تقتله، فهو سبحانه تبارك وتعالى يجعل الرحمة في قلوب الإنس، وفي قلوب الجن، وفي قلوب الدواب، وفي قلوب كل ما خلق سبحانه. والرحيم: الذي يرحم المؤمنين سبحانه، قال تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43] أي: يرحمهم في الدنيا فيهديهم، ويرحمهم في الآخرة فيستر ذنوبهم، ويكفر سيئاتهم، ويدخلهم جنته سبحانه تبارك وتعالى، وكأن صفة الرحيم، تختص بالمؤمنين يوم القيامة بأنه لا يعذبهم سبحانه، وأنه يرحمهم ويدخلهم جنته سبحانه تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب)

تفسير قوله تعالى: (وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب) وجه الله المؤمنين بالإنابة والرجوع إليه فقال: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [الزمر:54] وهو أمر للمؤمنين خصوصاً، وللعباد عموماً بالإنابة إليه، وأناب بمعنى: رجع، والمعنى: ارجعوا إلى ربكم، ارجعوا إلى طاعة ربكم، ارجعوا إلى الخضوع والاستسلام لله سبحانه تبارك وتعالى. قوله: {وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر:54] أسلم نفسك، أي: سلم نفسك لربك سبحانه تبارك وتعالى، ولا يثبت قدم الإسلام إلا على التسليم والاستسلام لله رب العالمين، فلكي تثبت على دين الإسلام، لا بد أن تسلم فيه نفسك، ووجهك، وقلبك لله سبحانه تبارك وتعالى، وتقول: أنا مسلم. أي: أسلمت نفسي لربي، فليحكم فيّ بما يشاء سبحانه وتعالى، وكما ينبغي أن تسلم لقضاء الله وقدره سبحانه تبارك وتعالى، فعليك أن ترضى وتذعن وتخضع لله وأحكامه سبحانه تبارك وتعالى، فإذا أمر تطيع، وإذا نهى تنزجر وتنتهي. فلا يتحقق الإسلام إلا بالاستسلام والإذعان والخضوع لله سبحانه، ولذلك المؤمن حين يقول: أنا مسلم. لا بد أن يفهم هذه الكلمة التي فهمها الكفار، فقد فهم الكفار ما هو دين الإسلام، وفهموا معنى: لا إله إلا الله، أي: أنه لا معبود بحق إلا الله، وهذه الكلمة يجهلها الكثير من المسلمين، بل إنك عندما تسأل أحد المسلمين: ماذا تعني كلمة: لا إله إلا الله؟ تجد من يقول لك: إن معناها: أن الله هو الذي خلقنا، والله الذي رزقنا، ويعدد بعض أفعال الله سبحانه، وهذا كلام معناه صحيح، فالله هو الذي يرزق، وهو الذي يخلق، لكن ليس ذلك هو معنى: لا إله إلا الله، بل لو قال الإنسان: لا رب إلا الله، لم يدخل في دين الإسلام، بل سيظل كافراً حتى يقول: لا إله إلا الله، إذ إن معنى الرب: الذي يفعل، والكافر لا يخالف في ذلك، بل يقر أن الله يفعل ما يشاء، ويقر أن الله يحكم، وأنه يدبر أمر السماء والأرض، وأنه يرزق عباده، وأنت عند قولك: لا رب إلا الله، تقر فقط أنه لا يفعل هذه الأشياء إلا الله، ولم ينكر أحد ذلك إلا الملحدون، فإنهم كذبوا بذلك وأنكروا، أما كفار أهل الجاهلية، عباد الأوثان والأصنام، فقد سئلوا من خلقكم؟ فقالوا: الله، وسئل بعضهم: كم تعبد يا فلان؟ فقال: سبعة من الآلهة، واحد في السماء، وستة في الأرض، فقيل: من الذي ترجوه لنفعك وضرك؟ قال: الذي في السماء! ولذلك علم أن أمر الربوبية لم يختلف فيه الكفار، وشهد الله على الجميع بأن في قلوبهم ما يثبت ذلك، فقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87]. إنما وقع الخلاف بين الرسل وقومهم في إفراد الله بالعبادة، إذ إن الإله بمعنى: المعبود، فحين تقول: لا إله إلا الله. فأنت تقر أنك لن تتوجه بالعبادة إلا إليه وحده، وهذه هي التي خالف فيها المشركون ورفضوا أن يقولوها تعنتاً وبغياً وكبراً وحسداً للنبي صلى الله عليه وسلم، فهم لم يخالفوا أنه لا رب إلا الله، وإنما خالفوا في أنه لا إله إلا الله؛ لأن مقتضى هذه الكلمة فعل من العبد، بخلاف الربوبية لله عز وجل، فإن مقتضى الربوبية أفعال من الله سبحانه، ولا أحد يخالف أو ينكر أفعال الله، أما مقتضى ألوهيته سبحانه، فهي أفعال من الخلق، وبيان لما يجب أن نعمل لهذا الخالق، ولذا جحد الكفار فقالوا كما أخبر الله عنهم: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] أي: إنما نعبد آلهة كثيرة، ولا نعبد إلهاً واحداً، وإنما رفضوا أن يعبدوا إلهاً واحداً؛ لأنهم لو عبدوا إلهاً واحداً، سيكون إلهك أنت يا محمد! وحينها سيكون لك النهي والأمر وحدك، وتتفرد بالشرف وحدك، وهم لا يرضون بهذا الشيء. فكان هذا الذي من أجله خالف الكفار النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال لهم: قولوا: لا إله إلا الله. وقد حدث أنه اجتمع أبو جهل ومن معه من زعماء قريش عند أبي طالب وشكوا له النبي صلى الله عليه وسلم، فكان مما قالوا: إنه يسب آلهتنا، ويسفه أحلامنا. فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (إني أدعوكم إلى قول كلمة واحدة، تدين لكم بها العرب والعجم قالوا: كلمة واحدة! بل نحن نقول لك عشر كلمات. قال: قولوا: لا إله إلا الله، قالوا: أما هذه فلا). فقد فهم الكفار منها ما لم يفهمه الكثير من المسلمين اليوم، بل إنك عندما تسأل الكثيرين لماذا تقول: لا إله إلا الله؟ ما الذي تعرفه عن هذه الكلمة؟ تجد أنه لا يعرف شيئاً عن معنى: لا إله إلا الله! وحين فهم الكفار معنى: لا إله إلا الله، قال قائلهم: أنترك كل الآلهة ونعبد إلهاً واحداً نتوجه إليه، ونصلي له، ونصوم له، ونزكي له، ونحج له، فاعلين ما يأمرنا، مجتنبين ما ينهانا عنه؟! أي أنهم فهموا من: لا إله إلا الله: ألا نعبد شيئاً إلا الإله الواحد سبحانه تبارك وتعالى. ولذا يُفهَم من قوله سبحانه: {وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر:54] أي: توجهوا إليه وحده سبحانه تبارك وتعالى، مستسلمين له، مسلمين بقضائه وقدره، راضين به أنه الرب، وأنه الذي يعبد وحده لا شريك له، فلا تعبدوا أحداً مع الله ولا من دون الله سبحانه. وقد أردف هذا الأمر بوعيد فقال سبحانه: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ} [الزمر:54] ففي الآية تهديد ووعيد للمشركين والعصاة المجرمين: أن ارجع إلى ربك، قبل أن ينزل بك العذاب من عند رب العالمين، وأكد ذلك فقال: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [الزمر:54].

تفسير قوله تعالى: (واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم)

تفسير قوله تعالى: (واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم) قال سبحانه: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الزمر:55] حين يأتي العذاب من الله سبحانه لا ينصرك أحد، فأردف تلك الأوامر بالعودة إلى الله والرجوع إليه بما يؤكدها فقال: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر:55] إن الله قد أنزل من السماء كتباً كثيرة، فأنزل التوراة، وأنزل الإنجيل، وأنزل الزبور، وكان أحسن ما نزل من عنده سبحانه القران العظيم، فأمر باتباع هذا القرآن الذي نسخ الشرائع التي كانت قبله كلها، وهو الكتاب الخاتم. وقوله سبحانه: {مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر:55] تذكير بالربوبية فلم يقل: من إلهكم؛ لأن إلوهية الله تتجلى عندما يأمر بعبادته، أما الربوبية فيذكرها عندما يذكر صفاته سبحانه تبارك وتعالى، أو أفعاله سبحانه تبارك وتعالى، وبما أنه خلق فهو الذي يُشِّرِع، وهو الذي يحكم سبحانه، إذ إنه هو الرب سبحانه تبارك وتعالى، ومن مقتضيات ربوبيته: أنه يعلم ما في خلقه، وما يحتاجون إليه، وما الذي يصلح حالهم، فينزل شريعة من السماء تتناسب مع ما يصلحهم، فكان القرآن العظيم هو ما اختاره لنا وأمرنا باتباعه فقال: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر:55]، كما أن الذي خلقكم والذي يشرع لكم ما تنتفعون به يعلم سركم وجهركم قال سبحانه: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]. وكسابقتها من الآيات فقد أردفها بالوعيد والتهديد فقال سبحانه: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً} [الزمر:55] فقد ذكر في الآية الأولى قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [الزمر:54] أي أنه إذا جاء العذاب فلا يستطيع أحد أن ينتصر من الله سبحانه، ولا أن يغالب ربه سبحانه. وفي الثانية ذكر أنه إذا جاء العذاب فجأة، أي: أنك لا تشعر إلا والعذاب نازل عليك فقال سبحانه: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً} [الزمر:55] أي: فجأة، {وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا} [الزمر:55 - 56] أي: حين ينزل العذاب يصيح المفرط والجاحد: {يَا حَسْرَتَا} والمعنى: احضري يا مصيبتي! أو يا تحسري! ولا ينفعهم التحسر إذا نزل العذاب من عند رب العالمين.

تفسير سورة الزمر [53 - 59]

تفسير سورة الزمر [53 - 59] لعظم رحمة الله عز وجل بعباده فإنه يناديهم بأرق النداء وأعذبه أن يعودوا إليه، ووعدهم إن عادوا إليه بأنه سيغفر ذنوبهم مهما بلغت كثرة وعظمة، ثم يوجههم إلى اتباع هديه وشرعه، ويحذرهم من مخالفته والصد عنه، ويبين لهم أن ذلك جالب للحسرة والخسارة يوم القيامة.

تفسير قوله تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقطنوا من رحمة الله)

تفسير قوله تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقطنوا من رحمة الله) الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. ثم أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الزمر: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر:53 - 59]. يذكر الله سبحانه في هذه الآيات رحمته العظيمة الواسعة التي وسعت كل شيء، قال سبحانه: ((قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ)) أي: لا تيئسوا من رحمة الله، فالقنوط بمعنى: اليأس، والذي ينبغي على المسلم وهو يعيش في هذه الدنيا أن يرجو رحمة الله سبحانه، ويعلم أنه لا يدخل الجنة إلا بفضل الله وبرحمته سبحانه, ورحمته وسعت كل شيء, فلا ييئس من رحمة الله ومن روحه وكرمه سبحانه تبارك وتعالى, بل لا بد أن يلجأ ويتوب إليه سبحانه من كل الذنوب، فإنه يغفر الذنوب جميعاً, ومعلوم أن الذي يغفر الذنوب ويؤاخذ بها ويعاقب عليها، وأن الذي يملك أن يدخل عباده الجنة هو الذي يملك أن يعذبهم في النار سبحانه، فلذلك ينبغي على العبد أن يتوب إلى الله سبحانه وأن يكون بين الخوف والرجاء, بين حب الله والذل بين يديه سبحانه، بين الأمل أن يدخله جنته والخوف أن يمكر به ويدخله ناره. {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر:53] أي: تجاوزوا حدهم ووقعوا في الذنوب وأسرفوا فيها، {لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53] أي إن الله لا يتعاظمه ذنب أن يغفره, فمهما أذنب العبد ثم تاب إلى الله فإن الله يتوب عليه حتى من الكفر ومن الشرك به سبحانه تبارك وتعالى, أما إذا مات العبد على الشرك فـ {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48]، بل مهما عمل من أعمال ظنها صالحة ومات على الكفر بالله أو مات على الشرك بالله ولم يأت بأصل الإيمان والتوحيد ولم يأت بلا إله إلا الله فإن عمله لا ينفعه كائناً ما يكون هذا العمل، قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] والخطاب في الآية للكفار والمشركين، أما المؤمن الذي وحد ربه سبحانه ولم يقع في الشرك ومات على الإيمان والإسلام والتوحيد فإنه حتى لو وقع في كبائر الذنوب فيرجى له رحمة الله سبحانه تبارك وتعالى؛ لأنه يغفر الذنوب جميعاً وهو الغفور الرحيم.

تفسير قوله تعالى: (وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب)

تفسير قوله تعالى: (وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب) أمر الله عباده بالإنابة إليه فقال: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} أي: ارجعوا إلى الله سبحانه، ((وَأَسْلِمُوا لَهُ)) أي: سلموا أنفسكم له واستسلموا وأذعنوا واخضعوا له وأطيعوه سبحانه، ثم حذر مفاجأة العذاب فقال: ((مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ)) والعذاب حين يأتي فمن الذي يجير العباد إذا أراد الله بهم انتقامه وبأسه وعقوبته سبحانه؟ فلا ينصرهم أحد إذا أراد الله عذابهم، ولا يشفع فيهم أحد إذا أبى الله سبحانه قبول هذه الشفاعة. ثم يوجههم باتباع شرعه ودينه فيقول: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر:54] لقد أنزل الله سبحانه الأحكام الشرعية من السماء، فأنزل القرآن وأنزل من قبله التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم، فكان هذا القرآن العظيم أحسن ما نزل من عند الله سبحانه تبارك وتعالى، ولما أمر بالاتباع حذر من المخالفة فقال سبحانه: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً} [الزمر:54] أي: فجأة بغير مقدمات، فإذا أتى على العبد فلا يستطيع حينها أن يتوب إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، فعادة ما ينزل العذاب بغتة فيأخذ الله عز وجل العصاة فيهلكهم، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)، وقال سبحانه في سورة هود: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102].

تفسير قوله تعالى: (أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله)

تفسير قوله تعالى: (أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله) بين الله سبحانه في الآية مدى حسرة العصاة والكفار فقال سبحانه محذراً: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ} لئلا تقول نفس، أو كراهة أن تقول، {يَا حَسْرَتَا} الأصل فيها: يا حسرتي! وكأن الإنسان ينادي على الندامة: أن تعالي يا ندامة من أجل أن أندم على ما فعلته، أو تعالي يا حسرة من أجل أن أتحسر على نفسي وعلى ما فرطت في جنب الله سبحانه! والنداء هنا يحمل معنى الاستغاثة والندب، والمعروف أن الإنسان يندب حظه ويصوت على نفسه، وقد يبكي على ما فرط وقصر. وفي قوله تعالى: (يا حسرتا) قراءات، فيقرؤها أبو جعفر: (يا حسرتاي على ما فرطت في جنب الله) بخلاف ابن وردان فإنه يقرأ: (يا حسرتآي على ما فرطت) يُصوت على نفسه يوم القيامة فيقول ذلك (يا حسرتي)، فالأصل فيها بالياء وقلبت ألفاً للتخفيف، إذ إن الذي يُصوت يمد صوته من شدة حسرته فيقول: يا حسرتآه يمد صوته فيها، ويقف عليها رويس عن يعقوب: (يا حسرتاه) بهاء السكت عليها، ويميلها حمزة والكسائي وخلف، ويقللها الأزرق عن ورش والدوري. وقوله سبحانه: ((عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ)) أي: في ذات الله وذكره وطاعته سبحانه تبارك وتعالى، وهو حين يقول: يا حسرتاه، يستحضر ما كان في الدنيا، فيتذكر أنه كان من الممكن أن يجيره الله سبحانه ففرط في جوار الله سبحانه، ويتذكر أنه كان من الممكن أن يجعل الله سبحانه من يشفع له عنده ففرط، وقصر في ذلك. وكل إنسان مؤمناً كان أو كافراً، باراً كان أو فاجراً، يرى أنه يوم القيامة قد ظلم نفسه، ويرى نفسه مفرطاً في جنب الله سبحانه, فالمؤمن يقول: كان يمكنني أن أعمل أكثر من ذلك، فأحظى بدرجة أعلى مما أنا فيه في الجنة، فيرى نفسه مغبوناً، والغبن: أن يرى الإنسان نفسه استعجل أو تسرع في الشيء فخسر, كمن استعجل في الشيء فاشتراه بثمن غالٍ، وكان بإمكانه أن يشتريه بمثمن أرخص أو استعجل في بيع شيء فباعه بثمن بخس ولو انتظر لباعه بثمن أعلى، فكلاهما يسمى مغبوناً، ولذا سمي يوم القيامة: يوم التغابن؛ لأن كل إنسان يرى نفسه مغبوناً في ذلك اليوم، ولو سئل: من الذي خدعك؟ لوجد أنه هو الذي خدع نفسه، فحينها يتحسر ويتألم ويخاطب نفسه: كان أمامي وقت كثير ضيعته في النوم واللهو واللعب، كم من ساعات قضيتها في الكلام الفارغ فغبنت نفسي! وقد كان بإمكاني أن أجلس وأقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] عشر مرات فيبني الله لي قصراً في الجنة! وكان بإمكاني أن أقول: سبحان الله وبحمده مائة مرة فتغفر ذنوبي ولو كانت مثل زبد البحر, أو لو كنت قلت: لا إله إلا الله وحده لا شريك له مائة مرة كانت لي عدل عشر رقاب أعتقتها الآن -يوم القيامة-، فيرى نفسه مغبوناً قد غبن نفسه يوم القيامة؛ ولذا ينادي: {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:56] والمعنى: لقد فرطت كثيراً في جنب الله، وكان من الممكن أستغل عمري أكثر مما استغللته. أما الكافر فيرى نفسه خاسراً ضائعاً يقول: فرطت في جنب الله فرطت في الإسلام فرطت في لا إله إلا الله فرطت في كلمة التوحيد ((وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ)) أي: لمن المستهزئين، فقد كنت أسخر من المؤمنين وأستهزئ بما جاءني من عند رب العالمين.

تفسير قوله تعالى: (أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين)

تفسير قوله تعالى: (أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين) عندما يتيقن الكافر بفداحة خسارته يوم القيامة يتمنى الهداية حين لا هداية والعودة حين لا عودة، قال تعالى: {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر:57] يقول الكافر مخاطباً نفسه يوم القيامة: كنت أسخر وأضحك من المؤمنين، وأسخر من المصلين، وأسخر من أهل التوحيد، وكنت أستهزئ بهم، وغيره ممن على ملته يقول: ((لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي)) أي: ليت الله هداني، فلو هداني: ((لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ))، وقوله كلمة حق هو مبطل فيها، إذ إن الله سبحانه تبارك وتعالى قد هداه ودله على طريق الإيمان، لكنه أبي وتنكب؛ ولذا يوم القيامة يجد الإنسان أنه هو الذي ظلم نفسه، فيقول: ليت أن الله هداني! يريد الهداية بمعنى: التحويل وكأنه يقول: يا ليت أن الله حولني من الضلال إلى الهدى، وحينها يُسأل: هل أعطيت من نفسك ما تستحق عليه الهداية أم أنك أنت الذي فرطت وقصرت وأعرضت عن المؤمنين وعن دعوة رسول رب العالمين عليه الصلاة والسلام؟! ولذا يتحسر على نفسه يوم القيامة. ومعلوم أن كلمة: (لو) في الدنيا تفتح عمل الشيطان، أما في الآخرة فإن الإنسان ييئس من هذه الكلمة، وإن كررها فهو من أهل النار والعياذ بالله، وذلك جزاء بما قدم قال تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر:56 - 57] أي: لكنت عملت ما أتقى به رب العالمين، وكنتُ اتقيت المعاصي والذنوب، ولكنه لم يفعل ولذا لا ينفعه قوله حين يقول: {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر:57].

تفسير قوله تعالى: (أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة)

تفسير قوله تعالى: (أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة) قال الله تعالى: {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ} [الزمر:58] أي: حين تعاين عذاب رب العالمين سبحانه: {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً} [الزمر:58] أي أنهم إذا دخلوا النار يقولون: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:100] أي: لعلي إن عدت مرة أخرى أن أعمل صالحاً، ولكن الله عز وجل منع العودة إلى الدنيا، وبين أنها أمنية لا يمكن أن تتحقق؛ ولذا صدرت بلو قال تعالى:: {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر:58] أي: لو رجعت إلى الدنيا مرة ثانية فسأكون من المحسنين، فقد تبت إلى الله عز وجل، وسأحسن أفضل الإحسان إن أعادني فيجيبه ربه سبحانه فيقول: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر:59] وقوله: بلى: جواب عن استفهام منفي، وظاهر الآية أنه لا يوجد استفهام منفي، ولذا يقدر في الآية بمعنى قوله تعالى: {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر:57] ليصبح المعنى: ما هداني الله أو لم يهدني الله، فيجاب: بلى، فينفي نفي هذا الذي يقوله ليكون المعنى: قد هداك: لأن نفي النفي إثبات، فكأن العبد يقول: ما هداني الله فأكون من المتقين، أو ما فعل الله عز وجل بي كذا فأكون من المحسنين، فيجاب: بلى، فقد هداك ودلك الله سبحانه تبارك وتعالى على طريق الهدى، فأعذر إليك بأن أنزل الكتاب، وأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم، وبين لك النجدين طريق السعادة وطريق الشقاوة، إلا أنك اكتسبت هذه الأعمال فاستحققت عقوبة الله، قال تعالى: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر:59] , فالكافر قد كذب بآيات الله سبحانه واستكبر عن طاعة رب العالمين سبحانه، وكان من الكافرين الجاحدين لربهم سبحانه المنكرين لنعمه عليهم، فقد اقترفوا ذنوباً بعضها فوق بعض، أفبعد ذلك يقول أحدهم: لو أن الله هداني؟! والهدى من الله على نوعين: هدى بمعنى الدلالة، وهذا لجميع خلقه، وهذا الذي لا يستطيع أن ينكره العبد يوم القيامة، وإن قال القائل يوم القيامة: لو أن الله حولني وعاملني كما يعامل هؤلاء المؤمنين، فسيجاب: المؤمن قد قدم في هذه الدنيا ما بسببه رحمه الله فاستحق أن يزيده هدى، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17]، فالمؤمنون قد أراد الله عز وجل بهم الخير فدلهم على الطريق ثم أعانهم ففهموا هذا الطريق الحق فعملوا، فزادهم الله عز وجل إيماناً وهدى، أما الكافر فإنه لما دله الله عز وجل على الطريق، أخذ يستهتر ويأنف من اتباع الحق، بل أخذ يتبع الشيطان والهوى، ولذا استحق أن يطمس الله على نوره وبصيرته، فأصبح لا يرى حقاً ولا يجتنب باطلاً، قال الله عز وجل لهذا الكافر: {قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ} [الزمر:59] أي: استكبرت عليها وأنفت أن تطيع الله سبحانه تبارك وتعالى، وكفى المستكبر عقوبة أنه لا يدخل الجنة أبداً، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الكبر فعرفه بأنه: (بطر الحق وغمط أو وغمص الناس) والمعنى: أنه يرفض الحق ويأبى أن يدخل فيه وأن يتبعه، فكان من كبر المستكبرين أنهم إذا دعوا لا يطلبون أن يدلهم الله على الحق وإنما يقول قائلهم كـ أبي جهل وأمثاله: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32] , ومن الكبر كما جاء في الحديث غمص الناس أي: احتقار الناس، ولذا يأتي المتكبرون يوم القيامة مثل النمل، وجاء في سنن الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وجده هو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر من الصغار في صور الرجال) فمن استكبر بقوته أو بضخامة جسده في الدنيا؛ فإنه يحشر يوم القيامة مثل النمل من الهوان، فإذا دخل النار كبر الله جثته وكبر حجمه ليناله العذاب في نار جهنم مفرقاً في جسده قطعة قطعة. ثم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يغشاهم الذل من كل مكان) ولأن الكافر كان في الدنيا منيع الجانب، متعززاً على المؤمنين، فإنه يحشر يوم القيامة ذليلاً ويقال له تبكيتاً: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49]، كان الكفار في الدنيا كـ أبي جهل وغيره يقول قائلهم: أنا عزيز في قومي، أنا منيع الجانب في قومي، أنا كريم على قومي لا يسلمونني لأحد أبداً، وكان في يوم بدر في مثل الحرجة قد أحاطه الكفار يدافعون عنه برماحهم وسيوفهم، مثل الحرجة أي: في مثل الغابة الكثيفة من كثرة من حوله ممن يحمونه ويدافعون عنه، فإنه يعذب يوم القيامة ويقال له: (ذق) أي: ذق العذاب (إنك أنت) أي: لأنك كنت تقول عن نفسك ذلك (إنك أنت العزيز الكريم)، فذق يا عزيز، ذق يا كريم! فما كنت تدعيه في الدنيا من عزة وكرامة عذبت به في نار جهنم والعياذ بالله! ثم يقول النبي صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء المستكبرين: (يحشرون يغشاهم الذل من كل مكان، فيساقون إلى سجن في جهنم يسمى بولس) وبولس: اسم سجن في جهنم ثم قال صلى الله عليه وسلم: (تعلوهم نار الأنيار) أي: أفضع النار والعياذ بالله! ثم قال صلى الله عليه وسلم: (يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال) طينة الخبال: أي يسقيهم الله صديد أهل النار والعياذ بالله، والحديث قال عنه الترمذي: حسن صحيح، وحسنه الشيخ الألباني رحمه الله.

تفسير سورة الزمر [60 - 64]

تفسير سورة الزمر [60 - 64] إن الله سبحانه هو الحكم العدل فقد جعل النار مثوى المكذبين، وجعل الجنة دار المتقين، وقد بين الله سبحانه أنه هو الذي بيده مفاتيح الخزائن، فكيف يعبد معه غيره، وكيف يشكر معه سواه؟! ولذلك فقد سمى الله عز وجل من يعبد غيره جاهلاً، وإن علم من علوم الدنيا ما علم، فالعلم الحقيقي هو العلم بالله، والجهل الحقيقي هو الجهل به سبحانه.

الإخلاص والمتابعة

الإخلاص والمتابعة الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الزمر: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ * وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ * وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:63 - 66]. في هذه الآيات وما قبلها يدعو الله عز وجل عباده إلى التوبة والاستغفار والرجوع إليه، وأن لا يقنطوا من رحمته سبحانه؛ فإن رحمته واسعة عظيمة، قال الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]، وأمرهم بالإنابة إليه فقال: {وَأَنِيبُوا} [الزمر:54] أي: ارجعوا إلى ربكم، {وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر:54] أي: أسلموا نفوسكم ووجهوا وجوهكم وأخلصوا لله وحده لا شريك له، {وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} [الزمر:54 - 55] فأسلموا: أخلصوا لله عز وجل، والإخلاص وحده لا ينفع حتى تتبعوا ما نزل من عند الله سبحانه وتعالى، ولذلك فإن العبادة مبناها على ركنين: ركن الإخلاص لله سبحانه، والركن الآخر: المتابعة لدين الله سبحانه، فلا يخترع الإنسان عبادة يعبد الله عز وجل بها، فالله سبحانه قد كفانا بهذا الدين العظيم بالكتاب والسنة، فعلينا أن نتعبد لله سبحانه بما شرع، وبما أنزل.

المبادرة بالتوبة قبل الندم

المبادرة بالتوبة قبل الندم قال الله تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الزمر:55] أي: حتى لا تندموا يوم القيامة، {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر:56] فإذا سخر الإنسان في الدنيا وضحك ولعب فإنما يسخر من نفسه، ويوم القيامة يعرف عقوبة ذلك وعاقبته، فلذلك يقول الله لنا: احذروا أن تقول نفس يوم القيامة: {وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر:56] أي: كنت أسخر من نفسي وأضحك عليها، لقد خدعتها وغبنتها، يقول الله سبحانه: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن:9] أي: يوم القيامة. قال الله تعالى: {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر:57] (لو) في الدنيا تفتح عمل الشيطان، وفي الآخرة كلمة الحسرة يوم القيامة، فيفكر الإنسان كيف يخرج من النار؟ ويتمنى أنه عمل الصالحات، ويتحسر على ما فرط في هذه الدنيا، والدنيا مرة واحدة فقط، لن تكرر مرة أخرى. فالإنسان الذي جعله الله عز وجل يعمر هذا الكون أخبره أن الدنيا حياة واحدة، وأن الحياة الأخرى يوم القيامة، والخلود إما في الجنة وإما في النار، فالإنسان لما يجد ما قدمه حسنات يفرح ويقول: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:19 - 20] أي: أنا علمت في الدنيا أن الله سيحاسبني يوم القيامة فقدمت وعملت لهذا اليوم. قال الله عز وجل: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:21 - 24] فالمؤمن يوم القيامة يخلد في الجنة فلا يموت، قال الله تعالى: {لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62] والفاجر والكافر إذا وجد كتابه أخذه بيده الشمال من وراء ظهره، قال الله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} [الحاقة:25 - 26]، وهنا يذكر الله عز وجل أنه يقول: {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر:58] أي: ياليتني أرجع مرةً أخرى إلى الدنيا، فأحسن أفضل الإحسان، فهذا ما يتمناه العبد يوم القيامة، وفي وقت يقال للناس: لا رجوع لكم، فقد عمرناكم في الدنيا فلم تعملوا ولم تستجيبوا، فالله يخبرنا عن هذا الموقف الذي يكون يوم القيامة، وما يكون فيه من الكافرين والعصاة حين يتحسرون ويبكون على أنفسهم في وقت لا ينفع فيه الندم، ويطلبون الاستدراك في وقت العدم.

تفسير قوله تعالى: (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة)

تفسير قوله تعالى: (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة) قال الله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر:60] سود الله عز وجل وجوههم فهي سوداء، وأعينهم زرقاء، ويحشرون عمياً إلى النار والعياذ بالله. ومعنى: {كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ} [الزمر:60] أي: افتروا على الله سبحانه، وكذبوا بآياته، وقالوا: ما أنزل الله من كتاب، وما أنزل من سلطان، وما أرسل من رسول، فافتروا عليه سبحانه، ولم يؤمنوا ولم يصدقوا، فهؤلاء تكون وجوههم مسودة يوم القيامة. يقول الله سبحانه: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:60] أي: أليس فيها مكان يؤويهم ويسكنون فيه، وينزلون به، فيقيمون إقامةً دائمة مستقرة في النار؟ قال الله تعالى: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} واسمها جهنم فهي نار بعيد قعرها تلقى الصخرة العظيمة من فوقها فلا تصل إلى قعرها إلا بعد سبعين سنة. وكلمة جهنم معناها: البعيدة القعر، وهي مأخوذة من قولهم: هذا بئر جهنام قعره بعيد فكذلك النار، فهي عميقة وبعيدة القعر، وأسماؤها كثيرة في القرآن، تعبر عما فيها وعن معانيها، فهي جهنم، وهي الحطمة التي يحطم بعضها بعضاً، وهي نار السعير المستعرة المشتعلة الملتهبة، والسعار من الجنون، فكأنها نار لا تبقي ولا تذر أمامها شيئاً، فأسماؤها تدل على ما يكون فيها لأصحابها. فقوله تعالى: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} أي: مثوى للمتكبر، فالمتكبر علا في الدنيا وارتفع على الخلق، وظن نفسه أعلى منهم، فأبى الله إلا أن يذله، ويضعه ويخفضه، فإذا به في دركات جهنم البعيدة القعر، يهوي بها هذا الإنسان المتكبر الذي تعالى على خلق الله، وتعالى على رسل الله عليهم الصلاة والسلام. {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} و A بلى، في جهنم مثوى للمتكبرين، يحشرهم الله سبحانه وتعالى في هيئته الذر، كأمثال النمل يوم القيامة إلى النار كما جاء في سنن الترمذي قال صلى الله عليه وسلم: (يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صورة الرجال).

تفسير قوله تعالى: (وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم)

تفسير قوله تعالى: (وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم) يقول الله سبحانه: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزمر:61]. إن الله عز وجل يهلك الكفرة والمستكبرين الذين تكبروا على آيات الله سبحانه وتعالى، وعلى رسله عليهم الصلاة والسلام، فتهوي بهم النار إلى قعرها جزاءً وفاقاً، ولكن المؤمنين ينجيهم الله سبحانه وتعالى، وكأنهم لما عاينوا وخافوا في الموقف يوم القيامة، ومروا فوق الصراط حصل لهم رعب وخوف، فنجاهم الله سبحانه وتعالى من ذلك. وقوله تعالى: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا} هذه قراءة الجمهور، وقراءة روح عن يعقوب: {وَيُنْجِي اللَّهُ} بسكون النون، وقوله: (بمفازتهم) هذه قراءة الجمهور، وقرأها شعبة عن عاصم وحمزة والكسائي، وخلف: ((بِمَفَازَاتِهِمْ)) على الجمع، والمفازة مصدر بمعنى: الفوز يعني: بفوزهم، وبما كتب الله عز وجل لهم من سعادة يوم القيامة بفضله وبكرمه عليهم سبحانه وتعالى فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته). فالجنة ثمنها غال لا يقدر العبد على دفعه، ولكن السبب إليها يسير، فإذا قيل لك: ادفع ثمن الجنة وأنت في الدنيا فلن ترض، ولن تقدر، فإذا عبدت ربك وخدمت دينك فلك الجنة التي لا تقدر على دفع ثمنها، حصلت عليها بالأخذ بالأسباب، وإذا نويت الخير وفعلته حصلت على ثوابه، وإذا لم تفعله أجرت على نيتك، فالمطلوب هو الأخذ بالأسباب، والنتيجة على الله سبحانه تبارك وتعالى، وعملك سبب لدخول الجنة، أما أن تدفع ثمن الجنة فهذا مستحيل، فالجنة العالية العظيمة الغالية تدخلها بفضل الله وبرحمته سبحانه وتعالى، وعملك لو وزن مع نعم الله عز وجل عليك فلا تكافؤ، قال الله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]، وإذا عددت عملك سوف تحصيه، وإذا عددت نعم ربك العظيمة عليك فلن تحصيها، ففكر في نفسك، وما الذي فيك من أعضاء، وانظر إلى جلدك وكيف أنعم الله عليك به، وانظر إلى العين واللسان والشفتين، وإلى السلاميات والمفاصل، وإلى كل أعضائك، فهذه كلها من النعم التي أنعم الله بها عليك، ومهما عملت في الدنيا لتؤدي شكرها فلن تستطيع، إنما تؤدي شكر بعضها، أما كلها فلن تحصيها، قال الله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل:18]، {إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34]، فالله يغفر ويرحم سبحانه، والإنسان يغبن نفسه وغيره، ويجحد نعم الله عز وجل عليه. فيوم القيامة ينجي الله عز وجل المؤمنين بما كتب لهم من رحمته، وبسعادتهم التي سبقت عنده؛ لأن أهل السعادة ييسرون لعمل أهل السعادة، فيدخلهم الله عز وجل الجنة فائزين بفضله وبرحمته سبحانه. وقوله تعالى: ((وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ)) أي: بما نجاهم الله عز وجل فيه من رحماته العظيمة الواسعة، وما أعطاهم من فوز يوم القيامة. وقوله: ((لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ)) أي: لا ينالهم ولو شيء قليل من السوء، فعبر بالمس، ولم يعبر بالاحتراق؛ ليدل على أنه لا يمسهم شيء يسوؤهم طالما أن الله كتب لهم النجاة من النار. قال الله تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185] وهذا الفوز العظيم عند الله سبحانه، وفي قوله تعالى: ((لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)) أنهم لا يحزنون على ماض، فهم يحمدون الله أن خرجوا من الدنيا دار الفتن والمحن، ودخلوا الوطن الحقيقي للإنسان، وهو جنة الله سبحانه تبارك وتعالى، فلا يحزنون على شيء فاتهم.

تفسير قوله تعالى: (الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل)

تفسير قوله تعالى: (الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل) قال الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر:62] أي: خالق الدنيا والآخرة، وخالق الجنة والنار، وخالق الإنسان وعمله سبحانه وتعالى، فكل شيء أوجده الله سبحانه وخلقه، أما الإنسان فلم يخلق شيئاً، وإنما يكتسب الأفعال الصالحة أو الأفعال السيئة. وقوله تعالى: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} فيه ما عليه سبحانه من العلو والقدرة، وأنه رقيب شهيد على أعمال العباد، وأن عليهم أن يخافوا منه سبحانه. فالله يرينا استعلاءه بقدرته علينا في الحفظ، والوكيل هو من يحفظ الأعمال ويحصيها تبارك وتعالى حتى يجازينا عليها يوم القيامة، فهو الوكيل الحفيظ سبحانه، الشهيد الرقيب على عباده، الذي قام كل شيء به سبحانه وتعالى، فعلى الإنسان أن يتوكل عليه ويفوض أمره إليه، ويظهر عجزه أمامه، فلا قدرة ولا حول ولا قوة لهذا الإنسان إلا به سبحانه، فهو الذي يقدر على كل شيء، وهو الوكيل القادر الذي قام به كل شيء، وهو الحي القيوم القائم على كل شيء، والذي قام كل شيء به سبحانه وتعالى، ولا شيء يقدر عليه الإنسان إلا أن يقدره الله سبحانه وتعالى عليه، فهو الوكيل الحفيظ الشهيد الرقيب سبحانه الذي دبر أمور السماوات والأرض.

تفسير قوله تعالى: (له مقاليد السماوات والأرض)

تفسير قوله تعالى: (له مقاليد السماوات والأرض) قال الله تعالى: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الزمر:63] المقاليد: الخزائن، وهي مفاتيح خزائن السموات والأرض، فكل شيء له يملكه، وكل شيء تحت تصرفه سبحانه وتعالى، يأمر بقوله: كن فيكون، فالمطر يأمره سبحانه وتعالى: انزل في المكان الفلاني، فينزل في ذلك المكان، وخزائن الأرض من كنوز وغيرها يأمر بخروجها فتخرج لمن يشاء من خلقه سبحانه وتعالى وهذه الخزائن ملأى لا تغيظها نفقة، فإذا أراد الإنسان الرزق فليسأل الله سبحانه تبارك وتعالى، وسوف يعطيه رزقه، فلا أحد يقدر أن يقدم أو يؤخر من أرزاق العباد شيئاً، ولكن الله الذي يفعل ذلك، فعلى العبد أن يقطع علائقه بالخلق، فلا يتعلق قلبه بأحد من الناس، فالله سبحانه تبارك وتعالى هو الذي سيعطيه ويرزقه، وإنما عليه أن يأخذ بالأسباب، وأن يثق بالله سبحانه وتعالى، فهو الرزاق الكريم، وهو على كل شيء وكيل. {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}، إن الكافر طماع لا يثق بالله سبحانه ولا برسالاته، إنما يريد أن يرى أمامه الجنة وينظر إليها، فإذا رآها آمن بها، وإلا فإنه يكفر ويكذب مهما جاءته من الآيات، قال الله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] طبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون، ولا يتبعون رسل الله عليهم الصلاة والسلام، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الزمر:63] الذين خسروا الدنيا والآخرة مهما جمعوا من الدنيا لا بد وأن يتركوها يوماً من الأيام، فإذا جاءوا يوم القيامة وقد ضاعت منهم الدنيا كان مصيرهم إلى النار، فهذا هو الخسران المبين، الذي يبين ويفصح عن نفسه أنه الخسران الحقيقي.

تفسير قوله تعالى: (قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون)

تفسير قوله تعالى: (قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون) قال الله تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر:64]، يقول الله لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: قل لهؤلاء الكفرة المجرمين: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} يخاطبهم بلهجة شديدة: أيها الجهلة! أيها الحمقاء والمغفلون! أتأمرونني أعبد غير الله؟! من إله غير الله يرزقكم من السماء والأرض؟! أأله مع الله يستحق العبادة، وهو الذي خلق ورزق، وأقررتم وأيقنتم بأنه كذلك؟ أأعبد غير الله؟ أين عقولكم أيها الجاهلون؟! وقوله تعالى: ((قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي)) بالمد والتسكين وتسكين الياء هذه قراءة الكوفيين، وقراءة البصريين أبي عمرو ويعقوب، وحمزة، والكسائي، وخلف ي ((تَأْمُرُونِيْ أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ)) بالياء الساكنة على قراءتهم في المد والقصر فيه، ويقرؤها نافع وأبو جعفر المدنيان: ((قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِيَ أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ))، بالتخفيف وفتح الياء، وطالما فتحت الياء فلا مد فيها. ويقرؤها ابن كثير بفتح الياء والتثقيل: ((قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تأمرونِّيَ أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ)) ويقرءوها ابن عامر بخلف عن ابن ذكوان: ((قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونني أَعْبُدُ)) ويمد فيها بحسب ما يمد هشام وابن ذكوان. وهناك قراءة ثانية لـ ابن ذكوان: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} بالمد الطويل فيها، فهذه خمس قراءات في هذه الكلمة. وإذا وقف يعقوب على كلمة (الجاهلون) يقرؤها بهاء السكت، يقول: ((أَيُّهَا الْجَاهِلُونَه))، أو يقرأ: ((أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ)). فهنا الخطاب للكفرة أنهم جهلوا، وإن كانوا قد علموا أشياء، كما قال الله سبحانه وتعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم:7] فهذا علم الكفار، يعلمون من علوم الدنيا، كعلم الطب والفلك والبحار، فيعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا أما الغيبيات فلا يريدون أن يعرفوها، ولا يريدون أن يعرفوا مصيرهم بعد الموت، وهذا هو الجهل الحقيقي، فعلمهم لا يتجاوز هذه الدنيا التي يعيشون فيها فترة وجيزة، ويتغافلون عن الحياة الأبدية في الآخرة، فالجاهل حقيقة هو الذي ترك أخراه وطلب دنياه، وضيع العلم الحقيقي، وأخذ ظاهراً من الحياة الدنيا. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الزمر [65 - 67]

تفسير سورة الزمر [65 - 67] يحذر الله سبحانه وتعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم من الشرك، مبيناً له أن الشرك يحبط العمل، وحضه على عبادته وحده لا شريك له مع شكره سبحانه على نعمه العظيمة، واليهود والنصارى والمشركون ما قدروا الله حق قدره حين عبدوا معه غيره وهو المستحق للعبادة وحده.

تفسير قوله تعالى: (ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك)

تفسير قوله تعالى: (ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الزمر: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65]. يخبرنا سبحانه وتعالى في هذه الآية عن أمر الشرك بالله سبحانه، وأنه أكبر الكبائر، وأن أفظع ما يرتكب الإنسان أو المخلوق أن يشرك بالله سبحانه وتعالى، والتحذير من الشرك ليس في ملة النبي صلى الله عليه وسلم فقط، ولكنه في كل الملل قبله صلوات الله وسلامه عليه، فكل نبي من الأنبياء وكل رسول من الرسل عليهم الصلاة والسلام أوحى الله عز وجل إليه وحذره أن يشرك بالله، وأمره أن يعلم الخلق في زمانه ألا يشركوا بالله سبحانه وتعالى، ولذلك دعوة الأنبياء كلهم الدعوة إلى الإسلام، إلى أن يسلم قومهم أنفسهم لله سبحانه وتعالى، إلى أن يعبدوا الله ما لهم من إله غيره، فهذا هو معنى لا إله إلا الله. قال تعالى عن نوح: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، فقوله: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} هذه الكلمة تساوي كلمة لا إله إلا الله أي: قولوا: لا إله إلا الله، واعملوا بمقتضى ذلك، لا إله إلا الله فيها النفي والإثبات، تنفي صفة الألوهية عن أي أحد إلا الإله الواحد سبحانه وتعالى، فلا يستحق العبادة أحد إلا إله واحد وهو الله سبحانه وتعالى، ولا إله إلا الله هي نفس المعنى الذي في قوله: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} إلا أنه في هذه الآية قدم الإثبات قبل النفي، وفي كلمة (لا إله إلا الله) قدم النفي قبل الإثبات، فقوله: (لا إله) أي: لا معبود إلا واحد فقط وهو الله سبحانه وتعالى. ومعنى قوله: ((اعبدوا الله)) أي: اعبدوا إلهاً واحداً، ومعنى قوله: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}، أي: لا إله غيره سبحانه وتعالى. فأخبر هنا أن كل الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام أوحي إليهم بذلك، قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ} [الزمر:65] أي: كما أوحى إليك وحذرك من الشرك أوحى بذلك أيضاً إلى من قبلك من الأنبياء والرسل، {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}، لماذا؟ قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}، قيل هذا للرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه وقد عصمه الله من الذنوب فكيف يقع في الشرك؟! ومع ذلك يقول له: احذر من الشرك، إن أشركت بالله أو عبدت غير الله أو توجهت إلى غيره سبحانه حبط كل عملك، وهذا الإحباط للعمل يدل على عظيم أمر التوحيد وعلى شنيع أمر الشرك بالله سبحانه. فالتوحيد عظيم جداً، فإذا ضيع الإنسان التوحيد استحق أن يحبط الله عز وجل جميع أعماله. قوله: {لَيَحْبَطَنَّ} هذا فعل مضارع وأوله اللام المؤكدة وآخره النون المثقلة للتوكيد، ومعناه القسم، يعني: والله ليحدثن ذلك، والله ليحبطن عملك، والله لتكونن من الخاسرين، إن فعلت ذلك. إذاً: الجملة هذه جواب لقسم محذوف دل عليه اللام المؤكدة أول الفعل المضارع والنون المثقلة المؤكدة آخر الفعل المضارع {لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65].

حقيقة الشرك بالله وعاقبته

حقيقة الشرك بالله وعاقبته إن الشرك بالله سبحانه وتعالى أن تجعل لله نداً وهو خلقك، وأن تزعم أنه يجوز للعبد أن يعبد الله وغير الله، أو أن تجعل شريكاً لله في العبادة وأنه يستحق أن يعبد مع الله، حاشا لله سبحانه وتعالى. إذاً: الشرك بالله أعظم الذنوب، وقد نبه الله عز وجل على ذلك في آيات من كتابه سبحانه، قال في وصية لقمان: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] أي: أعظم ما يظلم الإنسان به نفسه أن يقع في الشرك بالله سبحانه، وأخبر سبحانه عنه فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء:48]، {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:116]. فالإنسان الذي يشرك بالله قد تاه وضيع نفسه، وخرج عن الطريق السوي إلى طريق المتاهة الذي يؤديه إلى النار والعياذ بالله في النهاية. إذاً: لا يغفر الله عز وجل أن يشرك به إذا مات الإنسان على ذلك، وإلا وهو في الحياة إذا تاب ورجع إلى التوحيد فالله يغفر له جميع الذنوب بما فيها الكفر، فالإسلام يجب ما قبله، والتوبة تجب ما قبلها، فإذا تاب العبد تاب الله سبحانه وتعالى عليه، لكن إذا أشرك بالله ومات على ذلك فهذا الذي لا يغفره الله سبحانه، والدليل على ذلك قول الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [البقرة:217] أي: هؤلاء الذين ارتدوا وماتوا على الردة ماتوا على الكفر حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة. والمفهوم المخالف: أن من وقع في الشرك ثم راجع نفسه وتاب إلى الله سبحانه فالله يغفر له؛ لأنه قيد الذي لا يغفر له والذي يستحق أن يكون من الخاسرين بالذي يشرك بالله ويرتد عن دين الله ويموت على ذلك.

تفسير قوله تعالى: (بل الله فاعبد وكن من الشاكرين)

تفسير قوله تعالى: (بل الله فاعبد وكن من الشاكرين) قال الله تعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:66]، قوله: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ}، قدم المفعول على الفعل للاختصاص، والأصل اعبد الله، قال تعالى: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، فقدم هنا الفاعل على المفعول، وهذا نوع من التفنن في سياق الألفاظ والكلمات، والأمر الثاني: اختصاص المفعول حين يقدم مثل أن تقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5]، يعني: ليس غيرك ولا أحد معك أعبده، وإنما أنت وحدك لا شريك لك أعبدك وأستعين بك، وهنا قال: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ} يعني: اعبد ربك وحده لا شريك له سبحانه. قوله: {وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ}، يعني: كن ممن يشكرون الله سبحانه وتعالى، اشكر ربك أن هداك إلى هذا الدين، واشكر ربك أن ثبتك على التوحيد، واشكر ربك أن هداك إلى الشريعة العظيمة ووفقك للعمل بها، واشكر ربك على أن استجاب إليك من الخلق من شاء الله سبحانه وتعالى، فيكون لك أجور من اتبعك يوم القيامة على هذا الدين العظيم، فاشكر ربك. فإذاً: أخبرنا سبحانه أنه من يشرك به يحبط عمله، ومن يعبده ويشكره يزيده الله سبحانه من نعمه، والشكر يستحق عليه العبد الزيادة من الله سبحانه، قال سبحانه: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7]، والعكس {وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]. والشكر شكر النعمة، والكفر جحود هذه النعمة، وكأن الكفر منه كفر بالله سبحانه ومنه كفر جحود لنعمة الله سبحانه وتعالى؛ لأن العبد قد يشكر نعمة من نعم الله ويتناسى نعماً كثيرة منه سبحانه وتعالى لم يشكرها، فكأنه جحدها وكأنه كفرها وسترها فلم يشكر ربه سبحانه وتعالى عليها. فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم وللناس بالتبع: {وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ}.

تفسير قوله تعالى: (وما قدروا الله حق قدره)

تفسير قوله تعالى: (وما قدروا الله حق قدره) قال الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]، قوله: (وما قدروا الله حق قدره) أي: ما عظموا الله سبحانه بما يستحق من تعظيم، لو أن العبد عظم ربه حق التعظيم فإنه يستحي منه سبحانه وتعالى، فيحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، ويخشى ويحذر من الموت والبلى، فهو يعلم أنه راجع إلى الله سبحانه وتعالى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا، فالإنسان الذي يستحيي من الله حق الحياء عرف ربه سبحانه فعبده أفضل العبادة، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ولم يقدروا الله حق قدره ولم يعظموا الله بما يستحق من تعظيم سبحانه وتعالى. ثم قال: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي: يرينا الله سبحانه وتعالى قوته وقدرته في الدنيا وفي الآخرة، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:41] أي: هذه السماوات التي فوقنا وما فيها من أجرام وما فيها من أفلاك وما فيها من شموس ونجوم وكواكب ومجرات وما فيها من خلق لا يعلمه إلا الله؛ الذي يمسك هذا كله والذي يدبر أمره والذي يحفظه من أن يزول هو الله سبحانه وتعالى! والله الذي قدر مقادير هذه الأشياء كلها، قال عز وجل: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس:38]، {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} [يس:39]، والأرض جعلها راسية؛ لئلا تميد بكم، وهذه الأفلاك كل يجري إلى أجل مسمى، فالله سبحانه وتعالى يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا، وكل يجري بمقدار، وكل يجري بحساب قدره الله العزيز الجبار سبحانه وتعالى. فهنا الإنسان الذي يتأمل الشمس حين تشرق من مشرقها وتغرب من مغربها ولا يتخلف هذا الأمر، واليوم يطول في الصيف، ويقصر في الشتاء، وهكذا في كل عام لا يتخلف شيء من ذلك، حتى يأتي أمر الله ووعد الله؛ من الذي يمسك هذه الشمس فتجري في مجرتها وفي فلكها ومدارها من غير تخلف في يوم من الأيام؟ إنه الله سبحانه تبارك وتعالى، لو تحركت في غير مسارها واقتربت من الأرض شيئاً لأحرقت ما على الأرض وأتلفت ما عليها، ولأغرقت الأرض جميعها بالفيضانات التي تكون عالية، ولو اقتربت شيئاً لارتفعت درجة حرارة الأرض، عند ذلك تسيح الجبال التي من برد والتي من ثلج فتغرق ما على الأرض ثم تحرق الأرض كلها. إذاً: الله هو الذي يمسك هذه الشمس فيجعلها تجري في مدارها ومسارها، وقس على ذلك كل شيء خلقه الله سبحانه وتعالى، فهو القيوم سبحانه الذي قام به كل شيء، ثبت هذه في مجراها، وهذه في مسارها، وهذه في مدارها، فكل شيء قام بأمره سبحانه؛ فهو القيوم القائم بكل شيء سبحانه وتعالى، لا شيء يقوم بنفسه، الأرض ليست وحدها هكذا تتحرك بنفسها وتدور كما تريد، لا، ولكن الله ينظمها بمقدار سبحانه وتعالى، فيأتي الليل ويأتي النهار يتعاقبان بسبب دوران الأرض وجريان الشمس ودوران القمر مع الأرض، فكل هذه الأشياء يحركها الله سبحانه وتعالى، فتعرفون الأيام والسنين والشهور والحساب بواسطتها. فإذا جاءت القيامة أمسك بالسماوات وأمسك بالأرضين فكانتا في قبضته سبحانه وتعالى، وهنا يخبرنا: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي: يقبض عليها ويمسك بها، فهذا دليل على قدرة الله سبحانه وتعالى وقوة الله سبحانه، فهو يعجز خلقه ويريهم هذه الأرض بما عليها من جبال وبحار وأشجار يمسكها سبحانه وتعالى ويقبضها كما يشاء يوم القيامة. والسماوات يطويها ويمسكها بيمينه سبحانه وتعالى، فهو سبحانه يطوي السماوات بعضها على بعض كما تطوي السجل على الكتاب بما فيه.

عدم تعظيم اليهود والنصارى لله مع معرفتهم به

عدم تعظيم اليهود والنصارى لله مع معرفتهم به جاءت الأحاديث التي تبين أن الأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه، ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع فيقول: أنا الملك سبحانه وتعالى، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر). فالنبي صلى الله عليه وسلم أقر اليهودي على ذلك، وهذا يدل على أن هذا صحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقر على باطل أبداً، ليس من الممكن أن يقال أمامه كلام كذب على الله وافتراء ويضحك صلوات الله وسلامه عليه، ولكنه ضحك على أن هذا صدق وصحيح، وهو مع ذلك يتعجب لأمرهم، وكأنه يقول: كيف عرفتم ذلك وعرفتم قدرة الله وقوة الله ومع ذلك لم تعبدوا الله، ومع ذلك عصيتم الله سبحانه، وعرفتم أني نبي ومع ذلك لم تدخلوا في ديني؟ قال عبد الله بن مسعود (فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر:67]) أي: ما عظموا الله حق تعظيمه سبحانه وتعالى، {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67] سبحانه وتعالى. إذاً: هؤلاء الذين عرفوا قدرة الله وقوة الله ذكروا العجائب عن أمر الله سبحانه وتعالى، وافتروا على الله الكذب، هؤلاء اليهود الذين شبهوا الله سبحانه بالمخلوق سبحانه وتعالى، وهؤلاء النصارى الذين شبهوا الله سبحانه وأشركوا به، وقالوا عن المسيح ابن مريم: إنه ابن الله، وقالوا: إن الله نزل من السماء ودخل في بطن مريم ونزل منها كما يولد الصبي الصغير سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً! {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}، وهؤلاء اليهود الذين عرفوا قدرة الله وقوة الله وقالوا: إن الله نزل فصارع داود، فغلبه داود! انظر كيف يقولون ويفترون على الله الكذب سبحانه وتعالى!! ولذلك تعجب النبي صلى الله عليه وسلم كيف تعرفون ذلك ومع ذلك تهرفون وتكذبون على الله سبحانه؟!

عظمة الله تعالى وقوته وقدرته وسعة ملكه

عظمة الله تعالى وقوته وقدرته وسعة ملكه روى البخاري من حديث أبي سلمة أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يقبض الله الأرض ويطوي السماوات بيمينه، ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض؟)، هذا يكون يوم القيامة، يعني: يطوي الله عز وجل السماوات العظيمة بيمينه بما فيها من أفلاك وأجرام، كما يطوى الكتاب بداخل السجل، والأرض كذلك يقبضها الله سبحانه وتعالى ويقول: (أنا الملك أين ملوك الأرض). والسماوات ملك لله سبحانه وخلق من خلقه، وكذلك الأرض. وروى الترمذي حديث مجاهد قال: قال ابن عباس: (أتدري ما سعة جهنم؟ قال: قلت: لا، قال: أجل والله ما تدري، حدثتني عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67] قالت: قلت: فأين الناس يومئذ إذا كان ربنا سبحانه طوى السماوات وأمسكها بيمينه وأمسك بالأرض وقبضها؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: على جسر جهنم). الحديث رواه الترمذي وقال الشيخ الألباني: صحيح الإسناد. أي: ليس الناس أصحاب زمن واحد، وليس الصحابة وليس مجموعة من الناس، بل كل الناس على جسر فوق جهنم، فإذا كان هذا الجسر الذي على متن جهنم استوعب كل هؤلاء الناس فكيف تكون جهنم التي تحته؟! كم تكون سعتها؟! قد عرفنا بعد قعرها فيما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن حجراً ألقي فيها فما وصل إلى قعر جهنم إلا بعد سبعين عاماً)، هذه جهنم التي يحذر الله عز وجل عباده أن يدخلوها. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الزمر [67 - 68]

تفسير سورة الزمر [67 - 68] أخبر الله في كتابه بالنفختين اللتين تكونان يوم القيامة، فيصعق في الأولى من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ويقوم الخلق في الثانية، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن بين النفختين أربعين، واختلف العلماء في بيان من استثناهم الله من الصعق.

تفسير قوله تعالى: (وما قدروا الله حق قدره)

تفسير قوله تعالى: (وما قدروا الله حق قدره) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الزمر: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} [الزمر:67 - 70]. هذه الآيات من آخر سورة الزمر يذكر الله عز وجل فيها ما يكون من أحداث يوم القيامة، النفخ في الصور، والجزاء والبعث من القبور، فريق في الجنة وفريق في السعير. قال سبحانه: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر:67] أي: ما عبدوه حق عبادته، وما عظموه حق تعظيمه، وما أعطوا لله سبحانه ما يجب عليهم وما ينبغي له سبحانه تبارك وتعالى. {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67] فهذا الإنسان الذي يتطاول على الخلق، ويستكبر على الخالق سبحانه وتعالى، ويسير في الأرض يظن نفسه عالياً مرتفعاً قوياً عظيماً شاباً غنياً له مال وله عيال وعنده رجال يظن في نفسه ذلك، من يكون؟ حتى ولو حاز ما في الأرض جميعها. فالأرض جميعاً في قبضة الله سبحانه وتعالى يوم القيامة، يقبضها بيمينه سبحانه، ويطوي السماوات أيضاً بيمينه سبحانه وتعالى، ويقول: (أنا الجبار، أين ملوك الأرض؟) وحين يقبض الله عز وجل الخلق، ينفخ في الصور نفخة الموت فيموت كل من شاء الله سبحانه وتعالى ويقضي الله عز وجل بالفناء على جميع خلقه. قال الله سبحانه: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27] الذي يبقى هو الله سبحانه وتعالى، وكل من سواه يفنى، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]. فهؤلاء الذين يستكبرون في هذه الدنيا لم يعرفوا الله سبحانه، ولو عرفوا الله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، ولو عرفوه بقدرته وكماله وعظمته سبحانه؛ لقدروه حق قدره، ولعبدوه حق عبادته، لكنهم وإن عرفوا في الظاهر لم تدخل المعرفة إلى القلوب ليكون فيها الإيمان واليقين والخوف من الله سبحانه، فالمؤمنون يخافون من الله سبحانه، ويعرفون قدر الله سبحانه وتعالى، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:2 - 4] أي: المؤمنون حق الإيمان الذين استحقوا هذا الاسم هم المصدقون المستيقنون الذين يخافون من الله، وإنما من أدوات القصر، أي: الموصوفون بهذه الصفات هم المؤمنون، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) [الأنفال:2] أي: دخل الخوف والرهبة من الله عز وجل في قلوبهم، ((وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا) [الأنفال:2] أي: إذا سمع أحدهم القرآن العظيم ازداد إيماناً فوق إيمانه، ويقيناً فوق يقينه، وخوفاً من الله، وطمعاً فيما عند الله فوق ما كان موجوداً فيه، فهؤلاء هم المؤمنون الذين يعرفون قدر الله وقدرة الله سبحانه وتعالى فيعظمونه ويعبدونه العبادة التي تنبغي له سبحانه. قال سبحانه: ((وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:67] أي: في قبضته سبحانه وتعالى يقبض الأرض جميعها، والسماوات يقبضها ويطويها كطي السجل للكتب، قال سبحانه: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء:104] يوجد في الكتاب صفحات مفتوحة كذلك السماوات بعضها فوق بعض فيطويها الله سبحانه كما يطوى الكتاب بجلدته، {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:104] بدأ الخلق الأول من لا شيء، وسيعيده الله سبحانه بعدما فني، وليست الإعادة بالصعبة على الله سبحانه، وهو الذي بدأ الخلق أول مرة فالإعادة أهون عليه سبحانه وتعالى. قال: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67] يذكر عن نفسه أنه المستحق للتنزيه والتقديس والتسبيح سبحانه ما أعظمه! ومعنى سبحان الله أي أنزه الله سبحانه عن أي نقص، أو أي عيب، أو أي شيء، فالله سبحانه منزه ومقدس عن أن يشابهه شيء أو يماثله شيء سبحانه وتعالى. {وَتَعَالَى} [الزمر:67] أي: تمجد سبحانه وتعالى {عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67].

تفسير قوله تعالى: (ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض)

تفسير قوله تعالى: (ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض) قال الله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} [الزمر:68] أي: يوم القيامة، فتحدث الصعقة، وقد ذكر لنا نفختين في كتابه سبحانه وتعالى، النفخة الأولى يموت منها جميع الخلائق، والنفخة الثانية يقومون مفزوعين من قبورهم، قال سبحانه: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [الزمر:68] فصعق أي مات. {مَنْ فِي السَّمَوَاتِ} [الزمر:68] أي: سكان السماوات {وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [الزمر:68] أي: سكان الأرض، ويبقى من استثنى الله سبحانه وتعالى، قال سبحانه: {إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر:68] ومن هؤلاء الذين استثناهم الله سبحانه وتعالى؟ الله أعلم بهم. ولذلك يقول النبي صلوات الله وسلامه عليه حين وقعت خصومه بين صحابي وبين رجل من اليهود وسنذكرها: (ينفخ في الصور فأكون أول من يفيق، فإذا بموسى باطش بالعرش -أي: ممسك بالعرش- فلا أدري أفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله سبحانه وتعالى). فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يدري هل موسى ممن استثناهم الله سبحانه من هذا الصعق لكونه صعق قبل ذلك لما أراد أن يرى الله سبحانه وتعالى وقال: {قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] وفي آخر الآية: {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف:143] هل جوزي بهذه فلم يصعق يوم القيامة أو أنه أفاق قبل النبي صلى الله عليه وسلم؟ فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدري فكيف بنا نحن؟ فنحن لا ندري بهؤلاء الذين استثناهم الله سبحانه بقوله: (إلا من شاء الله).

اختلاف العلماء في الذين استثناهم الله من الصعق

اختلاف العلماء في الذين استثناهم الله من الصعق اختلف العلماء في الذين استثناهم الله سبحانه استناداً إلى أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بعضها صحيح لكنه لا يدل على المطلوب، وبعضها ضعيف وفيه نص على المطلوب. وقد ذكر الحافظ ابن حجر في هذه المسألة عشرة أقوال: الأول: أنهم الموتى، فيكون تقدير الآية صعق من في السماوات ومن في الأرض من الأحياء (إلا من شاء الله) وهم الموتى فلا ينالهم شيء من هذا لأنهم ميتون أصلاً، وهذا استثناء صحيح بهذا المعنى. وقد ذكر هذا الاستثناء بعض أهل العلم منهم القرطبي صاحب المفهم شرح صحيح مسلم وهو غير القرطبي أبي عبد الله صاحب التفسير. الثاني: أن المستثنى: هم الشهداء؛ لأنه حكم بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون فلا يموتون، وفي الحديث الذي رواه الحاكم ورجاله ثقات عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه سأل جبريل عن هذه الآية من الذين لم يشأ الله أن يصعقوا؟ قال: هم شهداء الله). فهذا الحديث يبين أن الذين لا يصعقون هم الشهداء، مع النظر إلى أنهم في حكم الدنيا أموات، لكنهم عند الله أحياء ليس كحياة الدنيا، فإن الله يجعل أرواحهم في أجساد طير خضر يسرحون من الجنة كما يشاءون، فهي حياة ليست كهذه الحياة التي على الأرض. الثالث: أن المستثنى هم أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام؛ لأنهم في هذا الحين يكونون قد ماتوا جميعاً بما فيهم المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام الذي رفع إلى السماء ولم يمت ثم ينزل ليحكم بالقرآن، ويقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويضع الجزية، ويحكم بشرع الله سبحانه، ثم يموت ويدفن في الأرض، فيكون الأنبياء كلهم ممن استثناهم الله عز وجل، وجنح إلى هذا القول الإمام البيهقي. الرابع: أن الذين استثناهم الله من هذه النفخة هم ملائكة الله سبحانه، جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، ثم يأمر الله عز وجل ملك الموت فيقبض هؤلاء، ثم يأمر ملك الموت فيموت ملك الموت بعد ذلك، فلا يبقى شيء على هذا الكون حي غير الله سبحانه وتعالى فيقبض السماوات ويقبض الأرضين ويقول: (أنا الملك، أين ملوك الأرض؟) إذاً: يستثنى من الصعق ملائكة الله عز وجل ثم يقبضهم الله عز وجل بعد ذلك. الخامس: أن المستثنى هم حملة العرش، وجاء في ذلك حديث بإسناد ضعيف. السادس: أنه موسى وحده على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ساقه الإمام الطبري بإسناد ضعيف. السابع: أن الذين استثناهم الله من الموت هم أهل الجنة، أي: الذين خلقهم الله عز وجل في الجنة وهم الحور العين، والولدان المخلدون. الثامن: أنهم خزان الجنة وخزان النار. التاسع: أنهم الملائكة جميعهم، أي: أن النفخة في الصور تكون لكل الأحياء إلا الملائكة فيقبض الله عز وجل الملائكة بعد ذلك كيف يشاء سبحانه وتعالى. وجاء عند الطبري بسند صحيح عن الحسن قال: يستثني الله وما يدع أحداً إلا أذاقه الموت. بمعنى: استثنى الله من شاء ولكن مع ذلك كل من خلقه الله لا بد وأن يذيقه الله عز وجل الموت سواء كان بهذه النفخة التي ينفخها إسرافيل، أو يقبضه الله سبحانه بما يشاء.

التحذير من انتقاص الأنبياء

التحذير من انتقاص الأنبياء روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رجل من اليهود في المدينة -يعني بسوق المدينة- والذي اصطفى موسى على البشر! -كأنه يعرض بالنبي صلى الله عليه وسلم- فغضب الصحابي ولطم اليهودي وقال: تقول هذا وفينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد اصطفاه الله وفضله على جميع الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام؟! فذهب اليهودي يشكو للنبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم وذكر هذه الآية: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68] قال: (فأكون أول من رفع رأسه، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أرفع رأسه قبلي أو كان ممن استثنى الله عز وجل). قال صلى الله عليه وسلم: (ومن قال: أنا خير من يونس بن متى فقد كذب). يعني: أنه لا ينبغي أن تفضلني على الأنبياء تفضيلاً تنتقص به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ويونس ذكر الله عز وجل في القرآن أنه ممن عاتبه بقوله: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] فقد عاتبه الله وعاقبه بسبب أنه خرج من قريته لما غضب من قومه ولم يستأذن ربه سبحانه، فتوجه إلى قرية أخرى يدعوهم إلى الله بغير أن يأذن الله عز وجل له، فلما فعل ذلك عاقبه الله بأن التقمه الحوت في القصة المعروفة، قال الله: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:143 - 144]. فقد عاقبه الله سبحانه لأنه خرج ولم يستأذن ربه سبحانه، وهذا لو فعله أحد من الدعاة كأن كان في مكان والناس أساءوا إليه ولم يستجيبوا له ثم ذهب إلى مكان آخر يدعو إلى الله فإننا سنقول: أحسن حين ترك هؤلاء وذهب لآخرين فقد يستجيبون له، لكن النبي ليس له أن يخرج من مكان إلى مكان إلا بعد أن يستأذن ربه سبحانه وتعالى. فعذر يونس عليه الصلاة والسلام كما ذكر الله هو: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء:87] أي: ظن أن لن نضيق عليه، وأن الأمر واسع، يدعو هنا أو يدعو هنا المهم أن يدعو إلى الله، لكن الله عز وجل كان يبعث كل نبي إلى قومه خاصة، والذي بعث للناس عامة هو نبينا صلوات الله وسلامه عليه، فلذلك لم يكن ليونس أن يخرج من بلده إلى بلد آخر حتى يستأذن الله. فلعل الذي يسمع قصة يونس عليه السلام يقول: إن الله عاقب يونس على هذا الشيء، وينتقص يونس عليه الصلاة والسلام بسبب ذلك؛ لذلك حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن تنتقص من قدره، فلا ينبغي لأحد أن يقول: محمد أحسن من يونس، لأن يونس فعل كذا والنبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل كذا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تخيروني على يونس بن متى) على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وقال: (من قال: أنا خير من يونس بن متى فقد كذب). لا شك أن النبي خير من يونس وخير من جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لكن الأمر الذي يقصده النبي صلى الله عليه وسلم هو أن يفضل النبي صلى الله عليه وسلم على يونس لأجل أن ينتقص من قدر يونس عليه الصلاة والسلام، فهذا لا يكون. كذلك في قصة الصحابي مع اليهودي الذي قال: لا والذي اصطفى موسى على البشر، فالصحابي غضب ولطمه وقال: تقول هذا وفينا النبي صلى الله عليه وسلم، لا بل إن نبينا أحسن من موسى عليه الصلاة والسلام، ولعله يقول في وقت الغضب ما ينتقص به النبي الكريم موسى عليه الصلاة والسلام. إذاً الذي يقول: محمد خير من موسى أو غيره على وجه الانتقاص فهذا كذاب؛ لأن كل الأنبياء قد فضلهم الله سبحانه وتعالى، وجعل لهم مرتبة عالية عظيمة، ولكن الله يرفع بعضهم على بعض سبحانه وتعالى، فجعل نبينا صلى الله عليه وسلم أفضل من غيره، فإن الله يفعل ما يشاء، {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة:253]، فالله هو الذي فضل بعضهم على بعض، وليس أنت الذي فضلت بعضهم على بعض، فالله فضلهم وكرمهم جميعهم عليهم الصلاة والسلام، فليس لنا أن ننتقص أحداً منهم، فنفضل من فضله الله سبحانه ولا ننتقص الآخرين، بل نقول: كلهم على خير، وكلهم أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام، ونصلي عليهم جميعاً، ونقول: خيرهم وأفضلهم بتفضيل الله عز وجل هو نبينا صلوات الله وسلامه عليه ولا ننتقص أحداً منهم.

الزمن الذي بين النفختين

الزمن الذي بين النفختين روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما بين النفختين أربعون). وإسرافيل هو الملك الموكل بذلك، ينفخ نفخة فيصعق جميع الخلق، ثم ينفخ النفخة الآخرة فيفيق جميع الخلق، يقول أبو هريرة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما بين النفختين أربعون). أي: بين النفخة الأولى والنفخة الثانية أربعون. قالوا: أربعون يوماً؟ قال: أبيت. يعني: ما قالها النبي صلى الله عليه وسلم فلا أدري، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: أربعون لعله قصد يوماً، لعله قصد شهراً، لعله قصد سنة، أنا لا أدري. قالوا: (أربعون شهراً؟ قال: أبيت. قال السائل: أربعون سنة؟ قال: أبيت. قال: ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظماً واحداً وهو عجب الذنب). عجب الذنب هو آخر فقرة من العمود الفقري للإنسان، وهو آخر ما يبقى من الإنسان، فيبلى جميع الإنسان وتبقى هذه العظمة الصغيرة ينبت منها الإنسان مثل الحبة التي تضعها في الأرض فتنبت. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ومنه يركب الخلق يوم القيامة). إذاً بين النفختين أربعون لا ندري أربعون يوماً أو شهراً أو سنة. وجاء في حديث آخر عند أبي داود والترمذي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصور قرن ينفخ فيه). إذاً إسرافيل ينفخ في الصور، وما هو الصور الذي ينفخ فيه؟ قال: قرن. يعني: بوق يضعه على فمه وينفخ فيه فيسمع الناس صوته فيصعقون على ما سيأتي في حديثنا عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الإمام مسلم من حديث عبد الله بن عمرو وفيه كيفية ذلك. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الزمر [67 - 70]

تفسير سورة الزمر [67 - 70] إن الأرض بعظمتها والسماوات بسعتها كلها في قبضة الله تعالى، يدبر أمرها ويسيرها كما يشاء، وإذا كان ذلك في الأرض والسماوات فكيف بالإنسان الضعيف الصغير أمام عظمة الكون، ولذلك فإن ما نراه من عظمة الكون سيأتي يوم يكون الكون كله هباءً منثوراً، وذلك حين ينفخ في الصور نفختين، نفخة الموت ونفخة البعث، وحينها تتبدل السماوات والأرض، ويقف الناس للفصل والحساب، عليهم شهود من الملائكة والأنبياء وصالحي هذه الأمة، فما أعظم فزع ذلك اليوم!

علامات الساعة

علامات الساعة الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الزمر: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:67 - 68]. في هذه الآيات من آخر سورة الزمر يخبرنا الله سبحانه تبارك وتعالى عن أحداث يوم القيامة، من النفخ في الصور والبعث من القبور، ومن سوق الناس إما إلى الجنة وإما إلى النار، ويقول تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67]، ففيها بيان لقوة الله وقدرة الله سبحانه تبارك وتعالى، وضعف الإنسان بل وضعف جميع المخلوقات التي خلقها الله عز وجل. قال تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} [النازعات:27 - 28] أي: فهذه السماوات السبع التي أخبر الله أنها أشد خلقاً منكم، ومع ذلك فهي مطويات بيمينه سبحانه تبارك وتعالى، وهذه الأرض التي يسير عليها الإنسان، ويظن أنه كبير على خلق الله، وأنه قوي، فإن الله سبحانه تبارك وتعالى يقول: {إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء:37]. أي: فالأرض أعظم منك وأقوى منك، فلو ضربت الأرض بقدمك ما استطعت أن تخرقها، ولو تساميت في نفسك ما بلغت الجبال طولاً، فاعرف قدرك، واقدر ربك حق قدره، فالأرض هذه التي هي أقوى منك هي في قبضة الله عز وجل يوم القيامة، فكيف بك؟ والسماوات التي هي أشد منك يطويها الله سبحانه تبارك وتعالى يوم القيامة، فلا تتكبر على خالقك وارجع إليه، وتب إلى الله سبحانه، واذكر يوم القيامة وما يكون فيه من نفخ في الصور، إذ ينفخ إسرافيل، وهو الملك الذي وكله الله سبحانه بذلك، فيصبح الأمر كما قال تعالى: {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68]. وتكون في ذلك اليوم نفختان نفخة يصعق الله عز وجل فيه خلقه إلا من استثناهم الله سبحانه وتعالى على ما قدمنا في الحديث السابق، ونفخة أخرى ينشرون ويقومون من قبورهم، ويعادون كما كانوا عليه ويرجعون مرة ثانية، أما في النفخة الأولى فصعق من في السماوات ومن في الأرض، فإذا بكل مخلوق مات.

من علامات الساعة هدم الكعبة

من علامات الساعة هدم الكعبة جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث طويل رواه الإمام مسلم ورواه الإمام أحمد من حديث يعقوب بن عاصم بن عروة بن مسعود الثقفي قال: سمعت عبد الله بن عمرو وقد جاءه رجل فقال: ما هذا الحديث الذي تحدثه؟ تقول: إن الساعة تقوم إلى كذا وكذا، أحياناً قد يذكر الإنسان حديثاً، والذي يسمعه يروي هذا الحديث ولا يتقن ما سمعه، فيزيد في الحديث شيئاً لم يقله راوي الحديث، فـ عبد الله بن عمرو روى حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، فسمعه بعض الناس، فزادوا فيه وقالوا: إنه يخبر أن الساعة تقوم بعد كذا وكذا من السنين! وكذبوا فيما قالوه، فذهب رجل إلى عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، وقال له: ما هذا الذي تقوله؟ فقال: سبحان الله أو قال: لا إله إلا الله! لقد هممت أن لا أحدث أحداً شيئاً أبداً. يعني: قد وصل الأمر بكم إلى أن تفتروا علي بالكذب في الحديث على النبي صلى الله عليه وسلم، إني قد هممت أن لا أحدث أحداً شيئاً أبداً، إنما قلت: إنكم سترون بعد قليل أمراً عظيماً، يعني: سيكون من أمر الله عز وجل أشياء عظيمة من علامات الساعة، وإنكم بعد قليل سترون أمراً عظيماً يحرق البيت، ويكون، ويكون، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر هذا الحديث. ومن علامات الساعة أن ذا السويقتين يهدم الكعبة التي نطوف حولها، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (دعوا الحبشة ما ودعوكم، فإنما يهدم الكعبة ذو السويقتين من الحبشة وكأني أراه أصيلع أفيدع). يذكر النبي صلى الله عليه وسلم من حاله أنه إنسان من الحبشة، وأن رجليه معوجتان وكأنه يراه يهدمها حجراً حجراً، فيخبر أنها إذا هدمت لم تبن مرة ثانية، وهذه من علامات الساعة التي تكون في آخر الزمان، فحدث عبد الله بن عمرو بذلك، ولم يقل: إن الساعة ستقوم غداً أو بعده، ولكنه قال: إن الساعة من علاماتها أن يحدث كذا وكذا.

فتنة المسيح الدجال وما يحصل فيها

فتنة المسيح الدجال وما يحصل فيها ومن علامات الساعة خروج الدجال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يخرج الدجال فيمكث أربعين قال الراوي: لا أدري أربعين يوماً، أو أربعين شهراً، أو أربعين عاماً)، وهذه من العلامات الكبرى للساعة وسمي مسيحاً؛ لكون عينه ممسوحة لا يبصر بها، وعينه الأخرى ناتئة كأنها عنبة، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن هذا اسمه: (المسيح الدجال). وأما المسيح عيسى بن مريم على نبينا وعليه الصلاة والسلام فهو نبي من أولي العزم من الرسل، وقد جعل الله عز وجل له معجزة من المعجزات وهي أنه يحيي الموتى ويبرئ الأكمه، فـ المسيح الدجال يريد أن يتشبه به فيقول: أنا أحيي الموتى ويقتل إنساناً ثم يحييه ولا يسلط على غيره، بل شخص واحد فقط هو الذي يقدر أن يفعل معه ذلك. فكأنه يشبه نفسه بالمسيح عيسى بن مريم على نبينا وعليه الصلاة والسلام عندما أحيا الله عز وجل له الموتى، ولكن المسيح قال: {وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران:49]، وأما الدجال فيقول: أنا الذي أحييه، ويقول: أنا ربكم، ويطلب منهم أن يعبدوه من دون الله سبحانه تبارك وتعالى! يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المسيح الدجال يمكث في الأرض أربعين)، وراوي الحديث يقول: لا أدري يوماً أو شهراً أو عاماً (فيبعث الله عيسى بن مريم على نبينا وعليه الصلاة والسلام كأنه عروة بن مسعود فيطلبه فيهلكه) يعني: يأتي المسيح عيسى بن مريم عندما ينزل من السماء، فيطلب المسيح الدجال ويقتله كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم. قال: (ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة)، يعني: ينزل المسيح، فيحكم بهذا القرآن العظيم، ويمكث الناس على دين الله سبحانه تبارك وتعالى، مسلمون ليسوا نصارى ولا يهوداً ويقتل الخنزير، وتوضع الجزية؛ لأنه لا يبقى أحد يقبل منه الجزية. أي: لا يقبل منه إلا الإسلام حين ينزل المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فيخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس يمكثون سبع سنين ليس بين اثنين عداوة.

قبض أرواح المؤمنين قبل قيام الساعة

قبض أرواح المؤمنين قبل قيام الساعة قال: (ثم يرسل الله ريحاً باردة من قبل الشام، فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير إلا قبضته) أي: مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته، فبعد مجيء المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام يقبض الله عز وجل المؤمنين، ويمكث المسيح في الأرض سبع سنوات، وينشر في الأرض العدل، وبعد ذلك يقبض الله عز وجل المؤمنين، يقول: (حتى لو أن أحدكم دخل في كبد جبل لدخلت عليه حتى تقبضه) أي: تقبض هؤلاء المؤمنين.

صفات من تقوم عليهم القيامة

صفات من تقوم عليهم القيامة قال عبد الله بن عمرو: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فيبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع)، فبعد أن يقبض الله المؤمنين، فلا يبقى على وجه الأرض إلا الأشرار. وأحوالهم كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع)، والطائر مجرد أن يأتي عليه ريح إذا به يطير ويفزع ويهرب، ومجرد ما يستشعر أن مخلوقاً آت إليه يهرب ويفزع منه. وكذلك هؤلاء: إن اندفاعهم إلى الشر في غاية الخفة، وفي غاية الطيش، فهذا حالهم في خفة الطير وأحلام السباع، وأي حلم يكون عند السبع؟ بل هو أول ما يرى فريسة أمامه لا يصبر عليها، بل يثب عليها مباشرة، وهؤلاء يكونون في خفة الطير في سرعة الحركة إلى الشر، وفي طمع وشراهة السباع، فهؤلاء هم الذين تقوم عليهم الساعة. ويقول عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً)، وجاء أيضاً: (أنها لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق، لا يقال فيهم الله الله)، فهم نسوا الله سبحانه تبارك وتعالى، فلا يقولون: الله! وإنما يشركون بالله سبحانه ويعبدون ما زينه لهم الشيطان. قال: (فيتمثل لهم الشيطان فيقول: ألا تستجيبون) أي: يتمثل الشيطان لهؤلاء الأشرار الذين تقوم عليهم الساعة، فيقول: (ألا تستجيبون؟ فيقولون: فما تأمرنا؟) أي: ماذا تريد ونحن نطيعك؟! قال: (فيأمرهم بعبادة الأوثان) أي: أنهم عادوا مرة ثانية إلى عبادة الأوثان. قال: (وهم في ذلك) أي: في فتنة من الله سبحانه تبارك وتعالى قال: (دار رزقهم، وحسن عيشهم) أي: فالله يملي لهم، فيترك لهم الرزق مع كونهم يشركون به، ويعطيهم منه سبحانه، ويكونون في عيشة حسنة.

نفخة الموت والفناء

نفخة الموت والفناء قال: (ثم ينفخ في الصور)، يبقون على هذا الحال من حسن العيش، ومع الإساءة في العبادة لله سبحانه، فلا يعبدون الله، وإنما يشركون بالله سبحانه، فيأمر الله إسرافيل فينفخ في الصور، قال: (فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتاً ورفع ليتاً)، ولية الإنسان: جانب الوجه أو صفحة العنق، أي: أنه يقوم الإنسان الذي يسمع النفخ في البوق، فيتسمع كما تستمع لصوت جاء من بعيد، فتميل حتى تستمع له (يصغي ليتا) أي: يخفض جانباً من جوانب وجهه، ويرفع الجانب الآخر. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله، فيصعق ويصعق الناس) أي: أول من يسمعه رجل ذهب إلى الحوض الذي سيسقي فيه الإبل، ويلوطه يعني: يصلحه بالطين من داخله لكي يهيئه لشرب الإبل. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فيصعق) هذا الإنسان، ويصعق الناس، فهنا ذكر صورة من أحداث النفخ في الصور، وفي حديث آخر ذكر صوراً أخرى منها: أن الناس يتبايعون، ويمد البائع الثوب والمشتري يأخذه أمامه فلا ينشرانه ولا يطويانه، يقول له: خذ الثوب لكي يقيس مقداره، فلا هذا قاس، ولا هذا طوى الثوب، فإذا بالساعة قد قامت، فوقع الاثنان على هذه الحالة. وكذلك الإنسان يرفع الإناء إلى فمه ليشرب، فلا يرفع الإناء، لأنه سمع الصور فصعق. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم يرسل الله أو قال: ينزل الله مطراً كأنه الطل)، إذاً: هذه كانت النفخة الأولى صعق فيها كل من في السماوات ومن في الأرض بأمر الله، فلكي يبعث الخلق مرة أخرى: (ينزل الله سبحانه مطراً كأنه الطل، فتنبت منه أجساد الناس)، ينزل مطر ثقيل من السماء، فينبت الناس كالزرع الذي ترونه، والإنسان يبلى ولا يبقى منه إلا عجب الذنب، يعني: الفقرة الأخيرة من فقار الظهر التي يكون منها ذيل الحيوان في الإنسان، وهو العصعص الأخير الذي في ظهر الإنسان، فيركب منه الخلق مرة ثانية، وكأنه بذرة الإنسان الموجودة في الأرض، وينزل المطر من السماء كما ينزل على بذور النبات، فيحييها الله عز وجل، وكذلك هذا الإنسان ينبت من ذلك ويركب من هذه الفقرة.

نفخة البعث والنشور

نفخة البعث والنشور يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون). فرجع الإنسان بنفس الهيئة والجسد، ثم ينفخ إسرافيل بأمر الله عز وجل النفخة الثانية في الصور، فيستيقظ الناس من موتهم، فيخرجون من قبورهم على حالهم الأول. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون، ثم يقال: يا أيها الناس! هلموا إلى ربكم)، وذلك كقوله تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات:24] ومعنى هلموا: تعالوا فقد جاء الله لفصل القضاء بين العباد. ثم يقال: (أخرجوا بعث النار)، وفي الحديث الآخر: يقال لآدم: (يا آدم! أخرج بعث النار -أي: أخرج الذين كتب الله عز وجل كتابهم في سجين- فيقول: وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين!)، كل هؤلاء إلى النار والعياذ بالله، وواحد إلى الجنة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فذاك يوم يجعل الولدان شيباً) أي في هذا اليوم يشيب الولدان، وهو يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون.

تفسير قوله تعالى: (ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض)

تفسير قوله تعالى: (ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض) يقول الله سبحانه تبارك وتعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68] أي: ينظرون في الموقف، (ينظرون) من النظر بالبصر، وينظر أيضاً من النظر وهو الانتظار، فهم في الحالين ينظرون متحيرين شمالاً ويميناً ينتظرون الذي سيكون وما الذي سيحدث لهم؟ وينتظر الإنسان حينها ما الذي يحدث له، وينتظر فصل القضاء بين العباد، وينظر مندهشاً متحيراً في هذا الموقف العظيم، نسأل الله العفو والعافية.

تفسير قوله تعالى: (وأشرقت الأرض بنور ربها)

تفسير قوله تعالى: (وأشرقت الأرض بنور ربها) قال الله سبحانه: {وَأَشْرَقَتْ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الزمر:69]، وأخبر الله سبحانه تبارك وتعالى في الآية الأخرى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} [الفجر:22 - 23]، وهذا في يوم القيامة، والمعنى: جاء ربك، وجاءت ملائكة الله سبحانه، كما قال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158]. فإذا جاءت بعض آيات الله سبحانه مثل: خروج الدجال أو طلوع الشمس من مغربها، ففي هذه الحالة: {لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158]، فيبقى الإنسان منتظراً مجيء بعض آيات الله، أو ينتظر مجيء الملائكة، أو ينتظر مجيء أمر الله ومجيء الله سبحانه تبارك وتعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22]. جاء ربنا يوم القيامة كما يشاء سبحانه تبارك وتعالى يوم القيامة، فيقف الناس في هذا الموقف العظيم في عرصات القيامة ينتظرون فصل القضاء، وتنزل ملائكة كل سماء حيث يشاء الله سبحانه تبارك وتعالى، والناس في فزع وفي خوف، تحيط بهم الملائكة ويسأل الناس: أفيكم ربنا؟ فيقولون: لا، وإنه آت، وجاء ربك سبحانه تبارك وتعالى، وقام العباد لفصل القضاء فيما بينهم، قال الله سبحانه: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر:69] أي: جاء ربنا سبحانه تبارك وتعالى فأشرقت الأرض بنور ربها سبحانه تبارك وتعالى، والله هو نور السماوات والأرض، ومنور السماوات والأرض، (حجابه النور -سبحانه- لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه). ولا يحتاج الناس إلى شمس ولا إلى قمر، فقد أشرقت الأرض وأضاءت بنور الله سبحانه تبارك وتعالى. ووضعت صحف الأعمال، وإذا بها تتطاير، فمن آخذ بيمينه ومن آخذ بشماله، والكتاب أي: جنس كتب أعمال العباد، فكل إنسان يؤتى كتابه إما بيمينه وإما بشماله ومن وراء ظهره.

معنى قوله تعالى: (ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء)

معنى قوله تعالى: (ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء) قال الله تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ} [الزمر:69]، جاء الأنبياء وجاء الشهداء حتى يفصل الله عز وجل بين العباد، وجيء بالنبيين، (جيء) قراءة الجمهور هكذا، وهذه الصيغة مبنية للمجهول في أصلها والمعنى: أتي بهم، ولبيان أنها مبنية للمفعول يقرؤها هشام والكسائي ورويس بإشمام الكسرة، أي: فيها ضمة (جيء)؛ لبيان أنهم أتي بهم، وليسوا هم الذين جاءوا. وقراءة الجمهور (بالنبيين)، وقراءة نافع: (بالنبيئين) يعني النبوءة، فالنبي منبأ يعني مخبر بأشياء من الغيب، أطلعه الله عز وجل عليها من هذه الكتب التي نزلت من السماء، وأطلعه الله سبحانه على بعض ما يكون من علامات القيامة، وما يكون في يوم القيامة وغير ذلك. {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ} [الزمر:69] أي: يوم القيامة وأتي بهم. قال: {وَالشُّهَدَاءِ} [الزمر:69]، وذلك كما قال تعالى: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:21] أي: سائق يسوقها وهو الذي يكون من الخلف يدفعها أن احضري لهذا المكان. وهناك فرق بين السائق والقائد، فالقائد يكون في الأمام يمشي والمقود وراءه، وأما السائق فيكون في الخلف، وهذا موقف فظيع مفزع، فالسائق يأتي الإنسان ويقول: تحرك وامش وتقدم إلى حسابك! إذاً: أتت كل نفس ومعها سائق، ومعها أيضاً شهيد، وهو الملك الموكل بحفظ هذه النفس وبكتابة أعمالها؛ ليشهد عليها يوم القيامة. فهذا واحد من الشهداء الذين يكونون يوم القيامة. ومن ضمن الشهداء أيضاً هذه الأمة الذين كانوا عدولاً، فشهدوا للأنبياء السابقين، ففي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: أن هذه الأمة تشهد على تبليغ الرسل السابقين لقومهم، فيسأل الله عز وجل الأمم السابقة: هل أتاكم من نذير؟ يقولون: ما أتانا من نذير، فيكذبون على رسل الله عليهم الصلاة والسلام! فالله سبحانه تبارك وتعالى يسأل الرسل: هل بلغتم؟ فيقولون: نعم، فيقول: من يشهد لكم؟ ولا شك أن الله سبحانه خير حافظاً وخير من يشهد سبحانه وتعالى، ولكن ليبين فضيلة هذه الأمة، فيستشهد الرسل بهذه الأمة، فتشهد أمتنا للأنبياء السابقين. ونحن في هذه الأمة نشهد ونحن لم نر هؤلاء الأنبياء، ولكننا نشهد بتصديقنا لكتاب الله عز وجل الذي قال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} [هود:25]، فالقرآن قد أخبرنا أن الله أرسل نوحاً إلى قومه وأنه لبث فيهم يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، وأنه دعاهم ليلاً ونهاراً، وسراً وجهاراً، فلم يستجيبوا، فأهلكهم الله فتشهد أمتنا بذلك. فهذه الأمة فيها الشهداء الذين يشهدون على تبليغ الأنبياء والرسل السابقين لأقوامهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يشهد علينا عليه الصلاة والسلام، قال الله سبحانه: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41]. وصنف ثالث من الشهداء، وهم الذين يقتلون في سبيل الله سبحانه تبارك وتعالى، وهؤلاء الشهداء هم الذين جاهدوا في سبيل الله فقتلوا في سبيل الله، قال الله عنهم: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169]. وأيضاً الشهداء من هذه الأمة هم عدول هذه الأمة، وقد جاء في الحديث الذي رواه الإمام مسلم من حديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة). فحتى تكون من ضمن الشهداء يوم القيامة، الذين يشهدون وتقبل شهادتهم، فلا تعود لسانك على لعن الخلق، ولا تدعو على أحد باللعن، ولا تعود لسانك على الكذب، فإن الإنسان الذي يكثر من اللعن ويكذب لا يستحق أن يكون شفيعاً أو أن يكون شهيداً يوم القيامة. إذاً: الشهداء هم جملة من ذكر الله سبحانه تبارك وتعالى، وجملة من جاء في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.

معنى قوله تعالى: (وقضي بينهم بالحق)

معنى قوله تعالى: (وقضي بينهم بالحق) قال تعالى: {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالحَق} [الزمر:69] قضي: فصل بينهم أو حكم بينهم، فالله يحكم بين العباد، بين المؤمنين منهم والكافرين، فيقضي بالحق سبحانه تبارك وتعالى، وينتصر للمؤمنين المظلومين من الظلمة والعصاة. فيفصل الله سبحانه ويقضي بالحق سبحانه تبارك وتعالى، ففي يوم القيامة يحق الله الحق، فهو يوم الحق: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الزمر:69]، فلا يظلم الله أحداً شيئاً وقد قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]. وإذا بالعباد أخذوا جزاءهم الوافي، قال تعالى: {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ} [آل عمران:25]، وكل هذا الفصل مع أن العدد ضخم جداً وكبير جداً يوم القيامة، من الإنس ومن الجن ومن خلق الله عز وجل، فيفصل بينهم جميعاً، وكل نفس على حدة، يقضي الله عز وجل فيها قضاءً حاسماً وقضاءً سريعاً، وقضاءً حقاً من الله سبحانه تبارك وتعالى: {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ} [الزمر:70] ولا تفلت أي نفس. {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} [الزمر:70] يعني: فكل ما عملته النفوس يحاسبها الله عز وجل عليه، وهو أعلم فلا يحتاج إلى شهود ولا إلى كتب، ولكن الله سبحانه يبين في هذا اليوم العظيم كيف تكون عظمة هذا اليوم، وكيف تكون المحكمة العظمى يوم القيامة، فهي محكمة فيها شهود وكتب، فهذا هو الموقف يوم القيامة. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الزمر [68 - 72]

تفسير سورة الزمر [68 - 72] أخبر الله تعالى عن أهوال يوم القيامة وما يكون فيها من الآيات العظيمة والزلازل الهائلة، ومنها نفخة الصعق وهي النفخة الثانية، وهي التي يموت بها الأحياء من أهل السماوات والأرض إلا من شاء الله، وينفرد الحي القيوم بالبقاء والديمومة.

تفسير قوله تعالى: (ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض)

تفسير قوله تعالى: (ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الزمر: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68]. يذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية من آخر سورة الزمر بعض ما يكون يوم القيامة من أحداث، حتى يخيف من يعصونه سبحانه وتعالى ولا يؤمنون به، وينذرهم حتى يراجعوا أنفسهم، ويعملوا لله سبحانه، ويدخلوا في الإيمان، وحتى يطمئن المؤمنون أنهم إلى ربهم راجعون، وأن يوم القيامة يوم يحق الله فيه الحق سبحانه وتعالى. قد يأخذ الإنسان حقه وحظه في الدنيا وقد لا يكون ذلك، ولكن في الآخرة، الله سبحانه يحق الحق، ويقضي بين الناس بالحق يوم القيامة، يوم يفصل الله بين العباد يوم الجزاء، والدنيا دار عمل، والآخرة دار جزاء، وهذه عقيدة المؤمن في اليوم الآخر. فالله سبحانه يوم القيامة يقبض السماوات والأرضين، ويقول سبحانه: أنا الملك، أين ملوك الأرض، والله سبحانه وتعالى يدخل من يشاء برحمته في جنته، ويعذب من يشاء بعذابه في ناره. قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} وهما نفختان، والذي ينفخ في الصور ملك من ملائكة الله عز وجل الكرام الموكلين بذلك، وهو من أعظم ملائكة الله سبحانه وتعالى، وأعظم ملائكة الله وأقربهم إلى ربه سبحانه وتعالى: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت، هؤلاء أعظم ملائكة الله سبحانه وتعالى. ملك الموت: يقبض الأرواح. وإسرافيل: ينفخ في الصور نفخة الموت، ونفخة البعث: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ}. وميكائيل: وكله الله سبحانه وتعالى بالمطر، وبأرزاق العباد. وجبريل: رسول رب العالمين إلى رسل الله عليهم الصلاة والسلام في الأرض. هؤلاء أعظم ملائكة الله سبحانه وتعالى، والجميع يقبضون يوم القيامة حين يأمر الله سبحانه وتعالى. {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر:68] كما قدمنا قبل ذلك أن إسرافيل خلقه الله سبحانه ووكله بالنفخ على الصور، والصور: هو بوق ينفخ فيه، فإذا أمره الله سبحانه وتعالى نفخ، فمات من في السماوات ومن في الأرض إلا من استثناهم الله سبحانه. ويبقى ملك الموت، ويبقى إسرافيل، ويبقى ميكائيل، ويبقى جبريل، ثم يأمر الله عز وجل أن يموتوا فيموتون هم أيضاً، ويبقى ملك الملوك سبحانه وتعالى، ثم يقبض السماوات والأرض، قال سبحانه: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:104]، وقال سبحانه: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]. وهنا {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ} أي: مات من في السماوات ومن في الأرض إلا من استثناهم الله، ثم يميت من بقي بعد ذلك كما يشاء سبحانه وتعالى. ثم قال: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى} أي: يأمر الله إسرافيل بعدما يحييه الله سبحانه وتعالى أن ينفخ نفخة الإحياء، النفخة الثانية، فإذا بالخلق قيام ينظرون إلى ما حولهم متعجبين! الكفار يقولون: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:52]. والمؤمنون يقومون من قبورهم مستبشرين فرحين؛ لأنهم راجعون إلى ربهم سبحانه وتعالى. وهنا يقول: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى} وقبل ذلك أحداث، منها: ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه: أن الله عز وجل ينزل مطراً من السماء كأنه الطل، هذا المطر ينبت منه بنو آدم، يرجعون وتركب الأجساد كما كانت، وتعاد مرة ثانية بعدما كانوا رفاتاً وتراباً. ينزل هذا المطر فينبتون كما ينبت النبات، ويأمر الله عز وجل إسرافيل أن ينفخ فيها الروح، فتنفخ الروح في هذه الأجساد التي أعاد الله سبحانه وتعالى خلقها مرة ثانية، فقاموا وهم ينظرون بأبصارهم حولهم، وينظرون من النظرة بمعنى الانتظار، فهم منتظرون ماذا سيكون في هذا اليوم.

تفسير قوله تعالى: (وأشرقت الأرض بنور ربها)

تفسير قوله تعالى: (وأشرقت الأرض بنور ربها) قال الله تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الزمر:69] لا يحتاجون إلى شمس ولا إلى قمر، ولكن الله عز وجل الذي حجابه النور سبحانه وتعالى، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره سبحانه وتعالى. فالأرض تشرق بنور ربها سبحانه وتعالى، ينيرها كما يشاء: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} فيوم القيامة انتهى أمر الشمس والقمر، لا توجد شمس ولا قمر في هذا اليوم، ولكن قبل قيام الساعة من الأحداث تشرق الشمس من مغربها، فإذا كانت القيامة يذكر الله عز وجل: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير:1 - 6] ذكر الله سبحانه أحداثاً تكون في ذلك اليوم العظيم. فقوله: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} أي: كور بعضها على بعض فانطفأ نورها وسقطت، لم يعد هناك شمس مرة أخرى يوم القيامة، إلا ما يشاء الله عز وجل في الموقف بين يديه سبحانه، وليست للإنارة للخلق ولكن للإحراق، وللتشديد على الناس. فيوم القيامة النور نور الله سبحانه وتعالى؛ لأنهم لا يحتاجون إلى غيره، ولكن يجعل الشمس تدنو من رءوس الخلق يوم القيامة حتى يفيضوا ويتصببوا عرقاً، فمن لم ينزل عرقه في الدنيا في طاعة الله سبحانه، وفي خدمة دين الله سبحانه، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي عمل الخير، ووفر عرقه لغير ذلك من معاصي الله سبحانه؛ فهذا يبذل العرق يوم القيامة عرقاً غزيراً، حين تدنو الشمس من الرءوس، فإذا به يتصبب عرقاً، والعرق بحسب عمل الإنسان، فمن الناس من يغطي عرقه قدميه، ومنهم من يرتفع إلى ساقيه، ومنهم من يرتفع إلى ركبتيه إلى حقويه إلى منكبيه، ومنهم من يغطي عرقه رأسه يوم القيامة، فهو غارق في عرقه وفي نتنه؛ لأنه لم يبذل في الدنيا لله سبحانه وتعالى. قال تعالى: ((وَوُضِعَ الْكِتَابُ)) أي: كتاب أعمال الخلق، والكتاب جنس الكتب، أي: كل إنسان يرى كتاب عمله وصحيفة عمله الذي عمله في الدنيا، تتطاير الصحف، فمن آخذ بيمينه، ومن آخذ بشماله من وراء ظهره، فأما من أخذ كتابه بيمينه فهؤلاء الناجون، ويقولون: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:19] أما من أخذ كتابه من رواء ظهره بشماله فيقول: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} [الحاقة:25 - 26]. ثم قال: ((وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ)) أي: أحضروا في هذا اليوم. وقوله: (وجيء) فيها قراءتان: قراءة الجمهور: ((وَجِيءَ))، وقراءة هشام والكسائي ورويس: ((وجُيء)) بإشمام الجيم الضمة؛ لبيان أنه مبني للمجهول، فهنا ثلاث كلمات تأتي في هذه الآية والتي تليها والتي تليها، ((وَجِيءَ)) و {قِيلَ} [الزمر:72] {وَسِيقَ} [الزمر:73] فهي تقرأ على البناء للمجهول: ((وجُيء))، ((وسُيق)) و ((قُيل)) وهذه قراءة هشام والكسائي ورويس، وفي كلمة ((وسيق)) سيكون ابن عامر وهشام وابن ذكوان يقرءونها كذلك. وقوله: ((وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ)) قراءة الجمهور ((بِالنَّبِيِّينَ))، وقراءة نافع: ((بالنبيئين)) من النبوءة، والتنبؤ، وهذا أصلها أنه نُبِئ وأخبر، وأوحي إليه بأمور من أمور الغيب وبما شاء الله عز وجل من تعليم لهذا النبي، ليعلم أمته التوحيد، فإذا كلف بشريعة: أوامر ونواه، حلال وحرام، فلابد أن يبلغ الخلق، وإذا نزل عليه كتاب صار رسولاً، فمن نزل عليه كتاب من السماء بشريعة كاملة، وأحل الله عز وجل له أشياء في كتابه، وحرم عليه أشياء، فهذا رسول مرسل برسالة يبلغها إلى قومه. ثم قال: ((وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ))، الشهداء جمع شهيد، والشهيد: هو من يشهد على الشيء، فهذه الأمة تشهد على الأمم السابقة، والنبي عليه الصلاة والسلام شهيد على الجميع، والأنبياء شهداء على أممهم، والشهداء أيضاً: هم العدول من كل أمة، وهم الذين قتلوا في سبيل الله سبحانه وتعالى. فيؤتى بهؤلاء الشهداء جميعهم، ويؤتى بشهداء الله سبحانه وتعالى، وهم الملائكة الذين يشهدون على الخلق بما عملوا، فالشهداء من عند الله عز وجل ملائكة الله، كما قال تعالى: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:21] أي: يشهد عليها من ملائكة الله عز وجل. ثم قال: ((وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ)) أي: قضي بين الخلق القضاء الحق من رب العالمين، {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]. الحق من عند الله سبحانه، وهو الذي أمرهم الله عز وجل أن يلتزموه في الدنيا فأعرضوا عنه، فيقضى بينهم بالحق وبالحكم الفصل، وهو أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ، وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، وهو الملك الحق المبين. ثم قال: ((وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)) أي: لا يظلمهم الله عز وجل مثقال ذرة.

تفسير قوله تعالى: (ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون)

تفسير قوله تعالى: (ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون) قال الله تعالى: {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} [الزمر:70] أي: كل النفوس توفى ما عملت، فالإنسان المؤمن يأخذ حسابه وجزاءه وافياً من الله سبحانه وتعالى، الحسنة بعشر أمثالها، وقد تضاعف حتى تصل إلى سبعمائة ضعف، وتصل إلى أضعاف كثيرة بغير حساب، كل هذا من فضل الله ومن رحمته سبحانه. ويوفى الظالم والكافر ما عمل من أعمال سيئة، السيئة بمثلها، والكافر لا يجد لنفسه خيراً يوم القيامة، فقد جوزي في الدنيا بما عمل من خير، بأن أعطاه الله عز وجل المال، وأعطاه الولد، وأعطاه الدنيا والمنصب والرياسة، فليس له عند الله شيء، فإذا جاء يوم القيامة يقول: عملت خيراً، يقال: أخذته في الدنيا، ليس لك عندنا شيء، {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]. قال: ((وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ)) فهو سبحانه وتعالى أعلم بما تفعل، وبما تكسب كل نفس، والإنسان قد يعمل الشيء وينساه بعد قليل، والمؤمن يتذكر سيئاته، ولعله ينسى حسناته، ولكن الله لا ينسى شيئاً أبداً. إذاً: ما عمله الإنسان من خير فالله عز وجل لا ينساه له، وما عمله من شر الله يحصيه عليه، قال: ((وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ)).

تفسير قوله تعالى: (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا)

تفسير قوله تعالى: (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً) قال الله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر:71] السياق إما إلى الجنة، وإما إلى النار، وبدأ بذكر الكفار هنا: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا} الكفار يوم القيامة أول ما يجدون من الحسرات عند خروجهم من قبورهم، فهم يجدون أمامهم يوماً عصيباً، فقالوا: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس:52] من ساعة ما يقومون من قبورهم وهم في فزع، وفي ضنك، وفي خوف، وفي شدة، فهم في ذلك الموقف العظيم بين يدي الله سبحانه، يجدون من شدة الموقف ما جعلهم يقولون: يا رب اصرفنا ولو إلى النار. وإذا جاء الحساب والقضاء يقول الله سبحانه: ألا يحب من كان يعبد شيئاً أن يتبعه؟ فيقولون: بلى، فمن كان يعبد الشمس تمثل له الشمس ويتبعها إلى النار، ومن كان يعبد القمر يمثل له القمر ويتبعه إلى النار، الأتباع يذهبون إلى النار، فإذا رأوها فزعوا من منظر هذه النار، فإذا بالملائكة تأخذهم، وتدفعهم إلى النار، وسيقوا إلى النار، وفرق بين سوق الكفار والعصاة، وبين سوق المؤمنين والأبرار، هؤلاء يساقون إلى النار، وهؤلاء يساقون إلى الجنة. يساق ويدفع الكافر وهو مفزوع من النار ولا يريد أن يدخل النار، فيدفع من قفاه، {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور:13 - 16]. أما المؤمنون فيكرمهم الله سبحانه وتعالى، فهم بعد أن يمروا على الصراط، وبعد أن يتقاضوا فيما كان بينهم من مظالم في الدنيا، استحقوا الآن أن يدخلوا الجنة، والله عز وجل يجعل الملائكة تدلهم: هذا طريقكم، ادخلوا من هنا إلى الجنة، والمؤمنون يشرفهم الله ويكرمهم سبحانه بأن يجعلهم يركبون مراتب، ويساقون بهذه المراتب إلى الجنة، ويقال لهم: ادخلوا الجنة، وينادون من أبواب الجنة. إذاً: هناك فرق بين من يساق فيدفع من قفاه، ومن يساق فيحمل حملاً ليدخل الجنة، فرق عظيم بين الاثنين، إذا عرف المؤمن وأيقن من ذلك عمل له. قوله: ((زُمَرًا)) أي: جماعات جماعات، ليس كلهم مرة واحدة، لا، ولكن يؤخذ هؤلاء فيدخلون النار، والآخرون وراءهم إلى النار، جماعات متفرقة بعضها إثر بعض إلى النار. ثم قال: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا} أي: إذا وصلوا إلى النار، وهم في فزع وفي صراخ وضجيج؛ خوفاً من النار. وقوله: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا} هذه فيها إمالة في القراءة لـ هشام بخلفه وابن ذكوان ولـ حمزة والكسائي فيميلونها وكل يمد بحسب مده. ثم قال: ((فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا)) يقرؤها الكوفيون: عاصم وحمزة والكسائي وخلف: ((فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا)) وباقي القراء يقرءونها: ((حتى إذا جاءوها فتَّحت أبوابها)) أي: إذا وصلوا إلى النار فتحت لهم النار، وإذا وصل الفوج الآخر فتحت لهم، ويدفعون فيها، وتغلق عليهم والعياذ بالله، هذا السياق التصويري لما يحدث يوم القيامة، ((إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا)). ثم قال: ((وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا)) مقرعين لهم وموبخين ومبكتين لهم: ((أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ)) أليس ربنا أعذر إليكم وأرسل إليكم رسلاً يتلون عليكم ما نزل عليكم من كتب من السماء من عند رب العالمين؟! ويقولون لهم: ((وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ)) أي: يخوفونكم من هذا اليوم، فما هو الجواب من الكفار ومن أهل النار؟ قالوا: اعترفنا فقد جاءتنا رسل، ونزلت علينا كتب من السماء وعرفنا ذلك، وليس لنا عذر، ولكن يحتجون بالقدر، وهذا لا ينفعهم؛ لأنهم في الدنيا لم يؤمنوا بقضاء ولا بقدر، وإنما كذبوا باليوم الآخر وبالجزاء والحساب، فكيف يوم القيامة يحتجون بالقدر؟! يقولون: ((وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ)) أي: ربنا أراد شيئاً، فكان ما أراده الله سبحانه وتعالى، ((حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ)) أي: تحقق ما قاله الله سبحانه في كتابه: {لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:119]. فهنا حقت بمعنى وجبت كلمة العذاب، يعني: ما قاله ربنا لا بد أن يكون، فكان أن دخلنا النار.

تفسير قوله تعالى: (قيل ادخلوا أبواب جهنم)

تفسير قوله تعالى: (قيل ادخلوا أبواب جهنم) قال الله تعالى: {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:72] أي: بئس مكان إقامة لكل إنسان متكبر على طاعة الله سبحانه، ومتكبر على رسل الله عليهم الصلاة والسلام، ومتكبر في الدنيا، فهذا المتكبر استحق الهوان والعذاب، أما أهل الجنة فهم في النعيم المقيم. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الزمر [73 - 75]

تفسير سورة الزمر [73 - 75] من منن الله على عباده المؤمنين وكمال إحسانه وتفضله عليهم أن جازاهم بأعمالهم الصالحة جنات تجري من تحتها الأنهار، فأدخلهم ربهم فيها جماعة تلو جماعة، وجعل ملائكته وخزنة جنته مستقبلة لهم على أبوابها، فتسلم عليهم، وتهنئهم، وتبشرهم بالخلود الدائم في جنة الرضوان، ثم جعل حياتهم فيها هنيئة رغيدة، لا بؤس فيها ولا شقاء، فهم فيها لا يبولون، ولا يتغوطون، ولا يتفلون، ولا يتمخطون، آنيتهم الذهب، ومجامرهم الألوة، ورشحهم المسك، فهم في نعيم دائم بفضل ربهم وكرمه وإحسانه.

تفسير قوله تعالى: (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا)

تفسير قوله تعالى: (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في آخر سورة الزمر: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر:73 - 75]. هذه الآيات الجميلة العظيمة يختم بها الله عز وجل هذه السورة الكريمة سورة الزمر، بذكر الجنة وأهلها، وكيف يدخلونها، وكيف يستبشرون فيها، وكيف يحمدون ربهم سبحانه وتعالى. قال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} [الزمر:73]، ذكر ربنا قبل ذلك أهل النار وكيف أنهم يساقون إلى النار فيدعون إليها دعاً، ساخراً منهم بقوله: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [يس:63]، وقوله: {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [الطور:14]، فهذه النار سيق أهلها إليها، فأخذوا وأدخلوا فيها، وأقحموا فيها، ودفعوا فيها دفعاً. ثم قال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} [الزمر:73] هذا السياق غير السياق السابق، فأهل الجنة على مراتب، وتقودهم الملائكة وتسوق نجائبهم فيدخلون الجنة، وتنادي عليهم أبواب الجنة: ادخلوا من هنا، فمنهم من ينادى من باب، ومنهم من بابين، ومنهم من ثمانية أبواب، فأبواب الجنة ثمانية كما جاء في حديث النبي صلوات الله وسلامه عليه، وأبواب النار سبعة أبواب كما ذكر ذلك الله سبحانه وتعالى في كتابه. وقوله: (زُمَرًا) أي: جماعات. قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر:73]. قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا): أي: وصلوا إلى أبواب الجنة.

معنى الواو في قوله تعالى: (حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها)

معنى الواو في قوله تعالى: (حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها) قوله تعالى: (وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) وكأنها فتحت قبل أن يصلوا، ولا تفتح الجنة إلا أن تفتح لنبينا صلوات الله وسلامه عليه، فهو أول من يدخل الجنة عليه الصلاة والسلام، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا أول من تفتح له الجنة) وهو أول من يدخلها، قال: (آخذ بحلقة الجنة فيقال: من؟ فأقول: محمد صلى الله عليه وسلم، فتقول الجنة: بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك) فاستفتح ففتحت له فأول من يدخلها نبينا الكريم صلوات الله وسلامه عليه، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا معه. قوله تعالى: (وَفُتِحَتْ) أي: أن الجنة تظل مفتوحة دائماً. أما النار فإنهم إذا جاءوها فتحت فدخلوا فيها ثم أغلقت عليهم، وإذا جاء فوج آخر فتحت فيدخلونها ثم تغلق عليهم، فإن أبوابها مؤصدة، أما الجنة إذا فتحت فأبوابها مفتحة، ولذلك فرقت (الواو) هنا عن هناك، حيث قال في أهل النار: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر:71] أي: كل ما جاءها فوج تفتح فيدخلون فتغلق عليهم، ويأتي الفوج الآخر فتفتح ويدخلون، أما الجنة إذا فتحت فإنها تظل مفتوحة أبداً لا تغلق، فيأتي أهل الجنة ويجدون الأبواب مفتحة فيزدحمون على أبوابها، وليأتين عليها يوم وهي كظيظ من زحام أهل الجنة. فهذا هو الفرق بين ذكر أهل النار بقوله تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ)، وذكر أهل الجنة بقوله تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) يعني: وكانت مفتحة قبل ذلك. وهناك قراءتان في هذه الكلمة: فتقرأ: (فُتِحت) و (فتّحت)، وكذلك في النار: (فتِحت) و (فتّحت)، فقراءة: (فتِحت): هي قراءة الكوفيين عاصم وحمزة والكسائي وخلف. وقراءة: (فتّحت): هي قراءة باقي القراء نافع وابن كثير وأبي عمرو وأبي جعفر ويعقوب وابن عامر. وقال بعضهم: الواو في قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) مضمر فيها معاني، فكأنه قال: حتى إذا جاءوها وفعل بهم وفعل بهم وفعل بهم وفتحت أبوابها، فهنا محذوف دلت عليه الواو هنا، وهذا من بلاغة القرآن حيث يعبر بحرف واحد عن جمل كثيرة قبلها. ويمكن أن يكون المراد: حتى إذا جاءوها ونقوا من مظالم كانت بينهم، وصفيت نفوسهم، وهذبوا، وطيبوا، وأخرج ما فيهم من مرض وكدر وغل وحقد، فتحت أبوابها، فأهل الجنة يمرون على الصراط فإذا وصلوا إلى الجنة حبس منهم -بعضهم أو كثير منهم- حتى يتقاصوا المظالم فيما بينهم، فيؤخذ من حسنات الظالم للمظلوم حتى يستوفي حقه، فإذا هذبت النفوس مما كان فيها دخلوا الجنة بعد ذلك. ومن المعاني التي فيها قول بعضهم: الواو هذه واو الثمانية، وعادة العرب أنهم إذا ذكروا أعداداً فعدوا من واحد إلى سبعة قالوا: واحد اثنان ثلاثة أربعة فإذا وصلوا إلى الثمانية قالوا: وثمانية، فهنا أبواب الجنة ثمانية، فذكرت الواو هنا دليل عليها، أو إشارة إلى ثمانية أبواب الجنة، ولقد جاء مثل هذا في القرآن في مواطن، منها ما جاء في سورة براءة قوله تعالى: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ} [التوبة:112]. وفي سورة أخرى قال تعالى: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} [التحريم:5]، فقالوا: هذه الواو واو الثمانية، يعني: ذكر الشيء الثامن يسبقه الواو، فهذه ثلاثة مواضع في الواو التي ذكرت هنا مع أهل الجنة.

استقبال الملائكة للمؤمنين وتبشيرهم بالخلود

استقبال الملائكة للمؤمنين وتبشيرهم بالخلود قال تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ} [الزمر:73] أي: أهل الجنة يدخلون الجنة بالتحية والإكرام، فخزنة الجنة يقولون لأهل الجنة: سلام عليكم، وهنا التسليم من الملائكة بقولهم: (سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ)، يتلقاهم ربنا سبحانه وتعالى في جنته بالخير والسلام من أول أبواب الجنة، حيث تنادي عليهم الملائكة بقولهم: (سَلامٌ عَلَيْكُمْ)، فتحيتهم فيما بينهم سلام، والجنة هي دار السلام. وقوله تعالى: (طِبْتُمْ) أي: في الدنيا بتوحيدكم الله سبحانه وتعالى، فطبتم وطابت أعمالكم فكانت خالصة لله صالحة موافقة لكتاب الله ولهدي رسول الله صلوات الله وسلامه عليه. والإنسان المؤمن طيب القلب كريم، ألف مألوف، طاب في الدنيا فاستحق أن يكون في الجنة. كذلك قوله: (طِبْتُمْ) أي: طهرتم الآن قبل دخولكم الجنة، فلا تدخلون وفيكم أخباث أو أنجاس، ولا تدخلون الجنة وفيكم بول أو غائط، إذ لا يوجد شيء من هذا، بل قد انتهى أمر ما كان في الدنيا من بول وغائط ومخاط وحيض ونفاس، فقد طابوا ونقوا وهذبوا ثم أدخلوا الجنة. قوله تعالى: (فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) أي: ادخلوا الجنة خالدين فيها ولا تموتون أبد الآبدين.

تفسير قوله تعالى: (وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده)

تفسير قوله تعالى: (وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده) قال الله عن أهل الجنة: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر:74] أي: لما خلصوا من الدنيا، وخلصوا من الموقف العظيم، ومروا على الصراط، واستقروا في النعيم المقيم؛ حمدوا الله سبحانه وتعالى فقالوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} [الزمر:74] أي: الذي وعدنا في الدنيا على العمل الصالح بهذه الجنة العظيمة الكريمة، فصدق الله وعده، إذ أعطانا ما وعدنا سبحانه وتعالى، والله لا يخلف الميعاد سبحانه. قال الله تعالى: {وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} [الزمر:74]. قوله: (أَوْرَثَنَا الأَرْضَ) أي: الدنيا، حيث توارثها أهلها، فذهب سلف وجاء خلف، فلم يزالوا يتوارثونها، هؤلاء يصلحون وأولئك يفسدون، وهؤلاء يعملون صالحاً، وأولئك يعملون الخبائث، فأهل الإيمان ورثوا الأرض فعملوا لطاعة الله عز وجل فيها، فعملهم هذا بوأهم أي: نزلهم من الجنة منازل عظيمة عالية، فقالوا: الحمد لله الذي صدقنا وعده، وأورثنا قبل ذلك الأرض بعد آبائنا حيث سكنا عليها فعملنا الأعمال الصالحة. وقوله تعالى: (نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ) أي: ثواب هذه الأعمال أن بوأنا أي: أنزلنا الله سبحانه وتعالى الجنة. قوله: (حَيْثُ نَشَاءُ) أي: لا يصدون عن شيء فيها، فهؤلاء في الجنة في درجة معينة، وأولئك أعلى منهم، وكل إنسان في الجنة التي جعله الله من أهلها مفتحة أبوابها، يسير فيها، ويلعب فيها، ويلهو بما يشاء، لا شيء يمنع عنه، طالما أنه دخل الجنة، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها.

القصاص في الآخرة

القصاص في الآخرة جاء في الحديث الذي رواه الإمام البخاري من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار). فقوله: (يخلص المؤمنون من النار) يعني: بالمرور على الصراط، وهذا قول الله عز وجل: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم:71] أي: لابد أن يمر الجميع فوق الصراط، فمنهم من يمر كطرف العين، ومنهم من يمر كالبرق، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا هكذا، ومنهم من يمر كلمح البرق، وكلمح الطرف والبصر، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل، ومنهم من يجري كأسرع الناس، ومنهم من يمشي، ومنهم من يمشي مرة ويكبو مرة وتلسعه النار أخرى، حتى يمروا من فوقه، وهذا هو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث. قوله: (فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار) أي: بعد أن يخلص المؤمنون من النار، ويمروا على الصراط يحبسون على قنطرة قبل أن يصلوا إلى الجنة. قال: (فيقص لبعضهم البعض) أي: لابد من القصاص بين الخلق حتى ولو خرجوا من النار أو اجتازوا الصراط، بل لابد من الوقوف على القنطرة؛ ليحصل القصاص بينهم في ذاك المكان. قال: (مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة) ولذلك فعلى المؤمن ألا يستهين بمعصية أبداً، ولا يستهين بمظلمة يظلمها أحداً أبداً، ولا يقول: أعمالي الصالحة كثيرة، أو أنا أعمل خيراً كثيراً، فإن ذلك لن ينفعه، حتى ولو كان من أهل الجنة؛ لأنه سيحبس عن الجنة حتى يقتص منه، وقد يكون الحبس يوماً أو أقل أو أكثر، فإن حبس نصف يوم عن الجنة فهو: خمسمائة عام، ومن حبس يوماً عن الجنة، فهو ألف سنة مما تعدون، وهذا شيء فظيع وطويل جداً! فلذلك على المؤمن أن يسارع ويعطي الحقوق لأصحابها، وألا يظلم أحداً، حتى يكون ممن يسرع بهم إلى الجنة. ويحكي النبي صلى الله عليه وسلم حال المؤمنين حين يدخلون الجنة فيقول: (فوالذي نفس محمد بيده! لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا!) فالجنة واسعة وعظيمة جداً، وعندما ينزل المرء في الدنيا إلى بلد لا يعرف فيها أحداً، فإنه يحتاج لدليل يدله على المكان، والجنة واسعة جداً، وهناك الملايين من البشر الذين يدخلون هذه الجنة العظيمة، فكيف سيعرف الإنسان منزله؟ وهل يحتاج إلى دليل يدله على منزله؟ A لا، فإنك كما تعرف بيتك في الدنيا فإنك تعرف بيتك في الجنة أكثر مما كنت تعرف بيتك الذي في الدنيا.

صفات المؤمنين وأحوالهم في الجنة

صفات المؤمنين وأحوالهم في الجنة روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أول زمرة تلج الجنة) وأهل الجنة يدخلون الجنة على شكل جماعات وزمر لا دفعة واحدة، كما قال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} [الزمر:73]، زمرة بعدها زمرة، وأول من يدخلون -نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم وفيهم- من الزمر صورهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أول زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر) فأجمل ما يكون هؤلاء الداخلون. قال: (لا يبصقون فيها، ولا يمتخطون، ولا يتغوطون) فليس فيها مما كان في الدنيا من القاذورات. وفي رواية أخرى قال: (لا يبولون، ولا يتغوطون، ولا يتفلون، ولا يمتخطون) أي: كلما كان من خبائث في الإنسان في الدنيا فإنه لن يوجد في الجنة منها شيء. يقول صلى الله عليه وسلم: (آنيتهم فيها) أي: الأطباق التي يأكلون فيها. قال: (آنيتهم فيها الذهب، وأمشاطهم من الذهب والفضة) أي: يمشطون شعرهم بمشط من الذهب والفضة. قال: (ومجامرهم الألوة) والمجامر: هي المباخر، فالمبخرة التي يتبخرون بها في الجنة هي الألوة، وهي نوع من أنواع البخور طيب الريح، ليس يشبهه في الدنيا شيء، وما في الدنيا يشبهه بالاسم فقط، وذاك أعظم منه بكثير. قال: (ورشحهم المسك) أي: إذا أكلوا أو شربوا خرجت منهم الفضلات على هيئة العرق رائحته المسك. قال صلى الله عليه وسلم: (ولكل واحد منهم زوجتان) أي: في الجنة. (يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن) مخ الشيء: أصل الشيء الذي بداخله، وكأن المعنى أن لحم الحور العين ولحم أهل الجنة غاية في الصفاء والنقاء والبياض، وغاية في الجمال وهو مثل المرآة يرى ما بداخلها! قال صلى الله عليه وسلم: (لا اختلاف بينهم) أي: لا يختلفون في الجنة؛ لأنهم قد نقوا من ذلك، وأيضاً في جمالهم، فلا يقال: إن فلاناً جميل وفلاناً أجمل منه، بل الكل غاية في الجمال. قال: (ولا تباغض) أي: ولا يتباغضون. قال: (قلوبهم قلب واحد) أي: على قلب رجل واحد، فهم مؤتلفون في الجنة فلا تناكر ولا اختلاف. قال: (يسبحون الله بكرة وعشياً). وفي رواية للحديث قال صلى الله عليه وسلم: (وأزواجهم الحور العين، على خلق رجل واحد). ففي الدنيا يختلف الناس في أشكالهم، فهناك النحيف والسمين، وهناك الطويل والقصير، وهناك الأحمر والأبيض والأسود، أما في الجنة فكلهم على هيئة واحدة غاية في الجمال، الطول مثل آدم في الهيئة التي خلقه الله عز وجل عليها، قال صلى الله عليه وسلم وهذا لفظ البخاري: (على صورة أبيهم آدم ستون ذراعاً في السماء) فهذا هو طول آدم حين خلقه الله، وكذلك يكون أهل الجنة على هذا الطول. يقول الله عز وجل في الآية: {فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر:74] أي: أنعم به من أجر لمن عمل لله، ولمن وحد الله واتقاه، ولمن اجتنب المعاصي وعمل بالطاعات.

تفسير قوله تعالى: (وترى الملائكة حافين من حول العرش)

تفسير قوله تعالى: (وترى الملائكة حافين من حول العرش) قال تعالى: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} [الزمر:75] أي: في ذلك اليوم العظيم ترى الملائكة في الجنة تنظر إلى ربها سبحانه وتعالى وهناك لا يظلم أحد. ولقد جاء في الحديث: (ولا تضامون) أي: حين تنظرون إلى ربكم سبحانه وتعالى في الجنة لا يوجد أحد سينضم ويزاحم الناس لكي يرى ربه، بل الأمر كما تنظر إلى القمر، فكل أهل الأرض ينظرون إلى القمر وهو في مكانه، وكذلك -ولله عز وجل المثل الأعلى- لا يزدحم أحد ليرى ربه، بل كل إنسان مكانه، يطلع عليهم ربهم اطلاعاً فينظرون إليه، فهذا أعظم ما يستمتع به أهل الجنة، أن ينظروا إلى وجه ربهم، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أكثر من ينظر إلى وجه ربه يوم القيامة سبحانه. وقوله تعالى: (حافين) أي: محدقين محيطين حول عرش الرحمن سبحانه وتعالى، منعمين بذلك حيث أكرمهم الله بذلك سبحانه وتعالى. قوله تعالى: {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الزمر:75]. أي: يتلذذون بعبادته وتسبيحه، وكذلك أهل الجنة يتلذذون بالتسبيح لربهم سبحانه، ففي الدنيا يسبح الإنسان ربه ليأخذ على ذلك الأجر، أما في الجنة فيسبح ربه ليستمتع كما يستمتع في الدنيا بالنفس، فعندما يذهب المرء إلى مكان فيه هواء طلق فيأخذ نفساًَ عميقاً، ويملأ صدره به، مستمتعاً بذلك الهواء، فكذلك تملأ صدرك تستمتع في الجنة بتسبيح الله سبحانه وتعالى. وقوله: (بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي: وبحمد ربهم، يسبحون وبتسبيحهم يحمدون ربهم سبحانه. قوله تعالى: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} [الزمر:75] أي: بين النبيين وبين أممهم، وبين الخلق فيما بينهم بالحق. قوله تعالى: {وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر:75]، فكان نعم الختام لهذه الآيات ولهذه السورة، ونعم ما يقوله أهل الجنة، ونعم ما يختم به الله عز وجل للمؤمنين من الصالحات: الحمد لله رب العالمين، فبدأ خلقه بالحمد فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1]. وأنهى الأمر بالحمد فقال: {وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر:75] فيستحب للإنسان أن يبدأ عمله بحمد الله وأن ينهيه بحمد الله، فالحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

غافر

تفسير سورة غافر [1 - 2] سورة غافر من السور المكية، وفيها التنبيه على أهمية عبادة الله وحده لا شريك له، وإبطال عبادة ما يعبده المشركون، وفيها الإخبار بالبعث ويوم القيامة وما يكون فيه من أهوال، كما أن فيها ذكر قصص بعض من تقدم من الأنبياء، وفي ذلك تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم وتسلية له.

سورة غافر نزولها وعدد آياتها

سورة غافر نزولها وعدد آياتها الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة غافر: {حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ * مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} [غافر:1 - 4]. هذه السورة هي الستون من كتاب الله عز وجل وهي سورة غافر، وهي سورة من السور المكية التي يقرر الله عز وجل لعباده فيها منهج حياتهم: أن يعبدوا الله سبحانه وتعالى، وأن يؤمنوا بالبعث بعد الموت، وأن الله عز وجل سيجزيهم يوم القيامة إما الجنة وإما النار، ويذكر الله عز وجل فيها لنا دعوة الأنبياء قبل النبي صلى الله عليه وسلم، فيقص علينا قصة موسى، وقصة مؤمن آل فرعون الذي آمن وابتلي في الله سبحانه وتعالى، ولذلك هذه السورة تسمى بسورة غافر، وتسمى بسورة المؤمن، أي: مؤمن آل فرعون الذي ذكره الله عز وجل في هذه السورة بقوله: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر:28]. وهذه السورة عدد آياتها بحسب العد البصري ثلاث وثمانون آية، وبحسب العد الحجازي والحمصي أربع وثمانون آية، وبحسب العد الكوفي خمس وثمانون آية، وبحسب العد الدمشقي ست وثمانون آية، وكما ذكرنا قبل ذلك أن هذا العد ليس زيادة في الآيات، ولكن بحسب الوقوف، فالوقف على رأس كل آية يسمى فاصلة، أي: تفصل الآية عما بعدها بالوقف، وسبب الاختلاف هو وقف النبي صلى الله عليه وسلم في قراءته، فإذا وقف النبي صلى الله عليه وسلم على موضع فيحسب آية، فهنا يقال: هذه فاصلة، وقد وقف النبي صلى الله عليه وسلم على آيات، وأحياناً وقف على آيات أخرى، فأخذوا منه أن الآية هذه نهايتها حيث وقف النبي صلوات الله وسلامه عليه، ووقع الخلاف في تسعة مواضع في هذه السورة وهي في نفس الآية، فاختلفوا في عد (حم) آية منفصلة وحدها، فالكوفيون يعدون (حم) رأس آية، وليست برأس آية كما يعدها الباقون، بل يجعلونها هي وما بعدها آية واحدة: {حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غافر:1] فبحسب عد غير الكوفيين تكون آية واحدة. كذلك الكوفيون عدوا (حم) وتركوا {كَاظِمِينَ} [غافر:18] ولم يقفوا عليها، وغيرهم وقفوا على كلمة (كاظمين). وقوله: {يَوْمَ التَّلاقِ} [غافر:15] وقف عليها الجمهور وتركها الدمشقي ابن عامر في عده، وعد مكانها (بَارِزُونَ). وكلمة: ((إِسْرَائِيلَ)) و ((الْكِتَابُ)) مواضع وقف لغير المدني الأخير وغير البصري. وكلمة: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} [غافر:58] وقف عليها الدمشقي ابن عامر والمدني الأخير. وكلمة: ((يُسَبِّحُونَ)) يقف عليها الكوفي والمدني الأخير أيضاً دون غيرهما. وكلمة: ((فِي الْحَمِيمِ)) يقف عليها المكي والمدني الأول. وكلمة: ((كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ)) يقف عليها الكوفيون والدمشقي. فهنا كأنها آيات فواصل تفصل الآية عن التي تليها بالوقف، فإذا وقف النبي صلى الله عليه وسلم هنا عدت آية، وإذا وصل هذه وما بعدها عدت هذه مع هذه آية، وهي نفس السورة ونفس الكلمات. فالوقف عند رأس كل آية تسمى فاصلة، والقراء يقولون: هذا عد فواصل الآيات، ويقولون: هذه فاصلة، وهذه مشبهة بالفاصلة، أي: تشبه الفاصلة، أي: موضع مثل غيره من الوقوف، ولكن لم يقف عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعدها آية، فلم يعدها القراء آية، مثل قوله سبحانه: {شَدِيدِ الْعِقَابِ} [غافر:3] يقولون: هذه مشبه بالفاصلة، أي: يشبه الفاصلة، وقوله: {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر:14] هذا وقف وليس برأس آية. وهذه السورة سورة مكية كما ذكرنا، وبعض أهل العلم قالوا: إلا آية أو آيتين، فـ الحسن البصري يقول: هي سورة مكية إلا ما ذكر الله عز وجل فيها من التسبيح: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [غافر:55] قال: هذه مدنية، قال: لأن المقصود بالتسبيح هنا الصلاة، والصلاة لم تفرض على هيئتها إلا في المدينة، وهذا القول ضعيف، والصواب: أن الصلاة فرضت على هيئتها في مكة بعد قصة الإسراء والمعراج، فقد نزل النبي صلى الله عليه وسلم من السماء وفرضت عليه الخمس الصلوات وهو في مكة، فصلى الخمس الصلوات عليه الصلاة والسلام، ثم بعد ذلك هاجر إلى المدينة، والذي كان فرضه في المدينة هو الأذان؛ فإنه لم يكن هناك أذان بمكة، وإنما شرع الأذان بالمدينة بقصة مذكورة في أبواب الأذان. فالصواب أن قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [غافر:55] مكية كغيرها. وأيضاً استثنوا قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} [غافر:56] الآية، وقد تكرر الجدل مرتين أو خمس مرات في هذه السورة، فقال البعض: المقصود به اليهود، ومكة لم يكن فيها يهود، والصواب: أن الذين جادلهم هم المشركون، فإنهم كانوا يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه الآية أيضاً آية مكية، فالسورة فيها خصائص السور المكية كما سبق.

أغراض سورة غافر وبيان ترتيبها

أغراض سورة غافر وبيان ترتيبها والسورة لها أغراض، وعندما تتصفح آيات كتاب الله عز وجل تجد كل سورة يدل الله عز وجل عباده فيها على منهج معين تحتويه هذه السورة في سياقها، فهنا هذه السورة من السور المكية التي فيها ترسيخ العقيدة وخاصة أمر الابتلاء، وأن الإنسان عليه أن يصبر، وفي النهاية النصر والجزاء الحسن من الله سبحانه وتعالى، فإن كان الإنسان في الدنيا قد يقضى عليه بالموت فيوم القيامة ينصره الله سبحانه ممن ظلمه، ويقتص للمظلومين من الظالمين، وينتصر الله سبحانه لعباده الذين كانوا مستضعفين في الأرض. وهذه السورة فتحها الله عز وجل بقوله: ((حم)) وليست وحدها بل ذكرت هذه الآية في سبع سور في القرآن. وكما ذكرنا قبل أن هذا الترتيب الذي في المصحف ليس بحسب النزول، فإن أول المصحف سورة الفاتحة، وآخر المصحف سورة الناس، وهذا ليس ترتيب نزول القرآن، وليس هو ترتيب نزول السور، ولكن كما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل في العرضة الأخيرة رتب القرآن على ذلك. وهذه السورة من السور المكية وكان نزولها بعد سورة الزمر، وبعدها السور التي تليها من الحواميم، وهي: سورة فصلت، وبعدها سورة الشورى، وبعدها سورة الزخرف، وبعدها سورة الدخان، وبعدها سورة الجاثية، وبعدها سورة الأحقاف، سبع سور وراء بعض رتبت في المصحف بحسب ترتيب النزول. ولكن يقول العلماء: هذه السورة حسب نزول القرآن هي السورة رقم (60) في النزول من السماء على النبي صلى الله عليه وسلم، فسورة الزمر كانت السورة التاسعة والخمسين، وهذه السورة هي الستون في ترتيب النزول، لكن في ترتيب المصحف هي رقم أربعين.

تفسير قوله تعالى: (حم) وبيان معنى الحروف المقطعة في أوائل السور

تفسير قوله تعالى: (حم) وبيان معنى الحروف المقطعة في أوائل السور هذه السورة كما ذكرنا سورة مكية، والله سبحانه وتعالى ذكر في أولها: ((حم)) وهما حرفان: الحاء والميم، والمقصد بذلك تحدي الكفار، أي: أن هذا القرآن من جنس هذه الأحرف التي تقرءونها، فهاتوا مثله، وعندما يتحداهم الله سبحانه فيقول: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88]، {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود:13]، {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23]، فيتحداهم أن يأتوا بسورة مثله، فليس المعنى أن أي كلام يقوله الإنسان يعتبر سورة، مثل ذلك المخرف المجرم الذي اسمه شروش الذي يقول: أنا سأؤلف قرآناً، وأمريكا تؤيده على هذا الأمر وتطبع له، وهذا الذي يؤلفه كلام فارغ غاية في الركة في اللغة العربية، فهو كلام ركيك فارغ، كلام كفر، يريد أن يوزن كلاماً على ما يأتي في سور القرآن، ويأخذ منها حاجات ويحط مكانها الصليب، ويحط مكانها المسيح، وعقيدة التثليث، وغير ذلك من الكذب والافتراء، ويقول: هذا الذي جئت به ألفته في خلال سبع سنوات، ومحمد -صلى الله عليه وسلم- ألفه في ثلاث وعشرين سنة! فليس أي كلام يقوله الإنسان يقال: هذا قرآن، فلا يأتي تلميذ أو طالب فاشل يكتب موضوعاً ويأتي الناس يقارنون هذا الكلام الفارغ بكتاب الله العظيم الكريم، ولكن الذي يتحدى أن يأتي بمثل هذا القرآن عليه أن يأتي بكلام له معنى، وبكلام يفهم منه شريعة وعقيدة، وأن يقول كلاماً موزوناً وكلاماً فيه الرصانة والبلاغة والفصاحة والإعجاز، وفيه منهج الحياة، وفيه أمور الدنيا وأمور الآخرة، فعندما يأتي إنسان بكلام فارغ وكلام لا يعرف له أول من آخر، فليس بقرآن، وذلك مثل كلام مسيلمة عندما تكلم عن دابة من الدواب فقال: (يا وبر يا وبر، إنك رأس وصدر، وسائرك حقر نقر)، وهذا كلام فارغ يصف به دابة اسمها: الوبر، ويقول: هذا قرآن، وقد رد عليه من كان في زمانه وقال: والله إنك لتعلم أني أعلم أنك كذاب. فعلى ذلك نقول: الله عز وجل يتحدى الخلق بهذا القرآن، ويتحداهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن الذي لا تنقضي عجائبه، فتقرأ القرآن، وكلما ازددت قراءة للقرآن تجد كلاماً عظيماً، وتجد كمالاً وبلاغة وأسلوباً فائقاً رائقاً عظيماً، ولو أتيت بكلام من أي كلام يكون حتى ولو كان حديثاً للنبي صلى الله عليه وسلم لا تجد فيه التغني الذي تقرأ به القرآن والنغمة الموجودة في قراءتك للقرآن، فالقرآن غير كلام البشر، فهو كلام رب العالمين سبحانه وتعالى، وحين تقرأ القرآن تتغنى به، وتجد روعة أسلوب القرآن، من حيث ترتيب حروف القرآن، فهذا حرف يخرج من آخر الحلق، وهذا من أول الحلق، وهذا من عند اللسان، وهذا من عند الشفة، ويصير للكلمة نغمة. ولذلك العلماء الذين يفهمون في اللغة العربية يقولون: إذا أتينا بأقصر آية في القرآن فيها حكمة، وأقصر كلمة قالتها العرب فيها حكمة، وقارنا بين هذه وبين هذه فسيكون كلام العرب لا شيء أمام القرآن، فمثلاً: من الكلمات التي قالها العرب: القتل أنفى للقتل، قالوا: وهذا من أبلغ الكلام الذي قالته العرب، أي: أن القاتل عندما يقتل يمنع القتل بعد ذلك، لكن أين تقع هذه الكلمة التي قالوها بجانب قول الله عز وجل: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179]؟ فمخارج حروف الآية فيها سهولة، بخلاف كلمة (أنفى للقتل) ففي مخارجها صعوبة، وحروفها بعيدة عن بعضها، وليس فيها النغمة الموجودة في القرآن، وهكذا قول الله عز وجل: ((فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ)) أقصر من قولهم: القتل أنفى للقتل، وحين تقرأ كتاب إعجاز القرآن للباقلاني تجد فيه العجب من هذا الجنس، وهذا فن واحد من الفنون في الكلام عن بلاغة القرآن. فهناك فرق بين القرآن وبين أشعار العرب التي هي تعتبر أشياء عظيمة وقوية في اللغة العربية، فأين هذا مع تخريف شروش الجاهل المجرم الكافر النصراني الذي يقول: أنا آتي بمثل هذا القرآن؟! فلذلك محله مزبلة الناس يلقي فيها كلامه الذي يقوله، أما كلام رب العالمين فهو الذي يتحد الخلق أن يأتوا بسورة من مثله في مثل إتقانه وإحكامه وبلاغته وقوته، وما فيه من مذهب للحياة، وما فيه من إخبار بالغيب، وما فيه من إعجاز في كل الوجوه كما رأينا ونرى في سور هذا القرآن العظيم. فبدأ الله عز وجل هذه السورة بقوله: {حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غافر:1 - 2] فقوله: (حم) حرفان، ويشير بعدها إلى القرآن، وقد ذكرنا أن الغالب في الحروف التي في أوائل السور أنها إذا ذكرها الله عز وجل يعقب بعدها بذكر القرآن أو يشير إلى القرآن سواء بعدها مباشرة أو بعدها بآيات. والله سبحانه وتعالى قال في هذه الآية: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غافر:2]، فذكر اسمين من أسمائه: (العزيز) أي: الغالب سبحانه، (العليم) بما يقولون وما يفعلون، وهو الذي يحاسبهم سبحانه ويفصل القضاء بينهم وبين المؤمنين يوم القيامة، فكأنه يعرض لهم: أقلعوا عما أنتم فيه، وإلا فالله غالب على أمره، فالله يعلم ما تقولون وما تفعلون فيجازيكم عليه. وكذلك يعقب بقوله: ((تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ)) أي: أن الكتاب ليس هو من عند النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من عند الله، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: أنا ألفت هذا القرآن، فليس هو كلام النبي صلى الله عليه وسلم، إنما هو كلام رب العالمين، والفرق واسع جداً بين القرآن العظيم وبين حديث النبي صلى الله عليه وسلم الشريف وبين كلام البشر. أيضاً: في هذه السورة يذكر الله سبحانه اشتغال الكفار بالجدل في دين الله سبحانه وتعالى، وقد تكررت كلمة الجدل والمجادلين في هذه السورة حوالي خمس مرات. وكذلك ذكر الله الأمم السابقة وما فعلت مع أنبيائها وخاصة فرعون مع موسى، وبني إسرائيل مع موسى، ذكر الله سبحانه ذلك حتى يطمئن النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مكة وهو يؤذى والمؤمنون يؤذون أننا سننصركم كما نصرنا هؤلاء، ووعد الله: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51]. وفيها أيضاً التنبيه على تفرد الله عز وجل بالعبادة، وإبطال عبادة ما يعبده المشركون من دون الله، والتذكير بنعم الله سبحانه وتعالى على العباد، والإخبار بالبعث يوم القيامة، والإنذار بما يكون من أهوال يوم القيامة، وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم بأن يصبر؛ فإن النصر سيكون له. كذلك هذه السورة نزلت بعد سورة الزمر، فانظر إلى الخاتمة في سورة الزمر وإلى البداية في هذه السورة؛ فقد ختم الله سورة الزمر بذكر الجنة والنار، وبذكر أهل الجنة وأهل النار، وذكر رحمة رب العالمين وذكر عذاب رب العالمين سبحانه، وبدأ هذه السورة بما يشير إلى ذلك: أن الله سبحانه وتعالى العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو، فختم بما يدل على قوته وقدرته وعذابه لمن خالفه وعانده، ورحمته سبحانه للمؤمنين، وبدأ هذه السورة بما يدل على ذلك. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة غافر [1 - 4]

تفسير سورة غافر [1 - 4] في هذه الآيات يذكر الله تعالى بعض أسمائه الحسنى كالتي تدل على المغفرة والتوبة على التائبين، وفي المقابل يذكر بعض أسمائه التي تدل على الترهيب وشدة العقاب، وذلك ليكون المؤمن في حياته بين الخوف والرجاء، وفيها أيضاً ما يجب أن يكون عليه المؤمن من التسليم لآيات الله وعدم الخوض والجدل فيها بغير حق.

تفسير قوله تعالى: (حم) والكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور

تفسير قوله تعالى: (حم) والكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلي وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة غافر: {حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ * مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} [غافر:1 - 4]. سورة غافر هي أول السور التي تبدأ بـ (حم). وهي من السور المكية التي يرسخ الله عز وجل فيها أمر العقيدة في قلوب المؤمنين، بذكر الإيمان بالله سبحانه، وتوحيد الله سبحانه، وذكر اليوم الآخر، والجنة والنار، وذكر الابتلاء للمؤمنين وكيف صبروا حتى نصرهم الله سبحانه. بدئت هذه السورة بهذين الحرفين: (حم)، وكأنه سبحانه يذكر أن حروف اللغة العربية منها هذان الحرفان: حرف الحاء وحرف الميم، والسور التي يبدأ فيها بهذين الحرفين نجد أن أكثر ما يتكرر فيها هما هذان الحرفان، ولا نقول: إن ذلك هو الأكثر، ولكن هو من أكثر ما يتكرر فيها، فإذا بدأ الله عز وجل سورة بنون فإنك تجد حرف النون يتكرر فيها كثيراً، وهو غالب على غيره من الحروف، وقد يكون حرف الألف أكثر منه في السور، ولكن الغالب أن تكون هذه الحروف التي في فواتح السور تتكرر فيها أكثر من غيرها من الحروف. وأشار بعد قوله: (حم) إلى هذا الكتاب، وكأنه يشير إلى التحدي، فهذا كتاب نزل من السماء فهاتوا كتاباً مثله، وهاتوا شريعة مثل هذه الشريعة التي ذكرها الله عز وجل في كتابه العظيم، وجيئوا بكلام رصين متين قوي حكيم مثل هذا القرآن العظيم الذي جاء من عند رب العالمين سبحانه. (حم) وقد اختلف العلماء في المقصود بهما، والراجح أن الحروف المقطعة في فواتح السور من أسرار القرآن، ولذلك جمع بعض العلماء هذه الحروف التي في فواتح السور ليكونوا منها جملة، فأبعدوا منها الحروف المكررة وأبقوا الحروف التي لم تتكرر فوجدوا هذه الجملة: (نص حكيم قاطع له سر)، وهذه الجملة تؤيد قول من قال: إن هذا من أسرار القرآن، فعلمها عند الله سبحانه وتعالى، والعلماء يذكرون بعض الحكم كقولهم: إن هذه الحروف أكثر ما يتكرر في هذه السورة، فلعل هذا من الحكم، ولا يقال: هي الحكمة التي من أجلها جعل الله عز وجل هذه الحروف في أول السورة. وقال بعضهم: إنها للتحدي، وهذا أيضاً استنباط، فقالوا: إنه عندما يذكر الحروف المقطعة فإنه يشير بعدها مباشرة أو بعدها بآيات إلى هذا القرآن، نحو: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:1 - 2]، {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [آل عمران:1 - 3]، وهنا يقول: {حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غافر:1 - 2]. إذاً: من ضمن الحكم التي فيها أنها لتحدي الكفار، فهي من جنس الحروف التي تتكلمون بها. وأيضاً يقال: إن هذه الأحرف تسمى السور بها، فيقال: سورة (حم) فصلت، التي ذكرت فيها السجدة، ويقال: هذه حم غافر، التي ذكر فيها اسم الله عز وجل الغافر، وهذه سورة (الم) السجدة، أي: التي بدأت بـ (الم) وفيها السجدة، وكان يقرؤها النبي صلى الله عليه وسلم في فجر كل جمعة، وهكذا. وقيل: بل هي إشارة إلى أسماء الله سبحانه وتعالى، فالألف إشارة إلى الله، واللام إلى اللطيف، والحاء إلى الحميد والحكيم والحليم، وقد جاء عن العرب إشارات إلى مثل ذلك، كما قال بعضهم: قلت لها قفي فقالت: قاف. أي: وقفت، فهنا أشارت بحرف إلى ما تقصده، فلعل مثل هذا يحتمل، ولكن لا نقول: إن هذا هو المقصود. بل نقول: إن هذه الأحرف التي اختارها الله عز وجل في أول بعض السور من أسرار القرآن العظيم، والمراد بيان أن هذا القرآن من جنس هذه الأحرف التي تتكلمون بها. وأيضاً فالعرب ما كان من عادتهم إن يبدءوا الكلام بحروف القطعة، فعندما يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ويقرأ عليهم القرآن ويقول: ((الم)، فإن هذا يجعلهم ينتبهون، ويشد أذهانهم ليسمعوا هذا الكلام الذي لم يسمعوه من قبل، فيقوم ويقرأ عليهم بعد ذلك ما في هذا القرآن: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه:1 - 3]. إذاً: فالحروف التي في أوائل السور هي من أسرار هذا القرآن العظيم، لكن من الحكم التي في ذكرها بعض العلماء ما ذكرناه. قال سبحانه: ((حم))، وهذه فيها قراءتان: بفتح الحاء، وهي قراءة الجمهور، ويقرؤها بالإمالة ابن ذكوان وشعبة عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف: (حم)، فالحاء تمد مداً طبيعياً، والميم تمد مداً طويلاً.

تفسير قوله تعالى: (تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم)

تفسير قوله تعالى: (تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم) قال تعالى: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غافر:2] أي: هذا الكتاب العظيم نزل من الله ولم يقله النبي صلى الله عليه وسلم من عند نفسه، ومن أجلنا نزل هذا الكتاب من عند الله سبحانه الذي سمى نفسه بهذه الأسماء العظيمة، فالله هو العزيز، وهو العليم، وهو غافر الذنب، وهو قابل التوب، وهو شديد العقاب، وهو ذو الطول لا إله إلا هو إليه المصير، فهذا سبعة أسماء لله عز وجل تشتمل على صفاته سبحانه وتعالى، وقد جمعت في هاتين الآيتين في سياق جميل لطيف، وسياق متناسق، وبترتيب عظيم تقرؤه وتجد فيه نغمة في قراءتك له، وتجد فيها سهولة في النطق بها، ولو قدمت بعضها على بعضها فلن تجد فيها السهولة التي تجدها في ترتيب الله عز وجل لهذه الأسماء الحسنى. {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ} [غافر:2] أي: الغالب، وفيه إشارة إلى أنك لا تغالب ربك سبحانه؛ فإنه يغلبك سبحانه وتعالى، فمهما تحدى الإنسان ربه فلا بد وأن يهلكه ويقهره الله سبحانه، فهو العزيز الغالب الذي لا يقهر سبحانه وتعالى، والذي لا يمانع، والذين إذا قال للشيء: كن فلا بد أن يكون ما أراده سبحانه. {مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غافر:2]، وهذه من أسمائه الحسنى، فالله لفظ الجلالة، ومعناه: المتفرد بأن يعبد وحده لا شريك له، والمستحق للألوهية وحده لا شريك له، و (الْعَزِيزِ) هو الغالب سبحانه وتعالى، فهو غافر الذنب، وهو قابل التوب، وهو شديد العقاب، وهو ذو الطول، (غَافِرِ الذَّنْبِ)، فهو يتفضل على عباده بأن يغفر لهم ذنوبهم، (قَابِلِ التَّوْبِ)، وعد من الله عز وجل أنه يقبل توبة من يتوب إليه سبحانه، (شَدِيدِ الْعِقَابِ)، عدلاً منه سبحانه، فمن عاقبه الله فلم يعاقبه ظلماً، وإنما بعدله سبحانه وتعالى، {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر:3] أي: هو وحده الذي يستحق العبادة وإليه المرجع سبحانه. وأسماؤه عظيمة: الله، العزيز، العليم سبحانه، وهذه من أسماء الله الحسنى، والإنسان المؤمن عندما يذكر اسماً من أسماء الله فليفهم هذا الاسم، وليستعمل هذا الاسم في الدعاء في حاجته إلى ربه سبحانه وتعالى. وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة)، والله عز وجل له أسماء كثيرة جداً سبحانه منها ما نعلمه، ومنها ما لا نعلمه، ومن هذه الأسماء تسعة وتسعون اسماً (من أحصاها)، أي: من حفظها وفهم معانيها واستخدمها ودعا الله عز وجل بها، وآمن بها، فإنه يدخل الجنة. فالعزيز هو الغالب، فتعلم أنه غالب فلا تغالب ربك سبحانه، فترضى بقضائه وقدره، وتسلم له سبحانه، والعليم هو علام الغيوب، فهو يعلم كل شيء، ما كان وما سيكون، بل ويعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون، فالشيء الذي لم يوجد يعلم الله عز وجل لو وجد كيف سيكون، فيعلم كل شيء، فهو علام الغيوب، ويعلم السر وأخفى، ويعلم ما يخفيه الإنسان في قلبه، ويعلم نية الإنسان، ويعلم ما لم ينوِ الإنسان بعد، وماذا سيكون غداً.

تفسير قوله تعالى: (غافر الذنب وقابل التوب)

تفسير قوله تعالى: (غافر الذنب وقابل التوب) قوله تعالى: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر:3]. (غَافِرِ الذَّنْبِ)، من أسمائه: الغفور والغفار، وهو الغافر للذنب، والغفر: هو الستر والتغطية، فالله عز وجل يغفر الذنب، أي: يستره، فهو يستر على عباده، ويكفر السيئة ويمحوها ويزيلها، فالله يغفر لعباده ويستر عليهم ذنوبهم إذا تابوا إليه سبحانه. والذنب هنا جنس، وإذا كان جنساً فيعم، وليس المقصود به ذنباً واحداً، بل المقصود به جنس الذنوب كبائر وصغائر، فكل ما يقع فيه العبد إذا تاب إلى الله منه فالله يتوب عليه، حتى لو كان كفراً وشركاً، فإذا لم يكن شركاً ومات العبد عليه فهو في مشيئة الله سبحانه: إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه. قال تعالى: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} [غافر:3] (قابل التوب)، أي: يقبل توبة عباده، فمن تاب إلى الله من أي ذنب صغيراً كان أو كبيراً تاب الله عز وجل عليه. {َقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ} [غافر:3]، الله عز وجل يجعل عباده بين الخوف والرجاء، فإذا ذكر ناره ذكر جنته، وإذا ذكر عذابه وعقابه ذكر مغفرته ورحمته سبحانه؛ حتى لا ييئس العبد من رحمة الله سبحانه، فيضيق بسبب ذنوبه وعدم الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى، فيذكره بالجنة ويخوفه من النار، فيكون العبد بين الخوف والرجاء. (ذِي الطَّوْلِ)، أصلها من الطول، فهو الذي يعطي لعباده من فضله ورحمته، فأصله الشيء الطويل، فالله سبحانه وتعالى أعطى العباد نعماً جزيلة ومنناً عظيمة. أعطاهم رحمة عظيمة، وأعطاهم نعماً عظيمة، وأعطاهم سعة، وعنده الكثير سبحانه وتعالى، فهو صاحب النعم، وصاحب الفضل، وصاحب الغنى والسعة، فذكر أنه ذو الطول سبحانه وتعالى. (لا إله إلا هو) أي: إذا علمت أنه العزيز، وأنه العليم، وأنه الغافر للذنب، وأنه القابل للتوب، وأنه شديد العقاب، وأنه ذو الطول, علمت أنه لا يستحق العبادة إلا هو وحده لا شريك له، (إليه المصير) أي: إليه المرجع، فترجعون إلى الله في يوم القيامة ليجازيكم. وقوله تعالى: (حم)، جاء عن النبي صلوات الله وسلامه عليه أنه جعلها كلمة سر، فقد جاء في سنن أبي داود والترمذي ومسند الإمام أحمد من حديث رجل من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا أرى أعداءكم إلا يبيتونكم الليلة، فإذا بيتوكم فقولوا: حم لا ينصرون) ذكرها أبو داود بلفظ: (إذا بيتم فقولوا: حم لا تنصرون)، فالنبي صلى الله عليه وسلم توقع أن الأعداء سيأتون في الليل، فإذا هجم العدو عليهم بالليل وليس هناك نور ولا إضاءة فكيف ستميز بين العدو وبين المسلم، فلابد من كلمة سر تكون بين المسلمين يقولونها كي يعرف المسلم من أمامه، والحاجة الثانية لعل وراءها سراً عند الله سبحانه وفضلاً، فهذه آية في كتاب الله عز وجل: (حم)، فكأن هذا خبر عن الكفار أنهم إذا قلتم: (حم) فإنهم لا ينصرون، فكان المسلمون يقولون ذلك، وصار شعاراً لهم، وكلمة السر بينهم، فإذا رفع أحدهم سيفه فالذي أمامه يقول: (حم لا ينصرون)، فيعرف أنه مسلم، وهذا حديث صحيح.

تفسير قوله تعالى: (ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا)

تفسير قوله تعالى: (ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا) قال الله عز وجل: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} [غافر:4]، وقد نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن الجدل فقال: (إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء ولو كان محقاً)، فالمؤمن لا يجادل إلا إذا احتاج ذلك لنصرة دين الله سبحانه، والعلماء يذكرون أن الجدل لا يكون إلا لإيضاح ما التبس على الناس، فإذا لبس إنسان على الناس وخلط في دين الله سبحانه وتعالى وأدخل في قلوبهم الشك، فهنا ينبري له بعض المؤمنين من أهل العلم ليجادلوه ويردوا عليه فيما قاله من تحريف ومن كلام كذب، فقالوا: الجدل لإيضاح ما يلتبس على الناس، أو لحل مشكل مما يشكل على الناس، أو لردع إنسان يلبس على الناس في دين الله سبحانه، أو للرد على أهل البدع، ففي هذه الحالة يكون جائزاً، ودليله ما كان من إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وقد ذكره الله مادحاً له: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:258]، فهنا مدح الله عز وجل إبراهيم أن جادل النمرود وكذبه فيما يقوله، فقد أوهم الناس أنه يحيي ويميت، وادعى لنفسه ما ليس أهلاً له. فالغرض أن الجدل لنصر دين الله عز وجل جائز، لكن الأصل أن الإنسان المؤمن لا يجادل، ولا يتكلم إلا بعلم، ولا يكثر من الكلام؛ فالله قد كره لنا قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة غافر [4 - 7]

تفسير سورة غافر [4 - 7] إن الجدال في آيات الله لا لشيء إلا لردها كفر، وهو دأب الكفار والجاحدين، يجادلون لدفع الحق بباطلهم، وأنى لهم ذلك! فالحق منتصر، والباطل زائل، وأهله وإن تنعموا في الدنيا فإنما هو استدراج، ثم يأتي العذاب الشديد، أما المؤمنون الصادقون فإن عاقبتهم الحسنى، وإكرام الله لهم لا حدود له.

تفسير قوله تعالى: (ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا)

تفسير قوله تعالى: (ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة غافر: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ * وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ * الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:4 - 7]. في هذه الآيات يخبر الله سبحانه وتعالى المؤمنين عن أمر الكفار وجدلهم بالباطل ليدحضوا به الحق -ليزيلوا به الحق- الذي جاء من عند رب العالمين سبحانه، قال تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر:4]، فالكافرون دائماً أبداً يجادلون بالباطل، قال تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8]، وقال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32]. وقد ذكر الجدل في هذه السورة خمس مرات، وغاية الكفار من الجدل بالباطل رغبتهم في دفع الحق، فهم يريدون أن يزيلوا ما نزل من عند الله، وأن يمحوا أثره إن استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، قال سبحانه: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر:4]، فالذي يجادل بالباطل ليلبس على الناس دينهم، ويصرفهم عن آيات كتاب رب العالمين بالتشكيك كافر في كل عصر وفي كل مكان، ومن وسائلهم المشتهرة في تشكيك المؤمنين في آيات الله عز وجل أن يجادلوا فيها حتى يدخلوا الشكوك في القلوب، ويزرعوا الشبه في العقول. وقوله عز وجل: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر:4]، أسلوب قصر أفادته (ما) النافية و (إلا) الاستثنائية، والمعنى: ما يفعل هذا الجدل إلا الكفار، فدأبهم الجدال بالباطل ليدحضوا به الحق، ولكن الله أخذ هؤلاء وأتلفهم وأهلكهم جزاءً بما قدموا، وقال لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} [غافر:4] أي: فلا يغررك أن تركناهم، إنما نملي لهم ليستوجبوا المزيد من الرجس والعذاب، قال تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران:178]. وقوله: {فلا يَغْرُرْكَ} [غافر:4] أي: لا تغتر بما أعطيناهم، ولا يخدعك ذلك عن أمر الله وعن دين الله، والإنسان حين يرى الكافر يكفر بالله، ويجادل بالباطل، ومع ذلك يعطيه الله المال والبنين والقوة والرئاسة والمنصب في الدنيا، وإن كان مؤمناً قد يحدث في قلبه شيء مما يرى، ولذا يوجه الله نبيه فيقول: لا تغتر ولا تنخدع بما أعطيناهم، ولا يصرفنك ذلك عن دعوتك فإنك على الحق، ومثل النبي صلى الله عليه وسلم كل داعية في حتمية أن يبتليه الله سبحانه بمثل هؤلاء، فيرى أصحاب القوة والمنصب يتكلمون والناس يسمعون لما يقولون، ويراهم يهرفون بما لا يعرفون، فيتكلمون في دين الله، ويناقشون أهل الدين، وحين يتكلمون يتكلمون بصوت عال، ويراهم قد تملكوا صحفاً وقنوات فضائية تنشر تراهاتهم، وحين يأتي عالم الدين ليتكلم يسكته أذيالهم والمنبهرون بما هم فيه، وهم بذلك يظنون أنهم علوا على المؤمنين، ولا يدركون أنهم مهملين إلى حين، فإذا جاء أجلهم أخذهم الله وقصمهم قصماً شديداً أليماً جزاء بما كانوا يعملون. فقوله تعالى: {فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ} [غافر:4] أي: لا تغتر بتقلبهم في مناصبهم، وأموالهم، وذهابهم ومجيئهم وأسفارهم وهم يتكسبون في هذه الدنيا فإنما هو متاع قليل زائل، وما الذي نصنعه معك بإعطائهم وحرمانك إلا ابتلاء وفتنة ومحنة، قال تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:1 - 2]، بل لا بد وأن يفتن المؤمن ويبتلى حتى إذا قال له ربه: لا تحزن، يصدق ما يقوله الله عز وجل ولا يغتر بما هم فيه من الباطل، ويوقن أن الله ناصره يوماً من الأيام. قوله تعالى: {فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} [غافر:4] أي: تصرفهم في البلاد في ذهابهم ومجيئهم، في حكمهم ورياستهم وسلطانهم، وكل ذلك لا تغتر به، فلا تغتر إن سلمهم الله سبحانه فجعل فيهم صحة وعافية ومنحهم الأموال والبنين، فإن هذا متاع الحياة الدنيا إلى حين، ثم يسلب منهم حين يأتي أمر الله سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم)

تفسير قوله تعالى: (كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم) قال سبحانه: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [غافر:5]. هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولكل من يصلح له الخطاب أن ارجع بذاكرتك إلى الماضي وتذكر فقد أخبرناك في كتابنا عن كذب الكاذبين، وتكذيب المكذبين، الذين كذبوا على الله وافتروا عليه، وعبدوا غيره سبحانه وتعالى، وإن نوقشوا كانت حجتهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]. قوله: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} [غافر:5]، فدعا بعضهم بعضاً إلى الكفر بالله سبحانه، وتكذيب نبي الله نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وقالوا لنوح: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} [الشعراء:116]، أي: إما أن تسكت وإما أن نرجمنك، وقد دعاهم نوح عليه السلام إلى الله ألف سنة إلا خمسين عاماً، فكانت دعوة طويلة في عمر مديد، فكان يدعو الأجداد، والآباء، والأبناء، والأحفاد، يذهبون الأول فالأول وهو باق يدعو، حتى كان يوصي بعضهم بعضاً بالكفر بالله سبحانه وتعالى، فيذهب الأولون وقد أوصوا من بعدهم: لا تتبعوا نوحاً -على نبينا وعليه الصلاة والسلام- وقد أخبر الله عن عملهم ذاك فقال: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:23]، وكان من شأنهم أنهم صنعوا أصناماً ثم عبدوها وقالوا: هؤلاء كان يعبدهم آباؤنا وأجدادنا، فإياكم أن تتركوهم لدعوة هذا -يريدون نوحاً عليه السلام- لا تتركوا من كان يعبد آباءكم: {وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} [نوح:23 - 24]، وكان نوح عليه السلام قد دعاهم إلى عبادة الله، وبين لهم أتم البيان؛ بل لم يترك وسيلة ممكنة له تعينه في دعوتهم إلا واستخدمها، قال تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} [نوح:5 - 9]، فقد دعاهم بالسر ودعاهم بالعلن، دعاهم بالجهر ودعاهم في الخفاء، دعاهم بالتبشير وبالإنذار، بالتخويف وبالتطميع، ومع ذلك لم يسلم الكثير منهم، فكان يدعوهم لجنة عرضها السماوات والأرض، فيزهدوا فيها؛ لأنهم لا يريدون الجنة، ويخوفهم من نار تأكل أجسادهم خالدين فلا يحذرون منها، فاستحقوا أن يستجيب الله لنوح بإهلاكهم، وقد أشار الله عز وجل في الآية إلى ذلك، قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ} [غافر:5]. وقوله تعالى: {وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ} [غافر:5] الأحزاب هم: الذين تحزبوا، والتحزب هو التجمع، وتحزبوا: تجمعوا على أنبيائهم على نبينا وعليهم الصلاة والسلام، وقوله: (من بعدهم) أي: من بعد قوم نوح جاءت عاد، وثمود، وأصحاب الأيكة، وقوم لوط، وغيرهم كثيرون، قال تعالى: {وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} [الفرقان:38]. فالله سبحانه وتعالى خلق القرون، وأرسل إليهم رسلاً وأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فدعوهم إلى الله؛ فأبوا إلا الكفر. وقوله: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ} [غافر:5] أي: قبل هؤلاء المشركين من قريش كذبت قوم نوح، قوله: {وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ} [غافر:5] أي: كل من تحزب وتجمع على معصية الله وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام، ولم يتوقف تحزبهم على عدم الإيمان فحسب، بل عزموا أن يؤذوا أنبياء الله، قال تعالى: {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} [غافر:5]، كأن هذه سنة الله في خلقه، فكل أمة يرسل الله عز وجل إليها نبياً أو رسولاً يجتمعون على تكذيبه، وعدم الإيمان به، إلى إن يأتي أمر الله سبحانه وتعالى. وقوله: {لِيَأْخُذُوهُ} [غافر:5] أي: ليأسروه، أو يعذبوه، أو يهلكوه، ولما كان الحق أبلج غالباً لا محالة فقد أخذوا يدفعون حججه بالباطل وهذا دأبهم، قال تعالى: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ} [غافر:5]. وفي الآية إشارة للنبي صلى الله عليه وسلم: أن يا رسول الله -عليه الصلاة والسلام- لست أول من جادلك قومك بالباطل، بل كل الأمم السابقة جادلوا أنبياءهم عليهم الصلاة والسلام، وتماروا معهم مجادلين بالباطل دافعين للحق، قال تعالى: {لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [غافر:5]، قوله: (ليدحضوا) أي: ليزيلوا، والدحضة: الأرض المزلة التي تزحلق الذي يقف عليها، والمعنى: يردون الحق الذي جاء من عند رب العالمين بالباطل الذي يقولونه ويدعونه. ثم قال سبحانه: {فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [غافر:5] أي: أخذ كل هؤلاء بكلمة واحدة من الله: كن فيكون، وعبر عنها بقوله: (فأخذتهم) فأجمل، وفصل في موضع آخر، قال تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:40]، فذكر إهلاكهم في الآية الأولى، فهم لا يستحقون سوى ذلك، فانظر كيف كان عقاب الله لهم، قال تعالى: {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [غافر:5]، أي: انظر ما فعلناه بهؤلاء، فقد أخذنا الجميع، فلا ترى منهم من أحد، ولا تحس منهم من أحد، ولا تسمع لأحدهم صوتاً، أخذت الجميع ولم أبق أحداً منهم، كم صرخوا ونهقوا ورفعوا أصواتهم مجادلين بالباطل! كم أنكروا على أنبيائهم، واعترضوا عليهم، وأسكتوهم حين دعوهم إلى الله! كم اشمأزوا وظهر الاشمئزاز على وجوههم حين ذكر الله وحده سبحانه وتعالى! وكم استبشروا حين ذكر غير الله سبحانه وتعالى! قال سبحانه: {فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [غافر:5]، وإذا أخذهم الله فلن يتركهم ولن يفلتهم، ولن يعجزوا الله سبحانه. وقوله: (فكيف كان عقاب) أي: كيف كانت عقوبتي لهؤلاء؟ وفيها قراءتان: الوقف عليها بالسكون، وهي قراءة الجمهور، والوقف عليها بالياء والوصل وهي قراءة يعقوب، فيقرؤها: (فكيف كان عقابي)، والمعنى: كيف كان عقابي لهؤلاء.

تفسير قوله تعالى: (وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا)

تفسير قوله تعالى: (وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا) قال تعالى: {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر:6]، قوله: (وكذلك) يفيد تشبيهاً لشيء مذكور قبل ذلك، والمعنى: كهذا الذي ذكرناه أهلكنا هؤلاء السابقين، وقوله: (حقت كلمة ربك) أي: وجبت كلمتنا على كل إنسان كافر مكذب لرسل الله عليهم الصلاة والسلام، مكذب بوعد الله سبحانه أننا نهلكه، فمعنى: {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ} [غافر:6] أي: وجبت، {كَلِمَةُ رَبِّكَ} [غافر:6]، ومثلها كلمة (العذاب) أي: أنه يعذبهم بالنار سبحانه، وكلمة وكلمات، أي: ما جاء في وعد الله عز وجل في كتابه سبحانه، قال تعالى: {لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:119]، فقوله: (لأملأن) وعد من الله سبحانه وتعالى أن يفعل ذلك، فحقت كلمة ربك على هؤلاء أن يجمعهم إلى النار. وفي قوله: (حقت كلمة) قراءات: فتقرأ: (كلمات) بالجمع، وهي قراءة نافع وأبي جعفر وابن عامر، وباقي القراء بالإفراد (كلمة) فيقرءونها: (وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار).

تفسير قوله تعالى: (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم)

تفسير قوله تعالى: (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم) قال سبحانه: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:7]. قوله: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ} [غافر:7]، العرش مخلوق خلقه الله سبحانه وتعالى، وهو غير كرسي الله سبحانه، وكلاهما مخلوقان خلقهما الله سبحانه وتعالى، والله مستو على عرشه، خلق الأرض وخلق السماوات فجعلها سبع سماوات، وفوق السماوات كرسي الله سبحانه وتعالى، فلو جمعت السماوات والأرضين وما بينهما، ثم قرنت بكرسي الله سبحانه وتعالى لكانت كالحلقة في الفلاة، فلا وجه للمقارنة بين السماوات السبع العظيمة، وما فيها من أجرام، وما فيها من أفلاك، وما فيها من نجوم، وما فيها من مخلوقات لله عز وجل، وبين كرسي الله سبحانه؛ إذ لو قرن كل هذا بكرسي الله سبحانه لكان كما توضع حلقة في صحراء فتأمل نسبتها منها! والعرش هو السرير الذي يجلس عليه الملك، يقال في ملوك الدنيا: عرش الملك، أي: السرير الذي يستوي عليه، ولله المثل الأعلى، فلا نشبه ربنا سبحانه وتعالى، ولا ننفي ما قاله سبحانه عن نفسه حيث قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]. وقد ذكر صفة الاستواء في سبعة مواضع من كتابه سبحانه وتعالى، فالله خلق العرش وهو لا يحتاج إليه، ولكن خلق ذلك ليري الخلق عظمته، فهو العظيم سبحانه وتعالى، فإذا عرفت أن العرش عظيم جداً فكيف بالذي استوى عليه وهو الله سبحانه وتعالى! ويحمل عرش الرحمن سبحانه وتعالى الملائكة، وهو مستغن عن العرش وما دونه، وهو فوق كل شيء أحاط بكل شيء سبحانه وتعالى، قال سبحانه: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17]، وقد حدثنا عنهم النبي صلى الله عليه وسلم، أو أذن له أن يحدث عن هؤلاء فقال: (أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش) أي: أذن له أن يصف هذا الملك بما يقربه للأذهان حتى تدرك عظمة الله سبحانه وتعالى، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام)، وإذا كان هذا ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه فكيف برأسه! وكيف ببدنه! وكيف بحجمه كله؟! لا شك أن هذا شيء عظيم جداً. وحملة العرش هم أقرب الملائكة لله سبحانه وتعالى، وأشرف الملائكة هم الذين قربهم الله عز وجل من عرشه فهم يحملون العرش. وقوله: (ومن حوله) أي: ومن حول حملة العرش، فجعل الله عز وجل وظيفة لأشرف الملائكة وهي أنهم يحملون العرش وكذلك: {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:7]، فجعل أشرف الملائكة من رحمته العظيمة سبحانه وتعالى يستغفرون للعبد المؤمن، وتقول: يا رب! اغفر لفلان، يا رب! اغفر لفلان، وكون الإنسان بشراً فمن طبعه أنه يقوم وينام، ويصوم ويفطر، ويذكر ويغفل، أما الملائكة فهم في عبادة دائمة، لا يفترون ولا يسأمون من تسبيح الله سبحانه، وذكره ليل نهار. يقول إبراهيم النخعي: كانوا يقولون: لا يحجبون الاستغفار عن أحد من أهل القبلة، أي: أن جميع أهل القبلة تستغفر لهم الملائكة. ويقول مطرف بن عبد الله: وجدنا أنصح عباد الله لعباد الله الملائكة، ينصحون فيستغفرون للمؤمنين، ويحبون المؤمنين، ووجدنا أغش عباد الله لعباد الله الشيطان، يغويهم ويمنيهم ويضلهم. ويقول يحيى بن معاذ الرازي في هذه الآية: فما في العالم جُنة أرجى منها، آية يستجن بها الإنسان، ويتقي بها غضب الله سبحانه وتعالى، فحق على المسلم أن يحب هذه الآية لما فيها من رحمة رب العالمين، إذ فيها أن الملائكة تستغفر للخلق، فطالما كان العبد على عبادة الله محباً لله وملائكته ورسله متبعاً لدين الله ماضياً على منهاجه الإسلامي القويم، فالملائكة تستغفر له. ثم يقول: إن ملكاً واحد لو سأل الله أن يغفر لجميع المؤمنين لغفر لهم، كيف وجميع الملائكة وحملة العرش يستغفرون للمؤمنين؟ وليس كل إنسان يقول: أنا مسلم، وهو تارك لدين الله وراءه، مضيع لصلاته متكاسل عن أمر الله تستغفر له الملائكة، فهم إنما يستغفرون للذين آمنوا، الذين يصدقون ويعتقدون ويعملون بمقتضى ذلك. يقول خلف بن هشام البزار أحد القراء العشرة: كنت أقرأ على سليم بن عيسى، فلما بلغت هذه الآية: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:7]، بكى، ثم قال: يا خلف! ما أكرم المؤمن على الله سبحانه وتعالى! ما أكرم المؤمن على الله نائماً على فراشه والملائكة يستغفرون له. فالمؤمن كريم على الله سبحانه وتعالى، فقد جعل سبحانه الملائكة تستغفر له، وتجلس معه في حلق الذكر فتحف الذاكرين بأجنحتها، قال صلى الله عليه وسلم: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده)، وقال أيضاً: (إن لله ملائكة سياحين في الأرض، يبحثون عن مجالس الذكر، فإذا وجدوها تنادوا: هلموا إلى بغيتكم، فيحفون الذاكرين بأجنحتهم). والملائكة لا يسأمون من التسبيح لله تعالى، فهم ينزهونه ويقدسونه سبحانه، ويؤمنون به، ويستغفرون للذين آمنوا، الذين تشبهوا بالملائكة في الإيمان، إذ الملائكة يؤمنون بالله سبحانه، ولذلك بدأ بالتسبيح قبل الإيمان؛ حتى يكون المؤمنون وراء الملائكة، فجمع الاثنين: التسبيح والإيمان بالله سبحانه، ولا غرو أن يقال: أخوة إيمانية. قوله: {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [غافر:7] أي: أنهم خلقوا لذلك، وقوله: (بحمد ربهم) أي: حامدين الله سبحانه في تسبيحهم إياه، ثم قال سبحانه: {وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} [غافر:7] أي: يؤمنون بالله سبحانه، {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:7] قائلين: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر:7]. أي: يا ربنا! يا من وسعت رحمتك كل شيء! إلا تسع هؤلاء المؤمنين، وفي الآية يعلمنا الله سبحانه أدب الدعاء، فيحبذ أن يقول العبد: يا رب! اغفر لي، يا من غفرت للمؤمنين! إلا تغفر لي، يا رب! اغفر لي مع المؤمنين، أنا من المؤمنين، فلا تجعلني أقل خلقك وأحقرهم عندك، فالملائكة يرجون ربهم سبحانه متوسلين بذلك: يا ربنا يا من: {وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً} [غافر:7] ومعنى ذلك أي: وسعت كل شيء برحمتك وأحطت كل شيء بعلمك. ثم يقول سبحانه: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا} [غافر:7] أي: فاغفر للمؤمنين الذين تابوا إليك، ولذلك إذا تاب العبد إلى الله تاب الله عز وجل عليه، والملائكة تستغفر لهؤلاء التائبين، كما أثبت لنا ربنا ذلك فقال سبحانه: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:7].

تفسير سورة غافر [7 - 9]

تفسير سورة غافر [7 - 9] لله سبحانه وتعالى ملائكة يسبحون بحمده، وهؤلاء الملائكة لا يحصي عددهم إلا الله سبحانه، ومنهم حملة العرش، ووظيفتهم أنهم يحملون عرش الرحمن ويسحبون بحمده، ويستغفرون للمؤمنين الذين اتبعوا ولم يبتدعوا واستنوا ولم يخترعوا.

حملة العرش ودعاؤهم للمؤمنين

حملة العرش ودعاؤهم للمؤمنين بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة غافر: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر:7 - 9]. يخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات من سورة غافر عن فضله وكرمه سبحانه بأن جعل الملائكة الذين هم أشرف الخلق عند الله عز وجل -وهم حملة العرش- يسبحون بحمد ربهم سبحانه، (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا). فالمؤمن يعمل العمل الصالح ويرجو فضل الله سبحانه، وقد يقع في المعاصي ثم يتوب ويرجع إلى الله عز وجل، ويستغفر ربه، والله يغفر ويتوب عليه سبحانه، والملائكة تستغفر له أيضاً، وأشرف وأعظم ملائكة الله عز وجل هم حملة العرش الذين يستغفرون للمؤمنين. روى أبو داود عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش أن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام)، ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه، هذه المسافة الصغيرة التي لا تتجاوز عدد قليل من السنتيمترات في الإنسان، وفي ملك من ملائكة الله عز وجل من حملة عرش الرحمن سبحانه تصل إلى مسافة سبعمائة عام، فكيف بباقي جسد هذا الملك؟! فحملة عرش الله يسبحون بحمد ربهم، ويقدسونه، وينزهونه عن كل نقص سبحانه وتعالى، فيسبحون الله ويحمدونه ويؤمنون به، وأيضاً من وظيفتهم: أن يستغفروا للمؤمنين.

حملة العرش يسبحون بحمد ربهم

حملة العرش يسبحون بحمد ربهم قال الله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17]، فحملة العرش عددهم ثمانية كما أخبر الله سبحانه وتعالى في كتابه بذلك، وجاء عن النبي صلوات الله وسلامه عليه في حديث ذكر فيه حملة العرش أنهم من أول من يسمع أوامر الله سبحانه وتعالى، فروى مسلم من حديث رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينما نحن جلوس ليلة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ رمي بنجم فاستنار)، وهم جالسين مع النبي صلى الله عليه وسلم رأوا نجماً يرمى به من السماء، فاستنار هذا النجم ورآه الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم، فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم: (ماذا كنتم تقولون في الجاهلية إذا رمي بمثل هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم -قالوا ذلك متأدبين مع النبي صلى الله عليه وسلم- أما نحن فكنا نقول: ولد الليلة رجل عظيم ومات رجل عظيم). فكانوا في الجاهلية إذا رأوا الشهاب يقذف به في السماء يقولون: سيولد رجل عظيم أو سيموت هذه الليلة رجل عظيم، وهذه من خرافات أهل الجاهلية، فالنبي صلوات الله وسلامه عليه قال لهم: (فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته، ولكن الله إذا قضى أمراً سبح حملة العرش)، فأول من يسمع أوامر الله سبحانه وتعالى حملة عرشه، وهؤلاء الملائكة المقربون من رب العالمين سبحانه، فيقدر الأمر ويأمر به، فأول من يسمع حملة العرش، فإذا سمعوا ذلك سبحوا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قضى أمراً سبح حملة العرش، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم)، وكلما كانوا أقرب من حملة العرش كانوا أقرب إلى رب العالمين سبحانه وتعالى، فتسبح حملة العرش، ويسبح الملائكة الذين يلونهم، قال: (حتى يبلغ التسبيح أهل هذه السماء الدنيا، ثم قال الذين يلون حملة العرش لحملة العرش: ماذا قال ربكم؟ قال: فيخبرونهم ماذا قال، قال: فيستخبر بعض أهل السماوات بعضاً حتى يبلغ الخبر هذه السماء الدنيا فتخطف الجن السمع فيقذفون إلى أوليائهم ويرمون به)، أي: يظل أهل السماء يتناقلون هذا الخبر، فالملائكة الأقربون يخبرون من يليهم حتى يصل الخبر إلى ملائكة السماء الدنيا، فكانت الشياطين والجن يسترقون السمع، ويتسمعون إلى خبر السماء، فيأخذونه لينزلوا به إلى الأرض، وهذا امتحان من الله لأهل الأرض، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فتخطف الجن السمع فيقذفون إلى أوليائهم ويرمون به)، أي: يقذفون الخبر إلى أوليائهم من الجن، ثم إلى أوليائهم من الإنس، والله عز وجل يرمي هؤلاء بالشهاب الثاقب ليحرقهم به، قال: (فما جاءوا به على وجهه فهو حق، ولكنهم يقذفون فيه ويزيدون)، أي: ينزل خبر السماء فتزيد فيه الشياطين، ويقولونه لأوليائهم من أهل الأرض، ويخبرون به الناس، فالكلمة من الحق تحدث ابتلاء للناس. وقد نهينا أن نصدق الكهنة والعرافين، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أتى كاهناً أو عرافاًَ فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد)، فلو أن كلام العرافين والكهنة كله كذب لما أتاهم أحد، ولكن الله يبتلي الخلق بأن يقول هؤلاء كلمة فيها من الصدق، ليمتحن أهل الأرض هل سيصدقونهم أو سيطيعون أمر الله في تكذيب هؤلاء؟ فالله أمرنا بتكذيبهم، وقد نهينا أن نأتي إليهم أو نستمع إلى ما يقولون، فهم يزيدون ويكذبون على الله سبحانه وتعالى.

حملة العرش يمجدون ربهم سبحانه

حملة العرش يمجدون ربهم سبحانه حملة العرش هم أقرب الملائكة لرب العالمين سبحانه وتعالى، وهم الملائكة المقربون الذين جعلهم الله عز وجل حملة عرش الرحمن، يؤمنون بالله عز وجل ويسبحون بحمده ويستغفرون لمن في الأرض من المؤمنين، قال الله عز وجل: ((وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا)) قائلين: ((رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا))، وهنا يعلم الله عز وجل المؤمن كيف يدعو ربه سبحانه، وكيف يسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وبرحمته التي وسعت كل شيء، كما تدعو الملائكة للإنسان فيقولون: ((رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا)) فـ (ربنا) فيه صفة الربوبية لله سبحانه وتعالى، ومقتضاها قدرة الله على كل شيء، وأفعال يفعلها الله سبحانه لا يقدر أحد أن يفعل مثلها، فالله الفعال لما يريد، فهو الخالق، البارئ، المصور، وهذا من ربوبيته سبحانه، وهو الذي يشرع لعباده ما يشاء وما يريد، وهو الله الرب القادر الذي يخلق ويرزق ويحيي ويميت، فيتوسلون إليه بصفة الربوبية، ويقولون: يا ربنا! يا من أنت قادر على كل شيء، ((وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا))، فمن صفات ربوبيته سبحانه وتعالى أنه يرحم كل شيء بمشيئته، وتسع رحمته كل شيء سبحانه، وقد كتب هذه الرحمة للمؤمنين. ومن صفاته سبحانه أنه ذو العلم العظيم علام الغيوب، وهو عالم الغيب والشهادة، وقوله: ((وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ)) أي: أحطت بكل شيء علماً، ووسعت كل شيء رحمة، ومن أدب الدعاء حين تدعو ربك سبحانه أن تتشبه بملائكة الله عز وجل، فتبدأ بالثناء عليه سبحانه، ولا تعجل في الدعاء، وليس مجرد أن ترفع يديك وتقول: يا رب أعطني كذا، ولكن ابدأ بالثناء على الله سبحانه وتعالى، والصلاة على النبي صلوات الله وسلامه عليه، ثم سل الله سبحانه وتعالى، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً دعا ربه فبدأ بالدعاء والمسألة فقال له: (عجلت)، أي: تعجلت، فليس هذا أدب الدعاء، إنما الدعاء أن تبدأ فتثني على الله سبحانه وتعالى بما هو أهله وتحمده، وتمجده وتصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم سل الله سبحانه بعد ذلك ما تريد.

حملة العرش يستغفرون للمؤمنين

حملة العرش يستغفرون للمؤمنين يقول الله عن الملائكة أنهم يقولون: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا} [غافر:7]، فيدعون للمؤمنين التائبين إلى ربهم سبحانه وتعالى، والمتبعين سبيل رب العالمين، لا للمبتدعين، فقالوا: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} [غافر:7]، ولم يبتدعوا، ولم يتنكبوا طريق الله سبحانه، ولم يسيروا مع الشيطان، ولم يخترعوا أشياء غير دين الله فيمشون فيها ويوهمون الخلق أنها من دين الله، وإنما الذين يتبعون سبيل الله، فسبيله واحد وهو الطريق خلف النبي صلوات الله وسلامه عليه. وقوله: {وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:7]، فدعوا للمؤمنين أن يقيهم الله عذاب الجحيم، و (غفر) بمعنى: ستر، أي: ستر سيئاتهم، وستر هذه الذنوب ومحاها عنهم وبدلها من الحسنات ما يشاء. وقوله: ((وَقِهِمْ)) هذه قراءة الجمهور، وقرأها رويس عن يعقوب: {وَقِهُمُ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:7]، أي: اجعل وقاية وحاجزاً بينهم وبين عذاب الجحيم، والجحيم: النار، ولها أسماء تدل على فضاعة أمرها وعظيم شأنها، فسماها (الجحيم) وكل نار عظيمة الهوة فهي جحيم. فالنار التي تكون عظيمة في مكان منخفض أو في حفرة عظيمة يطلق عليها: الجحيم، والجحيم النار الشديدة المتأججة، والجمر يطلق عليه الجحيم، ويقال للنار: جاحم؛ لأنها مشتعلة حمراء تتوقد وتلتهب على أصحابها، ونار الجحيم بمعنى: شديدة الاشتعال، ومن ذلك قولهم: جحمة الأسد أي: عين الأسد، فالأسد حين يأكل فريسته تحمر عيناه، فيدعو الملائكة ربهم للمؤمنين ويقولون: ((وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ))، فهي نار، وهي جحيم، وهي لظى، وهي سعير، وأسماؤها تدل على معانيها.

حملة العرش يدعون للمؤمنين بدخول الجنة

حملة العرش يدعون للمؤمنين بدخول الجنة قال الله تعالى عن الملائكة أنهم يقولون: {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [غافر:8]، فيدعون ربهم للمؤمنين أن يقيهم عذاب الجحيم، وأن يدخلهم جنات عدن، والجنات فيها بساتين عظيمة، وفيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. فقوله: ((رَبَّنَا)) يعني: يا ربنا! ((وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ)) والعدن بمعنى: الإقامة الدائمة، أي: جنات الإقامة الدائمة، فيقيمون فيها فلا يخرجون منها أبداً، وقوله: ((الَّتِي وَعَدْتَهُم)) أي: في كتبك، وعلى ألسنة رسلك عليهم الصلاة والسلام، بمعنى: وعدت المؤمنين، ووعدت من صلح من الآباء، فأدخلهم وأدخل الصالحين من آبائهم، وأزواجهم وذرياتهم، والمؤمن يدخل الجنة ويدخل معه الصالحون من أهله، وهم الذين يستحقون أن يوصفوا بأنهم من أهله، فإن كانوا غير صالحين فلا يستحقون هذه الصفة، ولذلك قال نوح يدعو ربه سبحانه: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود:45]، فكان الجواب من الله عز وجل: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46]، أي: هذا عمله عمل غير صالح لا يستحق أن يوصف بأنه من أهلك. فيوم القيامة يدخل الجنة الرجل الصالح، ويدخل معه الصالحون من أهله، ويتفضل الله سبحانه على عباده، ويرينا كرمه العظيم، فقد يعمل الرجل العمل العظيم الصالح ويكون له في الجنة منزلة عالية عظيمة، وتكون زوجته امرأة صالحة تقية، ولكن لم تبلغ عمله، ويكون أولاده أيضاً على صلاح وعلى تقى، ولكن لم يبلغوا عمل أبيهم، فإذا بالله عز وجل يدخل هذا الرجل في أعلى الجنات، فينظر فيقول: أين زوجتي وأولادي؟ فيقال له: دخلوا، ولكن ليسوا في منزلتك، فيقول: لكني أنا عملت، فيتكرم الله سبحانه ويرفع هؤلاء إلى درجة أبيهم معه في الجنة، ولذلك دعت الملائكة ربها سبحانه أن يدخل هؤلاء الصالحين الجنة ((وَمَنْ صَلَحَ)) من الآباء، والصالحات من الأزواج، ((وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ))، أي: من جاءوا منهم من الأبناء والأحفاد وغير ذلك يدخلون الجنة مع آبائهم، وغير الصالحين لا ينتفعون بصلاح آبائهم. ثم قالوا: ((إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)) فلما قالوا: قهم عذاب الجحيم، وأدخلهم جنات عدن، ناسب أن يقول الله سبحانه ويذكر بعد ذلك في دعائهم: ((إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ))، والعزيز: هو الغالب، فأدخلت العصاة النار، ووقيت هؤلاء الصالحين شر النار وعذاب النار فأنت الحكيم يا ربنا في أن أدخلت هؤلاء الجنة، وأدخلت معهم الصالحين دون غيرهم، فإذا قال أحدهم: هؤلاء أبنائي وكنت أرحمهم في الدنيا، فيقال: إنهم كانوا غير صالحين، فالله حكيم في أقواله، حكيم في أفعاله سبحانه وتعالى، يعذب من عصاه سبحانه، ويرحم من أطاعه، فهو الرحيم بالمؤمنين، وهو شديد العقاب للكافرين والفجار.

حملة العرش يدعون للؤمنين بأن يقيهم الله السيئات

حملة العرش يدعون للؤمنين بأن يقيهم الله السيئات يقول الله سبحانه عن الملائكة أنها تدعو وتقول: {وَقِهِمْ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُِ} [غافر:9]، أي: قهم سوء أعمالهم، فإذا وقعوا في شيء وتابوا إليه فقهم ولا تعذبهم على ذلك يوم القيامة، ((وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ))، من وقيته أي: من حجبت عنه عذاب سوء عمله في الدنيا فهذه رحمة عظيمة، فلو أن الله عز وجل أدخل العبد النار فهذا عذاب أليم، ولو أنه وقاه عذاب النار فهذه رحمة عظيمة، فكيف إذا وقاه عذاب النار وأدخله الجنة؟ فهذه من أعظم رحمة رب العالمين سبحانه. وقوله: ((وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ)) أي: يوم القيامة، ((فَقَدْ رَحِمْتَهُ)). وقوله: ((وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ)) قراءة الجمهور، وقراءة حمزة والكسائي وخلف وكذلك رويس عن يعقوب: ((وَقِهُمُ السَّيِّئَاتِ))، بضم الهاء والميم، والقراءة الأخرى لـ رويس فيها وهي قراءة روح وقراءة أبي عمرو: {وَقِهِمِ السَّيِّئَاتِ} [غافر:9]، بكسرتين فيها، ففيها ثلاث قراءات. قال تعالى: {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر:9]، أي: النجاة الكبيرة العظيمة التي يبتغيها كل إنسان مؤمن. نسأل الله عز وجل أن يقينا السيئات يوم القيامة، وأن يدخلنا في رحمته وهو أرحم الراحمين. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة غافر [10 - 15]

تفسير سورة غافر [10 - 15] في هذه الآيات بيان ما سيكون عليه الكفار يوم القيامة من الاعتراف بذنبهم وكفرهم وعدم استجابتهم لشرع الله، ثم بعد ذلك يمقتون أنفسهم ويكرهونها؛ وذلك جزاءً وفاقاً، فقد كانوا في الدنيا يزهون بها ويترفعون بها على الحق وأهل الحق، وفي ذلك اليوم حين يحق الله الحق يبغضونها. وفيها أيضاً بيان ما عليه الكفار والمنافقون من الاستئناس بالباطل والنفور من الحق، بخلاف أهل الإيمان والتقوى.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة غافر: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ * قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ * ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ * هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ * فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ} [غافر:10 - 15]. يخبرنا ربنا سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن حال الكفار يوم القيامة حين يعذبهم الله عز وجل، ويدخلهم النار، ويعلمون أن هذا الجزاء الصعب الذي عاينوه هو بسبب من أنفسهم، فيبغضون ويكرهون أنفسهم في ذلك الوقت حين يعذبهم الله سبحانه. فإذا مقتوا وأبغضوا أنفسهم نادتهم الملائكة: إن الله يبغضكم أشد من بغضكم لأنفسكم، يقول الله سبحانه: ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ)) أي: تناديهم الملائكة، {لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [غافر:10]، والمقت: هو أشد البغض والكره، وقد مقتهم الله حين كذبوا رسل الله عليهم الصلاة والسلام، وحين عارضوا ربهم، وجحدوا آياته، ففي هذا الحين استحقوا غضب الله ومقته وبغضه سبحانه، فلما جاءوا يوم القيامة أبغضوا أنفسهم حين رأوا العذاب، وعلموا أنه بسبب تكذيبهم، وبسبب إعراضهم، وبسبب قلة عقولهم، فأبغضوا أنفسهم فنادتهم الملائكة بذلك. يقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [غافر:10] أي: أشد، {مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ} [غافر:10] أي: حالة وحين {تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [غافر:10] أي: مقتم الله في الدنيا في حال أن دعتكم أنبياء الله إلى الإيمان بالله فأعرضتم وكذبتم، فاستحققتم مقت الله سبحانه، {إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [غافر:10] يعني: في حال دعتكم رسل الله إلى الإيمان فكفرتم وكذبتم مقتكم الله عز وجل أشد المقت.

تفسير قوله تعالى: (قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين)

تفسير قوله تعالى: (قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين) قال تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} [غافر:11]. فانظر إليهم في الدنيا وانظر إليهم في الآخرة، ففي الآخرة يتواضعون حين يرون العذاب، وفي الدنيا كانوا مستكبرين يتعالون على ربهم سبحانه، وعلى أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام، فلا يصدقون ولا يؤمنون، فيتضرعون وهم في النار في الآخرة يقولون: (ربنا)، فهذا ربهم الذي جحدوه قبل ذلك وكذبوه، وكانوا إذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوبهم، وإذا دعي غير الله سبحانه وأشرك به {إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر:45]، فهذا في الدنيا، فلما عاينوا العذاب، ورأوا هلاكهم {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر:11]، فعرفوا قدرة الله العظيمة يوم القيامة، وفي الدنيا أعرضوا، وكذبوا، وجحدوا، واستكبروا، وفي الآخرة قالوا: يا ربنا! أنت على كل شيء قدير، فأنت الذي أوجدتنا من عدم، فقد كنا نطفاً في آبائنا أمواتاً فأحييتنا، وأوجدتنا في أرحام أمهاتنا، وخلقتنا هذا الخلق الذي خلقتنا عليه، فكنا في هذه الدنيا أحياء فكذبنا وأعرضنا، ثم قدرت علينا الموت فقبضت أرواحنا، ثم أحييتنا بالبعث والنشور، فهنا إماتتان وإحياءان، فالأولى حين لم يكونوا شيئاً، أو كانوا نطفاً لا حياة فيها بالمعنى المعروف للحياة، ثم كانت هذه النطف أجساداً في بطون الأمهات ونفخت فيها الأرواح، فهذه الحياة الأولى، ثم أماتهم فأقبروا، وهذه الموتة الثانية، ثم بعثهم فنشروا، وهذه الحياة الثانية، قال تعالى: {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر:11]، والمعنى: أنك يا ربنا على كل شيء قدير، فكما قدرت على الإماتة وعلى الإحياء فإنك تقدر على إرجاعنا إلى الدنيا مرة ثانية، {فَارْجِعْنَا} [السجدة:12]، أي: يتوسلون إلى الله سبحانه بصفاته وبقدرته سبحانه العظيمة، فأنت على كل شيء قدير فأعدنا مرة ثانية إلى الدنيا حتى نعبدك. والله سبحانه أعلم أن هؤلاء لا ينفع معهم ذلك، قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:28]، أي: لو ردوا إلى الدنيا لعادوا لما نهاهم الله عز وجل عنه من الكفر والشرك بالله، ولأعرضوا عن ربهم، ولكفروا وكذبوا مرة ثانية، فالله يعلم أنهم لا يستحقون إلا النار. قال الله سبحانه عن هؤلاء: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} [غافر:11]، فهل هناك أي صورة أو وسيلة للخروج من النار؟!

تفسير قوله تعالى: (ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم)

تفسير قوله تعالى: (ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم) يقول لهم سبحانه: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر:12]، وهنا حذف يدل عليه الكلام، يقول الله عز وجل: (ذَلِكُمْ) أي: هذا العذاب الذي تعاينونه، وتتعرضون له، وكأنه يقول: إنكم تستحقون هذا العذاب، و A لا، ليس إلى الخروج سبيل والعياذ بالله. أي: لا سبيل إلى الخروج؛ وذلك لأنكم تستحقون ذلك، فقد كذبتم قبل ذلك العذاب الذي تدخلونه وتعاينونه، وكنتم (إِذَا دُعِيَ اللَّهُ) أي: كنتم قبل ذلك إذا وجدتم من يوحد الله سبحانه ويعبده تشمئزون وتكفرون، {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} [غافر:12]، وكان إيمانهم كما قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106]، فيقولون: الله هو الخالق، لكن إذا قيل لهم: اعبدوه، قالوا: إنها تقربنا إلى الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87]، ومع ذلك فهم يعبدون غير الله سبحانه، فلا يصدقون بالله إلا وهم يشركون بعبادته سبحانه. قال سبحانه: {وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر:12]، فالحكم له وحده سبحانه، فهو الذي يحكم فيكم بهذا العذاب، وهو العلي سبحانه لا شيء أعلى منه سبحانه، ولا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه سبحانه، ولا غالب لأمره، فهو الذي يعلو سبحانه وتعالى فوق كل شيء، فحكمه أعلى وفوق كل حكم، فالحكم لله العلي، فله علو الذات سبحانه، وله علو الشأن سبحانه، وله علو القهر سبحانه، فهو فوق كل شيء، وأكبر من كل شيء، ويحكم على كل شيء، ولا معقب لحكمه سبحانه. يقول محمد بن كعب القرظي: إن أهل النار لما يئسوا مما عند الخزنة وقال لهم مالك: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77] قال بعضهم لبعض: يا هؤلاء! إنه قد نزل بكم من العذاب والبلاء ما قد ترون فهلم فلنصبر، فصبروا، فطال صبرهم، ثم جزعوا فقالوا: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم:21]، فلا ينفع الصبر في النار، وسواء صبروا أو جزعوا فما لهم من مهرب ولا مخرج ولا مخلص منها، فقالوا: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ * وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم:21 - 22]. فقد تبرأ الشيطان منهم في هذا الوقت، وهو الذي دعاهم في الدنيا إلى عبادة غير الله فاتبعوه، فلما جاءوا يوم القيامة نظروا فلم يجدوا لهم مهرباً، ولم يجدوا لهم سبيلاً للخروج من النار، وتبرأ منهم الشيطان، وقال: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [إبراهيم:22]، فقد كنت أوسوس لكم فقط وأنتم الذين ضللتم واتبعتم الهوى، فتستحقون ما أنتم فيه من العذاب. يقول: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم:22]، أي: بما كنتم تعبدونني من دون الله، فقد كنتم تعبدون الأصنام التي أمرتكم بعبادتها، وقد كنت أعلم أن الله سبحانه واحد، وهو المستحق للعبادة وحده دون غيره، {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم:22]. فلما سمعوا ذلك -وكانوا قد صبروا وطال صبرهم- جزعوا فصرخوا، ووجدوا الشيطان يتبرأ منهم، فهنا في هذا الوقت إذا بهم ينادون وقد مقتوا أنفسهم: ضيعنا وفرطنا، واتبعنا هذا الذي كان لا يملك لنا شيئاً، وأخذنا من الدنيا ما أخذنا فاستحققنا العذاب، فأبغضوا وكرهوا أنفسهم، ونادوا على أنفسهم: نحن نمقت ونكره أنفسنا، فإذا بهم يُنادَون: (لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ)، أي: أشد (مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ)، فحكم وفصل بين عباده، وأحق الحق، وأبطل الباطل.

تفسير قوله تعالى: (هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقا)

تفسير قوله تعالى: (هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقاً) قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ رِزْقاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ} [غافر:13]. قوله: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ) أي: هو الله سبحانه الذي يريكم أدلة توحيده، وأنه وحده الذي يستحق أن يعبد سبحانه، فقد أراكم الآيات، وأنزل عليكم الكتب، وأرسل لكم الرسل، وأوضح لكم ما أشكل عليكم، فأصررتم على ما أنتم فيه من الكفر والإعراض. {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقاً} [غافر:13]، ((وَيُنَزِّلُ)) قراءة الجمهور بالتثقيل، وقراءة ابن كثير، وأبي عمرو، ويعقوب بالتخفيف: (وينزل). فقوله: {وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا} [غافر:13] يمن الله عز وجل على عباده بأن رزقكم جاءكم من السماء وأنتم تشاهدون ذلك، وإذا منع عنكم الغيث عطشتم ومتم عطشاً، وإذا منع عنكم المطر لم يخرج النبات من الأرض، فرزقكم جاء من السماء. قوله: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} [غافر:13] أي: وما يتعظ فينتفع بهذه الموعظة إلا الذي ينيب، أي: يرجع، فيعمل عقله ويقول: الله الذي رزقني، والله الذي خلقني، والله الذي أعطاني، فهو وحده الذي يستحق أن يعبد سبحانه، فالذي يتذكر هو الذي ينيب ويرجع إلى توحيد وعبادة الله وحده لا شريك له.

تفسير قوله تعالى: (فادعوا الله مخلصين له الدين)

تفسير قوله تعالى: (فادعوا الله مخلصين له الدين) قال تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [غافر:14] يأمر الله عز وجل عباده بتوحيده، وحسن عبادته، قال تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ} [غافر:14]، أي: وحدوه واعبدوه وحده لا شريك له، فلا تدعوا معه أحداً غيره، ولا تتقربوا إلا إليه، ولتكن حياتكم ومماتكم له وحده لا شريك له. {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر:14] الدين هو العبادة والطاعة، ويأتي الدين بمعنى: الجزاء، وهنا المقصود به الطاعة والعبادة، فأخلصوا ونقوا العبادة واجعلوها له وحده، فلا تدخلوا في عبادتكم أي شوائب من شوائب الشيطان، {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [غافر:14] أي: ولو كره الكافرون ذلك منكم، فأخلصوا لله، واستقيموا على طريق الله سبحانه وتعالى، واصبروا على طاعة الله؛ فلكم الجزاء من الله سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره)

تفسير قوله تعالى: (رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره) قال تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِي} [غافر:15]. قوله: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ} [غافر:15] أي: فادعوا الله رفيع الدرجات سبحانه وتعالى. وقوله: (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ) لها معان وكلها صحيحة، فهو المستحق لأعلى درجات الثناء، وهو المستحق لأعظم المدح، وهو العالي المتعالي سبحانه، فهو العلي العظيم الذي استوى على عرشه، وعرشه فوق كل شيء سبحانه وتعالى. فهو: (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ) أي: فوق السماوات، وفوق العرش سبحانه تبارك وتعالى، وهو المتعالي العلي سبحانه، ذو الدرجات العظيمة، فالله فوق سماواته فهو رفيع الدرجات سبحانه، والله مستحق لأعظم وأعلى وأجمل وأجل المدح والثناء، والله صاحب الدرجات العظيمة في جنات الخلود التي يرفع إليها أنبياءه وأولياءه، فهو رفيع الدرجات سبحانه وتعالى، وهو الذي خلق السماوات بعضها فوق بعض عالية جداً، فبين السماء والسماء خمسمائة عام، وسمك السماء خمسمائة عام، فهو رفيع الدرجات. قوله: (ذُو الْعَرْشِ) أي: صاحب العرش العظيم، فعرشه بهذه العظمة التي يذكرها لنا ربنا، ويذكرها لنا النبي صلى الله عليه وسلم، فهو عرش عظيم، وعرش كريم، فكيف بصاحب العرش سبحانه الذي خلق العرش؟! قال تعالى: (يلقي الروح)، فهو ينزل الوحي سبحانه وتعالى: (مِنْ أَمْرِهِ) أي: من قضائه وقدره بما قضاه وشرعه سبحانه، (عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ)، فـ {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ} [الشورى:13] أي: يصطفي إليه من يشاء، {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى:13]، فينزل الملك بالوحي من السماء على من يشاء من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، {لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ} [غافر:15] أي: يوم القيامة. فقد جاءت الأنبياء لتبين للناس أنه لا يستحق العبادة إلا الله، وأنهم راجعون إلى {يَوْمَ التَّلاقِ} [غافر:15]، يوم تلتقي أوائل الأمم مع أواخرها، ويلقون ربهم سبحانه وتعالى، فيقفون بين يديه، فهذا هو يوم التلاق. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة غافر [13 - 20]

تفسير سورة غافر [13 - 20] يذكرنا الله عز وجل بيوم هوله عصيب، وأمره عجيب، إنه يوم القيامة، يوم أن يبرز الناس فيه مصطفين ينتظرون الحساب، فيجزي الله كل نفس بما كسبت، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، فالملك كله يوم القيامة لله تعالى، وينفرد به سبحانه فلا يستطيع أحد منازعته؛ ولذا كان على العبد أن يعبد الله مخلصاً في عبادته، صابراً على أذى المشركين، فإن هذا هو سبيل النجاة من العقاب، والفوز بالجنة في يوم الحساب.

تفسير قوله تعالى: (هو الذي يريكك آياته وينزل لكم من السماء زرقا)

تفسير قوله تعالى: (هو الذي يريكك آياته وينزل لكم من السماء زرقاً) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة غافر: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ * فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ * يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر:13 - 17]. يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات وما يأتي بعدها عن قدرته العظيمة في خلقه للعباد، وفي إنزاله الرزق عليهم من السماء، وأيضاً في بعثهم يوم القيامة، وحسابهم، ولا تخفى عنه سبحانه وتعالى خافية من عباده، وغير ذلك من مظاهر قدرته العظيمة سبحانه. يقول الله تعالى: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا) أي: أن رزقكم من عند الله سبحانه وتعالى، فهو الذي خلق الإنسان فسواه فعدله، وهو الذي رزقه وأطعمه وسقاه، وهو الذي أعطى ومنح عباده في الدنيا، وهو الذي يجازيهم يوم القيامة. ومعنى: (يُرِيكُمْ آيَاتِهِ) أي: دلائل قدرته، وعلامات إعجازه سبحانه وتعالى، (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا) أي: ينزل من السماء أرزاق العباد المقسومة بتقديره سبحانه وتعالى، فينزل ما يشاء على من يشاء، ويرسل الرياح فتثير سحاباً، فساقه الله إلى بلد ميت، فأنزل به الماء، ثم أخرج به من كل الثمرات، والله على كل شيء قدير. قوله تعالى: (وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) أي: ما يتعظ بآيات الله سبحانه مما يقرأ في القرآن، ومما يراه أمامه من آيات خلق الله عز وجل ويتذكر فلا ينسى، ويتعظ فيعمل ولا يشقى إلا من ينيب إلى الله، ويرجع إليه بالعبادة والطاعة، وبالتفكر في إلهيته وربوبيته سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (فادعوا الله مخلصين له الدين)

تفسير قوله تعالى: (فادعوا الله مخلصين له الدين) قال الله تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [غافر:14] أي: ادعوه ووحدوه، والجئوا إليه سبحانه، واعبدوه وحده لا شريك له، وادعوه تضرعاً وخفية وخيفة، بالليل والنهار، فإنه لا يعجزه شيء سبحانه. فقوله: (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) فيه أن الإخلاص شرط من شروط العبادة، والعبادة لها شرطان: الإخلاص، والمتابعة، والمتابعة: هي أن تتابع النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من عند ربه من وحي الكتاب أو من السنة، والمتابعة وحدها لا تنفع إلا مع الإخلاص، فلا بد من ركنين للعبادة: أن تعبد ربك سبحانه بما جاء في الكتاب والسنة، وأن تكون مخلصاً لله عز وجل في عبادتك، فمعنى (مخلصين) أي: موجهين العبادة له وحده، حتى تكون خالصةً من شوائب الشرك بالله سبحانه وتعالى. وقوله: (وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) أي: حتى ولو كره الكافرون منكم ذلك، ولو أبغضوكم على ذلك، وحاربوكم وجاهدوكم على أن تشركوا بالله فلا تشركوا به شيئاً، فأخبر الله الإنسان أنه حتى إذا جاهده والداه على الشرك فلا يطعهما، وإنما يصاحبهما في الدنيا معروفاً.

تفسير قوله تعالى: (رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره)

تفسير قوله تعالى: (رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره) قال تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ} [غافر:15] أي: أن الله رفيع الدرجات سبحانه وتعالى، له الثناء والمجد والمدح العظيم كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه. و (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ) بمعنى: أنه على العرش استوى، وأنه فوق عرشه وسماواته، وقد أحاط بكل شيء، وعلا فوق كل شيء سبحانه، فهو رفيع الدرجات: ذو الدرجات العظيمة الرفيعة سبحانه وتعالى، المستحق للكمال وحده، والمستحق للثناء والمدح وحده، صاحب كل خير سبحانه. وهو الذي يملك أن يرفع عباده إلى درجات عنده، فجعل الجنة درجات عالية، فهو صاحب هذه الدرجات، يرفع من يشاء من عباده إليها. ورفيع الدرجات: صفة من صفات الله، وهي صفة دالة على سعة ملكه وقدرته سبحانه وتعالى، فيرفع درجات من يشاء، ويخفض من يشاء سبحانه، (ذُو الْعَرْشِ) أي: صاحب العرش وخالقه، وفي الدنيا يقال: الملك فلان له عرش، وهو سرير الملك الذي يكون عليه، ولله عز وجل المثل الأعلى، فله العرش العظيم سبحانه وتعالى، وهو فوق السماوات وفوق كل شيء، وأحاط بكل شيء، وهو الرحمن فوق عرشه استوى عليه سبحانه. قال تعالى: (يُلْقِي الرُّوحَ) الروح: الوحي، أو النبوة، حيث ينزل الملك جبريل وهو روح الله وروح القدس، أي: روح مقدسة خلقها الله سبحانه وتعالى، فينزل على من يشاء الله من عباده. والروح: القرآن، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} [الشورى:52] إذاً: فالروح: الوحي، والنبوة، والقرآن الذي ينزل من عند الله سبحانه وتعالى، فهو يلقي الروح أي: ينزل الروح بأمره، وفيه أمر الله وقضاء الله سبحانه، وفيه إحياء لقلوب الخلق، فالقلوب الميتة بالكفر يحييها وحي الله سبحانه، والنبوة والقرآن، فكما ينزل الغيث من السماء ليحيي به الأبدان، كذلك ينزل من السماء القرآن ليحيي به الإنسان. وقوله: (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) أي: أن الله يصطفي إليه من يشاء، ويجتبي إليه من يشاء، ويهدي إليه من ينيب، فالنبوة والرسالة ليست كسباً من الخلق، وليس لأحد من الخلق أن يقول: سوف أعبد الله وأتقرب إليه حتى يجعلني نبياً أو رسولاً، فهي هبة من الله سبحانه ومنحة يمنحها من يشاء من عباده، فيجعله نبياً أو رسولاً. (لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) أي: يوم القيامة، يوم يلتقي أوائل العباد مع أواخرهم من لدن آدم إلى آخر من تقوم عليه الساعة، ويلتقي فيها الظالم مع المظلوم، والقاتل مع المقتول ليحكم الله بينهم، وليقتص كل واحد من الآخر. وكلمة: (التلاق) يقف عليها الجمهور بالسكون، ويقف عليها بالياء ابن كثير ويعقوب؛ فإذا وقف قال: (يوم التلاقي)، وإذا وصل قال: (يوم التلاقي) كذلك، فيقف بالياء في الوصل وفي الوقف، وورش وقالون بخلفه وابن وردان يقرءونها في الوقف: (يوم التلاق)، وفي الوصل: (يوم التلاقي). إذاً: وصلاً فقط بالياء لـ ورش وقالون بخلفه وابن وردان.

تفسير قوله تعالى: (يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء)

تفسير قوله تعالى: (يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء) قال الله تعالى: {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16] أي: خرجوا من قبورهم وبرزوا وظهروا، فلا يستخفي منهم أحد، ولا يوجد مكان يختفي فيه، قال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه:105 - 107] أي: لا ارتفاعاً ولا انخفاضاً في الأرض، فهي مستوية بيضاء نقية، كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث، فليس هناك جبل يختفي فيه الإنسان، ولا حفرة ينزل بداخلها، فالأرض (لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا)، والكل بارزون أمام رب العالمين سبحانه ليجازي كل نفس بما كسبت. قال تعالى: (يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) (شيء): نكرة في سياق النفي، وهي تعم، فلا يخفى على الله شيء ولو كان دقيقاً، فهؤلاء الأعداد الغفيرة الكثيرة لا يخفون على الله، فهو يرى جميع الخلق، وسوف يحاسبهم في يوم القيامة. يقول سبحانه: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) في يوم القيامة يقبض الله عز وجل الخلائق ويطوي السماوات بيمينه ويقبض الأرض ويقول: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ)؟ فلا أحد يقدر على أن يقول: أنا كنت ملكاً في الدنيا، وإنما الذي يجيب هو الله، فيجيب على نفسه ويقول: (لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ). والملك هو ملك السماوات والأرض، فلا يدعي أحد أنه يملك في هذا اليوم، فالله هو المالك سبحانه وتعالى، وقوله: (لِلَّهِ الْوَاحِدِ) أي: له وحده لا شريك له، (الْقَهَّارِ) الذي قهر وغلب وأذل كل شيء، وأذعن له وخضع كل شيء، فله الملك وحده سبحانه، وقد قال في كتابه: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:1 - 2]، فالله مالك الملك، وملك الملوك سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (اليوم تجزى كل نفس بما كسبت)

تفسير قوله تعالى: (اليوم تجزى كل نفس بما كسبت) يقول الله تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر:17]. قوله: (اليوم) أي: يوم القيامة، (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ) ففي يوم القيامة يحاسب الله كل إنسان بمفرده، فلا يظن الإنسان أنه بإمكانه أن يختفي في ذلك اليوم. وقوله تعالى: (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ) فيه أن الجزاء على كسب العباد، والله خالق العباد، وخالق أفعالهم، والعبد يكتسب فعله، وحين يفعل الفعل يشعر أنه قادر على فعله وقادر على تركه، فإن أراد أن يفعله فعله، والله عز وجل يجازيه على إرادته، وإن كنا نؤمن أن كل شيء بقضاء الله وقدره ومشيئته، ولكنه سوف يجازي العبد على ما فعله ورضي فعله، فإن عصى الله جازاه على معصيته، ولا يمكن أن يقول: يا رب! أنت قدرت علي هذا الشيء؛ لأنه وهو يكسب المعصية يرى نفسه قادراً على فعلها، وقادراً على تركها، فيكون فعله هذا اختياراً منه. فلا ينبغي للإنسان أن يتعلل بالقدر، فالله عز وجل أمره بالإيمان بالقضاء والقدر، لا أن يتعلل به. إذاً: فالإنسان حين يرتكب المعصية أو يفعل الخير يعلم أن الله قد قدر كل شيء، وعلم كل شيء سبحانه، ولكن كسبه هذا كان اختياراً منه، فالله عز وجل يشكر له الخير، ويجازيه على الشر، أو يعفو سبحانه، فإذا حاسب الله العباد فلا يقدر أحد أن ينكر ويقول: يا رب! لقد كان ذلك قضاء وقدراً؛ لأنه كان قادراً على الفعل وعلى الترك، ولم يكن مجبراً. وقوله تعالى: (لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) أي: لا يظلم ربك أحداً، ولا ينسى شيئاً، بل يجزي كل إنسان على مثقال الذرة، كما قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]. قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) فالله سبحانه سيحاسب الخلق يوم القيامة، وهو يوم طويل من أيام الآخرة كما قال تعالى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4]، وهذا اليوم يطيله الله عز وجل على من يشاء، ويخففه على من يشاء، نسأل الله التخفيف والعفو والعافية في يوم عظيم يقضي فيه الله بين جميع العباد. وقوله: (إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) أي: سريع المحاسبة، ليس كمحاكم الدنيا التي تؤجل فيها بعض القضايا لسنة أو سنتين، فيوم القيامة يوم واحد، يجزي الله فيه كل إنسان بمفرده على ما صنع، فلا يخفى عليه من عباده شيء، لا يشغله القضاء بين عبد وآخر عن القضاء بين ثالث ورابع، وإنما يقضي بين الجميع كما يشاء، لا يشغله شيء عن شيء سبحانه وتعالى (إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ).

تفسير قوله تعالى: (وأنذرهم يوم الأزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين)

تفسير قوله تعالى: (وأنذرهم يوم الأزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين) يقول الله لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذْ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:18] وهذا كقوله تعالى: {أَزِفَتِ الآزِفَةُ} [النجم:57] أي: اقتربت الساعة، وهي القيامة، وأزف الشيء بمعنى: قرب، والقيامة قريبة، قال الله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} [الأحزاب:63] والساعة آتية، وكل شيء وعد الله سبحانه أنه سيأتي لا بد وأن يأتي، وطالما أنه سيأتي فهو قريب، فسماها الله عز وجل: آزفة، أي: قريبة، فقوله: (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ) أي: يوم القيامة الذي سيكون قريباً. (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ) وهذه حالة لا تكون في الدنيا أبداً، فالإنسان قد يفزع في الدنيا، ويحس أن قلبه سوف يطلع من مكانه، لكنه لا يطلع من مكانه، أما في يوم القيامة فإنه يطلع من مكانه، ويصل إلى الحنجرة، فالقلوب تثب من مكانها إلى الحناجر من شدة الهلع والخوف والجزع والرعب. والحنجرة: هي العظمة الموجودة في الجزء البارز في الرقبة الذي نسميه: تفاحة آدم، ففي يوم القيامة يثب القلب من مكانه يريد أن يخرج حتى يموت هذا الإنسان من رعبه. وقوله: (كَاظِمِينَ) أي: كاتمين على أنفسهم، فأرواحهم تريد أن تطلع، وقلوبهم تكاد أن تخرج من أفواههم، ولا قدرة لهم على إرجاعها، وهذا مشهد صعب شديد! قال الله تعالى: (مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ) في الدنيا قد يجد الظالم لنفسه أعواناً، فيظلم ويأتي بالرجال ليعينوه، أما يوم القيامة فلا يوجد من يعينه، (مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ) والحميم: هو الصديق والقريب والمحب، وفلان حميم لفلان أي: بينهم علاقة حميمة وصداقة عظيمة. فلا يوجد في ذلك اليوم للظالمين من يشفق عليهم أو يشفع لهم أو يدافع عنهم كما كانوا في الدنيا، ففي يوم القيامة لا أحد يقف بجوار الآخر فيشفع له، إلا حين يفتح الله عز وجل باب الشفاعة، وأول من يبدأ بها نبينا صلى الله عليه وسلم يشفع عند ربه ليقضي بين العباد. فقوله تعالى: (مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ) أي: ليس للظالم حميم ينفعه، ولا شفيع يطاع فيسمع كلامه.

تفسير قوله تعالى: (يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور)

تفسير قوله تعالى: (يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور) قال الله عز وجل: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19]، خائنة الأعين أي: العين الخائنة، فالإنسان قد يخون بعينه، وقد يمشي ويراه الناظر أنه غاض البصر، ولكن إذا لم ير أحداً ينظر إليه نظر إلى ما حرم الله عز وجل، فهذه هي النظرة الخائنة التي يختلسها الإنسان إلى شيء حرمه الله سبحانه وتعالى، وكأن يغمز إنسان لآخر بعينه أن يفعل أي شيء فهذا لا يجوز. وقد جاء في الحديث أنه لما جيء بـ عبد الله بن أبي السرح إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد فعل أشياء في كفره، ثم أسلم، ثم ارتد عن الإسلام، ونافق، وآذى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فجاء به عثمان رضي الله عنه ليشفع فيه يوم فتح مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعفو عنه، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم استكثر ما صنعه هذا الرجل في كفره، وفي ردته، وفي نفاقه، فأبى أن يقبل منه صلى الله عليه وسلم وسكت، ولم يعطه عهداً ولا أماناً، ومن أدب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم معه أن مكثوا ينتظرون ماذا سيقول فيه، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فأطال سكوته، وفي النهاية أمنه صلوات الله وسلامه عليه، ثم قال لأصحابه بعد ذلك: (أما كان منكم من رجل رشيد يقوم لهذا فيضرب عنقه؟) أي: هذا الرجل الذي آذى الله ورسوله، الذي ارتد عن الإسلام، وآذى المسلمين، وقد رفضت أن أعطيه أماناً، أما كان منكم رجل رشيد يقوم إليه فيقطع رقبته؟ فقالوا: هلا أشرت لنا؟ أي: لو غمزت لنا بعينك لكنا قتلناه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين) فلا يليق بنبي أن يغمز لأحد ليعمل شيئاً من وراء آخر. فالمقصود: أن الله عز وجل يعلم خائنة العين، وما يكون من تلصص وتجسس وتحسس، وما يكون منها من نظر إلى ما حرم الله سبحانه وتعالى من غير أن يدري الناس، وما يكون منها من إشارة وغمز إلى إنسان بتهكم أو بسخرية، أو بغير ذلك. وقوله: (وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) أي: ما يكنه الإنسان في صدره من نية سوء أو غيرها.

تفسير قوله تعالى: (والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء)

تفسير قوله تعالى: (والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء) قال تعالى: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر:20]. قوله: (وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ) أي: يجازي ويفصل بالحق. وقوله: (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) أي: من الأصنام التي تعبد من دون الله، والآلهة التي اتخذوها من دون الله، (لا يقضون بشيء)، ولا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، لا في الدنيا ولا في الآخرة. وقوله: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) أي: يسمع ويرى كل شيء، ويقضي بين عباده بالحق. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة غافر [21 - 25]

تفسير سورة غافر [21 - 25] على الإنسان أن يسير في الأرض وينظر ويتفكر في آثار السابقين الذين أهلكهم الله سبحانه وتعالى بسبب كفرهم وعنادهم، وعليه أن يعتبر بهؤلاء، وألا يسلك ما سلكوا من الطرق المنحرفة حتى لا يصيبه ما أصابهم.

تفسير قوله تعالى: (أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم)

تفسير قوله تعالى: (أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم) الحمد لله وحده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة غافر: {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:21 - 25]. في هذه الآيات من سورة غافر يخبرنا الله سبحانه وتعالى بعلمه العظيم، فإنه سبحانه {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19]، وبقضائه المحكم بين عباده، وبفصله بالحق بينهم، كما قال تعالى: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} [غافر:20]، فيجازي سبحانه وتعالى المحسن على إحسانه بالحسنى وزيادة، ويجازي المسيء على إساءته، {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]، {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ} [غافر:20]، أي: ما يعبدونه من أوثان ومن أصنام لا يقضون بشيء، ولا يملكون أن يفصلوا بين الخلق، وأن يقضوا بينهم، فهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً فضلاً عن غيرهم. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر:20]، فالله هو الذي أحاط سمعه كل شيء، وأحاط علمه وبصره بكل شيء، يعلم ما ظهر وما خفي، يعلم ما قاله الإنسان وما أخفاه في صدره وما أكنه، يعلم نيته، يعلم ما في حاضر وما في مستقبل هذا الإنسان، وإلى أي شيء يصل يوم القيامة، {إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر:20]. ثم يأمر عباده أن يسيروا في الأرض فيتفكروا في مصارع السابقين، فقد عاش على هذه الأرض أناس قبلهم، عاشوا كما عاش هؤلاء، وخاضوا كما خاض هؤلاء، فأهلك الله عز وجل السابقين، فما ينتظر هؤلاء اللاحقون من الله عز وجل إلا مصير السابقين، قال تعالى: {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا} [غافر:21]، ويعتبروا بما وقع على الأرض، {فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ} [غافر:21]، كيف كانت العاقبة والنهاية، فهم عملوا في هذه الأرض، واستمتعوا بخلاقهم، وخاضوا في هذه الدنيا، ثم في النهاية أماتهم الله وأهلكهم سبحانه وتعالى فلم يملكوا لأنفسهم شيئاً. قال تعالى: {فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ} [غافر:21]، لكنهم مضوا وذهبوا، لقد كانوا في هذه الدنيا ملوكاً، كانوا رؤساء، كانوا أقوياء، كانوا أغنياء، خاضوا في هذه الدنيا، ألا تعتبرون بما حدث لهؤلاء؟ كيف كان عاقبة الذين كانوا في الماضي؟ ((كَانُوا هُمْ))، وقد عبر بكان التي تفيد أن الشيء انتهى وصار أثراً بعد عين، فبعدما كانوا حاضرين صاروا آثاراً، وصاروا ذكراً، وصاروا عبرة يعتبر بهم الناس، فكرر سبحانه (كانوا)، ليؤكد أنهم كانوا في الماضي وانتهى أمرهم وذهبوا إلى ربهم ليجازيهم بأعمالهم. {كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [غافر:21]، هؤلاء السابقون يذكر الله سبحانه وتعالى أنهم كانوا أشد من هؤلاء الموجودين الآن، فقد كان السابقون من الكفار أشد من اللاحقين الموجودين. وقوله: (مِنْهُمْ) هذه قراءة الجمهور، أما ابن عامر فقرأها: (كانوا هم أشد منكم) أي: أنتم أيها الموجودون أضعف منهم في الأبدان، فهم كانوا أقوى منكم، كانوا أطول منكم، وكان لهم في هذه الدنيا أعمار، فمنهم من عاش ألف سنة، ومنهم من عاش ثلاثمائة سنة، ومنهم من عاش خمسمائة سنة، فقد عاشوا سنين طويلة، فهل نفعتهم أعمارهم وقد كانوا يكفرون بالله سبحانه؟ وهل نفعهم إعمارهم لهذه الأرض وقد كانوا يكفرون بالله سبحانه وتعالى؟ وهل انتفعوا بهذه الآثار التي خلفوها من ورائهم؟ فهم قد ذهبوا وتركوا الآثار، فانظروا إليها واعتبروا يا أولي الأبصار. قال تعالى: {كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ} [غافر:21]، فترون آثارهم، يسير الإنسان فيقول: هذه آثار الأقدمين، هنا كان قوم عاد {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} [الفجر:7]، كانت بيوتهم عظيمة في هذه الجبال، وكانوا يتخذون من هذه الآثار ما يدل على قوتهم فرحين بذلك، أرادوا أن يظهروا مهاراتهم وأن يظهروا قوتهم، لكنهم خالفوا ربهم، وخالفوا أنبياءهم عليهم الصلاة والسلام، فكفروا وذهبوا وبقيت الآثار تدل على أصحابها الذين صاروا ذكراً بعد ذلك، قال سبحانه: {كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} [غافر:21]، لم يأخذهم ظلماً سبحانه، وحاشا له أن يظلم أحداً من عباده، وإنما أخذهم بسبب ذنوبهم، بسبب ما اقترفوا من أعمال سيئة. قال تعالى: {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} [غافر:21]، أي: لم يكن لهم من ينصرهم، ومن يقيهم عذاب رب العالمين سبحانه وتعالى، وكلمة (واق): نكرة في سياق النفي تفيد العموم، فلا كبير ولا صغير ولا شيء يقيهم من الله سبحانه وتعالى، فما وجدوا لهم أحداً ينصرهم من عذاب الله. وقرأها الجمهور بالوقف على تسكين القاف (واقْ)، وقرأها ابن كثير وقفاً: (من واقي) فيقف عليها بالياء، فإذا وصل وصلها بغير ياء (من واق ذلك بأنهم).

تفسير قوله تعالى: (ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات)

تفسير قوله تعالى: (ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات) ثم قال سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [غافر:22]، إذاً هذا الأخذ الذي أخذهم الله سبحانه والعذاب الذي أصابهم من الله سبحانه كان لأنهم كفروا بالله سبحانه {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ} [غافر:22]، وهذه قراءة الجمهور، وقرأ يعقوب (كانت تأتيهُم رسلهم بالبينات) بضم الهاء. قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا} [غافر:22]، أي: جحدوا هذه الآيات التي رأوها مع الأنبياء، وكذبوا ربهم سبحانه، وكذبوا رسل ربهم عليهم الصلاة والسلام، {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ} [غافر:22]، وانظر إلى هذا التعبير (أَخَذَهُمُ)، فأنت تأخذ الشيء فتمسكه حتى لا يفلت منك، فأخذهم الله سبحانه وتعالى، أي: أمسك بهم فعذبهم فلم يقدروا على الإفلات، ولم يقدروا على الهرب، فما أبقى منهم أحداً، فهو سبحانه قوي شديد العقاب، فإن من صفاته العظيمة الجليلة سبحانه صفة القوة، فهو القوي سبحانه وتعالى، فلا شيء يقدر أن ينازع أو يغالب ربه سبحانه عز وجل. فالله هو القوي الحميد العزيز سبحانه وتعالى، قال تعالى: {إِنَّه قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [غافر:22]، إذا أخذ أحداً لم يفلته، إذا عذب أحداً كانت عقوبة الله أشد ما يكون فلا يقدر أحد أن يقاومها أو يفلت منها.

تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا فقالوا ساحر كذاب)

تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا فقالوا ساحر كذاب) قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [غافر:23 - 24]، هذه قصة من قصص القرآن العظيم، يسوق لنا ربنا فيها قصة موسى عليه الصلاة والسلام، وموسى عليه الصلاة والسلام هو الرسول صاحب الشريعة قبل النبي صلوات الله وسلامه عليه، فكثيراً ما يذكر الله عز وجل موسى عليه الصلاة والسلام بياناً لأن موسى كان صاحب شريعة، فإذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً} [هود:17]، مع أن الذي كان قبل النبي صلى الله عليه وسلم هو عيسى عليه الصلاة والسلام، ولكن ذكر (كِتَابُ مُوسَى)؛ لأنه كان كتاب تشريع، فالتوراة كتاب شريعة والقرآن كتاب شريعة مهيمن على ما قبله من الكتب، فهذا القرآن شاهد على صحة ما جاء قبل ذلك، وناسخ لما جاء قبل ذلك من شرائع من عند رب العالمين، والشريعة الباقية هي ما في هذا القرآن العظيم، وهو ما جاء به النبي صلوات الله وسلامه عليه. فيذكر النبي صلى الله عليه وسلم ويذكر موسى عليه الصلاة والسلام، أما عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فهو قد جاء ليحكم بشريعة موسى، وإن كان قد أحل لهم بعض الذي حرم عليهم، لكنه لم يلغ شريعة موسى، فكأن صاحب الشريعة قبل النبي صلى الله عليه وسلم هو موسى عليه الصلاة والسلام، والكتاب الذي كان قبل القرآن هو التوراة؛ لأن الإنجيل لم يكن كتاب شريعة، بل كان كتاب مواعظ فقط، أما التوراة فكان كتاب شريعة، فعندما تذكر القرآن يذكر قبله التوراة؛ لأن التشابه بينهما أن هذه شريعة وهذه شريعة، فموسى كان صاحب شريعة ونبينا صلى الله عليه وسلم كذلك، أما عيسى فكان يحكم بشرع من قبله، بشرع موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا} [غافر:23]، وفي الإسراء قال: {تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الإسراء:101]، إذاً أرسل الله عز وجل موسى إلى فرعون وملئه بآيات بينات، وفي الأعراف ذكر أنها {آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} [الأعراف:133]، فاستكبر هؤلاء وكانوا قوماً مجرمين. ذكر ربنا سبحانه وتعالى أنه أرسل موسى بآيات من عنده، أي: بمعجزات، وبـ (سُلْطَانٍ مُبِين)، والسلطان: هو الحجة، وكأن المقصود بها التوراة التي جاءت من عند رب العالمين سبحانه، فقد أنزل عليه ألواح التوراة حين ناجى ربه سبحانه وتعالى، فقوله: {وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [غافر:23]، أي: بحجة بينة واضحة جلية من عند الله، تبين عن نفسها وتفصح عن حقيقتها وصدقها، هذا معنى كلمة (مُبِينٍ)، أي: بين واضح. وقوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا} [غافر:23]، وهي تسع آيات، وقد ذكرها الله سبحانه وتعالى وهي: اليد، والعصا، وقال: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف:130]، فهذه أربع آيات: اليد، والعصا، والسنون، ونقص من الثمرات، وقال: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} [الأعراف:133]، فذكر تسع آيات أرسل بها موسى إلى هؤلاء الكفار حتى يؤمنوا، لكنهم كما قال عنهم: {فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ} [الأعراف:133]. لقد أرسل الله عز وجل موسى بهذه الآيات: {إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ} [غافر:24]، فرعون من هؤلاء الكفار الذين طغوا وأفسدوا في الأرض، قال لقومه وقد كانوا ضعاف العقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف:54]، إذاً فرعون كان ملكاً اغتر بملكه فاستكبر وزعم أنه إله، بل تجاوز ذلك وقال إنه رب، وهو كذاب مجرم، يقول للناس: أنا إله فاعبدوني، وهو بذلك كأنه يقول: أنا أجلب الود، أنا أرزق، أنا أحيي، أنا أميت، وهو يعلم أنه كذاب فيما يقول، ولذلك أذله الله عز وجل أعظم الذل وأفظع الذل وأشنع الذل حين ألقاه في اليم وقال: {الْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:92]. وهامان رأس من رءوس الكفر، وهو تابع لفرعون، فقد كان وزير فرعون، ففرعون غره ملكه، وهامان غرته وزارته، وهما من أهل مصر، ومن ملوك مصر، وفرعون كان الملك وهامان كان الوزير، أما قارون فكان من بني إسرائيل، ابن عم موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فسبحان من جمع هؤلاء: فرعون هذا الرجل الملك المتكبر، وهذا الوزير الطاغي، وقارون الغني صاحب الأموال، الذي هو من بني إسرائيل الذين ذاقوا العذاب من فرعون وملئه، وهذا الرجل مع غناه العظيم وهو من بني إسرائيل لكنه لم يعطف على قومه، بل خرج من هؤلاء واستكبر على قومه واغتر بما هو فيه، وحسد موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أن آتاه الله عز وجل الرسالة، فكان مع فرعون على موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فجمعه الله عز وجل معهم في الدنيا وفي الآخرة، في الدنيا جمعهم على الكفر، وفي الآخرة جمعهم في النار. قال تعالى: {إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ} [غافر:24]، فماذا قال هؤلاء لموسى؟ قالوا: {سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [غافر:24]، قالوا له: أنت ساحر، وأنت كذاب، حتى قارون يقول ذلك مجاملة لهؤلاء، يقولها وهو يعلم أن موسى صادق عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.

تفسير قوله تعالى: (فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه)

تفسير قوله تعالى: (فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه) قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:25]، أي: جاءهم بالآيات البينات من عند رب العالمين، جاءهم بالتوراة التي فيها شرع رب العالمين، جاءهم بالمعجزات الظاهرة القوية التي ضجوا من هولها وهرعوا إلى موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام يطلبون منه أن يجيرهم من ذلك، قال تعالى عنهم: {قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف:134]، يتوسلون إلى موسى: ادع ربك يكشف عنا هذا العذاب ونحن سنؤمن، فالله عز وجل يرسل عليهم آية وراء آية ولكنهم لا يفهمون، كلما كشف عنهم آية من العذاب كلما ازداد عتوهم وإفسادهم ورجعوا إلى كفرهم. قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ} [غافر:25]، وهذه هي المرة الثانية التي يأمرون فيها بذلك، فالمرة الأولى قبل مولد موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، حين رأى فرعون الرؤيا وفسرها له قومه بأنه سوف يخرج من بني إسرائيل من يكون ضياع ملكه وهلاكه على يديه، فلما سمع بذلك أمر بقتل كل الصبيان من بني إسرائيل الذين يولدون. فإذا بقومه بعد ذلك يقولون له: إذا قتلت الجميع فمن سيخدمنا بعد ذلك؟ هؤلاء بنو إسرائيل يتزاوجون رجالاً مع نساء، فحين تقتل الصبيان كلهم لا يبقى إلا النساء، فيقول له الكهنة: إنه في عام كذا سوف يولد كذا، وليس كل عام، فإذا به يرجع عن قراره ويقول: اقتلوا الصبيان في عام واستحيوهم في عام، ويرينا الله عز وجل الآية العظيمة، فيولد هارون على نبينا وعليه الصلاة والسلام -وهو أكبر من موسى- يولد في العام الذي لا يقتل فيه الصبيان، فيعيش هارون عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ويولد موسى في العام الذي يقتل فيه الصبيان، فالمفروض أن يقتله فرعون، لكن يرينا الله عز وجل أن هذا الجبار الطاغية فرعون الذي يريد قتل موسى لا يقدر على شيء، فالله عز وجل ينشئ موسى ويحفظه، بل ويربيه في بيت هذا الذي يريد قتله، فسبحان من يسبب الأسباب ويدبر مقاليد الكون سبحانه تبارك وتعالى. فيعيش موسى في بيت فرعون، وينشأ فيه، ويكون سبباً في عزة بني إسرائيل بعد ذلهم على يد فرعون، ثم يكون سبباً في إهلاك فرعون بما يأتي بعد ذلك. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة غافر [23 - 28]

تفسير سورة غافر [23 - 28] يرسل الله سبحانه وتعالى رسله إلى الناس فيأتون إليهم بالآيات البينات الواضحات على صدق رسالتهم، فلا يكذبهم إلا جاحدٌ معاند لا يريد الحق، ولا يريد اتباع الحق، وإنما يريد فرض أفكاره ومبادئه حتى بالقوة، ولكن رغم هذا فإن كيد الكافرين ضعيف، وهو في ضلال، والله معلٍ كلمته وناصر دينه.

تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا موسى بآيتنا فقالوا ساحر كذاب)

تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا موسى بآيتنا فقالوا ساحر كذاب) أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة غافر: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ * وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ * وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} [غافر:23 - 27]. يخبرنا ربنا سبحانه وتعالى في هذه الآيات أنه أرسل موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بآيات من عنده سبحانه، وهي المعجزات التسع: اليد، والعصا، والسنين، ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، وأرسل الله سبحانه تبارك وتعالى عليهم الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم آيات مفصلات، فالله سبحانه جعل هذه آيات لقوم فرعون حتى يعودوا إلى ربهم سبحانه وتعالى ويتركوا كفرهم، فأبوا إلا أن يستمروا على ذلك. قال سبحانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [غافر:23]، أي: حجة بينة واضحة، {إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [غافر:24]. إلى فرعون الذي زعم أنه إله، وطلب من قومه أن يعبدوه من دون الله سبحانه، ثم زعم أنه رب، واستخف عقول قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوماً فاسقين. وهامان هو وزير فرعون، ذلك المجرم الذي ينفذ لفرعون ما يريد، قال تعالى عنهما: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر:36 - 37] فاستجاب لفرعون وبنى له برجاً عالياً حتى يرقى عليه فرعون، ويزعم أنه نظر في السماء فلم يجد فيها إلهاً، وصدقه قومه لكفرهم، خدعهم فرعون فانخدعوا وكانوا خفاف العقول، كما وصفهم الله عز وجل بقوله: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:54]. وقارون كان قريباً لموسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، قالوا: إنه كان ابن عم له عليه الصلاة والسلام، هذا موسى المؤمن رسول رب العالمين، وذاك قارون الكافر من بني إسرائيل، كان يحسد موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فآتاه الله عز وجل كنوزاً عظيمة، فكان يؤمر بأن ينفق على الفقراء لكنه كان يستكبر عن ذلك، وينظر إليهم بأنهم لا يستحقون، فهو صاحب هذه الكنوز العظيمة، وربما تنتهي عليه، فكان موسى يقول له: أنفق على بني إسرائيل، ولكنه كان متكبراً مغروراً، يتقرب إلى فرعون مع معرفته بالحق الذي مع موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام. فقال هؤلاء الثلاثة ومن معهم: {سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [غافر:24]، قالوا عن موسى عليه الصلاة والسلام لما رأوا الآيات البينات: {سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [غافر:24]، كما قال تعالى في آية أخرى: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} [الزخرف:49]، وذلك حين جاءتهم الآيات من عند الله سبحانه آية وراء آية، فكلما ازداد عليهم الضيق يهرعون إلى موسى ويقولون: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف:134]، فعندما يكشف الله عز وجل عنهم العذاب {إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} [الأعراف:135]، فلم يستقيموا على طريقة أبداً مع موسى عليه الصلاة والسلام، فقالوا: هذا ساحر، ووصفوه بأنه كذاب. وهنا عندما يذكر الله عز وجل ذلك لنبيه صلى الله عليه وسلم في هذه السورة الكريمة -سورة غافر- وهي من السور المكية؛ فكأنه يطمئن النبي صلى الله عليه وسلم ويقول له: لست أول من قيل لك: إنك كذاب، فقد قالوا قبل ذلك لموسى وقالوا لنوح عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، وقالوا لغيرهم من الأنبياء والرسل، قالوا عنهم: سحرة، وقالوا عنهم: إنهم كذابون، وقالوا عنهم: إنهم مجانين، وقالوا ما قالوا عن رسل الله، ولذلك فالإنسان الذي يدعو إلى الله لا ينتظر أن تكون الطريق التي يدعو فيها إلى الله عز وجل مليئة بالورود، وأنها ممهدة له، بل كما ورد في الحديث: (أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على قدر دينه)، فيأتي البلاء من الله عز وجل لأنبيائه عليهم الصلاة والسلام؛ ليثبتهم ويثبت من معهم، وحتى يميز الخبيث من الطيب، فالمؤمن يثبت على طريق الله سبحانه وتعالى، والذي في قلبه مرض يتزلزل ويتزعزع ويترك وينصرف عن دين الله سبحانه وتعالى، فهذا موسى قالوا عنه: ساحر، وقالوا عنه: كذاب، وكذلك قالوا عن نبينا صلوات الله وسلامه عليه مثل ذلك.

تفسير قوله تعالى: (فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه)

تفسير قوله تعالى: (فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه) يقول الله عز وجل: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:25]. لما جاءهم موسى بالحق والبينات من عند الله سبحانه وتعالى قال فرعون ومن معه: {اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ} [غافر:25]، وهذه هي المرة الثانية التي يأمر فيها فرعون بقتل أبناء بني إسرائيل، والمرة الأولى قبل ميلاد موسى عليه الصلاة والسلام، والآن بعدما بعث الله عز وجل موسى لفرعون يدعوه إلى الله سبحانه، ففرعون أمر بقتل أبناء بني إسرائيل واستحياء نسائهم، فقال: {اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [غافر:25] اقتلوا أبناء المؤمنين، {وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ} [غافر:25] استحيوا من الحياة، أي: استبقوهن أحياء، أي: اقتلوا الأبناء واتركوا النساء أحياء؛ لأن النساء لا خوف منهن، فدعوا النساء وذروهن أحياء للخدمة، لخدمة فرعون وجنوده وقومه وملئه. يقول الله عز وجل: {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:25]، فقد كاد فرعون لموسى ولبني إسرائيل -للمؤمنين الذين مع موسى عليه الصلاة والسلام- ولكن {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ} [غافر:25]، هذه جملة من الله سبحانه وتعالى يختم بها هذه الآية، فلم يقل: كيد هؤلاء فقط، ولكن كيد كل الكافرين، جعل الله عز وجل كيدهم هباء منثوراً، وجعل كيدهم في تدمير، وفي ضلال وفي هلاك وفي خسران، فمهما كادوا للمؤمنين وانتصروا في وقت من الأوقات فلابد أن يظهر نور الله سبحانه، وأن يأتي الحق ويكون -رغماً عن الكافرين- هو المنتصر وهو الغالب، قال سبحانه: {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:25]، فهم يكيدون لربهم سبحانه، ويكيدون لأولياء الله عز وجل، ويأبى الله إلا أن يظهر دينه، وإن ترك المؤمنين في فترة من الفترات بسبب تقصيرهم، وبسبب ذنوبهم، فإنه لحكمة منه سبحانه يبتليهم، ولكن في النهاية يأبى الله إلا أن يظهر دينه، وإلا أن يخزي الكافرين، {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:25]، وقال سبحانه: {يَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]، ويقول: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق:17].

تفسير قوله تعالى: (وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه)

تفسير قوله تعالى: (وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه) ثم قال سبحانه: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26]. فرعون يقول لقومه: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} [غافر:26] كأنه بلغ به في النهاية الغيظ والحنق من موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام إلى أن يقول ذلك، وكأنه وجد من خوفه من دعاء موسى كما دعا قبل ذلك بالسنين ونقص من الثمرات، وجاء الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، فكأنه استهان بدعاء موسى فقال: {وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} [غافر:26]. أي: ليعمل الذي يريده، {وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26]. وقوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى} [غافر:26] هذه قراءة الجمهور، وقرأ الأصبهاني عن ورش وقرأها ابن كثير: (ذَرُونِيَ أقتل موسى))، بفتح الياء. وقوله: {وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} [غافر:26] أي: دعوه فليدع وليفعل ما يشاء، وسنرى من الأقوى؟ {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} [غافر:26] هذه أيضاً قراءة الجمهور: {إِنِّي أَخَافُ} [غافر:26]، وقراءة نافع وأبي جعفر وابن كثير وأبي عمرو: (إِنِّيَ أَخَافُ)، بفتح الياء. وقوله: (أو أن يظهر) فيها أربع قراءات: {أَوْ أَنْ يُظْهِرَ} [غافر:26] وتقرأ بالواو: (وأن يظهر)، وتقرأ: (يَظهَر) و (يُظهِر)، فقراءة حفص ويعقوب: (إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ) يظهر: فعل رباعي، كأنه يزعم أن موسى عليه الصلاة والسلام هو الذي سيفسد وسيظهر الفساد، والفساد في نظر فرعون هو طاعة الله سبحانه وتعالى، وترك عبادة فرعون هذا المجرم الحقير، فكأنه رأى أن موسى سيفسد الناس، وسيظهر الفساد بعبادة رب العباد سبحانه وتعالى، فقال: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26]. أما قراءة باقي الكوفيين: شعبة عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف: (أو أن يَظهَر في الأرض الفساد)، وكأن فرعون يقول: أنا خائف من أن يظهر الفساد في الأرض، وهو أكيد يقصد موسى عليه الصلاة والسلام، ولكن على هذه القراءة الفعل من السداسي، أي: أن الفساد سوف ينمو بسبب موسى وبسبب من معه. أما نافع وابن كثير وأبي جعفر فيقرءون: (وأن يُظهِر في الأرض الفساد)، وأما ابن عامر فيقرأ: (وأن يَظهَر في الأرض الفساد). إذاً: جميع القراءات مرجعها إلى أن فرعون خائف من أن موسى سوف يظهر الفساد في الأرض بزعمهم، فهو خائف من موسى ومن معه أن يفسدوا ويظهروا الفساد في الأرض، وهم يعنون بذلك دين الله سبحانه وأن فيه الفساد، وكذلك نظر الكفار في كل عصر من الأعصار، فإنهم ينظرون إلى دين الله على أنه هو الفساد، وأنه الذي لا يراد، ولذلك قال كفار قريش عن النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في كتاب الله: {لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف:11]، أي: لو كان هذا الدين خيراً، أي: دين الإسلام، فغرور الإنسان يدفعه إلى أن يعظم نفسه ويقول: أنا سباق للخير، لو كان الدين هذا خيراً لكنت أنا من أصحابه، فطالما أني لست من أصحابه فهذا ليس خيراً، هذه هي نظرة الكفار لجهلهم وحماقتهم، قالوا ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، وليسوا بأول من قال ذلك، فهذا فرعون قال ذلك قبلهم بآلاف السنين، قال ذلك لموسى عليه الصلاة والسلام: إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد.

تفسير قوله تعالى: (وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر)

تفسير قوله تعالى: (وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر) ثم قال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} [غافر:27]. {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ} [غافر:27]، أي: استجرت بالله، ألجأ إليه، وأعوذ به، وأعتصم وألوذ وأحتمي به سبحانه وتعالى، {إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي} [غافر:27] هذا موسى وحده عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام؛ لأن بني إسرائيل لم يكونوا مع موسى على استقامة دائمة حيث يدعوهم لجهاد فرعون، فإنهم كانوا يخافون، فموسى يجد نفسه وحيداً ليس معه أحد إلا الله سبحانه وتعالى، ولهذا قال: {إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} [غافر:27]، أي: من كل إنسان متعاظم في نفسه، كفر بالله، وكفر باليوم الآخر، وظن في نفسه أنه يقدر على كل شيء، فأعوذ بالله من فرعون ومن معه، {إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ} [غافر:27]. وفي هذا بيان للعقيدة الصافية، فموسى يقول لفرعون: ربي هو ربك، {إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ} [غافر:27] أي: عذت بالذي هو ربي والذي هو ربك، فلست رباً ولست إلهاً، وإنما الرب الذي خلقك والذي يستحق العبادة هو الله وحده سبحانه وتعالى، فقال لفرعون: {إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} [غافر:27].

تفسير قوله تعالى: (وقال رجل من آل فرعون يكتم إيمانه)

تفسير قوله تعالى: (وقال رجل من آل فرعون يكتم إيمانه) قال تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} [غافر:28] ظهر الآن من يدافع عن موسى عليه الصلاة والسلام، وإن كان يتلطف في ذلك، وهو الرجل المؤمن الذي ذكر الله عز وجل أنه من آل فرعون، وهذا هو الراجح في سياق الآية وما في معناها: أن هذا مؤمن من آل فرعون، من أقباط مصر، فأهل مصر كان يطلق عليهم الأقباط، فهذا الرجل قبطي من أهل مصر، وليس من بني إسرائيل، رجل مؤمن يكتم إيمانه، فقال لفرعون وهو يكتم الإيمان: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر:28] والمعنى: ماذا عمل موسى؟ أتحاسبونه على تفكيره؟ أتحاسبونه على كلام يقوله؟ هل فعل فيكم شيئاً؟ أقتل منكم أحداً؟ لم تريدون أن تفعلوا به هذا الأمر؟ {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر:28]، أي: جاءكم بآيات بينات رأيتموها قبل ذلك، فقد رأى فرعون اليد والعصا، فقد أخرج موسى يده فإذا هي بيضاء للناظرين، وألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين، ثم وجدوا الآيات الأخرى التي ساقها الله عز وجل في سورة الأعراف: السنين، والنقص من الثمرات، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم. {وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا} [غافر:28] هنا نلحظ التلطف في الخطاب، فإنه لو قال لهم: أنا مؤمن معه لقتلوه مباشرة، ولكنه تلطف معهم في الخطاب من أجل أن يتدرج معهم في الحجج، فقال لهم: انظروا وتدبروا وتأملوا وتفكروا، لقد أتى لكم بآيات قبل ذلك، آيات بينات، وأنتم رأيتموها، وكنتم تقولون له: ادع لنا ربك، أي: أنه أتى بالآيات هذه من عند ربه، {وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا} [غافر:28]، هنا إدخال الشك في نفس الإنسان المجادل المخاصم، فهو يقول لهم: إذا فرضنا جدلاً أن موسى هذا كان كذاباً فذنبه على نفسه، أما إذا كان صادقاً فكيف يكون الأمر؟! ففكروا فيما جاءكم به، {وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر:28]. ومؤمن آل فرعون هذا قيل: اسمه حبيب النجار، وقيل: اسمه شمعان، أو حزقيل، لكن لا يهمنا اسمه، وإنما الذين يهمنا هو فعله العظيم الجميل، وجداله بالتي هي أحسن مع هؤلاء، والتدرج معهم في البيان حتى يقبلوا منه هذه الحجة أو يرفضوها، فيقول لهم: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر:28]. يقول لهم: موسى عليه الصلاة والسلام لم يذنب، فما الذنب الذي جناه حتى تقتلوه؟ {وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر:28] فتفكروا في الآيات واتركوا ما يقوله الآن، ولكن انظروا في الآيات، ولذلك لمعرفة أي رسول أنه رسول لابد أن يأتي بآية، فإذا أتى بمعجزة يقهر بها البشر، ويرون أنه صادق فيما يقول، وأنهم لا يقدرون أن يأتوا بمثل ما أتى به؛ فيلزمهم أن يصدقوه فيما يقول، أي: أن للناس على أي رسول أن يقولوا: هات آية تثبت أنك رسول من عند رب العالمين، فيأتيهم بمعجزة يتحداهم بها، معجزة يتحدى بها القوم ويعجزهم أن يأتوا بمثلها، فإذا غلبوا فيلزمهم أن يصدقوا وأن يؤمنوا بما جاء به من شريعة من عند رب العالمين. ولهذا قال: {وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر:28]، ثم افترضوا: {وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} [غافر:28]، أي: إذا كان يكذب على الله فالله عز وجل سوف يحاسبه ويعاقبه، ولو كان صادقاً {يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} [غافر:28]، وهو يعدكم بالجنة في الآخرة فسوف يصيبكم من الجنة، ويعدكم في الدنيا بأن يؤتيكم الله الثمرات ويؤتيكم البركات ويؤتيكم الخير، فسوف يصيبكم بعض الذي يعدكم من خير ومن نعم من الله عز وجل. {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ} [غافر:28] أي: على نفسه في معصية الله سبحانه وتعالى بسفك الدماء، أو بفعل الحرام، {كَذَّابٌ} [غافر:28] أي: مفتري، يفتري على الله سبحانه وتعالى. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة غافر [26 - 28]

تفسير سورة غافر [26 - 28] إن الله سبحانه وتعالى إذا طمس بصيرة العبد فإنه يصبح لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، بل يدعو على نفسه بالهلاك بدلاً من اتباع الحق المبين، وذلك كفراً وعناداً، وفي هذه الحالة على المؤمن التقي الالتجاء والرجوع إلى ربه سبحانه، وعليه أن يقيم الحجة على خصمه بالتي هي أحسن.

تفسير قوله تعالى: (وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه لا يؤمن بيوم الحساب)

تفسير قوله تعالى: (وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه لا يؤمن بيوم الحساب) أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة غافر: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ * وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ * وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ * يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ * وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ * وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [غافر:26 - 33]. ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات أن فرعون قال: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} [غافر:26]، وكان هذا حين أرسل الله عز وجل موسى عليه الصلاة والسلام بالآيات البينات إلى فرعون يدعوه إلى عبادة الله سبحانه، وترك ما هو فيه من كفر وضلال، وعلو واستكبار على الخلق، فقال فرعون: ذروني، أي: دعوني أقتل موسى، (وليدع ربه)، وكأنهم خوفوه من دعاء موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. وقد رأى قبل ذلك كيف دعا عليهم موسى عليه السلام فابتلاهم الله سبحانه بالسنين ونقص من الثمرات وغير ذلك من الآيات، فخوفه قومه من دعاء موسى فقال: وليدع ربه، فتهور فرعون في هذا الأمر، وهذه سمة من سمات الكفار: التهور في أمر الدعاء، والتهور مع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والتهور مع ربهم سبحانه وتعالى، يتبجحون ويتهورون ويطلبون ما فيه هلاكهم. وقد جربوا مع موسى عليه السلام مرات كثيرة كيف أنه دعا عليهم فاستجاب الله عز وجل دعاءه، فكأنهم خوفوا فرعون من ذلك، لكن الرياسة والملك كانت أهم عند فرعون من أن الناس يخوفونه من دعاء موسى، وأهم عنده من الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال: (وليدع ربه)، وبين لهم السبب فقال: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26] ودينهم هو عبادة فرعون، يعبدونه من دون الله، فإنه قد استخف قومه فأطاعوه، استخفهم فأوهمهم أنه إله، وأنه ربهم، وأن له ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحته، وهم قد كانوا ضعاف العقول، فاستخفهم بطيشه، وبغبائهم، وحماقتهم صدقوه فيما يقول {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:54]، منسلخين عن دين الله سبحانه، خارجين عن طاعة الله سبحانه وتعالى. يضحك عليهم فرعون ويخدعهم بكلام باطل ويقول لهم: {يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51]، انظر إلى خداعه وكذبه، وانظر إلى غباء هؤلاء الذين معه، فهم تركوا التفكر في الآيات التي جاء بها موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وصدقوا فرعون فيما قال لهم، مع أنه لا أحد منهم يعتقد أن فرعون هذا رب، ولا أنه يستحق العبادة، ولكن فرعون قوي، وهو من منطق القوة يكلمهم: أليس لي ملك مصر؟ من ينازعني؟ هذه الأنهار تجري من تحتي، أليس أنا الذي عملت هذه الأنهار؟ إذاً أنا ربكم الأعلى، فيصدقونه، ويقول: اعبدوني، فيعبدونه من دون الله، فقد كانوا ضعاف العقول، أغبياء، وصفهم الله عز وجل بذلك: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف:54]، أطاعوه في غضب الله، وفي معصية الله سبحانه وتعالى، {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:54]. وكذلك كل قوم يتابعون الأقوى حتى ولو لم تكن معه حجة فهم قوم فاسقون، الذين لا يعملون عقولهم، ولا يفكرون في آيات الله، ولا في شرع الله، ولا في دين الله، وإنما ينظرون من القوي فيقولون: نحن مع الأقوى، نخاف على أنفسنا ونخاف على عيالنا ونخاف على بيوتنا، ولذلك نمشي مع الأقوى حتى ولو كان على حساب الدين، وعلى حساب توحيد الله سبحانه وتعالى. فهذا فرعون قال: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} [غافر:26]، فلا يهمه الدعاء، فاستدعى على نفسه غضب الله سبحانه، واستعجل هلاكه، وكذلك فعل كفار قريش مع النبي صلى الله عليه وسلم حين دعوا على أنفسهم، فقد قال أبو جهل وأمثاله: اللهم إن كان هذا - يعني الدين الذي مع النبي صلى الله عليه وسلم- {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32]، بدلاً من أن يطلبوا من الله الهداية إلى هذا الدين؛ طلبوا العذاب والمطر من السماء الذي يكون فيه هلاكهم، فالكافر يستدعي على نفسه غضب الجبار سبحانه وتعالى، ويقرب نفسه من عذاب النار والعياذ بالله، هؤلاء هم الكفار وهؤلاء أسلافهم من قوم فرعون، وأبو جهل كان فرعون هذه الأمة، وهذا فرعون موسى، فهذا طلب الهلاك وذاك طلب الهلاك، وقال: (وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم)، هذا الدين الذي يدعيه فرعون قال: أخاف أن يبدل دينكم فتطيعون موسى وتطيعون الله سبحانه، (أو أن يظهر في الأرض الفساد)، أي: يظهر موسى في الأرض الفساد، وهو يقصد بذلك دين الله سبحانه وتعالى. وكذلك الكفار في كل زمان ومكان، ينظرون إلى دين الله سبحانه فينفرون الناس عنه، ويقولون عن أهل الإيمان: هؤلاء هم المخرفون، هؤلاء هم المفسدون، هؤلاء هم الإرهابيون، هؤلاء أصحاب الكتب الصفراء، يرمون أهل الحق بالضلالات وبالباطل، فيقولون عنهم: إنهم أهل الفساد، وقد قالوها عن موسى، وقالوها عن النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: {لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف:11]، أي: لو كان هذا الدين خيراً ما سبقونا إليه، فصدقهم الجهال وضعفاء العقول، وقالوا: هذا صحيح، فإن فينا فلاناً وفلاناً، كما قال الله تعالى عنهم: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31]، أي: لو أن القرآن نزل على واحد عظيم من قريش، على أبي جهل مثلاً، أو على عروة بن مسعود الثقفي، لماذا نزل القرآن على محمد؟! هذه نظرتهم الغبية، ولم ينظروا إلى هذا القرآن، وما فيه من إعجاز ومن تحد، فإنه قد تحداهم فلم يقدروا على مثله، فهم لم ينظروا إلى ذلك، وإنما نظروا إلى من الذي نزل عليه هذا القرآن؟ كما نظرت اليهود من الملك الذي ينزل من السماء إلى الأرض بهذا القرآن؟ فإذا كان جبريل فهذا عدونا، ونحن لا نريده وإنما نريد ملكاً آخر أين عقول هؤلاء؟! لم يتفكروا في هذا القرآن، وإنما نظروا بكفرهم وبغبائهم ورأوا أنهم على ملة لا يريدون تركها، فلم يتفكروا فيما جاء من عند رب العالمين سبحانه وتعالى. حينما قال موسى متعوذاً بربه سبحانه، لاجئاً إليه، معتصماً به: (إني عذت)، أي: لجأت إلى الله سبحانه وتعالى، واعتصمت به سبحانه، واحتميت به: {إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} [غافر:27]، متكبر أي: متعظم في نفسه، لا يؤمن بيوم الحساب.

تفسير قوله تعالى: (وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه)

تفسير قوله تعالى: (وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه) قال تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر:28]، والمفسرون اختلفوا في هذا الرجل المؤمن: هل هو من آل فرعون، أي: من قوم فرعون، من أقباط مصر، أم أنه رجل من بني إسرائيل مع موسى؟ وهذا الرجل يكتم إيمانه من فرعون، أي: كأن في الجملة تقديماً وتأخيراً على هذا القول، فيكون المعنى: وقال رجل مؤمن يكتم إيمانه من آل فرعون، والأول أصوب، وهو أنه رجل من قوم فرعون، من آل فرعون، أي: رجل من أهل مصر؛ لأنه يخاطب قومه بعد ذلك ويقول: يا قومي، يا قومي: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} [غافر:41]، فدل على أنه منهم، ولكنه كان مؤمناً رضي الله عنه. {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} [غافر:28] فهو لم يقل: أنا مسلم مع موسى عليه الصلاة والسلام، ولكن كتم إيمانه وجادل فرعون وقومه بالحجج، ودعاهم أن يعملوا عقولهم، فما دام أن هذا الرجل جاء لكم ببينة فلماذا لا تنظرون في البينة التي جاء بها؟ لماذا لا تناقشونه فيما جاء به؟ فلعله يكون صادقاً فيصيبكم بصدقه بعض الذي يعدكم، وإن كان كاذباً فالله لا يهدي المسرف الكذاب، فتعالوا نفكر فيما جاء به موسى عليه الصلاة والسلام بدلاً من رده، وبدلاً من توبيخه وإرادة قتله. فقال هذا الرجل المؤمن: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر:28] يعني: ما جريمته؟ هل أجرم معكم؟ هذا الرجل يتكلم فلماذا لا تناقشونه بالحجة وبالعقل بدلاً من قتله؟ هل لأنه يدعوكم إلى الله تقتلونه؟ قال: {وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر:28] إذاً: له عذره، فقد أتاكم ببينات، ففكروا في هذه البينات، وانظروا في هذه الآيات، {وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} [غافر:28]، وبدأ بتقديم الكذب على الصدق لأنه هو منهم ويكتم أنه مؤمن فقال: إن يكن موسى هذا كاذباً فعليه كذبه، وربه سيعاقبه؛ لأنه يكذب عليه، وإن كان صادقاً فاتباعه فيه الفلاح والنجاة لنا جميعاً. {وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر:28]، مسرف، أي: على نفسه في المعاصي، وكذاب: يكذب على الخلق ويكذب على الخالق سبحانه وتعالى. هذا قول الرجل المؤمن من آل فرعون الذي كان يكتم إيمانه، وقد ناقش الموضوع بكلام طيب، حيث انتقل من شيء إلى شيء، حتى إنهم في النهاية علموا أن هذا مؤمن مع موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام.

أبو بكر الصديق ومؤمن آل فرعون

أبو بكر الصديق ومؤمن آل فرعون هذا الرجل العظيم كان مثله في أمتنا سيدنا أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، حيث يذكره علي رضي الله عنه ويقول: أبو بكر الصديق خير من مؤمن آل فرعون، مؤمن آل فرعون كان يكتم إيمانه وأبو بكر الصديق كان يظهر إيمانه رضي الله عنهما. وهناك قصة ذكرها الإمام البخاري مختصرة، وساقها الإمام أحمد مطولة، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه حيث سأله عروة بن الزبير فقال له: ما أكثر ما رأيت قريشاً أصابت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يوماً في الحجر، أي: عند الكعبة في الحجر، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط! سفه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم! يذكرون هذا بنوع من التغيظ على النبي صلى الله عليه وسلم، وبنوع من إيقاد الشر عليه عليه الصلاة والسلام، فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل يمشي حتى استلم الركن، أي: أراد أن يطوف بالكعبة عليه الصلاة والسلام، ثم مر بهم طائفاً وهم عند الحجر فغمزوه ببعض ما يقول، قال: فعرفت ذلك في وجهه، أي: شتموا النبي صلى الله عليه وسلم، فعرف عبد الله بن عمرو بن العاص ذلك في وجهه، أي: رأى وجه النبي صلى الله عليه وسلم تغير وغضب صلى الله عليه وسلم لما قالوا، ولكن صبر صلى الله عليه وسلم ثم مضى، فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها، قال: فعرفت ذلك في وجهه ثم مضى، فلما مر بهم الثالثة غمزوه بمثلها، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: (أتسمعون يا معشر قريش؟! أتسمعون يا معشر قريش؟! أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح)، أي: بهذه الشريعة التي فيها استئصال الكفار الذين يظهرون العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم ولدين الله سبحانه وتعالى. قال عبد الله بن عمرو: فأخذت القوم كلمته عليه الصلاة والسلام، فكأنهم فزعوا مما قاله صلى الله عليه وسلم، وأسكتهم الله فلم يقدروا على الرد والجواب، قال: حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع، حتى إن أشدهم على النبي صلى الله عليه وسلم قال له: انصرف يا أبا القاسم، فوالله ما كنت جهولاً، يعني: اتركنا في حالنا، فانصرف النبي صلوات الله وسلامه عليه. حتى إذا كان الغد اجتمعوا في الحجر، قال عبد الله بن عمرو: وأنا معهم، أي: كان ما زال كافراً، قال: فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منه، وما بلغكم عنه، حتى إذا بدأكم بما تكرهون تركتموه، أي: بدأ بعضهم يحرض بعضاً على النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما هم كذلك إذ طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد يريدون أن يضربوه، ويريدون قتله عليه الصلاة والسلام. قال: فأحاطوا به يقولون له: أنت الذي تقول كذا وكذا؟ مما كان يبلغهم عنه من عيب آلهتهم ودينهم، يقولون: أنت تشتم آلهتنا، وتشتم ديننا، قال: فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم أنا الذي أقول ذلك، فقد كان شجاعاً صلوات الله وسلامه عليه، فلا يهمه أمرهم، مع أنهم قاموا له قومة رجل واحد، ولا أحد يوجد ليدافع عنه صلى الله عليه وسلم إلا حين بلغ ذلك أبا بكر رضي الله تعالى عنه، يقول عبد الله بن عمرو: فأخذ رجل منهم بمجمع ردائه، فقام أبو بكر رضي الله تعالى عنه وقال: ذروه، أتقتلون رجلاً أن يقول: ربي الله؟! ثم انصرفوا عنه. هذا في رواية الإمام أحمد، وفي رواية الإمام البخاري قال: فجاءوا للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فهجموا عليه وهو يصلي صلى الله عليه وسلم فوضع أحدهم رداءه في عنقه، وهو المجرم الملعون عقبة بن أبي معيط لعنة الله عليه وعلى أمثاله، فوضع رداء النبي صلى الله عليه وسلم في عنقه فخنقه خنقاً شديداً، فجاء أبو بكر رضي الله عنه فدفعه عنه وقال: أتقتلون رجلاً أن يقول: ربي الله وقد جاءكم بالبينات؟! فهجموا على أبي بكر رضي الله عنه، وضربوا أبا بكر ضرباً شديداً، فرجع أبو بكر رضي الله عنه، فجعل لا يمس شيئاً من شعره إلا جاء معه وهو يقول: تباركت يا ذا الجلال والإكرام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام. أبو بكر الصديق أظهر إيمانه ودافع عن النبي صلوات الله وسلامه عليه، ونصر الله عز وجل به هذه الأمة في حرب الردة لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم وارتد من ارتد عن دين الله عز وجل، فقام أبو بكر وحده وثبطه كثيرون، فأبى إلا أن يقوم لينصر دين الله سبحانه وتعالى، وقال: لأقاتلن حتى تنفرد سالفتي، أي: أقاتل هؤلاء المرتدين حتى أكون وحدي لا أحد معي، أقاتل حتى تنفرد سالفتي، يعني: حتى أقتل، فيكون معه عذر عند الله، فأيد الله عز وجل به هذا الدين، وقام الناس معه، ورجع دين الله إلى ما كان، ونشر الله هذا الدين بفضله سبحانه وتعالى ثم بما صنعه أبو بكر رضي الله تعالى عنه، فهذه مقولته وهذه مقولة مؤمن آل فرعون قبله: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟ هذا دافع عن موسى وذاك دافع عن نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه. نسأل الله عز وجل أن ينصر دينه، وأن يثبت المؤمنين في كل زمان ومكان. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة غافر [28 - 34]

تفسير سورة غافر [28 - 34] ذكر الله سبحانه قصة الرجل المؤمن من آل فرعون الذي كان يكتم إيمانه، ودعوته لقومه وتحذيره لهم، ولما توعد فرعون بقتل موسى حذره من قتله، وذكر له كيف أن الله أهلك الأمم السابقة بسبب تكذيبهم لرسلهم، وقال: كيف تقتلون رجلاً لأنه يقول: ربي الله، وقد أقام لكم البرهان على صدق ما جاءكم به من الحق؟! وبعد أن خوفهم بالعقوبة في الدنيا حذرهم من عقاب الله لهم في الآخرة، ولكنهم لم يستجيبوا ولم يرعووا.

تفسير قوله تعالى: (وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه)

تفسير قوله تعالى: (وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه) أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة غافر: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ * يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ * وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ * وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} [غافر:28 - 34]. عندما ذكر الله سبحانه وتعالى أن مؤمن آل فرعون دافع عن موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام عندما غضب فرعون من موسى وأراد قتله، قال تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26]، فتعوذ موسى بربه، ولجأ إليه، واعتصم به سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} [غافر:27] فانبرى هذا الرجل المؤمن، وهو من قوم فرعون، أي: من أقباط مصر، وليس من قوم موسى، أي: ليس من بني إسرائيل، وكأن الرجل له مركز بحيث إنه يكلم فرعون ويكلم من معه وينصحهم، فقام هذا الرجل المؤمن، وكان يكتم إيمانه حتى أظهره بعد ذلك، فقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر:28]، أي: أتحاسبون موسى -على نبينا وعليه الصلاة والسلام- على ما يتكلم به ولم يجرم في حقكم؟ فهل قوله: ربي الله يعتبر جريمة يستحق عليها أن يقتل؟ وليس فقط يقول هذا، ولكنه جاءكم ببينات وبأشياء تدل دلالة واضحة على صدقه فيما يقول، قال تعالى: {وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} [غافر:28] أي: لنفرض أنه كاذب فهو يتحمل هذا الكذب، ولكن لو كان صادقاً فماذا يكون الأمر؟ قال تعالى: {وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} [غافر:28] فإذا كان صادقاً فوافقتموه واتبعتموه أصابكم الذي يعدكم من بركات السماء والأرض، وأصابكم وعد الله سبحانه بأن يدخلكم جنات النعيم في الآخرة، وإن لم تتبعوه أصابكم بعض الذي يعدكم من عذاب الله في الدنيا وفي الآخرة. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر:28] المسرف: هو من أسرف على نفسه بالمعاصي، والكذاب: هو الذي يكذب على الخلق ويكذب على الخالق سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض)

تفسير قوله تعالى: (يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض) قال الله تعالى: {يَا قَوْمِ لَكُمْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29] واضح أن خطاب هذا الرجل المؤمن مع قومه فيه التلطف وفيه اللين وفيه الحجج العقلية والإقناع، فلم يأمرهم مباشرة، ولكنه تلطف في الوصول بهم إلى أن يعرفوا الحق، ويحكموا عقولهم فيما يقوله موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فقال متلطفاً بهم: يا قوم أنا أريد لكم الخير، وهنا أظهر هذا المؤمن الإيمان الذي أبطنه في قلبه، فخوفهم من بطش الله وبأسه في يوم القيامة، وقال لهم قبل ذلك: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ} [غافر:29] والظهور: هو العلو والرفعة في الأرض، فهم ملوك في الأرض، وكانت لهم المناصب والقوة، ولكن يوم تأتون إلى ربكم سبحانه لا حول لكم ولا قوة، وقد كانوا في الدنيا عالين في الأرض، وغالبين غيرهم، قال: {فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر:29] أي: إذا جاءنا العذاب من عند الله فمن الذي يدفع عنا نقمته وعذابه؟ فهذه الحجج العقلية التي قالها تقتضي أنه لا بد وأن يؤمنوا بما يقول، فقد جاءهم موسى بتسع آيات بينات، وكانوا يرونها ولا يقدرون عليها أبداً، وهي: يده التي أخرجها من جيبه فإذا هي بيضاء للناظرين، وألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين، فكذبوا واعرضوا فأرسل الله عز وجل عليهم الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم آية وراء آية، فكل آية تأتيهم من هذه الآيات يجأرون إلى موسى: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف:134]، فهم عرفوا أنهم لا قبل لهم ولا طاقة لهم بهذه الآيات التي يأتيهم بها موسى من عند ربه سبحانه وتعالى. وفرعون فهم ذلك، ومع ذلك استخف بمن معه، فملكه ورياسته جعلته لا يأبه لذلك، المهم أن يكون هو الغالب العالي على غيره، فطرد موسى وأظهره أمام الخلق أنه كذاب، فقال فرعون: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى} [غافر:29] فالإنسان الذي بيده القوة والمنصب والرياسة، إذا أقنعته بالعقل في أشياء معينة لا يعمل عقله فيها، فالرأي رأيه طالما أن القوة معه، وهذا في كل الأرض يحدث ذلك، فمهما تكلم البشر عن الحرية وعن المساواة وعن العدل وعن الديمقراطية وعن كذا وكذا، فإنهم يكذبون إذا لم تكن شريعة الله عز وجل تحكمهم، فلا بد من وازع في القلب، فالقلب يخاف من الرب سبحانه وتعالى، ويجعل الإنسان لا يعصي الله ويمتنع من أخيه الإنسان أن يؤذيه؛ لأنه يعلم أنه سيرجع إلى الله وسيحاسبه يوم القيامة. أما الخوف من الحكومة أو من الشرطة أو من القوة فهذا خوف في الظاهر، وهذا في طبيعة البشر، فلذلك ربنا سبحانه نزل الشريعة التي فيها الحكم بالعدل، وفيها التخويف من الله سبحانه وتعالى بأنه سيجازي ويحاسب الناس يوم القيامة، وأنهم إليه راجعون ليحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون، وفيها الحكم الذي يُحْكَم به العباد، فيأمر الله السلطان بأن يحكم بما أنزل الله، فيقطع يد السارق، ويرجم الزاني الثيب، ويجلد الزاني البكر، ويجلد من يقذف المحصنات المؤمنات وهكذا، فيقيم الحدود التي أمر الله عز وجل بإقامتها.

صاحب القوة هو صاحب القرار في شريعة الغاب

صاحب القوة هو صاحب القرار في شريعة الغاب والشيء الذي يجعل الناس يخافون من الوقوع في المعاصي هو ما في قلوبهم من الإيمان، فإذا لم يكن فيها إيمان فمهما ادعى الإنسان الحرية والمساواة والعدالة فهذا كذب كله، والعالم كله يتكلم عن العدالة وعن المساواة وعن الحرية وعن كذا وكذا، لغاية ما تعلو دولة من الدول، وفي النهاية تكون النتيجة بحسب ما يريدون، فيحتلون بلاد المسلمين لأنهم ضعاف مغلوبون منكوسون، أما الدولة القوية أمريكا فهي أعلى الدول، ومن حقها أن تفعل ما تشاء، فالمسلون ليس معهم قوة مثل قوتها من أجل أن يقولون لها: لا تفعلي كذا، فتتكلم أمريكا بمنطق فرعون وبمنطق الغابة: نحن الأقوى وصوتنا الأعلى نحن الذين نتكلم وغيرنا يسمع نحن الذين في أيدينا أن نؤدب من نشاء، وأي دولة أو رئيس دولة يمشي شمالاً أو يميناً فإننا نؤدبه ونسجنه ونبعث له القوات وغيرها!! فهم يكذبون وجنودهم يقتلون ويدنسون المصاحف، ولا أحد يقدر أن يمنعهم، فأين الحرية؟ وأين المساواة؟ وأين العدل؟ وأين الديمقراطية؟ فكل ما يدعونه كذب، فليس يحكمهم شيء من عند ربنا سبحانه وتعالى، فالذي يحكمهم هو قانون الغاب للأقوى، فيعملون ما يريدون، وغيرهم يمنع عن ذلك، فيصنعون القنبلة الذرية ويمنعون غيرهم، ومن أراد أن يصنعها فإنه يفتش ويعاقب ويحتل دياره وأرضه بدعوى أنه يصنع سلاح الدمار الشامل! أما هم فلا؛ لأنهم الأقوى فيفعلون ما يشاءون، فهذا منطق الغابة، الذي تفعله أمريكا وأوروبا وكل من يملك القوة.

سبب تسلط اليهود على المسلمين

سبب تسلط اليهود على المسلمين ولذلك فإن ربنا أمرنا بأن نعبده فعصيناه، قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] فقلنا: منطق القوة كان زمان الاستعمار، ونحن في هذا الوقت في حرية ومساواة وعدالة وتنوير وكذب وضلال وبعد عن ربنا سبحانه وتعالى، ففجر الكثيرون من المسلمين، وتركوا دينهم وراءهم ظهرياً، وحاربوا ربهم سبحانه وتعالى، فاستحقوا الضلالة التي هم فيها، واستحقوا سخط الله سبحانه وتعالى. والمسلمون يحاربون ربهم بأفعالهم المخالفة، فترى النساء العاريات يحاربن الله سبحانه وتعالى، فإذا قلت لعارية منهن: اتقي الله، قالت لك: وأنت ما لك؟! هذا شأني وليس لك دخل بي! فتحارب ربها جهاراً نهاراً وتأبى أن تطيع الله سبحانه وتعالى، وإذا قلت لرجل: كيف تترك ابنتك عريانة هكذا؟ رد عليك: وأنت ما لك، اتركها حرة فإنها لا تزال صغيرة، يا أخي! أنتم تريدون أن تكتفوهن وتدخلوهن داخل الخيمة وتلبسوهن النقاب، وتعملوا لهن كذا وكذا فهؤلاء لا يستحقون النصر أبداً، ولا يستحقون إلا ما فعله الله ببني إسرائيل، الذين ضربت عليهم الذلة والمسكنة، فسلط بني إسرائيل على المسلمين، فإذا بهم يدوسونهم بالأقدام في كل مكان في العالم. فإسرائيل تعلن للعالم أن الذي يتكلم عن اليهود فإنه يحارب السامية، ومن فعل ذلك فوفقاً للقانون أنه يسجن، أما هم فيتكلمون ويتبجحون والمسلمون قد أخرسوا وسكتوا؛ لأنهم حاربوا ربهم سبحانه؛ ولأنهم كذبوا على الله، وأكلوا السحت، وانتشر بينهم الفساد، وانتشرت فيهم الأخلاق الكاذبة، ولا يقبل أحدهم أن ينصح في الله أو يقبل النصيحة، فمن أمر بالمعروف أو نهى عن المنكر يقول الناس عنه: فلان رمى بنفسه إلى المخاطر! فمنطقهم: أنا في حالي وأنت في حالك، واترك الإجرام ينتشر، والزنا يكثر، والفواحش تملأ الدنيا، وليس لك دخل في ذلك! فكان منطقهم مثل منطق فرعون لما قال لقومه: ما أريكم إلا ما أرى، فأنا على الحق، وأنا المبصر وأنتم العميان، فقال لهم كما قص الله ذلك {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51]، أي: أليس أنا الملك؟ فهذه الأنهار التي تجري من تحتي هي من عملي، أفلا أستحق أن أكون رباً؟ فيجيب قومه: بلى أنت الرب، قال تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف:54] أي: لعب بعقولهم الخفيفة، ويبدو أن هذه كانت طبيعة المصريين في الماضي، وأن الذي يملكهم فإنه يقنعهم بمنطق العصا، {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:54]، ومعنى فاسقين: خارجين عن دين الله وطاعته سبحانه وتعالى. وفرعون قال لقومه لما ناقشه الرجل المؤمن بالبينات وبالمنطق وبالعقل: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29]، أي: أنا وحدي فقط الذي أعرف سبيل الحق والرشاد! وموسى لا يعرفه ولا غيره، فأنا الذي أهديكم إلى الحق، فاعبدوني، والعياذ بالله!

تفسير قوله تعالى: (وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب)

تفسير قوله تعالى: (وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب) قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ} [غافر:30] أي: يا قوم! خافوا من ربكم سبحانه وتعالى، وتذكروا ما الذي صنع بمن قبلكم؟ الذين تحزبوا على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وتجمعوا عليهم بالباطل وأرادوا الكيد لهم، فأهلكهم الله تعالى، وهم قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم، قال الله تعالى: {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} [غافر:31] فأين ذهب قوم نوح وقوم عاد وقوم ثمود والذين من بعدهم؟ قال الله تعالى: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر:31] أي: الله لا يريد الظلم بالعباد، وإنما يريد أن يحق الحق سبحانه وتعالى. فخوفهم بالعقوبة في الدنيا كما حدث للسابقين، قال تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} [العنكبوت:40] فالسابقون عاقبهم الله عز وجل في الدنيا قبل الآخرة، فاحذروا أيها القوم من عقوبة الله لكم في الدنيا ثم عقوبته يوم القيامة.

تفسير قوله تعالى: (ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد)

تفسير قوله تعالى: (ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد) قال تعالى: {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} [غافر:32] يوم التناد: هو يوم التناجي، يوم ينادي الناس بعضهم بعضاً، ويستجير بعضهم ببعض فلا مجير ولا عاصم ولا ملجأ من الله إلا إليه. وقوله تعالى: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} [غافر:32] هذه الآية فيها قراءتان: قراءة ورش وابن وردان بوصل كلمة (التناد) بما بعدها، فيثبتان الياء، وعند الوقف عليها يحذفان الياء. أما ابن كثير ويعقوب فيقرأان: (يوم التناد) وصلاً ووقفاً. ويوم التناد: هو يوم القيامة، مأخوذ من النداء الذي هو الصراخ، فإنه يصرخ بعضهم على بعض، وينادي بعضهم بعضاً، فيقول أهل الجنة لأهل النار: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا} [الأعراف:44] وينادي أهل النار أهل الجنة، قال تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [الأعراف:50] فيرد عليهم أهل الجنة: {إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف:50]. وينادي أصحاب الأعراف أناساً يعرفونهم بسيماهم، قال تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [الأعراف:48] فأصحاب الأعراف ينادون المستكبرين من أهل النار: هل رأيتم عذاب رب العالمين؟ هل رأيتم وعد الله وقد تحقق بكم؟ ويتعوذون بالله أن يجعلهم معهم، والملائكة تنادي أهل الجنة وأهل النار فيرفعون أعناقهم إلى النداء، فيرون الموت ويقال لهم: أتعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، فيذبح الموت بين الجنة والنار، ويقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت. وينادي أهل النار مالكاً، قال تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77]. وينادون ربهم سبحانه وتعالى فيقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:107] فيوم القيامة هو يوم التناد. قال تعالى: {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} [غافر: [32 - 33] وهذه الآية مثل قوله تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37] فكل إنسان يهرب من الآخر، ويقول: نفسي نفسي، قال تعالى: {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} [غافر:33] أي: يعطي كل واحد منهم دبره للآخر، ويفر منه ويعطيه ظهره، ويمشي بعيداً عنه، فلا الزوج ينفع زوجته، ولا المرأة تنفع زوجها، ولا الابن ينفع أباه وهكذا، قال تعالى: {مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} [غافر:33] أي: من منجٍ يعصمكم ويدافع عنكم أمام عقوبة رب العالمين سبحانه، {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [غافر:33] أي: من أضله الله وختم على قلبه فمن الذي يهديه من بعد الله سبحانه وتعالى؟!

تفسير قوله تعالى: (ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات)

تفسير قوله تعالى: (ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات) قال لهم: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} [غافر:34] يعني: أن موسى ليس جديداً عليكم بأن يدعوكم دعوة التوحيد، فيوسف كان من قبله ودعا ملك مصر إلى ربه سبحانه وتعالى، وكان على خزائن الأرض يحكم بالعدل، ويوحد ربه سبحانه وتعالى، {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ} [غافر:34]، فمنكم من آمن وصدق، ومنكم من شك فيه وكذب، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا هَلَكَ} [غافر:34]، أي: توفاه الله سبحانه، {قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} [غافر:34]، أي: زعمتم أنه آخر الرسل ولن يأتي إليكم من بعده أحد قال تعالى: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} [غافر:34]. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة غافر [34 - 37]

تفسير سورة غافر [34 - 37] يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات وما قبلها عن مناظرة وجدال الرجل الصالح مؤمن آل فرعون لفرعون ومن معه، وأنه حذر قومه بأس الله تعالى في الدنيا والآخرة، وذكر لهم ما حل بالأمم السابقة التي كذبت الرسل، كقوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم، وكيف أن الله أهلكهم بذنوبهم وتكذيبهم رسله ومخالفتهم أمره، ومع هذا كله أصر فرعون على كفره وطغيانه، حتى أهلكه الله وقومه بأن أغرقهم في البحر.

تفسير قوله تعالى: (ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات)

تفسير قوله تعالى: (ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة غافر على لسان مؤمن آل فرعون: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} [غافر:34]. يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآية وما قبلها عن مناظرة وجدال مؤمن آل فرعون لفرعون ومن معه، ودعوتهم إلى أن ينظروا في كلام موسى وأن يتريثوا، فلا يحكموا عليه حتى يروا ماذا يقول، وحتى يتدبروا كلامه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وكان يخاطبهم بقوله: يا قوم! يا قوم! يتلطف معهم، ولم يظهر لهم إيمانه في البداية لعلهم يحكمون عقولهم، وحتى لا يصدوه عن سبيل الله سبحانه وتعالى إذا علموا أنه مؤمن، فكأن هذا المؤمن التقي أخفى إيمانه من هؤلاء خوفاً منهم، هذه ناحية، والناحية الأخرى: أنه أخفى إيمانه لأنه لو بدأ وقال: أنا مؤمن مع موسى، لكذبه فرعون ولأعرض عنه ولم يستمع إلى ما يقوله، ولذلك كتم إيمانه في البداية وبدأ يقول: تفكروا إذا كان هذا الرجل كاذباً فالله سيحاسبه على كذبه، وإذا كان صادقاً فسيصيبكم بعض الذي يعدكم، وهو يعدكم بأنكم إذا آمنتم فلكم الجنة، وإذا كفرتم فلكم النار، وقد جربتم العذاب قبل ذلك، فلم لا تفكرون فيما يقول موسى عليه السلام؟ ثم ذكرهم بما حدث للأمم السابقة فقال: {يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ} [غافر:30] قوله: (مثل يوم) أي: جنس الأيام التي جرت على الأحزاب الذين كانوا من قبلكم، قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط، وغيرهم ممن تحزبوا على أنبياء الله وأرادوا إيذاءهم وقتلهم، فجاءهم العذاب من عند الله سبحانه وتعالى، فخوفهم بعقوبة الدنيا، ثم خوفهم بعقوبة الآخرة فقال: {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} [غافر:32] أي: يوم القيامة يوم يستغيث بعضكم ببعض فلا ينفع بعضكم بعضاً. ثم ذكرهم هذا الرجل المؤمن بأنه قد جاءهم قبل موسى نبي آخر وهو يوسف عليه السلام، جاء إلى مصر وكان يعمل على خزائن الأرض حفيظاً وأميناً ووزيراً لملك مصر، ودعاهم إلى دين الله سبحانه وتعالى، فهو لما كان في السجن قال لمن معه: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:39 - 40] فأخبرهم بأن الإله الواحد سبحانه خير، وأن الأرباب المتفرقة التي تدعى شر، قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22] أي: لفسدت السماوات والأرض، والمعروف عند البشر أنه إذا وجد أكثر من رئيس في مكان واحد يتعارض هذا مع هذا، وكل منهما يريد أن ينفذ ما يريد، فإذا كان هناك مركب واحد فيها رئيسان فستغرق المركب في النهاية؛ لأنه لا يصلح للسفينة إلا ربان واحد، ولا يصلح للعمل إلا رئيس واحد، فكيف يكون لهذا الكون كله أكثر من إله يحكم فيه ويدبره؟ قال تعالى: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [يوسف:40] أي: أنهم سموا أشياء فعبدوها من دون الله سبحانه، عبدوا البقر وعبدوا العجل وعبدوا القمر وعبدوا الشمس وعبدوا أشياء كثيرة، حتى جاء فرعون فاستكثر هذه الأشياء {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] كأن لهم أرباباً غير الله وهو الرب الأعلى لهؤلاء، {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:54].

دعوة يوسف قبل موسى عليهما السلام

دعوة يوسف قبل موسى عليهما السلام قال الله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ} [غافر:34] أي: بالحجج النقلية من ربه سبحانه وتعالى، وناقشكم بالحجج العقلية، ورأيتم ما قال لكم، {فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ} [غافر:34] أي: توفي يوسف النبي عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، {قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} [غافر:34] فتطاول عليكم الأمد فرجعتم إلى عبادة غير الله سبحانه، {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ} [غافر:34] أي: كهذا الضلال الذي صرتم فيه وصرتم إليه {يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} [غافر:34] فهم قد ضلوا بعد يوسف على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وتشككوا فيما يقول، ولما مات يوسف قالوا: انتهى أمر الرسالة وأمر النبوة، ولن يأتينا رسول آخر، ارجعوا إلى عبادة غير الله سبحانه وتعالى، فتشككوا في أمرهم فعبدوا غير الله، فمثل هذا التشكك ومثل هذا الضلال الذي صاروا إليه يضل الله سبحانه وتعالى كل إنسان يسرف على نفسه بمعصية الله سبحانه وتعالى. والإسراف: هو التجاوز للحد في معصية الله سبحانه، فالإنسان الذي يعصي ربه سبحانه ينكت الله في قلبه نكتة سوداء، فإذا عصى ثانياً فعل به هكذا، وإذا عصى ثالثاً فلا يزال يطبع على قلبه بنكتة سوداء وأخرى سوداء وثالثة سوداء حتى يصير في غفلة، فيضله الله سبحانه فلا يتبين له الهدى أبداً. قال تعالى: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} [غافر:34] أي: من هو متشكك في دين الله سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم)

تفسير قوله تعالى: (الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم) قال الله تعالى: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر:35] أي: هؤلاء المسرفون وهؤلاء المرتابون الذين يجادلون بغير بينة، وإنما يجادلون للجدل فقط، ولذلك الشياطين توحي إلى هؤلاء بأن جادلوا المؤمنين حتى يرجعوا عن دينهم وحتى يتكلموا بالباطل، فهذا الإنسان المبطل يفرح بما يقول، فهو يجادل للجدل فقط، فتراه يقول لك: أنا ناظرت فلاناً وغلبته، وناظرت فلاناً فلم يعرف أن يرد علي! تجده يفرح بما يقول، حتى لو كان ما يقوله كلاماً ساقطاً باطلاً فهو معجب بما يقوله، قال عز وجل: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121]، فهؤلاء المجادلون في آيات الله بغير حجة وبغير بينة وبغير دليل أتاهم به الله سبحانه يضلهم الله؛ فهم المسرفون المرتابون. قال تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:35] أي: صار شيئاً كبيراً عظيماً فاحشاً عند الله وعند المؤمنين أن يجادل إنسان بالباطل في دين الله سبحانه، وكبر مقت وغضب الله عز وجل على صاحبه، ويبغضه أشد البغض، فالمقت أعظم الكراهية، والمبغوض والمكروه عند الله سبحانه وتعالى وكذلك عند المؤمنين من يجادل بغير حجة وبغير بينة. وقوله: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر:35] هذه قراءة الجمهور، وقرأها أبو عمرو وابن عامر: (على كل قلبٍ متكبرٍ جبار) أي: الذي طبع على قلوب من قبله وجنوده وملئه سيطبع على قلوبهم، وكذلك كل إنسان يتكبر على دين الله سبحانه، ويتكبر على رسل الله، ويتكبر على من يدعوه إلى الله سبحانه وتعالى يصير جباراً قاسي القلب صلباً عنيفاً قاسياً؛ لأن الله عز وجل يطبع على قلبه، فقوله: ((كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ)) كأن المعنى على قراءة الجمهور: يطبع الله على قلوب الجبارين جميعهم قلباً قلباً، كل واحد يختم الله عز وجل على قلبه فلا يفقه ولا يفهم ولا يعي ما يقول، فإذا به يهرف بما لا يعرف، ويتكلم ويخوض فيما لا يعنيه، فيجادل في الله وفي آيات الله وفي رسل الله عليهم الصلاة والسلام بغير بينة. أما القراءة الأخرى وهي قراءة ابن عامر وقراءة أبي عمرو: ((كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبٍ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ)) فيكون المعني: أن صفة هذه القلوب الاستكبار والتجبر، فيطبع الله عز وجل على كل قلب صفته أنه متكبر وجبار، وصفة القلب هذه هي صفة لصاحبها، ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح سائر الجسد، وإذا فسدت فسد سائر الجسد، ألا وهي القلب)، فقلب الإنسان إذا كان صالحاً حكم بالصلاح على جميع الإنسان، وإذا كان فاسداً حكم بالفساد على الجميع، فالقلب هو الملك والأعضاء الرعية، فإذا صلح الملك صلحت الرعية، وإذا فسد الملك فسدت الرعية، هذا هو المعنى الثاني على القراءة الثانية.

تفسير قوله تعالى: (وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا وما كيد فرعون إلا في تباب)

تفسير قوله تعالى: (وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحاً وما كيد فرعون إلا في تباب) قال الله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ} [غافر:36] أي: أن فرعون يريد أن يريهم بالتجربة العملية أن موسى هذا كذاب، فقال: ((يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ)) أي: ابن لي هرماً عالياً قوياً من أجل أن أطلع على الإله الموجود في السماء، فإن اطلعت عليه وإلا فهو كذاب، والنتيجة عند فرعون موجودة من قبل أن يستشير الناس، فقد قال: ((وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا)) أي: من الآن كونوا على يقين أن موسى كذاب، لكن أن سأطلع من أجل أن أبين لكم أن هذا كذاب فيما يقول. وقوله: ((وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ)) هامان هو وزير فرعون الذي غره منصبه عن دين الله سبحانه، وعن النظر في آيات سبحانه، وعن التدبر فيما يقوله موسى عليه الصلاة والسلام، وظل يسير وراء فرعون، ويصدقه فيما يقول، فكان معه في الدنيا وسيكون معه في النار يوم القيامة والعياذ بالله. قوله: {ابْنِ لِي صَرْحًا} [غافر:36] أي: ابن لي بناءًَ عالياً جداً حتى أصل إلى السماء، وأبحث فيها هل يوجد إله أم لا؟ ففرعون يستخف بقومه، قال: ((لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ)) أي: سأصل إلى أبواب السماء وسأفتح الأبواب، وسأنظر هل فيها إله أم لا؟ وسأنزل إليكم لأخبركم بما رأيت، لكن اعلموا أن النتيجة معلومة من الآن أن هذا كذاب. قال الله تعالى: {أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} [غافر:37] الأسباب بمعنى: الطرق، أو ارتفاعات السماء، أو الأمور التي تستمسك بها السماوات، فكأنه يقول: سنطلع نفحص السماء وننظر هل يوجد فيها إله كما يقول موسى أم أنه لا يوجد فيها إله. قال تعالى: {فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [غافر:37] قوله: (فأطلع) يقرؤها بالنصب على السببية حفص عن عاصم فقط، وباقي القراء يقرءونها: ((فَأَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى)) على العطف، وتأتي بمعنى (ثم) للتراخي، فعلى الأولى: ابن لي صرحاً حتى أبلغَ الأسباب وحتى أطلعَ، فنصبت على ذلك، وعلى الرفع (فأطلعُ) كأنه يقول: ابن لي صرحاً فأصعد على هذا الصرح ثم سأطّلِعُ وأنظر إلى هذه السماوات حتى أثبت لكم أن موسى يكذب عليكم. قال: ((وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا)) أي: كأن فرعون متشكك هل أموسى كذاب أو ليس بكذاب، فيقول لهم: أنا أظن أنه كذاب، وسأطلع إلى السماء لأؤكد لكم كذبه، ففرعون متشكك، ومع أنه يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] ويقول: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] فكيف بإله يحكم بالظن؟! وهو يريد أن يبحث هل يوجد إله آخر أم لا؟! قال تعالى: ((وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ)) أي: وكذلك بمثل هذه الصورة قد زين لفرعون سوء عمله، فهو رجلٌ عنده مال ومنصب وقوة، ولديه قوم خفاف العقول يسمعون لكلامه ويطيعونه، فزين له سوء عمله، فتراه يفرح بالذي يقوله، فكلما أتى بشيء كأنه أتى بما لم يأت به أحد قبله، ويعتقد أنه رجل ملهم؛ فهو يقول والناس تصدقه وتصفق له فيما يقول، وكذلك الضلال مثله يزين لكل ضال سوء عمله، فإذا به لا يقول شيئاً إلا ومن حوله يصفقون له، فيفرح بذلك. وهذه عقوبة من الله سبحانه وتعالى لكل ظالم؛ أنه يتركه مع شيطانه يزين له السوء، حتى يرى الخطأ ويرتكبه ويتأول لنفسه أنه على صواب، وأن ما يفعله هو الخير الذي لا بد أن يفعله. قوله: ((وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ)) أي: صده الله سبحانه وتعالى عن الحق بأن ختم وطبع على قلبه، وقوله: ((وَصُدَّ عن السبيل)) هذه قراءة الكوفيين عاصم وحمزة والكسائي وخلف، وقراءة يعقوب وباقي القراء: ((وَصَدَّ عَنِ السَّبِيلِ)) والمعنى: أنه زين له سوء عمله ففرح بما هو فيه من باطل، وتزين له الباطل أمامه فعمل به، وصد الناس عن سبيل الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} [غافر:37] أي: كيد فرعون في هلاك وخسارة، يقول الله سبحانه: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق:15 - 16] فإذا كاد الله عز وجل لواحد من خلقه فلابد أن يغلبه وأن يقهره وأن يذله ويفضحه، كما فعل بفرعون لعنة الله عليه وعلى أمثاله، قال سبحانه: ((وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ)) أي: وما عمل فرعون فيما يكيد لموسى ويدبر من مؤامرات لموسى ليهلكه هو ومن معه، فإن كيده فِي تَبَابٍ وفي خسران وهلاك وضياع وباطل؛ لأنه يكيد لأنبياء الله ولأولياء الله، فالله عز وجل يكيد له، ولذلك أخذه الله من حيث لم يحتسب، فظن أنه سوف ينجو من اليم فأغرقه الله فيه. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة غافر [38 - 45]

تفسير سورة غافر [38 - 45] إن الدعوة إلى الله سبحانه تستلزم اللين والرفق فيها مع الناس، ولنا في مؤمن آل فرعون قدوة في ذلك، فهو قد دعا قومه بكل رفقٍ ولين، ولكنهم أرادوا قتله، فوقاه الله شرهم.

تفسير قوله تعالى: (وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد)

تفسير قوله تعالى: (وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة غافر: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ * لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر:38 - 43]. في هذه الآيات يذكر الله عز وجل لنا مناظرة مؤمن من آل فرعون من أهل مصر لفرعون ومن معه، وقد أراد فرعون -كما تقدم- أن يقتل موسى ومن معه، قال تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26] فانبرى هذا الرجل المؤمن مدافعاً عن موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وقائلاً لهؤلاء: علام تقتلون هذا الرجل؟ تقتلونه لأنه يقول ربي الله؟ وماذا في ذلك؟ وقد جاءكم ببينات من عند ربه وقد رأيتم هذه البينات، فإن أطعتم هذا الرجل فيما يقول فإن كان صادقاً أصابكم بعض الذي يعدكم، وإن كان كاذباً فكذبه على نفسه وسوف يحاسبه ربه على ذلك. قال سبحانه وتعالى: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:38] بدأ الكلام معهم وهو يقول: يا قوم، وكان يكتم إيمانه، فلم يزل يناظر ويذكر شيئاً فشيئاً ليتدبروا بعقولهم، حتى كشف لهم عن أمر نفسه، فقال: (اتبعوني)، أي: أطيعوني (أهدكم سبيل الرشاد)، وكان قبل ذلك قد كذب فرعون موسى وأنهى الحوار معه، قال تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29] أي: رأيي هو الصواب، والذي أنا أقوله هو الذي سينفذ، ثم أراد أن يريهم آية لنفسه، قال تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ} [غافر:36] أي: اجعل لي قصراً عظيماً وهرماً عالياً جداً من أجل أن أصعد إلى السماء وأنظر أين إله موسى الذي يزعمه، وأنا على يقين أنه كاذب، فلا يوجد إله في السماء، قال تعالى: {وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ} [غافر:37] إنَّ الذي زين لفرعون سوء عمله وزين له الكفر فاتبع هواه وقال: أنا ربكم الأعلى هو الشيطان، والله سبحانه وتعالى ختم على قلبه، فلا يفهم ولا يفقه شيئاً، فهو يسير في طريق الضلالة، فقد أضله الله سبحانه وتعالى؛ لأنه أعجب بنفسه، وأعجبه رأيه، ولم يستمع إلى داعي الله، ولم يستمع إلى موسى الذي جاء بالآيات من عند الله سبحانه وتعالى. فلما قال فرعون: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29] قال هذا المؤمن: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:38] أي: سبيل الرشد، طريق الله سبحانه وتعالى الذي ترشدون فيه وتعقلون فيه وتفهمون الحق، وتستحقون من الله عز وجل أن يدلكم على الجنة وأن يدخلكموها، فقوله: (أهدكم سبيل الرشاد) أي: طريق الهدى وطريق الجنة.

تفسير قوله تعالى: (يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع)

تفسير قوله تعالى: (يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع) قال الله تعالى: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر:39] فهو لما كان يكتم إيمانه كان يقول: يا قوم، ولما أظهر لهم الإيمان تجد في قوله الحنان والرفق في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، يعني: إني خائف عليكم، فأنتم قومي، وأنا أدعوكم إلى الله عز وجل، فاستجيبوا لي فأنا مشفق عليكم. قال تعالى: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ} [غافر:39] فالإنسان يتمتع في الدنيا بشبابه، ويتمتع بجماله ومنصبه وماله وأولاده، كل ذلك متاع الدنيا، ولن يدوم هذا المتاع أبداً، فإذا اغتر الإنسان بشبابه سرعان ما تأتيه الكهولة والشيخوخة، ويرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً، ومهما ادخر الإنسان المال فإنه سيتركه لمن يرثه، فيستمتع قليلاً ثم يترك هذا الذي استمتع به. ويستمتع الإنسان بجماله حتى يظن أنه لا شيء أجمل منه، ثم تأتي عليه أعراض هذه الدنيا، وسرعان ما يزول ذلك، وتكون المرأة في أوج جمالها فتكبر في السن شيئاً فشيئاً ويذهب هذا كله، فالدنيا كلها متاع يستمتع بها الإنسان شيئاً، وما استمتع به زال بعد ذلك وتركه هذا الإنسان أو تركه هذا المتاع. ومن البديع في القول المقابلة بين الدنيا والآخرة، يقول تعالى: {إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ} [غافر:39] وقابلها بالآخرة فقال: {وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر:39] أي: دار الاستقرار إما إلى جنة وإما إلى نار، فأهل الجنة يستقرون فيها، وأهل النار يستقرون فيها، والدنيا دار زوال وسفر للإنسان، يرحل في هذه الدنيا إلى الآخرة حتى يصل إلى قبره ثم إلى الجنة أو إلى النار.

تفسير قوله تعالى: (من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها)

تفسير قوله تعالى: (من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها) قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غافر:40] السيئة: الشرك فما دونه، إذا أساء الإنسان جوزي على هذا العمل الذي عمله، فإن وقع في الشرك وقع في النار والعياذ بالله، وإن وقع فيما هو دونه فالسيئة بسيئة مثلها، بما يسوءه عند الله عز وجل، وقد يعفو ربنا سبحانه عما هو دون الشرك، أما الشرك فلا يغفره الله عز وجل. وقوله تعالى: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [غافر:40]، حتى لا يظن أن الثواب والجنة للذكران دون الإناث، فالإنسان سواء كان ذكراً أو أنثى الذي يعمل العمل الصالح قل أو كثر، وهو مؤمن -أي: بشرط الإيمان- هو الذي يتقبل الله منه عمله، فالمؤمن ينتفع بعمله الصالح، أما الكافر فمهما عمل صالحاً فإنه يجزى به في الدنيا، أما يوم القيامة فيقول الله عز وجل: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]، فالكافر ظلم نفسه بأن كفر بالله وأشرك به وجحد، وجعل لله نداً وهو الذي خلقه سبحانه، فاستحق ألا يعطى شيئاً في الآخرة؛ لأن شركه أحبط جميع عمله، لكن المؤمن جاء بهذا الإيمان العظيم الذي يقبل به العمل وإن قل. قال تعالى: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} [غافر:40] يقال لهم: ادخلوا الجنة فيدخلون الجنة، وفي قوله تعالى: ((يُدْخَلُوْنِ الْجَنَّةَ)) قراءتان في هذه الكلمة. {فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} [غافر:40] أي: يأمرهم الله سبحانه بدخول الجنة جزاءً بما كانوا يعملون، يأتون إليها ويدخلونها، فيدخلون الجنة، وتدلهم الملائكة: هذا طريقكم، هذه بيوتكم، هذه جنتكم، ولم يدخلوا الجنة بأعمالهم لتكون ثمناً، وإنما أعمالهم سبب لدخول الجنة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته)، والله عز وجل يقول: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32]، فصدق الله عز وجل، وصدق الرسول عليه الصلاة والسلام، فربنا يقول: {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32] والباء للسببية، أي: بسبب ما كنتم تعملون، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله) والباء هنا للثمنية، أي: عملك ليس ثمناً للجنة؛ لأن الجنة أغلى بكثير من عملك الذي عملته، إنما عملك سبب للجنة، فيرضى الله عز وجل عنك ويدخلك الجنة برحمته وهو أرحم الراحمين سبحانه. وقوله تعالى: {يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غافر:40] أي: يرزقون في الجنة، ففيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وقال تعالى: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد:15]، وقال تعالى: {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:22 - 24]، وقال تعالى: {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} [الرحمن:52]، وقال تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن:68] هذه هي الجنة العالية، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها. وقوله تعالى: (بِغَيْرِ حِسَابٍ) أي: بلا نهاية، فليس هناك نهاية للجزاء، فالله عز وجل قال: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24] أي: تهنوا بما في هذه الجنة، فقد تعبتم في الدنيا وعملتم، فهذا اليوم يوم الجزاء ويوم الراحة، تستريحون في الجنة فلا كدر ولا تعب ولا نصب فيها ولا خروج منها، ولا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون، فهي جنة الله سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار)

تفسير قوله تعالى: (ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار) قال الله تعالى حاكياً عن المؤمن: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} [غافر:41] يتعجب المؤمن من هؤلاء القوم: أنا أدعوكم إلى الله سبحانه وتعالى وأدعوكم إلى الجنة، أسوق لكم الأدلة شيئاً فشيئاً، وقد جاءكم موسى عليه الصلاة والسلام قبل ذلك ببينات ومع ذلك لا تؤمنون وتريدون أن تدعوني إلى النار! فهم يعبدون غير الله سبحانه وتعالى، ويعبدون الأصنام والأبقار، ثم وصل بهم الأمر إلى أن عبدوا فرعون من دون الله سبحانه، فهو يقول: تدعونني إلى هذه الأشياء التي لا تسمع ولا تستجيب وليس لها دعوة في الدنيا والآخرة، وأنا أدعوكم إلى الله الرب الذي خلقكم والذي يملككم ويملك هذه الدنيا ويملك الآخرة. قال تعالى: {تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} [غافر:42] أي: تدعونني لشيء من الجهل، ليس لي ولا لكم، تدعونني إلى الكفر وإلى عبادة البقر، وإلى عبادة فرعون الذي لا يملك لنفسه شيئاً، والكفر بالله: هو الجحود، أي: أن يعتقد أنه لا يوجد إله، والشرك بالله: أن يتخذ أنداداً مع الله، وحاشا لله سبحانه وتعالى، فهم يدعونه للكفر والشرك بالله، وهو يدعوهم إلى الله سبحانه العزيز الغالب القوي الجناب الذي لا يمانع، الذي إذا قال للأمر كن فلابد وأن يكون، سبحانه وتعالى عما يقوله الظالمون علواً كبيراً. وقوله تعالى: {وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ} [غافر:42] العزيز: هو الله الغالب سبحانه، والغفار: غافر الذنب وقابل التوب، يغفر الذنوب ويمحوها سبحانه وتعالى ويسترها على أصحابها، ويكفر عنهم سيئاتهم.

تفسير قوله تعالى: (لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة)

تفسير قوله تعالى: (لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة) قال تعالى: {لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر:43] لا جرم: كلمة معناها: حقاً، أي: ينكر عليهم هذا الذي يقولون، ويقول: هذا الذي تقولونه كلام باطل، والحق هو الذي أقوله لكم، فهم يدعونه إلى الشرك بالله، ويدعونه إلى عبادة فرعون، ويدعونه إلى عبادة العجل والبقر من دون الله، ويدعونه إلى عبادة الأوثان والأصنام وعبادة الشمس وغيرها، وكل هذه المخلوقات لا تستجيب لهم بشيءٍ ولا تنفعهم، فهذه الأشياء ليس لها دعوة في الدنيا، أي: ليس لها إجابة دعوة في الدنيا ولا في الآخرة، بل ضررها أكثر من نفعها. وقوله تعالى: {وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر:43] (مردنا): رجوعنا إلى الله، (وأن المسرفين): كفرعون ومن معه الذين أسرفوا في قتل النفوس، وفي شركهم بالله سبحانه وتعالى، وفي عصيانهم، فهم أصحاب النار المستحقون لدخولها، والمستحقون لعذابها.

تفسير قوله تعالى: (فستذكرون ما أقول لكم)

تفسير قوله تعالى: (فستذكرون ما أقول لكم) قال تعالى: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44] أي: ستتذكرون ذلك يوم القيامة، وستعرفون يوماً من الأيام أني كنت أدعوكم إلى الخير وتدعونني إلى الشر، وقوله تعالى: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ} [غافر:44] أي: قلت ما هو واجب علي أن أقوله، وفوضت: أسلمت وسلمت وتوكلت على الله سبحانه وتعالى ولجأت إليه وحده سبحانه، والتفويض: هو التوكل على الله سبحانه وتعالى وتسليم الأمر إليه، ولما جهر بالإيمان أرادوا قتله فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بهؤلاء سوء العذاب، قال تعالى: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} [غافر:45]. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة غافر [44 - 50]

تفسير سورة غافر [44 - 50] لما طغى فرعون وتجبر وظلم وتكبر أغرقه الله في البحر، ونجى بدنه ليكون عبرة لمن اعتبر، لقد تغطرس وأبى، واتبع بكفره الهوى، وقال: أليس لي ملك مصر وأنا ربكم الأعلى، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى، وجعله وملأه يعذبون في قبورهم قبل الآخرة، ثم يوم القيامة يردون إلى أشد العذاب، ومنتهى العقاب، فيوم القيامة لا ينفع مال ولا بنون، ولا تنفع رياسة ولا قيادة، فمن دخل النار من ينجيه؟ ومن ذاق حرها فمن يقيه؟ ومن استغاث فيها ودعا فمن يغيثه ويؤويه؟ فتزود قبل الوقوف بين يدي الله عز وجل، فاليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل.

تفسير قوله تعالى: (فوقاه الله سيئات ما مكروا)

تفسير قوله تعالى: (فوقاه الله سيئات ما مكروا) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة غافر: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ * وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ * وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ * قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:45 - 50]. لما ذكر الله سبحانه وتعالى مناظرة مؤمن آل فرعون لفرعون وملئه الذين وافقوا فرعون على قتل موسى ومن معه، وكيف أنه جادلهم في هذا الأمر، وقال لهم: كيف تقتلون رجلاً ذنبه أنه يقول: ربي الله! وقد جاءكم بالبينات من ربكم؟! ولم يزل يناقشهم في ذلك حتى ضاق فرعون بمناظرته وبكلامه فقال: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29]. وقد كان هذا المؤمن يكتم إيمانه فأعلنه صراحة وجهر به وقال: {اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:38]، وذكرهم بالله سبحانه وتعالى، وذكرهم بأن موسى ليس بالشيء الجديد، ولا بالنبي الذي أرسله الله عز وجل أول مرة، بل قد أرسل قبل ذلك يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ومع ذلك شكوا وارتابوا، فقال المؤمن لهؤلاء: إن الذي تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا، فأنتم تدعونني إلى عبادة من لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضراً، وأن مردنا ومرجعنا إلى الله، وأن المسرفين أمثالكم يستحقون أن يكونوا أصحاب النار. ثم قال: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ} [غافر:44]، وكأنه يتوعدهم بعقوبة الله سبحانه وتعالى، {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ} [غافر:44]، يوم لا ينفعكم التذكر، {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44]، أسلم أمري إلى الله، وأتوكل على الله، فلما قال ذلك إذا بالله الكريم سبحانه يقيه سيئات ما مكروا، {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} [غافر:45] والآية فيها إشارة إلى أنهم أرادوا به المكر، وأرادوا قتله، فإذا بالله ينجيه من بطشهم وبأسهم، قال تعالى: (فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا)، أي: ما كادوا له، وما كادوا لموسى ولمن معه، فوقاهم الله عز وجل هذا الشر في الدنيا، وجعل هذا المؤمن آية من آياته سبحانه وتعالى، فذكره في كتابه، فلا يزال المؤمنون يقرءون هذه السورة الكريمة ويذكرون هذا المؤمن رضي الله تبارك وتعالى عنه، ويقتدون بقوله وبفعله، وبهدوئه وتعقله في مناقشته لقومه. قال تعالى: (فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا)، أي: ما مكروا له ولموسى، قال: {وَحَاقَ} [غافر:45]، أي: أحاط، أو نزل نزول إحاطة وإهلاك لا يفلت منه أحد، فكأن العذاب نزل فأحاط بهم فدمر جميعهم، وهكذا كان الحال والأمر، فلما أراد فرعون أن يخوض البحر إذا بالله عز وجل يمكر به، فيجعل موسى يضرب البحر بعصاه فينفلق البحر ويمر موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فلما توسط البحر إذا بفرعون يقبل هو ومن معه من جنود وينظرون إلى البحر متعجبين مترددين، فلم يأبه فرعون لتكبره وعتوه لهذه الآية العجيبة العظيمة في هذا البحر العميق المخيف، ولم يعترف بأنها آية من آيات الله حصلت لنبي مرسل وهو موسى عليه السلام، بل ختم الله سبحانه على قلبه فإذا به لا يفقه، ولا يفهم، ويأمر من معه أن يعبروا البحر وراء موسى، وفي هذه الأثناء يصل موسى ومن معه إلى الناحية المقابلة، في حين يتوسط فرعون وجنوده البحر، فإذا بأمر الله سبحانه وتعالى يتنزل على البحر فينطبق البحر على فرعون ومن معه، وهكذا استأصلهم الله جميعهم ولم ينج منهم أحد، إلا فرعون فقد قال الله سبحانه وتعالى: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} [يونس:92]، أي: الجسد فقط؛ لينظر الناس إلى نهاية فرعون المجرم المجنون الذي كان يقول: أنا إله، فأين ذهبت ألوهيته؟ وأين ربوبيته يوم أن قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]؟ أهلكه الله سبحانه وتعالى في هذا البحر العميق، وأخرجه للناس عارياً، ليكون آية للناس أن الله سبحانه سيهلك كل جبار عنيد، كما قال تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183]، وقال: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:2]. فوقى الله عز وجل مؤمن آل فرعون وموسى ومن آمن معه سيئات ما مكر فرعون وملأه، قال تعالى: (وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ (، أي: نزل بهم من العذاب الشديد ما أحاط بهم وأهلكهم: (سُوءُ الْعَذَابِ)، أشد أنواع العذاب.

تفسير قوله تعالى: (النار يعرضون عليها غدوا وعشيا)

تفسير قوله تعالى: (النار يعرضون عليها غدواً وعشياً) قال تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46]، فعندما أغرقهم سبحانه نقلهم من هذا العذاب إلى عذاب البرزخ في القبور، سواء دفنوا في البحر أم دفنوا في البر، قال سبحانه: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا). وأرواح فرعون وجنوده وملئه في حواصل طير سود تغدو بهم إلى النار والعياذ بالله، ولك أن تنظر إلى الفرق بين هؤلاء وبين الشهداء والأولياء، فالله سبحانه يقول عن الشهداء والأولياء: {لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62]، ويقول: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169]، فقد جعل الله أرواحهم في أجواف طير تسرح في الجنة حيث شاءوا، وهؤلاء الآن في البرزخ في قبورهم، وهم الآن في هذه الحياة الوسطية بين الدنيا والآخرة، ففي البرزخ جعلهم الله عز وجل يستمتعون من الجنة بأرواحهم، فإذا كان يوم القيامة أدخلهم الجنة بأجسادهم وأرواحهم، أما فرعون ومن معه فقد جعل الله عز وجل أجسادهم مملوءة عليهم ناراً، وجعل أرواحهم في أجواف طير سود تذهب بهم إلى النار كل يوم غدواً وعشياً، والغدو: أول النهار، والعشي: آخر النهار، وذلك حتى تقوم الساعة، فإذا قامت الساعة ألقيت أرواحهم وأجسادهم في النار خالدين فيها أبداً إلا ما شاء الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا)، فإذا قامت القيامة: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ). جاء في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، فإن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة)، فإن كان مؤمناً قال: رب أقم الساعة، فرحاً بما سيناله في الجنة، وإن كان من أهل النار قال: رب لا تقم الساعة، خوفاً مما سيناله في النار، والقبر إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار والعياذ بالله، لكن آل فرعون يذهب بهم إلى النار كل يوم غدواً وعشياً كما ذكر الله سبحانه وتعالى، ثم قال: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا)، والأمر للملائكة، أي: خذوهم وسوقوهم إلى النار. وفي الآية قراءتان: قراءة نافع وأبي جعفر ويعقوب وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف، فإنهم يقرءونها: (أَدْخِلُوا) من الأمر، فالله سبحانه يأمر الملائكة بهذا فقال: (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ) وهذا الفعل متعدٍ إلى مفعولين هنا، والمعنى: خذوا آل فرعون وأدخلوهم أشد العذاب في النار، (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا)، أيها الملائكة! (آلَ فِرْعَوْنَ)، هذا هو المفعول الأول، (أَشَدَّ الْعَذَابِ) هذا هو المفعول الثاني. القراءة الثانية: قراءة ابن كثير وأبي عمرو وشعبة عن عاصم وابن عامر، فإنهم يقرءونها: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ادْخِلُوا)، وكأن الأمر لآل فرعون، أي: ادخلوا يا آل فرعون أشد العذاب، وهل يجرءون على عدم دخول النار بأرجلهم؟ لا، فهم لا يملكون أن يتقهقروا أو أن يعصوا الله فيما أمر سبحانه، فإذا خافوا من النار دفعتهم الملائكة إليها والعياذ بالله، قال تعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أدْخُلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)، أي: ادخلوا يا آل فرعون أشد العذاب، وهي نار جهنم والعياذ بالله.

تفسير قوله تعالى: (وإذ يتحاجون في النار إن الله قد حكم بين العباد)

تفسير قوله تعالى: (وإذ يتحاجون في النار إن الله قد حكم بين العباد) ثم يصور الله لنا هذا المشهد العظيم، وما يحدث في النار لهؤلاء المجرمين؛ ليخوف الله المؤمنين وعصاة الموحدين، فيقول سبحانه: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنْ النَّارِ} [غافر:47]، أي: يقول أحدهم للآخر: أنت السبب، أنت الذي فعلت هذا، حتى إن أحدهم ليقول لمن لم يدركه: أنت السبب، كما قال تعالى: {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ} [الأعراف:38]، فيقول الأولون للآخرين: {فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} [الأعراف:39]، أي: أننا كنا قبلكم بسنين وأعمار طويلة فماذا صنعنا بكم؟ بل أنتم الذين أجرمتم فذوقوا العذاب، قال الله تعالى: {لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:38]، فلكل عذاب مضاعف، سواء للأولين أم للآخرين؛ وذلك بسبب عصيانهم ربهم سبحانه وتعالى، لفعلهم السوء وإجرامهم في هذه الدنيا، وبسنهم السنن السيئة. قال تعالى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} [غافر:47]، ولم يقل: من آل فرعون، فليس الضعفاء من آل فرعون فقط، بل كل الضعفاء المجرمين، وكل من كان جندياً مأموراً من قائده أو سيده وهو يطيع وينفذ الأمر وإن كان معصية لله سبحانه وتعالى، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) سبحانه وتعالى، فذكر في هذا الحديث أنه لا يحل لأحد أن يعصي الله سبحانه وتعالى في طاعته لأي مخلوق، فلا يجوز لأحد أن يسمع أو يطيع إلا في طاعة الله سبحانه وتعالى، قال صلى الله عليه وسلم: (اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة)، فإذا أمركم بطاعة الله فافعلوا، وإن أمركم بمعصية فلا تفعلوا ذلك. قال تعالى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} [غافر:47]، للقادة الكبار المستكبرين، {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا} [غافر:47]، أي: كنتم تأمروننا في الدنيا: هاتوا فلاناً، اقبضوا على فلان، عذبوا فلاناً، فماذا ستصنعون لنا الآن ونحن في النار؟ قال تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ} [غافر:47]؟ أي: جزءاً من عذاب النار، وقد كان هؤلاء الكبراء يقولون للمؤمنين في الدنيا كما قال الله سبحانه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} [العنكبوت:12]. أي: فنحن سنتحمل عنكم هذه الخطايا، فنحن في الدنيا وفي الآخرة معكم، قال الله عز وجل مكذباً لهؤلاء: {وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت:12 - 13]، إذاً: هذا الذي يقول للثاني: اعمل وعلي، فليس هناك حاجة اسمها عليك، بل كل من الاثنين يحمل ذنبه فوق ظهره، يحملون أوزارهم فوق ظهورهم يوم القيامة جزاءً بما صنعوا، فيقول سبحانه هنا عن هؤلاء: {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا} [غافر:48]، أي: فات الأوان، فقد أصبحنا فيها كلنا، {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} [غافر:48]، حكم فعدل سبحانه وتعالى وهو أحكم الحاكمين، وهذا الذي يطمئن الإنسان المؤمن، فمهما ظلم المؤمن في هذه الدنيا فهو مطمئن بالله سبحانه وتعالى، وأنه راجع إليه، وأن الحكم له وحده سبحانه وتعالى، فهو الذي يحكم بين عباده بالعدل يوم القيامة، فيقتص للمظلوم من ظالمه، ويعذب الظالمين، كما ذكر سبحانه وتعالى بقوله: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} [غافر:48]، أي: فصل وقضى بين العباد بعدله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (وقال الذين في النار لخزنة جهنم وما دعاء الكافرين إلا في ضلال)

تفسير قوله تعالى: (وقال الذين في النار لخزنة جهنم وما دعاء الكافرين إلا في ضلال) ثم قال سبحانه: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنْ الْعَذَابِ} [غافر:49]، أي: جميع من في النار، فهم يستغيثون بخازن النار: {لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ} [غافر:49]، وجهنم اسم فظيع معناه: النار العميقة القعر، ويقال في الدنيا عن البئر: إنها ركية، أي: بئر عظيمة القعر، بعيدة الغور، وكذلك نار جهنم والعياذ بالله، فهي نار عظيمة متقدة مشتعلة بعيدة القعر جداً والعياذ بالله، والكفار في أقصى قعر جهنم والعياذ بالله. قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا} [غافر:49]، أي: حتى يخفف عنا {يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ} [غافر:49]، مع أنهم في النار خالدين فيها أبداً، فماذا سيغني عنهم هذا اليوم؟! ولكن شدة العذاب تجعلهم يطلبون الراحة منه ولو للحظة معينة، ولو ليوم واحد يقولون لخزنة جهنم: {ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ} [غافر:49]، وهذا يدل على شدة العذاب الذي يلاقونه، فقد يئسوا من رحمة الله، وهم مع ذلك لا يستطيعون الهرب، ومع ذلك فعليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. ثم يقول الخزنة لهؤلاء: {قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [غافر:50]، أي: ألم تأتكم رسل منكم تبلغكم، وتبذل النصح لكم، وتأمركم وتنهاكم؟ فأنتم تستحقون هذا الذي وقع بكم، ثم يقولون لهم: {قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:50]، أي: إن كان الدعاء ينفعكم فادعوا، لكنك إذا دعوت الله في الدنيا، ورفعت يديك إليه استحيا الله أن يردهما خائبتين، فالله يستحيي من عبده أن يرفع إليه يديه فيردهما صفراً، فالله كريم سبحانه وتعالى، فهو إما أن يعطيك جواب ما سألته، وإما أن يصرف عنك من الأذى بقدره، وإما أن يدخره لك ليوم القيامة، أما في النار فادعوا بما شئتم فلن يستجاب لكم، قال تعالى: {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:50]، أي: في تيه، وفي ذهاب، وفي باطل، لا قيمة له، ولا يستجاب لدعائهم، نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة غافر [51 - 52]

تفسير سورة غافر [51 - 52] لقد ذكر الله سبحانه أنه سينصر رسله والمؤمنين في الحياة الدنيا بهزيمة الكافرين والتمكين للمؤمنين، وفي الآخرة بتعذيب الكافرين والإنعام على المؤمنين، ونصر الآخرة أعظم وأكبر وأجل؛ لأن النصر في الدنيا قد يتأخر، وفي الآخرة لا يقبل الله عز وجل من الظالمين عذرهم، بل هم مطرودون من رحمة الله تعالى.

تفسير قوله تعالى: (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا)

تفسير قوله تعالى: (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة غافر: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51]. لما ذكر الله سبحانه وتعالى ما آل إليه حال فرعون ومن معه، فصاروا من أهل النار، قال تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} [غافر:46] يقال: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46]، ذكر الله سبحانه نصره لعباده المؤمنين، فقال: ((إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ)) فهذا وعد من الله، ووعد الله حق، {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:9]. قال تعالى: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا) أي: حق على الله أن ينصر رسله سبحانه، ولم يقل: رسلنا فقط، وإنما قال: (رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا)، فالنصر من الله عز وجل آت لعباده المؤمنين. وقد يتأخر النصر، كما قال سبحانه: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110]، أصابهم اليأس من إيمان قومهم، {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} [يوسف:110]، أي: ظن الرسل ووصل ظنهم إلى درجة عالية بأن هؤلاء القوم لن يؤمنوا ولن يفلحوا ولن يأتي منهم خير، وليس فيهم رجاء. فظنت الرسل أن قومهم قد كذبوا بالله سبحانه، وكذبوا بآيات الله سبحانه وتعالى، وظن أتباع الرسل من المؤمنين أن الرسل قد كذبوا، وأخلفوا الميعاد وتوهموا ذلك، فإذا بالرسل يقعون في ضيق شديد، يظنون أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا من قومهم، وظن أتباعهم أنهم توهموا بإتيان النصر مع أن النصر لما يأت، فدخلهم الشك، أما الرسل فلا تدخل قلوبهم أبداً الريبة أو الشك، وفي هذا الوقت الشديد وقت اليأس جاء نصر الله سبحانه وتعالى، فعندما تضيق الدنيا على الإنسان المؤمن يأتي الفرج، قال تعالى: ((جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ)) أي: أن الله عز وجل ينجي بعظمته وبقدرته من يشاء سبحانه وتعالى من عباده المؤمنين. وهذا لا يعني أن كل المؤمنين الذين هم على الحق سيكونون من المنتصرين، ومن الذين ينجيهم الله سبحانه وتعالى في هذه الدنيا، ولكن الوعد الحق أننا ننصر ديننا مع هؤلاء الرسل بنجاة من نشاء من المؤمنين، وبهلاك من نشاء من عبادنا من الصالحين في الدنيا، ثم يوم القيامة ننصر جميع المؤمنين على أعدائهم.

نصر الله للمؤمنين بالحجة والبيان وبالسيف والسنان

نصر الله للمؤمنين بالحجة والبيان وبالسيف والسنان إن نصر الله يأتي في الدنيا بتضحيات وبتعب ومشقة على الإنسان، وبجهد يبذله في طاعة الله سبحانه وتعالى، فوعد الله حق ينصر دينه، وإذا نصر المؤمنون دين الله سبحانه فمنهم من يتوفى قبل تمام النصر، ويقاتل فيقتل في سبيل الله، ومنهم من يهاجر، ومنهم من يؤذى في سبيل الله، ومنهم من يقاتل فينتصر، فالنصر يأتي للدين مع التضحيات، مع وجود هؤلاء جميعهم: الذين أوذوا، والذين هاجروا، والذين قتلوا، والذين قاتلوا وانتصروا، فالنصر في النهاية لهم، قال سبحانه يعد المؤمنين: ((إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا))، وهذه قراءة الجمهور: (رُسُلَنَا)، وقراءة أبي عمرو: ((إِنَّا لَنَنصُرُ رُسْلَنَا)) بتسكين السين فيها، (وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) أي: في الدنيا ينصرهم ويكون لهم التمكين وإعلاء شأنهم، فالنصر يكون بالسيف، ويكون النصر بالحجة والبيان، الحجة من الله سبحانه وتعالى؛ لأنه ليس في كل زمن يكون الانتصار بالسيف وبالقوة، ولكن الانتصار قد يكون بالحجة، وهذا حاصل في كل زمان، فقد أعطى الله عز وجل المؤمنين المعجزة العظيمة: القرآن الكريم، وأعطاهم الحجج البينة التي تدوم مع دوام هذا الدين إلى أن تقوم الساعة. فالله عز وجل ينصر رسله وطائفة من المؤمنين إلى قيام الساعة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم، حتى يقاتل آخرهم الدجال)، فلا يزال من المؤمنين طائفة ينصرها الله سبحانه، وهم المتمسكون بدين الله سبحانه أهل السنة والجماعة، أهل هذا القرآن العظيم الذين تمسكوا به وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم وعملوا بذلك، ولم يضرهم المخالفون وإن كثروا، فهم مع قلتهم تمسكوا بدين الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (طوبى للغرباء)، هؤلاء الغرباء الذين يتمسكون بدين الله وبكتاب الله، وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم، هم أهل الله سبحانه، فهم أهل السنة والجماعة، ينصرهم الله، ويمكن لهم في يوم من الأيام. أما التمكين بالحجة وباللسان وبقوة البيان فهذا حاصل دائماً، طالما أن المؤمن متمسك بكتاب الله وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم فالله ينصره ويؤيده؛ لأن معه الحق وهو كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: ((إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)) وكذلك ننصرهم: ((ويَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ))، والمؤمن الذي قتل في الدنيا ينصره الله في الدنيا بالانتقام ممن قتله، وبالانتقام من الظالم الذي ظلمه، فهذا نصر الله له في الدنيا، قال الله سبحانه وتعالى وقد نهى عن قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا} [الإسراء:33]. إذاً: ينصر الله المؤمن الذي يقتل في سبيله سبحانه وتعالى، بأن يجعل لوليه سلطاناً فينتصر في يوم من الأيام، ويقتص من هذا الظالم الذي قتله بغير حق.

معنى الأشهاد في قوله تعالى: (ويوم يقوم الأشهاد)

معنى الأشهاد في قوله تعالى: (ويوم يقوم الأشهاد) قوله: {وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51] أي: يوم القيامة يقوم الأشهاد، والأشهاد: إما جمع لشاهد أو لشهيد، فالشهود يقومون يوم القيامة فيشهدون. والأشهاد: الملائكة تشهد بأن الله سبحانه وتعالى قد أنزل الكتب، وقد أرسل الرسل، وقد أقام الحجة على العباد، ويشهدون على العباد، فكل عبد معه سائق وشهيد. والأشهاد: الرسل يشهدون على أقوامهم بأننا قد بلغنا هؤلاء الأقوام، فهؤلاء كذبوا وأعرضوا، وهؤلاء استجابوا لنا. والأشهاد: أتباع الرسل من الأولياء والصالحين الذين يشهدون بإبلاغ الرسل لقومهم، وأنهم آمنوا وصدقوا بذلك. والأشهاد: الأجساد التي تشهد على المرء: يده، ورجله، وفخذه، يختم الله عز وجل على فيه وتنطق جوارحه يوم القيامة، فالجميع يقوم لله رب العالمين فيشهد كل منهم بما أمره الله عز وجل به.

تفسير قوله تعالى: (يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم)

تفسير قوله تعالى: (يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم) قال الله تعالى: {يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمْ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:52]. قوله: ((يَوْمَ لا ينفع)) قرأها نافع: (يوم لا تنفع) وقراءة الكوفيين عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف وباقي القراء يقرءونها: ((يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ)) أي: يوم القيامة يعتذر الظالم والمنافق، ويحلف المنافق لله سبحانه وتعالى أنه ما كذب وما أعرض، وأن هذا المكتوب عليه في الكتاب لم يعمله، ولا يقبل إلا شاهداً إلا من نفسه، فيختم الله عز وجل على فيه فتنطق جوارحه فتكذبه فيدعو عليها، فهذا نصر للمؤمنين يوم القيامة: أن المنافق يشهد على نفسه، وأن الفاجر يشهد على نفسه، وأن الكافر يدخله الله عز وجل النار، ويعذب الذين كذبوا وأعرضوا، فالظالمون يعتذرون لله سبحانه فلا تنفع المعذرة. قوله: ((وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ)) أي: الطرد من رحمة الله سبحانه وتعالى، {وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:52] أي: يستغيثون فلا يغاثون، ويستنصرون فلا ينصرون، يقول المنافقون للذين آمنوا: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13] أي: أعطونا نوراً قليلاً، لقد كنا معكم في الدنيا وكنا نصلي معكم فأعطونا شيئاً من نوركم، {قِيْلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ} [الحديد:13 - 14] أي: حتى جاء نصر الله، {وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد:14]، هؤلاء الكفار. روى الإمام الترمذي حديثاً بإسناد فيه ضعف يسير وهو قريب من الحسن؛ لأن فيه شهر بن حوشب وهو صدوق، فهو كثير الإرسال، وقد روى عن أم الدرداء عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يلقى على أهل النار الجوع فيعدل ما هم فيه من العذاب) أي: يلقى عليهم الجوع فيعادل الجوع ما هم فيه من العذاب، (فيستغيثون فيغاثون بطعام مِنْ ضَرِيعٍ) والضريع: نبت من شوك طعمه قذر منتن مر تستقذره الإبل فلا تأكله، فإذا أكلته الأنعام ماتت، فتجتنبه الأنعام ولا تأكله، فهؤلاء يغاثون بمثله والعياذ بالله! قال: (فيغاثون بطعام ذي غصة، فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالشراب، فيرفع إليهم الحميم بكلاليب الحديد) والحميم: هو السائل الذي بلغ النهاية في الحرارة والعياذ بالله! ثم يقول: (فإذا دنت من وجوههم شوت وجوههم، فإذا دخلت بطونهم قطعت ما في بطونهم، فيقولون: ادعوا خزنة جهنم، فتقول لهم الخزنة: {أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:50]، فيقولون: ادعوا مالكاً، فيقولون: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77]، فيجيبهم مالك: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77])، أي: لا نهاية لعذابكم بل سوف تعذبون أبد الآبدين، قال الأعمش أحد رواة هذا الحديث: (نبئت أن بين دعائهم، وبين إجابة مالك إياهم ألف عام) أي: ينادون: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] فلا يرد عليهم مدة ألف عام ثم يجيبهم، فلما انتظروا تلك المدة ظنوا أنه يجيب بشيء ينفعهم، ولكن {قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77]، فبعد أن عذبوا بالنار وبالجوع وبالطعام والشراب من الحميم وبطول الانتظار يأتي هذا الرد: ((إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ)) قال: (فيقولون: ادعوا ربكم فلا أحد خير من ربكم، فيقولون: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:106 - 107]) يحتجون بالقضاء والقدر، أي: غلب علينا قدرنا فكنا أشقياء، فسامحنا في هذه المرة وأَخْرِجْنَا مِنْهَا وأرجعنا إلى الدنيا مرة ثانية، فإن عدنا إلى الظلم وإلى الكفر فافعل بنا ما تشاء. قال: (فيجيبهم ربهم: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]) (اخسأ) كلمة تقال للكلب حين يزجر ويطرد من مكانه. كذلك يقول الرب سبحانه لأهل النار والعياذ بالله: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} [المؤمنون:108 - 110]). أي: تذكروا في الدنيا حين كنتم تضحكون من المؤمنين وتسخرون منهم وتستهزئون بهم. ثم قال تعالى عن المؤمنين: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون:111]) أي: الفوز اليوم والفلاح والنصر للمؤمنين، فالمؤمن يفرح بنصر الله سبحانه وتعالى، فهو يفرح أن ربه انتقم له من عدوه، فينظرون إلى أهل الجنة وقد نجاهم الله سبحانه وتعالى من العذاب وجعلهم في الجنة: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} [يس:55] أي: في شغل عن هؤلاء لا يلتفتون إلى أهل النار؛ لما هم فيه من متعة عظيمة جميلة في جنة الخلد. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها. يقول في آخر الحديث: (فعند ذلك يئسوا من كل خير، وعند ذلك يأخذون في الزفير والحسرة والويل). وهذا انتقام الله عز وجل من الكفار والظلمة والمجرمين، فهو سبحانه ينتقم منهم أعظم الانتقام يوم القيامة في نار جهنم، أما في الدنيا فقد ينصر المؤمنين ويمكن لهم، وقد يأتي الأمر على خلاف ما يشتهون؛ لأن الأمر أحياناً يكون عليهم، ولكن دين الله عز وجل لا يزال عالياً، وأحياناً ينتصرون. فنقول: إذا صار المسلمون في وقت من الأوقات بعيدين عن دين ربهم فإن مصيرهم إلى ذلة وهوان، وبهذا يعلم أن النصر لا بد له من تضحيات، ولا يعلو دين الله سبحانه وتعالى إلا بالقتال في سبيل الله، وبالحجج والبراهين من كتاب الله وسنة سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه. نسأل الله أن ينصر دين الإسلام، وأن يمكن للإسلام والمسلمين. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة غافر [51 - 55]

تفسير سورة غافر [51 - 55] مهما علا الباطل وانتفش فلابد أن يزول، فالنصر حليف أولياء الله من الأنبياء والرسل والمؤمنين، إما معجلاً في الدنيا، أو مؤخراً إلى يوم القيامة، يوم لا تنفع المعاذير، ويكون جزاء الكافرين النار وبئس المصير، وما على المؤمنين والدعاة إلا السير على هدى رب العالمين، مقتدين بمن سبقوهم، متأسين بهم، صابرين على ما ينالهم، موقنين أن العاقبة لهم.

تفسير قوله تعالى: (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا)

تفسير قوله تعالى: (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا) الحمد لله ربي العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة غافر: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ * وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ * هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الأَلْبَابِ * فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [غافر:51 - 55]. يخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات أنه ينصر رسله سبحانه وتعالى وينصر المؤمنين في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، ونصر الله سبحانه وتعالى أكيد لأنبيائه ورسله وللمؤمنين الذين ينصرون دين الله سبحانه، إلا أن الله عز وجل ذكر أنه ينصر أولياءه في الدنيا وفي الآخرة، ونصره لهم في الآخرة لابد وأن يكون؛ ففي يوم القيامة ينتقم الله من الظالم وينصر المظلوم، أما في الدنيا فقد يظلم الإنسان الظالم ولا يعاجل بالعقوبة، بل يظل حتى يقبضه الله سبحانه وتعالى على ظلمه، فأخذ الله عز وجل له على هذا الحال أخذ عزيز منتقم مقتدر سبحانه تبارك وتعالى، وقد جاء في الحديث: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) فنصر الله عز وجل للمظلوم إما أن يسلطه على من ظلمه فيكون في ذلك نصره، وإما أن يملي لهذا الظالم حتى يجعله عبرة للناس إذا كسره وقصمه.

الجواب عن إشكال أن بعض الرسل قد عذبوا وقتلوا في الدنيا

الجواب عن إشكال أن بعض الرسل قد عذبوا وقتلوا في الدنيا وقد أورد الإمام الطبري في قوله تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [غافر:51] استشكالاً وأجاب عليه رحمه الله فقال: قد يقال: كيف ينصر الله عز وجل رسله جميعهم في الحياة الدنيا وقد جاء أن بعض الرسل قد قتلوا في الدنيا، كما قتل زكريا وابنه يحيى، وقتل أشعياء، وأراد اليهود قتل المسيح عيسى بن مريم على نبينا وعليه الصلاة والسلام فنجاه الله عز وجل ورفعه إليه، وطرد إبراهيم من بين قومه حتى هاجر إلى الله وترك قومه، فهؤلاء كيف نصرهم الله عز وجل على أقوامهم؟ ويجاب: بأن نصر الله سبحانه وتعالى إما بأن ينصر أنبياءه ورسله في حال حياتهم، كما فعل ببعض منهم، أو أن ينصرهم بمعنى: ينتصر وينتقم ممن ظلمهم، حتى ولو مات هؤلاء، فلما قتل يحيى على نبينا وعليه الصلاة والسلام سلط الله عز وجل على القوم الذين قتلوه بختنصر وهو كافر، فلم يزل يقتل منهم الألوف بدم يحيى بن زكريا على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فهذا نصر من الله عز وجل لنبي ورسول من رسله عليهم الصلاة والسلام. واليهود لما سعوا بالمسيح عليه الصلاة والسلام ليقتل، وذهب إليه الأمير ليأخذه هو ومن معه لينفذ فيه حكم الملك اللبناني بالقتل؛ فإذا بالله يرفع المسيح عليه الصلاة والسلام، فكان نصره من الله عز وجل بأن رفعه، ثم سلط على هؤلاء -هذا الملك ومن معه- اليهود، فأذلوهم وأذاقوهم الأمرين بعد ما فعلوا فعلتهم مع المسيح عليه الصلاة والسلام وأرادوا قتله، فنصره الله بأن نجاه ورفعه، ثم سلط اليهود على هذا الملك، ثم قبل قيام الساعة ينزل المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فيسلطه الله عز وجل على اليهود، فلا يبقى على الأرض يهودي، ولا يبقى نصراني، ولا يكون إلا الإسلام، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من علامات الساعة أن يخرج المسيح الدجال وأكثر من يتبعه اليهود عليهم الطيالسة لعنة الله عليهم، فينزل المسيح عيسى بن مريم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فإذا رآه المسيح الدجال ذاب كما يذوب الثلج، فيهرب من المسيح عيسى بن مريم، فيقول له المسيح: إن لك عندي ضربة لن تخطئها، ثم يتبعه فيقتله صلوات الله وسلامه عليه، وحينها يقتل المسلمون اليهود، وتشهد الأحجار والجمادات على اليهود، حتى يقول الحجر والشجر للمسلمين: يا مسلم! إن ورائي يهودياً تعال فاقتله، ويضع المسيح عليه الصلاة والسلام الجزية فلا يقبل إلا الإسلام، أي: لا يقبل من أحد ديناً غير الإسلام، وحتى لو دفع الجزية كما كانوا يفعلون مع النبي صلى الله عليه وسلم، فيقبل منهم ويظلون على أديانهم، كما أنه إذا نزل المسيح بن مريم حكم بالإسلام، أي: بهذا القرآن العظيم، ولم يقبل الجزية وإنما يضعها، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، وهذا هو نصر الله عز وجل لنبيه ورسوله المسيح عليه الصلاة والسلام في الدنيا. فحتى ولو كان من هؤلاء الأنبياء من أخذه الله فرفعه كالمسيح، أو كان منهم من قتل وذاق القتل والهلاك في الدنيا كيحيى وزكريا فالله عز وجل ينتقم لهم وينتصر لهم سبحانه وتعالى، هذا جواب. وهناك جواب آخر لما تقدم حول قوله تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [غافر:51]، وهو أن هذا من العموم الذي يراد به الخصوص أو العام المخصوص، والمقصود منه: أنا لننصر بعض رسلنا في الحياة الدنيا وننصر جميعهم يوم يقوم الأشهاد، وكذلك ننصر المؤمنين من عبادنا، إذ الآية وعد من الله سبحانه أن ينصرهم، ولكن لم يقل: إنه ينصرهم فرداً فرداً، ولكن ينصر دينه بما يشاء سبحانه وتعالى بما يتحقق من شروط النصر {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7].

نصر الله للمؤمنين يوم يقوم الأشهاد

نصر الله للمؤمنين يوم يقوم الأشهاد قوله عز وجل: {وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51]، تقدم أنه يوم القيامة، والأشهاد جمع شاهد، كما أن الأصحاب جمع صاحب، وهم الشهود الذين يشهدون على الناس يوم القيامة من ملائكة ورسل وأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وكذلك ممن يشهد على الإنسان من نفسه جوارحه، فإنها تشهد عليه يوم القيامة، وفي ذلك اليوم ينصر الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين، وقد جاء في الأثر: من نصر مؤمناً في الدنيا كان حقاً على الله أن ينصره في الدنيا والآخرة، ومن رفع ظلماً عن مؤمن في الدنيا كان حقاً على الله عز وجل أن يرفع عنه من الظلم ومن الكروب في الدنيا وفي الآخرة)، ويؤيده ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من رد عن عرض أخيه المسلم كان حقاً على الله عز وجل أن يرد عنه نار جهنم) إذ الجزاء من جنس العمل، فالإنسان المؤمن حين يسمع غيبة لأخيه المؤمن فيرد وينتصر لهذا الغائب؛ فإن عز وجل ينصره يوم القيامة، وهذا وعد من الله عز وجل قطعه على نفسه كما تقدم في الحديث، والحديث رواه الإمام الترمذي وحسنه، وصححه الشيخ الألباني، وهو من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، وجاء في زيادة ليست عند الترمذي أنه تلا هذه الآية: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [غافر:51] فجعل من نصر الله عز وجل للمؤمن في الحياة الدنيا أن يسخر له من يدافع عنه ويدفع عنه في غيبته، ويدفع عن حقه في الدنيا، ويوم القيامة ينتصر الله عز وجل للمؤمنين يوم يقوم الأشهاد. وبمعنى حديث الترمذي ما روى الإمام أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حمى مؤمناً من منافق يغتابه بعث الله عز وجل يوم القيامة ملكاً يحميه من النار، ومن ذكر مسلماً بشيء يشينه به وقفه الله عز وجل على جسر من جهنم حتى يخرج من مقاله)، والحديث حسنه الشيخ الألباني، وقوله: (من حمى مؤمناً) أي: من دافع عن إنسان مؤمن من إنسان يذكره بسوء، وقوله: (من منافق) وصف صاحب الغيبة بالنفاق، كما وصف الإنسان الذي يدافع عنه بأنه يحمي أخاه ويمنع عنه هذه الغيبة من مثل هذا المنافق. قوله: (بعث الله عز وجل يوم القيامة ملكاً يحميه من النار)، أي: يدفع عنه نار جهنم يوم القيامة في مروره على الصراط حتى ينجيه الله سبحانه وتعالى، قوله: (ومن ذكر مسلماً بشيء يشينه)، أي: من يتكلم عن مسلم بكلام يسوءه، كأن يريد أن يضره، وقوله (يشينه) بمعنى: أنه يقبحه ويذكر فيه فعالاً ويفضحه عند الناس، ومن فعل ذلك وهو كاذب فيما يقول وقفه الله عز وجل على جسر جهنم حتى يخرج من مقاله، وهذا من نصر الله عز وجل لعباده المؤمنين؛ ولذا ينبغي أن يحذر المرء أن يقع في غيبة المؤمنين أو غيرهم، أو يقع في أعراضهم، وكيف لا يحذر وقد علم أن الجزاء أن يحبسه الله عز وجل على جسر جهنم تلفحه النار ويقال له: اخرج مما قلت، وفي الدنيا قد يخرج الإنسان مما يقول بأن يكذب نفسه ويقول: أنا كذاب، لقد كذبت في هذا الشيء، ويعتذر لمن اغتابه أو طعن في عرضه حتى يقبل منه، وذلك في الدنيا، أما يوم القيامة فلا يقول: أنا كذاب، فقد فضحه الله عز وجل، وإنما يوبخ بأن يقال له: اخرج مما قلته، وهو لا يدري كيف يخرج مما قال. وقد جاء في الأثر أن الله عز وجل يدخل رجلاً في النار قد كذب في الدنيا وادعى أنه رأى رؤيا مع أنه كاذب فيها ويقول له: تريد أن تخرج اعقد شعيرتين، أي: خذ شعيرتين واربطهما وحين تربطهما نخرجك من النار، وهذا تعجيز لهذا الإنسان، حيث يظل في النار ولا يخرج منها إلا أن يشاء الله سبحانه. ومثله ما ورد في الحديث المتقدم أن الإنسان يوقف على جسر جهنم ويقال له: اخرج مما قلت، وخروجه أن يخبر الناس أنه كان كذاباً، ومعلوم أن المؤمن لن ينتفع بما يقول عن نفسه: أنا كنت كذاباً، وإنما الغرض من ذلك: تحقير هذا الإنسان وتوبيخه وتعجيزه في هذا الموقف، ويظل كذلك حتى يأذن الله فتوخذ من حسنات المغتاب إن كان له حسنات بقدر مظلمة من اغتابه وتوضع في حسنات من اغتابه، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار.

تفسير قوله تعالى: (يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم)

تفسير قوله تعالى: (يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم) يقول الله سبحانه وتعالى: {يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمْ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:52]، أي: يوم القيامة لا ينفع الظالمين معذرتهم، كأن يقول أحدهم: أنا آسف على ما بدر مني، فيظهر الأسف والاعتذار، فهذا لا يقبل منه، وإنما كان يقبل منه وينتفع به في الدنيا بأن يعتذر الإنسان وأن يتوب إلى الله سبحانه، أما يوم القيامة فلا ينفع الاعتذار من الظالم، قال سبحانه: {يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ} [غافر:52] أي: لهم الطرد من رحمة الله سبحانه {وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:52]، أي: الدار التي تسوؤهم، ويعذبون فيها وهي النار والعياذ بالله.

تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى الهدى هدى وذكرى لأولي الألباب)

تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى الهدى هدى وذكرى لأولي الألباب) قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ} [غافر:53]، في هذه الآية يذكر الله عز وجل كتاب موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، مذكراً للمؤمنين أن هذا الكتاب -القرآن العظيم- ليس أول كتاب فيه الشريعة وفيه الموعظة وفيه الهدى والنور من عند الله تعالى، فقد جاء الكتاب لبني إسرائيل قبلهم، وقد تكرر هنا المعنى في كثير من آيات القرآن، والسبب في ذلك: أن يتدبر المؤمنون ويعتبروا أن الشريعة إذا جاءت من عند الله فهي هدى، وهي نور؛ ولكن يهدي الله عز وجل بها من يشاء، وينير بها قلب من يشاء، فلا يغتروا بما جاءهم من هدى القرآن ونوره من عند الله سبحانه. وليس المعنى: أن حافظ القرآن قد حاز الهدى والنور بحفظه له من دون الإكثار من تلاوته والعمل به، فإنه لم ينتفع اليهود بالتوراة وقد حملوها فكانوا كالحمار يحمل أسفاراً، ومما يبين عدم استفادتهم من الهدى والنور الذي في التوراة: ما عُلِم أن كل نبي قد حذر قومه من المسيح الدجال، وكان اليهود ممن حذروا منه، ومع ذلك فإن أكثر أتباعه اليهود، فهل نفعتهم التوراة؟ وهل نفعهم تحذير موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام؟ فالغرض الموعظة للمؤمنين، قال تعالى مخاطباً اليهود: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة:63]، فلم يأخذوا ولم يعملوا، وقيل ذلك للمؤمنين حيث أمروا أن يتمسكوا بكتاب الله سبحانه، قال النبي صلى الله عليه وسلم (تركت فيكم ما إن تمسكتم به دخلتم الجنة) وفي رواية: (تركت فيكم الثقلين إذا تمسكتم بهما فلن تظلوا بعدي أبداً: كتاب الله سبحانه وتعالى فيه الهدى والنور)، فقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم لنا ما إن تمسكنا به لن نضل بعده أبداً وهو كتاب الله سبحانه؛ إذ إن كتاب الله الذي جاء من عند الله فيه الهدى وفيه النور، وكأن الله يذكرنا أنه آتى بني إسرائيل الهدى والتوراة فيها هدى ونور فلم ينتفعوا بها، فاحذروا أن تكونوا مثلهم، فقد استحقوا أن يلعنهم الله وأن تلعنهم أنبياء الله، قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79]، فإنهم لما جاءتهم التوراة تنهاهم عن المنكر وتأمرهم بالمعروف، عكسوا الأمر فعبدوا غير الله ولم يتناهوا عن المنكر، فاستحقوا لعنة الله. فلذلك عندما يذكر الله عز وجل أن يوم القيامة لا ينفع الظالمين معذرتهم، يراد بالظالمين اليهود الذين لم ينتفعوا بالتوراة، إذ لم ينتفع منهم إلا القليل، وقوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ} [غافر:53]، أورثناهم، أي: جعلنا فيهم التوراة، ومعلوم أن ميراث الأنبياء هي الكتب السماوية التي تنزل من عند الله سبحانه وتعالى، وقد ذكر النبي صلوات الله وسلامه عليه ذلك فقال: (إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر)، قوله: (إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً)، أي: أن ما يتركونه صدقة، فإذا مات النبي جمع المال الذي يتركه وتصدق به، وإنما الميراث الحقيقي للأنبياء هو هذا القرآن العظيم، فهو العلم الذي جاءوا به من عند الله، فقوله: (وَأَوْرَثْنَا) أي: جعلنا إرث النبي فيهم هذا الكتاب، وهو التوراة. وقوله تعالى: (هُدًى) أي: يدلهم على الطريق، (وَذِكْرَى) أي: موعظة وتذكير، (لِأُولِي الأَلْبَابِ) أي: ليست لكل الناس، ولكن لمن كان له قلب يعقل آيات الله وينظر ويعتبر بها.

تفسير قوله تعالى: (فاصبر إن وعد الله حق)

تفسير قوله تعالى: (فاصبر إن وعد الله حق) يقول الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [غافر:55]، فيأمره بالصبر صلوات الله وسلامه عليه على أذى هؤلاء المشركين، وأخبره أن وعد الله بنصر المؤمنين حق لا شك أنه سيأتي وقت ما يشاء الله سبحانه وتعالى، وقد صبر النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بالصبر والتصبر والإكثار من الصلاة، قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45]، وهنا أمره بالتسبيح والإكثار من ذكر الله سبحانه وتعالى في صلاته وفي غيرها، قال تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [غافر:55].

تفسير سورة غافر [55 - 59]

تفسير سورة غافر [55 - 59] يأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر على أذى المشركين ومجادلة أهل الباطل، ويأمره بالاستغفار والتسبيح في أول النهار وآخره، والمؤمنون يقتدون بنبيهم صلى الله عليه وسلم، فقد كان النبي يستغفر الله في اليوم مائة مرة. والاستكبار عن الحق والمجادلة بالباطل صفتان من صفات الكافرين، فهؤلاء الذين أنكروا البعث نسوا أن خلق السماوات والأرض أكبر من خلقهم، ولكنهم لا يعلمون ذلك؛ لأنه لا يستوي من نوَّر الله بصيرته، ومن أعماه الله عن الحق، ولا يستوي الذي يعمل الصالحات والذي يعمل السيئات.

تفسير قوله تعالى: (فاصبر إن وعد الله حق)

تفسير قوله تعالى: (فاصبر إن وعد الله حق) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة غافر: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ * إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ * إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} [غافر:55 - 59]. في هذه الآيات يصبر الله عز وجل نبيه صلوات الله وسلامه عليه يأمره بالصبر ويخبره عما سيكون بعد ذلك من مجيء الساعة ومن حساب لهؤلاء المشركين، وأنهم لا يستوون أبداً مع المؤمنين عند ربهم سبحانه، قال تعالى: (فَاصْبِرْ)، أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم وأمر المؤمنين بذلك، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200]. فعودوا أنفسكم على الصبر كما أمر الله سبحانه وتعالى وكما أخبر عن الجزاء فيه، قال تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35]. فقوله: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ)، أي: مهما فعل بك هؤلاء ومهما آذوك فنفذ ما أمرك الله عز وجل به واصبر على ما أمرت به من صبر وتنفيذ لهذه الشريعة وتبليغ لدين الله سبحانه، وجهاد لهؤلاء بالسيف والسنان، وبالكلمة واللسان، وبالقلب والجنان. وقوله تعالى: (إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ)، أي: وعدكم الله بالنصر إن نصرتم دينه حقاً، ولا بد أن يكون، ووعد الله للمؤمنين بإحدى الحسنيين إما النصر وإما الشهادة حق، وإن الله لا يخلف الميعاد، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:9]، ووعيد الله عز وجل للكفار بأن يعذبهم وأن يدخلهم النار حق. ثم أمر الله نبيه صلوات الله وسلامه عليه أن يستغفر، وإن كان ربه سبحانه قد عصمه من الذنوب، وكأنه من باب إياك أعني واسمعي يا جارة، فقال له: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ)، وهذه السورة مكية، والنبي صلوات الله وسلامه عليه أعلمه ربه سبحانه بأنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر في سورة الفتح بعد هجرته صلوات الله وسلامه عليه بست سنوات، في ذي القعدة من سنة ست في عام الحديبية، قال تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} [الفتح:2 - 3]. فبين هاتين الآيتين سنوات طويلة، وأمر الله للنبي بالاستغفار هو أمر للمؤمنين أن يكثروا من الاستغفار مقتدين بالنبي صلوات الله وسلامه عليه، وقد كان صلى الله عليه وسلم يكثر من الاستغفار حتى بعد أن أخبره سبحانه أن ذنبه مغفور عليه الصلاة والسلام، فلا يقع منه ذنب عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك كان يعد له في المجلس الواحد سبعون مرة وهو يستغفر الله سبحانه وتعالى، وقال صلى الله عليه وسلم: (إني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة).

معاني قوله تعالى (وسبح بحمدك)

معاني قوله تعالى (وسبح بحمدك) وقوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [غافر:55]، أمر أن يسبح الله في أول النهار وفي آخر النهار، فالعشي: وقت العصر، والإبكار: وقت الفجر، فأمره أن يستغفر الله وأن يسبح حامداً ربه، والتسبيح: هو التنزيه. وقالوا معناه: صل في هذا الوقت في العشي والإبكار، وكانت الصلاة في العهد المكي أن يصلي مرتين في اليوم عليه الصلاة والسلام قبل أن يسرى به ويعرج به إلى السماء وتفرض عليه الصلوات الخمس المعروفة، فكان قبل ذلك يصلي ركعتين أول النهار وركعتين آخر النهار، حتى علم صلى الله عليه وسلم كيف يصلي الخمس الصلوات، ونزل جبريل فصلى بالنبي صلى الله عليه وسلم أول صلاة من الصلوات الخمس المفروضة وهي صلاة الظهر؛ ولذلك تسمى صلاة الظهر: الصلاة الأولى، لا لكونها أول صلاة في اليوم، ولكن لأن جبريل أول ما علم النبي صلى الله عليه وسلم وصلى به إماماً صلاة الظهر. فقوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [غافر:55]، على عموم التسبيح والحمد، وأيضاً على خصوصية معنى الصلاة، ولذلك تسمى صلاة النافلة صلاة التسبيح أو صلاة السبحة، بمعنى: صلاة التطوع، فالأمر هنا بالصلاة التي فيها ذكر الله وتسبيح الله وتحميد الله، والأمر هنا بأن يذكر الله في هذين الوقتين. وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين الذكر في هذين الوقتين: بعد الفجر، فالملائكة تحضر الذكر في هذا الوقت، وبعد العصر أيضاً، قال صلى الله عليه وسلم: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل والنهار، فيعرج الذين باتوا فيكم)، أي: يعرجون بعد الفجر (فيسألهم الله سبحانه وتعالى كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون -أي: صلاة العصر-، وتركناهم وهم يصلون)، أي: الفجر، وهكذا تطوف الملائكة على بني آدم في صلاة الفجر وفي صلاة العصر، فالمستحب كثرة ذكر الله عز وجل في هذين الوقتين.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم) قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر:56]، هنا تنبيه للنبي عليه الصلاة والسلام بأن يصبر على أمثال هؤلاء؛ لأن هذا أمر يضايق الإنسان أن يسمع الجدل بالباطل، فبدأ ربه سبحانه معه بقوله: {فَاصْبِرْ} [غافر:55]، فهم سيجادلونك، وسيؤذونك، وسيحاولون أن يفعلوا بك ما يريحُ أنفسهم من أذى لك وإتعاب لك، (فَاصْبِرْ) على ذلك. وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما رزق عبد خيراً ولا أوسع من الصبر)، فالله يرزق العباد الكثير، وأفضل ما يرزق العبد الصبر، فإذا بهذا الإنسان الصابر يجد نفسه أغنى الناس؛ لأنه رزق الصبر فلا يحتاج إلى أحد من الناس، فتراه يصبر على البأساء وعلى الضراء، ويصبر على قضاء الله وقدره، ويصبر على تكاليف ما جاء في هذه الشريعة من أوامر فيفعلها، ويصبر على ما نهى الله عز وجل عنه فيجتنبه. فقوله: تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ} [غافر:35]، أي: يضايقونك، ويتكلمون معك جدالاً بجدال، وقوله: {بِغَيْرِ سُلْطَانٍ} [غافر:35]، أي: بغير حجة من عند الله سبحانه وتعالى، وقوله: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ} [غافر:56]، (إن) هنا بمعنى: ما، أي: ما في صدورهم إلا كبر، وهذا أسلوب قصر، أي: الجدل ليس إلا للكبر الذي في نفوسهم، فهم يجادلون مستكبرين على شرع الله، ومستكبرين أن يطيعوا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فليس في صدورهم علم، وليس في صدروهم دين، وليس في صدورهم نور، بل في صدورهم الكبر والتعاظم وبطر الحق وغمط الناس، فهؤلاء القوم يخبر الله عز وجل عنهم نبيه صلى الله عليه وسلم أنه ليس في قلوبهم علم حين يجادلونه، إنما الذي في صدورهم حب الجدل استكباراً عن الحق. وكذلك كل إنسان يجادل بالباطل ليس في صدره علم، ولو كان في صدره علم لتكلم بالحق، ولأذعن له، ولا سمع للخصم فيما يقول، ولأنصف من نفسه، ولكن هؤلاء لا ينصتون، فهم يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم بآذانهم، أما قلوبهم فلا تعقل ولا تفقه شيئاً، ولكنهم يسمعون ليردوا على النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا كل مجادل بالباطل يستمع إلى خصمه لا يفكر فيما يقول، إنما يفكر كيف يرد عليه كبراً، فعظمت أنفسُهم في أنفسِهم واستعظموا واستكبروا. وقوله تعالى: {مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر:56]، أي: أن العظمة التي يدعونها لن يصلوا إليها أبداً؛ لأن الله يأبى إلا أن يضعه ويذله ويفضحه، فهؤلاء الكفار الذين كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم أذلهم الله وأخزاهم، فجعل شيوخهم وكبراءهم قتلى وصرعى في يوم بدر، فقد أنتنت جيفهم، وألقوا في قليب بدر جثثاً منتنة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لهم: (هل وجدتم ما وعد ربكم حقا)، وقال لأصحابه: (ما أنتم بأسمع لما أقول من هؤلاء). فهؤلاء الذين استكبروا عن الحق قال الله عنهم: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر:56]، وكل إنسان متكبر عن الحق مستحيل أن يصل إلى ما يزعم أنه متكبر عن قبول الحق ومتعاظم في نفسه يوهم الناس أن معه حق والناس يصدقونه، حتى وإن أطاعه الناس فيما يقول هو في أنفسهم كذاب، ويحتقرونه في أنفسهم ويظهرون له البغضاء، ولذلك كان أتباع مسيلمة حين يسمعون منه ما يقول يضحك بعضهم إلى بعض ويقول بعضهم لبعض: والله إنه لكاذب، ولكن كذاب ثقيف أحب إلينا من صادق قريش، فوجهة نظر هؤلاء الكفار أن هذا كذاب، لكن نحن نحب الكاذب منا على الصادق الذي من قريش. فالواحد منهم إذا سمعه يتلو عليه أشياء من وحي الشيطان ويزعم أن جبريل جاءه به يقول له: والله إنك لتعلم أني أعلم أنك كاذب، فلا يصدقه، وأبى الله إلا أن يحقره فيما يقوله وأن يذله وأن يضعه. فهنا يقول الله: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر:56]، أي: ليسوا ببالغيه ولن يصلوا إلى ما يتمنون من استعظام أو استكبار، ثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [غافر:56] أي: استعذ بالله من الشيطان، واستعذ بالله من الكبر، واستعذ بالله من الهوى، وقوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر:56]، أي: يسمعك ويسمعهم ويسمع كل شيء، ويراك ويراقبك ويراهم ويراقبهم ويراقب كل شيء ولا يخفى عليه شيء سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس)

تفسير قوله تعالى: (لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس) قال الله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر:57]، هؤلاء الذين يجادلون في الله سبحانه وتعالى ذكرهم الله في هذه السورة مرتين، فقال: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر:56]، وقال قبل ذلك {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:35]، فقوله: (كَبُرَ)، أي: تعاظم هذا الشيء، فهو شيء يغضب الله سبحانه وتعالى، وهو شيء بغيض عند الله عظم في مقته وفي كراهته، وهو الجدال بالباطل. ولهذا قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:57]، يقول لهم ذلك لأنهم كانوا يجادلون في ذلك، ويقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: {أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [الرعد:5]، أي: هل نرجع مرة أخرى بعدما نكون تراباً، فقالوا: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} [المؤمنون:36]، {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24]، قال الله سبحانه: {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية:24]. ظن كاذب وتخرص باطل على الله سبحانه وتعالى بما يزعمونه، فقال: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ} [غافر:56]، فالكبر يدفعهم بأن يجادلوا بالباطل وأن يدفعوا الحق الذي معك فيرفضوك، فقال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:57]، أي: هؤلاء المتعجبون من كيفية إعادة الله لهم لا ينظرون إلى كيفية خلق السماوات، وكيفية خلق الأرض، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:41]، أي: ما أمسكهما من أحد من بعده، {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر:41]، سبحانه وتعالى. وقال تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ * فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية:17 - 21]، هذا الذي عليك، قال تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة:99]، صلوات الله وسلامه عليه. فقوله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:57]، أي: خلق السماوات والأرض أكبر وأعظم من خلق الناس، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر:57]، أي: لم يتفكروا في ذلك، وقد قال الله سبحانه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران:190]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنزلت علي آيات الليلة ويل لمن قرأها فلم يتفكر فيها)، وهي هذه الآيات العشر من آخر سورة آل عمران: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191] إلى آخر السورة. فيتفكر المؤمنون في خلق السماوات وفي خلق الأرض، يتفكرون في هذه الأشياء العظيمة التي خلقها الله سبحانه، وكلما نظروا إلى السماوات وإلى الشمس وإلى القمر وإلى النجوم وإلى هذه الأعداد الهائلة من الأجرام التي خلقها الله سبحانه وتعالى قالوا: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ} [آل عمران:191]، أي: تعاليت وتنزهت يا ربنا أن تخلق شيئاً باطلاً {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191].

تفسير قوله تعالى: (وما يستوي الأعمى والبصير ولكن أكثر الناس لا يؤمنون)

تفسير قوله تعالى: (وما يستوي الأعمى والبصير ولكن أكثر الناس لا يؤمنون) قال الله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُونَ} [غافر:58]، أي: لا يستوي إنسان أعمى لا يبصر آيات الله عز وجل في الكون مع إنسان بصير يبصر آيات الله، وهل يستوي الأعمى في قلبه الذي لا يتفكر ولا يتدبر مع إنسان أعطاه الله البصيرة فهو يتفكر في كون الله سبحانه وتعالى وفي مخلوقات خلقها الله؟! فهو يتأمل ويتدبر، ويعلم أن هذا ما خلق باطلاً، فلا يستوي الأعمى في قلبه الذي هو على الضلالة مع إنسان بصر الله قلبه ونوره. قال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ} [غافر:58]، فالإنسان المؤمن لا يستوي مع صاحب أعظم سيئة وهي الشرك بالله سبحانه، لا يستوي أبداً المؤمن مع الكافر، ولا يستوي من يعمل صالحاً مع من يسيء ويعمل السيئات، قال تعالى: {قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ} [غافر:58]، فقليلاً ما يتذكر الإنسان أي: ما يتعظ، وإذا اتعظ حيناً نسي أحياناً كثيرة فلم يتعظ، فقال الله سبحانه: {قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ} [غافر:58]، وهذه قراءة الكوفيين بتاء الخطاب، وباقي القراء يقرءون (قليلاً ما يتذكرون) للغائب، أي: هؤلاء المشركون وهؤلاء الكفار قليلاً جداً ما يتذكرون، وإذا تذكروا أحياناً وقالوا: إن هذا القرآن ليس بقول بشر، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر، سرعان ما يرجعون عن ذلك. قال تعالى: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:18 - 25]. إذاً: هذا الذي قال: القرآن له حلاوة، وعليه طلاوة، رجع عن كلامه بسرعة خائفاً من قومه مجاملاً لهم، فقال: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر:24]، أثره عمن كان قبله، فتعلم السحر ممن كان قبله فكذب على النبي صلى الله عليه وسلم وافترى عليه، فقليلاً ما يتذكر أمثال هؤلاء، أما المؤمنون فهم يتعظون بما قال الله سبحانه، ويعلمون أنهم إليه راجعون؛ ولذلك قال تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ} [غافر:59]، أي: اتركهم على ما هم فيه من باطل ومن ضلال ومن كبر، فالساعة ستأتي لا ريب في ذلك، قال تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا} [غافر:59]، أي: لا شك في ذلك، وقال تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} [غافر:59] بأنهم راجعون إلى الله، وأنه مجازيهم، قال تعالى: {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام:91]، حتى {تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [يوسف:107]، فيومئذ يعرفون أن الدين كان هو الحق من عند رب العالمين، وأن شيطانهم أضلهم فاستحقوا أن يكونوا من الغاوين. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة غافر الآية [60]

تفسير سورة غافر الآية [60] الدعاء نوع من أنواع العبادة التي لا تصرف إلا لله سبحانه وتعالى، وصرفها لغيره شرك، وفضائل الدعاء معروفة في الكتاب والسنة، وللدعاء آداب، منها: ألا يكون الدعاء بإثم أو قطيعة رحم، ولا يتعجل الإنسان الإجابة، فإن الله يستجيب الدعاء على أي وجه من الوجوه، واستكبار العبد عن الدعاء استكبار عن عبادة الله سبحانه، والله سبحانه وتعالى عال فوق عرشه قريب من عباده إذا دعوه، ودعوة المضطر مستجابة، فلا بد من الإخلاص في الدعاء والعبادة.

تفسير قوله تعالى: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم)

تفسير قوله تعالى: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم) أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة غافر: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ * اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ * ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [غافر:60 - 63]. في هذه الآيات من سورة غافر يأمر الله سبحانه وتعالى عباده أن يدعوه، قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي} [غافر:60] ووعد بالإجابة على الدعاء فقال: {أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] ولم يجعل بينهما شرطاً، ولم يقيد الدعاء بشيء في الآية، وإنما قال: {رَبُّكُمُ ادْعُونِي} [غافر:60].

أسباب إجابة الدعاء

أسباب إجابة الدعاء جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (إن الله يستجيب الدعاء ما لم يدع أحدكم بإثم أو قطيعة رحم). إذاً: الإنسان المؤمن يدعو ربه بما شاء من الدعاء، فالله يستجيب بقيد: لا تدع بإثم، ولا تطلب ذنباً فتسأل ربك أن يعينك عليه مثلاً، أو تدعو على أحد بشر أو بشيء تأثم أنت حين تسأل ربك ذلك، وكذلك أن تدعو بقطيعة رحم، أو تدعو بشيء يكون فيه قطيعة الرحم، فلا يستجاب لك في ذلك. وقال عليه الصلاة والسلام: (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، فيقول: دعوت فلم يستجب لي)، فعلى الإنسان إذا دعا ربه أن يصبر وليسأل ربه الخير فهو أعلم سبحانه وتعالى، فقد تسأله الشيء الذي يعلم أن فيه ضرراً لك فلا يستجيب لك، ويعطيك مكانه من الخير أشياء أخرى، وقد يعطيك في الدنيا، وقد يعطيك الثواب في الآخرة، وقد يصرف عنك من السوء بقدر ما سألت الله عز وجل من الخير، فالله يستجيب الدعوات يقيناً لا محالة في ذلك ولا شك فيه. وأمركم أن تدعوه سبحانه تضرعاً وخفية وخيفة، فتسأل ربك سبحانه متضرعاً إليه، وتسأله في العلن وفي الخفاء، وتسأله وأنت محب له عز وجل خائف منه سبحانه.

معاني الدعاء

معاني الدعاء والدعاء على معنيين: {ادْعُوا رَبَّكُمْ} [غافر:49] بمعنى: وحدوا ربكم سبحانه وتعالى، و {ادْعُونِي} [غافر:60] اطلبوا مني، إذاً: ادع ربك موحداً له؛ لأن الدعاء فيه توحيد الله سبحانه وتعالى، وترسيخ العقيدة، فلذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (الدعاء هو العبادة)، والعبادة: هي توحيد الله سبحانه وتعالى، تعبد ربك، وتتذلل لخدمته سبحانه، ولخدمة دينه سبحانه، والعبادة لله: اسم جامع لكل خير، ولكل شيء تثبت به لربك سبحانه أنك عبد له، فهو اسم جامع لكل الطاعات للأقوال والأعمال والأفعال الظاهرة والباطنة التي ترضي بها ربك سبحانه وتعالى، ولذلك فقولك: لا إله إلا الله دعاء له سبحانه، وأعظم ما دعا به الأنبياء والمرسلون في يوم عرفة قولهم: لا إله إلا الله، فهم يوحدون الله سبحانه وتعالى، فالدعاء توحيد؛ لأنك تقول: يا رب أعطني كذا، فأنت تطلب منه وحده، وتقول: أنا أوحدك يا رب، أنت المستحق لأن تدعى فأنت الإله الذي تستحق ذلك وحدك، وأنت الرب الذي تستجيب. فالدعاء هو العبادة، فتوحد ربك سبحانه بالدعاء، فتقول: يا رب! أنت وحدك الذي أتوجه إليك بهذا الدعاء، وهذا توحيد الألوهية، وأنت وحدك الذي تقدر على الإجابة، وهذ1 توحيد الربوبية، فمقتضى ربوبيته سبحانه أنه يعطي سبحانه، ومقتضى ألوهيته سبحانه أنك تتقرب إليه وتدعوه.

كرم الله سبحانه واستجابته للدعاء على أي وجه من الوجوه

كرم الله سبحانه واستجابته للدعاء على أي وجه من الوجوه جاء في الحديث الذي رواه الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يسأل الله يغضب عليه). انظر إلى كرمه سبحانه وتعالى، يقول لك: اطلب مني، وإذا لم تطلب مني فسأغضب عليك، فأنت تطلب من الإنسان ما تحتاج إليه فتقول: يا فلان! أعطني كذا، فيكون كريماً، وتطلب منه مرة ثانية فيكون كريماً، وتطلب منه مرة ثالثة فيقول لك: ليس كل مرة تأتيني وتطلب مني! فالعبد يغضب إن طلبت منه الشيء، والرب سبحانه يغضب إن لم تطلب منه سبحانه وتعالى، ولذلك الإنسان المؤمن يعرف أن له رباً كريماً سبحانه وتعالى، يعطي سبحانه عطاء عظيماً، وعطاؤه الشيء كن فيكون، وخزائن الله عز وجل ملأى لا تغيظها نفقة، فعلى المؤمن أن يكثر من الدعاء، فالدعاء ينفعه في الدنيا والآخرة، فهو توحيد لله سبحانه وتعالى. والله يستجيب للعبد على وجه من الوجوه التي كلها خير، فإما أن يعطيه هذا الذي سأله، أو يصرف عنه من الشر بقدر ما طلبه من الخير، أو يدخر ذلك له ويجعلها جبالاً من الحسنات يجدها يوم القيامة عند الله سبحانه وتعالى، فلا تعدم خيراً في الدعاء مهما دعوت ومهما سألت الله فكن على يقين بالإجابة على وجه من هذه الوجوه، وكن على ثقة في الله سبحانه أنه كريم جواد يستحيي من عبده إذا رفع يديه أن يردهما صفراً، ومستحيل أن ترفع يديك وتقول: يا رب! ويردك ولا يستجيب لك، بل لابد أن يعطيك من فضله ومن كرمه سبحانه، فهو أعلم بالخير، فلا تقل: إني أدعو وربي لا يستجيب لي، فلعل هذا الذي تطلبه ليس فيه الخير لك، فإذا صرفه الله عز وجل عنك فثق أن الخير في غيره وليس فيه. ولذلك علمنا النبي صلى الله عليه وسلم الاستخارة في الأمور كلها، فالاستخارة دعاء تطلبه من ربك، حيث إنك لا تطلب شيئاً بعينه، بل تقول: يا رب! اختر لي، إذا كان هذا الشيء فيه خير لي فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كان فيه شر لي فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به. فالمؤمن يرضى بما يرضى الله عز وجل به. وقوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] هذه قراءة الجمهور، وقراءة ابن كثير: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونيَ أَسْتَجِبْ لَكُمْ).

استكبار العبد عن الدعاء استكبار عن عبادة الله سبحانه

استكبار العبد عن الدعاء استكبار عن عبادة الله سبحانه قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر:60]. فلما قال الله تعالى: (ادْعُونِي} [غافر:60] وصف الدعاء بأنه العبادة، فالذي يستكبر عن دعاء الله عز وجل مستكبر عن عبادة الله سبحانه، وعمم في ذلك فقال: {يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر:60] بكل صورها، فبدأ بذكر الدعاء ثم عمم العبادة. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدعاء هو العبادة)، أي: من أعظم ما يكون في العبادة الدعاء؛ لأنك وأنت تدعو تستشعر بالذل بين يدي الله عز وجل، وبحبك لله سبحانه، وبأنه يريد بك الخير ويريد لك الخير، فتسأله سبحانه وتعالى وأنت مستيقن بأنه سوف يعطي سبحانه، وأنه المستحق لأن يدعى وأن يطلب منه وحده لا شريك له. وقد وعدنا الله عز وجل في كتابه بالاستجابة وأمرنا بالدعاء، وأخبر عن هذه الاستجابة في مواطن من كتابه سبحانه وتعالى فقال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186]. وقال سبحانه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] ولم يجعل بين الدعاء والإجابة شرطاً، فقيد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بأن تدعو وتسأل ربك، لكن احذر من الدعاء بالإثم فلا استجابة لك في ذلك، فلا تدع على نفسك إلا بخير، ولا تتعجل في الدعاء، ولا تدعُ بقطيعة الرحم.

علو الله فوق عرشه وقربه من العبد إذا دعاه فيستجيب له

علو الله فوق عرشه وقربه من العبد إذا دعاه فيستجيب له وانظر إلى قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186] ولم يقل فقل: إني قريب، ولكن أعجل من ذلك الجواب من الله عز وجل، فالله سبحانه وتعالى قريب من عباده. وجاء في سبب نزولها: أن بعض الصحابة سألوا: أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ والنجوى: حديث السر، فنزل القرآن يجيب عن ذلك، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186]، والله فوق سماواته، وهو فوق عرشه سبحانه وتعالى، ومستو على عرشه، بائن من خلقه، والسماوات بعيدة عن الأرض، وسمك كل سماء مسيرة خمسمائة سنة، وما بين السماء والتي تليها كذلك، وفوق السموات السبع كرسي الله سبحانه، وفوق ذلك عرش الله سبحانه وتعالى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما السماوات والأرضون بجوار الكرسي إلا كحلقة في فلاة)، وقال تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255] وأوسع من ذلك وأعظم عرش الرحمن، وما الكرسي بجوار العرش إلا كحلقة في فلاة، ومع ذلك كله فهو القريب سبحانه، قال تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16]، فهو قريب بسمعه وبصره واستجابته وقدرته سبحانه وتعالى، فالله يحكم في عباده ويفعل ما يشاء، ويحكم بما يريد، وهو أقرب لعباده من حبل الوريد بسمعه وبصره وقدرته سبحانه، وبلطفه بعباده، وبرحمته وحنانه سبحانه وتعالى. وقوله تعالى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] أي: كل داع يدعو ربه فالله يستجيب له سبحانه وتعالى، وقوله: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي} [البقرة:186] أي: فليدخلوا في ديني: {وَلْيُؤْمِنُوا بِي} [البقرة:186] أي: وليصدقوا بما جئتهم به من كتاب، وبما أنزلت في هذا الكتاب من أحكام، ومن أوصاف للرب سبحانه وتعالى، {وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186].

الأصنام لا تملك لمن يدعونها شيئا من الإجابة

الأصنام لا تملك لمن يدعونها شيئاً من الإجابة وانظر إلى الفرق بين الرب القادر سبحانه وبين الآلهة التي لا تملك شيئاً، فالله له دعوة الحق، وأنزل الكتاب بالحق وفيه الحق، ويدعو الخلق إلى الحق، فالدعوة الحق له سبحانه. قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} [الرعد:14] أي: الأصنام والآلهة وهذه الأشياء الباطلة {لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} [الرعد:14]. هذه الآلهة التي يدعونها مثل بسط الإنسان يده للماء وهو يقول: تعالى يا ماء ادخل فمي، وأنى سيأتي الماء إلى فمه؟ قال تعالى: {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [الرعد:14]. فالدعوة الحق هي لله سبحانه، والدعاء الحق الذي يكون من المؤمن للرب سبحانه وتعالى.

فضل الله علينا ومنه باستجابته دعاءنا عند الاضطرار

فضل الله علينا ومنه باستجابته دعاءنا عند الاضطرار كذلك يمن الله علينا ويذكرنا، قال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62]، من الذي يجيبك إذا اضطررت؟ وكل منا يتعرض لذلك ليل نهار، فتجد نفسك مضطراً مريضاً تجأر إلى الله يا رب! اشفني، يا رب! اكشف عني، يا رب اشف ابني، وتسأل ربك وأنت مضطر، وتبكي على نفسك، وتبكي من الضرر الذي نزل بك، وتبكي خائفاً من الله عز وجل، حتى إذا استجاب لك نسيت كل شيء، قال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62]، من الذي يجيب هذا المضطر إذا دعاه؟ أإله مع الله؟ لا إله إلا الله، {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:62]، وهذا الاستفهام استفهام تعجب من أمر البشر، أي: هل بعد استجابته لكم تدعون غيره وتطلبون من غيره سبحانه؟! وقوله تعالى: {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:62] لم يقل: أرب مع الله؛ لأنه لا أحد ينكر ذلك، فأي خلق تكونون وأنتم تعلمون أن الله هو الذي يعطيكم ثم تشكرون غيره سبحانه؟ فلو أن إنساناً أعطى صديقه شيئاً، أيشكر غيره؟! سيقولون: سبحان الله! انظروا هذا إنسان جاحد، فإذا كنا لا نرضاه بين الناس، فهل نرضاه لربنا أن يعطينا ونشكر غيره ونعبد غيره؟! وكرر الله سبحانه وتعالى نعمه على عباده، وفي كل نعمة يذكر وراءها (أإله مع الله) أي: هل هناك إله يستحق العبادة مع الله الذي يفعل بكم ذلك؟ لا إله إلا هو، قال تعالى: {قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62].

أمر الله سبحانه لعباده أن يخلصوا في دعائهم وعبادتهم له

أمر الله سبحانه لعباده أن يخلصوا في دعائهم وعبادتهم له كذلك قال الله سبحانه: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر:14]، أي: ادعوه ووحدوه سبحانه وتعالى، وأخلصوا له في العبادة، وأخلصوا في دعائكم. كذلك يذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه الدعاء والعبادة، ويذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث منها قوله صلوات الله وسلامه عليه: (الدعاء هو العبادة، وقرأ هذه الآية: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]). وقال صلى الله عليه وسلم: (ليس شيء أكرم على الله تعالى من الدعاء)، فدعاؤه كرم منه سبحانه فكيف ستكون الإجابة؟! فمن أكرم ما تتقرب به إلى ربك سبحانه الدعاء، وقال صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب فليكثر الدعاء في الرخاء). فإذا أحببت أن يستجيب الله لك في وقت الأزمة والشدة فأكثر من الدعاء في وقت الرخاء. نسأل الله عز وجل أن يستجيب دعوات المكروبين ودعوات المؤمنين. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة غافر (تابع) الآية [60]

تفسير سورة غافر (تابع) الآية [60] لقد اشتمل الدعاء بمدلولاته على أنواع التوحيد الثلاثة، وهذا يدل على أهميته في حياة المسلم اليومية، والحقيقة: أن الدعاء باب لا يغلق، وفيض لا ينقطع، وسلاح ذو أثر عجيب، وهو أسرع الطرق للوصول إلى ما يتمناه الإنسان، فلتحرص عليه؛ لأن المدعو كريم حيي يستحي إذا رفع العبد يديه إليه أن يردهما صفراً خائبتين.

الدعاء فضله وأهميته وشموله لأنواع التوحيد الثلاثة

الدعاء فضله وأهميته وشموله لأنواع التوحيد الثلاثة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]. ذكرنا هذه الآية في الحديث السابق، وذكرنا أن الله سبحانه أمر عباده بدعائه، وذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم عظم الدعاء فقال: (الدعاء هو العبادة)، فالدعاء يشتمل على توحيد الله سبحانه وتعالى بأنواعه، ففيه توحيد الألوهية، وفيه توحيد الربوبية، فعندما يدعو الإنسان ربه سبحانه وتعالى يقول: يا رب! وهو موقن بأن الله يستجيب الدعاء، وهذه من خصائص ربوبيته سبحانه، فهو الذي يستجيب الدعاء ويعطي عباده ما سألوه سبحانه وتعالى، وهو عندما يدعو ربه فإنه يتقرب إليه وحده لا شريك له، وهذه من خصائص توحيد ألوهية الله سبحانه، فهو الإله الذي يستحق أن يعبد، وأن يتوجه إليه بالعبادة. وعندما تتوجه إلى الله بالدعاء فإنك تقول: يا الله، يا رحمن، يا رحيم، يا عظيم، يا عزيز، يا حكيم، فتسأل ربك بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، فهو وحده الذي يستحق هذه الصفات، ففيه توحيد الأسماء والصفات، كما قال سبحانه وتعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف:180]، أي: له وحده لا شريك له. فالدعاء مشتمل على أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات، قال سبحانه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (من لم يسأل الله يغضب عليه)، وجاء عنه قوله: (ليس شيء أكرم على الله تعالى من الدعاء) وجاء عنه صلى الله عليه وسلم كذلك أنه قال: (من سره أن يستجيب له الله عند الشدائد والكرب فليكثر الدعاء في الرخاء)، وهذا الحديث رواه الإمام الترمذي، وهو حديث صحيح، وفيه: أن تعود نفسك على الدعاء في كل وقت، سواء في وقت الرخاء والخير أو في وقت البلاء والضيق، فإذا أكثرت من الدعاء في كل وقت كنت جديراً باستجابة الله لك حين ينزل بك شيء من البلاء، فيكون الله معك وبجانبك. ومما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء أن تدعو لأخيك بظهر الغيب، وهذا من أجمل ما يكون إذا دعوت لنفسك وغيرك، فإنك إذا دعوت لأخيك أيضاً أمن الملك على ذلك، ففي الحديث الذي رواه مسلم من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال الملك: آمين ولك مثله)، فإذا أوصاك إنسان بالدعاء له فادع وأنت موقن بالإجابة، فإن الملك يدعو لك بمثل ما سألت لأخيك، ولذلك لا تستكثر على أخيك شيئاً في الدعاء، بل ادع له بالنجاح والرزق والجنة ونحو ذلك، فإن لك مثل الذي سألت لهذا الذي دعوت له بظهر الغيب. وجاء في الترمذي من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أحد يدعو بدعاء إلا آتاه الله ما سأل، أو كف عنه من السوء مثله، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم)، إذاً: فالإجابة على وجوه: إما أنه يعطيك الشيء الذي سألته بعينه، أو أن يكف عنك من الشر والسوء بمثل هذا الذي سألته سبحانه، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أيضاً: (أن العبد يجد يوم القيامة جبالاً من الحسنات فيقول: يا ربي! لم أعمل هذا، فيقال: هذا دعاء ادخرناه لك)، فيتمنى العبد لو لم يستجب له أي دعاء، فلو ادخرت له الأدعية كلها ليوم القيامة لكان أنفع له يوم القيامة. كذلك جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل، قيل: يا رسول الله! ما الاستعجال؟ قال: يقول: قد دعوته فلم أره يستجيب لي)، يعني: أنه يضجر لعدم الاستجابة فيمتنع عن الدعاء، فيحرم نفسه من فضل الله سبحانه ويدع الدعاء.

من شروط استجابة الدعاء

من شروط استجابة الدعاء وحتى يستجاب للإنسان: فعليه أن يطيب مطعمه ومشربه وكسوته ورزقه الذي يأخذه؛ لكي يستجيب الله عز وجل لدعائه، ولذلك جاء في الحديث الذي رواه الإمام مسلم وغيره من حديث أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس! إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:51]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:172]، ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب!) إنسان مسافر سفراً طويلاً (أشعث)، أي: أن شعره غير مرتب من طول السفر، فهو لا يجد وقتاً ليمشط فيه شعره، (أغبر) أي: ممتلئ بالتراب وغبار الطريق، فهذا الإنسان على هذه الهيئة هيئة المسكين الذليل التعبان المنهك الذي يدعو ربه، فهو بهذه الحال حري أن يستجيب الله عز وجل له، ولكن هذا الإنسان الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم لا يستجيب الله له؛ والسبب هو قول النبي صلى الله عليه وسلم فيه: (يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له)، أي: إذا كان هذا يأكل الحرام ويمد يده على أموال الناس يأخذها ويأكلها ولا يتحرى الحلال فيأخذ منه، وكذلك مشربه وثيابه، فهو يسرق ويلبس ويغتصب ويشتري الشيء دون أن يدفع ثمنه، أو يلبس الحرير أو الذهب أو ما حرم الله سبحانه وتعالى. قال: (وغذي بالحرام)، إذاً: فهذا الإنسان يشبع بطنه من الحرام ثم يقول: يا رب! يا رب! فهذا بعيد من الله سبحانه وتعالى، قال: (فأنى يستجاب له)، أي: كيف ينتظر الإجابة من الله سبحانه وهو قد أبعد نفسه عن ربه بهذا الحرام؟

من موانع استجابة الدعاء

من موانع استجابة الدعاء من موانع استجابة الدعاء: أن يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف، أو أن يسكت عن المنكر، ويقول: دع الناس وشأنهم، مع قدرته على تغيير المنكر ولو بلسانه، فهذا بعيد عن الإجابة، فقد جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم). إذاً: فهي عقوبة من الله عز وجل يبعثها على العباد من بلاء يبتلون به ومصائب تعمهم، فإذا دعوا الله فلا يستجاب لهم؛ لأنهم تركوا المنكر أمامهم فلم يأمروا بمعروف ولم ينهوا عن منكر، فإذا بالله عز وجل يبتلي العباد بالمصائب لهذا.

الحث على العزم في الدعاء

الحث على العزم في الدعاء إذا سأل العبد ربه فليسأله وهو موقن بالإجابة، وليسأل سؤال المضطر العاجز المحتاج إلى ربه سبحانه وتعالى، وليري الله تعالى من نفسه الذل والمسكنة والحاجة والعجز، فيقول: يا رب! إني فقير فأغنني، إني ضعيف فقوني، إني ذليل فأعزني، فهذا جدير أن يستجيب الله عز وجل له. ولذلك فإن الإنسان الذي يتكبر في سؤاله ربه فيقول: يا رب! أعطني كذا إن شئت، أو إذا أردت أن تعطيني فأعطني، وكأنه يخاطب إنساناً مثله، فهذا دليل الكبر الذي عند الإنسان وعدم الحاجة إلى الله عز وجل، فهذا لا يستحق جواباً من الله عز وجل؛ لأنه يعلق عطاء الله عز وجل واستجابته على المشيئة، بل ليعزم المسألة وليطلب من الله عز وجل وهو متيقن أنه الرب القادر العظيم سبحانه وتعالى، أما إذا علقت الدعاء بالمشيئة فإن الله لا يقبل ذلك، فقد يطلب الإنسان من الآخر ذلك ويعتبره نوعاً من الاحترام، وهذا من البشر؛ لأن الإنسان بطبيعته متكبر متعال، فيحتاج من الآخر أن يلتمس منه ويرجوه ويتلطف معه في الطلب، فإذا كان هذا الإنسان كريماً أنف هذا الشيء في البشر فكيف بالخالق العظيم سبحانه وتعالى؟! فهذا الأمر لا يقال للكريم سبحانه؛ ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يقولن أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، وليعزم المسألة فإنه لا مكره له). إذاً: فلتعزم المسألة راغباً من ربك فيما عنده، راهباً مما عنده، موقناً بإجابته، فلا أحد يكره الله عز وجل على شيء، عياذاً بالله. قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، إذاً: اطلب من الله عز وجل، ووحد ربك سبحانه وتعالى، وأكثر من ذكره سبحانه وتعالى، وادع إليه سبحانه، ولذلك لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم: (إلام تدعو؟ قال: أدعو إلى الله الذي إن مسك ضر فدعوته كشفه عنك)، إذاً: فالنبي صلى الله عليه وسلم يدعو الخلق إلى عبادة الله سبحانه وتعالى أن يذكروه ويشكروه ويتوجهوا إليه بالعبادة وحده لا شريك له.

فضل ذكر الله تعالى

فضل ذكر الله تعالى يقول الله عز وجل: {فَاذْكُرُونِي} [البقرة:152]، فلو ذكرت ربك فالنتيجة قوله تعالى: {أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152]، وانظر إلى جمال كلامه سبحانه وتعالى وجمال A { اذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152]، والنبي صلى الله عليه وسلم يذكر لنا درجة الذي يذكر الله سبحانه وتعالى فيقول فيما يرويه عن ربه: (من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم)، إذاً: كلما ذكرت الله عز وجل في مكان كلما ذكرك الله سبحانه وتعالى في مكان خير من المكان الذي ذكرته فيه سبحانه، قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152]. كذلك: أخبر الله عن المؤمنين أنهم يذكرون الله سبحانه كثيراً فقال: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:35]، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحب أن يجلس مع أقوام يذكرون الله سبحانه وتعالى فقال: (لئن أقعد مع قوم يذكرون الله تعالى من صلاة الغداة -أي: الفجر- حتى تطلع الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل)، أي: أحب إليه من أن يعتق أربع رقاب من العرب، فهو يحب الجلوس في المسجد لذكر الله من وقت الغداة إلى أن تطلع الشمس قال: (ولئن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة)، صلوات الله وسلامه عليه. وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أيضاً قوله: (سبق المفردون)، أي: الذين يفردون الله عز وجل بالذكر سبحانه، (قالوا: ما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات)، فالمفردون: هم الموحدون ربهم سبحانه، الذاكرون الله كثيراً، فهؤلاء سبقوا، أي: إلى الآخرة، فالذي يسبق بهذا السباق هم المتقدمون الذاكرون الله كثيراً، والذين لا يزال لسانهم رطباً بذكر الله سبحانه وتعالى. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وغيره أنه قال: (ما عمل آدمي عملاً قط أنجا له من عذاب الله تعالى من ذكر الله)، إذاً: فأفضل عمل ينجيك عند الله سبحانه هو ذكر الله سبحانه، ولا يكفي أن تذكر الله ساعة فقط، بل لا يزال لسانك رطباً بذكر الله، فكلما قمت أو نمت أو ذهبت أو جئت فأنت تذكر الله تعالى، وعلى لسانك ذكر الله سبحانه وتعالى. جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إن شرائع الإسلام كثرت علي فأخبرني بشيء أتشبث به، فقال: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله)، وقال في الحديث الآخر الذي رواه الترمذي: (ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قال صلى الله عليه وسلم: ذكر الله تعالى) فذكر الله أعظم من هذا كله، فقد تحدث هذه الأشياء مرة ثم تنقطع، ولكن الذكر لا ينقطع أبداً، فإن العبد يصل بالذكر إلى درجات عالية جداً، قال سبحانه: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]. نسأل الله عز وجل أن يطمئن قلوبنا بذكره، وأن ينصر الإسلام والمسلمين. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة غافر [60 - 64]

تفسير سورة غافر [60 - 64] يحث الله عباده المؤمنين أن يتوجهوا إليه بالدعاء، وسماه الله عبادة لأهميته ومنزلته العالية، وتوعد الله الذين يستكبرون عن دعائه وعن عبادته بنار مستعرة، ويذكر الله في مواضع كثيرة عباده بالنعم الكثيرة والخيرات الوفيرة التي أسبغها عليهم؛ امتناناً وفضلاً منه سبحانه وتعالى، حتى يعبدوه وحده ولا يشركوا به شيئاً.

تفسير قوله تعالى: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم)

تفسير قوله تعالى: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم) بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة غافر: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ * اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ * ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ * اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [غافر:60 - 65]. لما أمر الله سبحانه وتعالى عباده في هذه الآيات بدعائه بقوله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، وعد بالإجابة على الدعاء فقال: {أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، وأخبر عن الذين يستكبرون عن الدعاء فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]، فالمتكبر عن توحيد الله سبحانه، والمتكبر على ربه سبحانه هو الذي لا يدعوه ولا يطلب منه سبحانه وتعالى، والمتكبر على دين النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخل فيه ولا يتابعه عليه. قال تعالى: {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]، أي: سوف يدخلهم الله سبحانه نار جهنم، قال تعالى: {يَوَمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور:13]، فيساقون إليها تسوقهم الملائكة فيدخلون جهنم وهم يدفعون إليها. وقوله: {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ} [غافر:60]، هذه قراءة الجمهور، وقرئ: (سيُدخَلون جهنم) وهي قراءة ابن كثير وشعبة عن عاصم. أي: يدخلهم ربنا سبحانه أو تدخلهم الملائكة. وجهنم هي نار الآخرة، وسميت بذلك لبعد قعرها، فالحجر يلقى من فوق شفيرها ولا يصل إلى قعرها إلا بعد سبعين سنة، وقد خلقها الله عز وجل ليعذب بها من عصاه، نسأل الله العفو والعافية وأن يجيرنا من عذاب النار. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر:60]، أي: يستكبرون عن توحيد الله، وعن دعاء الله، وعن متابعة كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم كيف يدخلون النار وأنهم يحشرون كأمثال الذر في صور الرجال، فالذي يستكبر ويرى نفسه كبيراً عن أن يتابع كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فاستكبر في نفسه، ووجد نفسه أكبر من الخلق، فالله يحقره ويذله ويهينه، ويجعله يوم القيامة مثل النملة، فيحشر على مثل هذه الصورة، والله يفعل ما يشاء سبحانه وتعالى، وقد جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وهو حديث صحيح: (إن الله عز وجل يحشر المتكبرين كأمثال الذر في صور الرجال حتى يدخلهم نار الأنيار)، أي: أشد جزء في النار سعيراً والتهاباً يدخل الله عز وجل فيه المتكبرين عن عبادته سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه)

تفسير قوله تعالى: (الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه) ثم أخبر الله عن نفسه سبحانه، وعن فضله على عباده، وعن قوته وقدرته سبحانه، فقال: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} [غافر:61] فالله هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له، فعبر عن ألوهيته بلفظ الجلالة (الله)؛ لأنه يفرد بالعبادة سبحانه، وعبر عن ربوبيته بقدرته سبحانه وخلقه وصنعه لهذه الأشياء، فالله هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه، وكلمة (جعل) تأتي بمعان: فمن معانيها: الخلق، وهذا هو المقصود هنا، وقد تأتي بمعنى التصدير، أي: تصدير الشيء كذا، فإذا تعدت لمفعول واحد فهي بمعنى الخلق، وإذا تعدت لأكثر من مفعول فلها معنى آخر كما يذكر الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف:3]، وهنا ليس معناها الخلق، فقد تعدت لمفعولين، والمعنى أي: جعله لتفهموه ولتعملوا به، فجعله لكم قرآناً عربياً، وهو كلامه سبحانه وتعالى، وهو صفة من صفاته سبحانه، فجعل الكلام عربياً لتفهموه، وقد خلق جميع الألسنة التي يتكلم بها الخلق فكلام الخلق مخلوق، وأما كلام الخالق سبحانه فهو صفة من صفاته. و (جعل) في هذه الآية: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ} [غافر:61] بمعنى الخلق، أي: خلق لكم الليل وخلق لكم النهار، فخلق لكم الليل رحمة بكم لتسكنوا فيه، قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} [غافر:61]، رحمة من الله سبحانه، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} [الفرقان:47]. ومن رحمته سبحانه أنه علم ضعف خلقه، والخلق لا يقدرون أن يعيشوا في هذه الحياة الدنيا والواحد منهم مستيقظ دائماً، فلا يطيق ذلك ولا يقدر، فلو أن إنساناً ظل مستيقظاً أياماً كثيرة فقد يموت من عدم النوم، فجعل الله للعباد ما يتمكنون فيه من النوم، وما يتمكنون فيه من الخروج للمعاش، فجعل الليل سكناً ولباساً يغشيهم ويغطيهم ويخفيهم ويسترهم، فيقدر الرجل في الليل أن يختبئ في بيته، وأن يختفي عن الخلق، وأن يأتي ويعاشر أهله في خفاء عن غيرهم من الخلق، فيستر الله عز وجل عباده، وجعل {َالنَّوْمَ سُبَاتًا} [الفرقان:47]، أي: تنامون نوماً عميقاً فتستريحون بهذا النوم، وتقدرون على العمل بعد ذلك. {وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} [الفرقان:47]، أي: أحياكم بعد ما أماتكم في هذا الليل، فقمتم من نومكم وقد أخذتم قسطاً من الراحة، فنشركم الله سبحانه، أي: أعادكم مرة أخرى لليقظة وللحياة. قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيْه} [غافر:61]، أي: من أجل أن تسكنوا فيه، فالسكون هو الهدوء، والعشرة، ويسكن الرجل إلى أهله، ويسكن إلى بيته، فجعل الليل لكم سكناً. قال تعالى: {وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} [غافر:61]، أي: شديد الإضاءة، ففي النهار تشتد الإضاءة الناتجة من الشمس التي خلقها الله عز وجل للعباد، فجعل النهار يبصر فيه العباد، ومن شدة إضاءته كان النهار نفسه الذي يبصر، والمعنى: أنه جعل لكم النهار لتبصروا فيه وتعرفوا مصالحكم، وينظر بعضكم إلى بعض، وهو آية من آيات الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} [غافر:61]، دائماً يكون التعبير بالألوهية والربوبية؛ لبيان أن الرب هو الله المستحق للعبادة وحده، والمشركون كانوا يفرقون بين ذلك، فالربوبية يصرفونها لله، فلو سألهم سائل من خلق السماوات والأرض؟ لقالوا: الله، والألوهية يصرفونها لغير الله، فلو سألهم سائل من تعبدون؟ لقالوا: غير الله. فيخبر الله عن ربوبيته، فالرب هو الذي يخلق: فقد خلق السماوات، والأرضين، والليل والنهار، والإنسان، فالله هو الذي يخلق والذي يصنع ويفعل، قال سبحانه: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} [النحل:17]، أي: الذي يخلق تتركونه وتعبدون من لا يخلق، فهل يستوي الخالق مع المخلوق سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً؟! فلفظ الجلالة (الله) من معانيه: أنه المعبود الذي يعبد سبحانه وتعالى، فالله هو المستحق لأن يؤله ويعبد سبحانه وتعالى، وهو هذا الرب الذي خلق والذي رزق والذي سوى كل شيء سبحانه. {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} [غافر:61] أي: إن الله سبحانه وتعالى صاحب الفضل العظيم، فقد تفضل على عباده فأعطاهم وأوجدهم، وتفضل عليهم فأعطاهم ما يسكنون فيه، وما يتنعمون به، وما يعيشون فوقه، وجعل لهم الجنة جزاءً على حسن العمل، وجعل العقوبة بالنار جزاءً على الإساءة. قال تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} [غافر:61]، فكل الناس يعرفون نعمة الله عز وجل عليهم، قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل:18]، فهو رءوف بالعباد فأعطاهم النعم، ولكن الإنسان ظلوم وكفار، يظلم نفسه ويجحد نعم الخالق سبحانه وتعالى، ولهذا قال: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} [غافر:61]، فالقلة من الناس هم الذين يؤمنون، والكثير من الناس يغويهم الشيطان فلا يشكرون ربهم تبارك وتعالى. قال تعالى: {َإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116]، وقال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103]، فالأكثر من الناس في غفلة عن ربهم وعن نعم ربهم سبحانه، فإذا أعطاهم لا يشكرون، وإذا تفضل عليهم سبحانه لا يعرفونه، ولا يرجعون الفضل إليه، ولعل الإنسان ينسب الفضل إلى نفسه فيقول: بذكائي، وبقدرتي، وبكدي، وبتعبي، وبجهدي، فينسب لنفسه ما أعطاه الله سبحانه، فلا يشكر نعمة الله. لكن الإنسان المؤمن يحمد ربه ويشكره في كل أحواله، قال عليه الصلاة والسلام: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)، فالمؤمن في كل أوقاته حامد لربه شاكر له، صابر على ما ابتلاه به.

تفسير قوله تعالى: (ذلكم الله ربكم خلق كل شيء)

تفسير قوله تعالى: (ذلكم الله ربكم خلق كل شيء) قال تعالى: {ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّا تُؤْفَكُونَ} [غافر:62]، (ذلكم) اسم إشارة، ويشار به للشيء البعيد، وهنا وجه التعظيم، فالخطاب لكم أنتم، ولذلك قال: ذلك وفي آخرها ميم، وهذا الضمير يشير إليكم أنتم، فيخاطب المخاطبين بالجمع، ولذلك جاء الضمير مع اسم الإشارة (ذلك). قال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [غافر:62]، أي: ذلكم الله الذي صنع بكم هذا كله من النعم العظيمة، فهو الرب الذي يستحق أن يعبد وحده لا شريك له، قال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} [غافر:62]، أي: ربكم ورب غيركم، فهو رب السماوات ورب الأرض ورب كل شيء رب العالمين سبحانه وتعالى. قال تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [غافر:62]، فالله خلق السماوات وخلق الأرضين، وخلق ما تعلمون وما لا تعلمون، والله خالق كل شيء سبحانه وتعالى. قال تعالى: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [غافر:62]، فانظر كيف يؤكد على الألوهية وعلى الربوبية، في التأكيد على أنه هو الذي يصنع، وهو الذي يخلق، وهو الذي يفعل، وهو الذي يستحق أن يعبد، فهو الإله سبحانه وتعالى، ويؤكد ذلك بذكر الله وبذكر الرب، وبذكر صفات الخالق سبحانه وتعالى وما يصنع، فقد قال: (ذَلِكُمُ اللَّهُ)، وفي هذا ذكر الألوهية، (رَبُّكُمْ)، وفي هذا ذكر الربوبية (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)، ذكر مقتضى الربوبية: أنه يخلق فهو الخالق وكل ما سواه مخلوق، (لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ)، ذكر توحيد الألوهية وتقرير ذلك وتثبيت ذلك في قلوب المؤمنين أنه لا إله إلا هو سبحانه. قال تعالى: (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)، أي: كيف تصرفون عن توحيده سبحانه وتعالى؟! وكيف تكذبون عليه وتجحدون ما يقوله لكم سبحانه؟! (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)، أي: كيف تصرفون عن دلائل توحيده فتعبدون غيره وتكذبون عليه سبحانه؟! ومثل هذا الإفك العظيم كمثل ذلك العبد الذي صرف عن دين الله سبحانه وتعالى، فكل إنسان غاو بعيد عن الله سبحانه وتعالى فهو يجحد بآيات الله، وهو في هذا الإفك، وفي هذا الكذب، وهو في هذا الانصراف عن دلائل توحيد الله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون)

تفسير قوله تعالى: (كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون) قال تعالى: {كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [غافر:63] (كَذَلِكَ يُؤْفَكُ) أي: يصرف عن توحيد الله وعن فهم آيات الله كل إنسان جاحد، والجحود للشيء عكس الإقرار به، فعندما تقر بالشيء أي: تعترف به كأن تعترف أن الله هو الخالق سبحانه، وأن الله هو الذي يستحق العبادة، ويجحد الشيء أي: ينكره مع العلم والمعرفة، كأن يأخذ إنسان منك وديعة فتقول له: هات ما عندك، فيجيب عليك بالإنكار أنه لم يأخذ منك شيئاً، فهو ينكر وهو يعلم أن هذا الشيء عنده، فهؤلاء يجحدون آيات ونعم الله وهم يعرفون ربهم سبحانه وتعالى، ففي قلب كل إنسان ما يدله على ربه سبحانه، وعلى توحيده سبحانه، ولكنه ينصرف ويجحد فيختم الله على قلبه، قال تعالى: {كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [غافر:63].

تفسير قوله تعالى: (الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء)

تفسير قوله تعالى: (الله الذي جعل لكم الأرض قراراً والسماء بناء) قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [غافر:64] فنعم الله كثيرة جداً، وتأمل في كل نعمة من النعم كيف لو أنه لم يوجدها لكم، فلو لم يجعل لكم الأرض قراراً كيف ستعيشون؟ ولو لم يثبت لكم هذه الأرض في أعينكم وفي شعوركم والأرض تدور والشمس تجري، لو أنه جعلكم تشعرون بدوران الأرض هل كان من الممكن أن نعيش فوقها وهي تدور بنا ونحن نشعر بذلك؟! ولكن الله من فضله وكرمه أن جعل ذلك دون شعور منا، بل نظن أن هذه الأرض ثابتة لا تدور ولا تتحرك، فالجبال راسية عليها أن تميد بكم، لئلا تضطرب وتتحرك بكم، وهذا من نعم الله، قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34] نسأل الله من فضله ورحمته إنه لا يملكها إلا هو. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة غافر [61 - 65]

تفسير سورة غافر [61 - 65] لقد دعا الله عز وجل عباده في أكثر من آية إلى التفكر في مخلوقاته وعجيب صنعه؛ لما لذلك الأمر من إقرار بأحدية الربوبية والتصرف لله وحده، والذي يستلزم لأجله إفراده جل في علاه بالألوهية؛ إذ لا يستحق العبادة إلا من كان خالقاً، رازقاً، معطياً مانعاً، وذلك هو الله وحده سبحانه وتعالى.

مقتضيات ربوبية الله تعالى

مقتضيات ربوبية الله تعالى الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة غافر: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ * ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ * اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [غافر:61 - 65]. في هذه الآيات العظيمة من هذه السورة يقرر الله عز وجل أمر العقيدة الإسلامية التي هي دين الله عز وجل ودين الرسل جميعهم عليهم وعلى نبينا الصلاة السلام، فالله عز وجل أرسل الرسل يدعون الخلق إلى توحيد الله سبحانه وتعالى، فيذكرهم بربوبيته، وأنه الذي يخلق ويرزق، وأنه خالق كل شيء، وأنه الفعال لما يريد، وأن الذي يخلق هو الذي يرزق وهو الذي يحكم بين عباده، وهو الذي يحاكم عباده ويحاسبهم فيدخلهم الجنة أو يدخلهم النار سبحانه وتعالى، فهذا الرب سبحانه هو وحده الذي يفعل ذلك، فإذا أمر وجب على العباد أن يطيعوا أمره سبحانه وتعالى، {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]. ومن مقتضيات ربوبيته سبحانه أنه يخلق وحده سبحانه وتعالى، وأنه وحده يحكم بين عباده فيما فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، وهو الذي يشرع لعباده سبحانه، فهو الحكم، وهو الحكيم، وهو الحاكم سبحانه وتعالى يحكم بين عباده، وهذا كله من مقتضيات ربوبيته. وما ذكره الله سبحانه وتعالى في الآية هو من مقتضى ألوهيته سبحانه، بأن ينفذ العباد ما يحكم به الله سبحانه وتعالى، فيعبدونه ويقيمون شرعه سبحانه وتعالى، فهنا بيان أنه الإله الذي يستحق العبادة بأفعال المخلوقين، وبيان أنه رب لأفعال منه سبحانه وتعالى، فهو رب يفعل ما يريد سبحانه، وهو إله يستحق أن يعبده كل الخلق، ومن ألوهيته أن يتوجه إليه بالعبادة سبحانه وتعالى، يقرر الله هذا المعنى العظيم بما يذكره سبحانه وتعالى من آياته ونعمه وفضله على عباده سبحانه وتعالى، ذلكم الله ربكم سبحانه وتعالى، لا إله غيره، ولا رب سواه، فإذا خلق وجب على العباد أن يعبدوه وأن يشكروه، وإذا رزق وجب على العباد أن يحمدوه وأن يشكروه سبحانه وأن يذكروه، فأفعاله منه سبحانه تستوجب على العباد أفعالاً يفعلونها ليوحدوا ربهم سبحانه وحده لا شريك له.

توحيد الألوهية أساس دعوة الرسل

توحيد الألوهية أساس دعوة الرسل لقد كان أهل الجاهلية يقرون بالربوبية، ولذلك لما أرسل الرسول عليه الصلاة والسلام لم يدعهم لأن يقولوا: لا رب إلا الله؛ لأنهم يعرفون ذلك، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9]، فهم ليسوا بحاجة لأن يقولوا: لا رب إلا الله، وإنما أرسل الله رسوله صلى الله عليه وسلم ومن قبله من الرسل ليدعو خلق الله إلى أن يقولوا: لا إله إلا الله، إقراراً على النفس بأني لا أتوجه إلى سواه بالعبادة، فلا أعبد إلا هذا الإله الواحد سبحانه وتعالى، وأن أعتقد أنه لا يوجد في الكون إله حق إلا هو سبحانه، فهذا هو معنى شهادة التوحيد: لا إله إلا الله، إذ معناها: لا معبود بحق إلا الله سبحانه وتعالى، فهناك معبودات أخرى غيره كثيرة، منها ما في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23]، وقوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} [مريم:81]. لكنها كلها باطلة، فكلمة التوحيد (لا إله)، فيها حرف (لا) وهي نافية للجنس، و (إله) اسمها، والأصل في هذه النافية للجنس أن يقدر الخبر كلمة: (حق)، ومن ذهب إلى أن التقدير كلمة (موجود) كقولهم: لا مصلي في المسجد، أي: لا مصلي موجود في المسجد، فهو خطأ؛ لأن كلمة التوحيد لا يقال فيها: لا إله موجود إلا الله؛ لوجود آلهة أخرى كثيرة تعبد، لكنها باطلة، فالتقدير الصحيح أن يقال: لا إله حق إلا الله، فالله هو الإله الحق وحده لا شريك له، وما سواه من أوثان وأصنام ومعبودات اتخذت من دون الله كلها آلهة باطلة عبدت من دون الله بغير حق، ولذلك نقول: أرسل الله الرسول عليه الصلاة السلام ومن قبله الرسل ليعبدوه وحده لا شريك له، وليوحدوه، وليقولوا للخلق: قولوا لا إله إلا الله، قال تعالى في شأن نوح: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]. فيبين ربنا هنا أنه أرسل نوحاً إلى قومه ليعبدوا الله وحده لا شريك له، وقال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:65]، وقال تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:73]. فقوله تعالى: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:73] إثبات ونفي، وهي مثل كملة التوحيد: نفي وإثبات، فقولنا: (لا إله) نفي لصفة الألوهية الحقة عن إي مخلوق، وقولنا: (إلا الله) إثبات لصفة الألوهية الحقة له وحده سبحانه وتعالى، فمعنى (لا إله إلا الله) هو نفسه الذي أرسل به الله سبحانه الرسل أن يقولوا: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:73]. وهذه الكلمة -أي: كلمة التوحيد- يدخل العباد في دين الإسلام ويعبدون الله سبحانه عن طريق اتباع أمر رسول الله صلوات الله وسلامه عليه؛ إذ لابد من كلمة التوحيد الثانية وهي: محمد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فهو رسول من عند الله يبين لنا كيف نعبد الله سبحانه وتعالى.

توحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية

توحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية هذه الآيات تقرر لنا معنى توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيه} [غافر:61]، ولاحظ أنه قبل ذلك أمر العباد أن يدعوا ربهم سبحانه وتعالى فقال: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ} [غافر:60]، أي: ربكم الذي هو الله سبحانه: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيه وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} [غافر:61]. فذكر آية من آياته سبحانه وتعالى الكل يحتاج إليها وهي الليل والنهار، وقال: الذي خلق لكم ذلك هو الله سبحانه، والذي صير لكم النهار مبصراً وجعل الليل مظلماً هو الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ} [غافر:61] أي: خلق لكم الليل من أجل أن تسكنوا فيه، وجعل لكم النهار مبصراً، أي: تبصرون فيه، {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ * ذَلِكُمُ} [غافر:61 - 62]. أي: الخالق العظيم هو الله وهو الرب وحده سبحانه، وهو الإله الذي تعبدونه وحده دون سواه، قال جل في علاه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [غافر:62]. فقوله تعالى: (كُلِّ شَيْءٍ) أي: كل ما يطلق عليه أنه شيء فالله عز وجل خالقه سبحانه، وقوله: (لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) أي: لا إله إلا الله، وهي كلمة عظيمة تعني: إفراد العبادة لله وحده سبحانه؛ ولذلك فإن هذه الكلمة تمد عند علماء التجويد والقراء حتى عند من يقصر منهم المد المنفصل، ويقول: هذا من باب مد التعظيم، أي: التعظيم للخالق سبحانه وتعالى، فكلمة (لا إله إلا الله) لا بد أن تملأ قلبك وصدرك وفمك بأن تقر أنه الإله وحده لا شريك له، والذي لا يعبد سواه، لا إله إلا هو سبحانه وتعالى. قال تعالى: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)، فقوله: (فأنى تؤفكون) أي: إلى أين تذهبون؟ وكيف ترون هذه الآيات العظيمة وهذا الإعجاز الذي ترونه من ربكم سبحانه ثم تنصرفون عن الاعتبار بالآيات وعن توحيده سبحانه؟! قال تعالى: (كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)، أي: كل من عرف الحق فأنكر بعد المعرفة استحق أن يطبع الله على قلبه، وأن يؤفك أي: أن يصرف عن الحق إلى الباطل، فقوله تعالى: (كَذَلِكَ يُؤْفَكُ) أي: يصرف عن توحيد الله بالختم على قلبه، والطبع لكل من يجحد بآيات الله سبحانه، ولذلك فالإنسان الذي يعلم ثم يجحد بعد علمه، أو يتكلم بالباطل بعد أن عرف الحق يستحق أن يطبع الله على قلبه فيكون من الغافلين.

تسخير الأرض للإنسان وبسطها لهم آية على توحيد الإلوهية

تسخير الأرض للإنسان وبسطها لهم آية على توحيد الإلوهية قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [غافر:64]. هنا يذكر الله بألوهيته سبحانه وتعالى وأنه المستحق للعبادة؛ لأنه هو الذي يخلق وهو الذي يجعل لكم ذلك قال تعالى: (جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا) أي: وطأ لكم الأرض فجعلها لكم موطأة تستقرون عليها، وقال تعالى عن إنعامه بالأرض للعباد في سورة المرسلات: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} [المرسلات:25 - 26]. أي: جعل الأرض تقبل العباد، فهم يعيشون فوقها، فإذا ماتوا دفنوا بداخلها فتقبلهم الأرض، ولو شاء الله عز وجل ما جعلها تقبلهم، ولقد أرانا الله آياته في ذلك، وذلك لما قتل رجال في زمن النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من المؤمنين ثم دفنوه فإذا بالأرض تلفظه، فقالوا: لعل أحداً من أعدائنا أخرجه، فبعثوا غلمانهم يحرسونه، فإذا بهم يدفنونه بالنهار، وإذا بالأرض تلفظه بالليل، فقالوا: لعل غلماننا قصروا، أو هم الذين عملوا هذا، فحرسوه بأنفسهم، فوجدوا الأرض تلفظه ثلاث مرات، يدفنونه في قبر ويعمقون له الأرض فيصبحون وهو على ظهر الأرض لم تقبله، فلما تعجب الصحابة من ذلك قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الأرض لا تقبل شبراً منه)، ومع أن الكفار كلهم يدفنون في الأرض فتأخذهم وتقبلهم، إلا أن الله أراد أن يجعل تلك القصة عظة وعبرة للناس؛ لئلا يقتل بعضهم بعضاً. فهذه الأرض نعمة من الله، تجمعكم فوقها وتستقرون عليها، ومن ذهب إلى القمر فإنه يرى نفسه تطير فوق سطح القمر؛ فلا توجد أرضية هناك، فالإنسان هناك يظل طائراً ولا يستطيع المشي، إلا إن ثقل بشيء يعينه على النزول على سطح القمر، أما الأرض فالإنسان ليس محتاجاً لهذا الشيء؛ إذ قوة الجاذبية تجذبه ليبقى على الأرض، وهذه آية من آيات الله سبحانه وتعالى لا يفكر الإنسان فيها، ولهذا يقول الله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا) أي: تستقرون عليها، فالأرض تدور، وهذا الدوران يجعل اليوم أربعاً وعشرين ساعة ومنه يأتي الليل والنهار، ولو شاء الله لثبتها، ولو شاء لشعرتم بدوران هذه الأرض، وانظر عندما يركب إنسان أرجوحة تلف به فإنه يشعر بدوران في رأسه، والأرض تدور بك أسرع من ذلك بكثير، ومع ذلك فأنت لا تشعر بذلك، وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى، وأيضاً لو أن إنساناً أتى بحجر ولفه على خرقة، ثم صار يلوح بها في الهواء، لطار الحجر مسافة بعيدة، وهنا الأرض تدور دوراناً شديداً ثم لا نرى أحداً يطير من مكانه، وكل هذا بفضل الله وكرمه؛ ولذلك يقول الله تعالى مذكراً بنعمته هذه: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا). أي: جعلكم تستقرون على هذه الأرض وهي تدور بكم فلا تطيرون فوقها. وقوله تعالى: (والسماء بناء)، أي: جعل السماء بناءً عظيماً محكماً، وهي سبع سماوات بعضها فوق بعض، ومع ذلك لم نر من تلك السبع إلا السماء الدنيا التي زينها ربنا بمصابيح، ونرى ما تحتها من كواكب وشموس وأقمار، ونسمع عن المجرات الكثيرة التي تتجاوز مائتي مليار مجرة موجودة، وكل مجرة فيها مليارات المليارات من الكواكب، وكل هذا فقط تحت السماء الدنيا، فكيف بالسماء الثانية والثالثة والرابعة؟! وما بين السماء والسماء؟! فالله جعل السماء بناء محكماً، وإذا تدبرنا في السماء الدنيا وأن الشمس كل يوم تطلع من مشرقها وتغرب في مغربها، وأن الشمس تجري في هذا الكون، بل المجموعة الشمسية كلها تدور حول الشمس في مسير جعله الله عز وجل لها لا تتخلف عنه، فلا يوجد كوكب يقرب عن مكانه أو يبعد عنه، بل كل شيء ثابت في المسار الذي جعله الله عز وجل له، وهذا هو إحكام الله سبحانه وتعالى، ولقد قال جل في علاه: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات:47]، أي: بناها بقوته سبحانه وتعالى. وقوله تعالى: (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ)، أي: أن الله يوسع هذا الكون، وهذا هو الذي اكتشفه الخبراء حديثاً، ومع ذلك فكل شيء في مداره، وتتحرك النجوم من مكان إلى مكان بنظام دقيق، وهذا كله يدبره الخالق سبحانه وتعالى، والذي بناها فأحكم بناءها وجعل فيها طرقاً ومسارات هو الله الخالق العظيم سبحانه وتعالى، ولذلك يحث الله عباده أن يتفكروا فيقول: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية:17 - 20].

إتقان خلق الإنسان وصورته دليل على ربوبية الله وألوهيته

إتقان خلق الإنسان وصورته دليل على ربوبية الله وألوهيته يقول الله سبحانه: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر:64] أي: أعطاكم صوركم، وأعطاكم الهيئة والمنظر الذي تتميزون به عن غيركم، وكل هذا بأحسن منظر، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} [الانفطار:7]. أي: هو الذي خلقك ودبرك سبحانه، فخلق فسوى، وقدر فهدى سبحانه وتعالى، جعلك مستوياً، تقوم بقامتك فلا تمشي على يديك ورجليك، أو تمشي على بطنك، أو تزحف على استك، ولكن جعلك بشراً سوياً فعدلك سبحانه وتعالى، وجعل لك يداً عن يمين وشمال، ورجلاً عن يمين وشمال، وعيناً يمنى ويسرى، فجعلك جميلاً وصورك فأحسن صورتك سبحانه وتعالى. قال تعالى: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [غافر:64] أعطاكم من فضله تأكلون وتشربون وتقتاتون وتتفكهون، وكل هذه النعم بمن الله وكرمه. قال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} [غافر:64] سبحانه وتعالى، فالذي فعل ذلك هو الله المستحق للعبادة، وهو ربكم الذي يفعل ذلك ولا أحد سواه يقدر على شيء من ذلك، {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ} [غافر:64]، أي: تعالى وتمجد وكثرت بركته وخيره سبحانه وتعالى {فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [غافر:64]، وفي هذا توكيد على الألوهية والربوبية، والمعنى: تبارك الله وتمجد الذي يستحق العبادة وحده، والذي هو رب العالمين، و (العالمين) يشمل كل عالم: عالم الإنس، وعالم الجن، وعالم الملائكة، وعالم الحيوان، وعالم الحشرات، وعالم الأرض، وعالم السماء، كل هذه العوالم العلوية والسفلية الله ربها ورب العالمين رب كل شيء سبحانه وتعالى، فتبارك وتعالى وتمجد الله رب العالمين.

دعاء الحي الذي لا يموت أولى من دعاء غيره

دعاء الحي الذي لا يموت أولى من دعاء غيره قال تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [غافر:65] هذه صفة من صفاته سبحانه وتعالى وحده، فهو الحي الحياة الأزلية الأبدية، أول بلا بداية، وآخر بلا نهاية، ظاهر فليس فوقه شيء، وباطن فليس دونه شيء، سبحانه وتعالى، قال تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3]. فقوله: (هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) أي: لا إله إلا هو، هو الحي وما سواه ميت، كما قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]. قال تعالى: (فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)، فإذا كان هو الحي وحده لا شريك له، الباقي وغيره فان، فادعوه وحده، واطلبوا منه سبحانه وتعالى بإخلاص، وأخلصوا له العبادة، ولا تشركوا به شيئاً، فلا تعبدوه وتعبدوا غيره معه، وإنما اعبدوه وحده لا شريك له، ووجهوا العبادة إليه مخلصين له الدين، فمن معاني الدين: العبادة، ومن معانيه: الجزاء، والمقصود هنا: أخلصوا له دينكم أي: عبادتكم، قال تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) فكأنه يقول: وحدوه واحمدوه، فإن لم تحمدوه فقد حمد نفسه سبحانه فقال في كتابه: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ). وقد كرر ذلك في مواضع من كتابه؛ ولذلك استحب العلماء أن يختم ذكر الله بالحمد لله، وأن يختم الدعاء بالحمد لله، كما قال هنا: ادعوه ثم قال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ). فالحمد لله أولاً وأخراً وظاهراً وباطناً، ونسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة غافر [66 - 67]

تفسير سورة غافر [66 - 67] نهى الله سبحانه وتعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يتخذ أنداداً من دون الله، ونهاه أن يعبد الذين يدعون من دون الله، فقد بعث صلى الله عليه وسلم ليدعو الخلق إلى توحيد الله سبحانه في العبادة وعدم الإشراك به، فلابد للمرء أن يستسلم لله وينقاد له ويخضع، فالإسلام هو دين الأنبياء جميعاً، فالذي خلق الإنسان أطواراً ثم أخرجه طفلاً هو الذي يستحق العبادة وحده لا شريك له.

تفسير قوله تعالى: (قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله)

تفسير قوله تعالى: (قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة غافر: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [غافر:66 - 68]. في هذه الآيات يأمر ربنا سبحانه وتعالى نبيه صلوات الله وسلامه عليه بعبادته وحده لا شريك له، وأنه بعث عليه الصلاة والسلام ليدعو الخلق إلى ذلك، ونهي هو عليه الصلاة والسلام أن يتخذ أنداداً من دون الله وغيره بالتبع، ونهي أن يعبد الذين يعبدون من دون الله، وقد كان المشركون يتمنون من النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يسفه آلهتهم وأحلامهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يشعر بذلة هذه الآلهة وأنها لا تستحق أن تعبد، وأنه لو فعل ذلك كانوا على استعداد أن يدخلوا معه في دينه صلوات الله وسلامه عليه، بشرط ألا يسفه أحلامهم ولا يتكلم على آلهتهم، ولكن أبى له ربه سبحانه إلا أن يصدع بالحق، وأن يأمر بالمعروف وأن ينهى عن المنكر صلوات الله وسلامه عليه، فقال له: (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ). قوله: (إِنِّي نُهِيتُ) أي: نهاه ربه سبحانه، وما تقرب إلى آلهتهم قط لا قبل البعثة ولا بعدها صلوات الله وسلامه عليه، فنهاه ربه عن ذلك، وهو الذي يدعو الناس إلى التوحيد، والكفار يشنعون عليه صلوات الله وسلامه عليه، ويقولون: هذا الذي يدعونا إلى التوحيد يقول: الله والرحمن ويشرك، قالوا ذلك وهم يعلمون أنهم يكذبون ويهرفون بما لا يعرفون، وربنا سبحانه يكذبهم ويقول: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110] سواء دعوته باسمه العظيم (الله) أو باسمه العظيم (الرحمن)، أو بأي اسم من أسمائه الحسنى سبحانه فكلها أسماؤه، والمسمى واحد هو الله سبحانه وتعالى. فقال لهؤلاء المشركين الذين يكذبون ويقولون: يدعونا للتوحيد وهو يشرك: (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي) أي: جاءه هذا القرآن العظيم وجاءه الوحي، وجاءه ما يصدق به صلوات الله وسلامه عليه، ويجعلهم يصدقون ويؤمنون، جاءه هذا القرآن العظيم الذي أعجز بلغاءهم وفصحاءهم فلم يقدروا أن يأتوا بمثله، ولا بعشر سور مثله مفتريات، ولا بسورة من مثله، فعجزوا عن ذلك. فقوله: (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ) أي: نهاني ربي سبحانه وتعالى، وقوله: (أَنْ أَعْبُدَ) أي: أن أتوجه ولو بشيء قليل من العبادة إلى هذه الأصنام التي تدعونها من دون الله، (لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي) أي: لما جاءني القرآن وجاءتني الآيات البينة من ربي، والبينة أي: الظاهرة الجلية الواضحة التي تبين عن نفسها، وتبين لكم الحق الذي أنا عليه، وتبين لكم كيف أن هذا القرآن معجز وعظيم. قال تعالى: (وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ)، فمحمد صلى الله عليه وسلم جاء بدين الإسلام وأمر أن يسلم، وأمر الخلق أن يسلموا لله سبحانه وتعالى، فأنت مسلم أي: مسلم نفسك لله سبحانه وتعالى، وموجه وجهك إليه، ومسلم قلبك له، يفعل بك ما يختاره لك وما يريده وما يشاء سبحانه، قال تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]، فالذي خلق هو وحده الذي له الأمر، فلله سبحانه الخلق، ولا أحد غير الله سبحانه يخلق، قال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل:17]. فإذا كان هو الذي يخلق فله الأمر وحده سبحانه، أي: له التشريع، وله أن يأمر بما يشاء، قال تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] وأمر الله سبحانه واجب التنفيذ، فهو كما خلقك من دون أن يستشيرك كذلك يأمرك من دون أن يأخذ رأيك، فله الخلق سبحانه وله الأمر يخلق ما يشاء ويختار، ويفعل ما يريد سبحانه ويحكم في عباده بما يختاره سبحانه. فقوله تعالى: (وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ) أي: أن أسلم أمري ونفسي لله سبحانه يحكم فيَّ بما يشاء سبحانه وتعالى، إذاً: دين الإسلام دين جميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، أسلموا لله أي: وجهوا وجوههم لله، وسلموا قلوبهم لله، وخضعوا بأبدانهم لله سبحانه وتعالى فنفذوا ما أراد الله، إذاً: الإسلام بمعنى: الإذعان، والخضوع، والاستسلام لله سبحانه وتعالى، فأنت تسلم نفسك له كما يسلم الأسير نفسه لمن أسره، تسلم نفسك لخالقك، لمالكك، للذي يدبر أمرك، تسلم أمرك إليه سبحانه وتعالى حتى يدلك على طريق الجنة فتكون من أهلها. وقوله تعالى: (لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) فهو رب العالم كله، العالم العلوي والعالم السفلي، والرب: هو الخالق المدبر سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة)

تفسير قوله تعالى: (هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة) قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُ} [غافر:67] فأنتم تسلمون أنفسكم لله، وتستسلمون له؛ لأنه مستحق لذلك، فأنتم كنتم لا شيء، وهو الذي خلقكم من تراب، والتراب لم يكن شيئاً فأوجده الله سبحانه، وخلقكم من نطفة من ماء مهين، كل هذا خلق الله سبحانه وتعالى، فأصل الإنسان كان عدماً، وأوجد الله عز وجل الماء، وأوجد التراب سبحانه وتعالى، وخلط الماء بالتراب فأوجد الطين، ثم ترك الطين فترة فصار صلصالاً، كما قال تعالى: {مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر:26] أي: من هذا الطين الذي يكاد أن ينتن، تقول: أسن الماء بمعنى: أنتن الماء، فخلق الإنسان كان من طين تركه الله عز وجل فصار صلصالاً متغيراً، تغير ثم يبس فكان كالفخار، ثم شكله الله عز وجل كما يشاء فكان آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ثم نفخ فيه من روحه، أي: مما خلق من الأرواح، فبثها فيه سبحانه وتعالى فكان هذا الخلق، ثم جعل الإنسان بعد ذلك يتناسل كما سمعنا في هذه الآية العجيبة، ومثلها ذكر الله عز وجل في سورة الحج، ومثلها ذكر في سورة المؤمنون، فتكرر وصف خلق الإنسان الذي أعجز الخلق جميعهم، فالله سبحانه وتعالى خلق {الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} [الإنسان:2]، وخلق {الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون:12]، وهنا يقول سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [غافر:67] فبدء خلق آدم كان من تراب. قال تعالى: (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) وكان التناسل بعد ذلك من هذه النطفة، وعناصر جسد الإنسان هي عناصر موجودة في التراب، وقد اكتشف العلماء منها حوالي اثنين وعشرين عنصراً من العناصر كلها موجودة في تراب الأرض، ومن الممكن أن يكتشفوا بعد ذلك عناصر أخرى، قالوا: تراب الأرض فيه مائة عنصر، وقد اكتشفوا في الإنسان من هذه العناصر اثنين وعشرين عنصراً، ولذلك إذا مات الإنسان تحول إلى هذا التراب واختلط به؛ لأنه جاء منه أصلاً، فقد جعل الله عز وجل الإنسان من تراب، وجعل ماءه يجري على هذا التراب، وجعل رزقه يخرج من هذا التراب، فأنت من هذه الأرض وإليها ترجع مرة ثانية. وكلمة (نطفة) المقصود بها: المني، ومعنى النطفة لغةً: الماء اليسير الذي ينطف في الإناء، فخلق الإنسان من هذه النطفة، وهذه النطفة عجيبة جداً، إذ هي ماء يحتوي على ملايين الحيوانات المنوية، والإنسان يخلق من حيوان واحد منها فقط، وحجمه صغير ضئيل جداً جداً، لم يكتشف العلماء هذا الحيوان الموجود في هذه النطفة إلا منذ سبعين سنة مضت، وكانوا قبل ذلك يظنون أن الإنسان كله يخلق في بطن أمه إنساناً صغيراً مثل النملة ويكبر على هذا الشيء، واعتقد به علماء الطب حتى القرن السابع عشر للميلاد، حتى اخترع الميكروسكوب في هذا الزمان، وكان لا يزال هذا الاعتقاد سائداً إلى قبل سبعين سنة، ثم اكتشفوا أن الإنسان يتكون في بطن أمه أطواراً، وقد ذكر الله عز وجل ذلك لنا منذ ألف وأربعمائة سنة. يذكر الشيخ عبد المجيد الزنداني الذي أكرمه الله بهذه الآية وأمثالها في القرآن قصة له مع رجل أمريكي في هيئة الإعجاز العلمي، وهو عالم من علماء الطب اسمه البروفسور مرشال جونسون، قال الشيخ عبد المجيد للبروفسور مرشال: قد ذكر في القرآن أن الإنسان خلق أطواراً، طوراً فطوراً، قال: فلما سمع هذا الكلام كان قاعداً فوقف مندهشاً! قال: قلنا له: كان ذلك في القرن السابع الميلادي، فالقرآن يذكر لنا أن الإنسان كان أطواراً، فقال البروفسور: هذا غير ممكن، وتعجب لهذا الأمر، فقال له الشيخ عبد المجيد: لماذا تحكم عليه بهذا؟ هذا القرآن يقول: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ} [الزمر:6]، وقال: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح:13 - 14]، قال: فقعد البروفسور مرشال جونسون على الكرسي وهو يقول بعد أن تأمل الأمر: ليس هناك إلا ثلاثة احتمالات: الأول: أن يكون عند محمد صلى الله عليه وسلم ميكروسكوبات ضخمة جداً يعرف بها ذلك، وهذا مستحيل جداً. والاحتمال الثاني: أن يكون هذا الشيء من قبيل الصدفة. والاحتمال الثالث: أن يكون رسولاً من عند الله سبحانه وتعالى. فقال له الشيخ عبد المجيد: أما قولك: عنده ميكروسكوبات ضخمة، فأين هذا وأنتم لم تصنعوها إلا في القرن السابع عشر؟ قال: هذا صحيح. قال: أما الأمر الثاني: وهو قولك إن هذا صدفة، فهل احتمالات الصدفة الواردة عندكم في الإحصاء تعطي هذا الأمر ومن الممكن أن يكون؟ وإذا جاء مرة في القرآن فهل تتكرر الصدفة مرة أخرى؟ فقال الرجل: هذا صحيح، صعب أن نقول: صدفة، فقال الشيخ عبد المجيد: قلنا: ما رأيك؟ هل هذا الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم بوحي من السماء؟ فقال الرجل بعدما سكت: لا تفسير إلا بوحي من فوق، أي: نزل عليه من السماء صلوات الله وسلامه عليه. هذا الأمر العجيب الذي ذكره القرآن يذكر فيه مراحل الخلق، وليس كل النطفة هي التي تلقح البويضة، وإنما حيوان واحد من ملايين الحيوانات الموجودة داخل هذا الماء القليل هو الذي يخترق البويضة ويلقحها، فهذا خلق الإنسان.

معنى العلقة

معنى العلقة قال تعالى: (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ)، كانوا في الماضي يفسرون كلمة (العلقة) بأنها قطعة من الدم الجامد، وهذا من المعاني اللغوية، والله عز وجل يقول: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق:2]، وقال هنا سبحانه: (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) وقد تكررت هذه الكلمة، والبعض يفسرها بأنها قطعة من دم عبيط، ومعنى عبيط: أحمر طري، أي: دم جديد، والبعض يفسرها بقوله: العلق: دودة صغيرة تسمى دودة العلق، وشكلها صغير جداً يضعونها على عرق دم الإنسان في الزمان القديم، يستخدمونها لتخفيض الضغط في الإنسان، حيث إنها تكبر وتكبر وتمص دم الإنسان فيخف عنه الصداع، ويخف عنه ارتفاع ضغط الدم، فقالوا: العلقة: كهيئة الدودة، وهذا لعله يكون التفسير الصحيح الذي فيه: أن الإنسان يكون في مرحلة ما بعد النطفة مثل الدودة الصغيرة لاصقة في جدار الرحم.

معنى المضغة

معنى المضغة ويذكر الله في سورتي المؤمنون والحج أن المضغة مرحلة أخرى من مراحل خلق الإنسان، والتعبير عنها بالمضغة تعبير عجيب جداً، والعلماء لما نظروا إلى هذه المرحلة وجدوها تشبه في شكلها اللبانة حين يمضغها الشخص، فتحدث تلك النتوءات على اللبانة، وقد تعجب علماء الطب من ذلك، كما يذكر ذلك الشيخ الزنداني: أنهم احتاروا في تسمية هذه المرحلة، وكانوا يتعجبون لهذا الذي في كتاب الله العظيم، وكيف عرف محمد صلى الله عليه وسلم هذا العلم العظيم؟! فلا يكون علم محمد صلى الله عليه وسلم إلا من لدنه سبحانه وتعالى، وهذا العلم بوحي من السماء عرفه النبي صلى الله عليه وسلم بما في القرآن، فهو لا ينطق عن الهوى وإنما ينطق بوحي من الله سبحانه وتعالى. إن هذه الآية العجيبة جعلت الكثيرين من أطباء الغرب يدخلون في دين الله عز وجل عندما يقرءون مثل ذلك، منهم الدكتور موريس العالم والطبيب الفرنسي الذي درس القرآن ودرس الإنجيل ودرس التوراة، وبعد ذلك في النهاية شكل مؤتمراً هنالك، وقال: إن القرآن هو الكتاب المعجز لبيان كذا وكذا منها هذه الآية العظيمة.

الطور الأخير في خلق الإنسان إخراجه طفلا

الطور الأخير في خلق الإنسان إخراجه طفلاً قال الله تعالى: (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا). إذاً: المرحلة الأخيرة: أن يخرج الإنسان طفلاً، وقد يتوفى قبل ذلك. وقد جاء في الحديث في سنن أبي داود وعند الترمذي وأحمد من حديث أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض). آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام خلقه الله عز وجل من تراب هذه الأرض التي نحن عليها، (من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك)، فجاءوا مثل تراب الأرض، فيها الأبيض والأحمر والأسود، فقد جاء الإنسان على هذه الألوان، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (والسهل والحزن، والخبيث والطيب وبين ذلك)، مثل هيئة الأرض ففيها الأرض السهلة، وفيها الأرض الصعبة الوعرة، وفيها الأرض الخبيثة، وفيها الأرض التي تنبت، أي: أن الإنسان جاء على ما خلق الله عز وجل من تراب هذه الأرض. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة غافر الآية [67]

تفسير سورة غافر الآية [67] لقد أخبر القرآن عن مراحل وأطوار خلق الإنسان في زمن خال من جميع العلوم والأجهزة والتقنيات، ووصفها في عدد من سوره، وفصلها تفصيلاً دقيقاً، وكذلك وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمن لا يعلم عنها الناس شيئاً، ثم جاء العلم الحديث ليثبت مصداق ذلك كله، وليكون شاهداً على أن القرآن نزل من عند الله، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله.

تفسير قوله تعالى: (هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة)

تفسير قوله تعالى: (هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة غافر: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [غافر:67]. لقد أخبر الله عز وجل في كتابه العزيز عن مراحل خلق الإنسان، وقد ذكرها هنا في سورة غافر، وذكرها في سورة الحج، وفي سورة المؤمنون.

بيان أن ابتداء خلق الإنسان من تراب

بيان أن ابتداء خلق الإنسان من تراب قال الله سبحانه: ((هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ)) وقال في سورة الحج: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} [الحج:5]. فذكر الله عز وجل في هاتين الآيتين مراحل وأطوار خلق الإنسان، فقد ابتدأ خلقه من تراب، وكل إنسان مخلوق من هذا التراب، فأصل الخلق هو آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وقد خلقه الله عز وجل من تراب، كما جاء في حديث النبي صلوات الله وسلامه عليه: (إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض)، أي: جاءوا في ألوانهم وفي أصنافهم وفي أنواعهم وفي أخلاقهم وفي تقربهم إلى الله سبحانه وتعالى، وفي بعدهم عنه، وفي خيرهم وفي خبثهم كهذه الأرض، قال صلى الله عليه وسلم: (منهم الأحمر والأبيض والأسود)، أي: كما أن الأرض فيها هذه الألوان، قال: (منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك، والسهل والحزن والخبيث والطيب وبين ذلك)،فكما أن الأرض فيها السهول والجبال الوعرة والخبيث والطيب وبين ذلك، فكذلك أخلاق الإنسان جاءت على طبيعة الأرض التي خلقوا منها.

اكتشاف العلم الحديث أن بداية خلق الإنسان من تراب

اكتشاف العلم الحديث أن بداية خلق الإنسان من تراب فالإنسان خلق من تراب، ومن تحليل جسد الإنسان وجدوا أن فيه اثنين وعشرين أو ثلاثة وعشرين عنصراً، وكلها موجودة في الأرض، والأرض فيها أكثر من مائة عنصر اكتشفها الإنسان، ووجدوا أن أكثر خلق الإنسان من هذا الماء، وقالوا: إن نسبة وجود الماء في جسد الإنسان من خمسة وستين إلى سبعين في المائة. وقد ذكر الله سبحانه وتعالى أنه خلق كل شيء من ماء، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30]، وقد كان الناس في الماضي لا يتصورون أن يكون هذا البدن واللحم والعظم والعظام من الماء؛ لأن الماء شيء والجسد شيء آخر، ولكن التحليل الحديث أثبت وجود هذا الماء في جسد الإنسان، وأن جسد الإنسان تركب منه، وأيضاً الحيوان فيه هذه النسبة من الماء بنسبة كبيرة. والماء عبارة عن اتحاد ذرة الأكسجين مع ذرتين من الهيدروجين. إذاً: فثلاثة أرباع جسم الإنسان من الماء، قالوا: وباقي جسد الإنسان فيه عناصر أخرى، منها: الكربون والهيدروجين والأكسجين، والمركبات العضوية الموجودة في جسم الإنسان وهي: السكريات، والبروتينات، والدهون، والفيتمينات، وغير ذلك من المواد الجافة التي تكون جسم الإنسان من المعادن والكلور والكبريت والفسفور والمغنسيوم والبوتاسيوم والصوديوم، ومواد أخرى مثل: الحديد والنحاس واليود والكوبل والتوتيا والفلور والألمنيوم والكدينم والكرم، وأشياء من المعادن الموجودة بداخل هذا الإنسان، فإذا حلل جسم الإنسان وجدت فيه هذه المعادن بنسب بسيطة جداً، والإنسان عندما يموت ويدفن ويتحلل في القبر فإن نسبة الماء الخمسة والستين في المائة ترجع إلى أصلها، وتتحلل بقية المعادن.

بيان أن قيمة الإنسان بسبب تشريف الله له

بيان أن قيمة الإنسان بسبب تشريف الله له يقول العلماء: إن المعادن في الإنسان تملأ علبة طباشير أو علبة كبريت فقط، ولا تكون إلا مسماراً صغير وحزمة من الملح ومواداً أخرى لا قيمة لها، فعندما يموت الإنسان ويدفن في الأرض لا يخرج منه إلا هذه الكمية البسيطة من هذه الأشياء التي لا يمكن الاستفادة منها، وليس لها أية قيمة. فالإنسان خلق من تراب، والتراب أكثر قيمة منه، وهو جاء من هذه النطفة التي لا قيمة لها، والتي يستقذرها الإنسان فيغتسل منها شرعاً، ويغسلها عن نفسه ليميط عن نفسه الأذى عرفاً. وإنما قيمة الإنسان في تكريم الله سبحانه له، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [الإسراء:70]، وهذا التكريم تشريف من الله سبحانه لهذا الإنسان، ومنة منه عليه، وليس لأن الإنسان يستحق ذلك بأصل خلقته، فهناك من هو أشد خلقاً منه، قال تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} [النازعات:27 - 29]، يقول تعالى في هذه الآيات: أأنتم أشد خلقاً أم السماء؟ أأنتم أشد خلقاً أم هذه الأرض التي تسيرون عليها؟ فالأرض أشد خلقاً منكم، والجبال أشد خلقاً منكم، والسماء أشد خلقاً منكم، إذاً: فتشريف ربنا سبحانه وتكريمه لهذا الإنسان منه منَّة، فقيمة الإنسان في تكريم ربه سبحانه وتعالى له.

أطوار خلق الإنسان كما في السنة

أطوار خلق الإنسان كما في السنة ومما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في خلق الإنسان ما جاء في الصحيحين البخاري ومسلم، ففي رواية البخاري من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات، فيقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع فيسبق عليه كتابه فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن الرجل ليعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)، هذا الحديث في رواية الإمام البخاري كما قلنا، وفيه: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً)، فكأن جمع خلق الإنسان في بطن الأم يكون خلال أربعين يوماً يتكون فيها هذا الإنسان. (ثم يكون علقة مثل ذلك)، أي: مثلما جمع الخلق في بطن الأم في خلال الأربعين فإن تكون النطفة والعلقة والمضغة وتكون الإنسان يكون في خلال هذه الفترة. وفي لفظ لـ مسلم أوضح قليلاً من لفظ البخاري يقول: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً ثم يكون في ذلك)، أي: في خلال الأربعين (علقة مثل ذلك)، يعني: مثلما كان نطفة فإنه يتكون ويتشكل ويصبح علقة مثل ذلك، (ثم يكون في ذلك)، أي: في نفس الأربعين (مضغة مثل ذلك). وأكثر من فسر هذا الحديث فسره بأنه يكون نطفة أربعين يوماً، ثم يكون علقة أربعين أخرى، ثم يكون مضغة أربعين أخرى، فيكون المجموع مائة وعشرين يوماً، وهذا خطأ، فإن لفظ الحديث وإن كان محتملاً ذلك في البخاري إلا أنه غير محتمل لذلك في مسلم، فهو يقول في مسلم: يجمع خلقه أربعين ويكون في ذلك مثل ذلك، أي: في خلال هذه الأربعين يكون مثل ذلك مضغة، أي: أنه يكون نطفة وفي خلال هذه الأربعين يتشكل ويتحول إلى علقة، ثم يتشكل ويتحول إلى مضغة في نفس هذه الأربعين، إلى أن يتشكل إنساناً، ولكن نفخ الروح لا يكون إلا بعد الأربعين الثالثة، وإن كان فيه قبل ذلك حياة من نوع آخر، وهي كما يقولون: إما حياة نباتية أو حياة حيوانية. والحياة النباتية: هي الحركة والنمو، أي: مثلما يتحرك النبات، فإنه يكون بذرة، ثم تنشق هذه البذرة ويخرج منها الساق، ثم تكبر حتى تصير شجرة. وكذلك الإنسان ينمو داخل بطن أمه كهذه الحياة النباتية إلى أن يمر عليه الأربعة الأشهر فينفخ فيه الروح بعد ذلك، فتتحول حياته إلى نوع آخر من الحياة وهي الحياة الحيوانية التي فيها الروح، كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وأجمع أهل العلم على هذا المعنى في نفخ الروح. وجاء في رواية أخرى في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن مسعود قال: (الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من وعظ بغيره)، فسمع رجل ذلك من ابن مسعود فذهب إلى حذيفة بن أسيد وقال له: سمعت ابن مسعود يقول: (الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من وعظ بغيره، كيف يشقى وهو لم يعمل شيئاً؟! فكأنه لم يفهم المعنى من ذلك، فقال له حذيفة بن أسيد رضي الله عنه: أتعجب من ذلك! فإني سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها). وهذا الحديث عجيب جداً! فقد حدد اثنين وأربعين يوماً على وجود النطفة في بطن الأم يكون خلالها قد تكونت فيها هذه الأشياء، وأهل الطب يقولون ذلك، ويقولون: في الأسبوع السادس يكون قد تكونت هذه الأشياء، والأسبوع السادس هو بعد اثنين وأربعين يوماً، وإن كانوا عندما يحددونها بالأيام يقولون: بين ثمانية وثلاثين يوماً وأربعين يوماً يتكون هذا الشيء، والبعض منهم يقول: حديث النبي صلى الله عليه وسلم يذكر اثنين وأربعين يوماً، والأطباء لا يعرفون اليوم الأول أصلاً متى كان؟ ولذلك يخطئون في الاحتمال بين الثمانية والثلاثين وبين الاثنين والأربعين، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اثنان وأربعون. فهذا الحديث عجيب، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا الشيء الذي كان العلماء لا يعرفونه إلى وقت قريب جداً، فلم يكونوا يعرفون متى تتخلق النطفة وتتحول إلى علقة وإلى مضغة، وإلى هذه الأطوار، حتى اكتشفوا الميكروسكوبات وصنعوا الأفلام التلفزيونية التي تمكنوا من خلالها من رؤية تحول الجنين من شيء إلى شيء آخر داخل بطن الأم، وأما قبل ذلك فلم يكونوا يعرفون متى تتحول النطفة إلى علقة وإلى مضغة، ومتى تخلق فيها هذه الأشياء. فالغرض هنا: بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الاثنين والأربعين يوماً التي يتكون فيها الإنسان، وجاء العلماء ليقولوا: بعد الاثنين والأربعين يوماً يتحدد جنس هذا الإنسان، ذكراً أم أنثى، وقد قال الحديث: إنه بعد الاثنين والأربعين يأتي الملك ويقول: يا رب أذكر أم أنثى؟ كما قال العلماء: إنه بعد هذا الوقت يحدد جنس الجنين ذكراً أو أنثى، حسبما يأمر الله عز وجل به، فيحول الغدد الموجودة في الأعضاء التناسلية إلى الذكورة أو إلى الأنوثة. قال العلماء: ولا يمكن تمييز الجنين أنه ذكر أو أنثى قبل الاثنين والأربعين يوماً أو قبل الأسبوع السادس، هكذا يذكر علماء الطب، وهذا هو الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه.

الإيمان بالقضاء والقدر

الإيمان بالقضاء والقدر قال النبي صلى الله عليه وسلم في نهاية الحديث: (إن الملك يقول: يا رب أجله؟ فيقول الرب كما شاء ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب رزقه؟ فيقضي الرب كما شاء ويكتب الملك، ثم يخرج الملك والصحيفة في يده فلا يزيد عما أمر به ولا ينقص). فما ذكره ابن مسعود من أن الشقي من شقي في بطن أمه أخذه من سؤال الملك ربه سبحانه وتعالى أشقي أو سعيد؟ فإذا قال الله: شقي فقد علم الله سبحانه وتعالى ما يكون عليه هذا الإنسان، فيكتب الملك ما أعلمه الله سبحانه وتعالى من علم الغيب وعلم المستقبل، فقد علم الله أنه سيكون شقياً، ويكتب الملك قدر الله في الأمرين، وهذا هو الذي استغربه الرجل وقاله ابن مسعود: الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد كذلك، أي: من كتب الملك له ذلك بحسب علم الله سبحانه وتعالى، وهذا هو ما نؤمن به، وهو أن الله عز وجل يقدر كل شيء، ونحن مأمورون أن نؤمن بالقضاء والقدر وألا نعارض ذلك، ولا نقول: كيف ذلك؟ فالقدر غيب وسر من أسرار الله عز وجل في خلقه، ولم نؤمر أن نتناقش فيه، وإنما أمرنا أن نؤمن به كما نؤمن بالجنة ولا ندري في أي مكان في السماوات هي؟ أهي فوق السماوات السبع أم دونها؟ ولكننا نؤمن بذلك ونوقن بأنها عالية جداً، وكما أمرنا أن نؤمن بالنار، ولا ندري أين توجد، وكما أمرنا أن نؤمن بالملائكة، ولا نعرف أشكالهم ولم نرهم، وإنما أمرنا أن نؤمن بالغيب. ومن الغيب: القضاء والقدر، وعندما يحاسبنا الله عز وجل يوم القيامة لن يقول لنا: لقد علمت أنك تكون شقياً وكتبت أن تدخل النار، ولو احتج أحد على شقائه بكتابة الله أنه شقي لن يقول له الله: وأنا كتبت عليك أن تدخل النار، وليس هناك آية قالت لنا ذلك، وإنما القرآن يقول: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32]، وأيضاً ادخلوا النار بما كنتم تعملون، وحين يقال للإنسان: ادخل النار، فيقول: لماذا يا رب؟ أنا لا أقبل شاهداً علي إلا من نفسي، فيختم على فيه وتشهد عليه أعضاؤه وتقول: عملت كذا وكذا وكذا، فيستحق العذاب والعياذ بالله! فالإنسان يوم القيامة يسأل عن عمله. إذاً: علينا أن نؤمن بالقضاء والقدر ولا نناقش فيهما، فإن الله علم كل شيء وقدر كل شيء، وله الحكمة والعلم والقدرة سبحانه وتعالى، وعلى الإنسان أن يعمل، قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} [التوبة:105]، والعمل الذي تعمله يكتبه الله عز وجل عليك ويحاسبك عليه، ولم يقل لأحد أنه في الجنة أو في النار، وإنما قد علم الله أن ناساً في الجنة وناساً في النار، وقدر الله عز وجل أن هؤلاء في الجنة ولا يبالي وهؤلاء في النار ولا يبالي، وأما نحن فأمرنا بأن نؤمن ونصدق ونعمل، قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105]، فنعمل ولا نتشكك ولا نرتاب، ونؤمن بما قاله الله عز وجل في كتابه، فإن من الإيمان: أن نؤمن بالقضاء والقدر، وأن الله خلق الجنة وخلق لها أهلاً، وخلق النار وخلق لها أهلاً. والأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم في خلق الإنسان أحاديث عجيبة جداً، ولعلها كلها كانت تستغرب في الأزمان الماضية، ولم تعرف حقيقتها إلا بعد تقدم الطب وإثباته أن هذا الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم هو الواقع الموجود، والذي في القرآن أدق في ذلك، وأدق مما عرفه الإنسان.

لابد على الإنسان من العمل وعدم الاتكال على القدر

لابد على الإنسان من العمل وعدم الاتكال على القدر وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: يأمر الله الملك أن يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد)، فيه إثبات أن الملك يكتب رزق الإنسان، وأنه يرزق في يوم كذا كذا وكذا، فهذه من أقدار الله سبحانه التي لا يناقش فيها، وإذا كان كذلك فلا يقول الإنسان: إذا كان الله قد كتب لي رزقي فسأجلس في البيت حتى يأتيني رزقي، ولا يوجد أحد يقول ذلك، وإنما يقول: سأخرج وأعمل؛ لأن رزقي لن يأتي إلا بالعمل، فلابد أن يكون كذلك في جميع القضاء والقدر، فالإنسان مكتوب عليه أن يموت، فمن الناس من يموت بحادثة، ومنهم من يموت بكذا، ومنهم من يموت بكذا، ولا يجلس الإنسان في بيته ينتظر الموت ويقول: كل ما هو مكتوب فسيأتي هذا صحيح، ولكن لم تؤمر أن تمكث في بيتك، بل سر في الأرض وامش في مناكبها وابتغ من فضل الله ومن رزق الله سبحانه، ودع أمر القدر ينفذ فيك كما يريد الله سبحانه وتعالى، فكما أنه إذا جاع الإنسان لا يجلس ينتظر الأكل ويقول: إن الله قد كتب أني سآكل وسيدخل الأكل إلى فمي، ولو قال إنسان ذلك لقيل عنه: مجنون، فربنا كتب لك الأكل وجعل له أسباباً، فمد يدك إلى الأكل وكل، ولا تعمل كهذا الذي سخر منه القرآن بقوله تعالى: {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} [الرعد:14]. وهذا المثل للذي يدعو الأصنام، فالقرآن يستهزئ من هذا الداعي للأصنام بقوله: أنت عندما تدعو الصنم وتمد يدك له وتسأله كهذا المغفل الذي يمد يديه إلى الماء وينتظر أن يأتي الماء إلى فمه لأنه عطشان، والماء لن يأتيه ولن يروى هكذا، وهكذا الذي يحتج بالقضاء والقدر، فإن الناس يسخرون منه، فالقضاء والقدر ينفذ فيه، ولكن الله لم يطلعه عليه، ولم يقل له ماذا سيأكل أو سيشرب في هذا اليوم، ولا ما الذي سيحصل له، إذاً: فلا يجلس ينتظر القضاء والقدر، وإنما يؤمن به فقط، ويعمل ويطلب رزقه، وما قدره الله عز وجل له سيأتيه، وليذهب إلى عمله وما قدره الله له من رزق سيكسبه من هذا العمل أو سيفقده في غيره بحسب ما قدر الله عز وجل له، فنؤمن بالقدر ولا نتواكل ولا نناقش في هذا الأمر.

بيان أن الأعمال بالخواتيم

بيان أن الأعمال بالخواتيم يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث: (والله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)، وفي رواية أخرى: (فيما يراه الناس)، فقد ترى أنت إنساناً صالحاً ثم تراه قد انقلب فجأة، فتتعجب وتتساءل: ما الذي قلب هذا الإنسان؟ والله أعلم بنفس هذا الإنسان، فأنت ترى الظاهر فقط، وكم من إنسان تراه في ظاهره مؤمناً ومهذباً وفيه من خصال الخير، ولكن الله يعلم خبث باطنه، فتجده ينقلب ويتغير حاله بعد أن كان متديناً وملتزماً بأمر الله عز وجل، نسأل العفو والعافية. فالله أعلم بمن يستحق الثواب ومن يستحق العقاب، فنؤمن ونتعظ بغيرنا ولا نكون نحن عظة لغيرنا، وهذا معنى قول ابن مسعود: (السعيد من وعظ بغير)، ولم يجعله الله هو العبرة لغيره، وإنما اتعظ فانتفع بالموعظة. يقول في بقية الحديث: (وإن أحدكم لعمل بعمل أهل النار)، وفي رواية: (فيما يبدو للناس حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)، إذاً: فلا ييأس أحد من رحمة الله سبحانه، فقد يعمل الإنسان الأعمال الباطلة الكثيرة، حتى يقال عنه: إنه من أهل جهنم، كما يقول الناس: فلان شرير، وستكون آخرته سوداء، ولعله يختم له في النهاية بخير، فيتوب إلى الله عز وجل ويراجع نفسه. مثل الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً ثم تاب إلى الله فكان من أهل الجنة، ولذلك لا يحكم على إنسان بجنة ولا بنار حتى يرى بماذا يختم له. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل السعادة، وألا يجعلنا من أهل الشقاوة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة غافر [67 - 68]

تفسير سورة غافر [67 - 68] لقد أنزل الله تعالى القرآن الكريم وفيه علمه الواسع المحيط بكل شيء، وكلما تقدمت البشرية شيئاً وعلمت بعض ما كان مخفياً عنها وجدت أن القرآن الكريم قد تحدث عن هذا الذي اكتشفته قبل أربعة عشر قرناً، ومن ذلك كيفية خلق الإنسان في بطن أمه، والمراحل التي يمر بها، فقد فصلها القرآن الكريم في بعض سوره تفصيلاً دقيقاً، شاهداً على أنه من عند الله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة)

تفسير قوله تعالى: (هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة) أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة غافر: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [غافر:67 - 68]. يخبرنا الله الخالق العظيم سبحانه وتعالى في هاتين الآيتين وفي غيرهما من كتاب الله عز وجل في سورة الحج وفي سورة المؤمنون عن خلق هذا الإنسان، هذا الخلق العجيب الذي كلما قرأه المؤمن أو غير المؤمن وتأمل فيه علم أن هذا هو الحق من عند رب العالمين سبحانه وتعالى، وأنه ليس من عند النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن له علم بعلم التشريح حتى يعرف الأجنة التي في بطون أمهاتها، وكيف تتكون في اليوم الأول والثاني، وفي اليوم الثاني والأربعين، وكيف تتكون في الأسبوع الأول، وفي الأسبوع الثاني، وفي غيرهما، فلم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم علم بذلك، لا علماً نظرياً اكتشافياً ولا تجريبياً، وإنما كان ينزل عليه صلى الله عليه وسلم الوحي من السماء فيخبرهم بما أوحي إليه، وقد كان يُسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الشيء الذي لا يعرفه فكان ينتظر الوحي من السماء، فينزل عليه القرآن فيخبره، أو ينزل عليه جبريل من عند الله سبحانه فينبئه أن هذا كذا وكذا، فكان يقول لأصحابه صلى الله عليه وسلم: (لقد سألني هذا وما لي بذلك من علم، فأتاني جبريل فقال لي: كذا وكذا) صلوات الله وسلامه عليه، فلم يكن يدعي أنه هو الذي يعلم ذلك عليه الصلاة والسلام، وإنما كان يرد العلم إلى الله سبحانه. وكان الله تعالى يخبر النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الأشياء العجيبة المعجزة للخلق فلا يسع من يتأمل ذلك إلا أن يعترف أن هذا وحي من عند الله سبحانه وتعالى، وأنه مستحيل أن يكون قاله النبي صلى الله عليه وسلم من عند نفسه. يذكر الشيخ الزنداني عن أحد الأطباء المشهورين في علم الأجنة واسمه كيث مور، وهو من أشهر علماء الأجنة في العصر الحديث، وله مؤلفات تعتبر من المراجع في علم الأجنة، أنه تناقش هو ومجموعة من المسلمين في قوله سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:12 - 14]، وعن هذه الأطوار التي يذكرها الله سبحانه وتعالى، وهل كان يمكن أن يعلمها النبي صلى الله عليه وسلم بغير وحي من السماء؟ فتناقشوا معه حتى أقر الرجل بأن هذا علم من السماء، وأنه ليس من عند النبي صلوات الله وسلامه عليه. وكان قد طبع من كتابه المؤلف علم الأجنة -وهو مرجع من المراجع- في سنة خمس وتسعين طبعتين، منها طبعة ذكر فيها هذه الآيات، وهذا المعنى الذي في القرآن، وقال: إنه شيء عجيب جداً أن يذكر القرآن منذ ألف وأربعمائة سنة ما لم يعلموه هم إلا في هذه السنوات المتأخرة!

مراحل خلق الإنسان

مراحل خلق الإنسان قال الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [غافر:67]، وذكر في سورة المؤمنون العجب العجاب، قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون:12 - 13]، فقد كانت النطفة في صلب الرجل واستقرت في رحم المرأة، قال تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ} [المؤمنون:14] من جزء واحد من ملايين الحيوانات المنوية، وهو الذي ينجح في أن يصل إلى البويضة فيلقحها، والله يجعل من يشاء عقيماً فلا يصل شيء من ملايين الحيوانات المنوية إلى بويضة المرأة، والمرأة تفرز بويضة واحدة في كل شهر، وأما الرجل ففي دفقة من دفقات المني تخرج منه ملايين الحيوانات المنوية، التي قد تلقح البويضة وقد لا تلقحها، والذي يلقح البويضة هو حيوان واحد منها فقط، ثم يحدث التخليق والانقسام، أي: كل واحد ينقسم إلى اثنين، حتى يصير في النهاية جنيناً في بطن أمه. قال تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا} [المؤمنون:14]، وهذا الترتيب ترتيب سريع، ولذلك أتى بالفاء التي تفيد الترتيب والتعقيب مباشرة، ففي خلال اثنين وأربعين يوماً يتكون الجنين في بطن الأم، ويتخلق في خلال هذه المدة، ثم يبعث الله إليه الملك ليصور سمعه وبصره، ويصور جنسه ذكراً أو أنثى، ويكتب عليه شقي أو سعيد، ويكتب ما يكون عليه هذا الإنسان في هذه الدنيا من عمل، ويكتب رزقه، ومصيره، يقول سبحانه: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا} [المؤمنون:14]. وهذه التصويرات الدقيقة العجيبة من نطفة واحدة في القرار المكين، فإن الرحم عندما تدخل النطفة فيه فإنها تنقسم وتتحول إلى علقة كشكل الدودة، وتتعلق في جدار الرحم وتستقر فيه، ثم تتحول هذه العلقة إلى مضغة، فتصبح وكأنها قطعة من اللحم الممضوغ بالأسنان، والذي تكون فيه علامات الأسنان، فتكون على هذه الهيئة، ويكون طولها وهي في بطن الأم مضغة حوالي عشرة سنتيمترات. قال تعالى: {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا} [المؤمنون:14]، أي: فخلق الله هذه القطعة الصغيرة المضغة عظاماً، قال تعالى: {فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} [المؤمنون:14]، يقول الشيخ الزنداني: إنه سأل بعض علماء المسلمين: أيهما يتكون أولاً العظام أم اللحم؟ قال: فكان جوابه سريعاً وقال: اللحم. قال: فرجعنا إلى القرآن فإذا هو يقول: إن العظام تخلق أولاً، قال تعالى: {فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} [المؤمنون:14]، فراجع الأمر ثم قال: إنه أخطأ في كلامه، وإن العظم يتكون أولاً وبعد ذلك اللحم. قال: وسألت بعض العلماء الأجانب في ذلك فكان جواب الجميع: أن العظم يتكون أولاً وبعده اللحم. وصدق الله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت:53]. قال الله سبحانه: {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون:14]، أي: خرج من مرحلة التخليق إلى مرحلة تصوير السمع والبصر والجنس، فخرج خلقاً آخر، وهو هذا الإنسان العجيب، ثم ختم سبحانه بقوله: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ} [المؤمنون:14]، أي: تعالى وتمجد سبحانه وتعالى. قال تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14]، أي: أحسن المقدرين والمنشئين للشيء، والموجدين له من العدم إلى الوجود. وهنا يأتي سؤال وهو: هل هناك خالق غير الله عز وجل حتى نقول: {أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14]؟ و A أن الخلق له معانٍ، فمن معانيه: الإيجاد، نقول: هذا مخلوق أي: موجود أوجده الله سبحانه وتعالى. ومن معاني (خلق): فطر، أي: أنشأ على غير مثال سابق. ومن معاني (خلق): قدر، فقولنا: هذا مخلوق، أي: مقدر قد قدره الله سبحانه، ولذلك يقول بعضهم: ولأنت تفري ما خلقت وبعـ ض الناس يخلق ثم لا يفري فهو يقول: إن الله يقدر ما خلق، فيخلقه كما قدره، وبعض الناس قد يقدر الشيء ثم لا يستطيع عمله كما قدر. إذاً: فقوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14] أي: أحسن المقدرين، الذي يقدر فيوجد الشيء على ما يريده، وهذا من معاني الخلق، وقد يكون في الناس شيء من هذا الوصف كما نقول: الله الرحمن الرحيم، فمن صفته تعالى الرحمة، وجعل في الناس الرحمة، وفرق بين رحمة المخلوق ورحمة الخالق سبحانه وتعالى، فرحمة الله تليق به جل جلاله، ورحمة المخلوق تليق به كمخلوق لله، وكذلك صفة الحياة، فحياة الله لائقة به، وللمخلوق حياة لائقة به. وكذلك الخلق على معنى التقدير، فإن الإنسان يقدر ويفكر في كيفية عمل الشيء ثم قد يكون وقد لا يكون، وأما الله عز وجل فلا يقدر شيئاً إلا ويوجد على الهيئة التي قدره عليها سبحانه وتعالى، قال تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14]، أي: أحسن من يقدر ومن يوجد ومن يخلق، سبحانه وتعالى ويدبر.

متى يشبه الولد أباه وأمه؟

متى يشبه الولد أباه وأمه؟ روى مسلم في حديث طويل عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كنت قائماً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء حبر من أحبار اليهود فقال: السلام عليكم يا محمد! قال: فدفعته دفعة كاد يصرع منها)، أي: أنه غضب من هذا اليهودي المتطاول الذي نادى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: يا محمد، ولم يقل: يا رسول الله، ولا: يا نبي الله، يكلمه وكأنه أحد أصحابه، فدفعه دفعة كاد يلقيه على الأرض منها، (فقال اليهودي: لم تدفعني؟ فقلت: ألا تقول: يا رسول الله؟! فقال اليهودي: إنما ندعوه باسمه الذي سماه به أهله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن اسمي محمد الذي سماني به أهلي)، وهذا من تواضعه صلوات الله وسلامه عليه، وأما كلام اليهودي فإنه من إجرام اليهود ومن محاولتهم إهانة النبي صلى الله عليه وسلم في قولهم، فكان أن دفعه هذا الصحابي، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم ألا تقع فتنة فقال صلى الله عليه وسلم: (إن اسمي محمد الذي سماني به أهلي)، وهذا تواضع منه عليه الصلاة والسلام، وقد منع الله المؤمنين أن ينادوه بذلك فقال: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور:63]، أي: لا تنادوه كما ينادي بعضكم بعضاً، وتقولون له: يا محمد! بل نادوه بالتشريف والتعظيم وبما يستحقه صلوات الله وسلامه عليه، فنادوه بـ: يا رسول الله! يا نبي الله! عليه الصلاة والسلام. فينادى بهذا اللفظ الذي جعله الله عز وجل لقباً له عليه الصلاة والسلام. قال: (فقال اليهودي: جئت أسألك -أي: أنه جاء يسأل ويتعالم في كلامه- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أينفعك شيء إن حدثتك؟ فقال اليهودي: إنما أسمع بأذني)، وهذا فيه قلة أدب وسوء وتطاول في الكلام، يعني: كلامك لن يتجاوز أذني إلى قلبي وسأفكر فيه، قال: (فقال اليهودي: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض؟ -وكان هذا اليهودي حبراً من أحبار اليهود، وقال: إنه لا يعرف الجواب إلا نبي- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هم في الظلمة دون الجسر -فتعجب اليهودي أن عرف النبي صلى الله عليه وسلم ذلك- ثم سأله: من أول الناس إجازة؟ -أي: من أول من يعبر الجسر ويطأ أرض الجنة؟ - قال: فقراء المهاجرين. قال اليهودي: فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟ قال: زيادة كبد النون)، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم. قال: (فما غداؤهم على إثرها؟ فقال: ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها)، فثور الجنة الذي تربى في الجنة وأكل من أطرافها ينحر لهؤلاء الذين هم أول الخلق دخولاً الجنة. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم ومعهم. قال: (فما شرابهم عليه؟ قال: من عين فيها تسمى سلسبيلاً)، وكان اليهودي يقول للنبي صلى الله عليه وسلم في كل A صدقت. وهو صلى الله عليه وسلم لم يأت بهذا الجواب من كلام العرب ولا من كلام الناس، وإنما أتى به من عند رب العالمين سبحانه. قال: وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان. أي: إنه لا يوجد في الدنيا أحد يعلمه إلا رجل أو رجلان، يقصد نفسه ومعه رجل آخر من اليهود، فإذا علمه ثالث فلا يكون إلا من الأنبياء، فقال عليه الصلاة والسلام: (أينفعك إن حدثتك؟ فقال: أسمع بأذني)، نفس الجواب الذي قاله قبل ذلك. قال: جئت أسألك عن الولد -وهذا هو الشاهد من الحديث- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ماء الرجل أبيض، وماء المرأة أصفر)، فماء الرجل مني أبيض وكلهم يعرفونه، وأما أن ماء المرأة أصفر فلم يكن أحد يعرفه، ولا حتى الأطباء كانوا يعرفون ذلك، وإنما كانوا يقولون: إن المرأة ليس لها ماء أصلاً، وإنما هذا يقوله النبي صلى الله عليه وسلم، وبناء عليه كانوا يكذبون بهذا الحديث، قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا بإذن الله -أي: كان الجنين ذكراً- وإذا علا مني المرأة مني الرجل آنثا بإذن الله -قال اليهودي: لقد صدقت وإنك لنبي)، ثم انصرف، ولم يؤمن، ولم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد سألني هذا عن الذي سألني عنه وما لي علم بشيء منه حتى أتاني الله به). هذا الحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث ثوبان، وقد ذكر فيه أن ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر.

القرآن الكريم يسبق العلم الحديث في علم الأجنة

القرآن الكريم يسبق العلم الحديث في علم الأجنة يقول علماء الطب في العصر الحديث: إن البشرية لم تعلم بواسطة علومها التجريبية أن الجنين الإنساني يتكون من نطفة الرجل ونطفة المرأة إلا في القرن التاسع عشر الميلادي، أي: بعد النبي صلى الله عليه وسلم باثني عشر قرناً عرفت البشرية أن الجنين يتكون من ماء الرجل ومن ماء المرأة، وتأكد ذلك لديها بما لا يدع مجالاً للشك في القرن العشرين، وأما في القرن التاسع عشر فقد بدءوا يكتشفون أن المرأة لها ماء، وفي القرن العشرين تأكد لديهم أن الجنين يخلق من ماء الرجل وماء المرأة، فقد تضمن هذا الحديث معجزة من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم. يقول علماء الطب: ماء المرأة في المهبل وفي حويصلة جراف في المرأة، وهذا الماء يميل إلى الصفرة، والبويضة تخرج من هذه الحويصلة التي تسمى: حويصلة جراف في المرأة، ولونها أصفر، ويسميها علماء الطب: الجسم الأصفر، وهذا هو الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم وأنكره الأطباء في الماضي ثم اعترفوا به الآن. وقد اكتشف العلم الحديث أيضاً أن إفرازات المهبل لها تأثير في الذكورة والأنوثة، ولذلك يقولون: إن إفرازات المبيض الذي تخرج منه البويضة حمضية وقاتلة للحيوانات المنوية، فلو وصل الحيوان المنوي إليه وهو على هذه الصورة لقتله، وحتى لا يقع ذلك فإنه عندما تخرج البويضة وتصل إلى حويصلة جراف وإلى عنق الرحم تتحول الإفرازات التي تأتي إليها إلى قلوية، لتعين الحيوان المنوي للمجيء إلى هذا المكان، وعلى أن يعيش، ثم هو قد يضعف قليلاً، وقد يقوى قليلاً في هذا المكان، فمكان الإفراز نفسه له تأثير بأن يضعف الحيوان المنوي أو يقويه، فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا علا ماء الرجل)، أي: غلب ماء الرجل وكان أقوى من هذه الإفرازات، كان ذكراً بإذن الله، وأما إذا كان أضعف منها كان أنثى بإذن الله.

أطوار حياة الإنسان في الدنيا

أطوار حياة الإنسان في الدنيا قال الله سبحانه تبارك وتعالى: {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [غافر:67]، أي: يخرجكم من بطون أمهاتكم بعد أن كنتم أجنة، والجنين: من جن أي: اختفى، فهو خفي في بطن أمه، فإذا نزل من بطن أمه صار طفلاً. قال تعالى: {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [غافر:67]. أي: عندما يأذن الله سبحانه وتعالى، فقد يخرجه خلال تسعة أشهر، أو خلال ستة أشهر، أو خلال سبعة أشهر، وقد يخرجه كاملاً أو قاصراً، فالله سبحانه وتعالى يصنع ما يشاء، فهو الذي يخرجكم، وأنتم إنما تنتظرون أمر الله سبحانه وتعالى، ثم تعيشون في هذه الدنيا. قال تعالى: {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} [غافر:67]. وهذا هو وقت البلوغ والرشد والقوة، قال تعالى: {ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا} [غافر:67]، وهذا هو الخط الذي يسير فيه الإنسان في الدنيا: فيكون أولاً جنيناً، ثم يخرج طفلاً صغيراً، ثم يكبر كلما تقدم به السن والزمن إلى أن يصير شاباً قوياً مكتملاً راشداً، ثم يدخل في زمن الكهولة، ثم يدخل في زمن الشيخوخة، ويرجع إلى مرحلة الصفر التي أتى منها، فقد كان ضعيفاً ثم رجع مرة ثانية إلى الضعف، قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم:54]، وقال هنا: {ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا} [غافر:67]. يقول علماء اللغة: الشيخوخة: مرحلة ما بعد الأربعين، فعلى الإنسان أن يجهز نفسه بعد الأربعين، فلم يبق من عمره إلا قليل مقارنة بما مضى منه، فقد بلغ أشده واكتمل، وأخذ من الدنيا ما أخذ، فليعد نفسه الآن ليقابل الله سبحانه وتعالى، ولا يسرف على نفسه ولا يضيع دنياه، فليس بعد هذه المرحلة مرحلة أخرى أعلى منها، وإنما تبدأ مرحلة النزول، فعليه بالرجوع إلى الله سبحانه تبارك وتعالى. وقوله تعالى: {ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا} [غافر:67]. هذه قراءة الجمهور، وقرأ ابن كثير وابن ذكوان والكسائي وشعبة وخلف: ((شيوخًا))، بالكسر، ففيها قراءتان: (شُيُوخًا)، و ((شِيُوخًا)) بكسر الشين فيها، ومن قرأها بالكسر راعى فيها الياء، فقرأها على الاتباع، فكسر الشين إتباعاً للياء، وقراءة الجمهور: (شُيُوخًا) على الأصل. قال تعالى: (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ) أي: ليس كل الناس سيمرون بهذه المراحل، فإن من الخلق من يصل في بطن أمه إلى مرحلة معينة ثم يسقط، ومنهم من ينزل ميتاً، ومنهم من ينزل حياً ويعيش فترة ثم يموت بعد ذلك، فمنكم من يتوفى من قبل الاكتمال، ومنكم من يكتمل به العمر إلى الشيخوخة.

أجل الإنسان محدد لا يزيد ولا ينقص

أجل الإنسان محدد لا يزيد ولا ينقص قال تعالى: {وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى} [غافر:67] أي: أجلاً قد قدره الله سبحانه وتعالى فلا تتجاوزونه أبداً، ومهما قال الإنسان: لقد وصلنا إلى العلاج وإلى الأغذية التي تطيل عمر الإنسان، فإن هذا كله تقدير الله عز وجل، فاعمل ما شئت فإنك لا تستطيع أن تطيل من عمر إنسان شيئاً، فالأعمار قد قدرها الله، كما قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34]، فقوله: {وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى} [غافر:67]، أي: مكتوباً عند الله سبحانه تبارك وتعالى. قال تعالى: {وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [غافر:67]، أي: تفهمون، وتتدبرون، وتعقلون، وتفهمون ما يمر بكم، وتفهمون هذه الآيات التي يذكرها ربكم سبحانه، فتتوبون إلى الله وتعبدونه سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (هو الذي يحيي ويميت)

تفسير قوله تعالى: (هو الذي يحيي ويميت) قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُحْيِ وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [غافر:68]، أي: هو وحده سبحانه لا شريك له، فهو الذي يخلق ويرزق، وهو الذي يحيي ويميت سبحانه وتعالى، وهو الحي الذي لا يموت، قال تعالى: {فَإِذَا قَضَى أَمْرًا} [غافر:68] أي: دبر أمراً وأراده {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [غافر:68]، فيكون هذا الشيء على ما أراده ودبره وقضاه الله سبحانه. وهذه الآية قد قرأها الجمهور (فَيَكُونُ) على أن الفاء في قوله: (فَيَكُونُ)، عاطفة، أو على أنها جواب الأمر؛ لأنها سببية، أي: بسبب ذلك، وقرأها ابن عامر بالفتح: (فَيَكُونَ)، ولذلك استحب الجمهور لمن قرأها أن يقف عليها بالروم، أي: أن يضم شفتيه عندها كأنه يضع عليها ضمة بسيطة، والفرق بين قراءة الجمهور وقراءة ابن عامر أنه ليس في قراءة ابن عامر روم ولا إشمام في الفتح، وإنما يكون الروم والإشمام عنده في الضم وفي الكسر، وأما على قراءة الجمهور فيجوز الوقف عليها بالسكون فقط، ويجوز الوقف عليها بالروم بياناً لأنها مضمومة، والله أعلم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة غافر [69 - 77]

تفسير سورة غافر [69 - 77] العجب كل العجب من أولئك الذين يجادلون في آيات الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ويجادلون أنبياء الله تعالى ورسله بالباطل، ومن جاء بعدهم يجادلون أهل الحق، ويزعمون أنهم على حق كذباً وزوراً وبهتاناً، وهم يعلمون في قرارة أنفسهم أنهم على باطل، وإنما دفعهم إلى ذلك التكبر على الحق وعلى الخلق، لكنهم سيعملون غداً من الكذاب الأشر.

تفسير قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله فسوف يعلمون)

تفسير قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله فسوف يعلمون) أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة غافر: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ * الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر:69 - 72]. يعجب الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ممن يجادل في آيات الله عز وجل بغير حق وبغير علم، قال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121] أي: يوحي الشياطين إلى أوليائهم من المشركين والمنافقين والكاذبين والجاحدين بأن يجادلوا النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالباطل ليصرفوهم عن الحق. يقول تعالى: ألا تعجب يا محمد من هؤلاء الذين يجادلون في آيات الله وقد سمعوا كتاب الله وما فيه من الآيات المحكمة العظيمة، والمعجزات الباهرة أنى يصرف هؤلاء عن التفكر في آيات الكتاب، وفي المعجزات التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم، وفي آيات الله في الكون التي تدل على أنه إله واحد يستحق العبادة؟! فكيف صرف هؤلاء عن التفكر؟! أين ذهبت عقولهم وقلوبهم؟! لم لا يتفكرون؟! ما هذه الغفلة التي هم فيها؟! ألا تعجب من هؤلاء الذين لا يفهمون ولا يتعظون بما تقول؟! كيف صرفوا عن الحق ودلائله وعن التوحيد؟! وكيف فتنوا وانصرفوا عن التفكر في آيات الله؟! هؤلاء المجادلون بالباطل {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا} [غافر:70]، أي: الذين كذبوا بما نزل من القرآن من عند رب العالمين، وكذبوا بما أرسلنا به رسلنا، فهؤلاء جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم فكذبوه، وقد جاءهم بقصص الأنبياء السابقين مع قومهم، فهذا نوح أرسل إلى قومه فأمرهم بالتوحيد، وقال: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، وهود أرسل إلى قومه فأمرهم بالتوحيد، وصالح أرسل إلى قومهم فأمرهم بالتوحيد، ولوط أرسل إلى قومه فأمرهم بالتوحيد، وإبراهيم وغيرهم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أمروا قومهم بالتوحيد فانصرفوا عنه إلى الشرك بالله سبحانه وتعالى، فكأن من كذب نبياً واحداً فقد كذب كل المرسلين؛ لأن الجميع جاءوا بهذه الدعوة دعوة التوحيد: (اعبدوا الله ما لكم من إله غيره). إذاً: هؤلاء المشركون كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم، وكذبوا دعوة التوحيد، وكذبوا بالكتاب وهو القرآن الذي نزل من عند رب العالمين، وكذبوا رسلنا الذين أرسلنا من قبل ذلك، وهو دين الإسلام دين التوحيد. وقوله: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [غافر:70] فيه التهديد والوعيد من رب العالمين سبحانه، أي: انتظروا فسوف ترون ما يسوءكم، سوف ترون العذاب الشديد، وذلك بأن نجعل الأغلال في أعناقكم والسلاسل تسحبون بها إلى النار والعياذ بالله.

تفسير قوله تعالى: (إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون)

تفسير قوله تعالى: (إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون) قال تعالى: {إِذْ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ} [غافر:71]. قوله: (إذ) ظرفية فيها توقع حدوث الشيء، فسوف يعلمون في زمن كذا وفي وقت كذا إذ يحدث لهم كذا. قوله تعالى: {إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} [غافر:71] الأغلال: جمع غل، والغل: هو القيد الذي تربط به اليدان إلى رقبة الإنسان، فتغل يد الأسير وتربط بسلسلة إلى رقبته، فكذلك يصنع بهؤلاء، بحيث تربط أيديهم فتغل في أعناقهم فلا يقدرون على الفكاك ولا الهرب. وقوله: (والسلاسل يسحبون) أي: السلاسل يسحبون بها، قال تعالى: {فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:32]، فهي سلاسل يسحبون بها وسلاسل يسلكون فيها والعياذ بالله، كما تسلك حبات السبحة في الخيط، فتدخل من أفواههم وتخرج من أدبارهم، كالشيء المشوي على سيخ والعياذ بالله! قال تعالى: {إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ} [غافر:71] أي: يسحبون بهذه السلاسل، إلى أين؟ قال: {فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر:72] والعياذ بالله! يؤخذون بأغلالهم وسلاسلهم فيسحبون على وجوههم إلى الحميم، والحميم: هو السائل الذي بلغ الغاية النهائية القصوى من درجات الحرارة، وفي الدنيا يبلغ الماء أقصى درجة الحرارة مائة درجة مئوية، وهذا في الدنيا، أما في الآخرة فالسائل يبلغ أكثر من ذلك؛ فالذي يوقد عليه هو نار جهنم والعياذ بالله، ولو تخيلنا أن هذه الشمس قريبة منا بمقدار ثمان دقائق، وهذه الشمس درجة حرارتها الخارجية تصل إلى ستة آلاف درجة مئوية، أما في نواة الشمس وداخلها فتصل درجة الحرارة إلى ستة ملايين درجة مئوية، فحرارة هذه الشمس ليست كنار جهنم، فكيف تكون نار جهنم؟! وكم تكون درجة الحرارة التي تبلغ فيها وهي سوداء مظلمة تصل إلى أقصى ما يكون من درجات الحرارة والعياذ بالله؟! وفي هذه النار سائل ينضج عليها النار، وهو من صديد أهل النار والعياذ بالله، مما يسيل من جلودهم، فهؤلاء يسحبون على ذلك الحميم السائل الذي بلغ أقصى درجات الحرارة، ثم يؤخذون فتوقد بهم نار جهنم والعياذ بالله، قال تعالى: {ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر:72] أي: يصيرون وقوداً للنار والعياذ بالله.

تفسير قوله تعالى: (ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون كذلك يضل الله الكافرين)

تفسير قوله تعالى: (ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون كذلك يضل الله الكافرين) قال الله تعالى: {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ} [غافر:73 - 74]، هذه النار لا يطيقها أحد أبداً، نسأل الله العفو والعافية وأن يجيرنا من النار، وأن يجعلنا من أهل الجنة، اللهم أجرنا من النار، واجعلنا من أهل جنتك، هذه النار التي في الآخرة يجعل الله عز وجل فيها هؤلاء، فهم لا يحيون حياة كريمة، ولا يموتون فيستريحون، ثم قيل لهم لما عاينوا ورأوا العذاب وأدخلوا فيه: {أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ} [غافر:73 - 74]؟ أين ذهبت الأنداد والأصنام التي كنتم تتخذونها آلهة من دون الله؟ فأجابوا (قالوا ضلوا عنا) أي: غابوا عنا وتاهوا، وذهبوا في مكان آخر، فلما تفكروا قالوا: {بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئًا} [غافر:74] أي: استدركوا على أنفسهم فقالوا: لقد كنا في الدنيا في تيه وفي ضلال، بل لم نكن ندعو شيئاً ننتفع به، ولا شيئاً يملك لنفسه نفعاً فضلاً عن غيره، وإنما كنا ندعو أشياء لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر، ولا تعطي ولا تمنع. إذاً: كانوا في الدنيا يعرفون أن هذه الأصنام لا تنفع ولا تضر، ويدعونها من دون الله سبحانه، لكن دفعهم الكبر والأشر والبطر لذلك، فالكبر جعلهم يتعالون على دين الله وعلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيجادلون بالباطل فيما يعرفون أن الحق معه صلى الله عليه وسلم، فيقولون: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]. أي: كل هذه الآلهة والأصنام التي نعبدها يريد أن يوحدها بواحد فقط، هذا شيء عجيب! وما هو وجه العجب في ذلك؟ فهم يقولون ذلك قولاً فقط، وهم يعرفون أن هذه الأصنام لا تنفع ولا تضر، فهم يرون أحدهم يصنع الصنم والآخر يكسره، ويرون الذي يصنع الصنم ثم هو الذي يأكله بعد ذلك، فهذه الآلهة التي كانوا يعبدونها من دون الله قد عبدوها وهم يعرفون أنها لا تنفع ولا تضر، وقد قال عليه الصلاة والسلام لأحدهم: (كم تعبد من إله؟ فقال: أعبد سبعة، واحداً في السماء وستة في الأرض، فقال له: من الذي ترجوه لنفعك؟ فقال: الذي في السماء). إذاً: الآلهة التي في الأرض لا تنفع ولا تضر، وهذا باعترافهم، فنقول لهم: لماذا تعبدونها؟ قالوا: إنها تقربنا إلى الله، فالشيطان يوحي إليهم ألا تعبدوا الله مباشرة، ولكن اعبدوا هذه الآلهة فإنها تقربكم إلى الله زلفى، ومع أنهم غير مقتنعين بذلك، ولكن منعهم الكبر على الحق، والكبر على النبي صلى الله عليه وسلم، كيف يكون نبياً من بني هاشم؟! إذاً: الكبر يمنعهم من اتباع الحق، ويدفعهم لعبادة ما لا ينفع ولا يضر، فلما جاءوا يوم القيامة ما استطاعوا أن يكذبوا كما كانوا يكذبون في الدنيا، ولكن قالوا: {لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئًا} [غافر:74] أي: اعترفوا بالحقيقة، وندموا حين لا ينفع الندم، وطلبوا الاستدراك في وقت لا ينفع فيه الاستدراك، {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غافر:85]. قال تعالى: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ} [غافر:74] أي: كذلك الضلال الذي ضل فيه هؤلاء حتى وصلوا إلى النار يضل الله عز وجل مثله كل كافر يجادل بالباطل، فكل من يجادل بالباطل لم يضر إلا نفسه، فمن يتبع الباطل ويترك الحق ويظن أنه أتى بشيء فالله عز وجل يختم على قلبه، ويتركه في غفلته هكذا، ويذكر ربنا سبحانه المؤمنين كأنه يقول لهم: أيها المؤمنون! انظروا إلى الضلال الذي كان في هؤلاء حتى وصلوا إلى النار، فإنا سوف نضل هذا الإنسان المجادل بالباطل، حتى يظل في تيه وفي غفلة، عابداً غير الله حتى يصل إلى مثواه في نار جهنم كما فعل الله بالسابقين {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ} [غافر:74].

تفسير قوله تعالى: (ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق)

تفسير قوله تعالى: (ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق) قال الله تعالى: {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [غافر:75] أي: هذا الذي تذوقونه من العذاب بما كنتم تفرحون، فربنا سبحانه وتعالى ذكر لـ قارون نصيحة قومه له حين قالوا: {لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص:76] أي: لا تفرح أنه أعطاك، فكون الإنسان يصيبه شيء من الهناء ومن السرور لا مانع أن يفرح بنعمة الله، وأن يفرح بنصر الله، ويفرح بالإيمان والهدى، {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} [الروم:4]، لكن كون الإنسان يفرح بالمعاصي، أو يفرح بكثرة الأتباع، ويأشر ويبطر ويبتعد عن الحق، وينظر لغيره باحتقار لأنه أعلى منهم؛ ولأنه أفضل منهم، فهذا المرح والفرح فيه إسراف وفيه تعد وغرور وهو الذي نهى عنه الله سبحانه فقال مبكتاً لهم: {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} [غافر:75].

تفسير قوله تعالى: (ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فإلينا يرجعون)

تفسير قوله تعالى: (ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فإلينا يرجعون) قال تعالى: {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [غافر:76] أبواب جهنم سبعة أبواب، لكل باب منهم جزء مقسوم، فيقول لهؤلاء: ادخلوا هذه الأبواب والعياذ بالله، ((فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ)) أي: بئس مقر ومأوى ومنزل ينزل فيه هؤلاء، فهذا هو مثوى للمتكبرين عن الحق، وللمستكبرين على الخلق. ثم قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [غافر:77] أي: اصبر على ما سيحصل من هؤلاء؛ فإن الدنيا قليلة وحقيرة، وسرعان ما تزول، فاصبر لأمر الله، واصبر على قضاء الله وقدره، واصبر على الأذى، واصبر على الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، اصبر فإن الوعد من الله، ووعد الله حق، فهو الذي يعدك بالجنة، وهو الذي يعدك بالنصر سبحانه وتعالى. قال تعالى: {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} [غافر:77] أي: نريك بعض الذي نعد هؤلاء ونتوعدهم به من العذاب في الدنيا، كما حدث لهم في بدر وغيرها، قال: {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [غافر:77] سواء مكناك فنلت النصرة وغنمت من هؤلاء، أو أخذناك وقبضناك، فالكل إلينا راجع، وسنحاسب الجميع. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة غافر [77 - 78]

تفسير سورة غافر [77 - 78] تواجه الإنسان في هذه الدنيا المشاكل والأزمات، ويجد الصعوبات والعقبات، وما لم يتسلح بالصبر فإنه سيهون أمامها ويلين، ولا يقدر على المواجهة والوقوف أمامها، والمسلم يواجه في حياته أهل الكفر والنفاق والشقاق ومكرهم وكيدهم للدين وأهله، وما لم يكن على هذا الخلق العظيم فإنه لن يقدر على الثبات والمواجهة، وتجده يتزلزل ويتراجع؛ ولذلك أمر الله بالصبر، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم به، وبينا عظيم أجره، وحسن عاقبته، من أجل أن يتمسك ويتخلق به المسلم في حياته، ويكون زاداً له أمام أهل الشقاق والكفر والنفاق.

تفسير قوله تعالى: (فاصبر إن وعد الله حق)

تفسير قوله تعالى: (فاصبر إن وعد الله حق) أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة غافر: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ} [غافر:77 - 78]. يأمر الله عز وجل نبيه صلوات الله وسلامه عليه في هذه الآيات بالصبر، قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [غافر:77]، فإنه كما ابتلي صلى الله عليه وسلم وهو في مكة ابتلي أيضاً وهو في المدينة صلوات الله وسلامه عليه، فأمره ربه سبحانه بأن يصبر ويأمر المؤمنين كذلك بالصبر، وإذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يصبر فهو أمر بالتبع للمؤمنين؛ لأنه قدوتهم صلى الله عليه وسلم، فأمروا أن يصبروا وأن يصابروا وأن يرابطوا وأن يجاهدوا في سبيل الله عز وجل، قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [غافر:77]، أي: إن وعد الله عز وجل لكم بإحدى الحسنين حق: إما النصر والتمكين، وإما الشهادة وقبض الروح فترجعون إليه ويجازي هؤلاء على ما فعلوا، قال تعالى: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} [يونس:46] أي: فتبصر وترى ما توعدناهم وتهددناهم به، وما أخبرناك بأنه آتيهم من عذاب الله عز وجل، أو نقبضك إلينا ونتوفينك. وكلا الأمرين خير للنبي صلى الله عليه وسلم، فإما أن يقبضه الله عز وجل فيرجع إلى ربه الكريم سبحانه، فيدخله جنات النعيم فيكون خيراً له، أو أن الله سبحانه وتعالى يمكن له وينصره فيرى في أعدائه ما يشفي صدور المؤمنين، قال تعالى: {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} [غافر:77]، وهذا من كرمه سبحانه، فإنه لما هددهم سبحانه علم أن فيهم من يتوب ويرجع إليه فقال: {بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} [غافر:77]، وليس كل ما وعدهم الله سبحانه، فقد يعفو عن البعض وقد يعذب البعض، وقد يؤخر الجميع إلى يوم يرجعون إليه سبحانه وتعالى ويفعل الله ما يشاء. قال تعالى: {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} [غافر:77]، أي: بعض ما توعدناهم به من العذاب وما هددناهم به من نزول العقاب (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) أي: نرجعك إلينا ونقبضك، قال تعالى: (فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ)، أي: الجميع سيرجع إلى الله، ثم يكون الجزاء والحساب والثواب والعقاب والجنة والنار. وقوله تعالى: (إِِلَيْنَا يُرْجَعُونَ)، هذه قراءة الجمهور، وقرأ يعقوب (إلينا يَرجِعون)، أي: يرجع كل إنسان إلى ربه فيجازيه بعمله إن خيراً فخيراً وإن شراً فشر.

تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا رسلا من قبلك)

تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك) قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ} [غافر:78] يخبر الله سبحانه في هذه الآية أنه أرسل رسلاً قبل النبي صلى الله عليه وسلم، وأن هؤلاء الرسل كانوا من البشر، كما قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [الرعد:38] فالله عز وجل أرسل الرسل وجعلهم من البشر، وجعل لهم أزواجاً وذرية، وابتلاهم عز وجل في هذه الدنيا، وقد كان هؤلاء الرسل والأنبياء كثيرين، قال تعالى: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر:78] أي: أن الله عز وجل قص لنبيه صلوات الله وسلامه عليه بعضاً من هؤلاء فقط، فالقرآن ليس كتاب تاريخ وسير حتى يسرد له أسماء جميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وإنما القرآن كتاب شريعة، وفيه من الحكم والمواعظ التي يعظ الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.

بيان أن الله لا يعذب قوما إلا بعد إقامة الحجة

بيان أن الله لا يعذب قوماً إلا بعد إقامة الحجة والله ما كان ليعذب قوماً حتى يقيم عليهم الحجج ويرسل إليهم الرسل وينزل عليهم الكتب، ثم بعد ذلك يجازيهم على أعمالهم، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15] أي: أننا نبعث الرسول ليقيم الحجة على الخلق، ثم بعد ذلك نعذب من عاند ومن جحد ومن شاق الله سبحانه.

أكثر الرسل لم يذكرهم الله في كتابه

أكثر الرسل لم يذكرهم الله في كتابه قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر:78]، أي: أرسلنا كثيراً من الأنبياء والرسل، وقد ذكروا أن عدد رسل الله سبحانه الذين بعثهم ثلاثمائة وبضعة عشر رسولاً أو خمسة عشر رسولاً، وقد ذكر منهم في القرآن خمسة وعشرين بأسمائهم، وهم: آدم، وإدريس، ونوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف، وأيوب، وشعيب، وموسى، وهارون، ويونس، وداود، وسليمان، وإلياس، واليسع، وزكريا، ويحيى، وعيسى، وذو الكفل -عند كثير من المفسرين- وخاتمهم وسيدهم محمد صلوات الله وسلامه عليه، ولم يذكر بقيتهم وهم الأكثرون، وكذلك لم يذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم.

تكذيب الأقوام لرسلهم وسؤالهم الآيات

تكذيب الأقوام لرسلهم وسؤالهم الآيات قال تعالى: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [غافر:78]، أي: لقد كانت عادة الأقوام الذين بعث إليهم الرسل التكذيب، فإذا جاءهم رسول من عند الله كذبوه وأعرضوا عنه وطلبوا منه آية على أنه رسول من عند الله، أو يشترطون عليه أن يعمل لهم ما اشترطوه، فقوم هود طلبوا من نبيهم آية، وكذلك قوم صالح، ومن قبلهم قوم نوح، وهكذا كل نبي بعثه الله إلى قوم كانوا يطلبون منه الآيات ويتعنتون معه، فيرسل الله عز وجل لهم الآيات، ويريهم ما سألوا، ومع ذلك يعرضون ويكذبون إذا جاءتهم الآيات الحسية التي طلبوا أن يروها ولم يؤمنوا بها، فإذا كان السابقون لم يؤمنوا فهؤلاء لن يؤمنوا، وقد جعل الله عز وجل الآية العظيمة والمعجزة الكبرى لرسوله صلى الله عليه وسلم هذا القرآن العظيم، وتحدى به الخلق جميعهم أن يأتوا {بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23]. ولما طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً وأن يبعد عنهم الجبلين اللذين في مكة من أجل أن تتوسع أرضهم؛ لأن أرضهم ضيقة، وأن ينزل عليهم من السماء أمطاراً غزيرة، وينزل عليهم من السماء ذهباً وفضة وينزل عليهم كتاباً من السماء، وتعنتوا فيما طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لم يجبهم ربنا سبحانه إلى ما سألوا وطلبوا؛ لأن الذين من قبلهم لما طلبوا الآيات ورأوها لم يؤمنوا، فهؤلاء مثلهم، فكان من رحمة الله عز وجل ألا يبعث هذه الآيات؛ فإن الله إذا أرسل آية من الآيات وكذب بها الخلق أتتهم العقوبة والاستئصال والإهلاك والتدمير، ولذلك من رحمة الله عز وجل أنه لم يعطهم ما سألوا من الآيات؛ لأنه علم أن الذين يطلبون هذه الآيات سيموتون على كفرهم كـ أبي جهل وأبي لهب وغيرهم، فإذا أعطاهم الله عز وجل آية وحول لهم الصفا ذهباً فسيقولون عن النبي صلى الله عليه وسلم: ساحر، ويظلون على تكذيبهم، فيأتيهم العذاب من عند الله فيستأصلهم جميعاً، فمن رحمة الله أنه لم يعطهم الآية التي طلبوها؛ حتى لا يهلكهم ويبيدهم بعد ذلك، وهذا فضل منه ورحمة.

تعذيب الله تعالى للمكذبين للرسل

تعذيب الله تعالى للمكذبين للرسل قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ} [غافر:78] أي: إذا جاء وعد الله وجاء العذاب من عند الله سبحانه وتعالى قضى بين هؤلاء بالعدل وبالحق في الدنيا وفي الآخرة، فإذا كذبوا وأعرضوا جاء العذاب، فكان قضاء الله الحق أن يستأصلهم جزاء بما كانوا يعملون، وإذا أخرهم ليوم القيامة قضى الله عز وجل بين عباده بالحق، {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ} [غافر:78] والمبطلون: جمع مبطل، والمبطل: المدعي الكذب، وهو الذي يتكلم بالباطل وهو يعرف أنه باطل ومع ذلك يجادل فيه، فهو يلعب في الدنيا ويلهو ويجادل في آيات الله، وكأنه يتكلم بالحق في هذا الذي يقول ويعتقده وهو يكذب، ولذلك فضحهم الله عز وجل وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33]، وهناك فرق بين من يكذب وهو يعتقد أنه كاذب، وبين من يكذب وهو يعتقد أنه صادق، فهنا يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ} [الأنعام:33]، أي: لا يعتقدون أنك كاذب، وإنما هم مقرون بما تقول في أنفسهم، ولكنهم منكرون في الظاهر أمامك، وهذا هو الجحود، فهم يجحدون بآيات الله سبحانه مع اعترافهم وعلمهم أنها صواب وأنها من عند الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: {فإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ} [غافر:78] أي: في يوم القيامة أو في وقت مجيء العذاب، {قُضِيَ بِالحَقِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ} [غافر:78] أي: في دعواهم أن مع الله آلهة، وحاشا له سبحانه وتعالى! وفي دعواهم أن النبي صلى الله عليه وسلم ساحر أو كاذب أو مجنون، فيخسرون حين يرون العذاب.

أمر الله تعالى نبيه بالصبر

أمر الله تعالى نبيه بالصبر وإذا كان الأمر كذلك فاصبر، كما قال تعالى: {فاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35]، أي: كما صبر الرسل من قبلك فلست أقل منهم شأناً، قال تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} [الأحقاف:35]، فهذه الدنيا التي يراها الإنسان طويلة عريضة، ويراها زمناً طويلاً، ويرى فيها التكذيب والمحاربة لله سبحانه وتعالى ولرسوله عليه الصلاة والسلام فـ {يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:35]، أي: من العذاب، و {يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:35] أي: يوم الحساب، كأنهم ما لبثوا في هذه الدنيا إلا ساعة، قال تعالى: {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون:113] قال تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ} [الأحقاف:35]، أي: هذا بلاغ وإنذار من الله عز وجل. {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} [الأحقاف:35]، أي: لا يهلك إلا الإنسان الفاسق الذي خرج عن الإيمان وعن طاعة الرحمن وعن دين ربه سبحانه وتعالى، فهو الذي يستحق العذاب. فطمأن الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم وأمره بالصبر، فصبر النبي صلوات الله وسلامه عليه، وقد أمره الله عز وجل بالصبر في السور المكية وفي السور المدنية فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200] وهذه في سورة آل عمران وهي مدنية.

فضل الصبر

فضل الصبر وأما عن فضل الصبر فيقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (ما أعطي عبد عطاء خيراً له ولا أوسع من الصبر)، فالله يرزق العبد الكثير من فضله، ومن أعظم ما يعطيه الله عز وجل للعبد الصبر، فيتجلد لما ينزل به من عند الله سبحانه ويصبر، ويطيع الله سبحانه ولا يعصيه ويصبر على الآلام والأوجاع، وعلى أذى الكفار والمشركين، وعلى الدفاع عن هذا الدين، فيدافع عنه ويجاهد أعداءه ويصبر في ذلك. ومما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل الصبر أيضاً. قوله: (إذا أحب الله قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط)، فيبتليهم الله عز وجل بما يشاء ليرفع درجاتهم ويكفر خطاياهم ويعطيهم من فضله سبحانه، فإذا رضي الإنسان عن ربه سبحانه وصبر فله الرضا. وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم أعظم الراضين عن ربه سبحانه وتعالى، فكان يصبر ويرضى، ففي يوم أحد لما هزم المسلمون هزيمة شديدة وصعبة وقتل فيها عمه حمزة وبقرت بطنه رضي الله تبارك وتعالى عنه، ورأى صلى الله عليه وسلم في أصحابه قتلاً شنيعاً صعباً، فعندما انتهى القتال قال: (قوموا نحمد الله، فأقام أصحابه وراءه صفاً، وقام حامداً ربه سبحانه وتعالى بمحامد ذكرها صلوات الله وسلامه عليه، فقال: لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت)، وذكر كلاماً كثيراً صلوات الله وسلامه عليه، فحمد ربه سبحانه وتعالى ثم تعوذ بالله سبحانه وتعالى من الخوف يوم القيامة ومن الفزع الأكبر ومن يوم العيلة ومن غيرها. فيحمد ربه وهو في موقف الضعف وهو في موقف الهزيمة، فقد كان يحمد الله على كل حال ليعلم المؤمنين ألا يتسخطوا على ربهم أبداً. وقال صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)، وهذا كما في الحديث السابق: (فمن رضي فله الرضا). فالإنسان إذا نزلت به المصيبة إما أن يصبر صبر الكرام، وإما أن يسلو سلو البهائم، فالبهيمة عندما تنزل بها المصيبة تصرخ مدة ثم تسكت، فإذا كان الإنسان يصرخ كذلك إذا نزلت به البلية ثم في النهاية يسكت فقد أشبه البهيمة، وأما إذا تصبر وانتظر أمر الله سبحانه وقال: يا رب يا رب، وطلب الفرج من الله عز وجل فهذا صبر الكرام، فإما أن يصبر صبر الكرام وإما أن يسلو سلو البهائم، ومن رضي عن الله فله الرضا، أي: يرضى الله سبحانه وتعالى عنه، وإذا رضي الله عنه جعل قلبه مليئاً بالرضا. وكم رأينا من بلاء ينزل بالصالحين فيصبرون الصبر العظيم، وأعظم من صبر أيوب على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فقد أعطاه الله عز وجل المال فصبر وحمد الله، ثم أخذ منه المال والصحة والولد فصبر وحمد الله سبحانه وتعالى، واستمر ثمان عشرة سنة في البلاء، فجعله الله آية للخلق في الصبر العظيم، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهؤلاء، قال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35]، وقال تعالى: {اصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [غافر:77]. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة غافر [79 - 85]

تفسير سورة غافر [79 - 85] نعم الله سبحانه على عباده كثيرة، وآياته عظيمة ومشاهدة في خلقه، ولذلك أمر الله تعالى بالسير في الأرض والنظر في آثار من خلوا من قبل للعظة والعبرة، ومن أنكر آيات الله فلينظر في هلاك من قبله من الأمم الذين هم أشد قوة وآثاراً، ومع ذلك لم ينفعهم ذلك لما جاءهم بأس الله سبحانه؛ لأنهم فرحوا بما آتاهم الله واستكبروا وجحدوا، وكفروا بالله سبحانه، وهكذا كل من كفر بالله وعصاه فعاقبته وخيمه في الدنيا والآخرة.

تفسير قوله تعالى: (الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها)

تفسير قوله تعالى: (الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة غافر: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ * وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غافر:79 - 85]. في هذه الآيات الأخيرة من هذه السورة الكريمة سورة غافر يخبرنا الله سبحانه وتعالى عن دلائل قدرته ووحدانيته، وعن صنعه بالقرون السابقة، ما الذي صنعوه؟ وكيف صنع الله عز وجل بهم؟ فيرينا هذه الآيات حتى لا يكون للناس على الله حجة بعد ما بين ووضح في كتابه سبحانه. قال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) آية من آيات الله سبحانه أن سخر لكم بهيمة الأنعام، وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج: من الضأن اثنين، ومن المعز اثنين، ومن الإبل اثنين، ومن البقر اثنين، هذه بهيمة الأنعام من الإبل والبقر والغنم، منها الذكور ومنها الإناث، تستفيدون منها من أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين، منها تأكلون وعليها تحملون، وعلى الفلك أيضاً تحملون. قال الله: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ) أي: خلق لكم الله عز وجل الأنعام وجعلها لكم لمنافعكم، ولمعايشكم، لتأكلوا منها، ولتركبوا عليها، فمن الأنعام ما تركبون عليها، وهي الإبل خاصة، قال تعالى: (وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) أي: من الإبل وغيرها، فبهيمة الأنعام تأكلون منها، وتنتفعون بألبانها، وتنتفعون بلحمها وبنسلها.

تفسير قوله تعالى: (ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم)

تفسير قوله تعالى: (ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم) قال تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [غافر:80] فجعل الله عز وجل لكم فيها منافع، تنتفعون للتجارة بها، وتنتفعون بأخذ أصوافها وأوبارها وأشعارها، وأخذ كسائكم من أصوافها وغير ذلك، وبأن تصنعوا بيوتاً ترحلون عليها في يوم ضعنكم وترحالكم، وتنتفعون منها منافع كثيرة، قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]. قال تعالى: (وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ) أي: لتقطعوا عليها مسافات واسعة وأراضي شاسعة، تريدون أن تسافروا من قطر إلى قطر لحاجة في نفوسكم وفي صدوركم، فتركبون عليها فتوصلكم، وتقطع بكم الفيافي والصحراء، وتسير بكم من بلاد إلى بلاد؛ لتبلغوا عليها ما تحتاجونه من أشياء، وما تهتمون لأمره وتكنونه في صدوركم، ولتبلغوا عليها حاجة قد لا تخبرون بها الناس، ولكن هي في صدوركم، والله عز وجل يبلغكم بذلك. قال تعالى: (وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) أي: ليست وحدها فقط التي تركبون عليها، ولكن أيضاً كما جعلها في البر جعل في البحر الفلك، وسخرها لكم، وصنعتم السفن وبنيتموها وركبتموها وانتقلتم عليها من مكان إلى مكان بفضل الله سبحانه، فهذه من نعم الله سبحانه. والإنسان ضعيف، ومع ذلك سخر الله عز وجل له هذا الحيوان القوي، ولو شاء الله عز وجل لجعل الحيوان شرساً ليس أليفاً، ولجعله نافورة لا يطيع، ولكن الله سبحانه بفضله وبكرمه يسره لكم، وذلل لكم هذه الأشياء، ويرينا ربنا سبحانه في هذا الكون أشياء أخر، حتى لا يتطاول الإنسان ويقول: أنا أقدر على كل شيء، يريه من خلقه سبحانه ما لا يقدر الإنسان عليه، يريه الأسد، ويريه النمر فلا يستطيع الإنسان أن يركبه أو يسافر عليه من مكان إلى مكان، لا يقدر مهما روضه، فالإنسان لا يزال خائفاً منه، فتراه يأخذ الأسد ويخلع أسنانه، ويجعله في السرك ليلعب به، ويري الناس أنه قوي، وفجأة يأتي الأسد على رقبته ويعضها، أو يأكل الإنسان فيخيف صاحبه، ويرينا الله سبحانه وتعالى آياته. فليس كل شيء في الكون تقدر عليه أو تقدر على ترويضه، ولكن الله سبحانه هو الذي يسخر ما يشاء، فسخر بهيمة الإنعام لكم لتأكلوا منها ولتركبوا عليها، وجعل لكم فيها من الحرث ومن الزرع ما تستفيدون به، فهذا من فضله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (ويريكم آياته فأي آيات الله تنكرون)

تفسير قوله تعالى: (ويريكم آياته فأي آيات الله تنكرون) قال تعالى: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ} [غافر:81] كما جعل لكم الفلك في البحر ويخلق ما يشاء سبحانه وتعالى، وعلم الإنسان ما لم يكن يعلم، وعلمه كيف يصنع المركب، وكيف يصنع السيارة، وكيف يصنع الطائرة، وكيف يصنع الصاروخ، وكيف يصنع مركبة الفضاء، يعلم الله عز وجل عباده ويفتح عليهم من فضله، ويريهم نعمه عليهم تبارك وتعالى. قال تعالى: {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:8]، فالذي خلق هو الله سبحانه، والذي خلقك هو الله سبحانه، والذي دلك على ما تصنعه وعلى ما تفكر فيه هو الله سبحانه وتعالى، فلا تغتر بقوتك، ولا تغتر بأنك استطعت أن تصنع الصاروخ، وتصعد إلى الفضاء، فالذي أمكنك من ذلك هو الله سبحانه، قال تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:33 - 34]، فعندما يتطاول الإنسان ويقول: أنا أفعل، فربنا سبحانه يريه، ويحرق له مركبة الفضاء، فلا تصل إلى المكان الذي يريد. قال تعالى: (وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ) فهو الذي يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد، فإذا علمكم من فضله فاحمدوه سبحانه واشكروه، ولا تنسبوا النعمة إلى أنفسكم، بل انسبوها إلى خالقها وصاحبها وهو الله سبحانه الذي يريكم آياته. قال تعالى: (فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ) أي: ما الذي تنكرونه من آيات الله سبحانه؟ وما الذي تزعمون أن الله لم يخلقه سبحانه وتعالى؟ أو أن غير الله شاركه في ذلك؟! حاشا له سبحانه وتعالى، وأي نعمة من نعم الله تظنون أن الله عز وجل جعلكم أنتم شركاء له فيها؟ قال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام:136]. هؤلاء المشركون بإفكهم وباطلهم وكذبهم وتخرصهم على الله سبحانه قسموا بهيمة الأنعام، قالوا: هذه لله بزعمهم وهذه لشركائنا، فالله عز وجل هو الذي خلق الجميع، وهو الذي أباح لكم أن تأكلوا هذه الأشياء، وهو الذي حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير، فمن الذي جعل هذه الميتة في هذه الحالة حلالاً وهذه الميتة حراماً؟ ومن الذي جعل ما في بطون هذه الأنعام حلالاً للذكور دون الإناث وهذه يشترك فيها الجميع؟ من الذي قسم هذه التقسيمات؟ من الذي شارك الله في ملكه حتى يحكم في هذه الأشياء؟ وأي آيات الله تنكرون أنه خلقها؟ ومن هذا الذي يخلق غير الله سبحانه، قال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل:17 - 18].

تفسير قوله تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم)

تفسير قوله تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم) قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ} [غافر:82] يأمر الله عز وجل عباده أن يتفكروا ويمشوا في الأرض، ويسيروا فيها، قال تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:15] وتفكروا في نعم الله وفي آياته سبحانه. قال تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي: كيف كانت نهاية السابقين، وهؤلاء كانت آخرتهم ماذا؟ كيف كانت العاقبة والنهاية لهؤلاء المكذبين؟ قال تعالى: (كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً) أي: كانوا أكثر من هؤلاء القرشيين الذين كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم، فمن السابقين قوم عاد، وقوم نوح، وقوم صالح، فأين ذهب هؤلاء الذين كانوا كثرة كاثرة؟ أين ذهب فرعون وجنوده وقومه؟ قال سبحانه: (كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ) أي: كانوا عدداً ضخماً جداً، قال تعالى: (كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ) [غافر:82]، أي: كانت قوتهم أشد، وانظر إلى عاد {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} [الفجر:7 - 8] فقد كانوا طوال الأجساد عراضها، أقوياء في بنيانهم، قال تعالى: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} [الفجر:9] أي: نحتوا الصخر فصنعوا منه بيوتاً، وكانت بيوتهم داخل الجبال منحوتة، فضاعت هذه البيوت وتهدمت، وأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم، وترك الله المساكن آية وعبرة حتى يقال: هنا كان قوم ثمود الذين صنعوا هذه البيوت من الجبال، فذهب قوم ثمود، وبقيت البيوت لتدل على أن الله أفنى هؤلاء وأذهبهم، ولتدل على قوته سبحانه وتعالى وفعله بمن عصى. قال تعالى: (كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ) أي: جعلوا الآثار في الأرض وهم يتكبرون على الخلق، قال الله سبحانه في قوم عاد: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:128 - 131]. فقوله تعالى: (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً) أي: في كل مكان من أماكن بلدانكم وعلى كل طريق تبنون قصراً شاهقاً عظيماً لا تحتاجون إليه، ولكن ليرى الناس قوتكم وقدرتكم على ذلك، زخارف وزينة، وإظهار القوة والاستكبار، تبدون شيئاً عظيماً، نصباً عالياً؛ ليرى الناس أنكم على قدرة عظيمة. وقوله تعالى: (تَعْبَثُونَ) أي: عبثاً ولعباً ولهواً، ليس لاحتياجهم لهذه القصور، ولا لهذه الأعمدة العالية، ولكن عبثاً، فقوله: (تَعْبَثُونَ) أي: تلعبون. قال تعالى: (وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) أي: قصوراً عظيمة، أو منابع للمياه عظيمة تجمعون فيها المياه، حتى تروا الناس قدرتكم على ذلك، فتقولون: نحن الذين عندنا الماء، ونحن الذين نفعل هذا الشيء، فمن الذي أعطاكم هذه القدرة سوى الله سبحانه الذي أوجب عليكم أن تعبدوه، فقوم عاد تركوا عبادته، وعبدوا غيره، وأشركوا بالله سبحانه، ورفضوا كلام رسله، فعاقبهم الله سبحانه. قال تعالى: (فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) إنها دعوة للتفكر في آثار السابقين، فهؤلاء تركوا هذه الآثار التي صنعوها بطراً وأشراً، وارتفاعاً وكبراً، فأذاقهم الله عز وجل العذاب في الدنيا فضلاً عما يذوقونه في الآخرة، قال تعالى: (فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (ما) إما نافية بمعنى: الجحد، أي: لم يغن عنهم ما كانوا يكسبون، أو بمعنى: الاستفهام فيها، (فما أغنى عنهم) أي: فأي شيء أغنى عنهم هذا الذي كانوا يكسبونه؟ بمعنى: ماذا أغنى عنهم هذا الذي صنعوه؟ فما كانوا يكسبون من أموال، ومن عتاد، ومن قصور، ومن أعمال، ومن أولاد، ومن أتباع، أين ذهبت هذه الأشياء؟ هل انتفعوا بها؟ فأي شيءٍ أغنت عنهم هذه التي كسبوها؟ و A ما أغنى عنهم، أي: لم يغن عنهم ذلك شيئاً، بل لما جاءهم الهلاك أهلكهم الله وعذبهم سبحانه، وذهبوا ولم يرجعوا.

تفسير قوله تعالى: (فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم)

تفسير قوله تعالى: (فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم) قال سبحانه: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [غافر:83] أي: لما جاءت الرسل هؤلاء المكذبين؛ قوم لوط، وقوم عاد، وقوم ثمود، وأصحاب الأيكة، وفرعون وجنوده، وغيرهم ممن خلق الله سبحانه، فرحوا بما عندهم من العلم، وعلم هؤلاء إنما هو الجهل، قال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم:7] هذا هو ما عندهم من العلم، فهم لا يعلمون شيئاً عن الدار الآخرة، ولا يعلمون شيئاً عن ربهم إلا ما يفترونه ويكذبونه، أما أن تأتيهم الرسل وتنبئهم وتخبرهم فيرفضون ويفرحون، ويقولون: نحن الذين عندنا العلم، تحذرهم الرسل من الموت ومن البعث فيقولون: لا يوجد بعث، قال تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} [الجاثية:24]؛ لذلك ذكر الله عز وجل هؤلاء أنهم عن الآخرة هم غافلون، وأنهم لا يعلمون فهم (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) ولا يعلمون شيئاً عن الآخرة، إنما غاية علمهم في الدنيا، يعلمون في الدنيا ما يصنعونه ويأكلونه ويشربونه، ولا يتجاوز علمهم الحياة الدنيا، فهذا علمهم الذي هو جهل فيهم، لا يعلمون شيئاً عن ربهم، ولا عن قدرته سبحانه، فيكذبون رسلهم؛ ولذلك أخبر سبحانه أنهم فرحوا بما عندهم من العلم، كالإنسان الجاهل إذا أتاه عالم يعلمه شيئاً يقول له: أنا أعلم كل شيء، تقول له: تعال أحفظك القرآن أو تعال أعلمك أن تقرأ القرآن، فأنت لا تعرف أن تقرأ القرآن، فيقول لك: أنا أقرأ أفضل منك، وكل إنسان يجهل شيئاً يعادي هذا الذي يجهله، وقد قيل: ومن جهل شيئاً عاداه. كذلك هؤلاء ليس عندهم علم، فالذي عندهم هو الجهل؛ ولذلك عادوا أنبياءهم عليهم الصلاة والسلام، وفرحوا بما عندهم من العلم في زعمهم من علم الدنيا، وهو الجهل بالله سبحانه وتعالى. قال تعالى: (وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون)، لقد كانوا يستهزئون بعذاب الله سبحانه وبقدرته، فحاق بهم أي: نزل بهم نزولاً وإحاطة، فقوله: (وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون) أي: أحاط بهم العذاب فلم يفلتوا من عذاب الله سبحانه، ونزل بهم قدر الله سبحانه، فلم يقدروا على الهروب من ذلك.

تفسير قوله تعالى: (فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده)

تفسير قوله تعالى: (فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده) قال الله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} [غافر:84] أي: لما جاء العذاب من عند رب العالمين سبحانه على هؤلاء ورأوا بأسنا، والبأس: هو العذاب، وقدرة الله سبحانه وتعالى عليهم، خافوا ورجعوا إلى أنفسهم فتابوا، قال تعالى: (قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) قالوا مثل فرعون لما جاءه الهلاك والعذاب وهو فرح بنفسه وبجنوده، ولما دخل في اليم وانطبق عليه البحر قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90]، فقال تعالى: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:91] فلا تنفعه التوبة الآن، وكذلك هؤلاء، قال تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس:98]، فالقرية الوحيدة والقوم الوحيدون الذين نفعتهم توبتهم عند الله عز وجل هم قوم يونس، أما غيرهم من الأقوام فلن تنفعهم توبتهم، وقوم يونس لما خرج نبيهم من بلدهم وظنوا أن العذاب آتيهم رجعوا إلى الله قبل أن يأتي العذاب، فلم يأت العذاب، فقد وجدوا أن نبيهم خرج وتركهم فقالوا: سوف ينزل العذاب علينا، سنتوب إلى الله عز وجل، فتابوا فنفعتهم توبتهم. فالإيمان إنما يكون غيباً، أما إذا كان العذاب مشاهداً ثم يقول: آمنت الآن، فلا ينفعه إيمانه الآن، فالله سبحانه يقول: (فَلَمَّا رَأَوْا) أي: عاينوا، (بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) أي: رجعنا إلى التوحيد، وكفرنا بما كنا به مشركين، كفرنا بالأصنام وبالأوثان، وبالآلهة التي عبدناها من دون الله.

تفسير قوله تعالى: (فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا)

تفسير قوله تعالى: (فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا) قال الله تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غافر:85] أي: لما جاء البأس وجاء العذاب من عند الله لم ينفعهم الإيمان الآن. قال تعالى: (سُنَّةَ اللَّهِ) أي: سن الله سنة وجعلها عادة مطردة من عوائده سبحانه، ومن سيرته في خلقه وحكمه وأمره فيهم سبحانه. قال سبحانه: (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ) والتقدير: سن الله سنته سبحانه، فنصبت على المصدرية، أو نصبت على التحذير، أي: احذروا سنة الله في خلقه سبحانه وتعالى. إذاً: هذه كانت سنة الله وعادته المطردة في خلقه أنه يملي، فإذا أخذ لم يفلت، قال تعالى: (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ) وسنته أنه إذا جاء العذاب لا ينفع الإيمان بعد مجيء العذاب لمن كان يكفر قبل ذلك. قال تعالى: (الَّتِي قَدْ خَلَتْ) أي: مضت في عباده. قال تعالى: (وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ) أي: حين نزول العذاب خسر هنالك الكافرون، أي: هلك من جحدوا ربهم سبحانه، ومن أشركوا بالله سبحانه، فأهلكهم فلم ينفعهم إيمانهم. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

فصلت

تفسير سورة فصلت الآية [1] سورة فصلت من السور المكية، وفيها التنويه بمنزلة القرآن الكريم، وأنه منزل من عند رب العالمين سبحانه، وأن العرب عجزوا عن أن يأتوا بسورة من مثله، وفي هذه السورة ذكر عاقبة المكذبين يوم القيامة، وذكر عاقبة أهل الإيمان.

مقدمة بين يدي سورة فصلت

مقدمة بين يدي سورة فصلت الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة فصلت بسم الله الرحمن الرحيم: {حم * تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ * قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [فصلت:1 - 8]. هذه السورة هي الحادية والأربعون من كتاب الله عز وجل، وهي سورة فصلت، وسورة فصلت واحدة من سبع سور بدأت بالحرفين (حم) أولها سورة غافر التي ذكرناها قبل ذلك، وآخرها سورة الأحقاف، وهذه السورة من السور المكية، ومجموعة السورة الحواميم يطلق عليها عرائس القرآن؛ لما فيها من جمال، وما فيها من حكم، وما فيها من آيات تخاطب المشركين بأمور تدل على وجود الله سبحانه، وأنه الخالق الذي يستحق وحده أن يعبد، وتناقش هؤلاء وتذكرهم ما حل بالسابقين من عذاب، وتذكرهم بالدار الآخرة وما فيها من نعيم مقيم أو من عذاب أليم وغير ذلك. وتسمى هذه السورة بسورة فصلت، لأن الله عز وجل ذكر في أولها: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} [فصلت:3]، وتسمى بسورة السجدة أو سورة (حم السجدة) يعني: السورة التي في أولها الحرفان (حم) والتي فيها السجدة، فهي الوحيدة من الحواميم التي فيها سجدة، كذلك تسمى بسورة المصابيح؛ لقوله تعالى: {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [فصلت:12] وكذلك ذُكر أنها تسمى بسورة (الأقوات) لأن الله عز وجل ذكر فيها: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} [فصلت:10] يعني: قدر في هذه الأرض الأقوات لأهلها فيها، كذلك هذه السورة تسمى بسجدة المؤمن، وسورة المؤمن هي سورة غافر، وكأنها السجدة التي بعد سورة المؤمن. هذه أسماء هذه السورة. وهذه السورة عدد آياتها اثنان وخمسون آية على العد البصري والشامي، وثلاثة وخمسون على العد الحجازي، وأربعة وخمسون على العد الكوفي، وكما ذكرنا قبل ذلك أن الخلاف في العد إنما هو بحسب الوقوف، فالبعض يعتبر هذه رأس آية فيقف عليها. فيعدها، فالخلاف سيكون في الآية الأولى منها (حم) فسيعد الكوفيون هنا أن هذه رأس آية، فعند الكوفيين أن هذه السورة أربعة وخمسون، فيعتبرون (حم) هذه رأس آية، وعند غيرهم تعتبر هي وما بعدها آية واحدة، وكذلك قول الله عز وجل: {فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:13] فالوقف هنا عده الكوفيون رأس آية، وكذلك عده الحجازيون، وغيرهم اعتبر هذه وما بعدها آية واحدة، فالخلاف في العد هو خلاف في موضع الوقف هل هنا رأس آية أو ليس رأس آية؟ وقد قدمنا قبل ذلك أن سور الحواميم نزلت على ترتيب وجودها في المصحف، فأول ما نزلت من الحواميم سورة غافر وآخر ما نزل من الحواميم سورة الأحقاف، وكلها من السور المكية كما قدمنا قبل ذلك، فهذه السورة على الترتيب في النزول تعتبر السورة الحادية والستون، لكن في ترتيبها في عد المصحف تعتبر الحادية والأربعين.

أغراض سورة فصلت

أغراض سورة فصلت وهذه السورة لها أغراض، والسور المكية أهم أغراضها: إثبات توحيد الله سبحانه تبارك وتعالى، ومناقشة أمر العقيدة والاستدلال على ذلك بما يراه الإنسان في هذا الكون العظيم من آيات تدل على الله سبحانه تبارك وتعالى، وعلى أنه وحده الذي يخلق فلا يستحق أن يعبد أحد سواه سبحانه تبارك وتعالى. فأغراض هذه السورة منها التنويه بشأن القرآن العظيم، كما في قوله عز وجل: {حم * تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} [فصلت:1 - 3] فذكر أن هذا القرآن نزل من عند رب العالمين الذي فصله سبحانه، فالله الرحمن الرحيم العزيز الحكيم سبحانه تبارك وتعالى هو الذي فصل لنا هذا القرآن، وذكر أنهم يعجزون عن معارضة هذا القرآن العظيم، وذكر في هذه السورة هدي هذا القرآن العظيم، وأنه هدىً للناس، وأنه معصوم من أن يتخلله الباطل، وأن الله عز وجل يؤيد النبي صلوات الله وسلامه عليه بما أنزله عليه من هذا القرآن العظيم الذي يبين للناس الشريعة والمنهاج. كذلك يذكر لنا كيف تلقى المشركون هذا القرآن، قال عز وجل: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت:5] فتلقوا هذا القرآن بالرفض؛ ورفضوه لأنهم خافوا من النبي صلى الله عليه وسلم، وحسدوا النبي صلوات الله وسلامه عليه، وقد رأوا أمامهم الآيات البينات، ولكن لم يعتبروا ولم يتعظوا غيرة وحسداً، كما قال عز وجل عنهم: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] فحسدوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: لماذا أنت ينزل عليك القرآن؟! فكان الرد من هذا الباب ليس بكونهم لم يفهموا القرآن، بل فهموا وعلموا، ولذلك قال الله عز وجل: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت:3] فهم يعلمون، وهم يفهمون لغة هذا القرآن، ويعلمون ما هي الفصاحة، وكيف تكون، وما هي البلاغة، وكيف تكون، فإن هذا اللسان العربي لسان واضح مبين، لذلك لم يريدوا أن ينقضوا شيئاً من هذا القرآن في بلاغته وفصاحته وجماله وحلاوته، وإنما كان أقصى ما يقولونه: ما معنى أنه نزل على النبي صلوات الله وسلامه عليه دون غيره؟ كذلك يخبرنا الله عز وجل عن إبطال مطاعن هؤلاء المشركين في هذا القرآن العظيم، ويذكرهم ربنا سبحانه بأنه نزل بلغتهم، فإنهم قالوا: إن القرآن تعلمه النبي صلى الله عليه وسلم من بشر آخر، فأخبرنا الله عز وجل أن هذا الذي يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم تعلم منه لسانه أعجمي، وهذا القرآن لسان عربي مبين، فلو نزل هذا القرآن بلسان أعجمي لقالوا: أأعجمي وعربي؟! أي: كيف يكون القرآن بلسان أعجمي ونحن عرب نتكلم باللغة العربية، نريده عربياً، فلما نزل لهم باللسان الذي يفهمونه إذا بهم يعرضون، فأي عقول هذه؟ وهم شهدوا على أنفسهم فقالوا: في آذاننا وقر، وقلوبنا فيها أكنة مما تدعونا إليه، كما قال عز وجل حاكياً عنهم: {وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت:5]. كذلك يذكر الله عز وجل في هذه السورة بما يكون في هذه الدنيا من عذاب وعقوبة، كالذي حدث لقوم عاد وثمود، فقال: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:13] وهم عرفوا ما الذي حدث بهؤلاء الأقوام السابقين، فكانوا يخافون من ذلك فيناشدون النبي صلى الله عليه وسلم الله ويناشدونه الرحم ألا يصنع بهم ذلك، ومع ذلك لم يدخلوا في دينه صلوات الله وسلامه عليه! وذكرهم بيوم القيامة وكيف أنهم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، وتشهد عليهم جلودهم يوم القيامة، وأنهم يقولون لجلودهم ولأعضائهم: {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فصلت:21]. كذلك يذكر لنا سبحانه ما يكون في يوم القيامة من مناقشات بين الكفار وبين من طلبوا من الله عز وجل أن يريهم هؤلاء الذين أضلوهم في هذه الدنيا وأضل بعضهم بعضاً، فلما أفاقوا على الموت وأفاقوا على القيامة وأفاقوا على النار قالوا: {رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ} [فصلت:29] يقولون ذلك يوم القيامة وهم في النار، يقولون لله عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا} [فصلت:29] أي: ندهسهم بأقدامنا، وندوس عليهم بأقدامنا مثل ما عملوا فينا وورطونا في الدنيا وأدخلونا النار، فيبكون وهم في جهنم ويتمنون العودة إلى الدنيا، ولكن لا رجوع ولا إجابة لهؤلاء، ويتمنى بعضهم لبعض عذاب الضعف، فيقول الله: {لِكُلٍّ ضِعْفٌ} [الأعراف:38] أي: كلكم تستاهلون المضاعفة من العذاب، والعياذ بالله! كذلك ذكر لنا كيف كانوا في الدنيا يعرضون، ويوم القيامة يتبرأ بعضهم من بعض، كانوا في الدنيا يقولون: {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26] أي: لا تسمعوا لهذا القرآن، وحين يقرأ عليكم القرآن الغوا وتكلموا وباعدوه؛ بحيث ما أحد ينتبه له. كم كادوا للنبي صلى الله عليه وسلم، ورد الله كيدهم في نحورهم، ونشر دينه، ونصر نبيه صلوات الله وسلامه عليه، وأخزى هؤلاء الكافرين. كذلك يخبرنا عن المؤمنين السعداء نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم فيقول: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30] انظر الفرق بين المؤمن وبين الكافر، فالكافر في النار وفي العذاب وفي الهوان وفي الذل، والمؤمن تتنزل عليه الملائكة في حال وفاته، وتطمئنه وتقول له: لا تخف؛ فأنت راجع إلى رب غفور رحيم، لا تحزن أنت مكانك في الجنة ولن تدخل النار، قال عز وجل: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30 - 32] إلى غير ذلك مما ذكر الله عز وجل من الآيات وما يسر الله في هذه السورة الكريمة.

معنى الحروف المقطعة

معنى الحروف المقطعة بدأ الله سبحانه تبارك وتعالى هذه السورة بالحرفين {حم}، وهناك سور كثيرة في القرآن بدأت بهذه الأحرف، وتسمى الحواميم، وهي سبع سور، وغيرها من السور ذكر الله عز وجل: (الم، الر، المر، المص، كهيعص)، وذكر (ن، ق، ص)، فيذكر الله عز وجل آيات يبدؤها بهذه الحروف التي يقيناً لها حكمة من الله سبحانه تبارك وتعالى، وهي سر من أسرار هذا القرآن العظيم، وهي من حكم القرآن أن ينزل فيه في أوائل السور ذلك، والعلماء كل منهم يدلي بدلوه في ذلك، وإن كان في النهاية هذه من أسرار القرآن، ولكن يذكرون أشياء من الحكم التي يصلون إليها فيقولون مثلاً: إن هذه الحروف المكررة في أوائل السور تبلغ أربعة عشر حرفاً، وحروف العربية ثمانية وعشرون حرفاً، قالوا: نصف حروف اللغة العربية موجودة في أوائل هذه السورة، وهذه الحروف المذكورة هي أشرف من الحروف المهجورة غير المذكورة، ولذلك يقولون: هذه الحروف الأربعة عشر مشتملة على أصناف أجناس الحروف، ونحن في نظرنا أن الحروف كلها حروف، ولكن علماء اللغة العربية وعلماء التجويد وغيرهم يفرقون بينهما، فيقولون: الحروف منها الحرف المهموس ومنها المجهور، ومنها حروف اللين ومن الحروف الشديدة، ومنها الحروف المطبقة ومنها الحروف المفتوحة، والمستعلية والمنخفضة، وحروف القلقلة. بدأ الله عز وجل في هذه السور بهذه الحروف، فمنها ما هو مهموس ومنها ما هو مجهور ومنها ما هو من حروف الرخاوة، وغير ذلك، فالله عز وجل انتقى من هذه الحروف نصف حروف اللغة العربية فوضعها في أوائل بعض سور القرآن؛ لحكمة من الحكم. وهذه الحروف من العلماء من قال: لو جمعناها وكونا منها جملة بعد أن نأخذ المكررات منها، فنظروا وكونوا جملة عجيبة وهي: (نص حكيم قاطع له سر)، هذه الحروف التي تكررت أخذوا منها المكرر وأخذوا الحروف الغير مكررة فطلعت منها هذه الجملة التي تدل على هذا المعنى: أن هذا نص حكيم قاطع له سر، فهي من أسرار هذا القرآن! والعلماء يذكرون أنه بدأ بهذه الحروف حتى يري هؤلاء الكفار أن هذا القرآن من جنس هذه الحروف التي تتكلمون بها، من جنس اللغة العربية التي أنتم تنطقون بها، فأتوا بمثل هذا القرآن الذي هو من هذه الحروف، فعجزوا عن ذلك، والعرب قوم إذا تحداهم إنسان يقبلون التحدي ويعاندون، فلما جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم الذي هم يحسدونه وتحداهم صلى الله عليه وسلم عجزوا، وما عرفوا كيف يردون عليه صلى الله عليه وسلم، وهذا دليل على أنهم عجزوا أن يأتوا بمثل هذا القرآن، ولم يقدروا على أن يأتوا بمثله. وهذا التحديث كان للعرب الذين هم أهل اللغة العربية وأهل البلاغة وأهل الفصاحة، وأما الجهلة الحمقى من النصارى والمجرمين وغيرهم فهم يجهلون اللغة العربية، ويجيء الجاهل الأحمق الغبي منهم ويقول: أنا سآتي بمثل هذا القرآن، ويتكلم بكلام تافه ليس له معنى، ويقول: أنا قلت هذا الشيء مثل هذا الشيء، فيلقى هو وكلامه في مزبلة؛ فلا ينظر إليه أحد؛ لأنه أصلاً ليس من أهل العربية حتى يتكلم بذلك، وليس هذا الذي أتى به مثل هذا القرآن، بل هو كلام فارغ، لكن العرب قوم يعلمون كما وصفهم الله عز وجل بذلك، فهم يعلمون ما هي اللغة العربية، وما هي الفصاحة، وما هي البلاغة، وكان أحدهم إذا سئل: عرف الشيء الفلاني، يعرفه تعريفاً وجيزاً في كلمات قليلة تأتي بالمعنى الكبير، ويمكن أن البعض من الناس ينقده في هذا، فيقول: أقلني، لا أقصد كذا، فيلغي الذي قاله ويأتي بشيء ثان أقصر منه؛ لأنه يفهم اللغة العربية ويعرف ماهية البلاغة في الكلام، وماهية الفصاحة، أما الجاهل الذي لا يفهم ذلك مثل تلميذ في الابتدائي لا يفهم شيئاً، ولا يفهم اللغة العربية، لكن مثل أستاذ في اللغة العربية أو دكتور فيها فإنه حين ينظر يقول: مستحيل أن يقول إنسان: أنا سآتي بمثل هذا القرآن. ولو يحبس نفسه في البيت ثلاثة أشهر أو أربعة أشهر فإنه بعد ذلك سيخرج على الناس عاجزاً لم يأت بشيء، ولما يتطاول بعضهم ويقول شيئاً يقول كلاماً يضحك الناس عليه فيما يقوله، فهو من أهل الفصاحة ومن أهل اللغة ولكنه عجز أن يأتي بمثل هذا القرآن، ولذلك قالوا: لن نأتي بمثله، ولكن سنقول فيه: هذا شعر، ويقوم يكذب بعضهم بعضاً: أين أوزان الشعر؟ وأين التفعيلات التي فيه؟ هذا ليس شعراً، فيقولون: سنقول: هذا سحر، فيقال: ما هو السحر الذي في هذا الذي تلاه؟ أقصى شيء يصلون إليه أنهم يقولون: هو يفرق بين الولد وبين أبيه، فأبوه يبقى كافراً والابن يصير مسلماً، فيفرق بين الولد وأبيه، هذا هو الذي يقولونه في القرآن وهم يعرفون أنهم كذابون فيما يقولون، لذلك ربنا سبحانه تبارك وتعالى أخبر عن هذا القرآن أنه كتاب حكيم فقال: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:41 - 42] أي: نزل من عند رب العالمين من لدن حكيم حميد سبحانه تبارك وتعالى. واليهود كانوا ينظرون نظرة أخرى إلى القرآن وإلى هذه الحروف التي في أول القرآن، فيذهبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: ماذا نزل عليك من القرآن؟ فيقرأ لهم: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة:1 - 2] وعندهم حساب يسمونه بحساب الجمل، يأتون بالحروف ويجعلون لكل حرف رقماً، ويقسمونها على نسق: أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت إلخ ويقولون: الألف: واحد، والباء: اثنان، والجيم: ثلاثة، والدال: أربعة، والهاء: خمسة، والواو: ستة، والزاي: سبعة، ويجعلون لكل حرف رقماً؛ يعملون هذا الشيء من أجل أنهم يفترضون أنهم يعلمون الغيب، فيقولون: بناءً على كذا سنعرف العدد ونعرف أشياء من الغيب، وهذا من العلم المحرم، وهذا شيء حرام. فاليهود ذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليهم: {الم} فقالوا: الألف هذا حرف بواحد، واللام بثلاثين، والميم بأربعين، فنجمع واحداً وثلاثين وأربعين ينتج واحداً وسبعين، إذاً: عمر دعوتك سيكون واحداً وسبعين سنة، فيقول بعضهم لبعض: كيف نتبع رجلاً دعوته عمرها واحد وسبعون سنة؟ فيأتون يسألونه مرة أخرى: ماذا نزل عليك؟ فيقول لهم: {المص} [الأعراف:1] فيقولون: الألف بواحد واللام بثلاثين والميم بأربعين والصاد بسبعين فيكون المجموع مائة وواحداً وثلاثين، إذاً: لا نريد أن نتبعك؛ لأن عمر دعوتك قليل، وإذا قرأ عليهم: (الر) يقولون أيضاً: الألف بواحد واللام بثلاثين والراء بمائتين، فيكون المجموع مائتين وواحداً وثلاثين سنة، فمن أين أتوا بالمائتين وواحد وثلاثين؟ هذا كذب، ولا يحل أن يتكلم بهذا الشيء لا في دين ولا في دنيا. فقالوا في النهاية: لبس علينا، واليهود يعرفون يقيناً أنه نبي من عند رب العالمين، وشهد عليه ربنا سبحانه فقال: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ} [الأنعام:20] أي: يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [الأنعام:20] فكما أن أحداً لا يغلط بابنه فإنهم يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم، {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:146]. والمؤمنون يعرفون أن هذه الأحرف لها سر من الأسرار، وأن الله عز وجل أنزلها لحكمة من الحكم، فلا مانع أن يعرفوا البعض من هذه الحكم، ومنها أن هذا القرآن من جنس الحروف التي تتكلمون بها، فنتحداكم أن تأتوا بمثله، ولذلك الغالب أنه إذا ذكر شيئاً من هذه الحروف يذكر بعدها إشارة إلى القرآن، كما قال في أول البقرة: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة:1 - 2]، أي: القرآن، وقال: {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ} [آل عمران:1 - 3]، وهنا قال: {حم * تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت:1 - 3]. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة فصلت [2 - 4]

تفسير سورة فصلت [2 - 4] لقد أنزل الله سبحانه وتعالى القرآن على نبيه صلى الله عليه وسلم ليكون حجة على الكافرين والمعرضين عن الحق، فقد أنزله بلسان العرب ولغتهم، وتحداهم أن يأتوا بمثله فما استطاعوا، وسورة فصلت بدأها الله بـ (حم) مثل بقية الحواميم، ليبين عظمة كتابه، وقوة تعبيره، وجودة بلاغته، التي شهد لها أفصح العرب ممن عايش النبي صلى الله عليه وسلم من كفار قريش وغيرهم، ومع ذلك كذبوا وأعرضوا، وكأنهم لم يسمعوا ولم يعلموا.

تفسير قوله تعالى: (حم.

تفسير قوله تعالى: (حم. تنزيل من الرحمن الرحيم) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة فصلت: بسم الله الرحمن الرحيم. {حم * تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت:1 - 5]. بدأنا قبل ذلك في هذه السورة الكريمة سورة فصلت، وذكرنا كيف أن الله عز وجل بدأها مع سبع سور من كتاب الله عز وجل متوالية، من أول سورة غافر وحتى سورة الأحقاف، كلهن يبدؤهن الله عز وجل بحرفي حاء وميم (حم)، وهذه الحروف في هذا القرآن العظيم ذكر العلماء أن لها حكماً، وهذه الحروف سر من أسرار هذا القرآن العظيم، ولكن لا يذكر الله عز وجل في افتتاح السور حروفاً أو حرفاً أو حرفين إلا والغالب بعدها أن يشير إلى هذا القرآن العظيم، كما يقول تعالى هنا: {حم * تَنزِيلٌ} [فصلت:1 - 2] يعني: هذا القرآن نزله الله عز وجل من عنده. فقوله تعالى: ((تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)) أي: نزل القرآن من السماء. وكما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما بإسناد صحيح: أن القرآن نزل جملة إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ونزل منجماً على النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل الأمين، كلما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم أمر أو نزلت به حادثة أو احتاج إلى حكم من الأحكام نزل القرآن عليه يبين له ويفصل له ما يحتاج إليه؛ ولذلك قال تعالى هنا: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} [فصلت:3]، فقوله تعالى: ((فُصِّلَتْ)) أي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم منجماً، يعني: مقطعاً، آية آية، سورة سورة، فهي آيات تنزل على النبي صلى الله عليه وسلم ثم تنزل آيات غيرها وهكذا، وهذا معنى التنجيم، أي: نزل مقطعاً على حسب ما يحدث للنبي صلى الله عليه وسلم من حوادث. قال الله عز وجل: ((تَنزِيلٌ)) لأنه نزل من السماء. وقوله: {مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت:2] أي: من عند الله سبحانه الرحمن الرحيم، بمعنى: نزلت هذه الآيات من السماء التي تفيد علو الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، فهو العلي العظيم سبحانه، والكبير المتعال سبحانه وتعالى، وهو الذي استوى على العرش، وهو الذي فوق السموات، قال تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} [الملك:16]، وهو الذي ترفعون إليه أيديكم في الدعاء، كما ثبت في أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (كان يدعو فيرفع يديه إلى السماء فيدعو ربه سبحانه وتعالى)، فأخبر الله عز وجل أنه نزل الكتاب العظيم من عنده، وذكر صفتين له في اسمين من أسمائه الحسنى: الرحمن الرحيم.

من أسماء الله الحسنى الرحمن والرحيم والفرق بينهما

من أسماء الله الحسنى الرحمن والرحيم والفرق بينهما الرحمن اسم من أسماء الله عز وجل الحسنى التي اختص بها، قال الرحمن: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]، فلن تجد أحداً اسمه الرحمن مع الله عز وجل، فهو الرحمن وحده لا شريك له، ولذلك فإن الكفار أرادوا أن يفتروا على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنه يُعلم رجل من اليمامة اسمه: الرحمن، وقالوا: يأتي بالقرآن رحمان اليمامة، فكذبوا في ادعائهم، إنما الرحمن الواحد سبحانه، وما تسمى بهذا أحد سواه سبحانه وتعالى، فاختص بأنه الله، واختص بأنه الرحمن. أما الرحيم فهو اسم من أسمائه الحسنى سبحانه، وهي صفة جعل لخلقه أن يتصفوا بها، فالله يرحم من عباده الرحماء، كل إنسان رحيم من عباد الله عز وجل يرحمه الله، والراحمون يرحمهم الرحمن، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء). وأخبرنا الله سبحانه عن نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام أنه جعله رءوفاً رحيماً عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] ولكن الله عز وجل أعطاه رحمة من عنده، فقال: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران:159]. فقوله: ((فَبِمَا)) يعني: فبرحمة عظيمة من الله عز وجل جعلها في قلبك ((لِنْتَ)) أي: للمؤمنين، فأي رحمة عظيمة نزلت عليك وجاءتك من الله يتعجب من أمرها! فقد كان غاية في الرحمة والحنان صلوات الله وسلامه عليه، ولشدة شفقته على أمته صلى الله عليه وسلم جميعهم كاد يهلك عليه الصلاة والسلام من جزعه على كفرهم؛ ولذلك عاتبه الله عز وجل فقال: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6] أي: ستهلك نفسك من الأسف ومن الحزن عليهم بسبب عدم إيمانهم والله تعالى يقول: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران:144]، وأرسله الله نذيراً عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ * إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:23 - 24]. فالنبي صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين رءوف رحيم، قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]. وأخبر عن نفسه سبحانه فقال: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43]. إذاً: الله هو الرحمن الرحيم، والرحمن: صفة يختص بها سبحانه وتعالى، وهي صيغة مبالغة من الرحمة، ورحمة الله سبحانه وتعالى رحمة واسعة عظيمة؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (الله قسم رحمته مائة قسم، أنزل منها قسماً في الأرض، وترك عنده -سبحانه وتعالى- تسعة وتسعين قسماً من رحمته يرحم بها عباده يوم القيامة)، وهذا القسم الذي أنزله الله في الأرض يتراحم به الخلق جميعهم، كلهم يرحم بعضهم بعضاً، فيجعل الرحمة في قلب الوالدة، وفي قلب الوالد على ولده، باختلاف خلقه من الإنس ومن الجن ومن الحيوان ومن الطيور، فجعل في قلوبهم رحمة يرحم الأب ولده بهذا الجزء من الرحمة التي أنزلها الله سبحانه وتعالى، حتى إن الحيوان ذا الحافر ليرفع حافره عن ولده لئلا يصيبه، وهذا من الرحمة التي جعلها الله عز وجل. فإذا جاء يوم القيامة أضاف هذه الرحمة إلى تسعة وتسعين قسماً من رحمته، ورحم بها عباده يوم القيامة، فهو الرحمن الرحيم سبحانه وتعالى. والرحمن صيغة مبالغة والمعنى: ذو الرحمة العظيمة الواسعة العامة التي تعم جميع خلقه سبحانه تبارك وتعالى. فالرحمن فيها عموم وخصوص. والرحيم فيها عموم وخصوص أيضاً. فالرحمن: صيغة مبالغة من الرحمة العامة التي تعم الخلق جميعهم، فجعل في قلب كل واحد من خلقه شيئاً من الرحمة زادت أو قلت، في قلوب المؤمنين، وفي قلوب الكفار، وفي قلوب الحيوانات، وفي قلوب كل خلق خلقه الله عز وجل. كذلك يرحم الله عباده سبحانه، فالإنسان يرفع يديه إلى الله: يا رب يا رب، فيستجيب الله عز وجل له، يظلم الإنسان نفسه وغيره، فيقول المظلوم: يا رب -وقد يكون المظلوم كافراً- ويقول: يا رب فينتصر الله له ممن ظلمه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (دعوة المظلوم تصعد إلى السماء كالشرر ليس بينها وبين الله حجاب حتى وإن كانت من كافر). فالله هو الرحمن الذي رحم خلقه فأقام عليهم الحجة حتى يعرفوا الحق، فأرسل الرسل وأنزل الكتب لجميع خلقه، ليهديهم سبحانه وتعالى، وجعل فيهم العقول، وجعل فيهم الفطر، وجعل فيهم القلوب، فهذه صفة الرحمن تبارك وتعالى، فجعل للجميع ما يظهر لهم أن الله وحده هو الذي يستحق العبادة لا شريك له حتى يؤمنوا به؛ لأنه الرحمن. والرحيم: صيغة مبالغة فيها عموم وخصوص، فالعموم في الرحيم أن الله سبحانه وتعالى جعل الرحيم لنفسه اسماً له، وجعله صفة لخلقه. إذاً: الله عز وجل هو الرحيم، ومن خلقه من يكون رحيماً أيضاً، ولكن هناك فرق بين الله الذي سمى نفسه الرحيم وهي صفة تليق بعظمته سبحانه وبين من يتصف من خلقه بأنه رحيم، فالنبي صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين رءوف رحيم، وفرق بين رحمة الله العظيمة الواسعة ورحمة المخلوق المحدودة. والخصوص: أن الله سبحانه وتعالى رحيم بالمؤمنين، فقال عن نفسه سبحانه: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43]. إذاً: هي صفة لله عز وجل يختص بأنه يرحم بها المؤمنين، وفي يوم القيامة إذا حشر الناس قنط الكافرون من رحمته سبحانه، وفتح الله للمؤمنين رحمته سبحانه وتعالى، فالرحيم اسم من أسمائه سبحانه، وصفة يرحم بها عباده المؤمنين.

تفسير قوله تعالى: (كتاب فصلت آياته)

تفسير قوله تعالى: (كتاب فصلت آياته) ثم قال تعالى: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت:3] هذا الكتاب العظيم هو القرآن الذي بين أيدينا وكتاب الله سبحانه وتعالى، فقوله تعالى: ((كِتَابٌ فُصِّلَتْ)) التفصيل: التبيين، أي: البيان الواضح الجلي، فالمجمل الذي قد لا يفهمه الإنسان يحتاج إلى تبيين، فهذا القرآن يبين ما يشكل على الناس، ويفصل لهم ما يحتاجون إليه، بحيث لا يبقى عندهم إشكال ولا غموض في شرع الله سبحانه وتعالى، فهو المنزل كما قال تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195] أي: نزل على قوم يعلمون هذا اللسان، ويعقلون اللغة العربية، ويعقلون عن ربهم ما يريده منهم، فقال: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} [فصلت:3] أي: بينت الآيات التي فيه. قوله: {قُرْآنًا} [فصلت:3] أي: نزل قرآناً، وفيها قراءتان: قراءة الجمهور: ((قُرْآنًا)) بالهمزة، وقراءة ابن كثير المكي: ((قُرْآنًا عَرَبِيًّا)) [فصلت:3]، وكذلك إذا وقف عليها بالهمزة. وقوله تعالى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت:3] يعني: نزل القرآن باللغة العربية، وهذا تشريف للغة العربية أن ينزل القرآن بهذه اللغة. فجاء هذا القرآن على قوم يعلمون أن الخالق هو الله سبحانه، وأنه لا يستحق العبادة إلا هو، وهم يعترفون بذلك، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9]. وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87]. ولئن سألتهم: لماذا لا تعبدون الله؟ أليس هو الذي خلقكم؟ ألا يستحق العبادة؟ قالوا: يستحق العبادة، ولكننا نعبد أصناماً حتى تقربنا إليه، نحن أقل شأناً من أننا نعبده مباشرة، فهذه واسطة بيننا وبين الله عز وجل حتى تقربنا، قال تعالى مبيناً قولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] فافتروا الكذب. ومن الذي قال لكم: اعبدوا هذه الأصنام وهي تقربكم إلى الله سبحانه؟ قال تعالى: {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:28]. قوله سبحانه: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت:3]، إذاً: يعلمون أنه خالقهم، وأنه الذي يستحق العبادة وحده، ومع ذلك أعرضوا، ويعلمون أيضاً أن هذا القرآن معجز، وأنهم لا يستطيعون أن يأتوا بمثله، فقد علموا ذلك، وكانوا يستمعون للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ويمشون وراءه وهو يذهب ليصلي عند الكعبة، ويقفون يتنصتون عليه في الليل؛ حتى يستمعوا إلى هذا القرآن، ويقول قائلهم وهو الوليد بن المغيرة: إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة. هذا القرآن العظيم ما هو بقول البشر، بل كلام عظيم فيه حلاوة وعليه طلاوة، هكذا يقول الوليد بن المغيرة، ومع ذلك لم يسلم هذا الرجل، فقد علموا أن هذا القرآن قرآن عظيم، وأنه معجز، وأنه ليس من قول البشر، وأنه لقوم يعلمون.

تفسير قوله تعالى: (بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون)

تفسير قوله تعالى: (بشيراً ونذيراً فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون) قال تعالى: {بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [فصلت:4] أي: جاء القرآن بالبشارة وجاء بالإنذار، يبشر المؤمنين ويخبرهم بما يسرهم وبما يفرحهم، فتظهر أثر الفرحة على وجوههم، يفرحون ويسرون بما يقوله الله وبما يعدهم من جنات ونعيم. ونذيراً لقوم يكفرون ويعرضون عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يستجيبون له صلوات الله وسلامه عليه، فالقرآن ينذر من أعرض عن الله، ومن أشرك به، ومن عبد غيره، ومن عاند النبي صلوات الله وسلامه عليه. قال تعالى: {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ} [فصلت:4] أي: أكثر هؤلاء الذين استمعوا للنبي صلى الله عليه وسلم أعرضوا عنه، وهذه عادة الأقوام مع رسلهم، فأول ما يواجه الأقوام المرسلين بالإعراض والإنكار والتوبيخ والتسفيه والرمي بالكذب، كذا فعلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [فصلت:4]، صحيح أنهم قالوا: إن له لحلاوة، وعليه لطلاوة، ولكنهم سمعوا سمعاً لا ينتفعون به، فهم بلا سمع، كما أن الإنسان الذي يعلم علماً لا ينتفع به، كأنه لا علم عنده، فأخبر الله عز وجل عن المشركين فقال: {فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [التوبة:93]، لكنهم يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا؛ لأن علمهم لا يتعدى الدنيا إلى ما عند الله سبحانه وتعالى من جنة ونار، ولا يتعدى إلى إيمان ويقين، كأنهم لا علم عندهم كذلك، قال الله تعالى هنا: {فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [فصلت:4] أي: لا يستمعون استماعاً ينتفعون به، وإنما مجرد سماع كلمات تدخل في آذانهم، وهم يعلمون أنهم لا يقدرون أن يأتوا بمثلها، ومع ذلك يعرضون ويكذبون، فسمعوا ولم يفهموا ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم، كما ستأتي في قصة عتبة بن ربيعة الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليستمع إليه فتلا عليه هذه الآيات، ومع ذلك لم يفهم منها إلا التخويف فناشده الله والرحم ألا ينزل الله عز وجل عليهم عذاباً، ومع ذلك أعرض عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذب! أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة فصلت [3 - 4]

تفسير سورة فصلت [3 - 4] للقرآن الكريم خصائص وسمات تميزه عن غيره من الكتب، فهو منزل من عند الله تعالى، وهو كتاب مفصل مقروء نزل باللسان العربي لكي يعلم ويفهم، وجاءت فيه البشارة للمؤمنين بالجنة والنعيم، والنذارة للعصاة الكافرين بنار الجحيم، فإذا كان هذا الكتاب له هذه الأوصاف فحري بكل إنسان أن يتبعه، لكن عمى البصائر جعل بين الكفار وبينه حاجزاً من الران على القلوب والصمم في الأسماع والعمى في الأبصار، فصدوا عن اتباعه والاهتداء بهديه.

تفسير قوله تعالى: (كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون)

تفسير قوله تعالى: (كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [فصلت:3 - 4]. في هذه الآيات يخبرنا ربنا سبحانه وتعالى أن هذا القرآن العظيم نزل من عنده، وهو أرحم الراحمين سبحانه، وأنه كتاب فصلت آياته، أي: بينت ووزعت هذه الآيات، ونزلت منجمة على النبي صلى الله عليه وسلم بحسب ما يحتاج إليه الخلق. فأنزل الله سبحانه هذا القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاث وعشرين سنة، وبين في آياته الأحكام والأوامر والنواهي والمواعظ وقصص السابقين وما يكون في يوم الدين. وبين للناس شريعة النبي صلى الله عليه وسلم تلك الشريعة الكاملة الخاتمة التي أكمل الله عز وجل بها هذا الدين العظيم ورضيه للمؤمنين، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]. قال تعالى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [فصلت:3] أي: نزل من عند الله عز وجل كتاباً مقروءاً مجموعاً إلى السماء الدنيا ثم نزلت الآيات على النبي صلى الله عليه وسلم والسور بحسب الحوادث خلال ثلاثة وعشرين سنة، وهذا القرآن قرآن عربي نزل بلغة العرب. وقد ادعى المشركون أن رجلاً من اليمامة يقال له: رحمن اليمامة، هو الذي يعلمه صلى الله عليه وسلم، وكان رجلاً أعجمياً. فعجب الله عز وجل من أمر هؤلاء! فلو نزل القرآن بلسان العجم لقالوا: لماذا لم يأت بلغتنا؟ فقال تعالى: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت:3] أي: أنزل هذا القرآن باللسان العربي الذي هو أشرف لسان وأشرف اللغات وأعلاها وأفصحها وأجملها، فاللغة العربية استوعبت هذا القرآن العظيم، وأنزل الله سبحانه القرآن أعظم كتبه وأشرف الكتب بأشرف اللغات وهي اللغة العربية على أشرف الخلق النبي صلى الله عليه وسلم بسفارة أشرف الملائكة جبريل عليه السلام في أشرف بقاع الأرض وهي مكة في أشرف الأشهر والأزمنة في شهر رمضان. فكان القرآن في نزوله على النبي صلى الله عليه وسلم الشيء العظيم الذي أكرم الله عز وجل به هذه الأمة، فكانوا يزدادون شرفاً فوق شرف بهذا الكتاب الذي جعله الله سبحانه وتعالى لخلقه شريعة ومنهاجاً. قال الله سبحانه: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت:3] وذكر الله سبحانه في سورة يوسف: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف:2] أي: لعلكم تفهمون عن الله سبحانه وتعالى ما يريده بكم من خير وتعقلون هذه الشريعة العظيمة التي جاءتكم بلسانكم فتفهمون حدود الله سبحانه وأصول هذا الدين وفروعه. فإذا عقلتم ذلك وفهمتموه ازدادت عقولكم وازدادت أفهامكم، ونور الله عز وجل بهذا القرآن قلوبكم، فأثمر بذلك عمل الجوارح فعملتم لتستحقوا أن تكونوا من أهل الجنة بانقيادكم إلى الله سبحانه وتعالى. وهنا أخبر أنه نزل بهذا اللسان العربي لقوم يعلمون، أي: يعلمون أن هذا القرآن لم يقله النبي صلى الله عليه وسلم من عند نفسه، وإنما نزل من عند رب العالمين سبحانه وتعالى. لقوم يعلمون فيفهمون أنه لا يستحق أن يعبد إلا الله الذي اعترفوا به أنه الخالق وحده. ولقوم يعلمون أن هذا القرآن أعجزهم فلم يقدروا أن يأتوا بقرآن مثله، ولا بعشر سور مثله مفتريات ولا حتى بسورة واحدة.

تفسير قوله تعالى: (بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون)

تفسير قوله تعالى: (بشيراً ونذيراً فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون) قال تعالى: {بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [فصلت:4] جاء القرآن ببشارة من الله بالجنة لمن أطاع واتبع الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، ونذير ينذرهم ويخيفهم من عذاب يوم أليم يوم يرجعون إلى الله سبحانه، قال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37]. فهو نذير ينذرهم بالموقف بين يدي الله سبحانه وتعالى، وبالعذاب الأليم لمن عصى الرسول عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ} [فصلت:4] أي: أعرض أكثرهم مع ما ذكر الله عز وجل ومع ما فهموا من ذلك، قال تعالى: {فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [فصلت:4]، وقد ذكرنا في الحديث السابق أنهم كانوا يسمعون، ولكن الله عز وجل أخبر أن سمعهم كلا سمع، كما أن علمهم كلا علم، لكونهم يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا ولم يتجاوز علمهم الدنيا إلى الآخرة، فكأنهم لا علم لهم، والدنيا قليلة حقيرة صغيرة مقابل الآخرة الكبيرة العظيمة، قال تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64] فالدار الآخرة دار الحياة الدائمة ودار الخلود، فالذي لم يتجاوز علمه هذه الدنيا القصيرة الحقيرة، ولم ينظر في هذه الدار العظيمة الباقية الكبيرة فهو كالذي لا علم عنده، ولذلك قال الله سبحانه: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم:7]. وقد ذكرنا أن الكفار استمعوا لهذا القرآن، ولم ينتفعوا بما استمعوا بل عاندوا وأعرضوا كما قال الله سبحانه: {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [فصلت:4] أي: لا ينتفعون بما استمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم، بل كانوا يهربون منه حتى لا يسمعوا هذا القرآن العظيم، وقد استمعوا للنبي صلى الله عليه وسلم وعرفوا حلاوة هذا القرآن. قال ابن إسحاق: ذكر عن الزهري قال: حدث أن أبا جهل وأبا سفيان والأخنس بن شريق خرجوا ليلة يستمعون من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالليل في جوف بيته عليه الصلاة والسلام، فجلس كل واحد منهم مختبئاً في مكان لا يراه صاحباه، ولا يراه النبي صلى الله عليه وسلم ليستمع لجمال هذا القرآن وحلاوته، فلما رجعوا إلى بيوتهم جمعهم طريق واحد، فاستحيا كل واحد منهم من الآخر، ثم تعاهدوا ألا يعودوا، ثم قال بعضهم لبعض: لو رآنا بعض السفهاء لوقع في نفسه شيء، وكأن هذا الشيء لم يقع في نفوسهم، وهكذا فعلوا في الليلة الثانية وفي الثالثة كذلك، ثم أصبحوا فجمعتهم الطريق فتعاهدوا أن لا يعودوا، ثم أتى الأخنس بن شريق أبا سفيان في بيته فقال: أخبرني عن رأيك في هذا القرآن الذي سمعناه من محمد، فقال أبو سفيان: يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها، وأعرف ما يراد بها، أي: أعلم أنه يدعونا إلى التوحيد، والذي يمنعنا من اتباعه جعله الآلهة إلهاً واحداً. ولم يزد على ذلك وهو يعلم أن هذا الكلام ليس كلام كهانة ولا عرافة. قال الأخنس: وأنا والذي حلفت به فهمت هذا القرآن وعرفت الذي يراد منا. ثم أتى أبا جهل فقال: ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال أبو جهل فرعون هذه الأمة: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا حتى إذا كنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يوحى إليه، فمتى ندرك ذلك؟ والله لا نؤمن به ولا نصدقه! ومعنى كلامه: أنهم تنازعوا على الشرف في الدنيا على السمعة، وكل فريق منا على قدر عظيم من إظهار النفس والفخر بين العرب، فإذا صدقنا نبيهم حازوا شرف السبق. فقام الأخنس عنه وكأنه كان أطيبهم قلباً ينتظر من أحدهم أن يقول: إن هذا حق؛ لكي يظهر ما في قلبه، ولكنهما لم يفعلا، فـ أبو سفيان كتم وأبو جهل أظهر ما في قلبه من الحقد، وكان أشد الناس عداءً للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد كانت كنيته عندهم أبا الحكم ثم غيرها النبي صلى الله عليه وسلم فكناه بـ أبي جهل؛ لأنه عرف الحق وتنكب طريقه، ولم يرض بقضاء الله وقدره، بل حسد النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعرف فضله. وأبو جهل الملعون صد الناس عن هذا الدين، وممن صده الوليد بن المغيرة إذ كاد أن يدخل في الدين لما سمع القرآن الكريم وقال: إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوه، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر. فقال له أبو جهل: قد أعطاك محمد مالاً لتتبعه! فإذا بالرجل يرجع عما قال فقال له: والله لا نسكت عنك حتى ترجع عما قلت وتشتم محمداً أو تقول فيما جاء به. فكان من الوليد ما قصه الله تعالى في سورة المدثر فقال: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} [المدثر:18 - 19] أي: لعنة الله عليه كيف قدر! {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ} [المدثر:20 - 23] أي: بعدما أقبل على القرآن؛ إذا به يدبر ويستكبر عن الحق. {فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:24 - 25]، فأغضب بقوله رب العالمين وأرضى أبا جهل لعنة الله عليهما وعلى أتباعهما، فغضب الله عليه وقال: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر:11] أي: اتركني وهذا الإنسان الذي جعلته وحيداً في قومه معه المال والولد في قومه بالرئاسة والشرف وبغير ذلك فسيأتيني وحيداً ليس معه شيء من ذلك. والله سبحانه وتعالى قد أخبر عن هذا وأمثاله بقوله: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت:5] وقد جاء في الأثر عن جابر بن عبد الله وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أنهم ذكروا هذه القصة: قال الملأ من قريش وعلى رأسهم أبو جهل لعنة الله عليه: قد التبس علينا أمر محمد، فلو التمستم رجلاً عالماً بالشعر والكهانة والسحر فكلمه ثم أتانا ببيان أمره. فقال عتبة بن ربيعة وهو أحد شيوخهم: والله لقد سمعت الكهانة والشعر والسحر، وعلمت من ذلك علماً لا يخفى عليّ إن كان كذلك، فقالوا: اذهب فحدثه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أنت خير أم قصي؟ يقول للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك كعادة العرب أن الشخص منهم إذا قيل له: أنت أحسن أم جدك؟ يستحي أن يقول: إنه أحسن ثم قال: فبم تشتم آلهتنا وتضلل آباءنا وتسفه أحلامنا وتذم ديننا؟ إن كنت إنما تريد الرياسة عقدنا لك ألويتنا فكنت رئيسنا ما بقيت. وتأمل الفتنة بهذا الإغراء، إنه يعرض عليه رياسة قومه حتى يموت، مع أن عادة العرب أن في كل فترة يكون لهم رئيساً، لكنهم وجدوا الأمر أعظم من قدرتهم، وإلا فهم أبداً لا يعترفون لإنسان أن يكون وحده المتفرد فيهم بالرياسة. ولذلك كان العرب يعيرون الفرس والروم ويقولون: إن الملك لا يصلح فيكم إلا لبيت واحد، أما نحن العرب فكل بيت فينا يصلح أن يكون الملك فيه؛ ولذلك ليس لدينا رئيس، وكل قوم منا لهم رئيس وحدهم، وقال قائلهم: إذا بلغ الفطام لنا صبي تخر له الجبابر ساجدينا وقال آخر: وليس يهلك فينا سيد أبداً إلا اشتلينا غلاماً سيداً فينا ثم قال عتبة للنبي صلى الله عليه وسلم: وإن كنت تريد الباءة زوجناك عشر نساء من أي بنات قريش شئت أي: إن كنت تعمل هذا تريد النساء فاخترلك عشر من خير نسائنا نزوجك بهن. ثم قال: وإن كنت تريد المال جمعنا لك ما تستغني به أنت وعقبك من بعدك، وإن كان هذا الذي يأتيك رئي من الجن بذلنا أموالنا في طلب ما تتداوى به أو نغلب فيك. أي: إن كان ذلك رئي، أي: جليس من الجن بينك وبينه محبة داويناك أو غلبنا عن علاجك بعد بذل وسعنا، فلما انتهى من كلامه والنبي صلى الله عليه وسلم ساكت قال: أفرغت يا أبا الوليد؟ فقال: نعم. قال: اسمع. فقرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم، {حم * تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [فصلت:1 - 4] إلى أن وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوله سبحانه: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:13] فلما سمع ذكر الصاعقة وضع يده على فم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أناشدك الله والرحم لا نريد صاعقة؛ خاف لأنه كان يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم الصادق الأمين ولا يكذب أبداً، فإذا خوفهم بشيء لابد أن يحدث، فقد انتفع بما سمع ثم رجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش وكاد الرجل أن يسلم لكن الملعون أبا جهل وقف له حجر عثرة فذهب إليه فقال: أصبوت إلى محمد أم أعجبك طعامه؟! كأنه يعيره بذلك، وهو رجل غني من الأغنياء فيقول: كنت جائعاً حين ذهبت إليه. يعرف اللعين كيف يدخل عليهم من حيث لا يقدرون على الرد فيحرجهم، وغضب وأقسم أن لا يكلم النبي صلوات الله وسلامه عليه. وكان من المفترض أن يقسم

تفسير سورة فصلت [1 - 6]

تفسير سورة فصلت [1 - 6] القرآن منزل من الرحمن الرحيم، والرحمن ذو الرحمة العامة لجميع الخلق، والرحيم ذو الرحمة الخاصة بالمؤمنين في الدار الآخرة، والله سبحانه فصل في هذا القرآن آياته ووضحها، لكن من أعرض فإنه لا ينتفع بهذا القرآن ولا يتعظ بما فيه.

مقدمة بين يدي تفسير سورة فصلت

مقدمة بين يدي تفسير سورة فصلت الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل: بسم الله الرحمن الرحيم {حم * تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت:1 - 5]. هذه السورة كما ذكرنا في حديث سابق هي السورة الحادية والأربعون من كتاب الله سبحانه وتعالى، وسورة فصلت هي واحدة من سور الحواميم السبعة في كتاب الله عز وجل، واختصت بسجدة فيها، ولذلك تسمى بسورة حم السجدة؛ لأن فيها سجدة. سورة فصلت سورة مكية، ويبدأ الله عز وجل هذه السورة كغيرها من سور الحواميم بالحرفين: (حم)، إشارة إلى أن هذا القرآن مؤلف من مثل هذه الحروف العربية التي تتكلمون بها، وتصيغون بها خطبكم وشعركم ونثركم وغير ذلك، فيتحداكم ربكم سبحانه أن تأتوا بسورة من مثله.

تفسير قوله تعالى: (حم)

تفسير قوله تعالى: (حم) قال الله تعالى: {حم} [فصلت:1]. هذان حرفان: حرف الحاء وحرف الميم، ولا شك أن هذه الحروف في فواتح السور من أسرار كتاب الله سبحانه وتعالى، ومهما قال العلماء من أسباب أو ما يبدو لهم من أسباب وحكم فقد يكون ذلك صحيحاً، ولكن ليس معناه: أن هذا هو السبب الذي من أجله جعل الله عز وجل ذلك؛ لأن السبب لا يقال إلا بنص حديث للنبي صلى الله عليه وسلم، فطالما أنه لم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على ذلك، فغايته أن يجتهد العلماء فيبينون شيئاً من الحكم في ذلك. قوله: (حم) يقرؤها الجمهور: (حم)، تمد الحاء مداً طبيعياً حركتين، والميم تمد مداً طويلاً ست حركات، أما أبو جعفر فيقرؤها بالتفريق بين الحاء والميم، فهو يفصل: حاء، ميم، ويسكت بينهما سكتة بغير تنفس؛ لبيان أنها ليست كلمة وإنما هما حرفان، وفي كل فواتح السور التي في أول السور من الحروف يقرؤها بالفصل وبالسكت بينها بسكتة بغير تنفس؛ لبيان أن هذه ليست كلمة، فيقرأ: {الم} [البقرة:1] ألف، لام، ميم؛ لبيان أن هذه ليست كلمة واحدة، وإنما هي ثلاثة أحرف، كذلك قوله تعالى: {طه} [طه:1] يسكت بينهما سكتة؛ لبيان أن هذا ليس اسماً وليس كلمة، ولكنهما حرفان: طاء وهاء، وغير ذلك من الحروف في فواتح السور.

تفسير قوله تعالى: (تنزيل من الرحمن الرحيم)

تفسير قوله تعالى: (تنزيل من الرحمن الرحيم) قال الله تعالى: {تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت:2]. كأن هذا خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذا تنزيل من الرحمن الرحيم، وذكروا غير ذلك. والتنزيل هو مصدر من نزل تنزيلاً، فنزل القرآن من عند الله عز وجل، نزله تنزيلاً عظيماً، فيه عظمة ربنا سبحانه وتعالى في إنزال هذا القرآن من السماء إلى بيت العزة، ثم مع جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم ينزل ليلاً وينزل نهاراً، وينزل في مكة وينزل في المدينة، وينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بحسب ما يحتاج إليه الخلق، وبحسب ما يجد من أحداث. قوله: (تنزيل) أي: نزل هذا القرآن من عند رب العالمين الذي في السماء سبحانه وتعالى، قال تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك:16 - 17] فنزل هذا القرآن من السماء من عند رب العالمين سبحانه الذي هو الرحمن الرحيم. والرحمن الرحيم اسمان لله عز وجل فيهما وصف الرحمة له سبحانه وتعالى، وكلاهما على صيغة مبالغة. (الرحمن) على وزن فعلان، و (الرحيم) على وزن فعيل، فالله عز وجل الرحمن العظيم الرحمة، وكذلك الرحيم العظيم الرحمة، والرحمن ذو الرحمة العامة بخلق الله سبحانه وتعالى، والرحيم ذو الرحمة الخاصة بالمؤمنين، قال تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43]، والرحمن لا يوصف به غير الله سبحانه، فهو عام في الإطلاق خاص في المسمى، فالله عز وجل وحده سبحانه الذي له هذا الاسم، والرحيم صفة لله عز وجل وقد يوصف بها خلقه، فيقال: فلان رحيم، والنبي صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين رءوف رحيم، أما الرحمن فيقول: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65] يعني: لا يوجد أحد اسمه الرحمن غير الله عز وجل، لا إله إلا هو، فهو الله وهو الرحمن سبحانه لا يتسمى بذلك سواه سبحانه وتعالى. ولذلك المشركون قالوا مغالطين للنبي صلى الله عليه وسلم: (أنت تزعم أنك تدعونا إلى التوحيد وأنت تشرك فتقول: بسم الله الرحمن الرحيم فتذكر الله وتذكر الرحمن؛ فقال الله عز وجل: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110])، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً، من أحصاها دخل الجنة) أي: من حفظها وعرف معانيها واستعملها فيما ينبغي فهذا يدخل الجنة. إذاً: الرحمن العظيم الرحمة سبحانه وتعالى بخلقه جميعهم، والرحيم هو الذي اختصت رحمته بالمؤمنين في الآخرة، والرحمة تكون لمن مات على التوحيد ولمن لم يشرك بالله سبحانه وتعالى، قال: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:156 - 157]. والقرآن نزل من عند الرحمن سبحانه العظيم الرحمة بجميع خلقه، لذلك أنزل الله عز وجل القرآن هداية لخلقه جميعهم، ولم يجعله مخصوصاً لطائفة دون طائفة، وإنما نزل للعالمين، وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم للعالمين للناس كافة، وهو الرحيم سبحانه الذي يرحم عباده المؤمنين ويدخلهم جنته سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون)

تفسير قوله تعالى: (كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون) قال الله تعالى: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت:3] أي: هذا الكتاب كتاب قد فصلت آياته، فسماه الله عز وجل القرآن وسماه الكتاب، فهذا القرآن العظيم كتاب مكتوب جاء من عند رب العالمين سبحانه، حفظه النبي صلى الله عليه وسلم وحفظه المؤمنون. قوله: (كتاب فصلت) أي: فيه التفصيل وفيه التبيين. قوله: (فصلت آياته قرآناً عربياً) أي: نزل قرآناً عربياً على هذا الحال، حال كونه فصله وبينه وفسره ووضح لنا ما نحتاج إليه، فهو سبحانه بين فيه الحلال والحرام، وبين الطاعة من المعصية، وبين فيه الوعد والوعيد، وذكر فيه الجنة والنار، فكلما قرأت فيه استفدت منه ما يريده الله عز وجل لك وبك. قوله: (كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً) أي: في حال كونه قرآناً مقروءاً يقرأ، جمع في كتاب وجمع في الصدور، وأصل القرء بمعنى: المجموع، وقرأت الشيء يعني: جمعته فتلوته، وهذا القرآن المجموع في هذا الكتاب المحفوظ في صدور المؤمنين الذي يتلونه بلسان عربي مبين. قوله: (قرآناً) فيها قراءتان: قراءة ابن كثير بالنقل: (قراناً عربياً)، كذلك إذا وقف عليها حمزة يقف كـ ابن كثير: (قراناً)، لكن مع الوصل لـ حمزة يقرأ: (قرآناً) وإن كان له السكت فيها أيضاً. قوله: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت:3] أي: نزل القرآن على العرب الذين يعرفون هذه اللغة، ولم ينزل على أعاجم لا يفهمون، فالعرب يعلمون ما في هذا القرآن من معان، وما فيه من فصاحة وبلاغة، وما فيه من أحكام الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك فهو معجز، ولا أحد من البشر يقدر أن يأتي بمثله، فيعلمون أنه لا يأتي بمثله إلا الله سبحانه وتعالى، ولا يتكلم بهذا الكلام العربي المبين إلا الذي جاء به من عند رب العالمين سبحانه وتعالى. فقوله: (لقوم يعلمون) أي: يعلمون هذه اللغة العربية، ويعلمون أنه إله واحد لا يستحق العبادة غيره سبحانه وتعالى، فنزلت هذه الآية تقريعاً وتوبيخاً لقريش، يعني: أنتم تفهمون ولستم جهلاء ولا أغبياء، فهذا كلام رب العالمين بلغتكم، عرفتم فصاحته وبلاغته فما الذي منعكم أن تؤمنوا به؟!

تفسير قوله تعالى: (بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون)

تفسير قوله تعالى: (بشيراً ونذيراً فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون) قال الله تعالى: {بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [فصلت:4]. (بشيراً ونذيراً) أي: هذا حاله أنه فيه البشارة وفيه النذارة، والبشارة من البشر، بمعنى: الشيء السار الذي يغير وجه الإنسان وبشرة الإنسان، فالإنسان حين يأتيه الخبر السار يستبشر، وبشرته تتغير، فتجد أنه يتورد وجهه ويبدو عليه أثر الفرح، فهذه البشارة، أما النذارة: فهي الإنذار بالوعيد. إذاً: القرآن فيه البشارة، وفيه ما يسر المؤمنين، وفيه الوعيد الذي يخيف العصاة والكافرين. فلما جاءهم هذا القرآن العظيم أعرض أكثرهم، قال تعالى: {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ} [فصلت:4]، وهذه العادة أن يبعث الله الرسول فيؤمن به القلة من الناس، قال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103]، وقال سبحانه: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] فكأن القليلين هم الذين يؤمنون، والأكثرين هم الذين يتولون ويعرضون. قال: {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [فصلت:4] أي: هناك فرق بين سماع وسماع، فإنسان يستمع فينتفع، وإنسان يسمع فلا يعي ولا يفهم، فهؤلاء كانوا يذهبون للنبي صلى الله عليه وسلم وكان يكلمهم فيقولون: نسمع بآذاننا كلامك ولن يدخل قلوبنا، ولن نحاول فهم ما تقوله، فكانوا يخافون أن يدخلوا في دينه صلوات الله وسلامه عليه؛ حسداً للنبي صلى الله عليه وسلم واستكباراً على الحق.

تفسير قوله تعالى: (وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه)

تفسير قوله تعالى: (وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه) قال الله تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت:5]. يعني: لا تحاول، فنحن نأتي ونسمع الكلام فقط، لكن هذا الكلام لن يدخل آذاننا، ولن يصل لقلوبنا. والأكنة: هي الأغطية الثقيلة، كأنهم جعلوا على قلوبهم أغطية ثقيلة، حتى لا يسمعوا كلام الله تعالى. وكانوا إذا جاءهم الرجل من خارج القبيلة يقولون له: احذر أن يسحرك محمد، احذر أن تسمع إليه وأن تذهب إليه، فهذا الرجل يخاف، فتجده حين يرى النبي صلى الله عليه وسلم يغطي وجهه بثوبه؛ حتى لا يكلمه النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا شاء الله عز وجل أن هذا الإنسان يؤمن يذهب إليه ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: لقد أتيتك وقد حلفت عدد هؤلاء ألا آتيك، يعني: عدد أصابعي العشر، ولكن يشاء الله أن يدخل الإيمان في قلب هذا الرجل، فيذهب ويسمع من النبي صلى الله عليه وسلم ويؤمن بعد ذلك، فكان الكفار لا يريدون أن يدخلوا في دين النبي صلى الله عليه وسلم، ويحذرون الناس أن يدخلوا في دينه، فكان هذا قولهم. قوله: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت:5] يعني: قلوبنا بداخلها أغطية فلن نستمع إليك، {وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} [فصلت:5] أي: في آذاننا صمم وثقل فهي لا تسمع ما الذي تقوله، {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت:5] أي: بيننا وبينك حجاب ومانع عظيم يمنعننا من أن ندخل في دينك، فالكبر والحقد والحسد جعل ذلك كله بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم مانعاً أن يتبعوه عليه الصلاة والسلام. قوله: {فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت:5] أي: فاعمل بما يأمرك به ربك، إننا عاملون بما تأمرنا به أهواؤنا، فأنت اعبد ربك ونحن نعبد آلهتنا من دون الله، يعني: اعمل وكد لنا فإننا عاملون ونكيد لك، وهذا منهم منتهى الشر ومنتهى التبجح على النبي صلى الله عليه وسلم، أي: أنت الذي تريده اعمله، وسنعمل الذي نحن نريده، لن نؤمن ولن نستمع إلى ما تقول، وإذا سمعنا لن نفهم ما هذا الذي تقوله، فكانوا يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم المعجزات والآيات، ومع ذلك يقولون له: وما نظن أنك لو فعلت سنؤمن، يعني: حتى لو أتيت بهذه المعجزات فإننا لا نؤمن، نقول: طالما أنكم تنوون من البداية عدم الإيمان فلماذا تطلبون المعجزات؟! هذا هو حال المشركين فقد فضحهم الله عز وجل ووبخهم بذلك، وأخبر أنهم قوم خصمون، لا يجيدون إلا الجدل بالباطل، أما أنهم يجادلون من أجل أن يصلوا إلى الحق فلا، ليست هذه عادتهم.

تفسير قوله تعالى: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد)

تفسير قوله تعالى: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد) قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} [فصلت:6]. أي: هو بشر مثلكم ليس ملكاً من الملائكة، وليس نوعاً آخر من غير البشر، فهو بشر من البشر يوحى إليه من عند ربه، لا يأتيهم بما يريدونه هم، ولكن بما يريده الله عز وجل أن ينزله على النبي صلى الله عليه وسلم وأن يتلوه عليهم. فقال: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [فصلت:6] خصيصة النبي صلى الله عليه وسلم أن ميزه الله عن الخلق بالوحي، مع أنه بشر خلق من أبوين صلوات الله وسلامه عليه، وأصله من تراب كغيره من البشر، ولكن ميز على البشر بالوحي من السماء، {يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} [فصلت:6] فهو سبحانه أمرهم بالاستقامة على دينه سبحانه، وحذرهم من الشرك. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة فصلت [5 - 7]

تفسير سورة فصلت [5 - 7] لقد لاقى النبي صلى الله عليه وسلم من تعنت الكافرين وأذاهم الشيء الكثير، ولقد بالغوا في إيذائه والاستهزاء به بما أمكنهم، فقد كانوا من شدة عداوتهم له يرفضون مجرد سماع كلامه وتفهمه، وكانوا يتوعدونه ويتهددونه، ويطلبون منه الآيات الدالة على صدقه، ويبالغون في أوصافها تعنتاً واستهزاء به صلوات الله وسلامه عليه.

تفسير قوله تعالى: (وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه)

تفسير قوله تعالى: (وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة فصلت: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ * قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [فصلت:5 - 7]. يخبرنا الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات عن تكذيب المشركين للنبي صلوات الله وسلامه عليه، وعن جحودهم وإعراضهم عنه، فقد كانوا لا يسمعون ما يقول، ويعرضون عنه فلا يسمعون ولا يفهمون كلامه صلى الله عليه وسلم، إلا مجرد سماع لا ينتفعون به، فهم كالذين لا يسمعون ولا يفهمون، ومع ذلك كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت:5] وأكنة: جمع كنان وكن، وهو ما يغطي الإنسان. فقالوا: قلوبنا عليها أغطية مغطية عليها، فهي {فِي أَكِنَّةٍ} [فصلت:5] أي: في أغطية مكنونة داخل هذا الغطاء، فلا تراك، ولا تسمعك، ولا تعقل عنك، فهي مغطاة وعليها أغشية ومطبوع عليها، فلا تفهم هذا الذي تقول. {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت:5]، فهي إذاً: ليست في أكنة من كل شيء، وإنما منك أنت وحدك، فنفهم أي شيء آخر إلا الذي تأتي به، فقلوبنا في أغطية ثقيلة عنك أنت بالذات. {وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} [فصلت:5] فالقلب لا يفهم ولا يعي ما تقوله وما تريده، والآذان مسدودة، بحيث لا نسمع ما تقوله، ولا نريد أن نستمع إليك، وأما غيرك فسنسمعه. {وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} [فصلت:5] أي: صمم، فهي مسدودة فلا نستمع إليك. {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت:5] أي: هناك حاجز بيننا وبينك، فلا نفهم هذا الذي تقول، {فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت:5]. وقد كانت هذه معاملة الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم، فكم عانى وكم قاسى صلوات الله وسلامه عليه من هؤلاء؛ فقد كان يذهب إليهم ويخاطب عقولهم فيقولون له: لا نفهم، فيخاطب قلوبهم فيقولون له: نحن نغطيها فلا تعي هذا الذي تقول، ويخاطب أسماعهم فيسدون آذانهم بأصابعهم فلا يستمعون للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد استغشوا ثيابهم وأسروا النجوى فيما بينهم بألا يسمعوا له، فكان إذا جاء أحد إلى مكة جاء إليه الكفار محذرين له قائلين: لا تذهب إليه -أي: الرسول- فإنه مجنون وكذاب، ونحن أعلم به، ويأخذون عليه العهود والمواثيق ألا يستمع إليه، فكان الرجل يضع ثوبه فوق وجهه، حتى لا يرى النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا كلمه النبي صلى الله عليه وسلم سد أذنيه بأصابعه، حتى إن أحدهم ليقول للنبي صلى الله عليه وسلم: لقد جئتك وقد حلفت عدد هؤلاء ألا أكلمك. يعني: أن الكفار أخذوا عليه اليمين عشر مرات ألا يسمع النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الله العظيم سبحانه يشاء أن يدخل الإيمان في قلبه، فيذهب ويستمع ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: ما الذي تدعو إليه؟ فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم أو لغيره: (أدعو إلى الله الذي إن مسك الضر دعوته فكشف عنك، والذي إذا أصابتك سنة جدب دعوته فكشف عنك، والذي إذا أضللت راحلتك دعوته فردها عليك). أي: أدعوا إلى الله سبحانه الذي أنت تعرف قدرته، وتعرف ما يصنع بك من جميل الفعل سبحانه تبارك وتعالى، والذي إذا أصابك عام جدب وسنة دعوته، فهذا هو الإله العظيم الذي أدعو إليه، وأدعوك لتعبده ولا تعبد أحداً غيره. وقد كان هذا الكلام يخاطب عقولهم ويفهمون منه، فهم يعرفون ذلك من أنفسهم، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:67]، فقد كانوا يعرفون هذا الشيء، وكان الواحد منهم يعبد الصنم والوثن ويعبد غير الله سبحانه في وقت الرخاء، فإذا نزل عليه البلاء رفع يده إلى السماء ويقول: يا رب يا رب. إذاً: فادع ربك في كل وقت، في وقت البلاء، وفي وقت الرخاء، وفي وقت الكرب، وفي وقت النفع والضر. فادع ربك دائماً، وادع إليه، فهذا الذي تدعوه في وقت ضرك أدعوك إلى أن تدعوه في كل وقت، وأن تعبده وحده لا شريك له. فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب عقول هؤلاء لو كانوا يفهمون، وهم يبتعدون ويعرضون عنه صلى الله عليه وسلم، ويقولون له ما حكاه عنهم القرآن: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت:5] أي: في أغطية مغطاة، وفي أغلفة مغشاة، فلا نفهم ولا نعي. قوله تعالى: {وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت:5] أي: اعمل بما تقول أنت، ونحن عاملون بما نقول وما نريد، فلن نتبعك واعمل لإلهك فإنا نعمل لآلهتنا، واعمل في إهلاكنا -متحدين له- فإنا نعمل في إهلاكك. {فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت:5] أي: الذي تقدر عليه اعمله، ونحن الذي نقدر عليه سنعمله، كد لنا فإننا سنكيد لك، صلوات الله وسلامه عليه. {فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت:5].

تفسير قوله تعالى: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد)

تفسير قوله تعالى: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد) قال الله سبحانه مجيباً لهؤلاء: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} [فصلت:6]. وهذا من التلطف في الخطاب، وإلا فهم يعرفون أنه بشر مثلهم عليه الصلاة والسلام، وأنه مولود من أبوين منهم، وولد بينهم، فهم يعرفونه تماماً صلوات الله وسلامه عليه. وهنا يقول: ((أَنَا بَشَرٌ)) أي: مثلي مثلكم، فلا أتعالى عليكم، ولا أستكبر عليكم، ولا أقول: إنني من جنس آخر غير جنسكم، وإنما أنا بشر مخلوق من طين كما خلقتم أنتم من طين، وولدت من أبوين كما ولدتم أنتم أيضاً. وهذا يرد ما جاء كذباً على النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث أنه قال: (أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر) فإن هذا كذب لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو كلام موضوع عليه صلى الله عليه وسلم، فلم يخلق من نور وإنما خلق كغيره من البشر من طين ومن مني، فهو من أبوين {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [فصلت:6] وإنما ميز عليهم بالوحي من السماء. {يُوحَى إِلَيَّ} [فصلت:6] أي: ينزل علي الوحي من السماء، وينزل علي الملك من عند رب العالمين؛ ليخبرني وينبئني بما يريده الله منكم، فأبلغكم رسالة الله سبحانه تبارك وتعالى. إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم لم يميز على غيره في أصل الخلقة، وإنما ميز عليهم صلى الله عليه وسلم بأن جعله الله عز وجل نبياً رسولاً صلوات الله وسلامه عليه. ((يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ)) وهذه هي دعوة كل الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهي دعوة التوحيد فاعلم أنه لا إله إلا الله، وكانوا يدعون قومهم {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون:32]، فلا إله إلا الله هي دعوة كل الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وكذلك دعا النبي صلى الله عليه وسلم إليها، فإنه إنما أوحي إليه {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ} [فصلت:6] أي: المعبود الوحيد الذي يستحق العبادة هو الله سبحانه تبارك وتعالى. {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [فصلت:6]، فلماذا تفرقون بين الرب وبين الإله، فتقولون: الرب واحد وهو الذي يخلق ويرزق، والآلهة التي نعبدها كثيرة متعددة؟ وأي مزية في هذه الآلهة حتى تعبدوها وتتقربوا إليها وتتركوا الذي خلقكم ورزقكم؟! فإن الإله والرب الواحد سبحانه، {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:78 - 80]، إذاً: الله سبحانه هو الذي يفعل ذلك: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82] وهو هذا الإله الذي أتوجه إليه بالعبادة سبحانه. {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ} [فصلت:6] أي: استقيموا على دينه، وتوجهوا إليه بأقصر الطرق، وهي طريق الاستقامة، فلماذا تنحرفون عنه؟! ولماذا تقولون: نعبد الأصنام؛ لأنها تقربنا إلى الله؟! توجهوا إليه مباشرة، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186]، فلا تبتعد عن ربك سبحانه، واستقم إليه، كما قال: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ} [فصلت:6] أي: استقيموا على طاعته، وخذوا أمره سبحانه عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم، وليس عن طريق غيره، فاعملوا به، فإنه يدعوكم إلى التوحيد، وإلى الاستقامة على دينه سبحانه تبارك كما تعالى، كما قال: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ} [فصلت:6] أي: أقيموا وجوهكم إلى الله واعبدوه وحده لا شريك له {وَاسْتَغْفِرُوهُ} [فصلت:6] أي: توجهوا إليه وحده، واستغفروه من شرككم ومن معصيتكم، ومن جهلكم ووقوعكم في الأخطاء تجاه ربكم وتجاه الخلق. ثم قال: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} [فصلت:6] ويل: وعيد شديد من الله سبحانه، قيل: ويل: واد في قعر جهنم للكفرة والمشركين والعياذ بالله، فهو تهديد لهم، أي: لكم الويل والهلاك، فلكم واد في قعر جهنم -والعياذ بالله- إذا أشركتم بالله، ودمتم على هذا حتى متم عليه.

تفسير قوله تعالى: (الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون)

تفسير قوله تعالى: (الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون) قال الله تعالى: {الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [فصلت:7]، (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) هنا ذكر صفة المشركين الذين أشركوا بالله سبحانه تبارك وتعالى، وعبدوا غيره، وجعلوا له أنداداً وقرناء يعبدونهم معه سبحانه وتعالى. (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) والزكاة: زكاة أبدان، وزكاة نفوس، وزكاة أموال، فكأنه عنى الجميع، وقد ذكر الذين لا يزكون أنفسهم في قوله سبحانه وتعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:14 - 15] أي: زكى نفسه بالإيمان وطهرها. وقال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:9] أي: من زكى نفسه بطاعة الله وتوحيده والإيمان به، {وقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:10] أي: قد خاب الإنسان الذي نجس ودنس ودس نفسه فأبعدها عن طريق الله، وأشرك بالله سبحانه وتعالى. وهذه السورة مكية، والزكاة فريضة مدنية، ولم تكن قد فرضت في مكة، وإنما فرضت الزكاة في المدينة مع الصيام سواء قبله أو بعده، بعد العام الثاني من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم. فإذا قال الله في المشركين: {لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت:7] فإن المعنى: أنهم لا يزكون أنفسهم، ولا يتصدقون، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى الزكاة إجمالاً في سورة مكية أخرى وهي سورة الأنعام، في قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141]، إذاً: فقد أمر الله تعالى بحق الزرع في يوم الحصاد في مكة، ثم أمر بأن تحصي الذي عليك يوم الحصاد، ثم أمر أن تعطى الفقراء العشر أو نصف العشر بعد أن تجفف هذه السنابل وتصير صالحة لأن تخزن وتقتات، إذاً قد وجدت في السور المكية إشارات إلى الزكاة من دون تحديد للمقادير، وقد ذكر البعض أن هذا منسوخ، ويرى البعض الآخر أنه ليس بمنسوخ، وإنما هو مجمل بين بعد ذلك وفصل، وهذا هو الصواب، فالصواب: أن الله أشار إلى فرضية الزكاة، وأما الآن فليست مفروضة، وإنما الواجب عليك أن تتصدق بأي شيء، وويل للمشركين الذين لا يتصدقون. والمعنى الأعم في الزكاة: أنها تزكية للنفس سواء بالإيمان أو بالبذل والعطاء والإنفاق، فأشار إليها، وكأن هذه الصفة - صفة العطاء - من أشق الصفات على الإنسان، أو من أشق ما يكون على قلب الإنسان، ولذلك يقولون: المال شقيق الروح، بل هو من ضروريات حياة الإنسان التي يدافع عنها وهي: دينه وروحه وعقله وماله وعرضه، وهذه الخمسة الأشياء يسمونها: الضروريات الخمس التي جاء الإسلام بحمايتها، وبتحريم كل شيء يؤذيها؛ فلا بد من حماية هذه الضروريات حتى يستطيع الإنسان العيش في هذه الدنيا، والإنسان له عقل يحمي به هذه الأشياء، فقد جاءت الشريعة بحماية هذه الضروريات للإنسان، فحمى روح الإنسان وبدنه بالقصاص، قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:179]، فجعل الله الحدود حماية لذلك، سواء بقتل القاتل إذا كان قتلاً عمداً وعدواناً، أو بقطع عضوه إذا كان قطعه من آخر عمداً وعدواناً، فيفعل به ذلك، قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179]، وقال: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45]؛ لأن من ضروريات حياة الإنسان: حماية روحه وبدنه وعقله. وكل ما يعترض الضروريات ويؤذيها فبابه التحريم، فلا تتعرض لبدن إنسان أو حياته إلا بما شرع الله عز وجل، لا تتعرض لعقلك ولا لعقل غيرك بما حرم الله، لأن حماية العقل ضرورة من ضروريات الحياة، ولذلك حرم الله المسكرات وحرم الخمر، وحرم على الإنسان كل ما يذهب عقله. وحمت الشريعة العرض، فجعلت حد القذف، فكل من قذف إنساناً ولم يأت بالبينة فإنه يجلد الحد الشرعي، ومن وقع في الزنا أقيم عليه الحد، فإن كان ثيباً رجم، وإن كان بكراً جلد. وحمت الشريعة المال بأن شرعت قطع يد السارق إذا توافرت فيه شروط السرقة المعروفة. إذاً: فهذه ضروريات لحياة الإنسان حمتها الشريعة بذلك. إذاً: فالمال من ضمن ضروريات الإنسان حتى يعيش، فهو محتاج إليه، وإنفاقه له قد يكون سخاء، وقد يكون لمصلحة، كأن يأخذ أكثر منه، أو من أجل أن يمدح كما كان يفعل أهل قريش، كما قال أبو جهل: لقد تنافسنا الشرف نحن وبنو عبد مناف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذا؟ والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه! فما صده إلا الحسد للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال الله هنا: ويل لهؤلاء الذين لا يؤتون الزكاة، وليست أي نفقة فإن النفقة التي كان ينفقها هذا المجرم وغيره هي للتفاخر، وقد قال تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر:1] أي: التفاخر {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:2]، وقد كان الفخر عندهم شيئاً كبيراً جداً، وأشعارهم مليئة بالفخر الذي كان بينهم، واستكبار بعضهم على بعض، {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر:1] أي: التفاخر حتى ذهبتم إلى المقابر تعدون عظام الموتى، وتفتخرون بهم! {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت:6 - 7]، وهم لن ينفقوا؛ لأنهم أقسموا فيما بينهم ألا ينفقوا على أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يدفعوا لأحد منهم حاجة، فقال: فويل لهؤلاء الذين لا يؤتون الزكاة. إذاً: المشرك الكافر يعذب يوم القيامة على عدم دفع الزكاة، وهذه مسألة من مسائل الأصول التي يقول فيها أهل العلم: إن الكافر مخاطب بفروع الشريعة، وإن لم يأت بأصل الأصول وهو التوحيد ولا يقبل منه شيء من العبادات إذا أتى بها بوجود المانع وهو الشرك. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة فصلت [6 - 8]

تفسير سورة فصلت [6 - 8] النبي صلى الله عليه وسلم من البشر، لكن الله عز وجل فضله بالرسالة، وأكرمه بالوحي، فيجب أن يطاع ويعظم، ولا يرفع فوق منزلته، فهو عبد فلا يعبد، ورسول فلا يكذب، وقد أمر الله رسوله عليه الصلاة والسلام بالاستقامة على دينه عز وجل وترك سبيل المشركين، وأمره بأداء الزكاة والإيمان والعمل الصالح.

تفسير قوله تعالى: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد)

تفسير قوله تعالى: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد) الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة فصلت: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [فصلت:6 - 8]. يقول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم ويأمره أن يقول للخلق: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [فصلت:6]، فالنبي صلى الله عليه وسلم بشر من البشر، ومخلوق ممن خلق الله سبحانه تبارك وتعالى، أبوه آدم كغيره من البشر، ولكن الله سبحانه تبارك وتعالى اختصه بهذه الرسالة العظيمة الخاتمة التي جعلها الله عز وجل أكمل الرسالات وأفضلها وأشرفها، وأكمل بها دينه سبحانه تبارك وتعالى. فهذا النبي الكريم وظيفته وصفته أنه بشر يوحى إليه، فيدعو إلى ربه سبحانه ويأمر الخلق بطاعة الله سبحانه، وبعبادته وحده، وبتوحيده، ويبشرهم وينذرهم صلوات الله وسلامه عليه؛ فإنه عليه الصلاة والسلام بشير ونذير، يبشر من أطاع وينذر من عصى، يبشر من آمن وينذر من كفر، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول عنه ربه سبحانه: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران:144]، فهو كغيره من الرسل: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} [الأحقاف:9]، فليس شيئاً جديداً مخترعاً، ولكنه كمن تقدموا قبله من الرسل بشر من البشر يدعو إلى ربه عليه الصلاة والسلام. قال الله عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [فصلت:6]، فالوحي من الله، يدعو الخلق إلى عبادة الله الإله الواحد سبحانه تبارك وتعالى. قال عز وجل: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ} [فصلت:6]، أي: توجهوا إلى الله عز وجل بعبادتكم، وبدعائكم، وباستغاثتكم، توجهوا إلى ربكم سبحانه تبارك وتعالى بقلوبكم وأبدانكم ووجوهكم مستقيمين على دينه ولا تنحرفوا عنه، واستغفروا ربكم سبحانه. قال عز وجل: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} [فصلت:6] عقاب شديد لمن أشرك بالله، وجعل لله نداً ونظيراً، وهؤلاء المشركون من صفاتهم أنهم لا يؤتون الزكاة: {الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت:7]، فهم أشركوا بالله سبحانه، وزادوا على ذلك أنهم لا يؤتون الزكاة، والزكاة إما تزكية القلوب، بمعنى: التطهر بالإيمان، أو أنهم لا ينفقون في سبيل الله سبحانه، بل يبخلون، وإنفاقهم محض الرياء، وإخراجهم المال طلباً للسمعة، أما لله سبحانه تبارك وتعالى فلا، فويل لهؤلاء المشركين الذين طلبوا الدنيا للدنيا، فلم ينفقوا لله سبحانه، ولم يؤتوا زكاة يطهرون بهم أبدانهم وأموالهم وأنفسهم، ولم ينفقوا، بل منع بعضهم بعضاً أن ينفقوا على الفقراء والضعفاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وتواصوا فيما بينهم بذلك. هذا فعل المشركين وكذلك فعل المنافقين، والمشركون في مكة دعا بعضهم بعضاً ألا ينفقوا على أصحاب محمد صلوات الله وسلامه عليه مهما كان بهم الفقر، بل اجتمعوا على أن يمنعوا عنهم الطعام الذي يأتيهم من خارج مكة، فحبسوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم في شعب أبي طالب، حبس النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه وكفار قريش يحيطون بهم، ويمنعون عنهم الطعام الذي يأتيهم من الخارج! هذا فعل المشركين معهم. وكهذا الفعل فعل المنافقون في المدينة، فالمنافقون قال بعضهم لبعض: {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون:7]، لكونهم يعلمون تأثير المال على الإنسان، فقالوا: امنعوهم من أجل أن يموتوا من الجوع، امنعوه من أجل أن يمد يده ويشحت، امنعوه من أجل أن يرجع إلينا، أما المؤمنون فامتلأت قلوبهم بالإيمان، فلم يأبهوا لذلك، وصبروا على أمر الله سبحانه، حتى فرج الله سبحانه تبارك وتعالى عنهم، وأما المنافقون فلا يصبرون على ذلك، والكفار لا يصبرون على ذلك، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم على كفار قريش بأن يعاقبهم الله سبحانه تبارك وتعالى، ويؤدبهم بسنين كسني يوسف، فحبس الله عز وجل عنهم المطر، ومنع عنهم غذاءهم، فهرعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم مستغيثين به، يناشدونه الله والرحم، أن بيننا وبينك رحماً، فاتق الله فينا، فطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يسأل لهم ربه أن يرزقهم طعاماً وينزل عليهم ماءً، ويرفع عنهم الجدب والقحط الذي هم فيه. فالمؤمن يصبر لأمر الله ولا يلجأ إلا إلى الله سبحانه، والكافر تغره الدنيا، والكافر مستعد أن يعمل أي شيء في كفره، فيتوجه إلى الله أو إلى غير الله، ولا فرق عند الكافر في أن يتوجه إلى أحد، حتى يأخذ قوته ويأخذ طعامه، وينكشف عنه الضر. فلذلك المشركون كانوا إذا مسهم الضر في البحر يدعون الله سبحانه، فلما نجاهم إلى البر أعرضوا عن الله. ففي وقت رخائهم ووقت استراحتهم لا يعبدون الله سبحانه وتعالى، وحين يأتي عليهم البلاء من السماء يرجعون لله عز وجل ويقولون: يا رب! يا رب! إلى أن ينكشف، ويرجعون مرة أخرى إلى عبادة أوثانهم! فقد ساووا بين الله وبين غيره، يخادعون البشر ويخادعون رب البشر سبحانه تبارك وتعالى؛ فإن هؤلاء الكفار يدعون الله ويدعون غير الله، والمنافقون كذلك، يخادعون الله وهو خادعهم، ولذلك كان من أسلم من هؤلاء يثبته النبي صلى الله عليه وسلم على الدين بشيء من المال، فكان يعطي المؤلفة قلوبهم، وجعل الله عز وجل لهم سهماً من الزكاة، حتى يثبتوا على الدين، فلا يغروا غيرهم، ولا يفتنوا غيرهم، فجعل لهؤلاء حظاً وشيئاً، فيثبتهم الله عز وجل على دينه بهذا الذي يأخذونه، إلى أن يستقر الإيمان في قلوبهم بعد ذلك. فالمال يحبه الإنسان، وكلما ابتعد الإنسان عن ربه ازداد حبه للمال، وثقته في المال، فيرى أن المال يفتح له أي باب مغلق، وأن المال يعمل له الذي لا يمكن عمله، لذلك يكنز، والنبي صلى الله عليه وسلم يخبرنا عن هذا المال وعن ابن آدم أنه يهرم ويشب منه اثنان: حبه للمال، وحبه الحياة في الدنيا، وأنه يعيش ويكبر في الدنيا، ومهما شاب الإنسان ازداد حباً للدنيا، وازداد حباً للبقاء فيها، وازداد حباً للمال، وكأن قلبه شباب دائم في حب الدنيا وفي حب المال، ولا يهرم قلبه عن حب الدنيا ولا عن حب المال، إلا من رحم الله سبحانه تبارك وتعالى.

تفسير قوله عز وجل: (الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون)

تفسير قوله عز وجل: (الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون) قال عز وجل: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [فصلت:6 - 7] أي: الذين لا ينفقون لهم الويل والعذاب الأليم عند الله سبحانه تبارك وتعالى. ولاحظ أن هذه السورة سورة مكية، وأن الزكاة هنا ذكرت قبل أن تفرد بحدودها المعروفة وبمقاليدها المقدرة، فهذه إشارة إليها فقط، وكان مطلوب منهم أن ينفقوا شيئاً من أموالهم، أما تحديد النفقة وكم يكون مقدارها، وأنها في كل حصاد، ومتى تكون، فهذا حدد قدره بعد ذلك في المدينة، فهنا إشارة مجملة، والتفصيل والتبيين كان بعد ذلك في المدينة. يقول الله عز وجل: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [فصلت:6 - 7]، هذا بيان على أنهم يعذبون بالويل -وهو واد في قعر جهنم- على كفرهم وشركهم بالله، وعلى تركهم أصول الدين والإيمان والتوحيد، وعلى ترك فروع الدين أيضاً، كترك الصلاة وترك الزكاة، ولذلك حين يسألون: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر:42]، ما أدخلكم في قعر جهنم؟ {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:43]، والصلاة والزكاة من أركان هذا الدين، قالوا: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:43]، ولو صلوا هل كانت تقبل منهم هذه الصلاة؟ لا تقبل منهم الصلاة كهيئة من الهيئات إلا أن يأتوا بالتوحيد، إلا أن يقولوا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، أما لو قلدوا المسلمين ووقف الواحد منهم مع المسلم وركع مع المسلم وسجد مع المسلم، فهذا لا يقبل منهم إلا أن يأتوا بكلمة التوحيد: لا إله إلا الله، والشهادة برسالة النبي صلوات الله وسلامه عليه. إذاً قالوا: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المدثر:43 - 46]. فبدأ بالفروع فذكرها الله سبحانه تبارك وتعالى، ذكر أنهم لم يكونوا يفعلونها، ثم كذبوا بأصل هذا الدين، فكانوا يكذبون بيوم الدين. قال تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [فصلت:6 - 7]، هم بالآخرة وبالمرجع إلى الله سبحانه تبارك وتعالى وبيوم القيامة هم كافرون، فكان الكفار يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: لا توجد آخرة، وقالوا: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24]، وقالوا: {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [الأنعام:29]، ويقولون: فرضنا أن هناك آخرة، والذي أوجدنا في الدنيا أليس هو الله؟ فإذاً في الآخرة سيعطينا أيضاً كما أعطانا في الدنيا! فهم لا يؤمنون، وإذا جادلوا جدالاً قالوا: فرضنا أن هناك آخرة، فإن الله سيعطينا مثلما أعطانا في الدنيا. وقالوا: فرضنا أنه لا يعطينا، فنحن أقوياء، فيوم القيامة الذي تخوفنا منه حين يأتي ويقول الله لنا: ادخلوا جهنم، سنقف ونسد باب جهنم، ولن يدخل أحد منا! فقاسوا الآخرة على الدنيا بجهلهم، وبغبائهم وبكفرهم، فهذا كلامهم عن الآخرة، وكأن المعاملة مع الآخرة هي بهذه الصورة، وأنه لا يوجد آخرة، وإذا فرضنا وجود آخرة، فإذاً الله سيعطينا في الآخرة كما أعطانا في الدنيا، وإذا فرضنا أنه لن يعطينا، فسنقف على باب جهنم وسنمنع أي أحد يدخل فيها، هذا كلام هؤلاء المشركين. فسخروا من الآخرة، ولما هددهم الله بالزقوم في قوله: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ} [الدخان:43 - 44]، إذا بهم يسخرون، ويقولون: الزقوم هو التمر بالزبدة، فهاتوا زبدة وهاتوا تمراً وتعالوا نتزقم، يخوفنا من الزقوم، فهذا الزقوم، فنحن نأكل الزقوم! وقال عز وجل حاكياً عنهم: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص:16]، قالوا: لن ننتظر إلى يوم القيامة، فأت بهذا العذاب الذي تخوفنا منه الآن، يسخرون ويستهزئون، ولذلك يقول الله: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} [الزخرف:83]، وقال: {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ} [الطور:45] أي: اتركهم يلعبون ويخوضون، فإذا جاء وعد الله علموا الحق الذي جاء من عند الله سبحانه تبارك وتعالى. أما المؤمنون فقد آمنوا بالإيمان كله بأصوله وفروعه، آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر، وعملوا لذلك، فإن الإيمان بالله يجعل العبد يعمل للآخرة، وعرفوا من ربهم سبحانه، وترى الواحد منهم عرف حق الله فوحده وتوجه إليه بالعبادة، وآمن برسل الله، وعرف فضل الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن الرسالة نزلت عليه، وأنه أعلم هذه الأمة، فيذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيتعلم من كتاب الله، ومن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم. فأصول الإيمان: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285]. فهذه خمسة أصول من أصول الإيمان، وأيضاً ذكر الله عز وجل القضاء والقدر في مواضع كثيرة من كتابه، منها قوله سبحانه: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، وقوله: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [الأحزاب:37]، وقوله: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب:38]، فكل شيء يجري بتقدير الله سبحانه تبارك وتعالى، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون) المؤمنون آمنوا بأصول الإيمان، فآمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله اليوم الآخر وبالقضاء والقدر، آمنوا بذلك فاستحقوا النجاة عند الله سبحانه تبارك وتعالى، فقال عنهم سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [فصلت:8]، ولاحظ قوله: {آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [فصلت:8]، وكم تكرر في القرآن ذلك؟ فلابد من الإيمان والعمل الصالح، وليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، فإذاً: الإنسان حين يقول: أنا مؤمن بالله، يقال له: أين العمل الذي تعمله؟ فالإيمان يكون في قلب الإنسان، والإيمان الذي نطق به اللسان في كلمة التوحيد وطاعة الله وذكر الله سبحانه تبارك وتعالى. فإذاً: الإيمان نطق باللسان، وتصديق بالقلب والجنان، وعمل بالجوارح والأركان، هذه أصول الإيمان التي تدفع العبد إلى طاعة الله وإلى جنة الله سبحانه تبارك وتعالى. قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} [فصلت:8]، صدقوا وأقروا وأيقنوا {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [فصلت:8] أي: لهم أجر عظيم عند الله سبحانه تبارك وتعالى، (غير ممنون) أي: غير منقطع، فلا ينقطع أجرهم عند الله أبداً، بل هو خلود في الجنة، فأجرهم عظيم دائم متصل، لا ينقطع عنهم أبداً، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم ومعهم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة فصلت [8 - 12]

تفسير سورة فصلت [8 - 12] الله عز وجل على كل شيء قدير، لا يعجزه سبحانه وتعالى شيء، خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وهو عز وجل قادر على أن يخلقها في طرفة عين، ولكنه سبحانه خلقها في ستة أيام لحكمة عظيمة أرادها سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة فصلت: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت:8 - 12]. يخبرنا الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات العظيمة عن فضله على المؤمنين بعدما أخبرنا عما أعده للمشركين من عذاب أليم حيث قال: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [فصلت:6 - 7] ثم ذكر المؤمنين وما أعد لهم سبحانه تبارك وتعالى فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [فصلت:8]، وقد ذكرنا ذلك في الحديث السابق، وأن الله سبحانه تبارك وتعالى أمر الخلق بالإيمان بالله سبحانه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر، أمرهم بالإيمان، وهو التصديق واليقين والإقرار بالقلب وباللسان، فالتصديق في القلب ويتبعه القول باللسان، ويتبع ذلك العمل بالجوارح والأركان. قال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [فصلت:8] لا بد من العمل الصالح؛ حتى يستحق الإنسان أن يدخل الجنة وينجيه الله عز وجل من النار، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات يتفضل الله عز وجل عليهم بكرمه الواسع وبرحمته التي وسعت كل شيء فيدخلهم جنته ويعطيهم الأجر العظيم الذي لا نهاية له. {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [فصلت:8] أي: غير مقطوع، فلا يقطع عنهم ولا نهاية له، فيعطيهم أجرهم بغير حساب، ليس محسوباً عليهم أنه من يوم كذا إلى يوم كذا فقط وينتهي هذا الشيء، فإذا كان كذلك فهو المقطوع وهو المحسوب، فالأجر لا ينقص منه شيء، ولا يقطع عنهم، بل هو أجر عظيم عند الله سبحانه، أجر بغير حساب. معنى آخر لقوله: (غير ممنون): أي: لا يمن عليهم به، فالإنسان في الدنيا قد يعطي لغيره المال ثم يمن عليه، فالإنسان إذا من عليه آخر يستشعر بهذا الشيء الذي يقوله له ويتحسر في نفسه، أما في الجنة فلا حسرة فيها، ولكن الله يمن على عباده سبحانه ولا يوبخهم ولا يبكتهم إذا دخلوا الجنة، بل لهم النعيم العظيم الذي لا يقطع عنهم، ولا يمن عليهم بشيء من ذلك، وهذا من فضل الله الواسع. وقد علمنا الله عز وجل في القرآن أننا نعطي ولا نمن في العطاء، فقال لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6] أي: لا تعطي العطاء مستكثراً لهذا الذي أعطيت، ولكن مهما أعطيت فانظر إليه على أنه قليل، فلا تمنن تستكثر: لا تعطي وتطلب من الناس أن يردوا إليك ذلك، فعلمه سبحانه الكرم العظيم الذي يليق به صلوات الله وسلامه عليه، الكرم العظيم الذي يليق بتأديب الله عز وجل لنبيه صلوات الله وسلامه عليه، فإذا أعطيت للخلق فلا تنتظر المقابل، ولا تنتظر الأكثر مما أعطيت، وإذا أعطيت للخلق فلا تمن عليهم بما أعطيت، ولذلك لما جاء رجل من الكفار إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله عليه الصلاة والسلام شيئاً وأسلم الرجل فأعطاه غنماً بين جبلين، فرجع الرجل في غاية الفرح والسرور إلى قومه يقول: يا قوم! أسلموا؛ فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر! يعني: الظاهر أن هذا عنده غنى كثير جداً لا يخاف من الفقر، أعطاني غنماً بين جبلين، فاذهبوا فسيعطيكم هذا. النبي صلى الله عليه وسلم علمه ربه فقال: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6] لا تعط عطاءً مستكثراً على من أعطيت هذا العطاء، ولا تعط وتطلب المقابل على ذلك، إلا أن تطلب منهم الإيمان والإسلام، قال عز وجل: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23]، أي: ولكن راعوا المودة التي بيني وبينكم، وراعوا القرابة التي بيني وبينكم، ولا أسأل أحداً من الخلق شيئاً، إنما أسأل ربي سبحانه تبارك وتعالى بهذا العطاء الغير ممنون. وقد وصف الله عز وجل عطاءه سبحانه بأنه غير ممنون، ووصفه بأنه غير مجذوذ فقال: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:108] غير مجذوذ من الجذاذ، والجذ: القطع، فعطاء الله سبحانه لا ينقطع عن عباده إذا أدخلهم جنته، فإنه يعطيهم من فضله ومن رحمته سبحانه، ولا يقطع عنهم هذا الفضل العظيم.

تفسير قوله تعالى: (قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين)

تفسير قوله تعالى: (قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين) ثم قال تعالى بعد ذلك للخلق: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [فصلت:9] أي: إنكم تكفرون بالله سبحانه الذي خلق هذا العالم الذي ترونه وخلق العوالم الأخرى التي لا ترونها، ولكن يخبركم الله عز وجل عنها وكيف خلقها وفي أي زمن خلق الله عز وجل ذلك، وهذا يدلنا على قدرته العظيمة، قال عز وجل: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] والله سبحانه تبارك وتعالى هو الحليم الكريم الصبور سبحانه تبارك وتعالى، فربنا يرينا قدرته ويرينا حلمه سبحانه تبارك وتعالى، ويرينا الأشياء المتقنة؛ فإنه أتقن كل شيئاً خلقه سبحانه تبارك وتعالى، وكل شيء مخلوق بإتقان ومخلوق في الموضع الذي يريده الله سبحانه، قال سبحانه: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى:2 - 3]، فيخلق كل شيء وهو الخالق البارئ المصور، قدر سبحانه وأعطى لكل شيء صورته، وهذا جليل في خلقه سبحانه تبارك وتعالى يرينا إياه حتى نعتبر، وحتى ننظر في قدرته العظيمة سبحانه تبارك وتعالى. {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا} [فصلت:9] أنتم مقرون بأنه الذي خلق هذه الأرض، وهو الذي خلق هذه السماوات، فكيف تجعلون له أنداداً وشركاء؟ ماذا خلق هؤلاء الشركاء وهؤلاء الأنداد؟ خلق الله الأرض في يومين والله على كل شيء قدير، فهو سبحانه قادر أن يخلق الأرض وحدها في أيام كثيرة، وقادر على أن يخلقها في لحظة واحدة، ولكنه سبحانه أرانا حلمه وإتقانه، خلقها في يومين، فالله على كل شيء قدير: {إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] فإذا قال للأرض: كوني أرضاً تكون أرضاً، وإذا قال للسماء: كوني سماءً تكون سماءً، وإذا قال: كوني جبالاً وبحاراً وأنهاراً وأشجاراً تكون كما يريده الله، ولكن أرانا أن هذه الأشياء خلقها في ستة أيام كما سيأتي التفصيل. قوله: (قل أئنكم) هنا همزتان في كلمة: الأولى مفتوحة والثانية مكسورة، وفيها قراءات للقراء كل على أصله، فيقرأ قالون عن نافع وأبو جعفر وأبو عمرو: (قل أأنكم) يعني: إدخال ألف بين الهمزتين مع تسهيل الهمزة الثانية، وقراءة ورش عن نافع، وقراءة ابن كثير، وقراءة رويس أيضاً عن يعقوب: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ} [فصلت:9]، وقراءة باقي القراء: (قل أئنكم) إلا أن هشاماً عن ابن عامر له ثلاثة وجوه فيها: فيقرأ (أَئِنَّكُمْ) كغيره، وبالإدخال (أآئنكم)، وبالإدخال مع التسهيل (قل أآنكم) هذه ثلاث قراءات له. قوله: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت:9] يعني: أنه عز وجل خلق الأرض وقال لها: كوني أرضاً، في يومين، فكيف تجعلون له أنداداً؟ والند: النظير والمثيل والشريك والشبيه، فكيف جعلتم لله أشباهاً ونظراء له تعبدونهم من دونه؟ وما الذي فعلوه حتى تعبدوهم؟ إن الخالق العظيم هو الله وحده لا شريك له رب العالمين الذي يقدر ويربي سبحانه تبارك وتعالى ويخلق ويرزق سبحانه، الرب الصاحب لكل شيء، المالك لكل شيء، مالك العالمين، ورب كل عالم: عالم الإنس، وعالم الجن، وعالم الدواب، وعالم الحشرات، وعالم السموات، وعالم الأرض، وعالم الملائكة، وكل عالم داخل تحت ربوبية رب العالمين سبحانه تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها)

تفسير قوله تعالى: (وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها) قال تعالى: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت:10] هذا من قدرته سبحانه تبارك وتعالى وإتقانه لكل شيء، خلق هذه الأرض في يومين، وأوجد فيها ما فيها من أشياء في يومين، فخلق الأرض وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواءً للسائلين، فهنا كأنه يقول لنا: إنه خلق الجبال الرواسي التي ترسو فوق الأرض وترسي هذه الأرض فتثبتها بأن لا تميل بكم، فجعل في الأرض رواسي من فوقها وبارك فيها وأخرج منها النماء وجعل فيها البركة، وخلق فيها أرزاق العباد، وقدر فيها أقواتها، والأقوات: ما يحتاجه أهل الأرض، وكل ذلك بتقدير الله سبحانه تبارك وتعالى، فقد قدر في كل زمان وفي كل مكان أرزاقهم وأقواتهم، وكلها محسوبة معلومة عند الله سبحانه تبارك وتعالى تامة غير ناقصة، ولو أنهم أحسنوا وعبدوا الله سبحانه لأتى كل إنسان رزقه من عند الله سبحانه تبارك وتعالى. وقوله: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت:10] جعل الله الرواسي في الأرض وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في يومين، وفي اليومين الأولين خلق فيها الأرض، فيكون المجموع أربعة أيام سواءً للسائلين. وهل تلك الأيام متصلة؟ لا؛ كأنه فصل بين خلق الأرض وبين إيجاد الجبال فوقها والأقوات فيها بخلق السماوات في يومين، فخلق الأرض في يومين، وسوى السماوات في يومين، وجعل في الأرض الرواسي والأقوات في يومين، والمجموع ستة أيام، ففي هذه الآيات يخبرنا عز وجل عن مجموع الأيام التي خلق فيها هذه الأرض وعن كون الأرض، وذكر الله سبحانه أنه خلقها وقدر فيها الأقوات والأرزاق في أربعة أيام سواءً للسائلين، لكن يخبرنا في آية أخرى عن هذه الأرض فيقول: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [النازعات:30 - 33]، وقال قبلها: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} [النازعات:27 - 29]، ثم قال: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ} [النازعات:30] دحاها: أي بسطها، وجعلها مبسوطة، والأرض خلقها الله سبحانه كروية، ولكن في نظر الناظرين وسع الأرض حيث جعلها أمام الناظر يراها مستوية، فيقدرون على العيش فوقها. فكأن الخلق للأرض في يومين، وخلق السماء في يومين، ثم دحو الأرض وإخراج الأقوات منها في يومين بعد ذلك، هذا ظاهر قوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ} [النازعات:27] ثم ذكر بعد ذلك: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات:30] أي: بعدما خلق السماوات وسع الأرض وبسطها للعباد، وجعل فيها الجبال الرواسي، وأخرج منها الأقوات، وقدر فيها ما شاء وبارك فيها سبحانه، فكان خلق الأرض في أربعة أيام سواءً للسائلين. والله عز وجل جعل الجبال الراسية التي هي فوق الأرض لتثبتها ولترسي هذه الأرض من فوقها، وجعل فيها البركة والنماء، وما خلق الله عز جل لعباده من أشياء وقدر فيها من أقوات رزقاً للعباد إلى أن تقوم الساعة وتفنى الأرض ومن عليها، وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواءً للسائلين. وقوله: {سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت:10] كأنه يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: إذا سئلت عن ذلك فالذي قلناه لكم: خلقنا الأرض في أربعة أيام سواء، أي أربعة أيام مستوية تامة، فهذا الجواب لمن سأل، ومن لم يسأل فهذا موجود في كتاب الله عز وجل. {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت:10] أي: قدرنا ما في هذه الأرض من أقوات ومن أرزاق على قدر حاجة المحتاجين، فإذا جاء من يسأل: كيف خلق الله عز وجل؟ وفي أي شيء خلق الله سبحانه؟ فأجبه بذلك، ومن سأل الله: يا رب! ارزقني، يا رب! أطعمني، يا رب! اسقني، فقد جعل الله عز وجل فيها لكل سائل حاجته، فجعلنا هذه الأشياء في هذه الأرض لمن يحتاج إليها، فمن يسأل الله شيئاً يجد ما رزقه الله سبحانه وما أعطاه الله سبحانه تبارك وتعالى. وقوله: {سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت:10] هذه قراءة الجمهور، وقرأها أبو جعفر (سواءٌ للسائلين) أي: هي سواء، وقرأها يعقوب: (سواءٍ للسائلين) على الوصف للأرض.

تفسير قوله تعالى: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان)

تفسير قوله تعالى: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان) قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11] هنا استوى بمعنى: قصد وعمد وتوجه إليها ليفعل ما يريد سبحانه تبارك وتعالى، وهذا غير استوى على العرش، فاستواء الله على العرش استواء معلوم؛ فالله سبحانه مستوٍ على عرشه، استواء كيف يشاء وكما يشاء سبحانه تبارك وتعالى. وهنا استوى إلى السماء بمعنى: عمد إليها وقصد إليها بالفعل وبالخلق سبحانه تبارك وتعالى. وقوله: ((وَهِيَ دُخَانٌ)) كانت دخاناً فأوجد الله عز وجل منها السماوات، فسمكها وجعل لها كسفاً وجعل لها سمكاً، وجعل فيها أهلاً، فخلق ملائكة وسكاناً لكل سماء. قال سبحانه: {فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} [فصلت:11] الله عز وجل يأمر السماوات أن تطيع، ويقول لها: أطيعي أمري شئت أم أبيت، والأرض كذلك، هذا الجماد الذي خلقه الله جعل فيه ما ينطق ويجيب ربه، والله على كل شيء قدير، ولا عجب في ذلك أن تنطق السماء وأن تجيب الأرض، والإنسان مخلوق من تراب هذه الأرض، وجعل الله عز وجل فيه ما ينطق ويتكلم ويجيب ربه سبحانه، كذلك السماوات والأرض، قال تعالى: {اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} [فصلت:11] أطيعا ولبيا أمر الله سبحانه {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11] الجماد أتى ربه طائعاً، والأرض تخرج أرزاقها كما يأمرها الله سبحانه، والسماء تنزل بركاتها، والكل أطاع الله وعبد الله طائعاً إلا الإنسان؛ فكثير من الناس حق عليهم العذاب. قال تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت:12]، خلق السماوات، هذه السماء العظيمة نرى فيها قدرة الله البديعة العظيمة، والأرض أصغر من السماء بكثير، فجعل سبحانه للأرض أربعة أيام، وجعل للسماوات التي هي أعظم بكثير يومين، ليرينا قدرته، وأنه لا يعجزه شيء، فالشيء العظيم يخلقه. كما أنه سبحانه يبعث عباده يوم القيامة وهو قادر في لحظة أن يحاسب الجميع، لكنه جعل للحساب يوماً طويلاً مقداره خمسون ألف سنة؛ ليحاسب فيه العباد، وهو قادر على أن يحاسبهم في لحظة كما أنه يفني الأرض ومن عليها في لحظة، ويحيي العباد في لحظة، والله على كل شيء قدير يرينا قدرته على أن يطيل علينا الأيام والليالي وعلى أن ينقصها ويقللها، والله على كل شيء قدير، قال: {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت:12]. وللحديث بقية إن شاء الله. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة فصلت [9 - 12]

تفسير سورة فصلت [9 - 12] كيف يكفر الإنسان بالله تعالى الذي خلق الأرض في يومين وجعل فيها الجبال الرواسي تثبتها، وقدر فيها أرزاق الخلائق في يومين آخرين، ثم خلق السماوات في يومين كذلك وأوحى في كل سماء أمرها وزين السماء الدنيا بالنجوم والكواكب زينة لها وحفظاً من كل شيطان يسترق السمع؟! فما أظلم من كفر بخالقه وعبد غيره!

تفسير قوله تعالى: (قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين)

تفسير قوله تعالى: (قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة فصلت: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت:9 - 12]. يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن قدرته العظيمة الباهرة، وعن خلقه المتقن العظيم الصنع في خلقه للسموات وللأراضين، وما جعل فيها من دواب ومن جبال راسيات، وما قدر فيها من أقوات وأرزاق للعباد وغير ذلك فيقول: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [فصلت:9]. فبين سبحانه أنه خلق الأرض في يومين، ثم خلق السموات في يومين، ثم جعل في الأرض رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في يومين، فصار خلق الأرض وتقديرها في أربعة أيام، وخلق السماوات في يومين، وهنا مزيد اعتناء بهذه الأرض، التي يكون عليها هذا الإنسان الذي كرمه الله سبحانه وتعالى. وخلق الله آدم على نبينا وعليه الصلاة السلام، في آخر ساعة من ساعات يوم الجمعة، وجعل لآدم هذه الأرض سكناً ومتاعاً إلى حين، وخلق السموات العلى، وجعل ما فيها من زينة وما فيها من خلق في يومين اثنين، وهي أعظم بكثير من هذه الأرض، قال تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ} [النازعات:27] فهذه السماء العظيمة خلقها الله في يومين، وهذه الأرض التي نحن عليها عظيمة واسعة متسعة وهي بجوار السموات شيء قليل لا قيمة لها، وجعل لها أربعة أيام ليسكن فيها آدم وذريته. وكرم الله ذرية آدم أنه خلق آدم بيده سبحانه وتعالى، وسواه ونفخ فيه من روحه، وجعل له هذه الأرض مستقراً ومتاعاً إلى حين، فسوى له هذه الأرض، ودحاها، وبسطها، وجعل فيها أرزاقها للعباد، وقدر فيها ما قدر سبحانه وتعالى، حتى يستمتع الإنسان على هذه الأرض إلى حين فيعبد ربه ويعرف نعم ربه سبحانه وتعالى عليه. وزين الله السماء الدنيا بمصابيح ليهتدي بها الإنسان ويستمتع بالنظر إليها، وتكون له دليلاً في مسيره شمالاً أو يميناً أو جنوباً أو شرقاً أو غرباً، قال تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك:5]، وجعلها حفظاً للسماء من الشياطين ودليلاً وهداية للإنسان. والإنسان قد اعتنى به ربه سبحانه وتعالى بأن هداه في سبيله وطريقه إلى الله عز وجل في شريعته وفي دينه، وكرمه الله سبحانه وحمله في البر والبحر، فإذا عرف الإنسان رحمة ربه به ونعمته عليه وتكريمه له، عبد الله سبحانه, فكيف يكفر بعدما صنع به الله عز وجل ذلك؟ وبعدما صنع له هذه النعم العظيمة أيكفر بالله الخالق القادر سبحانه، الذي خلق هذه الأشياء وهو قادر على أن يخلق الجميع في لحظة وعلى أن يفني الجميع في لحظة؟ قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]. وقال سبحانه وتعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [فصلت:9]. وذلك الخالق العظيم هو الذي خلقكم ورباكم بنعمه سبحانه وتعالى، وهو مالككم ومالك كل شيء، وجعل في هذه الأرض رواسي من فوقها وبارك فيها، وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام، وهذا التقدير في هذه الأرض من أرزاق وأقوات وجبال رواسي كان بعد خلق السماوات، فلقد استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات ثم بسط الأرض لعباده، وقدر لهم فيها الأرزاق، وجعل الرواسي فوقها فكان جميع الأيام ستة أيام.

تفسير قوله تعالى: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان)

تفسير قوله تعالى: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان) قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11]. خلق الله تعالى السموات والأرض والجمادات التي خلقها الله عز وجل من دخان، وبسط هذه الأرض، وكانت عدماً فجعل منها تراباً وطيناً، ثم أمر السماوات والأرض: {اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11]، وأمرهما الله سبحانه بطاعته سبحانه وتعالى سواء رفضتا أم أطاعتا. فالجماد عرف فضل الله وقدرته سبحانه وتعالى والإنسان كفر بالله وعصاه!

تفسير قوله تعالى: (فقضاهن سبع سماوات في يومين)

تفسير قوله تعالى: (فقضاهن سبع سماوات في يومين) قال الله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت:12]. أي: انتهى من خلق السموات وفرغ منهن في يومين ومن الجميع في ستة أيام، وأوحى في كل سماء أمرها، فكل سماء فيها ملائكة وفيها من خلق الله مالا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، والأرض بجوار السموات كحلقة صغيرة ملقاة في فلاة، وهي: الصحراء الضخمة العظيمة، فلا وجه مقارنة أو نسبة بين الحلقة الصغيرة التي رميت في هذه الصحراء، فالصحراء شيء عظيم شاسع وواسع وهذه الحلقة صغيرة قليلة ليس لها قيمة بجوار ذلك، ولا موازنة أو نسبة بين قطرة وبحر عظيم، كذلك الأرض إذا قورنت بهذه السموات! والسموات كلها إذا كانت بجوار كرسي الله سبحانه وتعالى كانت كحلقة في فلاة، والكرسي بجوار العرش كذلك، والله فوق العرش، قد أحاط بكل شيء، وهو فوق كل شيء سبحانه وتعالى، فهو العلي الكبير سبحانه وتعالى، وأكبر وأعظم من كل شيء لا إله إلا هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له. وقوله سبحانه: {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا} [فصلت:12]. جعل الله النجوم في السماء مثل المصابيح الصغيرة التي تكون في السقف، كذلك زين الله السماء الدنيا بمصابيح، وجعلها زينة لأهل الأرض لينظروا إليها ويفرحوا بالنظر إليها، وجعلها هداية لابن السبيل فيعرف الشمال من الجنوب والشرق من الغرب، وتكون دليلاً في مسيره في الطريق، وجعل منها ما يقذف به الشياطين فيحرقهم بالشهب التي فيها. فهي حفظ للسماء من أن يخترقها الشياطين والجان لاستراق السمع، فالذي قدر ذلك هو الله العزيز العليم سبحانه، وذلك التقدير العظيم لا يخطئ أبداً، فكان على ما قدره الله سبحانه وتعالى ولا يشذ أبداً ولا يفلت منه شيء ولا يعجزه شيء سبحانه وتعالى، فهو العزيز الغالب القاهر الذي لا يمانع سبحانه وتعالى، ولا يقدر أحد أن يرد قضاء الله عز وجل. وأظهر عزته وقدرته وجبروته وقهره لكل شيء سبحانه العليم بكل شيء، ولا يخفى عليه شيء.

الآيات التي توهم التعارض

الآيات التي توهم التعارض جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً قال له: إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي، أي: توهم أنها متعاكسة أو متناقضة وهي قوله تعالى: {فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101]. وقوله سبحانه: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:27]. كأن الرجل ظن أن فيهما تناقضاً، فإذا أشكل على رجل شيئاً فإنه يذهب إلى أهل العلم فيسألهم كما قال الله عز وجل: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هلا سألوا جهلوا، إنما شفاء العي السؤال)، فالإنسان الذي يجهل الشيء ليس عيباً أن يسأل، إنما العيب أن يسكت على جهله أو أنه يفسر لنفسه أو يشرح لنفسه. قال: وكذلك قوله تعالى: {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:42]. وقوله: {قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23]. وكذلك قوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} [النازعات:27]، إلى قوله سبحانه: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات:30]، مع قوله تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [فصلت:9]. إلى قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11]، فالآية الأولى ذكرت أن خلق الأرض بعد خلق السماء، والآية الثانية ذكرت العكس. وكذلك في قوله سبحانه: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفتح:14]، وقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:158]، وقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:134]. كأن الرجل لم يفهم اللغة جيداً فكأنه فهم أن الفعل الناقص (كان) يفيد الزمن الماضي فقط. فإذا بـ ابن عباس يجيبه رضي الله عنه، ويرفع عنه الإشكال في هذه الأسئلة، ببركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم أن يفقهه في الدين ويعلمه التأويل، فقال رضي الله عنهما: قوله تعالى: {فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101] ذلك في النفخة الأولى، قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68]. فكل الخلائق يموتون فلا تنفعهم أنساب ولا أحساب ولا أموال ولا غير ذلك، فإذا نفخ فيهم النفخة الأخرى قاموا من قبورهم فيسأل بعضهم بعضاً عن يوم الحساب، قال تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:27]. أما قوله سبحانه عن الكفار أنهم قالوا: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23]. مع قوله: {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:42]. فإن الله عز وجل يغفر لأهل الإخلاص والتوحيد الذين عبدوا الله وكانوا مسلمين، فيغفر لهم صغائر ذنوبهم وكبيرها ويتجاوز عنها بسبب إخلاصهم وتوحيدهم أن قالوا: لا إله إلا الله، فلما رأى هؤلاء المشركون أن الله يغفر لأهل التوحيد قالوا: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23]. أي: نحن كنا موحدين أيضاً، فكذبوا على الله فختم على أفواههم، وشهدت عليهم أعضاؤهم بأنهم كذبوا وأشركوا وكفروا، فتنطق على أنفسهم بالحق فلا يكتمون الله حديثاً. كذلك المنافقون يوم القيامة فإنهم يحلفون بالله سبحانه وتعالى أنهم كانوا مؤمنين ولم يكونوا مشركين: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [المجادلة:18]. فلما كذبوا أشهد عليهم جوارحهم فينطق على أحدهم جلده ويده وفخذه ورجله {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:42]. فإذا بأحدهم يدعو على نفسه ويقول: سحقاً لكن! عنكن كنت أدافع، أي: كانت لسانه تدافع عن يده ورجله وأعضائه، فيكذبون أمام الله تعالى أنهم كانوا مؤمنين تم تشهد أعضاؤهم بخلاف كذبهم، فيستحقون العذاب بشهادتهم على أنفسهم. وجمع ابن عباس رضي الله عنهما قوله تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا} [فصلت:9]. ثم ذكر الله سبحانه وتعالى: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت:10]. فذكر الأربعة الأيام ثم قال: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [فصلت:11]، وقوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت:12]. مع قول الله عز وجل: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ} [النازعات:27]. وبعدما ذكر السماء قال: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات:30]. فقال ابن عباس: خلق الله الأرض في يومين: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [فصلت:11]، فسواهن سبع سموات ثم أكمل ما في الأرض من أشياء فهنا لا يوجد أي تعارض بين هذه وهذه، فبدأ بالأرض ثم السماء ثم رجع إلى الأرض مرة ثانية، فلم يقل في قوله تعالى: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات:30]: والأرض بعد ذلك خلقها، وإنما دحاها أي: بسطها للناظرين، وجعل فيها المعايش لمن كان عليها، فكان كل من الآيتين يعطي المعنى نفسه. فدحاها أي: أخرج منها الماء والمرعى وخلق الجبال والآكام وغير ذلك في يومين آخرين، فذلك قوله سبحانه دحاها، وقوله: {خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت:9]. فخلقت الأرض وما فيها من أشياء في أربعة أيام وخلقت السماوات في يومين. وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:96]. سمى الله سبحانه وتعالى نفسه الغفور الرحيم, فالتسمية من الأزل، ولا تزال هذه التسمية أبداً لله سبحانه وتعالى، وكان هو الفعل الوحيد الذي يصلح أن يكون للماضي وللحاضر وللمستقبل، فالله غفور في الماضي والحاضر ولا يزال هكذا أبد الآبدين سبحانه وتعالى. وكان الله عز وجل بأسمائه وصفاته سبحانه وتعالى منذ الأزل، ولم يحدث له شيء جديد، وإنما هو الله سبحانه العزيز الحكيم الغفور الرحيم في الماضي وفي الحاضر وفي المستقبل. فالله لم يرد شيئاً إلا أصاب به الذي أراد، فلا يختلف عليك القرآن فهو من عند الله. فـ ابن عباس رضي الله عنهما له قدر عظيم، فهو الذي جمع بين الآيات ورفع ما يشكل على الناس، فاستحق أن يكون ترجمان القرآن وحبر هذه الأمة رضي الله عنه وعن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة فصلت [13 - 16]

تفسير سورة فصلت [13 - 16] أهلك الله عز وجل الأمم السابقة التي كذبت رسلها بأنواع شتى من العذاب، فمنهم من أهلكه الله بالريح كعاد، ومنهم من أهلكه الله بالصيحة كثمود، ولقد هدد الله كفار مكة إن أعرضوا عن دينه بعذاب كعذاب عاد وثمود.

تفسير قوله تعالى: (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود)

تفسير قوله تعالى: (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة فصلت: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ * إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} [فصلت:13 - 16]. يخبر الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات عن قدرته العظيمة على تعذيب من كفر بالله، وجحد بآيات الله، وكذب رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين, وقبل هذه الآيات ذكر لنا قدرته العظيمة في الخلق والرزق والإبداع سبحانه تبارك وتعالى، فقد خلق السماوات والأرض، وبث في الأرض الدواب، وبارك فيها وقدر فيها أقواتها وجعل فيها الرواسي، وكان هذا الخلق في ستة أيام، فأرنا الله عز وجل قدرته على الإيجاد، وعلى الخلق، وعلى رزق عباده، وأنه رب العالمين سبحانه، وأخبرنا أن الذي يقدر ذلك هو الله العزيز الغالب، الذي قال للسماوات والأرض: {اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11]. فهو العزيز الغالب، الذي لا يمانع سبحانه تبارك وتعالى، إذا قضى شيئاً فلابد أن يكون، وهو العليم سبحانه الذي يعلم كل شيء مما ظهر وما خفي، ويعلم ما في قلوب العباد ونياتهم، وما لم يعملوه ولم ينووه، وقد علم الله عز وجل ما هم فاعلون. وهنا يقول لنا: إن أعرض هؤلاء الكفار عن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه ينذرهم بصاعقة وبعذاب شديد من عنده عز وجل، وكأن الصاعقة هي: الصيحة التي يكون من ورائها رجفة عظيمة تهد الناس، وتهزهم في أماكنهم فيغشى عليهم فيموتون بسببها. قال تعالى: {فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:13] أي: خوفتكم الهلاك كما أهلكنا عاداً وثمود. قال تعالى: {إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} [فصلت:14] أي: جاءتهم الرسل أمامهم، فأرسل الله عز وجل إلى عاد أخاهم هوداً. وقوله تعالى: {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} [فصلت:14] أي: من قبل هؤلاء أرسل إلى قوم نوح نبيهم نوحاً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فكانت الرسل من قبلهم وقد علموا ذلك، ومن ورائهم أرسل الرسل، فكأنه يقول: بلغهم نبأ ما كان قبلهم، أي: أخبار قوم نوح من قبل، وجاءهم رسول إليهم. ولما أهلك الله عاداً جاءت ثمود بعد ذلك، وجاءهم خبر من كان قبلهم، أي: قوم نوح وقوم عاد، وكيف أهلكهم الله، ثم جاءهم رسولهم صالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام يدعوهم إلى الله، وكل قوم يهلكهم الله يحذرهم ما صنع بالذين من قبلهم. قال سبحانه: {إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} [فصلت:14]، وما بين اليدين هو ما يراه الإنسان، وما خلفه ما لا يراه، فكأن المقصود بمن خلفهم أي: قبلهم من الرسل الذين سمعوا عنهم ولم يروهم، وأما الذين من بين أيديهم فكأنهم من يرونهم من رسل الله سبحانه. فسمعوا أخبار الرسل السابقين، وعرفوا أنهم دعوا إلى الله، وإلى توحيده سبحانه، فكذبوا فأهلك الله عز وجل قومهم. وكذلك هؤلاء جاءتهم العظة والعبرة على لسان رسلهم، فإن الرسول الذي يرسله الله عز وجل إلى قومه يخبرهم بأنباء من كانوا قبلهم، فكأن السابقين أنذروا قومهم، وتركوا النذارة لمن بعدهم أيضاً. قال تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً} [فصلت:13] أي: يأتيكم عذاب يصعقكم على أي شكل من الأشكال، فقد تأتي صاعقة من السماء، وقد تأتي ريح شديدة فيها صرصر، أي: ذات صوت عاصف شديد تهد الناس وتميتهم ويغشى عليهم بسببها، أو يكون عذاب من نار من السماء يحرقهم، كما في هذه الآيات. قال تعالى: {فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:13]، فعاد: أخذتهم الصيحة، وثمود: أخذتهم الرجفة من عند الله سبحانه تبارك وتعالى. وكلهم كذبوا واستكبروا على رسل الله. فأما عاد فقالوا باستكبارهم: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت:15]، فأراهم الله عز وجل بهذا العذاب هل هم أقوى أم هذه الصاعقة التي أرسلها الله سبحانه تبارك وتعالى عليهم؟

تفسير قوله تعالى: (إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم)

تفسير قوله تعالى: (إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم) قال تعالى: {إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأَنزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [فصلت:14] دعوة جميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام الدعوة إلى عبادة الله وحده، والمنع من عبادة أي شيء غيره. وهذا المعنى هو نفسه معنى: لا إله إلا الله أي: لا يستحق العبادة إلا إله واحد. لصفة الألوهية الحقة لأي أحد ولأي شيء، وإثباتها للإله الواحد سبحانه تبارك وتعالى. قال تعالى: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [فصلت:14] أي: لا تتوجهوا بعبادتكم لأحد إلا لمن يستحق أن يكون إلهاً وهو الله سبحانه تبارك وتعالى. فهو نفس معنى لا إله إلا الله، وكل الأنبياء والرسل قد دعوا أقوامهم إلى أن يقولوا: لا إله إلا الله، يعني: لا نعبد إلا الله. وكل الأقوام كانوا يقرون بأن الخالق هو الله، وبأن الرب هو الله، وأن الله هو الرب الذي يخلق ويرزق، سبحانه تبارك وتعالى. وقد كانوا يعبدون غيره سبحانه تبارك وتعالى، قال الله سبحانه: {قَالُوا} [فصلت:14]، أي: الأقوام، {لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلائِكَةً} [فصلت:14] أي: ألم يجد الله غيركم؟ فلو أراد الله أن يرسل أحداً لأنزل ملائكة علينا. ولو شاهد الناس الملائكة لآمنوا، فيكون الإيمان قسراً وقهراً، ويجبرون على الإيمان. وهذا ما لا يريده الله عز وجل، وإنما يريد من عباده أن يختاروا هذا الدين العظيم الذي أرسل به الأنبياء. فقد كلفهم الله وهداهم النجدين، وبين لهم سبيل السعادة وسبيل الشقاء، وليختر كل منهم ما يريد، ولا يحاسب إلا على اختياره، وإن كنا نؤمن أنهم لا يشاءون إلا أن يشاء الله، ولن يفعل أحد شيئاً إلا وقد علمه الله وقدره قبل ذلك وكتبه عنده سبحانه تبارك وتعالى، ولكن أمرنا أن نفكر وأن نختار، فاختار هؤلاء طريق الشقاوة، فقالوا: {لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [فصلت:14] أي: لن نؤمن بكم ((فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ)). فاستكبروا هؤلاء على الرسل الذين بعثهم الله، فقالوا: {لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلائِكَةً} [فصلت:14]، فأعرضوا عن رسلهم، وأعرضوا عن دين الله، ولم يعملوا عقولهم في ذلك، واستكبروا في الأرض. قال الله سبحانه تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} [الفجر:6 - 13]. فأنزل عليهم عذاباً صبه عليهم من السماء، وكانوا يتوقعون من السماء الرحمة والمطر، فصبه عليهم من السماء، فمن حيث كانوا يأمنون وينتظرون الرحمة جاءهم العذاب، وصُب عليهم العذاب صباً. قال تعالى: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:13 - 14] أي: ليس هؤلاء فقط الذين أهلكوا، وإنما كل من سار على نهجهم ومن فعل فعلهم وكفر كفرهم فله الهلاك، قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14] أي: يرصد كل إنسان يطغى على أمر الله سبحانه ويظلم الخلق، ويعطيه من العذاب ما يستحقه.

تفسير قوله تعالى: (فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق)

تفسير قوله تعالى: (فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق) قال سبحانه: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت:15]، وقال سبحانه: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [الأعراف:65]. فالرسول الذي أرسل إلى عاد كان أخاهم هوداً، وقد كانت عاد من العرب، وكانوا في اليمن، وكانت عاد قبل ثمود، وهي عاد الأولى، وقد أهلكها الله سبحانه تبارك وتعالى. قال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:65]. فدعاهم إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، وأنكر عليهم ما هم فيه من باطل ومن لعب. فقال: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:128 - 131]. وهذا بعض صنيعهم، فكانوا قد استكبروا عندما وجدوا في أنفسهم القوة، قال تعالى: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} [الفجر:7] يعني: بيوتهم عالية عظيمة، فقد نحتوا الجبال نحتاً، وصنعوا قصوراً بداخل هذه الجبال، فأعطاهم الله عز وجل قوة لم يعطها لأحد من بعدهم من العالمين، فاستكبروا بقوتهم، واستطالوا على رسولهم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فلما فعلوا ذلك قال الله سبحانه تبارك وتعالى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ} [فصلت:15] أي: على الخلق، قال تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} [الشعراء:128] أي: تلعبون، {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ} [الشعراء:129]، أي: أماكن لجمع المياه على هيئات فيها افتخار، وظلم للخلق، وأنتم غير محتاجين إلى ذلك، وإنما كانوا يصنعونها ليروا الناس أنهم أقوياء بصنعها، فكانوا يصنعون هذه المصانع التي هي موارد للمياه على هيئات عظيمة -أحواض ونحوها- يجمعون فيها المياه، ويُروا من أنفسهم أنهم أقوياء قادرون، ويفاخرون الخلق بذلك. ويقولون لهم: هذه بيوتنا شققناها في الجبال وصنعناها فيها، وهذه عمداننا عالية طويلة؛ لأننا طوال الأجسام عريضها لا نسكن في بيوت مثلكم، وإنما ننحتها في الجبال. استكباراً على الخلق، وتعالياً عليهم. قال {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ} [الشعراء:128 - 130] أي: بأقوام، {بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء:130] أي: وأنتم قاهرون لهم مستكبرون عليهم، ولم يكن في قلوبهم رحمة، قال: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء:130] أي: قاهرين غالبين لهم لا رحمة في قلوبكم فانتظروا جزاء صنيعكم وعملكم. قال الله عز وجل هنا: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت:15]، وهذا هو الاستكبار في الأرض، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت:15] فهم معترفون بالرب سبحانه، ومعترفون بأن الرب أقوى منهم، ودليل اعترافهم بالرب أنهم بعثوا وافدهم إلى مكة يستسقي هنالك فهم يعرفون أن الرب القادر هو الذي يرزقهم ويسقيهم.

بعث عاد وافدهم للاستسقاء لهم

بعث عاد وافدهم للاستسقاء لهم جاء في الحديث كما في سنن الترمذي ومسند الإمام أحمد من حديث الحارث بن يزيد البكري أنه قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في قصة طويلة، وذكر الرجل: (أنه لما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم كانت معه امرأة من بني تميم حملها في الطريق معه، -وهذا الرجل كان من بني بكر، وكان بين قومه وقومها عداوة، فلما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله! اجعل الدهناء حاجزاً بيننا وبين بني تميم، -وكأنه يريد أن يأخذ الدهناء لبني بكر الذي هو منهم، ويجعلها حاجزاً بينهم وبين بني تميم، فاستوفزت المرأة، فقالت للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إلى أين تضطر مدركة؟ -أي: إذا أعطيتهم هذه الأرض التي فيها المياه ولنا فيها حاجة، فأين نذهب؟ - فنظر إليها الرجل وقال: أعوذ بالله أن أكون كوافد عاد. وقال: إنما مثلي ومثلك كما قال الأول ماعز حملت حتفها يعني: أخذتك معي ولا أعلم ما الذي ستفعلينه معي؟ فأنت تهاجميني بعد أن عملت فيك هذا الجميل؟ فقد وضحت هي للنبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الدهناء أرض تحتاجها بنو تميم، أي: قومها، وفيها إبلهم ترعى، فعندما تجعلها لهؤلاء فأين نذهب نحن؟ وكلامها صدق، ولذلك صدقها النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك وامتنع من أن يعطيه هذا الذي طلبه. وهذا الحديث حديث حسن، وقال الحارث في حديثه: أعوذ بالله أن أكون كوافد عاد. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أعلم منه بالقصة، ولكنه لما لم يعطه الذي يريده قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (وما وافد عاد؟)، وهو أعلم منه صلوات الله وسلامه عليه، (فقال الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن عاداً لما أقحطوا أرسلوا وافدهم، إلى مكة)، فكأن هذا الموضع معروف من القديم أنه موضع بركة، وإن كان الذي رفع البيت فيه هو إبراهيم بعدهم بآلاف السنين، ولكن الغرض أن هذا المكان من عهد آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام معلوم أنه مكان البركة في الأرض. فكان من أصابه شيء يذهبون به إلى هذا المكان، ويسألون الله سبحانه تبارك وتعالى له، فإذاً: كانوا يطلبون الرزق من الله، ويؤمنون بأن الذي خلق هو الله، ولا ينكرون هذا، وإنما يصدقون به، ويعلمون أن الخالق والرازق هو الله، وهذا هو إيمان الربوبية، وليس هو المطلوب من العباد؛ لأن الكل يعرف ذلك، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87]، وإنما المطلوب هو التوجه بالعبادة إلى هذا الخالق العظيم سبحانه، وتوحيده في العبادة كما قال تعالى: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون:23]، وقد أرسلت عاد وافدهم إلى هذا المكان، واسمه قيل. ولما توجه إلى مكان مكة في ذلك الزمان ذهب إلى رجل هنالك اسمه معاوية بن بكر ومكث عنده شهراً، يسقيه الخمر وتغنيه الجرادتان، ولما مر شهر سأله معاوية: إلى أين بعثك قومك؟ فتذكر أن قومه أقحطوا ثلاث سنوات، ويطلبون الطعام والماء والمطر، فذهب إلى موضع مكة، ودعا ربه هنالك وقال: اللهم إني لم آتك لأسير لأفاديه، ولا لمريض لأداويه، ولكن اسق عاداً ما كنت تسقيه، فأنشأ الله عز وجل ثلاث سحابات سوداء، ونودي منها: اختر، فنظر إلى أشدهن سواداً وقال: هذه، فهي في نظره سوداء مظلمة، فهي مليئة بالماء، فكان فيها العذاب فقيل له: خذها رماداً رمدداً، لا تبق من عاد أحداً، فكانت عليهم ريحاً من السماء فأهلكهم الله عز وجل بها. قال تعالى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت:15]، ونسوا الله سبحانه تبارك وتعالى الذي لما منع عنهم المطر رجعوا يطلبون منه الغيث، ولم يعبدوه سبحانه تبارك وتعالى، ولكن استكبروا عن العبادة وطلبوا منه الرزق والماء. قال الله سبحانه: {وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت:15].

تفسير قوله تعالى: (فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا)

تفسير قوله تعالى: (فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً) قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} [فصلت:16] أي: أرسل الله عز وجل عليهم الريح في: {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} [الحاقة:7] فنزلت عليهم هذه السحابة بالعذاب من عند الله سبحانه تبارك وتعالى، وكانت ريحاً شديدة ليس فيها مطر، وكانت أصواتها عالية، وكانت ريحاً صرصراً، أي: عظيمة البرودة، شديدة الهبوب، وفيها أصوات عالية منكرة من جنس كفرهم واستكبارهم، فقد استكبروا على الخلق، ورفعوا أصواتهم على نبيهم عليه الصلاة والسلام، {وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت:15] فجاءتهم هذه الريح شديدة الهبوب {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة:7]، فكانت الريح تأتي على أحدهم فتقلعه من الأرض، وترفعه فينزل على الأرض ميتاً، قال تعالى: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} أي: كجذوع النخل الفارغة، فانظر إلى الريح وصنعها، وانظر إلى هؤلاء الذين شبههم الله بالنخل، فقد كانوا طوال الأجساد أقوياء، فصاروا صرعى على الأرض {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة:7 - 8] أي: هل ترى أحداً منهم موجوداً الآن؟ لقد ذهبوا كما ذهب من كان قبلهم؛ لأنهم كانوا يجحدون بآيات الله، فكان هذا العذاب في أيام نحسات في الدنيا، وبعد ذلك عذاب الآخرة. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة فصلت [15 - 18]

تفسير سورة فصلت [15 - 18] أهلك الله تعالى الأولين عندما كذبوا رسله، مثل عاد وثمود، فقد كذبوا واستكبروا في الأرض بغير الحق فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، وجعلهم آية وعظة لكل من جاء بعدهم.

تفسير قوله تعالى: (فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق)

تفسير قوله تعالى: (فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة فصلت: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ * وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [فصلت:15 - 18]. يقول الله سبحانه وتعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: إن أعرض هؤلاء المشركون فحذرهم وأنذرهم بعذاب من عند الله سبحانه كما حدث للسابقين لهم، فإن أعرضوا فقل: أنذرتكم، خوفتكم، وهددتكم بعذاب مهلك من عند الله سبحانه، وأنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، والصاعقة: هي كل أمر هائل رآه الإنسان أو عاينه حتى يصير من هول هذا الأمر ومن عظيم شأنه إلى هلاك وإلى عطب وإلى ذهاب عقل وإلى غمور فهم أو فقد بعض آلات الجسم، والصاعقة قد تكون ناراً محرقة تنزل من السماء عليهم، أو قد تكون رجفة وهدة شديدة على الإنسان حتى يغشى عليه أو حتى يهلكه الله عز وجل بها، وقد تكون صوتاً عظيماً يفزع منه الإنسان، وقد يكون شيئاً من أمر الله سبحانه وتعالى، فيطلق على هذا كله الصاعقة، والصاعقة: هي الشيء الذي يصعق بسببه الإنسان، فإما أن يغمى عليه وإما أن يهلك ويموت، قال الله سبحانه: {مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:13]. وقد ذكرنا قصة صاعقة عاد، وكيف أرسل الله عز وجل عليهم الريح العقيم، وكيف جاءتهم الصيحة من السماء مما انتقاه صاحبهم الذي ذهب ليدعو لهم في السنين التي قحطوا فيها وأمحلوا فقيل له: خذها رماداً رمدداً، لا تبقي من عاد أحداً، فرأى سحابة سوداء مظلمة ظنها ممتلئة ماء فإذا بها العذاب من عند الله سبحانه، فقد أرسل الله عز وجل عليهم من السماء عاصفة شديدة اقتلعتهم من الأرض فحملتهم ثم نزلت بهم على رءوسهم فصاروا كأعجاز نخل خاوية. وهنا يقول الله سبحانه وتعالى: {إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [فصلت:14] من بين اليد ومن الخلف تطلق على الزمان وعلى المكان، فكأن المعنى في قوله تعالى: {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} [فصلت:14] أي: من أمامهم، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} [فصلت:14] أي: من بعدهم فلم يروهم، كذلك من بين اليد، أي: مما من يرونه في المكان، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} [فصلت:14]، أي: كأنه في البلاد المحيطة حولهم، إذاً: فقد كان قوم عاد قبل ثمود الذين كانوا في بلاد الشام، وعاد كانوا من خلفهم في بلاد اليمن، فكأنه في المكان وكذلك في الزمان، قال: {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} [فصلت:14]، والمعنى: أن الله لم يترك عباده مهملين من غير أن يبين لهم، بل أرسل إليهم رسلاً وجعل فيهم الأنبياء بوحي من السماء يدعون إلى الله سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24]، وأخبرنا عن الرسل فقال: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة:253]، وقال: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر:78]، وقال: {وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} [الفرقان:38]، إذاً: فهي قرون وأمم كثيرة قص الله علينا بعضاً من قصص هؤلاء، وسكت عن أشياء منهم، فذكر لنا ما نعتبر به، فليس القرآن بكتاب تسجيل للحوادث أو للتاريخ ولكنه كتاب تشريع وفيه من الحكم والمواعظ ما ينتفع به أولو الألباب. ودعوة الرسل جميعهم: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [فصلت:14] بمعنى: لا إله إلا الله، أي: لا توجهوا عباداتكم إلا إلى الله الواحد الذي أقررتم بأنه خلقكم ورزقكم سبحانه، فاعبدوه وحده لا شريك له، ولكن هؤلاء الكفرة أعرضوا وقالوا: {لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلائِكَةً} [فصلت:14]، وقولهم: {لَوْ شَاءَ رَبُّنَا} دليل على أنهم يعرفون ربهم سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87]. إذاً: فقد أقروا بأن الله هو الخالق، قالوا: {لَوْ شَاءَ رَبُّنَا} [فصلت:14] أي: الذي خلقنا، {لَأَنزَلَ مَلائِكَةً} [فصلت:14]، وهذا كلام صحيح، فلو شاء الله ذلك لفعله، ولكن لم يقل: إن الرسل لابد أن يكونوا ملائكة، وإنما اختار الله عز وجل من عباده من ينزل عليه ملك من السماء ليكون نذيراً وبشيراً لقومه، فقالوا: {لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلائِكَةً} [فصلت:14]، والنتيجة: {فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [فصلت:14] أي: مكذبون بما تقولون، كافرون بما أرسلتم به. قال تعالى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ} [فصلت:15] أي: استطالوا على الخلق وكذبوا الرسل، قال الله سبحانه: {بِغَيْرِ الْحَقِّ} [فصلت:15]، فليس معهم فيما يصنعون بيان ولا برهان، ولا حجة من الله سبحانه، وإنما هي الاستطالة والعلو في الأرض والإفساد وإرادة الطغيان، فالله سبحانه يخبر أنهم قالوا: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت:15]، والمعنى: أننا نطغى ونعمل الذي نريده، فنحن أشد الناس قوة وأعظمهم أجساماً، ولن يقف أمامنا أحد، وهذا هو البغي والظلم في الأرض، وما من إنسان ولا أقوام يبغون في الأرض إلا وأخذهم الله سبحانه، وجعلهم عبرة وعظة لمن يعتبر ويتعظ. وكم من عال في الأمم السابقة طغى وتجبر فإذا بالله يهلكهم ويبيدهم، ومنهم من استضعفوا، كما قال سبحانه: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:5 - 6]. فالله عز وجل جعل الأيام دولاً بين الناس، كما قال: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140]، فيرتفع الإنسان إلى ما يشاء الله ثم ينخفض حيث قدر له الله عز وجل ذلك، قال هنا: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ} [فصلت:15] أي: قد عرفوا أن الله هو الخالق سبحانه وتعالى، فهو الذي خلقهم وأعطاهم قوة، أفليس بقادر على أن يخلق أقوى منهم حتى يبيدهم على أيديهم؟ أليس قادراً أن يخلق لهم ما يهلكهم به من عاصفة أو رياح شديدة أو مطر سوء من السماء أو عذاباً مهيناً من عنده سبحانه؟! قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت:15]، إذاً: فلم يجحدوا ربوبية الله سبحانه، بل جحدوا آياته التي جعلها الله مع رسله عليهم الصلاة والسلام، قال تعالى: {وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت:15]، فلما تطاولوا في أمرهم وبغوا كان لابد أن تأتيهم سنة الله في خلقه.

تفسير قوله تعالى: (فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا)

تفسير قوله تعالى: (فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً) قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} [فصلت:16] أي: لها صرير، بمعنى: صوت عال مزعج، ولها صرص أي: برد قاس شديد، فهي ريح هبوب تهب على هؤلاء هباً شديداً حتى اقتلعتهم كالنخل على الأرض من طول أجسامهم، وقوة أبدانهم، فاقتلعتهم هذه الرياح، وجاءتهم من حيث يظنون أنه يأتيهم الأمن ويأتيهم الرزق من السماء، فقد قالوا: نريد هذه السحابة، وهم لا يعلمون أنها سحابة لن تأتي بالمطر، بل ستأتي بصاعقة من السماء، فقد سمعوا صوتاً فظيعاً من السحابة التي في السماء وإذا بالرياح تهب عليهم، وإذا بشدة البرد تهلكهم، وإذا بالله تعالى يقتلعهم وينكسهم على رءوسهم، قال سبحانه: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} [فصلت:16]، وفيها قراءتان: قراءة نافع وابن كثير وأبي عامر: {أَيَّامٍ نَحْسَاتٍ} [فصلت:16]، بالتسكين للحاء، وقراءة باقي القراء: {فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ}، وكأن الأصل فيها: أنها أيام نحس وشؤم، فجمعت على المصدر (نحْسات) بالتسكين، أو على أنها وصف فهي نحِسة، أي: أيام مشئومة، فجمعها (نحِسات)، وكأنها شؤم على هؤلاء بسبب تكذيبهم وإعراضهم عن ربهم سبحانه. وقد بين لنا سبحانه عدد هذه الأيام فقال: {ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} [الحاقة:7]، جاءهم فيها العذاب ليل نهار، قال تعالى: {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} [الحاقة:7]، تأديباً وتعذيباً لهؤلاء وموعظة لغيرهم، قال: {لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ} [فصلت:16]، فقد أخزاهم الله سبحانه وأذلهم، وأهانهم وحقرهم، وجعل رءوسهم بعد أن كانت منتصبة القامات كأعجاز نخل خاوية، في: {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} [الحاقة:7]، فجعلهم الله عز وجل فيها كأعجاز نخل خاوية. ثم قال سبحانه: {لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [فصلت:16]، وليس هذا العذاب فقط، بل ولعذاب الآخرة أشد وأخزى على هؤلاء، قال: {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى} [فصلت:16]، فالخزي الحقيقي والإهانة يكونان يوم القيامة في الآخرة أشد بكثير مما تعرضوا له في الدنيا، قال: {وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} [فصلت:16] أي: في الدنيا ولا في الآخرة، فلم ينصرهم أحد من عذاب الله، ويوم القيامة لا ينجيهم أحد من عذاب الله، ولا يدفع عنهم أحد عذاب الله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى)

تفسير قوله تعالى: (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى) ثم جاءت ثمود من بعدهم، فقد كان عاد في جنوب الجزيرة وثمود في شمالها، قال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17] أي: بينا، والله يهدي على وجهين وطريقتين: إما بمعنى الدلالة والإرشاد، وهذا من رحمته سبحانه، فهو الرحمن الذي يهدي خلقه كلهم ويدلهم، كما قال: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] أي: بينا للإنسان طريق السعادة وطريق الشقاوة، فلا عذر لأحد عند الله سبحانه وتعالى، فالذين آمنوا زادهم الله هدى من فضله سبحانه، بمعنى: دلهم ووفقهم سبحانه للسير لطريقه سبحانه وتعالى، وإذا أخذ بأيدي المؤمنين فهو مزيد فضل من الله عز وجل، ولا يلزم ربنا سبحانه أنه يأخذ بيد الجميع، بل يهدي من يشاء ويعصم ويعفو فضلاً، ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلاً سبحانه وتعالى، فإذا هدى قوماً فهذا بفضله سبحانه، وإذا أضل أقواماً فهذا بعدله سبحانه وتعالى. قال: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت:17] أي: دللناهم على طريق الله، وتوحيده وسنته في خلقه. قال: {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17] أي: فضلوا أن يعيشوا في كفرهم بالله سبحانه وعماهم وبعدهم عن دين الله على أن يهتدوا! قال تعالى: {فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ} [فصلت:17]، والصاعقة تكررت هنا، فحصلت الصاعقة للأوائل كما حصلت لهؤلاء، وهي العذاب المبيد المهلك، رجفة وصيحة تأتيهم من السماء، وإهلاك لهؤلاء بشر أنواع الإهلاك، وقد طلبوا آية من الله سبحانه، وطلبوا من رسولهم أن يخرج لهم من الجبل ناقة معها فصيلها، فلما جاءتهم هذه الآية التي رأوها وقيل لهم: {هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء:155]، فلما رأوا هذه الآية كادوا يسلمون مع نبيهم، فإذا بالكبراء من القوم يخافون أن يضيع منهم منصبهم، فما زالوا بالقوم حتى رجعوا عن أمر الإيمان وكذبوا رسولهم عليه الصلاة والسلام، انتظروا على الناقة فترة وخافوا من إيمان القوم فتعاقد منهم مجموعة على قتلها، قال تعالى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ * قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [النمل:48 - 49]. إذاً: فالبداية من هنا: فقد قال رجل منهم اسمه قدار: أقتلها لسبب من الأسباب، فإذا بهم يحفزونه ويهيجونه ويعدونه بالزواج إذا فعل ذلك، فذهب فعقر هذه الناقة، وأراد قتل فصيلها فإذا بنبيهم صالح يحذرهم عقاب الله سبحانه، فتعاقدوا بينهم أن يلحقوه بها، بل وتقاسموا بالله فيما بينهم، فاجتمع هؤلاء التسعة النفر وأقسموا فيما بينهم بالله: {لَنُبَيِّتَنَّهُ} [النمل:49]، والتبييت بمعنى: القتل في الليل، لنبيتنه هو وأهله قبل الصبح، وتوعدهم صالح بعذاب، فقال: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود:65]، فأول يوم سيجعل الله عز وجل لكم آية في أنفسكم: وهي أن تصفر وجوهكم، ثم في اليوم الثاني: تحمر وجوهكم، ثم في اليوم الثالث: تسود وجوهكم ويأتيكم العذاب، فقالوا: سنقتلك إذا لم يحصل ذلك، فإذا بالعذاب يأتيهم تدريجياً، اصفرت الوجوه فعرفوا العذاب، ثم احمرت الوجوه فانتظروا الأمر، ثم اسودت الوجوه فإذا بهم ينتظرون عذاب الله سبحانه، وهذا من أقسى ما يكون على الإنسان أن ينتظر عذابه من حيث لا يدري من أين يأتيه، هل من السماء أم من الأرض؟ فجاءتهم صاعقة بعذاب الله سبحانه وتعالى، فسمعوا صيحة عظيمة ورجفت بهم الأرض فإذا بهم صرعى أهلكم ربهم سبحانه وتعالى. قال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ} [فصلت:17]، أي: العذاب المهين الذي أهانهم الله به وأخزاهم، {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [فصلت:17]، وقال سبحانه: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف:76] أي: بما كسبت أيديهم، وبأخذهم للسيئات وتركهم للحسنات، وتركهم لطاعة الله سبحانه، لكن المؤمنين ينجيهم الله سبحانه، كما قال: {وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [فصلت:18]، فبفضل الإيمان والتقوى ينجي الله عز وجل عباده الصالحين، فهو الذي دلهم على طريق الخير وأرشدهم إليه وأخذ بأيديهم إليه ونجاهم من العذاب. نسأل الله سبحانه أن ينجينا من عذاب الدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة فصلت [19 - 21]

تفسير سورة فصلت [19 - 21] أخبر الله سبحانه في كتابه أنه سيحشر الكفرة والمجرمين إلى نار جهنم يوم القيامة، وسوف تشهد عليهم جلودهم وأسماعهم وأبصارهم بما كانوا يعملون، فما أشد هذا الموقف على الكافرين!

تفسير قوله تعالى: (ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون)

تفسير قوله تعالى: (ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين أما بعد: قال الله عز وجل في سورة فصلت: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فصلت:19 - 21]. لما ذكر الله سبحانه وتعالى تكذيب الأمم السابقة بأنبيائهم عليهم وعلى نبينا الصلاة السلام وكيف أخذهم الله سبحانه بالعذاب في الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى من عذاب الدنيا، أخبرنا سبحانه وتعالى عن حال المؤمنين أنه سينجيهم في الدنيا وفي الآخر بفضل تقواهم، قال: {وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [فصلت:18]، فالمؤمن التقي يحبه الله سبحانه وتعالى، وينجيه من الفتن، ومن العذاب في الدنيا وفي القبر وفي الآخرة. يقول سبحانه: {وَيَوْمَ} [فصلت:19]. كأنه يقول: اذكر هذا اليوم، وهو القيامة {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [فصلت:19]، وقد عذبهم الله عز وجل في الدنيا فقد أهلك قوم نوح وعاد وثمود، وأخبر أن عذاب الآخرة أخزى من عذاب الدنيا، وأشد إهانة فإنه في يوم القيامة يذلهم ويخزيهم ويدخلهم النار، ومعنى يحشرهم، أي: يجمعهم، وهذه قراءة الجمهور، وقرأها نافع ويعقوب {وَيَوْمَ نحْشَرُ أَعْدَاءَ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ}، بنون العظمة، فيأمر الله عز وجل الملائكة بجمع هؤلاء من الموقف يوم القيامة، فيساقون إلى النار، وقبل أن يدخلوا النار يحبس أولهم حتى يجتمع إليهم آخرهم، ثم يقذفون جميعاً في نار جهنم ليلقى أكابرهم أولاً ثم أتباعهم والعياذ بالله.

تفسير قوله تعالى: (حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم)

تفسير قوله تعالى: (حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم) قال سبحانه: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [فصلت:20] هم في الموقف العظيم يحشرون ويجمعون وبعد ذلك يقادون إلى النار، وحين كانوا في المحشر بين يدي الله عز وجل ورأوا النار {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [الطور:14]، فيسألهم الله ماذا عملتم في الدنيا وسواء عليهم كذبوا على الله أو اعترفوا، وسواء عليهم صبروا أو لم يصبروا فهم في النار والعياذ بالله. وقوله: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا} [فصلت:20] أي: جاءوا الموقف وحشروا وجمعوا ورأوا النار أمامهم قال: {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [فصلت:20]، شهد سمع الإنسان عليه، وبصره، وشهد الله سبحانه وتعالى، فالله الذي أقدر خلقه على أن يتكلموا بألسنتهم قادر على أن ينطق فيهم أسماعهم وأبصارهم بما كانوا يفعلون في الدنيا. روى الإمام مسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك -صلوات الله وسلامه عليه- فقال: هل تدرون مما أضحك؟ قلنا: الله ورسول أعلم، قال: من مخاطبة العبد ربه) يعني: يوم القيامة، يعني: يظن المنافق أنه يستطيع أن يكذب على الله وينجو بهذا الكذب، فأضحك الله النبي صلى الله عليه وسلم على هؤلاء المجرمين، وكيف أنه يستدرجهم سبحانه وتعالى بحلمه وبكرمه، فإنهم لما ظنوا أنهم سيخدعون الله إذا بالله سبحانه يخدعهم فتشهد عليهم أعضاؤهم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول يا رب! ألم تجرني من الظلم؟ فيقول الله عز وجل: بلى، قال: فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني)، لم يعترف أمام الله سبحانه، وظن أنه سيخدع ربه سبحانه، ووصل إلى أقصى درجات الغباء في مخاطبته لربه سبحانه وتعالى، قال: (يقول الله عز وجل: {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:14] وبالكرام الكاتبين شهودا)، فإن الله أكرمهم ونزههم أن يكذبوا أو يفتروا على أحد شيئاً، كما كرمهم بعلو منزلتهم عنده سبحانه، (فيختم على فيه، فلا يقدر على الكلام بلسانه، ويأمر الله عز وجل أركانه فيقال لأركانه: انطقي، قال: فتنطق بأعماله، فتشهد عليه يده ورجله وفخذه، بما كان يصنع في الدنيا، قال: فإذا خلي بينه وبين الكلام دعا على نفسه بالسحق وبالبعد وبالعذاب، يقول: بعداً لكن وسحقاً عنكن كنت أناضل) يعني: أنتن تستاهلن أشد العذاب. في حديث آخر في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد سألوه: (هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل تضارون في الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب؟) كأنهم يقولون: سيكون العدد ضخماً جداً وكبيراً وسيزدحم بعضنا مع بعض، فكيف سنرى ربنا يوم القيامة؟ وهذه عقيدة المؤمن أنه يرى الله عز وجل يوم القيامة في الجنة، وأنهم في الموقف العظيم يسألهم الله عز وجل فيسمعون ما يقول، ويردون ويجيبون على ربهم، نسأل الله العفو والعافية، في الدين والدنيا والآخرة. فضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً ولله المثل الأعلى سبحانه وتعالى، فحين ترون الشمس هل تزدحمون أو كل واحد ينظر إليها من مكانه فيراها؟ قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لا نزدحم، فقال: (هل تضارون؟) أي: هل يضر بعضكم بعضاً (في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ قالوا: لا، قال: فوالذي نفسي بيده لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤية أحدهما). فلا أحد يضر أحداً عندما ينظرون إلى الشمس، فكلهم ينظر إليها من مكانه ويراها، ولله عز وجل المثل الأعلى، فالمؤمنون يرون ربهم يوم القيامة، لا يضر بعضهم بعضاً في النظر إليه سبحانه. قال: (فيلقى العبد فيقول: أي فل)، هذا ترخيم، وهو حذف الحرف الأخير وأصلها يا فلان، (أي فل! ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع)، ألم أكرمك {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70]، (وأسودك) أي: أجعلك سيداً ولم أجعلك عبداً من العبيد بل جعلتك سيداً حراً (وأزوجك)، أي: أعنتك على أن تزوجت (وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع) أي: تركتك تكون رئيساً في قومك وكبيراً، وتربع أي: لك رباع ودور وحقول وبساتين، وغيرها في الدنيا، (فيقول العبد: بلى، قال: أفظننت أنك ملاقي؟) أي: هل اعتقدت أن هناك بعثاً ونشوراً وجنة ونار يوم القيامة؟ قال: فيقول: لا، أخذت هذا كله ونسيتك يا رب ولا حول ولا قوة إلا بالله، فيقول الله عز وجل: (فإني أنساك كما نسيتني)، فكما نسيت ربك سننساك في النار أي: نتركك مهملاً، لا ننظر إليك والعياذ بالله، فنعاملك معاملة المنسي، ولا ينسى ربك أحداً، ولكن هذا من المشاكلة والمجانسة اللفظية، ومعنى: ننساك أي: نتركك كما يترك المنسي، أما أن الله يغفل عن شيء من عباده فحاشاه سبحانه وتعالى. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم يلقى الثاني فيقول: أي فل! ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى أي رب، فيقول: أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا، فيقول له: فإني أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثالث: فيقول له مثل ذلك، فيجيب هذا العبد، فيقول: يا رب! آمنت بك وبكتابك وبرسلك، وصليت وصمت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع، فيقول الله عز وجل: ههنا) أي: قف مكانك، ثم يقال له: (الآن نبعث شاهدنا عليك)، فيتفكر العبد في نفسه، من سيشهد علي، فيختم على فيه، ويقال لفخذه ولحمه وعظامه: انطقي، فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله وذلك ليعذر من نفسه، وذلك المنافق، فهو كذب في الدنيا ويريد أن يكذب على الله يوم القيامة، خدع في الدنيا ويريد أن يخدع يوم القيامة فخدعه الله كما خدع الناس في الدنيا، وجعل أعضاءه تشهد عليه، قال: وذلك الذي يسخط الله عليه، والمنافق في الدرك الأسفل من النار، أي: في قعر جهنم، والعياذ بالله، {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142]، {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء:145].

تفسير قوله تعالى: (وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا)

تفسير قوله تعالى: (وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا) قال الله عز وجل: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فصلت:21]، وهذه المناقشة والعداوة تكون بين الإنسان الكافر والمنافق ونفسه، فيقول مخاطباً نفسه وأعضاءه، {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت:21]، فقد جعل الجماد ينطق، وجعل الحيوان ينطق، وجعل كل شيء يشهد على نفسه وعلى غيره، أنطق كل شيء سبحانه وتعالى، {وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [فصلت:21]، فأليس بقادر على أن يعيد الخلق مرة ثانية؟ بلى إنه على كل شيء قدير، {وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فصلت:21] أي: إليه المرجع يوم القيامة سبحانه. وهذه قراءة الجمهور، وقرأها يعقوب (وَإِلَيْهِ ترْجِعُونَ) أي: أن العود إلى الله سبحانه والمرجع إليه. والإنسان المؤمن يتفكر في هذا اليوم، الذي لا ينفعه فيه شيء إلا العمل الصالح الذي عمله في الدنيا، وفي الدنيا قد يلتمس الإنسان لنفسه الأعذار، فإذا جاء يوم القيامة لم تعذره نفسه، ونطقت عليه بما كان يصنع، لذلك العبد المؤمن عليه أن يعرف أنه مهما دافع عن نفسه وعن أعضائه في الدنيا فإنها ستشهد عليه يوم القيامة، فعليه أن يعمل في الدنيا العمل الصالح الذي ينتفع به يوم القيامة. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة فصلت [22 - 23]

تفسير سورة فصلت [22 - 23] إن الوقوف بين يدي الله مشهد عظيم حري بكل عاقل أن يستعد له، ففي ذلك الموقف لا يملك العبد سراً فكل سره علانية، حتى أعضاؤه التي كان ينافح عنها تشهد عليه إن عصى الله بها، فأين المفر؟ فلا ملجأ ولا منجى إلا إلى الله تعالى.

تفسير قوله تعالى: (وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم)

تفسير قوله تعالى: (وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة فصلت: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت:22 - 23]. يخبر الله سبحانه تبارك وتعالى عباده في هذه الآيات أنهم ما كانوا يستترون أن يشهد عليهم سمعهم ولا أبصارهم ولا جلودهم، والاستتار بمعنى: الاختباء، والاستخفاء، وللآية معنيان: المعنى الأول: ما كنتم تستخفون من أنفسكم، فهم حين رأوا أيديهم، وجلودهم، وأفخاذهم، وسمعهم، وأبصارهم تشهد عليهم، علموا أنهم ما كانوا يستخفون من هذه الأعضاء أن تشهد عليهم يوم القيامة. والمعنى الثاني: أن الإنسان إذا علم في الدنيا أن فلاناً لو دعي للشهادة لشهد عليه، فإنه إذا أراد أن يفعل شيئاً يوجب الشهادة، يحرص على التخفي والبعد عنه حتى لا يراه، أما هؤلاء فلا يستطيعون ذلك، ولذا ينكر الله عليهم مستفهماً: هل كنتم تستخفون من أنفسكم؟ وهذه الآية في الإنسان الذي يأتي يوم القيامة ويقول لله عز وجل: لا أقبل على نفسي شاهداً إلا من نفسي! ألم تجرني من الظلم؟ فإني لا أقبل على نفسي شاهداً إلا منها، فرفض الملائكة الكرام شهوداً، ورفض أن يشهد عليه أحد، فإذا بالله يستدرجه من حيث يظن أنه أمن، فيختم على فيه وتنطق جوارحه بما عمل في هذه الدنيا، فيقول لنفسه: بعداً لكُنّ -يريد أعضاءه- فعنكن كنت أناضل. فقوله: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ} [فصلت:22] أي: تستخفون من أنفسكم أن تشهد عليكم، وقيل: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ} [فصلت:22]، أي: تستحيون من الله سبحانه تبارك وتعالى، وأنتم تعلمون أن الله يرى، ويسمع ما تقولون، فما استحييتم وما اتقيتم ربكم سبحانه تبارك وتعالى، وجهرتم بالمعاصي والذنوب بغير حياء، فما كنتم تستترون أن يجعل الله هذه الأعضاء التي وقعتم بسببها في المعاصي تشهد عليكم يوم القيامة، قوله: {أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ} [فصلت:22]، فقد سمعوا السوء، وسمعوا الغيبة والنميمة، والتلصص والتجسس على الناس، وسمعوا ما حرم الله سبحانه من معازف وغيرها، ولم يستحيوا من الله سبحانه تبارك وتعالى، فإذا بالله عز وجل يجعل هذه الأعضاء التي تتلذذ بالمعصية تشهد عليهم يوم القيامة. قوله: {أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ} [فصلت:22]، كذلك الأبصار، فقد نظر إلى ما حرم الله سبحانه، فإذا بهذه الأبصار تشهد عليهم يوم القيامة، وقد تقدم حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في أنه ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وأعضاء الإنسان تكفر اللسان، تكفر أي: تذل وتخضع له، وتحذره من الوقوع في المصائب والآثام، وتقول له: إذا أنت عصيت الله عز وجل فسنكون معك في النار، فاحذر من معصية الله، ومع ذلك يقع الإنسان في المعصية، ويتكلم بما لا ينبغي أن يتكلم به، فيستحق عقوبة رب العالمين. وقوله: {وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ} [فصلت:22] أي: ظنوا بربهم ظن السوء، وهو: أن الله لا يعلم بأعمالهم، ولا يسمع أقوالهم، وأنهم يختبئون من الله فلا يعرف ما الذي يقولونه، وقد جاء في صحيح مسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه اجتمع عند البيت ثلاثة نفر: قرشيان، وثقفي، رجل قرشي وختناه من ثقيف، وكان ابن مسعود حينها مختبئاً من الكفار وراء أستار الكعبة، في الزمان الذي كان يؤذى فيه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء هؤلاء الثلاثة ووقفوا أمامه، وهم لا يرونه وهو يسمع ما يقولون، قال رضي الله عنه واصفاً هؤلاء: قليل فقه قلوبهم، كثير شحم بطونهم، أي: أجسامهم مليئة أسمع بعض كلامهم ويخفى علي أكثره، فقال أحدهم: أترون الله يسمع ما نقول؟ فقال الآخر: يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا، أي: عند رفع أصواتنا يسمعنا، وعندما نتكلم سراً لا يسمعنا، فقال الآخر: إن كان يسمع إذا جهرنا فهو يسمع إذا أخفينا، كأنه يريد: إن الله يطلع على ما نقول، قال ابن مسعود رضي الله عنه: فأنزل الله عز وجل: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ} [فصلت:22]، فكان ظنهم أن الله لا يسمع ما يقولون، هو ظن السوء بالله سبحانه تبارك وتعالى، وظن السوء يمنع العبد من العمل؛ لأنه إن ظن أن الله لا يسمع ما يقول؛ قال ما شاء، وإذا ظن أن الله لا يراه؛ فعل ما شاء من المعاصي.

تفسير قوله تعالى: (وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم)

تفسير قوله تعالى: (وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم) قال تعالى: {وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} [فصلت:22 - 23] أي: ظنكم أن الله لا يعلم ما تعملون أرداكم، وهكذا كل من يظن سوءاً بالله عز وجل -كهذا الظن الذي ظنه هؤلاء- يرديه ظنه، ولذلك يعلم المؤمن أن الله عز وجل يعلم كل شيء، ويطلع على كل شيء، ويحسن الظن بالله، فله المثل الأعلى، وله الأسماء الحسنى والصفات العلى، أما هؤلاء فهم يسيئون الظن بالله سبحانه تبارك وتعالى، فقد أساءوا الظن حين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] أي: لماذا لم يختر الله للنبوة إلا أنت؟ فلو أنه نزل القرآن على أحد غيرك! وحسدوا النبي صلى الله عليه وسلم، وحقدوا عليه لا لشيء إلا لأن الله نزل عليه القرآن. وكأنهم يعرفون ما لا يعرفه الله سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراًَ! ومن سوء الظن كذلك ما قالت اليهود في الله سبحانه تبارك وتعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64]، سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً. ومن سوء الظن كذلك ما قالت النصارى واليهود في الله عز وجل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة:30]، فصرفوا عن توحيد الله سبحانه بهذا الذي اخترعوه من كلام باطل، وكذب على الله سبحانه أنه اتخذ صاحبة واتخذ الولد، حاشا له سبحانه، إنما يحتاج إلى الولد من هو ضعيف يموت ليبقى الولد ذكره بعده، والله حي لا يموت، فلا يحتاج إلى أحد، ويحتاج إلى الولد من يضعف في كبر سنه وتأتيه الشيخوخة، فيحتاج إلى من يعينه إذ المخلوق ضعيف بطبعه فقير بخلقته، يحتاج إلى المال، ويحتاج إلى البنين، ويحتاج إلى أنصار ليكونوا عونه في نوائبه، أما الله فهو الغني الحميد سبحانه تبارك وتعالى. ومن ظن السوء ما ظنه المشركون بالله من أنه لا يقدر على الإرجاع مرة ثانية، قالوا: {نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24]، فأساءوا الظن بالله، ولذلك يعذبهم الله يوم القيامة على إساءتهم الظن فيه، وإساءتهم الاعتقاد فيه، أما المؤمن فهو يؤمن أن الله على كل شيء قدير، أليس الذي بدأ الخلق بقادر على أن يعيده مرة أخرى، {بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأحقاف:33].

حسن الظن بالله وأثره في الإنعام على العبد

حسن الظن بالله وأثره في الإنعام على العبد المؤمن حسن الظن بالله سبحانه تبارك وتعالى، يعرف ربه على ما ذكر لنفسه عز وجل من صفات عالية عظيمة حيث قال: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180]، وهو إذ يحسن الظن بالله سبحانه يحسن العمل؛ لأنه يرجو من هذا العمل جنة الله سبحانه كريم، وهو يعلم أن الله ودود غفور، شكور، مجيد، رحمن رحيم، فيرجو رحمته وجنته سبحانه تبارك وتعالى، وإذا وقع المؤمن في المعاصي لم ييئس من رحمة الله؛ لأنه يعلم أن الله غفور كريم رحمن رحيم فيحسن الظن في الله، ويرجو من الله أن يغفر له، فيتوب إلى ربه، ولذلك جاء عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله)، فالإنسان حين يحسن الظن بالله؛ يعطيه الله ما يؤمله وينجيه مما يخافه، ولذلك جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على رجل وهو يجود بنفسه فقال له: (كيف تجدك؟ فقال: والله يا رسول الله! أني أرجو الله وأخاف ذنوبي)، فقوله: أجدني أرجو الله، حسن ظن في الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما اجتمعا في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا وأمنه الله مما خاف، وأعطاه ما يرجو)، ولذلك فقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم أمته فقال: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله سبحانه).

حديث معاوية القضيري

حديث معاوية القضيري روى الإمام أحمد بسند صحيح عن معاوية بن حيدة القشيري أنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم حين أتيته فقلت: والله ما أتيتك حتى حلفت أكثر من عدد هؤلاء ألا آتيك ولا آتي دينك، يعد له بيديه ثنتاهما، وكان قد حلف أكثر من عشر مرات للكفار أنه لن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يدخل في دينه، ولكن الله العظيم يشاء أن يسلم، ويدخل في دين الله عز وجل، ويذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: وقد جئت امرأ لا أعقل شيئاً، إلا ما علمني الله، رجل أتيتك لا أفهم شيئاً عن هذا الذي تقوله، ولا أعقل شيئاً مما تقوله، فعلمني وفهمني، ثم قال: وإني أسألك بوجه الله بم بعثك الله إلينا؟ يسأل النبي صلى الله عليه وسلم بوجه الله، وهو أعظم شيء يقسم به، ولذا لا يجوز لإنسان أن يقسم على أحد طالباً دنيا بمثل هذا القسم العظيم، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقال: (لا يسأل بوجه الله إلا الجنة)، أما الرجل فقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن دينه، فأقسم عليه بأغلظ ما يعرف من اليمين، وقال: أسألك بوجه الله: بم بعثك الله إلينا؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بالإسلام، قال: قلت: وما آيات الإسلام)، يستفهم عن الإسلام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أن تقول: أسلمت وجهي لله وتخليت)، وهنا ندرك أن دعوة الرسل كلها دعوة التوحيد، وأن الرسل كلهم عليهم الصلاة والسلام يدعون إلى التوحيد يقولون: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون:23]، ويدعون إلى: لا إله إلا الله، التي تتضمن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (قل أسلمت لله وتخليت)، إذ إن معنى لا إله إلا الله: أنني أسلمت نفسي لله، فله أن يأمرني بما يشاء، وليس لي إلا أن أفعل ما أمر به، وأحقق عبادة الله سبحانه تبارك وتعالى، قوله عليه الصلاة والسلام: (وتخليت) أي: عن كل معبود سوى الله سبحانه تبارك وتعالى، فكان معنى لا إله إلا الله: أسلمت لله وتخليت عن كل شيء سواه سبحانه تبارك وتعالى. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، كل مسلم على مسلم محرم أخوان نصيران)، وأخذ النبي يشرح له أركان الإسلام، لأنه من المتعذر أن يعلمه كل الإسلام في جلسة واحدة، ولكن يخبره عن أهم ما يكون في هذا الدين العظيم؛ حتى يستوعب معاوية رضي الله عنه، وقوله صلى الله عليه وسلم: (كل مسلم على مسلم محرم: أخوان نصيران). بمعنى: المسلم أخو المسلم، ينصره على نفسه، وينصره على عدوه، ويأخذ له بحقه من ظالمه. ثم قال صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله من مشرك أشرك بعد ما أسلم عملاً) أي: أن الإنسان الذي يسلم ثم يرتد يحبط عمله كما قال الله سبحانه: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65]، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وتفارق المشركين إلى المسلمين) أي: لا تعود إلى المشركين، فتكون أكيلهم وشريبهم؛ وإلا يصيبك ما يصيب هؤلاء، فإذا غزا المسلمون المشركين كنت أنت معهم، وحينها لا يميزون بينك وبينهم، فلذا ليس لك أن تقيم مع المشركين. ثم قال: (ما لي أمسك بحجزكم عن النار)، الحجز مكان معقد الحزام، والحجزة أقوى ما يمسك الإنسان منه الحزام، بحيث لا يتفلت، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أنا أمسككم مسكاً قوياً، حتى لا تدخلوا النار، ومع ذلك تتفلتون وتهربون فتشركون بالله سبحانه، وتقعون في المعاصي. ثم قال: (ألا إن ربي عز وجل سائلي: هل بلغت عباده، وإني قائل: رب إني قد بلغتهم فليبلغ الشاهد منكم الغائب، ثم إنكم مدعوون مفدمة أفواهكم بالفدام)، قوله: (ثم إنكم مدعوون) أي: يدعوكم ربكم، قوله: (مفدمة أفواهكم بالفدام) الفدام: الغطاء الذي يوضع على الوعاء؛ لكي لا يدخل فيه شيء يشوبه، وقد يربط على فوهة السقاء، والمعنى: أنه إذا جاء يوم القيامة يختم على أفواهكم، فلا تنطق الأفواه قبل أن تنطق الأعضاء شاهدة على الإنسان، قال صلى الله عليه وسلم: (ثم إن أول ما يبين عن أحدكم لفخذه وكفه قال معاوية: قلت: يا نبي الله! هذا ديننا؟ قال: هذا دينكم وأينما تحسن يكفك)، يعني: في أي مكان تعمل العمل الحسن تتقرب به إلى الله عز وجل، فيكفيك هذا فضلاً عند الله سبحانه وثواباً من الله سبحانه.

تفسير سورة فصلت [22 - 28]

تفسير سورة فصلت [22 - 28] الإنسان قد يختفي عن غيره لكنه لا يستطيع أن يختفي عن نفسه، وبعض الناس يظنون أن الله لا يعلم كثيراً من أفعالهم وأعمالهم، وظنهم هذا هو الذي أرداهم وأهلكهم، وجعلهم يتمادون في المعاصي، واستحوذ عليهم الشيطان حتى خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، وخسروا رضوان الله تعالى فاستحقوا النار والعياذ بالله.

تفسير قوله تعالى: (وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم)

تفسير قوله تعالى: (وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة فصلت: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ * وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [فصلت:22 - 25]. يخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات وما بعدها عن حال الكفار الذين جحدوا نعمة الله سبحانه وتعالى عليهم، وكذبوا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كيف سيكون حالهم يوم القيامة، فيخبر الله عز وجل أنه يشهد عليهم أنفسهم فتشهد عليهم جلودهم وأيديهم وأرجلهم يوم القيامة بما كانوا يخفونه، وبما كانوا يريدون أن يكذبوا على الله عز وجل فيه. قال سبحانه: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ} [فصلت:22] أي: تستخفون: {أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ} [فصلت:22] أي: ما كنتم لتستطيعوا أن تستخفوا من ذلك، ومن يستطيع أن يخفي الشيء عن نفسه؟ قد تخفي عن غيرك أما عن نفسك فلا، قد ترى أن فلاناً سيشهد عليك إذا عملت كذا، فتختبئ منه وتعمل العمل من ورائه، ولكن أين تختبئ من نفسك؟! كذلك ما كنتم تستحيون من الله سبحانه أن تجاهروه وتبارزوه بالمعاصي، ولكن ظننتم بربكم ظن السوء، فقد ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون. وقد ذكروا أن رجلاً من ثقيف وختنيه من قريش ربيعة بن أمية وصفوان بن أمية التقوا عند البيت وابن مسعود مختبئ بأستار الكعبة فسمعهم يحدث بعضهم بعضاً يقول أحدهم للآخرين: أترون الله يسمع ما نقول؟ فيجيبه جاهل منهما فيقول: إن الله يسمع إذا جهرنا ولا يسمع إذا أسررنا، فيكذبون على الله سبحانه وتعالى، فيخبر الله عز وجل {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ} [فصلت:22]. وهذا هو الظن السوء الذي أردى أصحابه وأهلكهم فقد ظنوا أنهم سيفعلون ما يشاءون وأن الله لا يسمع ما يقولون أو ينوون أو يعملون.

تفسير قوله تعالى: (وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم)

تفسير قوله تعالى: (وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم) قال الله سبحانه: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت:23] أي: الذي أهلككم هو ظنكم السوء بالله سبحانه وتعالى، {فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت:23]، والخسران هنا هو الخسران العظيم، فقد خسروا الآخرة، فخسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، وخسروا رضوان الله سبحانه فاستحقوا عذابه سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (فإن يصبروا فالنار مثوى لهم)

تفسير قوله تعالى: (فإن يصبروا فالنار مثوى لهم) قال تعالى: {فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} [فصلت:24]. أي: فإن يصبروا على عذاب الله سبحانه فالنار هي محل إقامتهم فلن يخرجوا منها، ولذلك قال في آية أخرى: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم:21] أي: ما لنا من مهرب ولا منجى ولا ملجأ من عذاب الله سبحانه وتعالى، كذلك قال لهم هنا سبحانه وتعالى: {فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [فصلت:24]، والصبر في الدنيا صبر عن محارم الله سبحانه وتعالى، وصبر على طاعة الله سبحانه، وصبر على قضاء الله وقدره، ويؤجر العبد على قدر صبره، اصبر تؤجر في الدنيا، أما في الآخرة فلا تكليف، فإذا دخلوا النار سواء عليهم صبروا أو جزعوا وصرخوا ليس لهم إلا العذاب، فلن يخرجوا منه ولن يخفف عنهم قال الله: {وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا} [فصلت:24] أي: وإن يريدوا أن يرضوا ربهم سبحانه وأن يزيلوا ما أعتبه عليهم سبحانه وتعالى، وما أغضبه عليهم؛ فليستقيلوا ربهم سبحانه، وليعتذروا إليه سبحانه. واستعتب أراد إزالة العتب، وإزالة ما يسخط ويغضب، تقول: استعتبني فلان، أي طلب مني أن أرضى عنه، وإن يريدوا أن يرضوا ربهم سبحانه فلن يقبل منهم سبحانه ولن يقبلهم، ولن يعيدهم إلى الدنيا مرة ثانية: {فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} [فصلت:24] أي: ليسوا بالذين يرضون ربهم يوم القيامة ولن يقبل منهم ولن يقبلهم يوم القيامة.

تفسير قوله تعالى: (وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم)

تفسير قوله تعالى: (وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم) قال تعالى: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [فصلت:25]، (قيضنا لهم) أي: هيأنا، وسببنا لهم قرناء، والقرناء جمع قرين، وقرين الإنسان هو الذي يقترن به، ويكون معه، والقرناء من الإنس ومن الجن، وقرين الإنسان صاحبه الذي يكون معه، والشيطان الذي يغويه، وشياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً، والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وأمر الإنسان أن يتعوذ بالله عز وجل من الشيطان الرجيم. فالشيطان يغوي صاحبه فهو قرينه لأنه معه لا يتركه، وإذا أردت أن يتركك الشيطان فالجأ إلى الله قال الله: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98]، وقال: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون:97 - 98]، فأمرك الله عز وجل أن تلجأ إليه وحده سبحانه، ولا تلجأ إلى غيره، فهو الذي يجيرك، وهو الذي يعينك، وهو الذي يعيذك من الشيطان الرجيم، وقيضنا من المقايضة والمبادلة، وقايضته في البيع أي: أخذت منه وأعطيته، (فقيضنا لهم) أي: أبدلناهم بالناس الخيرين أناساً أشراراً وجناً أشراراً لا ينفعونهم بل يغوونهم ويضلونهم بما كسبت أيديهم. قال الله: {فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [فصلت:25] أي: زين شياطين الإنس والجن لهؤلاء الغاوين الذين أغواهم الشيطان وأضلهم الله عز وجل ما بين أيديهم، وما بين يديك هو ما أمامك أي: في الدنيا، {وَمَا خَلْفَهُمْ} [فصلت:25]، أي: ما لا يرونه من الدار الآخرة، فيقولون لهم: أنتم ستعيشون في هذه الدنيا، {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24]، اعملوا الذي تريدون، وخذوا الذي تريدونه في الدنيا، واظلموا من شئتم، واستمتعوا بالدنيا فليس غير الدنيا شيء، فزينوا لهم الظلم والإعراض عن الله سبحانه، والتكذيب لرسل الله، وزين شيطان الإنس وشيطان الجن لصاحبه أن يبتعد عن دين الله سبحانه في الدنيا. {وَمَا خَلْفَهُمْ} [فصلت:25]، بأن قالوا لهم: لن ترجعوا إلى الله ولن يحاسبكم فإذا بهم ينسون الدار الآخرة: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:19]، وإذا بهم يعرضون عن الله سبحانه وتعالى، ويوم القيامة يقول لهم الله: {الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [الجاثية:34] ويقولون لهم: ولو فرض أن هناك آخرة فإن الله سيعطيكم في الآخرة كما أعطاكم في الدنيا، فاستدلوا بأن الله قواهم، وأغناهم، وأعطاهم في الدنيا على أن لهم الفضل، فقالوا: إذا رجعنا إلى الدار الآخرة فإن الله سيعطينا مثلما أعطانا في الدنيا، فقد أعطانا لفضلنا في الدنيا فسيعطينا لفضلنا في الآخرة، فكان تفكيرهم في الدار الآخرة إما استهانة واستهزاء بعذاب الله سبحانه، وإما استكباراً ونظراً للنفس بنظرة افتخار، يقولون: مثلما أعطانا في الدنيا سيعطينا في الآخرة، وإما أنه لا توجد آخرة أصلاً، فزين لهم الشيطان السيئ من القول، والسيئ من الظن. قال الله سبحانه وتعالى: {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} [فصلت:25] وحق على هؤلاء أي: وجب عليهم ما قاله الله سبحانه: {لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:119]، فحق عليهم قول الله سبحانه وتعالى، ووجب عليهم أن ينفذ فيهم ذلك، {فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ} [فصلت:25] أي: ليسوا لوحدهم، بل هم والذين من قبلهم من الجن والإنس استحقوا عذاب الله سبحانه لتكذيبهم وإعراضهم. وقوله: ((وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ)) فيها ثلاث قراءات: {وَحَقَّ عَلَيْهِم الْقَوْلُ} [فصلت:25]، هذه قراءة أبي عمر: (وَحَقَّ عَلَيْهُمُ الْقَوْلُ)، هذه قراءة حمزة والكسائي وخلف ويعقوب: {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} [فصلت:25]، هذه قراءة باقي القراء. {إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [فصلت:25]، هذه وأمثالها من جمع المذكر السالم إذا وقف عليها يعقوب بخلفه فإنه يقف عليها بهاء السكت، كما ذكرنا قبل ذلك في: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] وقلنا: فإنه يقف عليها يعقوب بخلف عنه بهاء السكت.

تفسير قوله تعالى: (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن)

تفسير قوله تعالى: (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن) قال الله عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26] الله سبحانه يرينا مشهداً في الدنيا كانوا يعملونه وجزاءه في الآخرة، فهؤلاء كانوا يتعاملون مع القرآن ومع النبي صلى الله عليه وسلم بعلو الصوت، وليس بالنظر في الحجة، وبالمناظرة للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد تحداهم في كل المواطن فلما عرفوا أنهم عجزوا عن ذلك، كان الحل عند هؤلاء الأغبياء: رفع الصوت، واللغو واللغط، والصراخ، وإلهاء الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيذكر الله عز وجل صورة من صور قذارة هؤلاء في معاملتهم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يدعوهم إلى الله سبحانه: يا قوم! قولوا: كلمة واحدة، أشهد لكم بها عند الله، كلمة واحدة تملكون بها العرب والعجم، قولوا: لا إله إلا الله! فيقولون: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [فصلت:26] أي: قال بعضهم لبعض: {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} [فصلت:26] أي: الغطوا، واصرخوا، وهيجوا، وقولوا ما تصرفوا به الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم، والهوا غيركم عن هذا القرآن: {لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26] بذلك، فهم لم يستطيعوا أن يغلبوا النبي صلى الله عليه وسلم بالحجة، فأرادوا أن يغلبوه باللغط والصراخ والقول الباطل كلما قرأ القرآن صلوات الله وسلامه عليه. فكان كلما ذهب إلى مكان وجد وراءه من يقول: ابتعدوا عنه لا تسمعوا له إنه مجنون، إنه كذاب، إنه كذا، وحاشا له صلوات الله وسلامه عليه.

تفسير قوله تعالى: (فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا)

تفسير قوله تعالى: (فلنذيقن الذين كفروا عذاباً شديداً) قال الله سبحانه: {فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا} [فصلت:27] أي: جزاءًَ بما صنعوا معه صلوات الله وسلامه عليه، فهم لم يسمعوا له، ولم ينتبهوا إليه، وأعرضوا عنه، وجعلوا غيرهم يعرض عنه صلوات الله وسلامه عليه، فسنذيقهم العذاب الشديد عذاب النار والعياذ بالله، {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [فصلت:27] أي: أسوأ ما عملوا سيذوقونه يوم القيامة في نار جهنم، فيذوقون أسوأ ما كانوا ينتظرونه من عاقبة.

تفسير قوله تعالى: (ذلك جزاء أعداء الله النار)

تفسير قوله تعالى: (ذلك جزاء أعداء الله النار) قال تعالى: {ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ} [فصلت:28] أي: نار جهنم هي دار هؤلاء يوم القيامة خالدين فيها أبداً {جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُون} [فصلت:28]، (يجحدون): الجحد هو الإنكار مع العلم، الإنسان قد ينكر الشيء لأنه يجهله، لكن إذا علم أن هذا يتكلم بالحق ومع ذلك يكذبه فإنه يكون جاحداً، والكفار يعلمون أن الله وحده هو الذي يستحق العبادة، ثم لا يعبدونه ويعرضون عن آياته سبحانه، وهذا هو الجحد، جحدوا بآيات ربهم سبحانه، وكذبوا النبي صلى الله عليه وسلم مع علمهم بالحق الذي هو عليه. وللحديث بقية إن شاء الله، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة فصلت [26 - 32]

تفسير سورة فصلت [26 - 32] إن اللغو والعبث والسخرية والاستهزاء بآيات الله أسلوب من أساليب الصد عن تبليغ دعوة الله، وقد توعد الله من يستخدم هذا الأسلوب في مواجهة دعوته بالعذاب الأليم، ووعد الله من سمع بهذه الدعوة وبلغها واستقام عليها بأن يتولاه في الدنيا والآخرة.

تفسير قوله تعالى: (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون)

تفسير قوله تعالى: (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة فصلت: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ * فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ * إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:26 - 30]. في هذه الآيات من هذه السورة الكريمة يبين الله عز وجل مشاهد للكفار وللمؤمنين، فبين حال الكافر في الدنيا كيف كان يصنع، وفي الآخرة كيف جوزي، وكذلك المؤمن ما الذي صنع في الدنيا، وكيف جازاه الله عز وجل يوم القيامة؟ هؤلاء الكفار قال بعضهم لبعض: {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26] نظروا إلى القرآن أنه معجز وعظيم فخافوا على أنفسهم أن تضيع منهم الدنيا باتباعهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا في حماقة وجهل وغباء وبعد عن الله سبحانه، حيث فضلوا الدنيا على الآخرة، ونظروا إلى رئاستهم ومنازلهم في الدنيا ولم ينظروا إلى ربهم سبحانه وتعالى الذي أمرهم أن يعبدوه. فقوله تعالى عنهم: {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} [فصلت:26] أي: تكلموا باللغو وبالكلام الباطل الفارغ، واللغو: كل ما ينبغي أن يلغى ويطرح ويلقى مهملاً، من الأقوال والأفعال، فكأنه نصح بعضهم بعضاً وتواصوا فيما بينهم أنه إذا تكلم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقولوا أي كلام أمامه ويرفعوا أصواتهم بحيث لا يقدر على أن يتكلم ولا يسمعه أحد، فإذا كان المجلس على هذا الحال خرج منه النبي صلى الله عليه وسلم إلى مجلس آخر يدعوهم إلى الله فيقفون له بالمرصاد، باللغط واللغو والكلام الباطل حتى يشوشوا عليه فلا يقدر على إبلاغ رسالة ربه صلوات الله وسلامه عليه، يكيدونه ويكيد الله عز وجل له {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]، فحاولوا جهدهم أن يمنعوا النبي صلى الله عليه وسلم من أن يبلغ رسالة الله {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8].

تفسير قوله تعالى: (فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا)

تفسير قوله تعالى: (فلنذيقن الذين كفروا عذاباً شديداً) قال الله عز وجل: {فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [فصلت:27] فلنذيقن: الفاء للترتيب والتعقيب، وبيان النتيجة عند هذا السبب الذي ذكره الله سبحانه، واللام والنون المثقلة للتوكيد الذي يدل على وجود القسم، فكأنه يقول: والله لنذيقنهم العذاب الشديد، فسوف يرون ويذوقون العذاب {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89]. وقوله: {عَذَابًا شَدِيدًا} [فصلت:27] أي: عذاب النار. قال الله تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [فصلت:27] ولنجزينهم في الآخرة جزاء قبح أعمالهم التي عملوها في الدنيا، وأسوأ الأعمال التي عملوها الشرك، فيجازيهم الله عز وجل على شركهم فما دون ذلك من الأعمال، ويجزي على الأقبح ثم على غيره.

تفسير قوله تعالى: (ذلك جزاء أعداء الله النار)

تفسير قوله تعالى: (ذلك جزاء أعداء الله النار) قال سبحانه: عن الجزاء العظيم الفظيع الذي سيجازى به أعداء الله: {ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت:28] فالنار جزاء أعداء الله، أو ذلك الجزاء هو النار، {لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْد} لهم فيها دار الإقامة التي لا يخرجون منها أبداً، أدخلهم الله ناراً مؤصدة مغلقة عليهم، يدورون فيها فترتفع بهم وتنخفض، وتغلي بهم، وتندلق أقتاب بطونهم، حتى إنه يغلي دماغ الإنسان في النار -والعياذ بالله -. {جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت:28] جزاءً وفاقاً؛ لأنهم جحدوا في الدنيا وأنكروا مع اعترافهم في قلوبهم وفيما بينهم أن ذلك هو الحق الذي جاء من عند الله سبحانه، ولكن جحدوا أمام النبي صلى الله عليه وسلم، والجحود إنكار ما هو معلوم أنه حق وصواب.

تفسير قوله تعالى: (وقال الذين كفروا ربنا أرنا اللذين أضلانا)

تفسير قوله تعالى: (وقال الذين كفروا ربنا أرنا اللذين أضلانا) ثم ذكر الله عز وجل مشهداً من مشاهد يوم القيامة، فبعد أن فعل الكافرون ما فعلوا رجعوا سريعاً إلى الله؛ ليجازيهم على أعمالهم القبيحة السيئة، فانتقل من مشهد في الدنيا إلى مشهد آخر في يوم القيامة، وهو عقوبتهم في النار فقال سبحانه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ} [فصلت:29] فالكفار يطلبون من الله، ففي ذلك الوقت عرفوا ربهم، وما كانوا يدعونه في الدنيا إلا إذا نزل بهم الضر، فإذا كانوا في وقت الرخاء لم يطلبوا ربهم ولم يدعوه سبحانه وتعالى، فذكر أنهم قالوا يوم القيامة - متوسلين إلى الله عز وجل -: {رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ} [فصلت:29] شياطين الإنس وشياطين الجن الذين أضلونا وأبعدونا عن دين الله سبحانه، وأغوونا في هذه الدنيا عن كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فأهل النار يريدون أن يفتكوا بمن ضلوهم، ويدوسوهم بأقدامهم في نار جهنم. قال الله عز وجل عنهم: {رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا} [فصلت:29] اللذين أي الاثنين، وقرأها ابن كثير بتشديد النون فيها، وبالقصر والتوسط والمد في الياء. وقوله: {نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا} [فصلت:29] أي: ندوسهم بأقدامنا في نار جهنم، {لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ} [فصلت:29] في أسفل نار جهنم وفي قعرها تشفياً؛ بسبب ما صنعوا فيهم! هذا الكلام يقوله الذين كانوا يستضعفون في الدنيا عند الأكابر الذين كانوا يأمرونهم بفعل المنكر وارتكاب المعاصي ويعدونهم بالدفاع عنهم، فكان هؤلاء المستضعفون من الكفار يأمرهم كبراؤهم بالمنكر، وهم بما في قلوبهم من حقد على دين الله عز وجل، واتباع للهوى وللشيطان، وبما في قلوبهم من فتنة وحب لما هم فيه من مناصب وغيرها يطيعون هؤلاء الكبراء طاعة عمياء في معصية الله سبحانه {فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [الزمر:26]، فالكفار يبحثون عمن أضلهم من الكبراء الذين اتبعوهم وأطاعوهم في الدنيا، فقالوا: {رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ} [فصلت:29] هذا مشهد من حال الكفار في النار.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) هنا مشهد آخر للمؤمنين الصالحين الذين دعوا إلى الله سبحانه وتعالى يصفهم الله عز وجل بهذا الوصف الجميل وهو قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] فالمؤمنون الذين قالوا: لا إله إلا الله، وشهدوا لله بالتوحيد وبالرسالة للنبي صلى الله عليه وسلم، وأخلصوا ما في قلوبهم وأعمالهم وأقوالهم لله، وتحلوا بالمتابعة الإخلاص، فتابعوا دين الله عز وجل، واتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم وأخلصوا لله سبحانه، وتوخوا الحق واتبعوه، وقالوا بألسنتهم ووافقت قلوبهم أعمالهم، فاستقاموا على طريق الله سبحانه، ولم يروغوا روغان الثعالب، ولم يذهبوا يميناً وشمالاً، ولم يتحدوا لا مع شرق ولا مع غرب، ولم يطلبوا غير الإسلام، فهو -فقط- الذي يدعون إليه، ولم يتنازلوا عن شيء من أوامر الله سبحانه، وجعلوا الإسلام العظيم شريعة ومنهاجاً للحياة، فإذا فعل الإنسان ما يرضي الله سبحانه وتعالى كان مع هؤلاء الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا، على دين الله. وإذا وقع في المعصية فالاستقامة أن يبادر إلى طاعة الله سبحانه وتعالى، يقول صلى الله عليه وسلم: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) ولم يقل: إنهم لم يخطئوا، بل إنهم وقعوا في الذنوب، ولكن سرعان ما يفيئون ويعودون إلى ربهم سبحانه وتعالى تائبين. جاء سفيان بن عبد الله الثقفي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك، أو أحداً غيرك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قل آمنت بالله ثم استقم) ومقتضى هذه الآية العظيمة: {قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] أنهم استقاموا على طريق الهدى. والطريق المستقيم أقصر الطرق إلى الجنة، وهو توحيد الله سبحانه وتعالى، ومتابعة الرسول صلوات الله وسلامه عليه وإخلاص العمل لله. يقول الله تعالى: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30]، لما استقاموا على الدعوة إلى الله سبحانه، فدعو الناس إلى توحيد الله، فاقتدى الناس بهم في أقوالهم وأفعالهم، متابعين لكتاب الله ولسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال الله عنهم: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} [فصلت:30] عند الموت تتنزل عليهم الملائكة وتقول لهم: لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون. إن المؤمن تخرج روحه بعرق الجبين، فقد يشدد عليه عند الموت حتى يكفر عنه ما بقي عليه من سيئات، ولكن مع ذلك فالملائكة تطمئنه وتقول له: لا تخف ولا تحزن فإنك قادم على رب غفور رحيم، اخرجي أيتها النفس الطيبة في روح وريحان، إلى رب غير غضبان، فتخرج روح المؤمن بسهولة، وإن كان قد يعاني ويرشح جبينه عرقاً من شدة الموت فإن ذلك يكفر عنه سيئاته؛ وعندما تخرج الروح تتلقاها ملائكة الرحمة، وتصعد بها إلى السماء ثم تعاد إلى الأرض، ويثبت الله المؤمن بالقول الثابت وهو في قبره، فإذا سئل: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك عليه الصلاة والسلام؟ قال: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلوات الله وسلامه عليه، لقد استقام على ذلك في الدنيا فثبته الله عليه في قبره، ففي الدنيا كان يقول: ربنا الله، فثبت على ذلك في قبره؛ لأنه استقام على دين الله، وأخذ بالدين كله بقوة، واتبع نبيه صلى الله عليه وسلم، فعرف الإسلام بحق، وعمل به، وعرف نبيه صلى الله عليه وسلم، فلما كان في قبره كان جزاؤه من جنس عمله، فقد عرف ربه وحده، فثبت الله لسانه وهو في قبره. قال تعالى: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا} [فصلت:30] فالخوف دائماً من المستقبل، والحزن غالباً على الماضي، وهنا لا خوف ولا حزن، فالذي يموت وله عيال صغار تقول له الملائكة: لا تخف إن الله سبحانه وتعالى هو الولي الحميد.

تفسير قوله تعالى: (نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة)

تفسير قوله تعالى: (نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة) قال عز وجل: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [فصلت:31] أي: تولينا أمركم، ولن نترك من خلفتم بعدكم، ولذلك يقول الله عز وجل: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء:9] فالذي يخاف على ذريته من بعده، فليبق لهم ما ينفعهم، وهو تقوى الله سبحانه وتعالى والقول السديد، فبصلاح الإنسان يصلح الله عز وجل ذريته، وبحفظ الإنسان لتعاليم دين الله سبحانه يحفظ الله عز وجل بيته وأهله وأولاده وذريته من بعده، ويحفظه من أن يفتن في قبره، أو يقع في غير ما يرجوه من عذاب الله سبحانه وتعالى. أما من كان فاجراً عاصياًَ لله إذا قيل له في قبره: من ربك؟ قال: هاه هاه لا أدري، وإذا قيل له: من نبيك؟ قال: لا أدري، وإذا قيل له: ما دينك؟ قال: لا أدري، فإذا بين له أن النبي محمد والدين الإسلام يقول: سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فلم يكن يعرف معنى: لا إله إلا الله، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان بعيداً عن الله يسخر من عباده المؤمنين. هذا هو الفرق بين المؤمن التقي والفاجر الشقي، فالمؤمن يذكر الله عز وجل أن الملائكة تثبته: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا} [فصلت:30] أي: لا تخافوا مما أنتم قادمون عليه، إنكم قادمون على رب غير غضبان عليكم، وعلى رب غفور رحيم سبحانه، ولا تحزنوا على ما تركتم في الدنيا، وعلى ما وقعتم فيها من معاص، فسيغفرها الله عز وجل لكم باستقامتكم في الدنيا. {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ} [فصلت:30] البشارة: الإخبار بما يسر الإنسان مما سيقدم عليه، فالمؤمن لا يخاف مما سيقدم عليه، ولا يحزن على ما مضى، ويبشر بما يسره وهي الجنة التي كان ربه يعده بها في الدنيا. قال الله عز وجل: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [فصلت:31] إن الله ولي الذين آمنوا، والملائكة تتولى من تولى الله سبحانه وتعالى، فتطمئنه وتقول له: لا تخف فالله معك سبحانه وتعالى، فتولت المؤمن في الدنيا والآخرة؛ قال تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ} [فصلت:31] في الدنيا، وكذلك في الآخرة أي: في الآخرة، وما تشتهي أنفسكم أي: كل ما تتمنونه عند الله عز وجل يعطيكموه. وقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت:31] أي: ما تطلبونه من الله عز وجل يعطيكم إياه.

ولاية الله للمؤمنين في الدارين

ولاية الله للمؤمنين في الدارين قال الله تعالى: {نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:32] أي: ضيافةً وكرماً من الله عز وجل، والنزل: طعام الضيف النازل إكراماً له، فهؤلاء ضيوف الرحمن سبحانه وتعالى فلهم ضيافتهم عند الله، {نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:32] الذي يغفر فيستر الذنوب ويرحم ويتجاوز عن سيئات عبده، ويكرمه من فضله. نسأل الله عز وجل أن يغفر لنا وأن يرحمنا، إنه هو الغفور الرحيم، وأن يجعلنا من أهل جنته وأن ينجينا من عذابه ومن ناره. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة فصلت [30 - 36]

تفسير سورة فصلت [30 - 36] الإيمان والاستقامة سببان في تنزل ملائكة الرحمة على المؤمن عند موته، لتثبيته وتبشيره بالجنة، فهي نزل المؤمنين الصادقين، وليس هناك أفضل ممن دعا إلى الله مع العمل بما دعا إليه والاستسلام لأمر الله، وبالإحسان إلى المسيء يكسب الداعي قلوب العباد، ويضع الله له القبول في الأرض، والاستعاذة بالله من الشيطان حصن للمؤمن من كيده ومكره.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة فصلت: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ * وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت:30 - 36]. في هذه الآيات يأمر الله عز وجل عباده بالتخلق والاتصاف بصفات كريمة وعظيمة، أول هذه الصفات: توحيد الله سبحانه والاستقامة على دين الله رب العالمين، والله هو الذي خلق العبد، فلا يكون للعبد أن يعبد إلهاً غيره سبحانه وتعالى، كيف يكون ربه هو الذي خلق والذي رزق والذي أعطى والذي منح والذي أدب وربى، ثم بعد ذلك يعرض عنه ويعبد غيره؟! هذا لا يليق في المنطق العقلي، فلذلك أخبر: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [فصلت:30] أي: عرفوا أن الرب هو الخالق وهو الإله المعبود وحده الذي يستحق أن يعبد ليس غيره، وكان المشركون يعرفون أن الرب هو الخالق؛ ولذلك إذا سئلوا: من الذي خلق؟ يقولون: الله الذي خلق، وإذا سئلوا: من تعبدون؟ يقولون: نعبد غيره سبحانه وتعالى، لم لا تعبدون الله؟ قالوا: ما نعبد هؤلاء إلا ليقربونا إلى الله زلفى، فيزعمون أنهم لا يتوجهون مباشرة إلى الله؛ لأنهم ليسوا أهلاً لذلك، وحقيقة الأمر أنهم لا يعبدون الإله الواحد الذي خلقهم سبحانه؛ لكونهم يعرفون أنهم إذا عبدوا إلهاً واحداً وهو الله سبحانه سيتوجهون عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربهم سبحانه، فيعرفون ما الذي شرعه لهم عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول لهم: هذا أحله الله، وهذا حرمه الله، افعلوا كذا، ولا تفعلوا كذا، فصارت القيادة في زعمهم وظنهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وهم لا يريدون ذلك، فقد كان في قلوبهم الحسد للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله اصطفاه واختاره نبياً ورسولاً صلوات الله وسلامه عليه، فبعدهم عن التوحيد سببه من هذا الباب. فكل إنسان بمزاجه وبحسب ما يريد يعبد الإله الذي يريد، فيصنع تمثالاً من حجر، أو تمثالاً من شجر، أو تمثالاً من مدر، فيعبدون غير الله، حتى لا يتحكم فيهم بزعمهم النبي صلوات الله وسلامه عليه، أما المؤمنون فعرفوا طريق الله سبحانه وعرفوا كيف يرضون الله عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم الذي يأتيه الوحي من السماء، قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء:26]، فيعرفون ما الذي يريده الله عز وجل بأمره، فينبئهم ويخبر الخلق فيتبعون هدي النبي صلى الله عليه وسلم فيعبدون الله على بصيرة، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] أي: أنا والمؤمنون على بصيرة أتت من عند الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يهدي وهو الذي يبين سبحانه وتعالى. فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [فصلت:30] فعبدوا الله واستيقنوا في قلوبهم أنه وحده الذي يستحق أن يعبد، ففعلوا ذلك توجهوا إليه من أقصر، طريق، وهو الطريق الذي يريده الله عز وجل طريق الاستقامة على هذا الدين، الذي جاءنا عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم، فأخلصوا لله سبحانه ووحدوه بالعبادة، وتابعوا هدي النبي صلى الله عليه وسلم في هذه العبادة، فهم مؤمنون مستقيمون لم يروغوا ولم يلتفتوا عن دين الله إلى غيره، فهؤلاء يستحقون من الله عز وجل أن يكرمهم في الدنيا، وأن يعلمهم وأن يهديهم وأن يوفقهم لطاعته، وأن يدلهم على سبيله وطريقه، وأن يثبتهم عليه سبحانه وتعالى؛ ولذلك في وقت وفاتهم تتنزل عليهم الملائكة وتقول: لا تخافوا ولا تحزنوا نحن كنا معكم في الدنيا بأمر الله عز وجل، والآن نعينكم في هذا الوقت الذي أنتم فيه، فيثبتكم الله عز وجل بالقول الثابت وينور لكم قبوركم، كما نور لكم قلوبكم في هذه الدنيا. قال تعالى: {أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30] إن المؤمن وهو في قبره يثبته الله سبحانه وتعالى، إذ يأتيه عمله الصالح فيحيط به من صلاة وصوم وغير ذلك، فإذا بملائكة العذاب لا يقدرون له على شيء، فإن الله قد عصمه وقد عافاه وقد نجاه سبحانه، فإذا بملائكة الرحمة تقول له: انظر هذا منزلك في الجنة، يقول: يا رب أقم الساعة كي أعود إلى أهلي ومالي، يقول ذلك من فرحته، فيقال له: نم نومة العروس التي لا يوقظها إلا أحب الناس إليها، فيطمئن في قبره، كما يكون قبره روضة من رياض الجنة، فالله ثبته بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وبشرته الملائكة بجنة الله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة)

تفسير قوله تعالى: (نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة) قال الله تعالى: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت:31] أي: لكم في الآخرة ما تشتهي أنفسكم في الجنة، فيها مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ويقال لأهل الجنة: يا أهل الجنة! إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً، فينعمون بالجنة.

تفسير قوله تعالى: (نزلا من غفور رحيم)

تفسير قوله تعالى: (نزلاً من غفور رحيم) من فضل الله سبحانه وكرم الله سبحانه أنه يعد لهم نزلهم، قال تعالى: {نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:32] يعد لهم ضيافتهم، فيصيرون إلى الجنة جنة الخلود، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها.

تفسير قوله تعالى: (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا)

تفسير قوله تعالى: (ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً) ثم يذكر الله لنا صفات هؤلاء الذين وحدوا الله سبحانه وعبدوه واستقاموا على دينه سبحانه، قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] قول بعد اعتقاد في القلب اعتقاد توحيد الله سبحانه وتعالى، وفي اللسان: قول لا إله إلا الله والتوكل على الله سبحانه وتعالى، والإحسان إلى الخلق، فأحسنوا باعتقادهم وأحسنوا في معاملتهم فاستحقوا من الله عز وجل الإحسان، بل الحسنى وزيادة. قوله تعالى: {مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} أي: كل من دعا إلى الله سبحانه وتعالى، ولذلك المفسرون من الصحابة ومن بعدهم اختلفوا في ذلك، لكن الخلاف الذي بينهم خلاف تنوع وليس خلاف تضاد، فمنهم من يقول: الداعي هو محمد صلوات الله وسلامه عليه، وهذا صحيح ولا يمنع أن يكون غيره يدعو إلى الله سبحانه وتعالى، ومنهم من يفسر {مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} [فصلت:33] أنه المؤذن، يدعو إلى الله، فينادي الناس للصلاة، وهذا صحيح ولا يمنع أن يكون غيره كذلك داعياً إلى الله، والصواب في ذلك: أنه كل من دعا إلى الله سبحانه وتعالى، وإمام الدعاة وسيدهم نبينا صلوات الله وسلامه عليه، فهو خير من دعا إلى الله سبحانه وتعالى، وكذلك أصحابه جاهدوا في سبيل الله، فدعوا الخلق إلى الله، وكذلك من يدعو الناس إلى الصلاة ويدعو الناس إلى الزكاة ويعلم الناس دينهم، فكل من يدعو إلى طريق الله سبحانه وتعالى داخل تحت هذه الآية ((وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ)) أي: أحسن الأقوال وأحسن الفعال ما كان نتيجته استجابة لدين الله ودخول في دين الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لكم من حمر النعم، وخير لك مما طلعت عليه الشمس) فإذا دعوت إلى الله سبحانه لا تطلب دنيا، وإنما تطلب الآخرة، فلك أجر عظيم عند الله، فالداعي إلى الله يطلب الآخرة، وجنة الرضوان أعظم ما يطلبه الإنسان، وإذا طلب رضا الله أعطاه الله الدنيا والآخرة، وإن لم يعطه فيها ملكاً أعطاه رضاً في قلبه عن دين الله سبحانه وعن أمره، وأعطاه من يحبه من خلق الله سبحانه وتعالى، وإذا أحب الله عبداً نادى جبريل فقال: (إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، فينادي في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبونه ويوضع له القبول في الأرض)، هذا جزاء في الدنيا قبل الآخرة. فلابد من الاعتقاد أن التوحيد هو قول لا إله إلا الله، والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى في كل وسيلة وكل طريق والعمل الصالح، فلا يقول: أنا أدعو الناس يعملون ويكفي، بل لابد أن يكون عمله مؤيداً ما يقول لسانه ويعتقده قلبه. قال تعالى: {وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] سمانا الله عز وجل هذه التسمية الجميلة العظيمة المباركة: مسلم، فلا نبتغي بديلاً عن هذه التسمية العظيمة، نحن من المسلمين، ملة أبينا إبراهيم، والله سبحانه وتعالى سمانا المسلمين من قبل، فأجمل ما تتسمى به قولك: أنا مسلم، أي: مستسلم لله سبحانه وتعالى، مسلم نفسي وقلبي وبدني، وموجه وجهي إليه سبحانه وتعالى، هو يأمرني وأنا أطيعه، هو ينهاني وأنا أفعل ما يقوله سبحانه وتعالى، فأجتنب ما حرم وأفعل ما أمرني أن أفعله. إذاً: الذي يدعو إلى الخالق سبحانه وتعالى وإلى دينه يستشعر أنه عبد وأنه من المسلمين، فلا يستشعر أنه متطاول على الخلق، يدعوهم لأن له عليهم سلطان، فهو يستشعر في العبودية لله سبحانه أنه عبد يطيع ربه سبحانه، فيدعو الخلق إلى الله لينجو هو وينجو الخلق من عذاب الله يوم القيامة.

تفسير قوله تعالى: (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة)

تفسير قوله تعالى: (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة) قال الله تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] أعظم الحسنات التوحيد، وأقبح السيئات الشرك، ولا يستوي التوحيد مع الشرك بالله سبحانه وتعالى، ولا تستوي الطاعة مع المعصية، ولا يستوي الإيمان مع الكفر، ولا يستوي العمل السيئ مع العمل الصالح، ولا يستوي المؤمنون مع الكافرين. قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت:34] يأمرك الله سبحانه أن تدفع خصمك ومن يعاديك بالحسنى، فأحسن إلى الخلق كي تستجلب مودتهم، فالإنسان يستعبده الإحسان إليه، قد يسيء إليك فتحسن إليه فتقل إساءته، ثم تحسن إليه فيستحي منك، فالإحسان إلى الخلق يستعبد الخلق، وهذا الذي يأمرنا الله سبحانه وتعالى. فالله خالق كل شيء، خلق الشياطين وخلق الإنس وخلق الجان وخلق غيرهم، لك أعداء من الإنس، ولك أعداء من الجن، وعدوك من الإنس أنت تراه، وعدوك من الجن أنت لا تراه، فالله عز وجل يعلمك: كيف تتعامل مع أعدائك، وكيف تدفع هؤلاء الأعداء من الإنس، يقول: ((ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)) وليس المعنى: أنك تترك الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى، ولكن ابدأ بذلك فأَحسِن وتَأَّلف الخلق لعلهم يدخلون في دين الله سبحانه وتعالى، فتألف عدوك لعله يستجيب يوماً من الأيام، فتكسب بذلك إنساناً دخل في طاعة الله سبحانه وتعالى، والإنسان بالرفق في دعوة الخلق يجذب إلى دين الله أكثر بكثير ممن يدعو بالقوة وبالبطش وبالعنف؛ ولذلك ما كان الإحسان في شيء إلا زانه، وما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه. قال تعالى: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] إن صفة الدفع بالتي هي أحسن أن تتعامل مع خصمك الذي يسيء إليك بالإحسان لا المكافأة، وإلا فمن أين يكون الفضل لما يكون الأمر على ذلك؟! ولكن عامل الناس بخلق حسن كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن) وهذا من أجمل ومن أعظم الأخلاق أنك تكون كريماً حليماً في أخلاقك، إذا أساء إليك إنسان لا تدفع السيئة بالسيئة ولكن ادفع السيئة بالحسنة، وعود نفسك العفو والصبر على الإساءة إليك. فقوله تعالى: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] هذه النتيجة، والذي يخبر عن السبب وعن النتيجة هو الله سبحانه، قال تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] فالله أعلم بقلوب الخلق، وما الذي يجذبها وما الذي ينفرها، ولذلك قال لنبيه صلى الله عليه وسلم {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] والأصل: فبرحمة من الله، ولكن لتعظيم هذه الرحمة قال: (فبما) أي: بأي شيء؟! برحمة عظيمة من الله سبحانه وتعالى أعطاكها فصرت طيباً مع الخلق ليناً هيناً صلوات الله وسلامه عليه. قال: ((وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)) هذا يقال للنبي صلى الله عليه وسلم، لو كان فضاً غليظ القلب لانفض الناس من حوله، فكيف بغيره عليه الصلاة والسلام؟! فيتعلم العبد المؤمن اللطف واللين ولو مع من أساء إليه، حتى لو قال الناس: إنك ضعيف، فلابد أن تعود نفسك الصبر والحلم إلا إذا كان في حد من حدود الله، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحلم ويصبر إلا في حد من حدود الله، فكان يقيم حدود الله صلوات الله وسلامه عليه، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر عليه الصلاة والسلام. فقوله تعالى: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] أي: ما كان بينك وبين مسلم، وبينك وبين فاجر، وبينك وبين إنسان عداوة إذا أحسنت إليه يصير في النهاية كالولي الحميم، والولي: من الولاية والقرابة، أي: القريب، يعني: كأنه قريبك بعد ما كان بعيداً عدواً صار قريباً منك وقريباً لك وحميماً محباً.

تفسير قوله تعالى: (وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم)

تفسير قوله تعالى: (وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) قال الله تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} [فصلت:35] أي: ما يلقى هذه الخصلة الطيبة إلا الإنسان الذي تعلم وتمرن على الصبر والحلم، وما يلقى هذه الخصلة العظيمة وهي العفو عن الإساءة إلا الإنسان الصابر. قال تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35] أي: الذي تعلم أنه يعفو ويصفح ويدفع بالتي هي أحسن هو الإنسان الذي له حظ وقدر عظيم عند الله سبحانه، وأجر عظيم جميل عنده سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله)

تفسير قوله تعالى: (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله) قال الله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت:36] هذا عدوك من الجن الذي لا تراه كيف تتعامل معه وأنت لا تراه؟ ففي هذه الحالة ليس لك إلا سبيل واحد وهو أن تلجأ إلى ربك سبحانه، بأن تتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وهذا أقصر طريق تدفع به ذلك، ويضربون المثل بذلك: أن الكلب يهجم عليك كلما مررت من عنده، فأفضل طريقة لدفع الكلب أن تذهب إلى صاحبه وتطلب منه أن يحبسه، كذلك الشيطان ما لك طريق معه وأنت لا تراه حتى تقاومه، ولكن تلجأ إلى ربك الذي خلقه وتقول: يا رب أجرني منه، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فهذه هي الوسيلة حتى تدفع عنك شر الجن، وهي بأن تتعلم ذكر الله سبحانه وتتعوذ بالله! فتقول أعوذ بالله أي: ألوذ وألجأ وأستغيث وأستعصم وأستنصر بالله سبحانه وتعالى حتى يمنع هذا الشيطان عني. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة فصلت [36 - 38]

تفسير سورة فصلت [36 - 38] خلق الله عز وجل الكون بما فيه بقدرته العظيمة القاهرة، وأخضع كل شيء له سبحانه تبارك وتعالى، وخلق هذا الإنسان وشرفه وكرمه على سائر مخلوقاته، وأمره بعبادته سبحانه وحده، وأخبر أنه إن استكبر الإنسان فإن لله عز وجل ملائكة لا يحصيهم عد لا يستكبرون عن عبادته، ويعبدونه حق عبادته، ولا يعصونه سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعد بالله)

تفسير قوله تعالى: (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعد بالله) الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة فصلت: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت:36 - 38]. في هذه الآيات يخبر الله سبحانه تبارك وتعالى العباد عن كيفية مدافعة الشيطان وطرد وسوستة عن أنفسهم بعد أن ذكر كيف ندفع بالتي هي أحسن السيئة، في قوله: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34]، فأخبر أنك تدفع الإنسان العدو بالحسنى؛ لعل الله عز وجل يؤلف قلبه، والنبي صلى الله عليه وسلم علمنا بحسن خلقه وبما علمه من ربه سبحانه تبارك وتعالى أن ندفع كيد الإنسان بالتي هي أحسن، قال الله عز وجل: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [المؤمنون:96]، وقال: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] فيتعامل المؤمن مع غيره بالرفق قدر المستطاع، ولعله يؤجر على الرفق الأجر العظيم من الله سبحانه تبارك وتعالى، وليس المعنى أن الإنسان يذل نفسه أو يتنازل عن حقه إذا كان مظلوماً ولا يقدر أن يأخذ حقه، ولكن المعنى: أن الإنسان يحسن إلى من أساء إليه، فإذا أساء إليك إنسان في وقت وقدرت أن تنتصف منه وأن تنتصر عليه فلك خياران: إما أن تفعل وتنتصر ولا شيء عليك، وليس عليك من سبيل في ذلك، وإما أن تعفو وتصفح مع قدرتك عليه، فهذا أعظم لك في الأجر عند الله سبحانه تبارك وتعالى. فإذا انتصرت فإن الله يقول: {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى:41]، فإذا ظلمت فانتصرت من الذي ظلمك فلا سبيل عليك ولا حرج ولا إثم، ولكن إذا عفوت فالعفو أعظم في الأجر عند الله سبحانه تبارك وتعالى قال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران:186]، وقال: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى:43]. إذاً: معاملتك للإنسان الذي هو خصم لك إن لم يكن في حد من حدود الله عز وجل لك أن تعفو ولك أن تنتصر فإذا كان في حد من الحدود فليس لك أن تعفو عن حد من حدود الله سبحانه تبارك وتعالى، وعليك أن تأمر بالمعروف وأن تنهى عن المنكر، ولا تسكت على منكر, ولا تسكت على باطل. وإذا كان الشيطان ينزغ ويوسوس للإنسان، فقد علمنا الله عز وجل أن نتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فقال هنا سبحانه: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت:36] وقال: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف:200]، ومعنى قولنا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم أي: ألجأ وألوذ وأستغيث وأستعصم بالله سبحانه من كيد الشيطان. ومن أعظم الأشياء التي تؤلف بين قلوب المؤمنين أن تسلم على صاحبك، فإذا كان بينك وبين إنسان شيء ومررت عليه فالق عليه السلام، فهذا خير عظيم وتؤجر عليه، فإذا قلت له: السلام عليك فتؤجر عشر حسنات، وإذا قلت: السلام عليك ورحمة الله، فتؤجر عشرين حسنة، وإذا قلت: السلام عليك ورحمة الله وبركاته فتؤجر ثلاثين حسنة. وكذلك التسليم مع المصافحة تؤجر عليه هذا الأجر وأيضاً تتساقط الذنوب من بين أيديكما فقد جاء في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجة من حديث البراء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان، يعني: يأخذ أحدهما بيد صاحبه، قال: فلا يتفرقان إلا وقد غفر الله لهما، أو قال: فتتساقط الذنوب من بين أيديهما). فإذا سلمت على صاحبك ومددت يدك إليه مسلماً مصافحاً محباً له، فقد بدأت بالحسنى، فتكون النتيجة كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الذنوب تتساقط من بين أيديكما. وقال صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينك) فالسلام يجلب المودة والمحبة بين المسلمين، والتسليم يرفع الشحناء والعداوة والبغضاء التي في القلوب، والإنسان الذي يمر على الآخر ولا يسلم عليه قد يُحدث في نفسه شيئاً فيعامله بالمثل. فالتسليم يرفع عن قلب الإنسان ما فيه من شحناء وغضب وبغض وكراهية كما قال النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه. فإذاً: من ضمن الدفع بالتي هي أحسن أن تسلم على أخيك. وقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بإفشاء السلام، وأخبرنا بأن من علامات الساعة أن الإنسان يدخل المسجد ولا يصلي فيه، ولا يسلم إلا على من يعرف، فمن علامات الساعة أن الإنسان يدخل المسجد يتحدث، كما تجد الكثير من الناس اليوم يدخلون المسجد يسألون بعض الأسئلة ثم يخرجون ولا يصلون. أو يدخلون الجنازة إلى المسجد ويخرجون ينتظرون إلى أن ينتهي الناس من الصلاة عليها ويمشون مع الجنازة إرضاء لأهلها، ولا يرضون ربهم سبحانه تبارك وتعالى في ذلك. فمن علامات الساعة: أن يمر الرجل بالمسجد ولا يصلي فيه، ومن علاماتها: ألا يسلم إلا على من يعرف، ومن لا يعرفه لا يسلم عليه، فيجلس المسلمون متنافرين، ولا يعرف أحد أخاه، وقد خلق الله عز وجل العباد وجعلهم شعوباً وقبائل ليتعارفوا فيما بينهم، قال تعالى: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13]. والغرض: أن النبي صلى الله عليه وسلم علمنا أن من مقومات وجود المحبة بين قلوب المؤمنين: الصفح والعفو وإفشاء السلام بينهم. قال تعالى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ} [فصلت:36]، النزع: أدنى الحركة، فنزغ بمعنى: تحرك حركة بسيطة جداً، فيكون معنى الآية: إما يستفزنك من الشيطان شيء ولو كان شيئاً بسيطاً جداً من وسوسة الشيطان، ليصدك بها عن أن تعفو عن صاحبك، كأن يدخل في نفسك ويقول لك: ولماذا تعفو عنه؟ وهل أنت ضعيف؟ فاذهب واضربه وافعل فيه كذا وكد له، فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وتعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وأتى سبحانه هنا بهذين الاسمين السميع والعليم، أي: أنه يسمع ما تقول، ويعلم ما تخفيه في قلبك من ناحية أخيك، ويعلم ما ألقاه الشيطان من وسوسة في قلبك حتى تنتقم ممن أساء إليك، وتبتعد عن مقام العفو عنهم. قال تعالى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ} [فصلت:36]، أي: أدنى وسوسة من الشيطان فأعرض عنه، والجأ إلى من خلقك وهو الله سبحانه، وقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. قال تعالى: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت:36] أي: السميع الذي يسمع كل شيء، والعليم الذي يعلم كل شيء من أقوال وأفعال ونوايا.

تفسير قوله تعالى: (ومن آياته الليل والنهار)

تفسير قوله تعالى: (ومن آياته الليل والنهار) قال الله سبحانه تبارك وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت:37]، فالله سبحانه تبارك وتعالى هو الذي علمك العفو، وهو يقول لك سبحانه: إنه يعفو عن خلقه مع إجرامهم في حقه سبحانه ومع ذنوبهم العظيمة وكثرة خطاياهم إلا أنهم إذا تابوا إلى الله فإن الله يتوب عليهم سبحانه تبارك وتعالى، والله هو السميع الذي يسمع ما يقوله العباد، وهو العليم الذي يعلم ما يفعلون، وهو القادر على أن يعاقبهم، ومن آيات قدرته سبحانه تبارك وتعالى أنه خلق السموات والأرض، أفليس بقادر على أن يعاقب هؤلاء، وقد سمع ما قالوا، وعلم ما نووا وفعلوا؟! ومع ذلك يتجاوز ويعفو ويصفح عنهم، فاعف أنت أيضاً، وهذا من جمال الترتيب في هذه الآية، فقد ذكر لك مقام العفو، وأنك إذا عفوت لم ينقص ذلك من قدرك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله) فلما ذكر مقام العفو، وأن الشيطان إذا نزغ فاستعذ بالله القادر الذي يسمع ويعلم ويقدر عليك وعلى خصمك وعلى الشيطان، عقبها بذكر قدرته على خلق السموات والأرض، فهو الذي خلقهما، فانظر في آياته لتعرف قدرته سبحانه تبارك وتعالى العظيمة. قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ} [فصلت:37] أي: ومن علامات قدرته ومعجزاته سبحانه، {اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [فصلت:37] فقد خلق الليل وخلق النهار كل منها عكس الآخر، وخلق الشمس والقمر بحسبان، أي: يجريان بحساب. قال سبحانه: {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} [فصلت:37] أي: احذروا أن تسجدوا للشمس والقمر كما فعل الكفار ذلك، فسجدوا للشمس، وقالوا عنها: إنها إله تستحق العبادة، وهي مخلوق خلقها الله سبحانه تبارك وتعالى، وكذلك القمر آية من آيات الله، خلقه سبحانه لتعرفوا قدرة الله سبحانه تبارك وتعالى، لا لتعبدوها من دونه سبحانه. قال تعالى: {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ} [فصلت:37] فإن الشمس مخلوقة مسخرة، والقمر كذلك. قال تعالى: {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ} [فصلت:37] أي: الإله المعبود الحق سبحانه تبارك وتعالى، فهو الذي خلقهن، وخلق السموات والأرض وخلق الليل والنهار، وخلق البلاد والعباد، وخلق كل شيء. قال تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت:37] أي: إن كنتم تبعدون الله حقاً، وإذا عرفتم أنه الرب الخالق الذي يستحق أن يعبد وحده، فهو الرب، وهو الإله سبحانه تبارك وتعالى، فإذا عبدتموه فوحدوه وحده ولا تشركوا به أحداً.

تفسير قوله تعالى: (فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له)

تفسير قوله تعالى: (فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له) قال تعالى: {فَإِنْ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت:38] أي: عن ذلك، وعن عبادة الله سبحانه، {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت:38] الإنسان مخلوق ضعيف حقير، خلقه الله عز وجل من تراب ومن نطفة، ثم كرمه الله لا لأصل خلقته، ولا لأنه أصلاً شريف، فهو مخلوق من طين ومن تراب ومن شيء يستقذره الإنسان، ويطأه بقدميه، فقد خلق من نطفة يستقذرها فيغسلها، فهو ليس شريفاً بأصل خلقته، وإنما الله سبحانه تبارك وتعالى هو الذي شرفه وكرمه، فإذا أبى أن يعبد الله حقره الله ورده إلى أسفل سافلين والعياذ بالله بعد أن كرمه وسواه وعدله، فإن استكبر عن عبادة الله {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} [فصلت:38] يعني: الملائكة، والخلق الذين عند الله سبحانه، {يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [فصلت:38]. وعدد ملائكة الله سبحانه تبارك وتعالى لا يحصى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا فيها ملك قائم أو راكع أو ساجد). قوله: (أطت السماء) من: أط السقف، بمعنى: أنه كاد يهوي من الثقل الذي عليه، فقد بدأ يهتز ويكاد أن يقع وينشق، (أطت السماء) أي: كادت السماء أن تهوي، وقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا} [فاطر:41]، فالسموات ثقيلة، وفيها ملائكة لا يحصي عددهم إلا الله سبحانه تبارك وتعالى، فمن ثقل الملائكة تئط السماء مثل السقف الذي يهتز ويكاد أن يهوي، ولكن الله عز وجل يمسكها أن تزول من ثقلها، وقد خلقها الله، {فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11]، وكذا الملائكة يعبدون الله سبحانه بالليل وبالنهار ويسبحونه وينزهونه ويقدسونه سبحانه، قال تعالى: {وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت:38] أي: لا يتعبون، ولا يملون من عبادة الله سبحانه تبارك وتعالى، وخلقهم الله وكرمهم، وهم مخلوقون من نور بأصل خلقتهم، فهم مكرمون عند الله سبحانه تبارك وتعالى. وهذه الآية إشارة إلى أنه ينبغي ويجب على العباد أن يسجدوا لله سبحانه تبارك وتعالى، كما تعبده الملائكة ويسجدون له، وأن يخشعوا لله سبحانه كما أن الملائكة تسجد وتخشع، والسموات والأرض كذلك، ولذلك عقبها بقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً} [فصلت:39]، فخشعت السموات وخشعت الأرض لله سبحانه تبارك وتعالى، وسجد كل شيء كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18]. وهذه الآية إحدى سجدات القرآن، وسجدات القرآن كلها متأكدة الاستحباب، مع الاختلاف الذي في سورة ص بين الشافعي والجمهور، والغرض: أن هذه إحدى السجدات التي في القرآن، والتي يستحب لمن قرأها أن يسجد إذا كان في وقت سجود، وليس في أوقات الكراهة أو التحريم، سواءً كان في الصلاة أو في غير الصلاة والله أعلم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة فصلت [39 - 41]

تفسير سورة فصلت [39 - 41] من آيات الله سبحانه إحياء الأرض بعد موتها، وكذلك يحيي الله الموتى ويبعثهم، والذين ينكرون آيات الله لا يخفون على الله، بل لقد أعد لهم عذاباً أليماً يوم القيامة؛ لأنهم كذبوا بالله وبرسوله وبكتابه.

تفسير قوله تعالى: (ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة)

تفسير قوله تعالى: (ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة فصلت: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} [فصلت:39 - 41]. يخبر الله سبحانه وتعالى عن آياته العظيمة، فهو الذي خلق السموات والأرض وجعلهما آيتين للعباد، ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر، وهو الذي خلق كل شيء من أصغر الأشياء إلى أكبر وأعظم الأشياء، قال الشاعر: وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد سبحانه وتعالى، ففي كل شيء إعجاز، في خلق أصغر شيء، وفي خلق أكبر الأشياء، قال الله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} [النازعات:27] وذكر من آياته العظيمة فيها: {رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} [النازعات:28 - 31]، فجعل هذه آيات للعباد لمن يتذكر ولمن له قلب. من آيات الله سبحانه وتعالى العظيمة الأرض هذه التي نسير عليها فهي من بعض آيات الله عز وجل في هذا الكون العظيم، فأنت ترى الأرض خاشعة هامدة يابسة، وهذه الأرض الخاشعة إذا أنزل الله عليها الماء اهتزت وربت، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً} [فصلت:39] كأنك تسير فوق الأرض في الصيف في حال الجفاف، وترى هذه الأرض ساكنة لا تهتز، وهي أمامك أرض يابسة لا نبت عليها إلا ما يشاؤه الله سبحانه وتعالى، ثم إذا نزل عليها المطر من السماء جعل الله لكم آية حتى تقيسوا على ذلك إحياء وإخراج الموتى يوم القيامة فجأة تهتز الأرض وتربو الأرض ويخرج منها النبات، فالذي أحيا هذه الأرض أليس {بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأحقاف:33]. فمن آياته العظيمة أنك ترى الأرض اليابسة الخاملة الساكنة الساكتة ينزل الله عليها المطر من السماء فتهتز وتربو، والأرض فيها كائنات ومخلوقات لا تراها بعينك، والله سبحانه وتعالى يعلم عنها كل شيء، فهو الذي خلقها بداخل هذه الأرض، يقول العلماء: إن في الأرض أشياء كثيرة جداً من البكتريا والفطريات والطحالب والبذور والسيقان الأرضية والبصلات والبصيليات وحويصلات فيها ديدان وحشرات وجراثيم وأشياء موجودة بداخل الأرض وهي ساكنة ساكتة، هذه الأشياء تعيش تحت الأرض في سبات عميق لا توجد مياه نازلة عليها فهي لا تتحرك محافظة على أنفسها في هذه الحالة الساكنة، وتنخفض فيها العمليات الحيوية إلى أدنى معدل فيها، فلا حركة موجودة في هذه الأشياء، فالأرض هامدة ساكنة وما بداخلها كذلك هامد ساكن، بعد ذلك ينزل المطر من السماء على هذه الأرض، فتمتص الأرض هذه المياه النازلة من السماء، فتبدأ الحركة في الأشياء الموجودة بداخل هذه الأرض، الجراثيم تتحرك، والبكتريا والطحالب والديدان والحويصلات والبويصلات والبصلات والسيقان الأرضية والجذور وكل شيء بداخل هذه الأرض يتحرك، وتحصل عملية حيوية عظيمة جداً بداخل الأرض؛ لتنتفع أنت منها بعد ذلك مما يخرج الله عز وجل من النبات، والبذور الموجودة بداخل الأرض ساكتة، ولما ينزل عليها الماء تهتز وتتحرك بداخل هذه الأرض، وتسري فيها الحياة وتهتز الأرض بحركة ما بداخلها، ملايين الملايين من الكائنات الموجودة داخل الأرض كل منها يأخذ رزقه ويبدأ في الحركة، فإذا بالأرض تهتز وتتحرك وتربو الأرض وتنتفخ وترتفع. يقول العلماء: تبدأ عمليات الانقسام بداخل الأرض، إذ إن الكائن الذي بداخلها ينقسم إلى اثنين وإلى ثلاثة وإلى أربعة انقسامات خلوية يعلمها الله سبحانه ويدبر أمرها، فيبدأ امتصاص الماء بداخل الأرض، وتحليل الغذاء الذي كان معقداً إلى مواد بسيطة ينتفع منها النبات. يقول العلماء: بعد ذلك تبدأ عملية التأين العجيبة في جزيئيات التربة، إذ تتجمع الجزيئيات في جزيئيات التربة، وتنشط الديدان الأرضية في شق الأنفاق الأرضية وتأكل تربة الأرض وتخرجه تربهً أخرى أقل تعقيداً مما كانت قبل ذلك، وتبتلع كميات هائلة من التراب المتناسق المعقد، وتخرجه تربة خصبة طيبة مفككة، وتزداد التربة في حجمها فإذا بالتربة الأرضية تعلو، والتراب المتحجر أخذتها هذه الديدان وأخرجتها تراباً نقياً، كان متجمعاً فصار مفتتاً؛ فربت الأرض وانتفخت وعلت، كما ترى في العجين حين تأخذ الدقيق وتسكب عليه الماء وبعد ذلك تغطيه وتتركه فيتخمر ويربو ويعلو، ولعله يفيض من الحلة وينزل، كذلك الأرض يجعلها الله عز وجل فتربو وتنتفخ ثم تخرج ثمارها فينتفع الإنسان بذلك. قال سبحانه وتعالى: {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى} [فصلت:39] (ربت) بمعنى: علت هذه قراءة الجمهور، وقراءة أبي جعفر: (وربأت) بمعنى: انتفخت وعلت. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى} [فصلت:39] أي: كهذه الحياة التي دبت في الأرض بقدرة الله سبحانه ولم تتدخل أنت فيها، فالله على كل شيء قدير، كذلك يأمر من في القبور بالخروج إلى البعث والنشور فيحييهم الله عز وجل للجزاء وللجنة أو للنار. قال تعالى: {إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت:39] والله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير لا يعجزه شيء، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82].

تفسير قوله تعالى: (إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا) قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت:40] لحد في الشيء بمعنى: مال، يَلْحد الإنسان بمعنى: يميل، يصير مائلاً عن هذا الشيء ويُلْحِدُ كذلك، فالمعنى نفسه في الفعل الثلاثي والرباعي، والأصل في الإلحاد: الميل والزيغ والعدول عن الشيء إلى غيره، وهذه تُقرأ بالفعل الثلاثي والرباعي، قرأها حمزة: (إن الذين يَلحِدون في آيتنا)، وقرأها الجمهور فعلاً رباعياً: ((إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا)) بمعنى: يميلون عنها ويزيغون عن الحق الذي أتيناهم به، يلحدون بالإعراض وبالتكذيب في آيات الله عز وجل واتهام النبي صلى الله عليه وسلم، وبتأويل آيات الله عز وجل على غير ما يريده الله سبحانه وتعالى. ولذلك العلماء يقولون في هذه الكلمة (يلحدون): نزلت في المشركين ومنهم أبو جهل وغيره من الذين كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم وكذبوا بما جاء به ومالوا عن الحق إلى الباطل، فهم يلحدون في دين الله سبحانه وتعالى، ولما قالوا: {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26] فإن هذا من الإلحاد والمشاقة والعناد، فهم يلحدون في آيات الله سبحانه وتعالى، ويوصي بعضهم بعض باللغط إذا تكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فيهجرون فلا يسمع أحد ما يقوله النبي صلوات الله وسلامه عليه، هؤلاء لا يخفون على الله، والمعنى فيه ما فيه من التهديد من الله عز وجل والوعيد لهؤلاء، أي: انتظروا وسترون ما الذي نصنعه بكم! قال تعالى: {لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} [فصلت:40] أي: نحصي عليهم كل شيء يقولونه ويفعلونه، وليس هباءً ولا سدى، ولكن لنجازيهم يوم القيامة ونحاسبهم على ذلك. قال تعالى: {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [فصلت:40] أي: الذي يُلقى ويقذف في نار جهنم والعياذ بالله لا قيمة له، بل هو بمنتهى الإهانة والتحقير، يؤخذ كالدابة ويلقى في نار جهنم، هل هذا خير أم الذي يأتي يوم القيامة ويؤمنه الله عز وجل من العذاب الأكبر ومن الفزع الأكبر؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت) فقوله: (فاصنع ما شئت)، فيه من التهديد ما فيه، يعني: انتظر العقوبة على ذلك واعمل الذي تريده، وسترى عقوبة الله عز وجل التي تنزل بك، وكذلك هنا: (اعملوا ما شئتم) ليس المعنى: أن الله عز وجل يدعوهم إلى الباطل حاشا له سبحانه! ولكن هم أصروا على الباطل، فالمعنى: استمروا فيما أنتم عليه، وسترون ما يأتيكم من عذاب الله سبحانه وتعالى، وهذا تهديد من الله. قال تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت:40] إنه يراكم ويحصي عليكم، فلا تخفون عليه سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز) قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} [فصلت:41] فالذين يلحدون في آيات الله عز وجل وهم الكفار عبر الله عز وجل عنهم بأنهم يلحدون في آيات الله ويعرضون عنها ويميلون عنها، ويدعون غيرهم إلى عدم سماع ما يأتي به النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك يكفرون بهذا القرآن، فيكذبون ما فيه من ذكر الله سبحانه وتعالى، وأنه مستحق للعبادة وحده، فقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:5] فكذبوا وقالوا: {نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية:24] الذكر هنا بمعنى: القرآن، أي: إن الذين كفروا بهذا القرآن العظيم لما جاءهم من النبي صلى الله عليه وسلم. ((وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ)) أي: كتاب الله العظيم العزيز، العزيز: الغالب الذي لا يغالب مهما أرادوا أن يأتوا بمثله ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، فقد غلبهم القرآن وقهرهم، ولما أرادوا أن يلحدوا فيه وأن يحرفوا الكلم عن مواضعه حفظه الله سبحانه وتعالى وقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، ولما أرادوا أن يدخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم ويلبسوا عليه إذا بالله يعصمه ويحفظه، فالقرآن غالب مهما أرادوا أن يجادلوا بالباطل، قهرهم كتاب الله سبحانه وامتنع عليهم أن يدخلوا فيه شيئاً من باطلهم وإنه لكتاب عزيز، وكم أراد هؤلاء الكفار من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن تقوم الساعة أن يلحدوا في آيات الله سبحانه وأن يحرفوا وأن يبدلوه، ولا تزال طائفة من أمة النبي صلى الله عليه وسلم على الحق ظاهرين ينصرهم الله سبحانه وتعالى بهذا القرآن العظيم لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم، وقد أراد المشركون تبديل كلام الله سبحانه، فالقرآن عزيز ممتنع ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وفي كل عصر من العصور يوجد من يريد أن يلقي شيئاً في هذا القرآن العظيم ويرده الله سبحانه مدحوراً، حتى في زماننا أراد هؤلاء الكفرة الملاعين أن يلغوا آيات من كتاب الله، وأمروا المسلمين في بلادهم ومنافقيهم بإلغاء آيات الجهاد، وأنهم سينزلون مصحفاً جديداً مكان هذا المصحف ليس فيه هذه الآيات، فما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، بل قهرهم الله وأذلهم وأرانا فيهم الآيات. نسأل الله عز وجل أن يخرب عليهم بيوتهم وديارهم كما خربوا ديار المسلمين، وأن يلعنهم الله وأن يأخذهم أخذ عزيز مقتدر. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة فصلت [41 - 44]

تفسير سورة فصلت [41 - 44] يكذب الكفار بالقرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وفيه الدعوة إلى تحقيق كلمة لا إله إلا الله، وهي دعوة جميع الأنبياء، وقد أنزل الله هذا القرآن بلسان عربي مبين، وجعل فيه هدى وشفاء للمؤمنين، ومن أعرض عنه كان من الضالين التائهين.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة فصلت: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ * مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت:41 - 44]. يخبر الله سبحانه تبارك وتعالى عن الذين يكفرون بهذا القرآن العظيم ويلحدون في آيات الله سبحانه تبارك وتعالى فيكذبون ويشاقون ويميلون عن الحق الذي جاء من عند رب العالمين سبحانه، ويزيغون عنه، فهو عليم بهم، ولا يخفون على الله سبحانه تبارك وتعالى، وقد أعد لهم العذاب الأليم يوم القيامة، فقال: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت:40]. قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ} [فصلت:41]. الذكر هو القرآن العظيم، فإن فيه ذكركم وشرفكم، وفيه ذكر الله سبحانه تبارك وتعالى، وفيه ذكر ما يريده الله عز وجل منكم من خير، وفيه ذكر الجنة وذكر النار، فهو الذكر الحكيم من عند الله سبحانه تبارك وتعالى. وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} [فصلت:41] أي: كتاب أعزه الله سبحانه، وجعل له القهر على غيره، وجعله كتاباً مهيمناً على غيره من الكتب، وشاهداً عليها، وهو الكتاب الحق الذي يعمل به، ونسخ غيره من الكتب ولا ينسخ أبداً، ويعمل به حتى تأتي الساعة. وهو غالب لا يغلب، من جادل به نجا، ومن علم به أفلح، ومن تقرب به إلى الله سبحانه تبارك وتعالى نجح.

تفسير قوله تعالى: (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد)

تفسير قوله تعالى: (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) قال الله تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت:42] أي: لا يأتيه ما يبطله مما تقدم قبله أو بعده، فلا كتب قبله تنسخه أو تدل على بطلانه، وإنما الكتب السابقة تدل عليه، فقد بشرت بالنبي صلوات الله وسلامه عليه وبما يأتي به من عند الله سبحانه، ولا ينزل كتاباً بعده ينسخه، بل إذا نزل المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام عند قرب قيام الساعة وهو من العلامات الكبرى لقيام الساعة فإنه يحكم بهذا القرآن العظيم، ويرفع الجزية ويقتل الخنزير ولا يقبل إلا هذا الدين العظيم الذي يعمل فيه بكتاب رب العالمين. فلا يستطيع أحد أن يزيد فيه ولا أن ينقص منه، فإن الذي تكفل بحفظه هو الله سبحانه القائل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]. فهو كتاب عظيم وغالب لغيره، ومن أراد أن يجادل فيه غلبه هذا القرآن وقهره، فهو يتحدى الخلق أن يأتوا بمثله، كما قال الله سبحانه تبارك وتعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88]. وكذلك تحداهم أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات فما استطاعوا، وتحداهم أن يأتوا بسورة واحدة فما استطاعوا أن يأتوا بسورة من مثله. فهذا القرآن العزيز الغالب المنيع الجانب الممتنع من أن يأتي إليه باطل، ومن أن يأتي أحد بمثله أو أن يعارضه بشيء، أنزله الله رب العالمين سبحانه، قال تعالى: {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42]. أي: نزل من عند الذي من أسمائه الحسنى وصفاته العلى أنه سبحانه الحكيم الحميد. فهو حكيم في أقواله وأفعاله وتقديراته وقضائه وقدره. وهو حميد مستحق للثناء، يحمد سبحانه لذاته ولصفاته ولعلوه سبحانه، ولأفعاله العظيمة الجميلة، فهو المحمود سبحانه تبارك وتعالى، الذي أنزل هذا القرآن الذي فيه الهدى والنور والشفاء، والذي فيه الشريعة التي يحكم بها العباد ليتقربوا إلى الله فيستحقوا أن يكونوا من أهل جنته، فهو الحكيم فيما نزل سبحانه وفيما شرع. أنزل هذا القرآن مفرقاً لحكمة من الله سبحانه، ولو نزل مرة واحدة ما قاموا به، ولا استطاعوا أن يعملوا به، ولكن نزل شيئاً فشيئاً حتى اكتمل، ليعملوا بجميع ما فيه، وليربيهم به، فهو الحكيم في إنزال هذا القرآن على نبيه صلى الله عليه وسلم، وحكيم في وقت تقدير إنزاله، وحكيم في اختياره على من ينزل لأي أمة تصلح له ويصلح لها، وهو محمود على ما أنزل وعلى ما شرع وحكم سبحانه تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك)

تفسير قوله تعالى: (ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك) قال الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [فصلت:43]. القول إما من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، أو من الخلق للنبي صلى الله عليه وسلم، فالذي قيل لك من الخالق والمخلوق هو الذي قيل للسابقين من قبلك. فمن الله قوله لك: هذا القرآن العظيم نزل من عنده، فادع الناس إلى ربهم سبحانه تبارك وتعالى، أن يعبدوه وحده لا شريك له، وادعهم إلى التوحيد، وليس هذا بالشيء الجديد المبتدع، وكذلك الأنبياء والرسل السابقون فقد جاءوا بلا إله إلا الله، فما يقال لك إلا ما قد قيل للسابقين، أن قولوا: لا إله إلا الله وأن {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]. أي: اعبدوا إلهاً واحداً هو الذي خلق ورزق وربى، والذي أنزل هذا القرآن، وهو الله سبحانه تبارك وتعالى. والرسل السابقون عليهم الصلاة والسلام دعوا الخلق إلى إله واحد، فأبى المشركون إلا أن يعبدوا غيره، قال تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:23]. فقالوا: الزموا آلهتكم وابتعدوا عن هؤلاء الأنبياء فلا تتبعوهم، وكذلك قيل للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد وقف له عمه أبو لهب والمجرم أبو جهل وغيرهما من الكفار والمجرمين، يعارضونه صلوات الله وسلامه عليه، ويمنعونه من تبليغ رسالة الله سبحانه تبارك وتعالى. فهي سنة الله في خلقه أن يقابل النبي الذي بلغ رسالة الله بالرفض والتكذيب والإعراض، قال الله تعالى: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [فصلت:43]. والله سبحانه تبارك وتعالى هو الرب القوي القادر على أن يغفر وأن يعذب العذاب الأليم، قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} [فصلت:43]. فالله يبسط يده في الليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، فالله ذو مغفرة، وهو الذي خلقك ورباك، فهو صاحب مغفرة، ونكرها على أنها مغفرة عظيمة جداً فهو يغفر الذنوب جميعاً سبحانه تبارك وتعالى، إذا تاب العبد إلى الله، وتاب الله عز وجل عليه. وأيضاً الله ذو عقاب أليم لمن أعرض عن الله وكذب وجحد وشاق ربه سبحانه وحاد عن دينه، فيستحق العذاب الأليم الموجع من الرب العظيم سبحانه تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته)

تفسير قوله تعالى: (ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته) قال الله لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ) [فصلت:44]. تساءل الكفار فيما بينهم فقالوا: لماذا نزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، ولم ينزل على أحد آخر من الأعاجم؟ ولماذا لم ينزل على أحد من الملوك والأكابر؟ ((وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31]. فكأنهم استكثروا على النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليه قرآن من عند رب العالمين، والله يصطفي من خلقه من يشاء، فيجعله رسولاً صلوات الله وسلامه عليه. فيقول الله عز وجل لهؤلاء الجهلة: لو فرضنا نزول هذا القرآن بلسان أعجمي، أو انعكس الأمر فنزل قرآناً عربياً على إنسان أعجمي، فإن العقل سيرفض هذا الشيء، وستقولون: لسانه غير لساننا فلا نفهم ما يقول، فلا نريد إلا قرآناً عربياً نفهمه، فأنزل الله هذا القرآن: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195]. أي: أنزل الله تعالى هذا القرآن باللغة العربية على العرب الفصحاء ليعجزهم به، فإنهم يفهمونه ويعلمون ما فيه، ومع ذلك لم يستطيعوا أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور مثله مفتريات، أو بسورة واحدة. فلو جعلنا هذا القران قرآناً أعجمياً لكنتم تعجبتم وقلتم: كيف يكون قرآناً أعجمياً على إنسان عربي؟ وأيضاً: {لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} [فصلت:44]. أي: بينت وميزت هذه الآيات للعرب بلسان عربي، وجعل القرآن الذي نزل بلسان أعجمي للعجم، فجعلناه كله قرآناً عربياً ليس أعجمياً، ونزل عليكم حتى تفهموه، وتبلغوه إلى غيركم من الأمم. ومعنى أعجمي يعني: بلسان آخر غير اللسان العربي، واللسان العربي أفصح الألسنة، وكأن غيره معه كلا شيء، فالإنسان العربي لسانه مبين، وفصيح، واللسان الأعجمي أقل منه بكثير، والعرب لا يفهمون هذا اللسان.

القراءات في قوله تعالى: (أأعجمي وعربي)

القراءات في قوله تعالى: (أأعجمي وعربي) هذه الكلمة: {أَأَعْجَمِيٌّ} [فصلت:44] فيها خمس قراءات، لما كان النطق عند العرب بالهمزتين المتتاليتين ثقيلاً، سهلوا الهمزة الثانية، أو أدخلوا بينها وبين الهمزة الثانية ألفاً، أو أدخلوا بينهما ألفاً وسهلوا الثانية، وجاءت القراءات بحسب ما ينطق هؤلاء تسهيلاً عليهم، فيسر الله عز وجل القرآن للذكر للتلاوة بلهجتهم وقراءتهم، فهذه القراءة الأولى: قراءة قالون ومعه أبو جعفر وقراءة أبي عمرو وقراءة ابن ذكوان بخلفه: {آأعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت:44] فسهلوا الهمزة مع إدخال الألف. القراءة الثانية: قراءة حفص عن عاصم والبزي عن ابن كثير ويقرؤها أيضاً ورش وابن ذكوان بخلفه من وجه آخر: {ءاعجمي وَعَرَبِيٌّ} [فصلت:44] فالهمزة الثانية مسهلة فلا تقرأ هاءً (أهجمي)، ولا تقرأ همزة واضحة، وإنما بين بين. القراءة الثالثة: قراءة الأزرق عن ورش: {آعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت:44]، بالمد فيها. القراءة الرابعة: قراءة البزي ورويس بخلفهما: {أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت:44]، هذا وجه، ووجه آخر لهما: {أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت:44]، بهمزة واحدة. القراءة الخامسة: قراءة هشام وله ثلاثة أوجه فيها، فيقرؤها بالتسهيل {أَأَعْجَمِيٌّ} [فصلت:44]. وبالتسهيل والإدخال {آأَعْجَمِيٌّ} [فصلت:44]. ويقرؤها أيضاً: (أعجمي وعربي). وقراءة باقي القراء وهم: شعبة عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف: {أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت:44]. إذاً: فمجموع القراءات في الهمزة خمس قراءات: التسهيل فيها: {أَأَعْجَمِيٌّ} [فصلت:44]. والتسهيل والإدخال فيها: {أَأَعْجَمِيٌّ} [فصلت:44]. وبالمد الطويل، يقرؤها الأزرق عن ورش: {آَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت:44]. ويقرؤها شعبة وغيره {َأَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت:44]. ووجه آخر للبزي ورويس فيها بهمزة واحدة {َأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت:44]. والمعنى في جميع القراءات واحد وهو الاستفهام للتعجب، أي: كيف ينزل قرآن عربي على رجل أعجمي أو قرآن أعجمي على عربي؟ فإما أن يكون عربياً على عربي، أو عجمياً على أعجمي، فلما جاء على الذي لا تريدونه تتضجرون من ذلك وترفضون وتقولون: لولا نزل هذا القرآن على رجل آخر أو لو جاء بلسان آخر، فقل مجيباً لهم: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فصلت:44]. فالقرآن شفاء من عند رب العالمين، ولقد وصف الله سبحانه تبارك وتعالى هذا القرآن بأنه ذكر ونور وهدى وشفاء لما في الصدور. وهذا القرآن العظيم جاءكم الله عز وجل به ليهديكم وينير لكم قلوبكم وطريقكم، ففيه النور من الله، وفيه الذكر، فتذكرون الله بتلاوته وبالعمل فيه، وفيه الشرف لكم، وفيه الشفاء للصدور من الشك، ومن ظلمات الكفر والضلال، أما الذين لا يؤمنون ففي آذانهم وقر وهو صمم وثقل فلا يسمعون ولا يفهمون، وهو عليهم عمى.

الفرق بين المؤمن والكافر عند سماع القرآن

الفرق بين المؤمن والكافر عند سماع القرآن الفرق بين المؤمن والكافر أن المؤمن حين يتلقى ويسمع القرآن يفتح قلبه فيحب القرآن فيشفيه الله عز وجل به، وينير له قلبه وطريقه، والكافر المعاند المشاقق لربه ولرسوله صلوات الله وسلامه عليه، فإن القرآن عليه عمى فلا يفهم منه شيئاً، وكأنه ثقيل على أذنه، فهو لا يسمع ولا يفهم ولا يعقل، فهم ينادون من مكان بعيد في الدنيا وفي الآخرة، أما في الدنيا ففيه صمم، فالأصم هو الذي يناديه إنسان قريب منه فلا يسمعه كأنه بعيد عنه جداً، قال تعالى: {أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت:44] والمعنى: كأنك تناديهم وأنت في بلد وهم في بلد أخرى، فلا يفهمون ولا يعقلون منك شيئاً، وهذا بسبب قسوة قلوبهم. فإذا جاءوا يوم القيامة عوملوا بمثل ذلك فينادون مفضوحين من مكان بعيد بشر أسمائهم وأقبحها، فإذا نودوا من مكان بعيد سمع جميع من في الموقف أسماء هؤلاء وما يقبحون به يوم القيامة، فكانت فضيحة لهم في الآخرة. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة فصلت [45 - 46]

تفسير سورة فصلت [45 - 46] إن طريق الدعوة إلى الله ومقارعة الكفار درب شاق يؤذى صاحبه، وقد يضيق ذرعاً من هذا الأذى، لكنه حين يتذكر سلفه وصبرهم يطمئن ويشتد عزمه على المضي؛ ولذا ذكر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم أنه سوف يصيبه مثل ما أصاب الأنبياء قبله، وسيجازي الله كلاً بعمله.

تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه)

تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. ثم أما بعد: قال الله عز وجل في سورة فصلت: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ * مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:45 - 46]. في هذه الآيات يخبرنا الله سبحانه تبارك وتعالى أنه آتى موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام الكتاب، و (أل) في الكتاب هي العهدية، والمعنى: المعهود المعروف الذي هو التوراة. قوله: {فَاخْتُلِفَ فِيهِ} [فصلت:45] فيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، إذ كان المشركون يؤذونه ولا يقبلون منه ويختلفون عليه صلوات الله وسلامه عليه بأكاذيبهم، فمنهم من يقول: هو مجنون، ومنهم من يقول: هو ساحر، ومنهم من يقول: هذا كذاب، فيواسيه ربه سبحانه تبارك وتعالى: بأنك لست بدعاً من الرسل، وليس هؤلاء أول من قالوا لنبيهم هذا المقال، فقد آتينا من قبلك موسى الكتاب.

الحكمة من تكرار ذكر موسى عليه السلام في القرآن

الحكمة من تكرار ذكر موسى عليه السلام في القرآن كثيراً ما يذكر ربنا سبحانه تبارك وتعالى لنبينا صلى الله عليه وسلم موسى عليه السلام؛ ليتأسي به، فهو صاحب الشريعة قبل النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أتى بكتاب من عند الله فيه الشرع، وأمر قومه أن يتبعوه على ذلك، وأوذي موسى أذى كثيراً فصبر، فأمر الله النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتسي به وبالأنبياء من قبله، قال تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]، وإن كان الذي قبل النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة هو عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، لكن موسى صاحب كتاب تشريع، أما عيسى عليه الصلاة والسلام فقد كان صاحب كتاب حكم ومواعظ وبشارة، وإنما جاء ليحكم بشرع من قبله، وهو شرع موسى عليه الصلاة والسلام. وقد تشابه موسى ونبينا صلى الله عليه وسلم أن كلاً منهما صاحب كتاب شريعة، ومعنى شريعة: أحكام من الله عز وجل يشرعها لعباده منهاجاً للحياة ليعملوا بها، وكذا كانت التوراة، ولذلك لما يذكر الله التوراة يقول: {وَمِنْ قَبْلِه كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً} [هود:17] أي: من قبل القرآن، فلما كان كتاب موسى كتاب تشريع؛ كان هو كتاب التشريع الذي قبل القرآن، إذ القرآن كتاب تشريع من الله عز وجل ومنهج للحياة ختم الله عز وجل به الكتب، ونسخ به ما قبله، فجاء مهيمناً على الكتب السابقة، شاهداً على أنها جاءت من عند الله، وشاهداً بأن الأقوام حرفوا ما جاءهم من عند الله سبحانه، وناسخاً لما كان فيها من أحكام، وجاء بشرع من الله سبحانه ليعمل الناس به إلى أن يأتي أمر الله وتقوم القيامة. ففي الآية يقول لنبينا صلى الله عليه وسلم على وجه المواساة والتسلية وليدخل في قلبه الطمأنينة: اطمئن لست بشيءٍ غريب ولا بشيء جديدٍ، ولست بدعاً من الرسل، فقد كان من قبلك موسى، وقد أتاهم بالكتاب فأوذي، ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أوذي يقول: (رحم الله أخي موسى! لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر) صلوات الله وسلامه عليه وعلى نبينا، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أوذي أذاً شديداً لكن قوله يعد من باب التواضع.

بيان كيفية اختلاف بني إسرائيل على موسى

بيان كيفية اختلاف بني إسرائيل على موسى قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ} [فصلت:45] أي: اختلف الناس على موسى عليه الصلاة والسلام، وقد رأينا في مواطن سابقة من كتاب الله عز وجل كيف كان اختلاف اليهود على موسى عليه الصلاة والسلام، فقد كان يأمرهم بالشيء فيعارضون، ويأمرهم فيرفضون تنفيذ هذا الأمر حتى تأتيهم من عند الله آية من الآيات فيخافون ويرجعون إلى الطاعة، وسرعان ما ينقلبون إلى المعصية، وظلوا على هذا الحال حتى مات موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام وهو يتعامل معهم معاملة الراعي مع غنمه، كلما تاهت جمع الراعي شأنها، وكذلك كانت بنو إسرائيل مع موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.

معنى قوله تعالى: (ولولا كلمة سبقت من ربك)

معنى قوله تعالى: (ولولا كلمة سبقت من ربك) قال الله عز وجل: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} [فصلت:45]، وبمعناها قوله تعالى في سورة الشورى: {وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} [الشورى:21]، قوله: (لولا) عدة من الله أي: وعد من الله سبحانه أن يؤخر عقوبة العباد إلى يوم المعاد، وأن يجازيهم يوم القيامة على أعمالهم ولا يستأصلهم في الدنيا، ولولا أنه سبق لفعل الله بهم ما يستحقون من العذاب في الدنيا قبل الآخرة، وإنما سبقت هذه الكلمة من الله لحكمة منه سبحانه تبارك وتعالى، ولبيان أن هؤلاء المشركين أبا جهل وأمثاله يستحقون العقوبة في الدنيا، فالله عز وجل يذكر أنه وعد أن يؤخر العذاب ليوم القيامة وإلا لاستحقت قريش كلها أن يستأصلها الله سبحانه تبارك وتعالى إلا من آمن منهم. إن الله بحكمته سبحانه، وبعلمه سبحانه، وبقضائه وقدره قدر أن يكون هؤلاء كفاراً وأن يخرج من أصلابهم من يعبد الله كما دعا النبي صلى الله عليه وسلم ربه بذلك، فـ أبو جهل زعيم المشركين وفرعون هذه الأمة لعنة الله عليه كان ابنه عكرمة بن أبي جهل ممن آمن وأسلم ودخل في دين الله سبحانه تبارك وتعالى، وابنته فاطمة بنت أبي جهل أيضاً أسلمت وقد أراد قومها أن يزوجوها من علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (لا تجتمع فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم مع بنت أبي جهل)، فعلم أنه لا يصح أن يجمع علي بين فاطمة بنت النبي وفاطمة بنت أبي جهل، وكان له الخيار أن يتزوج إحداهما؛ لأن ما تعرضت له فاطمة بنت الرسول صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها من أذى طول حياتها مع النبي صلى الله عليه وسلم كان كافياً، فقد كانت تؤذى وترى الأذى في أبيها صلوات الله وسلامه من قومه فتخرج لتدفع عنه أذاهم، وقد جاءوا ذات مرةٍ بسلا جزور ووضعوه على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد عند الكعبة، وظل على ظهره حتى أزالته فاطمة رضي الله عنها، وليس ذلك البلاء فحسب فقد ماتت أمها في حياتها، ومتن أخواتها في حياتها، ومات إخوانها في حياتها، وبقيت هي، أفبعد كل هذا الابتلاء تبتلى بأن يتزوج علي عليها؟! فمثل ذلك لا ينبغي أن يكون، ولا يصح أن تجتمع فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم مع بنت أبي جهل عند علي رضي الله تبارك وتعالى عنه. والغرض بيان أن الرجل المجرم أبا جهل كان كافراً، وكان في صلبه بقضاء الله من كان بعد من المسلمين، ومثل أبي جهل الوليد بن المغيرة فإن ابناه خالد بن الوليد وهشام بن الوليد مؤمنان، ومثلهما: العاص بن وائل فقد كان ابنه عمرو بن العاص رضي الله عنه مؤمناً، فالله قدر أن يخرج من أصلاب هؤلاء الكفرة المجرمين من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً، فقد سبق الوعد من الله أنه لا يستأصل هؤلاء جميعهم وذرياتهم، وإنما يحلم ويصبر سبحانه تبارك وتعالى، وإن عاقب البعض ترك البعض ليكون من أصلابهم وذرياتهم من يعبد الله سبحانه.

معنى قوله تعالى: (وإنهم لفي شك منه مريب)

معنى قوله تعالى: (وإنهم لفي شك منه مريب) بعد أن بين الله للكافرين بأنه لا يهلكهم جميعهم لحكمة منه سبحانه، بين موقفهم من القيامة فقال: {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [فصلت:45] أي: إن هؤلاء الكفار لفي شك عظيم موقع للريبة في قلوبهم، فشكهم في يوم الدين وقيام القيامة والبعث شك عظيم، وكلما أخبرهم الله عز وجل أن هناك يوم قيامة وفيه بعث وحساب يتشككون في ذلك شكاً عظيماً. وقوله: {مِنْهُ مُرِيبٍ} [فصلت:45] أي: موقع للريبة وهي الشك العظيم في قلوبهم.

تفسير قوله تعالى: (من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها)

تفسير قوله تعالى: (من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها) قال سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] أي: إن العبد هو المستفيد من عمل نفسه، أما الله فلا يستفيد من عمل عبده شيئاً، إذ أن العبد مخلوق فقير بطبعه وبذاته وبأصل خلقته، والله الغني الحميد سبحانه تبارك وتعالى، فمهما عمل العبد من عبادة فإنه هو المنتفع بها في النهاية، ولن ينتفع الله عز وجل بشيءٍ منها؛ لأن الله غني لا يحتاج إليك ولا إلى عملك، وإنما خلقك لينفعك أنت، فأنت المنتفع أولاً وآخراً، وإذا عصى العبد ربه سبحانه لم يضر الله شيئاً بعصيانه؛ لأنه لا يبلغ أن يملك الضر لنفسه فكيف يضر ربه سبحانه؟! ولذلك جاء في صحيح مسلم من حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال رب العزة سبحانه: يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا). والله لا يظلم أحداً قال سبحانه: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]، وقال أيضاً: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]، وكررها في مواضع أخر من القرآن، فالله سبحانه لا يظلم أحداً شيئاً، أما الإنسان فتراه يظلم غيره بأخذ ما في يده أو غيرها من صور الظلم، وذلك بسبب الطمع في الدنيا، فمن أراد منصباً في الدنيا أو ذرية أو امرأة أو مالاً وغيرها من مطامع الدنيا تجاسر ليأخذ ما في يد الغير، ويقع من الإنسان هذا الظلم؛ لأنه محتاج إلى هذه الأشياء وغيرها من أسباب الدنيا، أما الله عز وجل فإنه غني عن ذلك فكيف يظلم وهو يملك كل شيء سبحانه تبارك وتعالى؟! وفي الحديث أخبر الله عز وجل أنه حرم الظلم على نفسه وجعله بين العباد محرماً، وأخبرهم أنهم لو اجتمعوا جميعهم وسألوا الله سبحانه تبارك وتعالى، فسأل كل مسألته، فأعطى الله الجميع، ما أنقص ذلك من ملك الله شيئاً! قال في الحديث: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط -الإبرة- إذا أدخل البحر). فالله سبحانه تبارك وتعالى غني، وغناه عظيم جداً، فلو أن كل خلق الله عز وجل سألوا الله كل ما يتمناه كل واحد منهم، فأعطى الله الجميع مسائلهم، لما نقص ذلك مما عند الله إلا كما تضع إبرة في البحر، وانظر ما تخرج هذه الإبرة من ماء البحر! ثم يقول سبحانه لعباده: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني)، ومن ذا الذي يبلغ نفع الله لينفع الله أو يبلغ ضر الله فيضر الله؟! إن الله هو القوي القادر الغالب، وهو الغني الحميد سبحانه تبارك وتعالى، يجازي العباد بأعمالهم إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. قال سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} [فصلت:46] أي: هو المنتفع بعمله، فهو من يدخل الجنة، فمنفعة عمله تعود لنفسه، وكذا إساءته قال تعالى: {وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت:46] أي: أنه يعذب في النار بسبب إساءته، فهو يستحق هذا العذاب ولم يظلمه ربه سبحانه تبارك وتعالى شيئاً؛ لأنه هو الذي أودى بنفسه إلى ذلك فاستحق العذاب بسبب ما اقترفت يداه، لا أن ربه ظلمه.

البلاغة في قوله: (وما ربك بظلام للعبيد)

البلاغة في قوله: (وما ربك بظلام للعبيد) قال سبحانه: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]، فالله لا يظلم أحداً. قد يقول قائل: هل التعبير {بِظَلَّامٍ} [فصلت:46] أفضل أم بظالم أفضل؟ للتفريق بينهما نقول: إن قولنا: فلان ليس ظالماً أي: لا يظلم الشيء القليل، أما قولنا: فلان ليس ظلاماً. أي: لا يظلم كثيراً؛ لأن ظلام صيغة مبالغة، فهل يمكن أن يظلم قليلاً؟! الصحيح أننا لا بد أن ننظر إلى الظلم من جهتين: كيفية الظلم، وكمية الظلم، فإننا سنجد أن هذا الباب من باب كم يظلم وليس من باب كيف يظلم، ونضرب لذلك مثلاً: لو أن رجلاً أمامه عشرة مليون جنيه ثم لم يمد يده إليها؛ لأنه لو مد يده إليها لكان ظالماً، ولو أن آخراً كان أمامه جنيه واحد ثم لم يمد يده عليه لأنه لو مد يده إليه لكان ظالماً، والفرق بين الاثنين: أن الثاني لم يمد يده على الجنيه؛ لأنه جنيه واحد، فربما تركه استحقاراً له، وربما لو وجد أمامه أكثر لمد يده، أما الأول فإنه إذا لم يمد يده إلى ملايين فإنه قطعاً لن يمد يده إلى جنيه واحد، وهذا معنى الكم الذي في قوله تعالى: {مَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]، سبحانه تبارك وتعالى، وله المثل الأعلى، فإذا كان الله لم يظلم كثيراً فهل سيظلم القليل سبحانه وتعالى؟! قال الله عن نفسه: {مَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] أي: لا يظلم عبيده سبحانه، فهو لا ينتفع من وراء ذلك لا بالقليل ولا بالكثير حاشا له سبحانه تبارك وتعالى، فكأن الحكمة في التعبير عن الكم: أن الذي يظلم كثيراً يريد أن ينتفع كثيراً، فإذا كان لا يريد النفع الكثير فهل يطلب النفع القليل حاشا لله سبحانه تبارك وتعالى! {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة فصلت [46 - 50]

تفسير سورة فصلت [46 - 50] يخبر الله عز وجل عن عدله المتمثل في مجازاة المحسن بأضعاف عمله، ومعاقبة المسيء بما يستحق من العذاب على قدر إساءته، فالله عالم بخفايا الأمور، وسيحاسب الإنسان يوم القيامة بما خفي وما ظهر من أعماله.

تفسير قوله تعالى: (من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها)

تفسير قوله تعالى: (من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة فصلت: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ * إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ * وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ * لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} [فصلت:46 - 49]. يخبرنا ربنا سبحانه وتعالى في هذه الآيات الكريمة أن كل إنسان يعمل شيئاً فهو مجزي به، {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} [فصلت:46] أي: لنفسه يكون الجزاء الحسن من عند الله سبحانه تبارك وتعالى، وقد عمل وهو المستفيد، {وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت:46] أي: فقد اجتلب الإثم والعذاب من الله سبحانه على نفسه، فهو المستحق لذلك بفعله، والله عز وجل لا يظلم أحداً، قال سبحانه: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]، فهو يجزي عن الحسنة بعشر أمثالها، ويضاعف لمن يشاء أضعافاً عظيمة كثيرة، وعلى السيئة بمثلها، وقد يعفو ويتجاوز سبحانه تبارك وتعالى، فالله لا يظلم أحداً شيئاً. {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]، وهنا مقام العبودية ومقام العبد بين يدي سيده أنه يستجيب لربه وينفذ ما يؤمر به، وأنه لا يعصيه، وأنه لا يبعد عن سيده، فإذا فعل ذلك استحق عقوبة الله وهو الذي ظلم نفسه، والإنسان هو الذي يظلم نفسه، فالله لا يظلم أحداً. {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]، فالغرض منها أن كل إنسان يؤمل رحمة الله فليعمل صالحاً، فإذا عمل صالحاً استحق رحمة الله واستحق الجزاء الحسن، وكل إنسان يخاف من عذاب الله فليحسن ولا يسيء، قال تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [فصلت:50] فإذا عصى العبد ربه سبحانه، فهو الذي جلب على نفسه الويل والعذاب فلا يظلم ربك أحداً.

تفسير قوله تعالى: (إليه يرد علم الساعة)

تفسير قوله تعالى: (إليه يرد علم الساعة) قال تعالى: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ} [فصلت:47]، قرئت بالجمع، وهذه قراءة نافع وأبو جعفر وابن عامر وحفص عن عاصم، وباقي القراء يقرءونها: {مِنْ ثَمَرة} على الإفراد. {إِلَيْهِ} [فصلت:47] أي: إلى الله عز وجل، {يُرَدُّ} [فصلت:47] أي: يرجع، {يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} [فصلت:47]، وكأنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم متى الساعة؟ قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا} [النازعات:42 - 44]، فمنتهى علم الساعة عائد إلى الله عز وجل، ولكن نعلمك أنت حتى تعلم الناس بعلامات الساعة؛ ولذلك لما جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الإسلام وعن الإيمان وعن الإحسان ثم أجابه؛ لأن الله علمه ذلك، فلما سأله عن الساعة قال: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) أي: مثلما أنت لا تعلم فأنا كذلك لا أعلم متى الساعة، ولكن أخبرك عن أماراتها، وعن علامات الساعة، فذكر من علامات الساعة: (أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاة الشاء يتطاولون في البنيان)، فللساعة علامات صغرى وعلامات كبرى، وما ذكر في الحديث السابق تعد من علامات الساعة الصغرى. ومن العلامات الكبرى ما بينه لنا صلى الله عليه وسلم: من طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة، ومجيء الدجال، ونزول المسيح عيسى ابن مريم، وخروج الدخان، وخسوف ثلاثة: خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب، وغير ذلك من العلامات التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم من العلامات والتي تحقق بعضها. فإذاًَ عند النبي صلى الله عليه وسلم علم بأمارات الساعة، وبالأحداث التي ستحدث قبل الساعة لكن متى يكون وقت الساعة فهذا علمه عند الله سبحانه تبارك وتعالى، وإن كان الله أعلمه أيضاً أنها تكون في يوم جمعة، ولكن أي جمعة من الجمعات؟ أي سنة من السنين؟ أي شهر من الأشهر؟ فالله وحده الذي يعلم بذلك، فإلى الله يرد علم الساعة. وهناك أشياء -ذكرها الله عز وجل في كتابه- من ادعى علمها فقد أعظم الفرية، كما قالت السيدة عائشة رضي الله تبارك وتعالى عنها وهي قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:34]، فهذه أشياء لا يعلمها إلا الله سبحانه تبارك وتعالى، فإذا ادعى إنسان أنه يعلم هذه الأشياء فقد أعظم الكذب على الله، وأعظم على الله الفرية. {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} [فصلت:47]، فإذا سئلت عن الساعة فرد علمها إلى الله، قل: لا أعلم، الله أعلم.

معنى قوله تعالى: (وما تخرج من ثمرات من أكمامها)

معنى قوله تعالى: (وما تخرج من ثمرات من أكمامها) قال تعالى: {وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا} [فصلت:47]، وما تخرج من ثمرات، فالثمرة تخرج من الكم وهو الطلع أو وعاء الطلع، والوعاء القشرة التي تنشق وتخرج من داخله الثمرة، وتسمى بالكم أو بالكمة وجمعها الأكمام، وكذلك تسمى بالكفرة، وهي الطلع الصغير الذي إذا انشق خرجت منه الثمرة، فالله عز وجل عنده علم خروج هذه الثمار، ومتى تنشق وتخرج، ومتى لا تخرج أو لا يخرج منها شيء ومتى تموت. {وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا} [فصلت:47]، فالله عز وجل يرينا علمه العظيم المبدع، إذا تأملت في هذا الشيء فإنه تحار فيه العقول، والإنسان يذل ويخضع لرب العالمين سبحانه الذي أخضع كل شيء، والذي خلق كل شيء، والذي علم كل شيء سبحانه تبارك وتعالى، {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} [الأعلى:3 - 5]، فالله هو العليم الخبير، وهذا من علم الله {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [البقرة:255]، فانظر إلى علم الله سبحانه تبارك وتعالى. {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} [فصلت:47]، أخفاها الله سبحانه تبارك وتعالى، وإن الساعة آتية لا محالة ولا شك في ذلك قال تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه:15] أخفاها الله سبحانه تبارك وتعالى، فلا يعلم متى تكون الساعة ولا أي مخلوق من مخلوقات الله سبحانه تبارك وتعالى، فبالغ ربنا في إخفائها، والإخفاء يأتي بمعنى عدم الظهور والاستتار، {أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه:15] يعني: من شدة إخفائها أكاد أخفيها فلا يعلم أحد عنها شيئاً، ولكني أعلمت ببعض علاماتها، ولو شئت ما أخبرتكم شيئاً عنها، فتأتي الساعة فجأة على العباد من غير أن يعرفوا لها أمارة، ولكن الله برحمته بين علاماتها، لنأخذ حذرنا، فإذا وجدتم الحفاة العراة رعاة الشاء يتطاولون في البنيان فإن الساعة آتية، وقال عز وجل: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1]، {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه:15]، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} [النازعات:42 - 43]. إذاً أخفاها الله فلا يعلم أحد متى تكون، وهي قريبة جداً على وشك أن تظهر للعباد وعلم ما تخرج من ثمرات من أكمامها، فانظر إلى شجرة واحدة، ونخلة واحدة وانظر إلى عدد الثمار التي فيها، وتأمل في كل بلحة من الذي أحصى عدد هذا الذي في النخلة الواحدة؟ فكم يكون عدد البلح في البستان؟ وكم نخلة في العالم كله؟ فالله هو الذي يحصي كل ثمرة تخرج، بل ويعلمها قبل أن تخرج من الكفرة، ومن طلعها، فالله عز وجل أعلم بخروجها أو عدمه، ويعلم ما يكون مذاقها، ويعلم أي شكل ولون ستصبح! وقس على ذلك كل خلق الله سبحانه تبارك وتعالى؛ فتتعجب وتحتار في علم الله العظيم القهار سبحانه تبارك وتعالى، فإليه يرد العلم كله، والإنسان لا يحوي على جزء بسيط من علم الله، ولو ظل يدرس شيئاً معيناً، فكلما ازداد علماً وازداد تخصصاً، يقول: أنا متخصص في الشيء الفلاني، ويحضر فيه الدكتوراة، ويحضر فيه ماجستير ويتخصص في جزئية واحدة، فمن المستحيل أن يحيط بهذه الجزئية علماً، ولكنه علم كثيراً عنها أما أن يحيط بها علماً فلا، فالله هو الذي أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً سبحانه تبارك وتعالى. قال الله: {وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا} [فصلت:47]، قد علمها الله سبحانه تبارك وتعالى {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} [فصلت:47]، فهو يعلم سبحانه متى تحمل هذه الأنثى، وقد قدر الله عز وجل ما يكون في ذلك، ومتى تضع هذه الأنثى، فالله عز وجل يقدر ذلك، ويقدر هل تحمل بذكر أو بأنثى، فإلى الله عز وجل علم ذلك، ويعلم متى تلد، وهل ينزل هذا الجنين حياً أو ميتاً، وهل ينزل فيعيش إلى أن يبلغ الشيخوخة أم يموت وهو شاب صغير، وهل يكون شقياً أم سعيداً، فإلى الله علم ذلك كله. يقول تعالى: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ} [فصلت:47] لا يكون حملها إلا بعلم الله سبحانه تبارك وتعالى، فربنا يعلم كل شيء، ويحصي كل شيء، فإذا جئت يوم القيامة قال لك: عملت كذا وعملت كذا وعملت كذا، وأحصى عليك كل شيء تعمله، فإذا كان الله يراقبك، والله يحصي علينا كل ما نقوله وما نفعله فلنحذر من يوم اللقاء.

معنى قوله تعالى: (ويوم يناديهم أين شركائي)

معنى قوله تعالى: (ويوم يناديهم أين شركائي) الكفار كانوا يتبجحون في الدنيا فيشركون بالله حتى عند بيته المعظم، وكانوا يذهبون فيطوفون وقد علَّم الله عز وجل من قبلهم أن يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. فينبهنا الله سبحانه تبارك وتعالى بأنه الإله وحده، فإذا بالمشركين يزيدون في شركهم، ويقولون: لبيك لا شريك لك لبيك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك، وهذا كلام فارغ يقولونه لعنة الله على المشركين! انظر إلى هذا الأحمق الجاهل المغفل حين يقول: لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك! فكيف يكون شريكاً لله الذي يملكه؟! فهو مخلوق يملكه الله، وإذا بهذا المشرك يقول: لك شريك، وهذا الشريك تملكه، وتملك الذي يملكه هذا الشريك! قال تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ} [الروم:28]، أي: هل تقبلون على أنفسكم هذا الشيء؟ وهل لكم شركاء مما ملكت أيمانكم؟ العبد الذي ذهبت إلى السوق واشتريته بمالك وأعطيت هذا العبد من مالك، هل يجرؤ العبد في يوم من الأيام أن يقول لسيده: شاركني؟! فلو قال هذا الشيء لقتله صاحبه، فإذا بهذا العبد يدعي لله عز وجل الشريك، حاشا لله سبحانه تبارك وتعالى! هؤلاء المتبجحون بالشرك إذا جاءوا يوم القيامة يقول لهم عز وجل: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي} [فصلت:47] أين هؤلاء الشركاء؟ {قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ} [فصلت:47]، ((آذَنَّاكٍَ)) أي: ما رأينا، ولا نعرف، وما لك شريك، فيوم القيامة يتبرءون، قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة:166]، {قَالُوا آذَنَّاكَ} [فصلت:47] أي: أعلمناك ونشهد أمامك يا رب العالمين أنه ما كان لك شريك أبداً، ما لك شريك أبداً، ويذكرهم الله في الدنيا أنهم سيقولون هذا يوم القيامة، فارجعوا عن هذا الذي تشركونه في الدنيا قبل أن تنكروا يوم القيامة فلا ينفعكم الإنكار. {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} [فصلت:47]، هذه قراءة الجمهور، ((وَيَوْمَ يُنَادِيهُمْ)) قراءة يعقوب. {أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا} [فصلت:47]، هذه قراءة الجمهور، وقراءة ابن كثير: ((أَيْنَ شُرَكَائِيَ قَالُوا آذَنَّاكَ))، أعلمناك، شهدنا أمامك يا رب العالمين، {مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ} [فصلت:47] أي: ما أحد أبداً يشهد بأن لك شريكاً، ولا نشهد بذلك، ولا نقول بهذا الشيء، وهذا يكون يوم القيامة حين لا ينفع الاعتراف.

تفسير قوله تعالى: (وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل)

تفسير قوله تعالى: (وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل) قال تعالى: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ} [فصلت:48]، ضل بمعنى: ضاع وتاه، فبحث المشركون عمن قالوا إنهم شركاء فلم يجدوهم ضاعوا، فعلموا أن الملك لله وحده لا شريك له، وأن الحق لله. {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ} [فصلت:48]، وقد كانوا يدعون أحجاراً فعبر بـ (ما). {وظنوا} [فصلت:48] أي: أيقنوا، {مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} [فصلت:48] أي: استيقنوا يوم القيامة أن لا ملجأ من الله إلا إليه، ولا مهرب يهربون إليه، والمحيص هو: المهرب والمكان الذي يهربون إليه {وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} [فصلت:48] أي: أيقنوا ذلك يوم القيامة أنهم لا مهرب لهم من الله سبحانه تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (لا يسأم الإنسان من دعاء الخير)

تفسير قوله تعالى: (لا يسأم الإنسان من دعاء الخير) ثم يخبرنا الله عن حال هذا الإنسان المشرك بالله والكافر فقال: {لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ} [فصلت:49]، والإنسان جنس، وهذا من العموم الذي يراد به الخصوص، {لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} [فصلت:49 - 50]، هذه جملة من الصفات التي لا يمكن أن تكون في المسلم، ولكن قد تكون فيه بعض الصفات، ولكن لا يمكن أن تكون كلها لذلك يقول العلماء: إن هذا العموم الذي في قول الله سبحانه: ((الإِنْسَانُ))، والمقصود به شيء مخصوص وهو الكافر من الناس، الذي اجتمعت فيه هذه الصفات، وإن كان المسلم قد يكون فيه بعضها، {لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ من دعاء الخير} [فصلت:49] قد يكون في المسلم، فلا يوجد أحد يسأم من دعاء الخير، والخير هنا بمعنى المال والصحة والعافية، ومتطلبات الإنسان في الدنيا، فكل إنسان يقول: يا رب! أعطني مالاً، أعطني صحة، أعطني عافية، أعطني عزاً، أعطني سلطاناً، فكل إنسان يطلب ذلك. {وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} [فصلت:49] وهذه لا تكون في المؤمن فهو لا ييئس؛ لأن ربنا قال: {لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87]، فيستحيل أن ييئس المسلم من روح الله. قال: {وإن مسه الشر} [فصلت:49] والشر بمعنى: الضر، والبأساء بمعنى الشيء الذي يبتلى به الإنسان، من فقر يأتي عليه، أو مرض يصيبه، فهذا شر في نظر الإنسان وإن كان بتقدير الله كله خير للإنسان الذي يعقل ويفهم ذلك، فكأن الإنسان الكافر إذا جاء له الخير يدعو ويطلب الخير، وإذا مسه شيء من البأساء، ومن الضر، ومن الفقر والمرض، {فيئوس قنوط} [فصلت:49]، وهنا صيغة مبالغة وتكرار، والمعنى أنه كثير اليأس، وإن كان يوجد فرق بسيط في المعنى، لكن المقصود شدة يأس الإنسان لما يجيء له شيء من البلاء. قال: {وإن مسه} [فصلت:49] أي: شيء يأتيه من الشر، {فيئوس} [فصلت:49] كأن يأسه في قلبه بأن يسيء الظن بالله سبحانه، وأن الله لن يكشف ما أصابه فييئس من رحمة الله سبحانه، ويسيء الظن في رحمة الله، {قنوط} [فصلت:49] القنوط هو ظهور أثر اليأس على الإنسان من ذلةٍ وانكسار. فالله عز وجل تعجب من هذا الإنسان، أصبناه بشيء من البلاء، وإذا به على هذه الحالة وييئس من روح الله ومن رحمته، ويقنط وينكسر!

تفسير قوله تعالى: (ولئن أذقناه رحمة من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي)

تفسير قوله تعالى: (ولئن أذقناه رحمة من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي) {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً} [فصلت:50] أي: شيء من رحمة الله عز وجل، بعد ما كان في مرض أعطيناه عافية، بعدما كان فقيراً أعطيناه من المال. قال تعالى: {مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ} [فصلت:50] يعني: كان فقيراً قبل وقت قريب، {لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} [فصلت:50]، أنا أستحق هذا الشيء، وتأخر عني كثيراً هذا الشيء، وكان واجب على ربنا أن يعطيني هذا الشيء، وقد أعطاني الآن لأني استحقه، ويزيد في تبجحه بقوله: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} [فصلت:50]، فبعدما كان يئوساً قنوطاً الآن تكبر وقال: لا تقوم الساعة! قال تعالى عنه: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [فصلت:50] أي: مثلما أعطاني في الدنيا فإنه سيعطيني ويدخلني الجنة! {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي} [فصلت:50]، هذه قراءة الجمهور، وقراءة نافع بخلف قالون: وقراءة أبي عمرو وأبي جعفر: ((وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّيَ إِنَّ لِي)) وقوله: ((فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ))، اصبروا وستنظروا ما الذي سيحصل، وسنريكم يوم القيامة ونخبركم، والنبوءة هي الإخبار بما غاب عن الإنسان، {فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [فصلت:50]، فينتظروا عذاب الله. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة فصلت [49 - 54]

تفسير سورة فصلت [49 - 54] جبل الله الإنسان على حب الخير والنعمة وطلبها، والسعي وراءها، وجبله كذلك على بغض ما يصيبه من بلاء ومصائب، ولذلك فهو يحذرهما ويتوقاهما ما استطاع إلى ذلك سبيلاً؛ ولذلك إذا ما أصابته نكبة أو بلية يتضرع إلى الله عز وجل مخلصاً له الدين أن ينجيه ويخرجه منها، فإذا ما كشف الله عز وجل عنه ما حل به إذا به يرتكس وينتكس، ويعود إلى ما كان عليه من ضلال، وكان الواجب عليه أن يشكر الله على نعمه ويزداد من طاعته.

تفسير قوله تعالى: (لا يسأم الإنسان من دعاء الخير)

تفسير قوله تعالى: (لا يسأم الإنسان من دعاء الخير) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة فصلت: {لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ * وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} [فصلت:49 - 54]. هذه الآيات الأخيرة من هذه السورة الكريمة سورة فصلت، يخبر الله عز وجل فيها عن طبيعة في كل إنسان، أنه لا يسأم، أي: لا يمل من دعاء ربه بالخير، فيدعوه طالباً للخير، وطالباً للمال، وطالباً للصحة والعافية، وطالباً للعز والسلطان، وطالباً ما يتمكن به في الأرض، وطالباً للأتباع والولد، وطالباً من الدنيا ما يريده ويشتهيه، فلا يمل أن يسأل ذلك ربه سبحانه، بل إنه يطلب منه المال والزوجة والمنصب والولد، وغير ذلك، فلا يمل من دعاء الخير، أي: من طلب المال ونعيم الدنيا، قال تعالى: {لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ} [فصلت:49] أي: أي شيء من الشر الذي يُرى أنه شر، وإن كان كل ما قضى الله عز وجل لعباده من قضاء فهو خير، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216]؛ فالمقصود بالشر هنا هو ما يراه الإنسان شراً في زعمه ونظره، كأن يبتليه الله بالمرض، فهو يرى أن هذا شر أصابه، والله عز وجل يبتلي العباد إما ليكفر عنهم سيئاتهم، أو ليرفع لهم درجاتهم سبحانه تبارك وتعالى، فيبتليهم ربنا سبحانه بما قد يتألمون منه، رحمة بهم في الآخرة، سبحانه تبارك وتعالى، والعبد لا يدري أنه رحمة به، وإنما إذا {مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} [فصلت:49] ويئوس أي: كثير اليأس، وعظيم اليأس من رحمة الله، فهو سيئ الظن بالله سبحانه تبارك وتعالى، وقد انقطع أمله في ربه سبحانه، فلا يطلب خيراً بعد ذلك، وقنوط أي: انكسر وظهر عليه أثر هذا اليأس، وأثر هذا الانكسار، والقنوط شدة اليأس، والتكرار هنا مع صيغة المبالغة بقوله: {َيَئُوسٌ قَنُوطٌ} أي: شديد اليأس، عظيم القنوط، وقد بدا أثر هذا اليأس على مظهر هذا الإنسان.

تفسير قوله تعالى: (ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي)

تفسير قوله تعالى: (ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي) قال تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} [فصلت:50]، أي: إن كشفنا عنه هذا المرض وهذا البلاء، وأعطيناه صحة وعافية، وأعطيناه مالاً وولداً، وأذقناه شيئاً من رحمتنا من بعد هذا الضر الذي أصابه، فالمفروض أنه لا ينسى، بل يتذكر أنه كان مريضاً، فيرحم المرضى ويساعدهم، ويتذكر أنه كان فقيراً، فينظر إلى الفقراء ويواسهم، لا أن يتكبر على الله سبحانه تبارك وتعالى، ويقول: هذا بفضلي وبجدي، وكنت مستحقاً له، وكان واجباً على الله أن يعطيني، وأنه قد منعني بالأمس ثم أعطاني اليوم ما أستحقه! فهذا من غباء من يقول ذلك ويتوهمه، وهذا قول من نسي الآخرة ونسي ربه، وقول من نسي كيف كان يجأر إلى الله عز وجل بالدعاء، فلما كشف عنه البلاء إذا به يقول في الرخاء: هذا لي، وأنا أستحقه. قال تعالى: {لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} أي: أنه يتبجح الآن وينكر يوم القيامة، ويقول: ولا أظن بأنني سأرجع إلى الله، يقول: وإن فرضت بأنني سوف أرجع إلى الله فإن لي عنده الحسنى، قال تعالى عن قوله هذا: ((وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى)) أي: أنه سيعطيني كذلك يوم القيامة! (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي) هذه قراءة الجمهور، وقراءة قالون وأبي عمرو وأبي جعفر: (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّيَ إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى). (فَلَنُنَبِّئَنَّ) هذا قسم، والمقسم به محذوف، والمعنى: والله لننبئنه، والذي دل على هذا القسم لام التوكيد في أول الفعل المضارع، والنون المثقلة في آخره. (فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا) أي: فلنجازيهم، ولنكبتنهم ولنوبخنهم على ما قالوا وما عملوا. {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ}، أي: شديد لا يطيقونه يوم القيامة.

تفسير قوله تعالى: (وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونآى بجانبه)

تفسير قوله تعالى: (وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونآى بجانبه) قال تعالى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ} [فصلت:51]، وهذه طبيعة وخصلة في الإنسان إلا من رحمه الله سبحانه وتعالى، فإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجنبه، أي: مال بجانبه، وصرف وجهه، قال: {أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ} [فصلت:51]، وكأنه للتأكيد على ذلك؛ لأن أعرض أي: مال بجانبه، ونأى أي: مال فأكثر من الإمالة، ونأى الإنسان أي: ابتعد ومال عن ربه سبحانه وتعالى، وأعرض أي: أعطاه ظهره، فالمعنى: أنه مال بجانبه عن طاعة الله سبحانه وتعالى. وهذه الآية فيها قراءتان: {َنَأى بِجَانِبِهِ}، وهذه قراءة الجمهور، بمعنى: مال بجانبه، و (نَاء بِجَانِبِه) بمعنى: بعد، وهذه قراءة ابن ذكوان وأبي جعفر، فعلى قراءة: {نأى بِجَانِبِه} [فصلت:51]، فيها التقليل والإمالات لأصحاب التقليل والإمالات، فيقرؤها الأزرق عن ورش بالفتح والتقليل، ويقرؤها خلف عن حمزة والكسائي بإمالة النون وبإمالة الهمزة أيضاً، ويقرؤها خلاد عن حمزة {وَنَأى بِجَانِبِهِ} [فصلت:51] والمعنى على ذلك: إن الإنسان يميل بجانبه، أو يبعد بجانبه، والمعنى: تأكيد إعراض الإنسان عن ربه عندما يرى نفسه في رخاء، فتأمل حال الكثيرين من الناس في وقت الرخاء تجدهم معرضين عن الله، وإن زعموا أنهم قريبون من الله ففي وقت البلاء تجده مقبلاً على الله يدعوه، مصلياً متقرباً إلى الله بأنواع الطاعات، وأما وقت الرخاء فإنه ينسى نفسه وينسى ربه، وإن زعم أنه قريب منه، فيترك الصلاة بالكلية، ويبطر فيما آتاه الله، ويجالس أصدقاء السوء، ويذهب إلى الملاهي، ويفعل ما حرم الله سبحانه تبارك وتعالى؛ إعراضاً عن الله سبحانه، وينأى بجانبه عن ربه سبحانه. قال سبحانه: {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ} [فصلت:51] أي: عندما نؤدبه بشيء من البلاء فإنه يرجع، كما قال الله: {فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} [فصلت:51] أي: ينادي: يا رب يا رب، يا رب يا رب، ويرفع يديه إلى الله، ويطيل في الدعاء، وفي سؤال ربه سبحانه، أما في وقت الرخاء فإنه ينسى الله ويعرض عنه، فإذا أصابه البلاء دعا ربه سبحانه، وهذا قد يستجيب له ربه وقد لا يستجيب له. وإذا أردت أن يستجيب الله لك في وقت بلائك، فأكثر من الدعاء في وقت رخائك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يستجاب له في وقت البلاء فليكثر من الدعاء في الرخاء) فأكثر من دعاء الله عز وجل في وقت الرخاء، وعود نفسك على أن تستمتع بالدعاء، وعلى أن تستشعر الذل بين يدي الله عز وجل، وأنك محتاج إليه، فإن الدعاء نعمة، فارفع يديك إلى الله، وادعه سبحانه تبارك وتعالى وإذا كان أكثر دعائك بالآخرة فقد من الله عز وجل عليك من فضله وكرمه، فمن الناس من تشغلهم الدنيا، ومنهم: {مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:200] فكل همه سؤال الدنيا، وليس له نصيب في الآخرة. قال الله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [البقرة:201 - 202]. إذاً: على المؤمن أن يكثر من الدعاء في كل وقت، وأما الفاجر والشقي والكافر فإنه لا يذكر ربه إلا في وقت البلاء، فإنه يكون حينئذ ذا دعاء عريض وطويل، فهو يكثر منه في وقت البلاء.

تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به)

تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به) قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [فصلت:52] قوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) أي: أخبروني، أرأيتم: انظروا، يعني: انظروا إلى أنفسكم، وأخبروني عن حالكم في هذا الوقت. و ((قُلْ أَرَأَيْتُمْ))، يقرؤها نافع وأبو جعفر بالتسهيل، ويقرؤها ورش بالمد الطويل، فإذا وصل ورش فيها يقول: (قُلْ أَرَاَيْتُمْوآ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّه)، ويقرؤها الكسائي: (قُلْ أَرََيْتُمْ) بهمزة واحدة. قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ} [فصلت:52] أي: كيف يكون حالكم؟ يعني: فالإنسان لا بد أن يفكر في هذا الأمر، فيا أيها المشركون المعرضون عن الله سبحانه! أخبروني عن حالكم إذا كان هذا حقاً من عند الله وأنتم كافرون به، ماذا يكون ظنكم في الله سبحانه وتعالى؟ فلقد زعمتم أنه ليس من عند الله وقلتم: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24] وهذا فرض منكم، فافترضوا أنه حقيقة من عند الله، فماذا يكون حالكم إذا قابلتم ربكم سبحانه؟ {ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [فصلت:52] أي: من أشد ضلالاً من هذا الذي في شقاق بعيد، وشقاق: مأخوذ من الشق وهو الجانب، فجانب الدين في مكان وهم في شق آخر بعيدين عنه، فإذا كان هذا الشق يتسع ويبعد إلى ما لا نهاية، فإنه لن يرجع، ولا يتوقع لهذا الذي سار في شق بعيد أن يرجع إلى الحق في يوم من الأيام، فمن أضل من هذا الذي عرف طريق الله فأخذ طريقاً سواه، وسار فيه في بعد بعيد إلى أن هوى في النار والعياذ بالله، فمن أضل من هذا؟! و A لا أحد أضل من هذا الذي هو في شقاق بعيد، وفي بعد عن دين الله سبحانه وتعالى، وهو محارب ومعاد لله ولرسوله وللمؤمنين.

تفسير قوله تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم)

تفسير قوله تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم) قال تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا) أي: سنري هؤلاء الكفار الآيات العظيمة، فيرونها في كتاب الله، وفي كون الله، وفي أنفسهم، والآفاق: جمع أفق، والأفق: البلاد البعيدة النائية، فامشوا في الأرض وانظروا إلى آيات الله سبحانه، وكيف صنع بالأمم السابقة، وانظروا في آيات الله سبحانه، في الأرض، والسماء، والنجوم، والجبال، والبحار، والأفلاك، والأنهار: وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد سبحانه وتعالى، وسنريهم هذه الآيات في أنفسهم، كيف يأكلون ويشربون، وكيف ينظرون ويسمعون، وكيف يشمون ويحسون الأشياء، وكيف يفكرون بعقولهم، فيرون آياتنا في أنفسهم وخلقهم، قال: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} [الأعلى:2 - 5]. وقال: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية:17 - 20]. فقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ} أي: هؤلاء الكفار، والعجب أن أكثر من يظهر هذه الآيات ويطلع عليها هم الكفار، فتجد علماء الفلك منهم يطلعون على أشياء بعد أن تعبوا جداً حتى وصلوا إليها، وفي الأخير يجدونها مسطورة في كتاب الله سبحانه وتعالى!

وعد الله يتحقق في العصر الحديث

وعد الله يتحقق في العصر الحديث لعلكم سمعتم عن الذي كان يتكلم في انشقاق القمر، ولكنه كان مكذباً للقرآن، وكان كافراً معرضاً عن كتاب الله، وفي يوم من الأيام أهداه بعض المسلمين كتاب الله، فأخذ ينظر إليه، فكان أول شيء اطلع عليه في القرآن سورة القمر، إذ يقول تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]، فإذا به يغلق الكتاب ويتركه ويكذب بذلك، فأعرض عن الله سبحانه، وهو الذي ذكر ذلك، كما ينقل ذلك الدكتور زغلول النجار أكرمه الله وبارك الله فيه. وقد نقل أن هذا الرجل أسلم بعد ذلك، بعد أن أعرض عن كتاب الله سبحانه وتعالى لما سمع هذه الآيات: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]، وقال: إن القمر موجود كما هو، فمتى انشق؟ وأنكر ذلك، ثم بعد ذلك اطلع على برنامج تلفزيوني ورأى المذيع وهو يسأل رواد الفضاء ويقول لهم: أنتم أنفقتم ملايين الدولارات من أجل الصعود إلى القمر في أشياء لا تعود بأي فائدة على البشرية، وقد كان الأولى أن تطعموا بها المساكين والفقراء! فقال له رائد الفضاء: نحن أنفقنا ملايين ووصلنا إلى معلومة تساوي أكثر من الذي أنفقنا، لقد اكتشفنا أن القمر انشق في يوم من الأيام، فسأله المذيع: كيف عرفتم ذلك؟ فقال: لقد صورنا القمر فوجدنا فلقة في القمر تدل على أنه في يوم من الأيام في هذا المكان انشق القمر كله، والتحم مرة ثانية، فأعاد قول رائد الفضاء هذا لهذا الذي كفر صوابه، فإذا به يرجع إلى كتاب الله، ويقرؤه ويتأمل فيه بآية رآها الكفار {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا} [فصلت:53]. وكم من الآيات اطلع عليها هؤلاء الكفار وقالوها، فوجدوا مصداقها في كتاب الله سبحانه تبارك وتعالى، ومن ذلك آيات خلق الإنسان من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة، فأخبر سبحانه أن الإنسان يكون مضغة، ولما ناقش الشيخ الزنداني بعض علماء الأجنة من الأجانب فيها، وقال له: ماذا تسمي هذا الطور الذي سماه ربنا مضغة؟ ولم يخبره أن الله سماه مضغة، وقد كانوا يسمون هذه المراحل أطواراً، ويقولون: الطور رقم واحد، والطور رقم اثنين، فلما سأله: إذا وصفنا هذه المرحلة فبماذا نصفها؟ فإذا بهذا الكافر يقول له: أقرب وصف لها أنها اللبانة التي تمتضغ، فقال له: وفي القرآن سماها الله عز وجل مضغة! فتعجب الرجل وقال: وهل اطلع محمد على الجنين وهو في بطن أمه؟ نحن نصور هذه الأشياء بالمناظير، فأين رأيتموها أنتم؟ فهذا لا يكون إلا من عند الله سبحانه تبارك وتعالى، يُري هؤلاء الكفار آياته فيطلعون عليها. ويخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ماء الرجل وماء المرأة، وقد كان علماء الطب إلى نهاية العهد الحديث لا يعرفون ماء المرأة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول ذلك، وهم يكذبون بهذا الحديث إلى أن اكتشف الكفار أن المرأة لها ماء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا علا ماء الرجل أذكر بإذن الله، وإذا علا ماء المرأة آنث بإذن الله) والذي اكتشف بعد ذلك علماء الكفار وليس علماء المسلمين. وكذلك في خلق الإنسان قال علماء الكفار: يخلق العظم أولاً، وبعده بقليل يكون اللحم، ويوجد هذا في كتاب الله، {فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} [المؤمنون:14]. وكم من الآيات في كتاب الله عز وجل ولعل من أكثر الأشياء التي نعرفها ما قاله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} [الرحمن:19 - 20]، أي: برزخ بين النهر وبين البحر، فلا يتملح ماء النهر ولا يحلو ماء البحر، فبين المائين منطقة وسط، لها كائناتها ولها طبيعتها ولها طعمها، خلاف هذه وخلاف هذه، ويخبر الله عز وجل بذلك، ولم ير النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وليس عنده نهر يصب في البحر من أجل أن يراه النبي صلى الله عليه وسلم، ويعرف هذا الشيء، وإنما يري الله عز وجل الآيات لخلقه حتى يتبين لهم ويتأكدوا أن هذا كتاب الله عز وجل وأنه الحق من عند الله كما قال تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت:53] وكفى بالله شهيداً، فهو يشهد على العباد بما في قلوبهم مما لا ينطقون بألسنتهم به، والله يشهد على ذلك فهم يعرفون أنه الحق ويكتمون أنه الحق، ويعرفون ذلك ولا يتكلمون به وقد عرف الكفار ذلك، وذهبوا ليسمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم ما يقرؤه من كتاب الله، ويرجع أبو جهل وأبو سفيان وغيرهم ويحلفون أن لا يرجعوا لسماع النبي صلى الله عليه وسلم مرة أخرى، ثم يرجعون مرة ثانية ليستمعوا النبي صلى الله عليه وسلم، وقد شهد الوليد بن المغيرة أن القرآن ليس بقول بشر، فلما ضغطوا عليه ليرجع عن كلامه قال: {إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر:24] فكتموا ما عرفوا من أنه الحق من عند الله، فقال الله: كفى أننا نشهد عليهم بذلك، بأن هذا الحق من عند الله، ونشهد عليهم بما في قلوبهم، وإن كذبوا وأعرضوا {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت:53]، بلى.

تفسير قوله تعالى: (ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم)

تفسير قوله تعالى: (ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم) قال الله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ} [فصلت:54] أي: في شك بعيد من دين الله سبحانه، ومن لقاء ربهم، فهم متشككون في يوم القيامة، ولا بد أن يكون. {أَلا إِنَّهُ} [فصلت:54] أي: الله عز وجل {بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} [فصلت:54] أي: أحاط بكل شيء علماً، وأحاط بكل شيء قدرة، وأحاط وعلم عدد كل شيء سبحانه تبارك وتعالى. ومحيط مأخوذة من الحيطة التي تحيط بالقوم، وتحيط بالبيت، فالله محيط، والإحاطة إحاطة علم وإحاطة قدرة، والمعنى: إنه يحيط بكم علماً وقدرة عليكم، فأين تذهبون من الله سبحانه تبارك وتعالى؟! ففيها من التهديد ما فيها، فقد علم الله كل شيء عنكم، وقد أحاط بكم قدرة وعلماً، وسترجعون إلى الله، فترون ما يكون من عذاب الله. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصلي اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الشورى

تفسير سورة الشورى - مقدمة سورة الشورى من الحواميم السبع، وهي سورة مكية، وفيها خصائص السور المكية، وقد امتازت عن غيرها ببدئها بقوله تعالى: (حم، عسق)، وقد تكلم العلماء عن هذه الحروف المقطعة في أوائل السور، واختلفوا في معانيها على أقوال كثيرة.

ما تضمنته سورة الشورى

ما تضمنته سورة الشورى الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الشورى: بسم الله الرحمن الرحيم. {حم * عسق * كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [الشورى:1 - 6]. هذه السورة الثانية والأربعون من كتاب الله سبحانه وتعالى، وهي سورة الشورى، وهي واحدة من سبع سور بدأت بالفواتح المعروفة (حم) بهذين الحرفين، وهذه السورة زادت على باقي السبع بثلاثة حروف أخر وهي: (عسق)، وسور الحواميم أو آل حم من السور العظيمة التي نزلت في مكة، ونزلت كلها على التوالي بعضها وراء بعض. وهذه السورة هي السورة التاسعة والستون في ترتيب نزول القرآن من السماء، لكنها في ترتيب المصحف هي السورة الثانية والأربعون. وسور الحواميم كلها مكية، وفيها خصائص السور المكية، ففيها تربية المؤمنين، وفيها الدعوة إلى التوحيد، وفيها إقرار أمر العقيدة، وبيان توحيد الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وبيان قدرة الله العظيمة الباهرة، وبيان الآيات الكونية التي جعلها الله عز وجل لأولي الأبصار يعتبرون بها، ويعلمون أن إلههم إله واحد لا شريك له، خلق السموات، وخلق الأرض، وخلق الجبال، وخلق البحار، قال الله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62]، وبيان نعم الله سبحانه وتعالى على العباد، وبيان المصائب التي يبتلي بها العباد، وأن العباد لا يبتليهم الله سبحانه وتعالى إلا بما كسبت أيديهم، قال تعالى: {وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] سبحانه وتعالى. وفي هذه السورة الإشارة إلى تحدي الطاعنين في القرآن العظيم، فقد قال الكفار يوصي بعضهم بعضاً: {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26]، فالله عز وجل تحداهم بأن يأتوا بكتاب مثله، وبأن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات، وبأن يأتوا بسورة من مثله، فما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، فقال الله سبحانه تبارك وتعالى يتحدى هؤلاء: {حم * عسق * كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ} [الشورى:1 - 3] أي: الغالب سبحانه، {الْحَكِيمُ} [الشورى:3] ذو الحكمة العظيمة البالغة. فالقرآن من جنس هذه الحروف التي تقرءونها وتعرفونها، فائتوا بسورة مثل هذه السورة، أو كأقصر سورة من كتاب الله عز وجل إن استطعتم إلى ذلك سبيلاً. والعرب قوم يقبلون التحدي، إذا تحداهم أحد سرعان ما ينبرون في قبول التحدي، وفي المخاصمة، ولكنهم هربوا ولم يقدروا أن يواجهوا، ولم يقدروا أن يأتوا بمثل هذا القرآن، ولا بمثل أقصر سورة منه. كذلك يستدل الله عز وجل في هذه السورة على المعاندين للنبي صلى الله عليه وسلم بأن هذا الوحي لم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم فقط، وإنما أوحى الله إليه كما أوحى إلى الذين من قبله، وليس بدعاً من الرسل، وليس شيئاً جديداً غريباً على هؤلاء، فقد عرفوا أن قبلك أنبياء من البشر قد جاءوا إلى أقوامهم، فقال الله سبحانه وتعالى: {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الشورى:3]. كذلك يذكر أنه خلق السموات والأرض، وأن هذه مخلوقات عرفت حق ربها سبحانه، فقال: {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الشورى:5]، أي: تكاد السموات ينفطرن من هول ما يقول هؤلاء الذين ادعوا لله الصاحبة والولد! {وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ} [إبراهيم:30]. {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الشورى:5]، فهذا الكون كله لله سبحانه تبارك وتعالى، ما علمته وما لا لم تعلمه، كل شيء يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم، فالله خلقك، وخلق لك هذه الآيات التي في الكون، وخلق ملائكة يستغفرون لك إذا آمنت بالله وعملت صالحاً، {وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الشورى:5]. والمشركون لا حجة لهم إلا أنهم يقولون: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22]، {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]، وقد حذرهم الله عز وجل يوم القيامة، يوم الجزاء، يوم يرجعون فيه إلى الله سبحانه وتعالى فيجازيهم بما عملوا، تحذيراً لهم من شركهم، ومن وقوعهم فيما يغضب الله سبحانه وتعالى. كذلك يسلي الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه هو سبحانه الذي يتولى جزاء هؤلاء المكذبين، إذاً لا تحزن على هؤلاء، ولا تحزن مما يصنعونه بك، وقد أمره أن يتلطف معهم صلوات الله وسلامه عليه، فقال: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23]، ومع ذلك لم يراعوا قرابة ولا رحماً مع النبي صلى الله عليه وسلم، ووقفوا له بالمرصاد، فالله عز وجل طمأنه أنهم راجعون إلى الله عز وجل فيجازيهم: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [الشورى:8]. كذلك يذكر الله سبحانه وتعالى نعمه على العباد، فمن آيات الله سبحانه وتعالى خلق السموات والأرض، وما بث فيهما من دابة، ومن آيات الله سبحانه وتعالى خلق هذا الإنسان مع ما أنعم عليه من نعم، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ * إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ * أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا} [الشورى:32 - 34] فيغرق أهلها بما كسبوا، ومع ذلك فهو يعفو عن كثير سبحانه وتعالى. وختم الله هذه السورة العظيمة بقوله سبحانه: {أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} [الشورى:53]، إذاً لا تحزن على هؤلاء، فكل شيء راجع إلينا؛ لنجازي هؤلاء، ونحاسبهم على ما صنعوا.

تفسير قوله تعالى: (حم.

تفسير قوله تعالى: (حم. عسق) هذه السورة العظيمة بدأها الله سبحانه وتعالى بالحروف المقطعة في أولها: {حم * عسق} [الشورى:1 - 2]، وهذا إشارة إلى تحدي هؤلاء، فهذه الحروف من جنس ما تنطقون، ومن جنس ما تقولون، فأنتم تقرءون حروف: ألف باء، وحروف (أبجد هوز)، وتصيغون منها أشعاركم التي تتفاخرون بها، وتعلقونها على الكعبة، مثل المعلقات السبع والعشر، كلما وجدوا شاعراً مجيداً في قبيلة أخذوا قصيدة من أجمل قصائده وعلقوها على جدار الكعبة، فكان على جدار الكعبة عشر قصائد من أجمل ما قالت العرب. فقال لهؤلاء: أنتم تفتخرون بلغتكم هذه، فهل هذا القرآن من هذا الشعر؟ إنه شيء آخر لم يعتادوا عليه، وما سمعوا بمثله قبل ذلك، لقد عرفوا كيف يخطبون ويتكلمون بالنثر، وكيف يصيغون الشعر، وكيف يسجعون فيما يقولون، ولكن أن يتكلموا بمثل القرآن فهذا شيء لم يعهدوه من قبل ذلك، فإذا بالله عز وجل يتحداهم به، ويجذب أسماعهم إلى هذا القرآن، فيستمعون وهم مستسيغون لهذا القرآن، مستمتعون به، ولكن في قلوبهم الحنق على النبي صلى الله عليه وسلم: لماذا أنت بالتحديد أنزل عليك القرآن؟ ولماذا لا نكون نحن؟ فيدفعهم ذلك إلى الغيرة منه صلى الله عليه وسلم، وإلى الحسد له صلوات الله وسلامه عليه، فلا يقبلون أن يعملوا بمثل هذا القرآن، ولا يقبلون أن يسمعوا طوعاً من النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما يستمعون من ورائه صلوات الله وسلامه عليه، يذهبون إليه وهو عند الكعبة يقرأ القرآن بالليل، فيذهبون متلصصين ليستمعوا، منهم: أبو سفيان، والوليد بن المغيرة، يذهبون ليستمعوا لبلاغة القرآن، حتى إن الوليد بن المغيرة -وهو من أشد الناس معاندة- لا يسعه إلا أن يقول: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول بشر! لم يستطع إلا أن يقول ذلك عن هذا القرآن العظيم. فما زال به أبو جهل -لعنة الله عليه وعلى أمثاله- يقول له: أغواك محمد؟ هل أعطاك مالاً؟ حتى رجع عن هذا الذي قاله، وقال لهم: ماذا أقول؟! دعوني أفكر، فذهب إلى بيته، واحتبس عنهم، وفكر وقدر، {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:19 - 25]، وهو نفسه الذي قال عن القرآن: إن له لحلاوة وكان يذهب ليستمع بالليل للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرؤه، ومع ذلك يقول: إنه قول البشر؛ خوفاً من طعن المشركين عليه، ومن تعييرهم له، وأنه يذهب إلى محمد من أجل أن يعطيه شيئاً، وحتى يجمع له مالاً، ومن أجل أن يطعمه، وقد كان من أغناهم، ومن أعزهم، فأصابته نعرة الجاهلية، وحمية الباطل، فإذا به يرفض أن يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، وقال عن كلام رب العالمين: هذا قول البشر، بعدما قال عنه: وما هو بقول البشر!

عدد آيات سورة الشورى

عدد آيات سورة الشورى هذه السورة آياتها ثلاث وخمسون آية على العد الكوفي. وتسعة وأربعون آية على العد البصري. وخمسون آية على العد الحجازي. وإحدى وخمسون آية على العد الحمصي. وعد الآي مأخوذ من وقوف النبي صلى الله عليه وسلم، فيعتبرون وقف النبي صلى الله عليه وسلم على رأس آية، فهذا سبب الخلاف، والآيات هي نفس الآيات وليست آيات أخرى، ولكن يختلفون أين وقف. فالكوفيون أكثرهم عداً، يقولون: (حم) آية، و (عسق) الآية الثانية، و (كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ الله العزيز الحكيم) الآية الثالثة. وغيرهم يقولون: (حم عسق) آية واحدة، وجميع الذين يقولون: إنها آية أو آيتان، يقولون: لا تقف على هذه الحروف، ولكن أوصلها؛ لأنها حروف وليست كلمات تعطي أمراً أو نهياً، وإنما هي مجموعة من الحروف، فتوصل مثلما يوصل قوله: {كهيعص} [مريم:1] وكذلك هنا: (حم عسق). إذاً: سبب الخلاف: أين وقف النبي صلى الله عليه وسلم؟ وأين نقف؟ فإذا وقفوا يعدون رأس آية، فبعضهم يعتبرون (حم عسق) آية واحدة، وقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ} [الشورى:32] آية كما سنذكرها، وكذلك قوله: {وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:34] يقف عليها البعض، ولا يقف عليها البعض. وهذا علم اسمه: علم عد الآي، فالسورة هي نفس السورة بنفس الكلمات، وليس فيها زيادة أو نقصان، ولكن أين يوقف؟ فقد يقف هؤلاء هنا، ويقف الآخرون هنا، فيعتبرون هذه آية، وهذه آية، وقد لا يقف، فيعتبرون الآيتين آية واحدة. وهذه السورة كما قلنا: سورة مكية، ما عدا أربع آيات فيها الراجح من كلام العلماء أنها مدنية، وهي من قول الله سبحانه: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23] إلى نهاية أربع آيات، فهذه قالوا: نزلت بالمدينة، وعندما نأتي إليها سنتكلم عنها.

كيفية قراءة (حم.

كيفية قراءة (حم. عسق) تقرأ: (حم عسق) موصولة، وتمد الحاء حركتين فقط، ولا تمد مداً طويلاً، بل تمد المد الطبيعي. والميم وما بعدها تمد مداً طويلاً، والعين يجوز أن تمدها مداً طويلاً، ويجوز أن تمدها أربع حركات فقط. وتقول: حا، ولا تقل: حاء بهمزة في آخرها، وتمد الميم ست حركات مداً طويلاً، والحركة بمقدار ما تقبض الإصبع، والعين يجوز فيها المد أربع حركات، ويجوز فيها المد ست حركات، والسين والقاف تمدان مداً طويلاً.

كلام العلماء في الحروف المقطعة

كلام العلماء في الحروف المقطعة الله سبحانه تبارك وتعالى يختار الحروف لحكمة منه سبحانه وتعالى، والعلماء يقولون: الذي نفهم من هذه الحروف أن الله يتحدى العباد بهذه الحروف، وكأنه يقول: القرآن من جنس ما تتكلمون وتنطقون به من حروفكم، ولكن لماذا اختار هذا الحرف هنا؟ واختار هذا الحرف هنا؟ هذا لحكمة من الله سبحانه وتعالى، ولا مانع أن يدلي العلماء بدلوهم في ذلك، ولكن لا نقول: هذه هي الحكمة الوحيدة التي من أجلها ذكر الله عز وجل ذلك، فإن هذا مرجعه إلى الله سبحانه وتعالى. ينقل الحافظ ابن كثير عن الزمخشري وغيره كلاماً في هذه الحروف، يقول: هي حروف من حروف المعجم استغني بذكر ما ذكر منها في أوائل السور عن ذكر بواقيها. وحروف اللغة العربية بعضهم يعدها: أبجد هوز حطي كلمن إلى آخره، ونحن نقرؤها: ألف، باء، تاء، ثاء، جيم، حاء، خاء هذا ترتيبنا، وهم يرتبونها بأبجد هوز. والحروف ثمانية وعشرون حرفاً، إذا لم نعد اللام والألف (لا) لأنهما حرفان: اللام والألف، فالحروف ثمانية وعشرون حرفاً، والسور التي هي مبدوءة بالحروف المقطعة ثمانية وعشرون سورة، وستجد هذه الحروف على النصف من عدد الحروف، وعندما نقول: ثمانية وعشرون سورة مبدوءة بحروف مقطعة، وإذا جمعنا هذه الحروف وحذفنا منها المكرر، فسنجد السورة بدأت بحرف واحد، مثل: حرف: نون، قاف، صاد، وقد تبدأ السورة بحرفين مثل: (حم)، وقد تبدأ بثلاثة مثل: (الم)، وقد تبدأ بأربعة مثل: (المص)، وقد تبدأ بخمسة مثل: (حم عسق) أو (كهيعص). إذاً: الحروف المقطعة قد تكون حرفاً واحداً، وقد تكون حرفين، أو ثلاثة أحرف، أو أربعة أحرف، أو خمسة، وكأنه يقول: كلماتكم تتكون من حرف، وحرفين، ومن ثلاثة أحرف، ومن أربعة أحرف، ومن خمسة أحرف. وعندما نجمع هذه الأحرف ثم نحذف منها الزيادة، نجد أنها أربعة عشر حرفاً من غير المكرر منها. إذاً: هذه السور ثمانية وعشرون سورة، والحروف التي في أوائلها من غير تكرار أربعة عشر حرفاً، وقد جمعوا الأربعة عشر حرفاً في جملة (نص حكيم قاطع له سر)، فهذه الحروف من أسرار القرآن، والغالب أن الحروف التي بدأها الله عز وجل في السور إذا عددت هذه الحروف في نفس السورة وقورنت بباقي الحروف كانت أكثرها أو من أكثرها في العدد في السورة التي تذكر فيها. يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: هذه الحروف نصف الحروف عدداً، أي: نصف حروف المعجم، والمذكور منها أشرف من المتروك، أي: أهل العربية يقسمون الحروف إلى أقسام منها: حروف مهموسة، وحروف مجهورة، وحروف رخوة، وحروف شديدة، وحروف مطبقة، وحروف مفتوحة، وحروف مستعلية، وحروف منخفضة، وحروف قلقلة، وأشرف هذه الحروف ما ذكر في أوائل هذه السور. هذا الكلام ذكره الحافظ ابن كثير وكذلك ذكره الباقلاني في كتاب إعجاز القرآن، فذكر فيه أن القرآن بديع في نظمه، عجيب في تأليفه، متناه في بلاغته، إلى الحد الذي يعلم عجز الخلق عنه، وذكر الذي يشتمل عليه من البديع في كتاب كامل يتجاوز الثلاثمائة صفحة، وهو كتاب عظيم جداً، فيه نوع من أنواع الإعجاز، وهو الإعجاز اللغوي، يتكلم عن إعجاز اللغة بما يفهمه فصحاء الناس وليس جهال الناس، وقد أجاد وأبدع في كتابه، ونقل عن غيره كـ الرماني والجاحظ في فصاحة هذا القرآن وبلاغته. ومن ضمن ما ذكره أنه أتى بأبيات من شعر فحول العرب، من أصحاب المعلقات وغيرهم، وقال: إن البعض منهم يجيد الشعر في نوع ولا يجيده في غيره، فيجيده في الغزل ولا يجيده مثلاً في الحرب وفي القتال، أما القرآن فيتكلم في كل شيء، وهو فصيح بأعلى الدرجات في كل شيء. وذكر كلاماً كثيراًَ في ذلك، وذكر فواتح السور نحو: (الم)، و (حم) ونحو ذلك، فذكر عدد حروف المعجم، وقال: إن عدد السور المفتتحة بهذه الفواتح في أولها ثمانية وعشرون سورة، قال: والذي تنقسم إليه هذه الحروف على ما قسمه أهل العربية، وبنوا عليه وجوهاً نحن ذاكروها، فمن ذلك أنهم قسموها إلى: مهموسة، ومجهورة، والحرف المهموس حرف ليس معتمداً في مكانه، فعندما يخرج من الفم يخرج معه النفس، ويجمعها قولهم: (فحثه شخص سكت) الفاء والحاء والثاء والهاء والشين والخاء والصاد والسين والكاف والتاء، تسمى هذه: حروف الهمس، وغيرها حروف مجهورة، أي: يخرج الحرف ولا يخرج معه نفس. هذه الحروف التي ذكر العلماء أنها تنقسم في اللغة إلى هذه وهذه، جاء القرآن فأخذ من هذه الحروف أعلاها، وبدأ بها في فواتح السور. قال: عرفنا أن نصف الحروف المهموسة مذكورة في جملة الحروف المذكورة في أوائل السور، والحروف المهموسة هي: (فحثه شخص سكت)، فأخذ منها الحاء والهاء والصاد والسين والكاف، فكان نصف الحروف المهموسة في فواتح السور، ونصف الحروف المجهورة في أوائل السور، والحروف المهموسة عشرة أحرف، فذكر الله عز وجل في كتابه النصف منها -أي: خمسة أحرف- والأحرف المذكورة في أوائل السور أربعة عشر حرفاً، فنصف المهموس هذه الخمسة، والباقي من الأربعة عشر: تسعة أحرف، إذاً مجموع الحروف المجهورة: ثمانية عشر حرفاً، ونصف الثمانية عشر في فواتح السور، أي: نصف المجهور ونصف المهموس. وهذا شيء عجيب لمن يتفكر فيه! فهذه الحروف نصف المهموسة ونصف المجهورة!! أخذ الله عز وجل نصف المجهورة ونصف المهموسة فجعلها في فواتح السور، وقلنا: إن عدد السور ثمانية وعشرون بعدد الحروف الأبجدية، وعدد الحروف المقطعة من دون التكرار أربعة عشر حرفاً، على نصف عدد السور، وعلى نصف عدد الحروف، وهذه الحروف المذكورة في أوائل السور تتصف بوصفين: نصف مهموس، ونصف مجهور، فنصف الحروف المهموسة مذكورة في أول بعض هذه السور، ونصف الحروف المجهورة مذكورة في أول بعض هذه السور! وهذا شيء خاص باللغة العربية، ليس للرياضيات ولا الحساب ولا الإحصاء شأن في ذلك. وليس هذا فقط في المهموس والمجهور، بل هناك حروف حلقية، وهي ستة: الهمزة، والهاء، والعين، والغين، والخاء، والحاء، وباقي الحروف من غير هذا المخرج، فنصف الحروف الحلقية في فواتح السور! كأنه يقول: إن عدد الحروف المعجمة ثمانية وعشرون حرفاً، سنذكر نصفها؛ لندل على الباقي، ولن نذكر لك كل الحروف، وأنت اعرف الباقي. فنذكر لك نصف المهموس والنصف الآخر من المجهور في فواتح السور. كذلك الحروف تنقسم إلى: شديدة، وغير شديدة، والحروف الشديدة هي: (أجد قط بكت): الألف، والجيم، والدال، والقاف، والطاء، والباء، والكاف، والتاء، ثمانية أحرف، فنصفها في بعض السور والنصف الآخر في باقي هذه السور! وكأن أنواع الحروف التي تنطق بها القرآن يذكر من كل نوع نصفه ويضعه في أول كل سورة من هذه السور، ويقول لك: سنحضر لك من كل الحروف أشرفها ونضعها، ونأتي بهذا القرآن من مثلها، وحاول أنت أن تأتي بمثل ذلك، ولن تستطيع إلى ذلك سبيلاً.

قول بعض اليهود في الحروف المقطعة

قول بعض اليهود في الحروف المقطعة اليهود سمعوا هذه الحروف وهم في المدينة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وحاء في أثر إسناده فيه ضعف: أن أبا ياسر بن أخطب في رجال من اليهود مروا برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ فاتحة سورة البقرة: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:1 - 2]، فذهب أبو ياسر بن أخطب إلى أخيه حيي بن أخطب -وهما من أكابر اليهود- فقال: إني سمعت محمداً -صلى الله عليه وسلم- يتلو فيما أنزل الله عليه: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:1 - 2]، فقال: أنت سمعته قال ذلك؟ قال: نعم، فمشى إليه حيي بن أخطب، وهل يريد متابعة النبي صلى الله عليه وسلم؟ هذا مستحيل! فليس هناك يهودي من نفسه يريد أن يتابع النبي صلى الله عليه وسلم إلا الندرة القليلة، فقد أسلم الكثيرون من النصارى، أما اليهود فلم يسلم منهم بعدد أصابع اليدين، فاليهود لا يسلمون إلا من رحم الله سبحانه وتعالى. وإذا بالرجل يتوهم شيئاً ويقول: هذا عمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن لهم نوعاً من الحساب يحسبونه، فيعطي كل حرف من حروف (أبجد هوز) عدداً من الأعداد، فيقول: الألف: بواحد، والباء: باثنين، والجيم: بثلاثة، والدال بأربعة، والهاء: بخمسة، والواو: بستة، والزاي: بسبعة، وكل حرف يعطيه عدداً إلى أن يصل إلى رقم عشرة، ويبدأ الذي بعده يعد بالعشرات، فيكون الأول بعشرة والذي بعده بعشرين، ثم بثلاثين، إلى أن يصل إلى المائة، ثم بعد ذلك يعد بالمئات. مائة ثم مائتين، ثم ثلاثمائة، وأربعمائة وهكذا. فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد! ألم يذكر أنك تتلو فيما أنزل الله عليك {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة:1 - 2]؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بلى، فقال: جاءك بها جبريل من عند ربك؟ فقال: نعم، قالوا: لقد بعث الله قبلك أنبياء ما نعلمه بين لنبي منهم ما مدة ملكه وأجل أمته غيرك، كأنه يريد أن يوهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقل الأنبياء مكثاً في قومه، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: الألف: واحدة، واللام: ثلاثون، والميم: أربعون، فتكون مدة قومك إحدى وسبعين سنة! من أين أتى هذا الكذاب بهذا الشيء؟! وهو يريد إلقاء الشك في قلوب من حول النبي صلى الله عليه وسلم، وكأنه يقول له: أنت مدة دعوتك واحد وسبعون عاماً، ولن تمكث أكثر من ذلك، ونحن لا نريد هذه الدعوة التي عمرها إحدى وسبعون سنة! ثم قال: ماذا نزل عليك غير هذا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (المص) فقال: هذه أثقل وأطول، الألف: بواحد، واللام: بثلاثين، والميم: بأربعين، والصاد: بسبعين، فيكون مائة وواحداً وثلاثين، إذاً: ستمكث هذه الأمة مائة وواحداً وثلاثين عاماً، يريد أن يقول له: نحن قد مضى علينا أكثر من ألف سنة، وأنت ستجلس هذا العمر، إذاً لن يتبعك أحد؛ ليلقي الشك في قلوب الناس. فقال: ماذا أنزل عليك أيضاً؟ فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم: (الر)، فقال هذا أطول، وحسبها مائتين وواحداً وثلاثين. قال: هل نزل غيره؟ قال: (المر) قال: هذه أكثر، وحسبها مائتين وواحداً وسبعين. فقال شخص منهم: لعل الله جمع له هذا كله! فجمعوها فقالوا: سبعمائة وأربعة، وقالوا: لقد خلط علينا! والآن نعرف يقيناً كذب هؤلاء، فنحن الآن في سنة ألف وأربعمائة وستة وعشرين، وهم قالوا له: أقصى شيء يكون عمر أمتك هو سبعمائة وأربع سنين، وهذا كذب، ولا يجوز للمسلم أن يقول به. والكثير من الكهنة والعرافين يحسب هذا الشيء، فيقول لك: ما هو اسمك؟ فيحسب لك حروفك، ويقول: الاسم هذا يوافق العدد كذا، فيكون لك كذا من النحس أو من الشؤم، أو من كذا، وهذا من الكذب، فلا يجوز لمسلم أن يتعامل بمثل هذه العلوم التي يتعامل بها هؤلاء السحرة.

اختلاف القراء في إمالة (حم)

اختلاف القراء في إمالة (حم) قوله سبحانه: {حم * عسق} [الشورى:1 - 2] يقرؤها ابن ذكوان وشعبة عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف بالإمالة: (حِم)، ويقرؤها أبو عمرو كـ الأزرق بالتقليل، وباقي القراء يقرءونها بالفتح. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الشورى [1 - 5]

تفسير سورة الشورى [1 - 5] سورة الشورى من السور المكية، وقد ابتدأها الله عز وجل بذكر خمسة أحرف من الحروف المقطعة، وبين بعدها أنه سبحانه هو الذي يوحي إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، وإذا كان الوحي هو من الله عز وجل فيجب الإيمان به وتصديقه، والامتثال لأوامره ونواهيه.

تفسير قوله تعالى: (حم.

تفسير قوله تعالى: (حم. عسق. كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: فسورة الشورى بدأنا فيها في الدرس السابق، وذكرنا أن الله سبحانه وتعالى بدأها بخمسة حروف افتتح بها هذه السورة، وهي قوله سبحانه: {حم * عسق} [الشورى:1 - 2]، ثم قال بعدها: {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الشورى:3]. فذكر العلماء أن الله سبحانه وتعالى حين يفتتح السورة بحروف من هذه الحروف لابد أن لها حكمة، وقد تكلم العلماء عن بعض هذه الحكم وإن كان في النهاية الحكمة الأساسية في سبب اختيار هذه الحروف لهذه السورة هي عند الله سبحانه وتعالى، وهي من أسرار القرآن، ولكن من الأشياء الظاهرة أن الله عز وجل يتحدى المشركين بهذه الكلمات وبهذه الحروف التي هي من جنس حروفهم التي ينطقون بها، فيتحداهم ويعجزهم هل يقدرون أن يأتوا بمثل هذا القرآن؟ وهم لا يقدرون على ذلك ولا يستطيعون إلى ذلك سبيلاً، بل بلغ التحدي أعظمه حين يقول سبحانه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88]. ليس الإنس فقط، وليس القرشيون فقط، بل كل الإنس وكل الجن، فلو كان أحد يقدر أن يعارض القرآن بمثله لحاول ذلك، حتى الذي أراد أن يأتي بمثل هذا القرآن تكلم بكلام ضحك الناس منه، وعلموا منه أنه كذاب، حتى إن أحدهم ليقول لـ مسيلمة: والله إنك لتعلم أني أعلم أنك كاذب، أي: أنت عارف أننا نعرف أنك كذاب. فكان من تحدي هؤلاء أن يذكر لهم: {ن} [القلم:1]، {ق} [ق:1]، {ص} [ص:1]، {الم}، {حم}، {حم * عسق} [الشورى:1 - 2]، وكأنه يقول: كلامكم من جنس هذه الحروف، فهل تقدرون أن تصيغوا منها قرآناً مثل هذا القرآن؟ أو سورة كأقصر سور هذا القرآن؟ فما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. وأيضاً حين يذكر: (الم) هذا فيه افتتاح السور، وقريش لم تكن معتادة على ذلك، فهذا مما يجذب انتباه الذي يستمع إلى ذلك، فحين يسمع الواحد منهم من يبتدئ كلاماً بأن يقول: ((الم)) أو ((الر)) وهي حروف لكنه لا يفهم ما المراد من ذلك، فإنه يحاول أن يفهم ذلك، فيصغي السمع لما يقوله النبي صلوات الله وسلامه عليه، وكان العرب أحياناً يتكلمون بحرف يعبر عن كلمة، كقول بعضهم: قلت لها قفي فقالت قاف لا تحسبينا قد نسينا الإيجاف فقوله: قاف، أي: وقفت، ولكن لابد أن يكون هناك شيء يدل على معناها قبل ذلك، وأما أن يبتدئ على طول فيقول: (الم)، (حم * عسق)، فهذا مما يشد الانتباه، وكأنهم يقولون: هذا خطاب غريب لا نفهمه، فيستمعون إلى ما يلي ذلك من كلام القرآن المعجز. قال سبحانه: {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الشورى:3]، وما من أحرف تأتي إلا وغالباً أنه يكون بعدها إشارة إلى هذا القرآن، كقوله سبحانه: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1 - 2]، وكقوله: {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [آل عمران:1 - 3]، وقوله: {حم * عسق * كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الشورى:1 - 3]، فإنه إشار بعد ذكر هذه الحروف إلى هذا القرآن، وإلى هذا الوحي العظيم الذي جاء من عند رب العالمين، فقال: (كَذَلِكَ يُوحِي)، و (ذلك) اسم إشارة للشيء البعيد، أو للقريب الذي يعظم، فالذي يشير إلى البعيد يقول: ذلك، والذي يشير إلى القريب تعظيماً له يقول: ذلك، والكاف هنا حرف تشبيه، والمعنى: كهذا الشيء العظيم الذي أعطيناك إياه، وأنزلناه إليك، وأوحيناه إليك، وكما أوحينا إليك هذا الكلام أوحينا إلى الذين من قلبك، فلست بدعاً من الرسل. وقوله: (كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ)، من الذي يوحي؟ (اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، فذكر ثلاثة أسماء من أسمائه الحسنى: (الله) هو لفظ الجلالة أي: المعبود وحده لا شريك له، الإله الحق لا شريك له، ولا إله سواه، (العزيز): الغالب القوي، الذي لا يغالب، ولا يمانع: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، فلا يقدر أحد أن يمتنع منه، فإذا قال: كن إنساناً، كان إنساناً، وإذا قال: كن حيواناً كان حيواناً، كن صغيراً كن كبيراً كن حياً كن ميتاً فإنه يكون كما أمر ولابد أن يكون، فلا شيء يمتنع عليه سبحانه وتعالى. والله عز وجل له مشيئتان: مشيئة كونية قدرية، ومشيئة شرعية، والمشيئة الكونية القدرية يستحيل أن يعارض أحد فيها، والمشيئة الشرعية كأن يخبر أنه عز وجل يحب كذا، وأنه يريد لعباده الإيمان، يحب منهم ذلك فيأمرهم به، وهذا الأمر غير الأمر الأول الذي ذكرناه. فالمشيئة الشرعية: ما يحبه الله عز وجل من عباده، فلم يكن أمراً من الله عز وجل كونياً، ولكن جعل الله عز وجل للعبد الاختيار، وإن كانت مشيئة الله غالبة، فنؤمن بقضائه وقدره، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولكن الله أعطاك في نفسك ما تستشعر به أنك مختار، وأنك تريد كذا أو لا تريده، وأنك تمسك أو تترك، وأنك تأخذ بهذا أو تترك هذا، وعلى هذا الاختيار يجازيك يوم القيامة، فإذا اخترت أن تصلي فإنه يثيبك بالجنة، وإذا رفضت ذلك واخترت متابعة الشيطان ومطاوعته فإنه يعاقبك. فالله عز وجل له مشيئتان: مشيئة كونية قدرية، ومشيئة أخرى شرعية، وهي التي يأمر العباد بها من أوامر تدخل تحت مشيئته سبحانه وتعالى فيما يحبه من عباده سبحانه أن يفعلوه، وفيما يكره من عباده أن يأتوه، فجعل لهم اختياراً فيقولون: سنفعل، ويقولون: لن نفعل. فالمشيئة الشريعة مثل أن يقول: صل، صم، حج، اعتكف، افعل الخيرات، نكره كذا، لا تزن، لا تسرق، لا تعص، لا تفعل كذا، فهنا الله عز وجل يأمرك ويترك لك خياراً، فتختار هذا فتثاب عليه، أو تترك وتختار الآخر فتعاقب عليه، قال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10]، أي: دللناه على الطريقين: طريق السعادة، وطريق الشقاوة، ولا يتعارض هذا مع علم الله السابق أن هذا سيختار الكفر ويترك الإيمان، فكتب عنده ذلك، وأن هذا سيختار طريق السعادة أو طريق الشقاوة، وأنه كتب ذلك عنده، قال سبحانه وتعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30]. قوله: (كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ)، أي: الغالب سبحانه، القاهر الذي لا يمانع ولا يغالب، (الْحَكِيمُ) ذو الحكمة العظيمة البالغة، فكل شيء يرجع إلى حكمته سبحانه. وقوله: (كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ)، خص الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره، وهذه حكمة من الله عز وجل؛ فهو أعلم بمن خلق، والله يصطفي من يشاء، ويجتبي من يشاء، ويهدي من يريد، فاختار محمداً صلى الله عليه وسلم وفضله على البشر، والاختيار إلى الله سبحانه وليس إلينا، كما قال تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]. إذاً: فالله عز وجل بعلمه وحكمته اختار محمداً صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه الوحي من السماء في هذا الوقت، وفي هذا المكان، ومن بين هؤلاء الناس، وهذه حكمة من الله سبحانه وتعالى، فالله تعالى أوحى إلى نبيه بهذا القرآن العظيم المحكم المتين، فالله سبحانه حكيم أنزل كتاباً محكماً، والله سبحانه قضى وقدر أمراً مبرماً محكماً، فالله حكيم سبحانه، والله الحاكم، والحكيم صيغة مبالغة منه، قال عز وجل: {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد:41]، وهو ذو الحكمة، وهو الحكيم والحاكم والحكم سبحانه وتعالى، الحكيم: الذي يحكم الأمور فيتقنها فلا يعتري ما أحكمه خلل ولا تلف ولا كساد. وقوله: (كَذَلِكَ يُوحِي)، هذه قراءة الجمهور، وقراءة ابن كثير: (كذلك يوحى إليك وإلى الذين من قبلك)، أي: كهذا الذي أوحينا إليك في هذه السورة نوحي إليك أيضاً باقي هذا القرآن، وننزل عليك الوحي من عندنا من السماء، فيوحى إليك من عند الله سبحانه وتعالى، وهذه الآية هي مثل قوله سبحانه وتعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ} [النور:36 - 37]، وهنا يقول: (كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) وتمت الجملة بقوله: (اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، وقوله في سورة النور: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ} [النور:36 - 37]، فقوله: (رِجَالٌ) هو الفاعل هنا، وبه تمت الآية وتمت الجملة.

تفسير قوله تعالى: (له ما في السماوات وما في الأرض وهو العلي العظيم)

تفسير قوله تعالى: (له ما في السماوات وما في الأرض وهو العلي العظيم) ثم قال تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [الشورى:4]، فالله سبحانه وتعالى يسوق لنا دلائل ألوهيته وربوبيته سبحانه وتعالى، فالله عزيز وحكيم سبحانه، والله يملك، وهذه صفات ربوبيته سبحانه وتعالى، فمقتضى ربوبيته أنه الذي يخلق، والذي يرزق، والذي يملك، والذي يعطي، والذي يمنع، والذي يعز، والذي يذل، والذي يفعل بعباده ما يشاء سبحانه، هذا مقتضى أنه رب، والإله مقتضاه: أن عباده يتوجهون إليه بأفعال شرعها لهم، فأنت توحده فتعبده فتقول: لا إله إلا الله. فمقتضى ألوهيته أن العباد يتوجهون إليه بالعبادة ولا يشركون به شيئاً. والربوبية مقتضاها: صدور أفعال منه سبحانه وتعالى لا يقدر عليها غيره، فالله الرب الذي يخلق، والذي يربي، والذي يعطي ويمنع، والذي يملك كل شيء، والذي يشرع لعباده سبحانه وتعالى، هذا مقتضى أنه رب. قال تعالى: (لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ)، خلق السماوات وخلق الأرض، ويملك السماوات ويملك الأرضين، وله كل ما فيهما من خلق. ثم قال: (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ)، وهذان اسمان له تبارك وتعالى أيضاً، فالله هو العلي، والله هو العظيم، وهنا في هاتين الآيتين ذكر سبحانه خمسة أسماء له تبارك وتعالى، وهي: الله، العزيز، الحكيم، العلي، العظيم. وقوله: (الْعَلِيُّ) ذكر العلي وذكر المتعالي سبحانه وتعالى، فهو له العلو فوق خلقه، وكل شيء تحته ودونه سبحانه وتعالى، وهو فوق كل شيء، خلق السماوات وجعلها أعلى ما يكون، وجعل سمك السماء مسيرة خمسمائة سنة، وجعل بينها وبين التي تليها مسيرة خمسمائة سنة، ثم السماء الأخرى جعل سمكها مسيرة خمسمائة سنة، وجعل بينها وبين التي تليها مثل ذلك، وهذا شيء عظيم جداً جداً. فالسماء الدنيا لا نحصي ما تحتها من كواكب ونجوم وشموس وأقمار وغيرها، فكيف بالسماء نفسها؟ وكيف بمخلوقات الله التي في هذه السماء؟ فالله فوق سماواته سبحانه وتعالى، قال لنا: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} [الملك:16 - 17]، والذي في السماء هو الله الذي ترفع إليه يديك وتقول: يا رب! يا رب! {الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان:1]، الذي ينزل الملائكة والروح من السماء ليكونوا مع الخلق في ليلة القدر، إنه الله عز وجل الذي يفعل ما يشاء وهو الكبير المتعال سبحانه وتعالى. فالله له العلو المطلق، فله علو الشأن، فشأنه عظيم، ولا يحيطون بشيء من علمه، ولا يحيطون به علماً سبحانه وتعالى، وله علو القهر، فقد غلب كل شيء، وقهر كل شيء، وعلا على كل شيء، وله علو الذات سبحانه وتعالى كما قال سبحانه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، فاستوى فوق عرشه، وعرشه فوق سماواته، كما جاء في الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما السماوات السبع مع الكرسي إلا كحلقة ملقاة في فلاة، والكرسي بجوار العرش كحلقة في فلاه)، والله على عرشه استوى، وهو مستغن عن العرش وما دونه، محيط بكل شيء وفوقه، يأمر سبحانه وينهى، {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255]. فهو العلي العظيم سبحانه وتعالى، صاحب العظمة سبحانه وتعالى، فلا تتكبر؛ فالكبر لا يليق بك، والكبر لا يليق إلا بالله وحده لا شريك له، الكبر لمن يملك صفات الجلال وصفات الكمال، وصفات العظمة، وهي لله وحده سبحانه وتعالى، فلا يليق بمخلوق ضعيف أن يقول: أنا أتكبر فليس لك أن تتكبر، وليس عندك ما يجعلك تتكبر، فهذه الصفة ليست لك، وإنما هي لله هي وحده سبحانه، فإذا نازع إنسان ربه في صفة الكبر أدخله النار، ولذلك لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر؛ لأنه ينازع الله عز وجل في صفة لا تكون إلا له سبحانه، كما قال: {وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجاثية:37]، وقال في الحديث القدسي: (الكبرياء ردائي، والعزة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما أدخلته النار)، فالذي ينازع ربه سبحانه وتعالى ويتعزز على ربه، ويرفض أمر ربه سبحانه، ويستكبر على دين الله، ويستكبر على خلق الله، فكأنه ينازع الله عز وجل صفة من صفاته، ولذا قال: (أدخلته النار)، أي: يدخل هذا المتكبر النار والعياذ بالله، فالله له العظمة وحده لا شريك له، وله الكبرياء وهو العلي العظيم.

تفسير قوله تعالى: (تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن والملائكة يسبحون بحمد ربهم)

تفسير قوله تعالى: (تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن والملائكة يسبحون بحمد ربهم) يقول الله سبحانه وتعالى: {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الشورى:5]. قوله: ((تَكَادُ السَّمَوَاتُ)) هذه قراءة الجمهور، وقراءة نافع والكسائي: (يكاد السموات) والتأنيث ليس تأنيثاً حقيقياً، فجاز فيه أن يأتي الفعل بتاء التأنيث وبياء التذكير فيها. وقوله: ((يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ)) هذه قراءة الجمهور، وقراءة البصريين: أبي عمرو ويعقوب وقراء شعبة عن عاصم: (ينفطرن من فوقهن)، أي: تكاد السماوات تتشقق، وتكاد تنفطر وتنهد، لماذا هذا كله؟ يذكر الله عز وجل سبب ذلك فيقول: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:88 - 95]. فذكر الله عز وجل أن السماوات تكاد تتفطر وتتشقق، وتسقط وتهوي من عظيم وشنيع ما قاله هؤلاء المشركون حيث قالوا: إن الله اتخذ ولداً: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30]، وقال المشركون: الملائكة بنات الله، وجعلوا أصنامهم معبودات مع الله سبحانه وتعالى، فالسماوات تكاد تتشقق من هيبة الله، ومن خوف الله, ومن عظيم وشنيع ما قاله هؤلاء المشركون، فإنهم أشركوا بالله سبحانه وتعالى، وتبجحوا وقالوا ذلك. وقوله: (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ)، الملائكة خلقهم الله عز وجل من نور، والإنسان خلقه الله عز وجل من تراب، والجان من مارج من نار، فكان أشرفهم في الخلقة هم الملائكة؛ لأن الله عز وجل خلقهم من نور، فكانوا أشرف المخلوقات، والإنسان خلقه الله عز وجل من تراب، ولذلك استكبر عليه إبليس وقال: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء:61]، أي: أأسجد لهذا المخلوق من الطين؟ فالإنسان خلقه الله عز وجل ثم كرمه سبحانه وتعالى، فالتكريم للإنسان ليس لأصل خلقته، قال عز وجل: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء:70]، فالإنسان كجنس فضله الله على كثير ممن خلق تفضيلاً. وبعض العلماء يقولون: أيهما أفضل: هذا الإنسان الذي كرمه الله أو الملائكة؟ و A أن الملائكة أفضل من الإنسان بأصل الخلق، ولكن الله عز وجل بتكريمه يجعل من يشاء يتجاوز الملائكة، كما جعل محمداً صلوات الله وسلامه عليه يرقى ويتجاوز سدرة المنتهى التي حين وصل إليها جبريل عليه السلام كان كالحلس البالي، والحلس: هو الكساء الذي يوضع على الدابة ليجلس عليها صاحبها، فجبريل هذا العظيم الذي خلقه الله عز وجل وجعل له ستمائة جناح يسد الأفق، وهو رسول رب العالمين إلى أنبيائه، السفير بين السماء والأرض، ومع ذلك مقامه عند الله عز وجل كان دون النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال سبحانه عن الملائكة: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} [الصافات:164]، فلما وصل إلى سدرة المنتهى لم يستطع أن يتجاوزها، وجازها النبي صلوات الله وسلامه عليه بإعانة الله عز وجل له، وبفضله عليه سبحانه وتعالى. فالغرض: أن الله خلق الملائكة وشرفهم بأن جعل أصل خلقتهم من نور، وشرفهم بأنهم يعبدون الله ليل نهار، وأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وملك واحد من الملائكة نزل على قرى قوم لوط فرفعها وقلبها على أهلها، وأتبعها الله عز وجل بحجارة من نار جهنم والعياذ بالله، ملك واحد فعل ذلك، فيا ترى كم تكون قدرة هؤلاء الملائكة؟! فالله سبحانه وتعالى أعلم بقدرتهم، ولكن جبريل كان يأتي للنبي صلى الله عليه وسلم ليل نهار بأخبار السماء، ينزل من السماء إلى الأرض في وقت يسير، ويصعد إلى السماء في مقدار لو قطعه إنسان بأسرع ما يملكه فإنه يحتاج إلى ألف سنة مما تعدون، ولكن الله سبحانه وتعالى يسر عليه ذلك، فكم ينفق الإنسان ليصنع آلة يصعد بها إلى القمر؟ وكم ينفق من مليارات على ذلك؟ وكم يكلفه من احتياج لآلات قوية جداًَ من أجل أن يفعل هذا الشيء؟ وجبريل لا يحتاج إلى ذلك، وإنما أمر الله (كن) فيكون، فيأتي من السماء إلى الأرض في الوقت الذي يقدره الله سبحانه وتعالى، ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بكرة وعشياً ووقت ما يشاء الله سبحانه وتعالى. ولذلك سمي الصديق صديقاً رضي الله تبارك وتعالى عنه لتصديقه خبر السماء، فالكفار حين أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم صبيحة الإسراء بأنه أسري به، تعجبوا من أمره عليه الصلاة والسلام وكانوا مندهشين، وكانوا ما بين فاغر فاه، ومصدق، ومكذب وضارب رأسه بيده؛ لأنهم لا يصدقون منه صلوات الله وسلامه عليه، فيذهبون إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه فيقولون: أما ترى إلى ما يقول محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ أما تسمع قوله؟ قال: وماذا يقول؟ قالوا: يقول: إنه ذهب إلى بيت المقدس في الليل وصعد إلى السماء! قال: لقد صدقت، وصدقه الصديق رضي الله عنه، وقال: إني أصدقه في خبر السماء ينزل عليه ليل نهار، أفلا أصدقه في هذا؟ فسمي ولقب بـ الصديق رضي الله تبارك وتعالى عنه.

تسبيح الملائكة بحمد الله واستغفارهم للمؤمنين

تسبيح الملائكة بحمد الله واستغفارهم للمؤمنين قال تعالى: (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ)، فالملائكة يسبحون بحمد ربهم، وينزهون الله سبحانه، ويقدسون الله سبحانه وتعالى، ويصلون لله سبحانه وتعالى، روى الترمذي وابن ماجة عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني أرى ما لا ترون)، وحق له صلوات الله وسلامه عليه أن يرى ما لا نرى، قال: (إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط) أي: لا تلام السماء أن تئط، وكلمة أط معناها: هبط، أو أنه يكاد أن يسقط من ثقل ما عليه، فمثلاً: تقول إذا كان السقف عليه أحمال: السقف يئط، أي: أنه بدأ يهبط، ويكاد أن يقع من ثقل ما يحمله، فقوله: (أطت السماء)، لحملها شيئاً ثقيلاً، وما هو الحمل الذي جعل السماء تئط؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله)، أي: ما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك واضع رأسه لله عز وجل، وساجد لله سبحانه وتعالى، وهناك ملائكة قيام لله عز وجل منذ خلقهم يعبدون الله، وهناك ملائكة ركع منذ خلقهم الله سبحانه، وملائكة ساجدون لله منذ خلقهم، فإذا جاءت القيامة وجاءت الساعة قاموا فقالوا: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك! قال الله سبحانه وتعالى: (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ)، أي: ينزهونه ويقدسونه ويصلون مطيعين لله سبحانه وتعالى حامدين ربهم، يسبحون فيحمدون ويحمدون فيسحبون، فهم ما بين تسبيح وتحميد، فوراء التسبيح تحميد وهكذا فسبح باسم ربك، وسبح بحمد ربك سبحانه وتعالى، وكن حامداً له سبحانه، فالملائكة دائماً يسبحون ويحمدون الله سبحانه، فهم بحمده يسبحون، وبتسبيحه يحمدون، فيحمدون الله على ما آتاهم سبحانه وتعالى من نعمة حبه وعبادته، ومن شرف مكانتهم. وقوله: (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ) وهذا من نعم الله عز وجل على عباده، ومن في الأرض هنا عموم يراد به الخصوص، فإن الله عز وجل يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]. إذاً: الملائكة تستغفر لمن يقبل الله عز وجل استغفارهم له، فيستغفرون للمؤمنين، للمسلمين، للموحدين، وليس للمشركين، فلا يستغفرون للمشركين؛ لأن المشرك لا يقبل منه عمل، فإذا تاب إلى الله تاب الله عز وجل عليه، وجعل الملائكة يستغفرون له إن أسلم. فالملائكة يستغفرون لعباد الله الموحدين المسلمين قائلين: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} [غافر:7]. واستغفار الملائكة للمؤمنين ذكره الله عز وجل في سورة غافر، قال عز وجل حاكياً عن الملائكة: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر:7 - 9]، هذا الدعاء العظيم الجميل تدعو به الملائكة لكل إنسان مؤمن، فكل إنسان مؤمن يستغفر ربه ويتوب إليه الملائكة تدعو له، وتطلب من ربها سبحانه أن يغفر له، وأن يتوب عليه.

معنى اسم الله الغفور والرحيم

معنى اسم الله الغفور والرحيم قال عز وجل: (أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) ذكر هنا اسمين له، وقبل ذلك ذكر عز وجل من أسمائه: الله العزيز الحكيم العلي العظيم، وذكر هنا: الغفور الرحيم سبحانه وتعالى. والغفور: العظيم المغفرة فهذه صيغة مبالغة، كما قال عز وجل عن نفسه: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ} [غافر:3]، وذكر الغفار فقال: {الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ} [غافر:42]، وذكر الله الغفور سبحانه وتعالى، فالله عز وجل الغافر للذنب، وهو الغفار الغفور سبحانه وتعالى. وغفر بمعنى: ستر وغطى، ومنه المغفر، وهو الدرقة التي يتقي بها الإنسان عدوه حتى لا يصيبه سهم أو سيف عدوه. فالله عز وجل هو الغفور العظيم الستر على عباده الذي يمحو عنهم أثر ذنبوهم ليمحو عنهم الذنوب، بل قد يبدل ذنوبهم وسيئاتهم حسنات إذا تابوا وأصلحوا، فهو الغفور سبحانه وتعالى الرحيم، عظيم الرحمة، كما قال عن نفسه: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43]. والرحمن والرحيم صيغة مبالغة من الرحمة، فالله هو الرحمن، والرحمن متضمن لصفة فيها عموم وخصوص، والرحيم متضمن لصفة فيها عموم وخصوص، فالرحمن متضمن لصفة الرحمة، وهي رحمة من الله عامة لكل خلقه، ففي الدنيا يتراحم الخلق: المسلمون يتراحمون، والكفار يتراحمون، والدواب تتراحم، حتى إن الدابة لترفع حافرها عن ولدها حتى لا تؤذيه، فهذه من رحمته المأخوذة من اسمه الرحمن سبحانه التي جعلها في قلوب من يشاء من خلقه، ومن رحمته العامة أنه سبحانه أنزل الكتب هداية للخلق، فمنهم من يهتدي ومنهم من يضل، فالله عز وجل قد أعذر إذ أنذر سبحانه وتعالى، فأنذر خلقه وأعذر إليهم، وأقام عليهم الحجة سبحانه وتعالى، فرحمة الله عز وجل عامة لجميع الخلق. ولا يتسمى بالرحمن إلا الله وحده لا شريك له، كما قال عز وجل: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65] أي: هل سمعت أحداً يتسمى بالرحمن قبل ذلك؟ فما أحد تسمى بذلك، إلا أن يكذب المشركون فيدعون أن باليمامة إنساناً اسمه الرحمن، فيكذبون، لكن أن أحداً يسمي نفسه رحماناً هذا لم يقع، فالرحمن عز وجل ليس له سمي يتسمى باسمه سبحانه وتعالى، والسمي: هو المقابل الذي يتسمى بهذا الاسم، يقال: اسمي فلان، وفلان سميي أي: اسمه مثل اسمي. فالخصوصية أن الله عز وجل وحده هو الذي يتسمى بذلك، كما أنه وحده الذي يتسمى: (الله) سبحانه وتعالى. والرحيم: يتضمن صفة الرحمة، وفيها عموم وخصوص، فالعموم فيها: أنها صفة الرحمة التي يجوز للمخلوق أن يتصف بها، وأن يوصف بها، فيقال: فلان رحيم، والله عز وجل كان بالمؤمنين رحيماً، والنبي صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين رءوف رحيم صلوات الله وسلامه عليه، وكذلك الناس يقولون: فلان رحيم، وهذا عموم فيها، فالله عز وجل هو الرحيم، وخلقه فيهم الرحماء. والخصوصية: أن الله بمقتضى أنه الرحيم يرحم المؤمنين فقط، فكأن الرحمة في الرحيم رحمة تختص بالمؤمنين، قال تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43]، فالله عز وجل من أسمائه الحسنى: الله سبحانه، والعزيز، والحكيم، والعلي، والعظيم، والغفور، والرحيم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة). نسأل الله عز وجل أن يعيننا على إحصائها، وأن يجعلنا من أهل جنته. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الشورى [6 - 8]

تفسير سورة الشورى [6 - 8] من اتخذ من دون الله ولياً فقد أمر الله نبيه أن يعرض عنه، وأخبره: أنك أيها النبي لست مراقباً لأعمالهم ومحصيها عليهم، بل الله حفيظ لأعمالهم وسيجازيهم عليها، إنما وظيفتك متعلقة بما أوحيناه إليك من قرآن عربي مبين، فأنذر به مكة ومن حولها، وحذر من يوم الجمع الذي لا شك في مجيئه، وسينقسم الناس في ذلك إلى فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير، وقد بين الله كمال قدرته وتصرفه في الناس، فلو شاء لجعلهم أمة واحدة إما على الإيمان أو أعلى الكفر، وذلك لا يعجزه، لكن اقتضت حكمته أن يدخل من يشاء في رحمته، أما الظالمون فليس لهم ولي ولا نصير يدفع عنهم ما استحقوه بكسب أيديهم.

تفسير قوله تعالى: (والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم)

تفسير قوله تعالى: (والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الشورى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [الشورى:6]. في هذه الآية يقول لنا ربنا سبحانه وتعالى: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ) أي: من دون الله سبحانه، (أَولِيَاءَ)، الولي: من يلي أمر الشيء، ومن يلي أمر الإنسان هو وليه، وقد يكون قريباً وقد يكون بعيداً. والولي يطلق في اللغة على القريب الذي يكون بين الإنسان وبينه نسب، كالعم وابن العم ونحو ذلك. ويطلق فيراد به ولينا ومولانا ربنا سبحانه وتعالى، فهو نعم المولى ونعم النصير. يقول تعالى: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ)، الذين اتخذوا من دون الله عز وجل أصناماً، اتخذوا من دون الله عز وجل من ظنوا أنهم يقومون بأمرهم عند ربهم، فيوصلون أدعيتهم إلى الله عز وجل فعبدوهم من دون الله، وادعوا أنهم يرفعون الأعمال إلى الله سبحانه وتعالى، فقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، فهؤلاء الذين عبدوا أصناماً من دون الله، وجعلوها أقرب إليهم من الله سبحانه، وجعلوها وسائط بينهم وبين الله سبحانه بغير دليل في ذلك أو سلطان، قال تعالى: (اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ)، فالله مراقب لهم، والله محصي عليهم أعمالهم وأقوالهم، والله شاهد عليهم سبحانه وتعالى، والله يحفظ عليهم أعمالهم، ويحكم عليهم يوم القيامة بهذا الذي صنعوه وفعلوه، بعلمه وقدرته. فـ (اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ) أي: شاهد ورقيب سبحانه. قال تعالى: (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:22]، فليس أمرهم موكولاً إليك فتصير وكيلاً عنهم في هذا الذي يفعلونه، إنما أمرهم إلى الله رب العباد سبحانه وتعالى، وليس إلى النبي صلى الله عليه وسلم: إن آمنوا فبفضل الله سبحانه، وإن كفروا فبعدل الله سبحانه والله عليهم قدير. فالأمر موكول إلى الله يحكم فيه بما يشاء، ولذلك قال للنبي صلى الله عليه وسلم: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:21 - 22]، فأمره أن يذكر هؤلاء، وأنه لا يملك هدايتهم كما قال سبحانه: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]. فهو ليس وكيلاً عليهم صلوات الله وسلامه عليه، وليس حفيظاً عليهم، وإنما هو مبلغ رسالات ربه سبحانه وتعالى. أما الهداية المضافة إليه فمعناها: أنه يدلهم على الخير وعلى طريق السعادة، ويحذرهم من طريق الشقاوة، والأمر راجع إلى الله فهو الوكيل سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا)

تفسير قوله تعالى: (وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً) قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7]. قوله: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً) أي: هذا القرآن العظيم الذي نزل بلسان عربي مبين من عند رب العالمين. والوحي من الله سبحانه وتعالى بأن أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم جبريل سفيراً بين السماء والأرض ينقل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أمر الله ما يشاء سبحانه من قرآن ومن سنة. وقد نزل بهذه اللغة التي هي أشرف اللغات، فهذا القرآن أعظم الرسالات، نزل بسفارة أشرف ملائكة الله عز وجل وهو جبريل، ونزل في أشرف وأفضل شهر وموسم في رمضان في ليلة القدر من عند ربنا سبحانه إلى بيت العزة في السماء، ونزل على النبي صلى الله عليه وسلم في أشرف بقعة في الأرض وهي مكة المكرمة. فكان القرآن أعظم كتاب نزل من السماء بأفضل لغة وهي اللغة العربية، على أشرف وأفضل الخلق النبي صلوات الله وسلامه عليه. وهذا القرآن {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195]، أي: مبين مفصح معبر، فهو بين واضح فصيح بليغ، وهنا يذكر الله سبحانه وتعالى أنه نزل من السماء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قرآناً، والقرآن بمعنى: الكلام المجموع المقروء الذي يقرأ ويتلى. فهذا القرآن كتاب واحد نزل من السماء إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ثم نزل منجماً على النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاث وعشرين سنة، وحياً من الله مع جبريل الملك عليه السلام. وفي أول السورة قال: {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ} [الشورى:3] أي: بمثل هذا الوحي ينزل جبريل عليه السلام من السماء على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الذين من قبله. لما أراد اليهود أن يختبروا النبي صلى الله عليه وسلم ليعلموا أنه على حق أم لا سألوه أسئلة فأجابها، فلما أجابها قالوا: إنك نبي والآن نتابعك أو نفارقك، من وليك من الملائكة؟ قال: جبريل وليي وولي من قبلي، وهو الذي نزل علي، ونزل على كل من كانوا قبلي. قالوا: لا نتبعك، ولو كان وليك من الملائكة ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والذي ينزل بالقطر لاتبعناك، ولكن جبريل ينزل بالعذاب. فهذا كلام اليهود لعنة الله عليهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وهم يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم بصفاته، كما قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146]، فلم يغب عنهم أنه حق صلوات الله وسلامه عليه، ولكنهم أرادوا المفارقة، وأرادوا عدم الاتباع، وغيرهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: نخاف أن نتبعك فتقتلنا يهود. فالعلة الصحيحة أنهم هم خائفون أن يقتلهم اليهود لو اتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم. وغيرهم يخافون على ما عندهم من كراس وأموال، فلا يريدون أن يفقدوها، وظنوا بالآخرة وطمعوا في الدنيا فرفضوا أن يدخلوا دين النبي صلوات الله وسلامه عليه. ومنهم من يقول: إن داود عليه السلام دعا ألا يزال من ذريته نبياً، فنحن ننتظر نبياً من ذرية داود، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أنت نبي ولكن نبي إلى الأميين ولست إلينا. فشهدوا له بالنبوة، وكونهم يشهدون له بالنبوة هذه شهادة له أنه معصوم صلوات الله وسلامه عليه من الكذب، إذ كيف يكون نبياً من عند رب العالمين ثم يكذب عليه الصلاة والسلام؟ فشهدوا له بالنبوة ثم رجعوا فرفضوا، فهو يقول: أنا رسول للخلق أجمعين، وهم يقولون: أنت نبي إلى العرب فقط.

مكة هي أم القرى

مكة هي أم القرى قال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى) وقد ذكرنا أن في كلمة (قرآن) قراءتين: قراءة ابن كثير: (قراناً عربياًً)، وقراءة باقي القراء: (قرآناً) بالهمزة. قال تعالى: (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى) أم القرى مكة، وكأن مكة أصل، وأم الشيء أصله، كما تقول: أم الدماغ، أي: أصل الدماغ، وأم الكتاب: أصل الكتاب. فأم الشيء أصله، وكذلك مكة كأنها أصل القرى، وأفضل القرى، وأحب البلاد إلى الله سبحانه وتعالى، ومركز الدنيا جميعها. وقد سماها الله عز وجل في القرآن مكة وسماها بكة؛ لأنها تبك أعناق الجبابرة، وتمك بمعنى: قليلة المياه. أما لماذا سميت أم القرى؟ فقد ذكر المفسرون أن الأرض دحيت من عندها، أو من تحتها، فكانت كالأصل وباقي البلاد حولها. وهذا الكلام الذي يقوله المفسرون في الماضي يؤيده العلماء في الحاضر، فيقولون: إن سرة الأرض وأوسطها هي مكة. فقبل أن تكتشف الأمريكتان، وبعد أن اكتشفت أمريكا وأستراليا، فمكة هي مركز الدنيا وأصل الأرض. وهنا تتعجب عندما أن تسمع كلام هؤلاء العلماء في أمر مكة، فهذا عالم من العلماء المصريين اسمه: الدكتور حسين كمال الدين؛ يثبت هذا الشيء من غير قصد، فبينما هو يعمل خريطة من الخرائط من أجل أن يوضح القبلة في كل بلد من بلدان المسلمين، وخاصة المغتربين الذين يخرجون من بلادهم ويذهبون إلى بلاد أوروبا وأمريكا وغيرها، ويريدون أن تحدد لهم القبلة، وفجأة يحط البرجل على مكة ثم حركه إلى الطرف الثاني، وإذا به يدور ومركز البرجل في مكة، ويحيط بالدول جميعها. ثم رجع بعد ذلك يرسم الخريطة ثانية من غير أن يحط فيها أستراليا، وقبل اكتشاف أستراليا وأمريكا رسم خريطة الماضي، ووضع البرجل في مكة وحركه فوجد مكة هي منطقة الوسط ومركز العالم كله، العالم القديم والعالم الحديث. فهي أم القرى هذه البلدة العظيمة التي أنزل الله عز وجل القرآن فيها على النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه؛ لينتشر النور من مركز الأرض إلى جميع أنحاء الدنيا. وكالة (ناسا) كانت قد نشرت صورة في وقت من الأوقات، وبعد مدة لم تظهر هذه الصورة مرة ثانية، وفي هذه الصورة يرى من الفضاء أنه أكثر مكان في الأرض يشع نوراً سواء بالليل أو بالنهار كانت مكة والمدينة. وقال عالم مسلم: إن أحد العلماء الأمريكان في علم الجغرافيا يحقق في وجود هذه البلدة ومطلعها الجغرافي من غير أن يدفعه شيء عقدي، إذ ليس مسلماً، ومن المعلوم أن كل كوكب خلقه الله عز وجل يخرج منه إشعاع إلى الكوكب الآخر ثم من الكواكب المحيطة إلى الأرض. فتوصل هذا العالم الأمريكي في أبحاثه إلى أن مركز تلاقي الإشعاعات الكونية التي تخرج من النجوم ومن الأفلاك المحيطة بنا في مكة. وهذا شيء عجيب جداً أن تكون مركز تلاقي النور من السماء، وينزل القرآن في هذا المكان ليشع نوراً إلى بلاد الدنيا؛ ليكون النبي صلى الله عليه وسلم للعالمين نذيراً، ويتعجب هذا الرجل وهو يذكر أن هذه البلدة عجيبة، فالذي يذهب إليها يتعلق قلبه بها، وينجذب إليها، فهي مركز جذب يجذب إليه الكواكب الآخر، ويجذب إليه قلوب المؤمنين. يقول الله سبحانه وتعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا) يبدأ في الإنذار بأم القرى، ثم تتسع الدائرة إلى أن يشمل الدنيا كلها فيدخلها دين الله تبارك وتعالى بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله عز وجل الإسلام وأهله، وذلاً يذل الله عز وجل به الكفر وأهله. ومن الأحاديث الصحيحة التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما رواه الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكة: (ما أطيبك من بلد وأحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك). وروى الترمذي وأحمد وغيرهما عن عبد الله بن عدي بن حمراء قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفاً على الحزورة فقال: والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله). فهي أحب البلاد إلى الله، وأحب البلاد إلى النبي صلوات الله وسلامه عليه، ولولا أنه أوذي فيها الأذى الشديد فأمره الله عز وجل بالهجرة إلى المدينة لما خرج صلوات الله وسلامه عليه وما تركها، وإنما هي الدعوة إلى الله، فحيث يأمره الله عز وجل بالتوجه ليدعو إليه سبحانه وتعالى يمتثل.

إنذار النبي صلى الله عليه وسلم للناس

إنذار النبي صلى الله عليه وسلم للناس يقول ربنا سبحانه: (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا)، هو هنا نذير، وأخبر في غير هذه الآية أنه بشير وأنه نذير، كما قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24]. إذاً: النذير من النذارة، وينذر: يخوف ويهدد بعذاب الله عز وجل من يكفر بالله ويشرك به سبحانه. قال تعالى: (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ)، أي: تنذر يوم القيامة، فتحذر الناس من هول المطلع في ذلك اليوم. ففي يوم القيامة يأمر الله عز وجل إسرافيل عليه السلام فينفخ في الصور ويهلك جميع من على الأرض، وجميع من يشاء الله سبحانه وتعالى. ثم يأمره الله عز وجل فينفخ في الصور مرة ثانية، فإذا بالناس يقومون للحساب والجزاء عند رب العالمين سبحانه وتعالى، يقول الله سبحانه: (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ)، أي: تهدد وتخوف من يكفر ويشرك بالله بهذا اليوم الموعود يوم القيامة الذي فيه الحساب الشديد من رب العبيد سبحانه وتعالى، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37]. يوم القيامة يوم تدنو الشمس من الرءوس، ويعرق كل إنسان بحسب ما كان يضيع في الدنيا ويفرط، ولا يبذل الجهد في طاعة الله سبحانه وتعالى، فالعرق الذي لم يبذله في الدنيا سوف يبذله يوم القيامة حين تدنو الشمس من الرءوس. من كان لاهياً غافلاً في الدنيا، تاركاً لدين الله وراء ظهره يلجمه العرق، أو يغطي رأسه عرق وشمس محرقة، وموقف عظيم بين يدي الله عز وجل؛ حتى إن الإنسان يقول: يا رب! اصرفني ولو إلى النار، يظن أن النار أهون من هذا الموقف الذي يقف فيه، {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4]. فهو ينذر ويخوف العباد من هذا اليوم، يقول: احذروا أنا نذير، أحذركم عذاباً قريباً سيأتيكم، وأحذركم من الموقف بين يدي الله سبحانه وتعالى. وقوله تعالى: (يَوْمَ الْجَمْعِ) أي: يوم يجمع الله الخلق، ويجمع الرسل، فهذا اليوم لا شك فيه. وفي قوله تعالى: (لا رَيْبَ فِيهِ)، قراءتان: فيقرؤها الجمهور: (لا رَيْبَ فِيهِ)، ويقرؤها حمزة بالتوسط في المد في قوله: (فيه)، والمقصود من المد هنا كأنه تأكيد للنفي، كما أنك تقول: لا إله إلا الله، فتمدها، ويمدها حتى من يقصر المد المنفصل لتأكيد هذا النفي. وهنا أيضاً كان المد لتأكيد النفي في معنى الشك في يوم القيامة، فلا شك أبداً، فهو يوم لا بد أن يأتي. فإذا جاء يوم القيامة وانتهى الحساب توجه البعض إلى الجنة، قال تعالى: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ} [الشورى:7] والبعض الآخر إلى النار كما قال تعالى: {وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7]. وكما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث أن الله عز وجل قال قبل ذلك: (هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وهؤلاء في النار ولا أبالي) فالله عز وجل خلق خلقه فجعل فريقاً في الجنة وفريقاً في السعير، ويدخلون السعير بأعمالهم التي يحصيها لهم ويحاسبهم عليها، فإذا أوبقتهم أعمالهم قال لهم: لوموا أنفسكم، أنتم الذين قصرتم في ذلك، كما قال في الحديث القدسي: (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) قال تعالى: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:14] فيقال للعبد يوم القيامة: اقرأ أنت عملت كذا، ولا يقال: إنا قدرنا عليك أن تدخل النار، فنحن نحاسبك على القدر. إنما يقال: أنت فعلت هذا الشيء، اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً وشهيداً، فالإنسان يوم القيامة يشهد على نفسه بما فعله في الدنيا.

تفسير قوله تعالى: (ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة)

تفسير قوله تعالى: (ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة) قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [الشورى:8] فكما جعل للملائكة وهم أكثر عدداً من الخلق السماء قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: (أطت السماء)، أي: صوتت من ثقل الملائكة الذين عليها، والسماء أعظم من الأرض بكثير، وإذا قورنت الأرض بالسماء كانت كقطرة في بحر وكحلقة في فلاة، والمخلوقات التي في الأرض لا يبلغون أن يكونوا كعدد ملائكة السماء ففي كل أربع أصابع يوجد ملك، فالسماء امتلأت بملائكة الله سبحانه الذين يطيعونه ولا يعصونه سبحانه كما قال صلى الله عليه وسلم: (أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وفيها ملك ساجد لله عز وجل) وكما قال الله سبحانه وتعالى: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]. وبنو آدم في هذه الكرة الصغيرة التي لا تكاد ترى في هذا الكون العظيم منهم من يعبد الله ومنهم من يشرك بالله. وربنا كان قادراً أن يجعلهم كلهم في الجنة؛ فالله على كل شيء قدير، ولكن أراد أن يكلف هؤلاء العباد وأن يختبرهم: إذا ترك لهم الخيار هل يختارون طريق الله سبحانه والجنة أم أنهم يختارون غير ذلك؟ فالله عز وجل خلق الإنسان ليبتليه، كما قال: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2] فجعلكم مكلفين، وجعل لكم عقولاً هي مناط هذا التكليف، يكلفكم ويختبركم ثم يجازيكم يوم القيامة، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة، ولكن الله سبحانه يدخل من يشاء في دين الإسلام ليستحق الرحمة ويستحق رضوان الله وجنته يوم القيامة. قال تعالى: (وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)، وأعظم الظلم هو الشرك بالله سبحانه، كما قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، فمن ظلم نفسه فكفر بالله وأشرك بالله سبحانه وقع في هذا العذاب، فالظالمون ليس لهم من دون الله ولي ولا نصير، والولي: هو القريب، أي: ليس لهم من يحن عليهم يوم القيامة من قريب، كابن عم أو ابن أخ، أو يرحمهم ويقف بجوارهم ليدافع عنهم، وليس لهم نصير يدافع عنهم أمام الله، فلا يوجد محامٍ يوم القيامة يحامي على الإنسان، ولا مناصر يمسك السيف ويدافع عنه. وإن كان الكفار بجهلهم وغبائهم زعموا ذلك، فوقفوا للنبي صلى الله عليه وسلم معاندين، فخوفهم وحذرهم من بطش الله سبحانه، فإذا بهم يصرون على ما هم فيه، وقالوا: {نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24]، فلما ابتلاهم الله في الدنيا إذا بهم يهرعون للنبي صلى الله عليه وسلم يجأرون بالدعاء ويقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: (ادع لنا ربك يرفع عنا ما نحن فيه)، ويناشدونه الله والرحم يوم أن دعا عليهم وهم في مكة بسنين كسني يوسف في شدة القحط؛ ليذيقهم عذاباً في الدنيا. فلما حدث بهم ذلك جاءتهم سنة فأكلوا الميتة، وأكلوا الجلود، وأكلوا الكلاب وكل ما وجدوه، فإذا بهؤلاء الكفار يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: نناشدك بالله وبالرحم. عرفوا الرحم في هذا الوقت وقد قال لهم: عرفتم الآن الرحم؟ لقد قال لهم من قبل: لا تقطعوا الرحم الذي بيني وبينكم، كما قال تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23] لكنهم رفضوا. فلما ابتلاهم الله أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يناشدونه بالله وبالرحم أن يدعو الله ليرفع عنهم ما هم فيه، فحن لهم صلوات الله وسلامه عليه وأشفق عليهم، فدعا ربه فرفع عنهم ذلك، قال تعالى: {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان:15]، أي: سيرجعون مرة ثانية إلى عدم الإيمان وقد رأوا الآيات والمعجزات وكذبوا بيوم القيامة، وأعرضوا عن النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا {نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24]. ثم جادلوا فقالوا: وعلى فرض حصول يوم القيامة فمثلما أعطانا في الدنيا سيعطينا يوم القيامة، ونكون نحن المقربين عنده وقد جعلكم في الدنيا فقراء وضعافاً، أما نحن فقد أغنانا وكذلك في يوم القيامة، وعلى افتراض أنه سيعذبنا، فسنتجمع وندافع عن نفسنا. وقد كان فيهم رجل اسمه أبو الأشدين كان شديداً، فبلغ من قوته أنهم كانوا يضعون جلداً على الأرض، ويضع رجله عليه ثم يشده عشرة منهم حتى يتمزق الجلد ولا يستطعيون سحبه من تحته. فقال لهم: يوم القيامة علي من التسعة عشر ملكاً الذين هم على النار عشرة، وأنتم عليكم من تبقى وهم تسعة. انظروا إلى الجهل والحماقة والغفلة! هذا هو تفكيرهم في يوم القيامة، {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:19]، حتى قتلهم الله فصاروا جيفاً في يوم بدر، وألقوا في القليب، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم على القليب فناداهم: (هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟). فيقول عمر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: ما تنادي من جثث قد جيفت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والله ما أنتم بأسمع لما أقول منهم). فعرفوا الحق ويوم القيامة سوف يجمعهم الله ليجازيهم على أعمالهم. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الشورى [8 - 12]

تفسير سورة الشورى [8 - 12] يخبر الله تعالى أنه قادر على أن يهدي الخلق كلهم أو يضلهم كلهم، لكنه تعالى هدى من يشاء إلى الحق وأضل من يشاء، وله الحكمة والحجة البالغة، وكذلك أخبر سبحانه منكراً على المشركين اتخاذهم آلهة من دون الله، مع أنه هو الولي الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده، فإنه القادر على كل شيء، فقد خلق الخلق كلهم وخلق السماوات والأرض وما بينهما وغير ذلك على غير مثال سابق، ففطر هذه المخلوقات وأبدعها وأتقنها سبحانه، فلماذا يعبد سواه إذن؟!

تفسير قوله تعالى: (ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة وهو على كل شيء قدير)

تفسير قوله تعالى: (ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة وهو على كل شيء قدير) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ * أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الشورى:8 - 9]. يخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أنه لو شاء لجعل الناس أمة واحدة، ولكن الله سبحانه وتعالى له حكمة عظيمة بالغة أن يخلق العباد فمنهم مؤمن ومنهم كافر، كما قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن:2] فهو خلقهم لحكمة منه سبحانه، فالله عنده ملائكة يعبدونه ليل نهار، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فأراد أن يخلق خلقاً يختبرهم ويبتليهم، قال الله عز وجل: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72]، فعرضت أمانة التكاليف على السماوات فأبت وخافت من الحساب يوم القيامة، وعرضت على الأرض فأبت، وعرضت على الجبال فرفضت، وعرضت على الإنسان فقبل وتحمل ذلك، قال الله عز وجل: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72]، كأن المعنى هنا: جنس الإنسان الذي أخذ والذي قبل وهو آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ففي ذرية آدم الظلم وفيهم الجهل، فوصف الجميع بهذه الصفة، فقال: (إِنَّهُ) أي: الإنسان: (كَانَ ظَلُومًا)، أي: فيه ظلم وفيه بغي، (جهولاً) أي: لا يدري مصلحة نفسه، فيجهل فيقع في الخطأ. قال الله تعالى هنا: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)، فالله تعالى يرحم من عباده الرحماء، يرحم من عباده من يعبده ولا يشرك به شيئاً، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] لكن من عبد غير الله فهذا هو الذي ظلم نفسه، وهذا هو الذي يستحق العذاب، وهذا الذي يعبد غير الله هل وجد في غير الله سبحانه صفات هو بسببها يستحق أن يعبد؟! هل هذا يصلح أن يتولى أمره هذا الصنم الذي يعبده، أو الجني الذي يتقرب إليه؟! هل يصلح أن يتولى أمره وأن يرزقه وأن يعطيه وأن يمنعه وأن يرفعه وأن يضعه؟! هل يصلح لذلك؟! قال سبحانه: ((أَمِ اتَّخَذُوا))، هذه (أم) الإضرابية المقدرة ببل والهمزة، والمعنى: اضرب عن هذا وانظر فيما يقول هؤلاء: هل اتخذوا من دون الله من يصلح لهذه الصفة أن يكون إلهاً، أم أنهم صنعوا من الأحجار آلهة فعبدوها وهم موقنون أنها لا تنفع ولا تضر؟! قال تعالى: (فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، أي: الله سبحانه وتعالى هو الولي وحده الذي يتولى أمر خلقه ويدبر الأمر، قال تعالى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد:2]، أي: الله يدبر أمر كونه، فهو القائم والقاهر فوق عباده، وهو الحي القيوم الذي يقوم بكل شيء، وكل شيء لا يقوم إلا به سبحانه وتعالى، فهو يتولى أمرك، ويصلح لك حياتك ومعيشتك، قال تعالى: ((فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ))، هذه صفة فعل من أفعاله سبحانه وتعالى، فهو الرب يفعل ما يشاء سبحانه وتعالى. فهل هذه الآلهة تحيي الموتى؟ الله وحده هو الذي يحيي الموتى لا شريك له، وهو على كل شيء قدير، وكل ما يكون من شيء فالله هو الذي يوجده ويكونه سبحانه وتعالى، وهو القادر على أن يبيده ويهلكه، فهو كما أنشأه من عدم قادر أن يرده إلى العدم مرة ثانية، فهو على كل شيء قدير سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله)

تفسير قوله تعالى: (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله) قال الله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى:10]، أي: فمهما اختلفتم فيه من شيء فردوا الأمر إلى الله، فهو الذي يحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون، ولو ترك الإنسان ونفسه وجنسه لظلم الناس بعضهم بعضاً، الإنسان من طبيعته فيه الظلم، فلا يصلح أن يحكم غيره بشريعته وبهواه هو، وبما يريده، فهو مهما ادعى الحق والعدالة والمساواة والحرية وغير ذلك من الكلام الباطل الذي تطلقه عصبة الأمم وتقول: نريد المساواة ونريد الإخاء ونريد ونريد فهذا كلام باطل، صاغه اليهود حتى يلعبوا بالأمم جميعها، يقولون: نحن الذين نقول وأنتم الذين تنفذون، ونحن الذين نحكم وأنتم الذين تكونون وراءنا، نحن لنا الدنيا كلها وليس لكم منها شيء، فصاغوا للناس ما يشتغل الناس به، يريدون الحرية، ويريدون مساواة، ويريدون ديمقراطية، ويريدون كذا ويريدون كذا، وهم بعيدون عن الحق والعدل.

المفاسد المترتبة على تحكيم غير شرع الله سبحانه

المفاسد المترتبة على تحكيم غير شرع الله سبحانه إن حكم الله عز وجل هو الشريعة والمنهاج الذي لا يظلم أحداً أبداً، يقولون: نريد أن يحكم الشعب نفسه بنفسه، لا نريد الدين، دعه وراء ظهرك، فالديمقراطية معناها: حكم الشعب نفسه بنفسه، بينما الدين يقول: الحكم إلى الخالق سبحانه وتعالى، هذا دين الله عز وجل: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40]، وهم يقولون: لا نريد الدين، ويقولون: لماذا الله سبحانه وتعالى هو الذي يشرع لنا هذا الدين؟ ويقولون: العبادة دعها لله والدنيا دعها للناس، ما لله لله وما لقيصر لقيصر، أي: لا يتدخل أمر الله في أمر البشر. ونقول لهم: يقول الله: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، أي: هو الذي خلقكم، فهو أعلم بنفوسكم وبطبائعكم، وهو الذي يشرع لكم حتى لا يظلم بعضكم بعضاً، يقولون: لا نريد هذا الشيء، نريد أن نكون نحن الذين نحكم أنفسنا بما نريد، فيحكمون بما يريدون، ويضعون القوانين، ومن ثم القوي يقول: لا يطبق علي هذا القانون، وإنما يطبق عليكم وإن خربت الدنيا كلها، فمثلاً: يقولون: إن ثقب الأوزون الذي في السماء يتخرم بسبب الآلات الكثيرة الموجودة في البلاد، وبسبب العلوم الحديثة والاختراعات الكثيرة والطاقة المستهلكة الكبيرة، والأوزون هو الذي يحمي الكرة الأرضية من أشعة الشمس ومن الإشعاعات الكونية الآتية من الخارج، فيقولون للدول: قللوا من استهلاك الطاقة، وكلكم يوقع على ذلك، أما أمريكا، فيقولون: لا تدخل في هذا الشيء، وكلكم عبيد لها، وهي وحدها التي تحكم. هذه هي الديمقراطية التي تريدها، القوي يحكم الدنيا كلها، والضعيف ليس له شيء، إلا أن يقول: سمعنا وأطعنا، هذا حكم العبد للعبد، وحكم الإنسان للإنسان أن القوي يشرع وتعمل أنت بالذي يقوله، ويقولون: نحن نملك أسلحة نووية وأسلحة ذرية، وأنتم لا؛ لأنكم أقل في العقول من أن تملكوا، هذه الأسلحة، بل أنتم مثل الطفل الصغير الذي يمسك النار ويحرق به نفسه، لكن نحن كبار، نأخذ النار ونعرف ماذا نعمل بها. لو فكرت دولة من هذه الدول المستضعفة أن تصنع شيئاً لقالوا: لا، القانون يمنعكم من هذا الشيء، فإن أبيتم الامتناع غزوناكم في دياركم من أجل أن نمنعكم من أن تصنعوا هذا الشيء الممنوع عليكم؛ لأنكم ستكونون الند لنا، وستخوفوننا في يوم من الأيام، إذاً لا تفعلوا شيئاً من ذلك، بل نحن فقط الذين نعمل؛ لأننا بلغنا سن الرشد! والمساواة عندهم أن تلغي الدين وأن تجعله وراء عقلك، والمساواة التي ينادون بها هي أن تساوي بين الرجال والنساء، فلا يوجد عندهم فرق بين الرجل والمرأة، فالرجل عندما يطلق المرأة عليه أن يعطيها نصف ما يملكه، هذه شريعتهم الكفرية التي يريدون أن يحكموا بها الدنيا كلها، يريدون أن يحكموا الناس بحديد ونار، يضعون الأغلال في أعناقهم ويقولون: اعملوا ما نقوله لكم وإلا خربنا عليكم بيوتكم. هذا الذي يريدونه من المساواة المثلية، أن يكون الرجل مثل المرأة، فما المانع عندهم أن يتزوج الرجل الرجل والمرأة المرأة، هم يريدون السحاق بين النساء، ويريدون الشذوذ بين الرجال، ويسنون القوانين بذلك، ففي إيران يعدمون رجلين لوطيين وقعا في اللواط فأقاموا عليهما شرع الله عز وجل بالإعدام، فإذا بالمظاهرات في بلاد الكفر تستنكر إقامة الحدود الشرعية، ويصورون امرأة في مجلة خنقت نفسها ومنظرها منظر قبيح شنيع استنكاراً على المسلمين أن يقيموا شرع الله في أن يقتلوا اللوطي، هذه هي الحرية التي يريدونها، حرية إباحة الفاحشة، إباحة الزنا والدعارة واللواط والجنس في بلاد المسلمين، عرفوا أن بلاد المسلمين محفوظة بهذا الدين، فأرادوا أن يخربوا العقول بإدخال المخدرات إليها، فإذا ظهر في أفغانستان من يمنع ذلك كطالبان فإنها منعت زراعة المخدرات، فماذا فعل الغرب وعلى رأسهم أمريكا؟ لقد قاموا بضرب أفغانستان من أجل أن تستمر زراعة المخدرات وتخرج من هنالك. كذلك البترول الموجود هنالك سيطروا عليه، ولما كان في العراق مخزون البترول الذي سينفعهم في يوم من الأيام حين ينفد بترولهم، قاموا بغزوهم العراق حتى يأخذوا بترول العراق، وتؤخذ أرض العراق، وهكذا في كل بلاد المسلمين، والدعوى التي يتشدقون بها هي نشر الديمقراطية، ونشر الحرية، وإزالة الناس الذين يحكمون بلاد المسلمين؛ لأن هؤلاء الحكام لا توجد عندهم حرية، وفيهم ديكتاتورية وفيهم كذا وكذا، وما هو الذي يريدون أن يأتوا به إلى بلاد المسلمين؟ أمركة جميع بلاد المسلمين، حتى تصير هذه البلاد تابعة لهؤلاء في كل شيء، وأول الأشياء هو إلغاء دين الله سبحانه وتعالى. ألم تسمعوا لهم كيف تبجحوا وقالوا: نريد إخراج مصحف للمسلمين محذوفة منه آيات الجهاد! إنه لما ضعف المسلمون سكتوا لهؤلاء وجعلوهم يتحكمون فيهم بما يشاءون، وتركوهم يشرعون لهم ما يريدون، حتى إنهم يتدخلون في مناهج التدريس في بلاد المسلمين: درسوا كذا ولا تدرسوا كذا، وإذا ذهب المسلمون إلى بلادهم ليتعلموا علموهم فقط الأشياء التي سينتفعون من ورائها من المسلمين، أما أن المسلم يصل لدرجة عالية ويكون خادماً لبلاده فلا، بل يؤخذ لبلادهم هم، ويخدمهم هم، ولا يخدم بلاده إذا كان عالماً في الذرة، إذا كان عالماً في علوم عالية تصلح لها البلاد، هذا يستقطبونه ويأخذونه إليهم ولا يتركونه في بلاد المسلمين.

وجوب التحاكم إلى شرع الله عز وجل عند الاختلاف

وجوب التحاكم إلى شرع الله عز وجل عند الاختلاف يقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:10] إذا اختلفتم في شيء بعضكم مع بعض، أو أنتم مع الكفار فردوا الحكم إلى الله سبحانه، واحذروا أن تطيعوا الكفار؛ لأنكم إذا أطعتموهم فالنار مثواكم. قال تعالى: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)، أي: الله المتفرد بأن يعبد وحده لا شريك له، وهو الرب المتفرد بالخلق سبحانه وتعالى، فمن خلق فهو الذي يستحق أن يعبد وهو الذي يستحق أن يشرع، فإذا اختلفت مع أحد في شيء فتحاكموا إلى دين الله عز وجل لا إلى الناس، فالناس يظلم بعضهم بعضاً، ويتطاول بعضهم على بعض، وربنا سبحانه يذكرنا بشيء في طبائع نفوس الناس فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} [النساء:135]، قوله: (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ)، أي: قم لله سبحانه وتعالى في أمرك في دينك ودنياك بالعدل، كن عادلاً مع المسلمين ومع الكفار، اعدل مع الخلق جميعهم. قوله: (شُهَدَاءَ لِلَّهِ) أي: أقيموا الشهادة ابتغاء وجه الله حتى ولو كانت على أنفسكم، ولو كانت على الوالدين، ولو كانت على الأقربين، اشهد بالحق ولا تجامل أحداً، ولا تكتموا الشهادة؛ فالله هو العليم بالنفوس، يقول: ((إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا)) أي: الذي ينحرف في الشهادة إما لأن هذا غني ينتفع منه، فيقول: فلان غني سيعطيني كذا لو لم أشهد، وسيعطيني كذا لو شهدت معه، أو يقول: فلان هذا مسكين وفقير فلن أشهد عليه لئلا يؤذوه. فيقول الله عز وجل: إن كان غنياً وأنت تريد نفعاً من ورائه أو تخاف سطوته، أو كان فقيراً وأنت ترحمه فالله أولى بهما سبحانه وتعالى، والله رحيم بعباده، وهو الذي أمرك بذلك أن تشهد، هذا الدين هو الذي يجردك عن النظر لفلان لكونه فلاناً ولعلان لكونه كذا، ويجعلك تنظر إلى الله فقط سبحانه وتعالى، فهو يراقبك وهو أولى بخلقه سبحانه وتعالى. إذاً: المسلم الحق لا يخاف في الله لومة لائم، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وينصح متجرداً ومخلصاً لله سبحانه وتعالى، هذا دين الله سبحانه وتعالى، الذي يقول لنا في كتابه العظيم: (فَحُكْمُهُ إِلَى الله)، أي: حكم كل أمر مرده إلى الله سبحانه، (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ)، أي: توكلت على الله، ووكلت أمري وفوضت أمري إلى الله سبحانه وتعالى، لا أقدر على القيام بأمري؛ لأني أضعف عن ذلك، فأكل الأمر إلى الله سبحانه، فترجو من الله أن يعينك، وأن ينصرك، ولا تقل: أنا أستطيع، أنا سأعمل كذا وأفعل كذا، فأنت لا تقدر إلا أن يعينك الله، هذا معنى التوكل، أن تتوكل على الله وترجو منه الإعانة وتأخذ بالأسباب، ولا تنسب الفضل لنفسك، فليس لك فضل، فالإنسان الذي يذهب إلى عمله، من الذي أيقظك من منامك، وجعلك تقول: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور؟ إنه الله الذي أحياك سبحانه وتعالى، وهو الذي رد عليك سمعك وبصرك، وهو الذي وجهك بعقلك أن تتوجه إلى شغلك فلا تضل السبيل، والله سبحانه وتعالى هو الذي مكن يديك ورجليك في العمل أن تعمل وتنتج، والله سبحانه وتعالى هو الذي جعل عملك جيداً حيث أعانك عليه، وأنت عندما تنسب الفضل لنفسك وتقول: هذا بجهدي وبتعبي، وهو الذي وفقك سبحانه وتعالى، ألا تنسب الفضل لصاحبه، فتقول: الحمد لله الذي وفقني، وإنما أنا سبب من الأسباب، والله عز وجل هو الذي يدبر الأمر. قوله: (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)، أي: أرجع إليه وأتوب إليه سبحانه؛ لأن مرجعي إليه في الدنيا وفي الآخرة، في الدنيا أرجع إليه تائباً، وفي الآخرة مرجعي إليه ليحاسبني سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا)

تفسير قوله تعالى: (فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجاً) قال الله تعالى: {فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنْ الأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]. قوله: (فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) أي: هو فاطر مبدع ومنشئ على غير مثال سابق سبحانه، فطر السماوات وأنشأها أول إنشاء، فلم يكن هناك سماء قبل هذه السماء التي خلقها الله، ولم يكن هناك أرض قبل الأرض التي خلقها الله سبحانه وتعالى، فهو فاطرها ومنشئها أول مرة على غير مثال سابق، لا يقلد، وعادة المخترعين في الدنيا أن يقلد كل منهم الآخر، فيطور شيئاً فشيئاً، فتجد الآلة كان لها أصل، فهم لما فكروا في صناعة الطائرة هذه التي تطير في السماء، كان ذلك في زمان عباس بن فرناس، فقد قام وصنع جناحين، وحاول أن يقلد الطيور، فهو لم يأت بفكرة الطيران من رأسه، وإنما وجد أمامه طيراً فحاول أن يقلده وأن يطير، فهذا لم يفطر هذا الشيء وإنما قلد ما خلقه الله عز وجل، ثم طور شيئاً فشيئاً حتى وصل إلى هذا الشيء، لكن الله سبحانه خلق السماوات على غير مثال سابق، فلم تكن سماوات قبل ذلك. قوله: (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا)، أي: جعل حلائلكم ونساءكم من أنفسكم. وقوله: (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) فيها معنيان صحيحان: الأول: من أصلكم وهو آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، خلقه الله عز وجل، وخلق حواء من ضلع من أضلاع آدم، فـ حواء من آدم من جنسه. الثاني: جعل لكم من جنسكم من الإنس من البشر النساء، ولم يجعل لكم النساء من الجن، بل جعل لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة سبحانه وتعالى، ولذلك لما خلق الله بقدرته سبحانه وبرحمته لآدم حواء، آنس شيئاً بجواره وركن إليها ومال إليها؛ لأنها منه ومن بعضه، فكذلك الإنسان يكون في بيته مع أهله يستشعر المحبة والمودة، ويستشعر الرحمة؛ لأنها من الجنس الذي هو منه، هي من البشر وهو من البشر. قوله: (وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا)، أي: ملككم هذه الأنعام وجعل للأنعام من أنفسها أزواجاً، وهي أصناف وأنواع وأشكال، وجعل منها الذكر والأنثى. وبهيمة الأنعام: هي الإبل والبقر والغنم، فجعلها أصنافاً ذكوراً وإناثاً، وملككم ذلك. قال سبحانه: (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ)، أي: يبث وينشر ويخلق ويكثر، فيجعلكم كثيرين في هذا الخلق الذي خلقه، كثيراً من الناس، كثيراً من الدواب والحيوان والطيور، فهو سبحانه يبثكم وينشركم ويجعلكم في هذه الدنيا كثيرين. قال عز وجل: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)، أي: ليس مثل الله شيئاً، ولا شيء في خلق الله سبحانه يشبه ربه سبحانه في صفاته وفي قدرته سبحانه وتعالى، وفي ذاته. وكلمة (مثل) هنا من أدوات التشبيه، وكذلك الكاف من أدوات التشبيه أيضاً، وهنا جمع الاثنين فقال: (ليس كمثله). فالكاف كأن تقول: محمد كأحمد، فتشبهه، وتقول: يده كيدي ورجله كرجلي وعينه كعيني، وتقول: فلان مثلي. فهنا جمع الاثنين لتأكيد النفي أنه لا يشبهه شيء أبداً، ولا يشبه هو شيئاً أبداً، فإذا حذفت أحد الاثنين قلت: ليس هو كشيء من الأشياء، لأن الله عز وجل لا يشبه شيئاً من خلقه، ولا شيء من خلقه يشبهه، حاشا لله سبحانه وتعالى. والكاف لتشبيه العوارض والصفات، تقول: صفاته كصفاتي، وهنا ليس كصفات الله عز وجل شيء، وكذلك لا يشبه ذات الله سبحانه وتعالى ذات من الذوات، فالله عز وجل ليس كمثله شيء، لا يشبهه شيء لا في ذاته سبحانه ولا في صفاته، وإن اشترك معه المخلوق في شيء من الصفات في المسمى فهو اشتراك في التسمية نفسها، فالله حي سبحانه وتعالى، والمخلوق حي، وحياة المخلوق حياة ضعيفة ومحدودة بهذا المخلوق، والله الحي سبحانه الذي لا يموت، والمخلوق يعتريه الموت. والله هو السميع البصير، له الأسماء الحسنى وله الصفات العلى، لا يشبهه فيها شيء أبداً، والإنسان يسمع ويبصر، فإذا قلنا: فلان هذا بصير، ينظر بعيداً، فلان هذا نظره طويل، ولكن الإنسان يعتريه العشا ويعتريه العمى، وتعتري الإنسان الغفلة، ويعتريه النوم، والله سبحانه هو البصير الذي لا يعتريه شيء سبحانه وتعالى. والإنسان يبصر فيحتاج إلى نور حتى يبصر فيه، والله يرى كل شيء سبحانه، الإنسان يرى ما ظهر، أما ما خفي فلا يراه، والله يرى كل شيء ما دق وما قل، وما خفي وما ظهر، وقس على ذلك كل صفات الله سبحانه وتعالى التي يجوز أن يوصف مخلوق بشيء منها، فالمخلوق يسمع ويرى ويتكلم، فهذه الصفات للمخلوق هي محدودة تليق بضعفه وعجزه، أما الله عز وجل فله الصفات التي تليق به سبحانه، فهو الحي القيوم وهو الرب سبحانه وتعالى، ولذلك هنا نفى وأثبت فقال: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)، أي: لا شيء يشبه الله سبحانه وتعالى، ثم حتى لا تقدم على النفي المطلق فتنفي كل شيء عن الله عز وجل قال: (وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)، أي: له الأسماء الحسنى والصفات العلى، ولكن لا يشبهه شيء في سمعه ولا في بصره سبحانه وتعالى، ولا في صفات أفعاله ولا في صفات ذاته سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (له مقاليد السموات والأرض)

تفسير قوله تعالى: (له مقاليد السموات والأرض) قال الله تعالى: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الشورى:12]. قوله: ((لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ))، أي: يملك مفاتيح السماوات والأرض، فلا يقدر أحد أن يفتح خزائن الله إلا أن يشاء الله، له الخزائن كلها، وخزائنه ملأى لا تغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، العباد يسألونه سبحانه وينزل خيره إلى العباد، لكن لا يتخيل الإنسان أنه سوف ينزل من عند الله ما يشاء بمشيئته هو، فمشيئة البشر مفاتيحها عند الله سبحانه وتعالى، يملكها فلا يعطيها أحداً من خلقه، فلا يأخذون شيئاً إلا بما يشاء سبحانه، {مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا} [فاطر:2]، ينزل رحمته فلا يقدر أحد أن يمسك هذه الرحمة ويمنعها، {وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:2]. إذا قدر وضيق وأمسك من الذي يترك هذا وينزله؟ لا أحد، فالمفاتيح عند الله سبحانه وتعالى، (لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) والمعنى: أنه يملك مفاتيح كل شيء، ويملك خزائن كل شيء. قوله: ((يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ)) أي: يعطي ويفتح سبحانه الرزق لمن يشاء من خلقه، ((وَيَقْدِرُ)) أي: يضيق، فهو الذي يبسط وهو الذي يضيق، وهو الذي يفتح وهو الذي يغلق سبحانه وتعالى، ((إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)) أي: كل شيء تتخيله الله يعلمه سبحانه وتعالى، فكر في الشيء القليل ثم قس على ذلك الكثير، انظر إلى النخلة المثمرة، خرجت من نواة الله أعلم بها سبحانه وتعالى، هذه النواة ألقاها من أكلها، والله أعلم أين ستذهب هذه في الأرض، وينزل لها الماء الذي ينفعها، وأخرجت نبتاً، وجعل لها ساقاً، وجعل لها جذوراً، وغذاها من الأرض، ثم أخرج منها الجذوع وأخرج منها الثمار، كم عدد هذا البلح الذي في هذه النخلة؟ فالله يعلم أي بلح من هذا البلح يصير تمراً، وأي شيء منه يكون رطباً، وأي شيء منه يكون بسراً، الله أعلم بذلك سبحانه وتعالى. وقس جميع ما خلق الله سبحانه وتعالى على ذلك من دواب بثها في الأرض، وجعل لها رزقها، وجعل فيها عقولاً تفهم كيف تأتي بهذا الرزق الذي قدره الله سبحانه وتعالى، فالنمل هذا المخلوق الصغير الذي جعله الله عز وجل أمماً أمثالكم، كيف تأتي إلى الحبة وتأخذها لتخزنها للشتاء، فإذا خافت عليها من أمطار السماء إذا بها تثقبها، تثقب الحبة من أجل ألا تنبت إذا جاء عليها ماء، من الذي علمها ذلك؟ إذاً: النمل يجمع هذه الحبوب للشتاء، وفي نيجيريا لما حصلت عليهم المجاعة التي هم فيها، ذهبوا ليبحثوا عن الغذاء في جحور النمل، ذهبوا من أجل أن يأخذوا من جحورها الحبوب التي جمعها النمل ليأكلها البشر، سبحان من قدر الأرزاق لمن يشاء من خلقه سبحانه وتعالى! فاحذروا من غضب الله سبحانه وتعالى أن تعصوه، فيمنع عنكم القطر من السماء، أو يرسل عليكم طوفاناً من الأرض. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الشورى الآية [13]

تفسير سورة الشورى الآية [13] لقد أرسل الله عز وجل رسله من أجل الدعوة إلى عبادته وتوحيده، فكل الرسل دعوا إلى توحيد الله عز وجل، وليست هذه الشريعة بدعاً عما قبلها، فقد دعت إلى ما دعت إليه سائر الشرائع، فكلها دعت إلى توحيد الله عز وجل، وإن كانت هذه الشرائع قد اختلفت في أحكامها، وقد جاءت هذه الشريعة بكل ما يحتاجه الناس في حياتهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ لأنها خاتمة الشرائع كلها، وقد نفس المشركون النبي صلى الله عليه وسلم وحسدوه على هذه الشريعة، فلم يؤمنوا به كفراً وعناداً، وإن استيقنوا صدقه في قرارة أنفسهم.

تفسير قوله تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا)

تفسير قوله تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الشورى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى:13]. ذكر الله سبحانه تبارك وتعالى لنا في هذه الآيات وما قبلها أنه الرب سبحانه وتعالى، الذي {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى:12 - 13] إلى آخر ما ذكره سبحانه. و (الله): هو الإله المعبود سبحانه وتعالى، وهو الرب الخالق الموجود المعطي سبحانه وتعالى، وقد اجتمع له الأمران: الربوبية والألوهية، ولا يوجد معبود من دون الله سبحانه وتعالى يجتمع له ذلك، فقد يتخذ الناس إلهاً من دون الله فيتوجهون إليه بالعبادة، ولكن هذا الذي يعبدونه لا يملك أن يخلق، ولا يملك أن يرزق وأن يعطي، ولا يملك أن يحيي وأن يميت، ولا يملك السموات والأرض، والله سبحانه وتعالى هو الذي له ملك السماوات والأرض، قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك:1]، وقال هنا: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الشورى:12]، أي: يملك مفاتيح خزائن السماوات ومفاتيح خزائن الأرض، فمفاتيح الخزائن بيده، فهو الذي خلقها، وخزائنه لا تغيض بل تفيض، فإن خزائنه ملأى لا تغيضها نفقة، ولا ينقصها عطاء، والله عز وجل هو الذي يعطي ويرزق من فضله ومن كرمه سبحانه، فإنه يقول للشيء: كن فيكون. هذا الإله العظيم الرب الخالق يقول: ((شرع لكم))، أي: جعل لكم شريعة. و ((شرع)): سلك بكم طريقاً، ونهج لكم منهاجاً، وسنّ لكم سنناً، فجعل لكم هذا الطريق، وشرع لكم شريعة. و (شرع) مأخوذ من الشارع، والشارع يطلق على الطريق الأعظم، والطريق الأعظم هو الطريق الواسع الذي يمر فيه الجميع، فالله عز وجل شرع لكم، أي: جعل لكم طريقاً موصلة إليه، ومنهجاً تسلكونه؛ حتى تسيروا على طريق الله سبحانه وتعالى بعبادته، فتصلون إلى جنته سبحانه وتعالى. قال تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ) أي: شرع لكم ديناً، وجعل لكم شريعة ومنهاجاً تعملون بها فتسلكون بها إلى الجنة، والذي شرع لكم هو الله سبحانه وتعالى، الذي قال: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف:40]، فالله عز وجل كما أنه يخلق -وهذه من صفات ربوبيته- كذلك يحكم ويشرع، وهذه من صفات ألوهيته سبحانه وتعالى {أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62]، فالحكم لله، كما قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:40]. فدين الله واحد، وهو دين عقيدة وتوحيد، ودين لا يتوجه فيه الإنسان بقلبه إلا إلى إله واحد سبحانه وتعالى، وهو الإله الحق وحده لا شريك له.

الفرق بين النبي والرسول

الفرق بين النبي والرسول قال تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى) [الشورى:13] وقد ذكر هنا خمسة من رسل الله عليهم الصلاة والسلام، وأول الرسل كان نوحاً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ولا يمنع أن يكون قبله آدم نبياً، وأوحى الله عز وجل إليه مما يشاء سبحانه وتعالى. فإن النبي: كل من يوحي إليه الله سبحانه وتعالى. والنبوءة: الإخبار بالغيب، والإخبار بما غاب عنا، وقد كان آدم عليه الصلاة والسلام نبياً، يوحي إليه الله، ويأمره ويعلمه وحياً منه سبحانه وتعالى. وأما الرسول: فهو الذي معه شريعة يبلغها، فيكون رسولاً مرسلاً من الله عز وجل، كما تقول: أرسلت فلاناً برسالة، أي: أنك أعطيته رسالة أو شيئاً ليوصله إلى آخر، فالرسول ينزل الله عز وجل إليه شريعة وكتاباً من السماء، ويأمره بأن يبلغ إلى الناس هذه الرسالة من ربهم سبحانه وتعالى، وهذه الرسالة فيها شريعة من رب العالمين سبحانه وتعالى.

بيان اتحاد رسالة الرسل في التوحيد واختلافها في الأحكام

بيان اتحاد رسالة الرسل في التوحيد واختلافها في الأحكام والدين المذكور في هذه الآية هو توحيد الله سبحانه وتعالى، وعبادة الله سبحانه وتعالى، فالتوحيد هو أصل الدين، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات:56 - 57]. إذاً: فقد أرسل الله كل الأنبياء والرسل بدعوة واحدة، وهي: أن يدعوا إلى دين الله سبحانه، وإلى التوحيد، وقد كانت دعوة الرسل لقومهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون:23]، قال تعالى عن نوح: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون:23]، وقال عن هود: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:65]، وقال عن صالح: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:73]، وهكذا جميع الأنبياء يدعون قومهم: (اعْبُدُوا اللَّهَ)، فهي رسالة واحدة، وهي التوحيد. وأما النظر فيما يصلح لكل أمة من أحكام شرعية، فهذه يختلف فيها الأنبياء، فهؤلاء يضيق الله عز وجل عليهم، فيحرم عليهم أشياء، ويضع عليهم آصاراً، وأولئك يخفف عنهم وينسخ عنهم، وهذا في أحكام التعبد لله سبحانه وتعالى، وإن كان الجميع يتوجهون إليه بالعبادة سبحانه وتعالى. إذاً: هنا تختلف الشرائع، ولا تختلف الأديان، فأصل الدين واحد، وهو توحيد الله سبحانه وتعالى، فإنك تدين لربك سبحانه أنه هو الإله الواحد الذي يستحق أن يعبد، ولا يعبد إلا بما شرع، فإذا أمرك بالصلاة فصل كما أمرت، وقد أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم في ليلة المعراج بأن يصلي خمسين صلاة، وإذا بموسى الكليم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام يقول لنبينا صلى الله عليه وسلم: (ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمتك لا تقدر على ذلك، فيرجع إلى ربه فيسأله التخفيف، فخفف عنه ربنا ووضع عنه، حتى وصل الأمر إلى خمس صلوات في اليوم والليلة، فقال موسى لنبينا صلى الله عليه وسلم: ارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك. قال: قد رجعت إلى ربي حتى استحييت، فقال الله سبحانه وتعالى: أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي، هن خمس وهن خمسون). إذاً: فموسى أمر قومه بالصلاة، وقد كانوا يصلون بطريقة معينة، وقد علم موسى كيف أمرهم بذلك، ولم يطيقوا، وأمرنا الله عز وجل بالصلاة على هذه الهيئة التي نعرفها، وهي أشرف وأفضل الهيئات، أن نسجد فيها لله سبحانه وتعالى. إذاً: فقد تختلف الشرائع بحسب مصالح العباد، وبحسب ما يصلح لهم، وبحسب حاجاتهم، ولكن الدين واحد، وهو دين الإسلام، قال الله سبحانه: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] وقال تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78] وملة إبراهيم هي دين الإسلام {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78]، فهذا دين الإسلام، وهو: أن تسلم نفسك لله سبحانه، وتوجه قلبك إليه سبحانه، وتعمل بطاعته، وتنتهي عن معصيته، وتكون عبداً له تستشعر العبودية بين يديه سبحانه وتعالى. هذا هو ديننا دين الإسلام، ودين الأنبياء والمرسلين قبل محمد صلى الله عليه وسلم.

أولو العزم من الرسل

أولو العزم من الرسل وقد كان الرسل كثيرين يزيدون على الثلاثمائة رسول عليهم الصلاة والسلام، وكان الأنبياء ألوفاً كثيرة عليهم الصلاة والسلام، وقد اختص الله عز وجل هؤلاء الخمسة الذين يوصفون بأنهم أولو العزم من الرسل، أي: أصحاب العزيمة والقوة في أمر الدين، وإن كان كل الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام أخذوا أمر الله عز وجل بقوة، ولكن الله يفضل من يشاء سبحانه وتعالى، ففضل هؤلاء على غيرهم، بشدتهم في دينهم، وبتمسكهم بأمر الله سبحانه وتعالى، وبتبليغهم للدين أفضل من غيرهم، فكان هؤلاء الخمسة أولي العزم عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام. قال تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ)، أي: وأنت يا محمد، (وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى) فهؤلاء الخمسة هم أولو العزم عليهم الصلاة والسلام.

الأمر بإقامة الدين والنهي عن التفرق فيه

الأمر بإقامة الدين والنهي عن التفرق فيه وقد وصاهم الله بقوله: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)، أي: أقيموا دين الله سبحانه وتعالى في أنفسكم وفي أهليكم على الأرض، وأقيموا دين الله بين الخلق، وبلغوا رسالات الله سبحانه وتعالى، واعملوا بشرع الله سبحانه وتعالى، فأقيموا دين ربكم سبحانه بتبليغه، وبالعمل بما فيه، وبأخذ الناس إليه، وبهداية الناس إلى دين الله سبحانه وتعالى، واستقيموا عليه، وأمروا قومكم بالاستقامة عليه. ومن معنى: ((أقيموا)) هنا نفهم معنى قوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43]، أي: استقيموا عليها، وواظبوا عليها، وتوجهوا بها إلى الله سبحانه وتعالى، واجعلوها مستقيمة لا عوج فيها، فلا تعوجوا فيها، ولا تتركوها وتسرحوا عنها، ولا تغفلوا عنها، وإنما أقيموا الصلاة كما أمركم الله سبحانه وتعالى. فنفهم الفرق بين قوله سبحانه وتعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43] وبين أن نقول: صلوا؛ فإن المطلوب هو إقامة الصلاة والاستقامة عليها وتقويمها وتعديلها على الوجه الذي يحبه الله سبحانه وتعالى، وأيضاً الإخلاص فيها، وأن نكون بها بعيدين عن الفحشاء والمنكر، كما قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45]. وهنا قال: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ)، فأمر الله عز وجل الأنبياء والرسل بإقامة هذا الدين، ونحن أتباع الرسل عليهم الصلاة والسلام، فأمرنا بذلك معهم، فيلزمنا ذلك بأن نقيم دين الله عز وجل في أنفسنا، ونحتكم إليه، ونعمل بشرعه، ونقيمه على أهلينا وعلى الناس، وندعو الخلق إلى دين الله سبحانه وتعالى، ونعلمهم ما هو هذا الدين الذي تركه الناس وراءهم ظهرياً. وأنت إذا سألت إنساناً اليوم عن دين الله سبحانه لا يعرف أكثر من أنه يصلي ويصوم، ولا يعرف كثيراً عن دين الله تبارك وتعالى، وأما شرع الله وحدوده تبارك وتعالى فإنه غافلا عنها ناسٍ لها، بل لعله يزعم أن هذا كان في الماضي، وأما الآن فلا يوجد هذا الأمر، قال تعالى: ((أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه))، أي: في دين الله سبحانه، وإذا كان الحكم لله سبحانه وتعالى فكيف نتفرق ونحن نحتكم إليه؟ إذاًً: فلنأخذ دين الله ونُرجع الأمر إليه، ونَرجع إليه في جميع أمورنا، ونتحاكم إليه، فإنه الرب الواحد لا شريك له. وقوله: ((ولا تتفرقوا فيه))، أي: في هذا الدين العظيم.

بيان نفرة المشركين من دعوة التوحيد

بيان نفرة المشركين من دعوة التوحيد قال تعالى: (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) (كَبُرَ) أي: كان شيئاً عظيماً عندهم إذا دعوا إلى التوحيد؛ لأنهم يرفضون هذا الشيء، فكبر عليهم في أنفسهم هذا الشيء؛ لأنهم اعتادوا أن يعبدوا آلهةً متعددة، فكان لكل قبيلة إله، بل كل إنسان كان يعبد إلهاً، بل قد يعبد الواحد عدة آلهة، كـ عمران بن الحصين الذي سأله النبي صلى الله عليه وسلم: (كم تعبد اليوم من إله؟ قال: ستة -أي: ستة آلهة يعبدهم من دون الله- فقال: أين هم؟ قال: خمسة في الأرض وواحد في السماء. قال: فمن الذي ترجوه لنفعك وضرك؟ قال: الذي في السماء) وهذا الكلام منه صريح وجد؛ لأن الذي في السماء هو الذي يعطيه، وهو الذي ينفعه ويضره، وأما عبادته الباقين مع أنه لا يرجو منهم شيئاً فكما قال تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] أي: إنهم يعبدونهم لأنهم بزعمهم وبكذبهم يقربونهم إلى الله زلفى، ولذلك عندما جاء النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى إله واحد تعجبوا منه، وتعجب الحمقى والمجانين فقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]، استغربوا وقالوا: انظروا إليه، يقول لكم: اعبدوا إلهاً واحداً، وأنا أعبد ستة آلهة، وذاك يعبد عشرة آلهة، وذاك يعبد كذا، أفنرجع كلنا نعبد إلهاً واحداً؟ فقد انغلقت عقولهم فلم يفهموا ذلك، وقالوا: هذا شيء عجيب! والإنسان الأحمق هو الذي يعجب من غير عجب، والذي يعجب من أمر ليس فيه عجب. فهؤلاء يتعجبون من عبادة إله واحد، ودارت الأيام ومات منهم من مات، وقتل منهم من قتل، وأسلم منهم من أسلم، فكانوا يضحكون على أنفسهم بعد ذلك، فكانوا يجلسون مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد بعد أن يصلوا معه الفجر يذكرون الله عز وجل، وذكر الله بعد الفجر والجلوس في المسجد لمن استطاع ذلك له فضيلة عظيمة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من صلى الفجر في جماعة ثم جلس في مصلاه يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين إلا كتب له أجر حجة وعمرة، تامة تامة تامة)، فالذي يجلس في المسجد بعد أن يصلي الفجر في جماعة، ثم يجلس يذكر الله عز وجل إلى أن تطلع الشمس وترتفع حوالي ربع ساعة أو ثلث ساعة، ثم يصلي ركعتي الضحى، كتب له أجر حجة وعمرة، تامة تامة تامة. فكان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس بعد الفجر في المسجد، وكان أصحابه يجلسون حوله يذكرون الله سبحانه، وكل يذكر الله في نفسه إلى أن تطلع الشمس، ثم يصلون ركعتي الضحى، ثم يتكلمون مع بعضهم، ويذكرون ما كانوا عليه في الجاهلية، من أنهم كانوا يعملون كذا وكذا، فيقول أحدهم: كنت أصنع صنماً من عجوة فإذا جعت أكلته! فيضحكون ويتبسم النبي صلى الله عليه وسلم مما يقولون. وهؤلاء هم الذين كانوا في الجاهلية يقولون: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [:ص5] أي: شيء بالغ في العجب، فإنا ما سمعنا قبل هذا بهذا الكلام، فكان عندهم أولاً عجيباً، ثم أصبح الآن صواباً؛ لأن العقول عندما يهديها الله سبحانه وتعالى تفكر تفكيراً سليماً منطقياً، وعندما يضلها سبحانه وتعالى لا تفهم شيئاً فتخوض فيما لا تفهمه، وتهرف بما لا تعرفه، وتتكلم فيما لا تجيده. وقد يكون الإنسان رجلاً وصل إلى علم عظيم من علوم الدنيا، أو وصل إلى علم عالٍ بالذرة أو بالفلك، ومع ذلك يشرك بالله سبحانه وتعالى، ويفعل أفعالاً عجيبة، فتجده يعبد حجارة أو ناراً أو أشجاراً أو أنهاراً أو غيرها من دون الله سبحانه وتعالى. يقول أحد الدكاترة: أنه كان يدرس علم المخ والأعصاب في اليابان، وفي يوم الإجازة ذهب أستاذه وغيره إلى المعبد، وكل واحد منهم أخذ معه جرساً، فسألهم: ماذا تعملون بهذا الجرس؟ فقالوا: نوقظ به الإله حتى ندعوه فيستجيب لنا! والنوم في الإنسان دليل على ضعفه وعلى أنه محتاج إلى الراحة وإلى النوم، وهؤلاء إلههم نائم، فهم يذهبون إليه في المعبد ليوقظوه حتى يرزقهم، ويعطيهم الطعام والشراب! هذا هو إلههم، والذي يفعل هذا عالم بالمخ والأعصاب، ومع ذلك إذا ذهب إلى هذا المعبد نسي وذهب عنه عقله، فيذهب يوقظ إلهه الذي أعطاه صفة من صفات البشر وهي النوم والغفلة، فالإله نائم، حتى يأتي هو ليوقظه ويطلب منه ما يريد. وقد قال تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255]، فهو إله واحد لا شريك له سبحانه وتعالى، ((لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ)) وهي الغفوة البسيطة، فلا تعتريه أبداً سبحانه، ((وَلا نَوْمٌ)) ولا ينام، وفي الحديث: (إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام -سبحانه وتعالى- يخفض القسط ويرفعه، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه). فالله لا يغفل ولا ينام سبحانه وتعالى.

الحث على الجماعة ونبذ التفرق

الحث على الجماعة ونبذ التفرق وقد شرع الله لكم هذا الدين قيماً لتعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئاً، قال تعالى: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ)، وقد أمرنا الله عز وجل جميعاً بالاعتصام بحبله فقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]، أي: لا تتفرقوا، بل اعتصموا، فإن العصمة في دين الله، فاجتمعوا على هذا الدين، يجمع الله قلوبكم وأبدانكم، وينصركم على أعدائكم بتمسككم بهذا الدين العظيم.

اصطفاء الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم

اصطفاء الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى:13] أي: الله سبحانه يجتبي ويصطفي من خلقه من يشاء. فإن الكفار غاروا من النبي صلى الله عليه وسلم، وحاروا في أمره عليه الصلاة والسلام، ونفسوا عليه ما هو فيه من رسالة ربه سبحانه، وأبوا أن يدخلوا معه في هذا الدين، كما قال تعالى: ((كبر على المشركين ما تدعوهم إليه))، من الدخول في دين التوحيد، فحسدوه على أن آتاه الله ذلك، مع أن هذا لم يكن بيده، ولم يكن يمن عليهم به، وإن كان فيه المن، وإنما كان يقول عن نفسه: إنه رسول من رب العالمين سبحانه وتعالى. قال تعالى عن نبيه: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:7]، أي: لا تعرف هذا الدين، وليس عندك أي فكرة عنه، وإن كان قبل أن يبعث وقبل أن ينزل عليه الوحي على غاية عظيمة من مكارم الأخلاق عليه الصلاة والسلام، فكان لا يذهب إلى أصنامهم كما يذهبون، وإنما كان يبتعد عنها، ويعرف أنها لا تنفع ولا تضر، ومع ذلك كان لا يعرف ما هو دين الله سبحانه، كما قال تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:7] أي: عن دين الله، والذي دلك على هذا الدين هو الله؛ بخلاف البعض منهم كـ ورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل، اللذين ذهبا يبحثان عن الدين الحق، فأما ورقة بن نوفل فتعلم النصرانية ودخل فيها. وأما زيد بن عمرو بن نفيل فقال: والله يا رب! إني لا أعرف أي الطريق أحب إليك، ولو أني أعرفها لتوجهت إليك بها، فكان هذا على دين، وهذا على دين. وأما النبي صلى الله عليه وسلم فلم يفعل مثلهما، وما كان يعرف ذلك، قال تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} وكان غيره قد سمع من اليهود والنصارى أن هذا العصر وهذا الزمان وهذه السنين التي نحن فيها سيظهر فيها نبي، وتنزل عليه الرسالة، وقد كان اليهود يقولون ذلك، ويستفتحون على الذين كفروا، فكانوا يقولون لهم: سيأتي نبي وسنقاتلكم معه، وكان المشركون يتساءلون: هل سيظهر نبي أم لا؟ وهل اليهود سيصدقون أم يكذبون؟ وبعض هؤلاء مثل أبي عابد الراهب لما سمع ذلك قال: لماذا لا أكون أنا هذا النبي؟ فذهب يتعبد وينتظر أن تنزل عليه الرسالة، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فما كان يجهز نفسه لشيء من ذلك، ولكن كان الله سبحانه وتعالى هو الذي يجهزه. فلما نزلت الرسالة على محمد صلى الله عليه وسلم كفر أبو عابد الراهب واشتد كفره، وفسق في هذا الدين أشد الفسق، وبعد عنه أشد البعد، فسماه النبي صلى الله عليه وسلم بـ أبي عامر الفاسق؛ لأنه كان يتعبد في الجاهلية ويبحث عن الدين، فلما جاء الدين الحق نفس على النبي صلى الله عليه وسلم ما آتاه ربه سبحانه وتعالى، وغار وتغيظ عليه وأبى أن يدخل في دينه. وآخر كان ينتظر أن تنزل عليه الرسالة -وهو أمية بن الصلت - ويظن أن يكون هو الرسول، وكان يقول لمن حوله: أنا الذي سوف أكون رسولاً في هذا الزمان. فقابله أبو سفيان بعد أن بعث النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: ما تقول في محمد؟ وقد كان أبو سفيان كافراً. فقال: أما الرسالة فهي، وأما هو ففي نفسي شك منه. يعني: هذه الرسالة هي من رب العالمين فعلاً، وهذا هو الناموس فعلاً، وأما أن يكون هو النبي ففي قلبي شيء منه. سبحان الله! وهل ستنزل الرسالة على غير مرسل؟ فإذا كان قد عرف أن الرسالة صحيحة، وأنها قد جاءت من رب العالمين، فقد كان الأولى به أن يصدق أن محمداً هو رسول رب العالمين صلوات الله وسلامه عليه، وعندما جاءته الوفاة قال لمن حوله: أما الرسالة فهي، وأما أنه هو ففي قلبي منه شيء. ومات الرجل على ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وقد كان شعره ممتلئاً بالتوحيد، وكان يتكلم بالتوحيد في أشعاره، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يسمع أشعاره وقال عنه (آمن شعره وكفر قلبه)، والله يهدي من يشاء، ويضل من يشاء سبحانه وتعالى، بيده مقاليد كل شيء. فالمقصود: أنه غار المشركون من النبي صلى الله عليه وسلم وحسدوه، فأمر الله عز وجل المؤمنين بأن يتجمعوا حول هذا الدين، ولا يتفرقوا عنه، فالمشركون إنما فعلوا ذلك بغياً منهم على المؤمنين، وليس لشيء آخر. قال الله سبحانه وتعالى: ((اللَّهُ يَجْتَبِي)) أي: يختار ويصطفي وينتقي ويأخذ من يشاء من عباده، فيجعله رسولاً ونبياً، فالخيرة لله سبحانه وتعالى، وليس لكم الخيرة، وليس الاختيار إليكم أنتم، وإنما الخيرة إلى الله سبحانه وتعالى، فهو (يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ)، وقد اجتبى نبيه صلوات الله وسلامه عليه، واختاره لأن يكون رسولاً من صغره عليه الصلاة والسلام، فرباه سبحانه وتعالى ليعرف أن الفضل من الله وحده عليه، وليس لأحد فضل عليه، صلوات الله وسلامه عليه.

تربية الله عز وجل للرسول من صغره

تربية الله عز وجل للرسول من صغره وكانت حكمة الله أن يموت أبوه وأمه حبلى به عليه الصلاة والسلام؛ حتى لا يقال: إن أباه هو الذي رباه وشجعه وعلمه، وإن أباه هو الذي فعل وفعل، فربته أمه صلى الله عليه وسلم سنيناً، ثم لما ماتت أمه كفله جده عبد المطلب بعد ذلك، فكان وحيداً يتيماً صلوات الله وسلامه عليه، ولكن كان ربه هو الذي يحميه ويعصمه سبحانه وتعالى، ويعده على أكمل ما يكون من الأدب والخلق صلوات الله وسلامه عليه. فكان ينظر إلى أصنامهم هذه أنها لا تستحق أن تعبد، وكان أصدق الخلق وأأمن الخلق عليه الصلاة والسلام، وكان أحب الخلق للخلق عليه الصلاة والسلام، حتى إن الكفار كانوا يلقبونه بالصادق الأمين صلوات الله وسلامه عليه، وكان لا يذهب إلى مكان إلا وأحبه أهل هذا المكان صلوات الله وسلامه عليه، وفي يوم من الأيام وهو صبي صغير صلوات الله وسلامه عليه كانوا يحملون الحجارة، فكان يحملها معهم على منكبه صلى الله عليه وسلم، فيقول له عمه أبو طالب: يا ابن أخي! ضع ثوبك على كتفك، يشفق عليه، أي: بدلاً من أن تلبس ثوبك إزاراً ضعه على كتفك، وضع الحجر عليه، حتى لا يؤذي الحجر كتفك، وقد كان لابساً لإزاره صلى الله عليه وسلم، وهو طفل صغير، وكان عند المشركين أن الكبير إذا تعرى فلا شيء في ذلك عندهم، فإذا به يخلع إزاره صلى الله عليه وسلم، ولم يكد أن يفعل حتى غشي عليه صلوات الله وسلامه عليه، وإذا بالملك يقول له: خذ عليك إزارك. صلوات الله وسلامه عليه. فكان ربه يربيه وهو صبي صغير على ألا يتكشف، فلما كبر عليه الصلاة والسلام كان إذا أراد أن يبول جلس وبال، وكان من عادتهم أن يبولوا قائمين، فلما كان هو يجلس كانوا يتعجبون منه ويقولون: انظروا إليه، يبول كما تبول المرأة، لأنه كان يستتر صلوات الله وسلامه عليه. وقد جاء الدين بذلك فكان هذا من سننه صلى الله عليه وسلم، فكان إذا أراد البول جلس ولم يقف؛ حتى لا يترشش عليه بوله، فيبول جالساً، فهذا مما علمه ربه سبحانه وتعالى وأدبه عليه. ثم نزل عليه القرآن فكمله بذلك سبحانه وتعالى، وقد سئلت السيدة عائشة عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقالت للسائل: (أما تقرأ القرآن؟ قال: بلى، ولكن أسأل عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم. قالت: كان خلقه القرآن)، فكان كل ما في القرآن يطبقه صلوات الله وسلامه عليه، فكان خلقه القرآن صلوات الله وسلامه عليه. وهو لم يجهز نفسه لأن يكون رسولاً يوماً من الأيام، وإنما ربنا سبحانه هو الذي جهزه وهو الذي أعده وهو الذي امتحنه لذلك، صلوات الله وسلامه عليه، قال تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا} [الضحى:6]، أي: لا أب ولا أم، وإنما كفله جده، ثم مات جده فكفله عمه أبو طالب بعد ذلك، فكان وحيداً عليه الصلاة والسلام، ثم فتح الله عز وجل عليه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريباً -أي: برجل واحد وهو هو عليه الصلاة والسلام- وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء)، فالذي علمه هو ربه وقال له: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} [الضحى:6 - 8]، أي: عندك عيال وتحتاج إلى المال، وكنت فقيراً، فهو لم يرث شيئاً من أهله عليه الصلاة والسلام، وكان أهله أصحاب شرف، وكان له هو أيضاً شرف صلى الله عليه وسلم، وله قدر، وأما المال فلم يكن لديه مال، فقال له ربه: {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} [الضحى:8]، أي: أن الله سبحانه وجدك صاحب عيال فأغناك، فقد أغنى قلبك فكنت غنياً بالرضا والقناعة، وأغناك فأعطاك مالاً، فعمل بالتجارة فكان له مال صلوات الله وسلامه عليه، وعمل عند إحدى شريفات البلد، وهي السيدة خديجة رضي الله عنها، ثم اختارها لتكون زوجة له بعد ذلك، فكانت سيدة نساء العالمين، وسيدة نساء أهل الجنة رضي الله عنها. فهذه التربية من الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم، فهو يقول له: إن ربك وجدك يتيماً فآواك، فكن كذلك مع الأيتام، فآوهم وتحنن عليهم، وربت على ظهورهم، وأعطهم من المال، وبش لهم، ولا تجعلهم في بؤس وضيق، وكن لهم بمثابة الوالد صلوات الله وسلامه عليه، فعلمه من صغره، فما عانيت منه فأعن غيرك عليه إذا كان موجوداً فيه، فكان أرحم الخلق بالخلق صلوات الله وسلامه عليه. وقال تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:7]، أي: كما هداك الله -والمنة له وحده- فاهدِ الناس ودلهم على دين الله سبحانه وتعالى. وقال تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا} [الضحى:8]، أي: إنك قد ذقت الفقر ثم أغناك الله سبحانه وتعالى، فإذا آتاك الله مالاً فأنفق ولا تخف من ذي العرش إقلالاً. فكان ينفق النفقات العظيمة، حتى إن الرجل ليأتي إليه صلى الله عليه وسلم ويقول: (يا محمد! يا رسول الله! أعطني. فيقول: انظر ما بين الجبلين، فيجد أغناماً، فيقول: خذها فهي لك)، فيذهب الرجل فرحاً يأخذ كل ما بين الجبلين، وينطلق بها إلى قومه من المشركين ويقول: يا قوم! أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر. صلوات الله وسلامه عليه، وكان إذا فتح الله عز وجل عليه وقسم الغنائم على الناس كان له خمس الغنيمة، وله خمس الفيء، فكان يأخذ منها نفقة بيته صلوات الله وسلامه عليه، ثم ينفق الباقي على المسلمين. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الشورى [13 - 15]

تفسير سورة الشورى [13 - 15] أوجب الله تعالى على الأولين والآخرين إقامة الدين وهو توحيد الله تعالى وحده وعبوديته، وهذا ما شرعه بواسطة الأنبياء والمرسلين، ونهانا تعالى عن التفرق فيه كما تفرقت الأمم السابقة من اليهود والنصارى وغيرهم، وسبب التفرق في ذلك هو البغي والظلم والحسد وغير ذلك، وقد أمر الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بأوامر ونهاه عن نواهٍ، وذلك في آية الشورى المشتملة على عشر جمل مشتملة على أحكام، كل حكم مستقل بذاته ومنفصل عما قبله.

تفسير قوله تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا)

تفسير قوله تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الشورى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ * وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [الشورى:13 - 14]. ذكر الله سبحانه وتعالى هذه الشريعة العظيمة التي شرعها لنا، وجعلها لنا طريقاً ومنهاجاً ومسلكاً نسلك بها إلى جنة الله عز وجل، وشرع لنا من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، (وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى)، فهي شريعة الله سبحانه ومنهجه ودينه الإسلام، الذي دعا إليه كل رسل الله وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام، فكلهم دعوا إلى توحيد الله، فقالوا: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، فكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم بعث بمثل ما بعث به السابقون، أن يدعو قومه ويدعو العالمين إلى عبادة الله وحده لا شريك له. وقوله تعالى: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) أي: أقيموا توحيد الله سبحانه وتعالى وادعوا إليه، وانهوا عن الشرك بالله سبحانه وتعالى. وقوله تعالى: (وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) أي: لا تتفرقوا في دين الله، كما تفرق الذين من قبلكم من بعد ما جاءتهم البينات، فأمرنا أن نتحد وأن نعتصم بدين الله وبشرع الله سبحانه وتعالى، وأن ندعو إليه، وأسه وأساسه وأعظمه توحيد الله سبحانه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً) فالإسلام خمسة أركان، أعظمها وأعلاها توحيد الله سبحانه وتعالى، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فشرع لنا هذا الدين الذي هو ملة إبراهيم ونوح وآدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وكل الأنبياء على هذا التوحيد وهو لا إله إلا الله. وقوله تعالى: (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) أي: عظم عند المشركين وكبر عليهم أن تدعوهم إلى إله واحد وهم مشركون به سبحانه وتعالى. وقوله تعالى: (اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) كان الكفار يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم أن اختاره الله سبحانه وتعالى نبياً ورسولاً صلوات الله وسلامه عليه، فالله نهاهم أن يجادلوا في ذلك، فليس الأمر إليهم، إنما الأمر إلى الله فهو الذي يجتبي إليه من يشاء ويهدي من يشاء، فيجعله رسولاً أو خليلاً أو نبياً، ويوحي إليه أو ينزل عليه ملكاً من السماء، فهذا الأمر إلى الله عز وجل. فالله الذي فعل ذلك، وأغلق باب الجدل في ذلك، قال تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، فالله هو الذي اختار محمداً صلى الله عليه وسلم أن يكون رسولاً نبياً، فالله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.

معنى قوله تعالى: (الله يجتبي من يشاء ويهدي إليه من ينيب)

معنى قوله تعالى: (الله يجتبي من يشاء ويهدي إليه من ينيب) ومعنى قوله تعالى: (يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ): يصطفي ويختار من يشاء من عباده أن يكون رسولاً. وقوله تعالى (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) ويهدي إليه أيضاً من يشاء، ولكن للهداية أسباب يأخذ بها الإنسان، أما الاختيار والاصطفاء في أمر الرسالة أو النبوة فلا أسباب لها، فلا يقول أحد: سآخذ بالأسباب لكي أكون رسولاً في يوم من الأيام، فالرسالة محض وهبة من الله عز وجل، وهي منحة من الله عز وجل فلا يوجد فيها أخذ بالأسباب. والذين أخذوا بالأسباب لكي يكونوا رسلاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يحدث أن أعطاهم الله عز وجل شيئاً، بل كفروا ولم يدخلوا في دين الله سبحانه وتعالى، فالله يختار من يشاء، ويهدي من ينيب إليه، قال تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [الزمر:54]، فيأمر الله العباد أن يأخذوا بأسباب الهدى من أجل أن ينالوا الهداية من الله، فإذا أردت أن تدخل الجنة فخذ بأسبابها وآمن أن الله يدخل جنته من يشاء، وحقق الإيمان بالقضاء والقدر، وأعظم الأسباب لدخول الجنة هي كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة). فالأخذ بالأسباب فيما تنتج فيه الأسباب نتائجها، لكن الرسالة ليس لها أسباب حتى يقال: خذ بالأسباب لكي تكون رسولاً أو نبياً، ولذلك قطع الله هذا الأمر وقال: (اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ)، أما الجنة والهداية فلها أسباب، فمن أخذ بالأسباب وصل في النهاية إلى الرب سبحانه وتعالى وإلى جنته، فخذ بأسباب الهداية يهدك الله، وخذ بأسباب التقى يجعلك الله تقياً، وخذ بأسباب الجنة يدخلك الله إياها. وقوله تعالى: (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) أي: من يرجع إلى الله ويتوب إليه سبحانه وتعالى ويستغفره فالله يغفر له ويتوب عليه، والله كريم تواب رءوف رحيم، يستحي من عبده أن يرفع إليه يديه ثم يردهما صفراً، فالله عز وجل إذا رفع العبد يديه إليه ودعاه أن يعطيه شيئاً فالله يعطيه، أو أن يهديه فالله يهديه، مع الاعتقاد أن الله هو الموفق لذلك سبحانه وتعالى، وهو المعطي والهادي سبحانه وتعالى، فله الفضل أولاً وآخراً، فيهدي من يشاء سبحانه وتعالى ويعطي فضلاً، ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلاً. فالعبد أمامه طريقان: طريق السعادة وطريق الشقاء، والمؤمن يرى الطريقين وكذلك الكافر، وكل منهما بين الله عز وجل لهما طريق السعادة وطريق الشقاء، ولكن المؤمن زاده الله عز وجل بصيرة، فأنار له قلبه فاتبع هذا الطريق فسلكه، والكافر قلبه مظلم وممتلئ بالحقد والغل والحسد وبعدم حب الدين، فهو يرى أمامه ما ينفعه ومع ذلك يعاند ولا يريد أن يسلك هذا الطريق، فالله يهدي إليه من ينيب. ومن ركن إلى الله عز وجل وتاب إليه تاب الله عز وجل عليه، ولذلك نرى ذلك في حكمة الله سبحانه وتعالى أن غفر لآدم ولم يغفر لإبليس، فآدم وقع في الخطيئة فراجع نفسه، واستشعر الذل والندم، فقال: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]، فوفق الله عز وجل آدم أن يقول ذلك، فتاب الله عز وجل عليه. وإبليس استكبر وأبى أن يسجد لآدم، وقال: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء:61]، أي: أنا في مدة عمري أعبدك مع الملائكة، والآن سنسجد لهذا الذي خلقته من طين، فاستكبر، وكان إبليس يعرف ربه حق المعرفة، وعبد الله سنين كثيرة مع الملائكة، ثم أقسم بعزة الله سبحانه: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82]، فهو يعرف التوحيد ويعرف ربه سبحانه وتعالى أنه هو العزيز سبحانه فلجأ إلى ذلك، وقال: (فَبِعِزَّتِكَ) ثم قال: {أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الأعراف:14]، لأرى هذا الذي كرمت علي، كيف أصنع به؟ فلم تنفع إبليس معرفته بالله سبحانه وتعالى، ولم تنفعه عبادته مع الملائكة زمناً طويلاً؛ لأنه استكبر والجنة لا يدخلها مستكبر، فلما استكبر على أمر الله، وتكبر على آدم واحتقره ورفض أن يسجد له، استحق عقوبة رب العالمين سبحانه وتعالى. وأبى إبليس أن يسجد لآدم استكباراً بعبادته لله سبحانه، وحقداً وغيرة أن الله أكرمه وجعله أحسن منه وهو مخلوق من طين، وتناسى أن الله إليه الخيرة في ذلك، فيختار من يشاء، ويرفع درجات من يشاء.

تفسير قوله تعالى: (وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم)

تفسير قوله تعالى: (وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم) قال الله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [الشورى:14]، رأى النبي صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب في المدينة متفرقين، وهم اليهود، وإن كانوا يزعمون أمامه أنهم متوحدون، وأن بعضهم مع بعض، لكن حقيقتهم أوزاع متفرقون. فلم يتفرقوا عن جهل، فالله بصرهم، وأرسل إليهم الرسل، وعلمهم وبين لهم، وأنزل عليهم الكتب وأقام عليهم الحجج، وقد أعذر من أنذر، وما قصر من بصر، وآتاهم الله التوراة، ثم أنزل على عيسى الإنجيل فتفرقوا وهم يعلمون. فما تفرق أهل الكتاب إلا من بعدما جاءهم العلم، فتعلموا فكان منهم الأحبار والرهبان، وتفرقوا مع وجود العلم بسبب البغي فيما بينهم، فقد بغى بعضهم على بعض، وظلم بعضهم بعضاً، وعلا بعضهم على بعض، وغار بعضهم من بعض، وحسد بعضهم بعضاً على ما أعطاهم الله سبحانه، قال تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} [النساء:54]، فطلبوا الدنيا بالدين فضاع منهم دينهم، وضاعت منهم دنياهم وأخراهم. وتفرق أهل الكتاب شيعاً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة. قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي) وهو الدين الخالص الذي نزل من عند الله على النبي صلوات الله وسلامه عليه، قال تعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3]، وقال سبحانه وتعالى: {أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [يوسف:40].

الواجب عند الاختلاف

الواجب عند الاختلاف وأمر الله المؤمنين بدين واحد وهو الإسلام ونهاهم عن التفرق فيه من بعد ما جاءهم العلم والبينات، وما اختلفوا فيه من شيء فيرد إلى الله ورسوله، قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:10]، وينظر أهل العلم في ذلك، يقول ربنا سبحانه: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا * وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:82 - 83]. فالمنهج الذي جعله الله عز وجل للمؤمنين أنهم إذا اختلفوا ردوا الأمر إلى الله، قال تعالى: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59]، فالطاعة لله وللرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا حدث تنازع بين المؤمنين ردوا الأمر إلى الله ورسوله. ومعنى قوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83]، أي: إذا حدث خلاف، أو شاع إرجاف بين المؤمنين فليهرعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيسألونه إذا كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أما إذا لم يكونوا في عهده فليلجئوا إلى أهل العلم ويسألونهم عن ذلك، فإنهم يستنبطون من الكتاب ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم ما يدلهم على ذلك، فرجعوا فيه. وليس كل أهل العلم يستنبطون الأحكام وإنما بعضهم، والاستنباط لغة: هو إخراج الشيء الخفي. واصطلاحاً: استخراج الأحكام الشرعية من مفاهيم الكتاب وسنة النبي صلوات الله وسلامه عليه، فإذا تنازع المؤمنون في شيء فليردوه إلى كتاب الله سبحانه وتعالى وإلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأهل العلم يستنبطون حكمه ويستخرجونه من كتاب الله ومن سنة النبي صلوات الله وسلامه عليه، إما بالنص، أو بدلالة الإشارة أو بالعبارة، أو بالقياس على الشيء، فينظرون ويستخرجون حكم النازلة التي نزلت. أما إذا تفرقوا إلى فرق، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيها: (كلها في النار إلا واحدة) وهم الذين هم على ما كان عليه صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كان كل خير في اتباع من سلف، وكل شر في اتباع من خلف. والإنسان الذي يظن بنفسه أنه أفضل وأعلم وأحكم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فإنه جاهل مغرور، إنما العلم نزل على النبي صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء الصحابة الأفاضل تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم حال نزول الوحي عليه، ثم أمرهم صلوات الله وسلامه عليه فقال: (بلغوا عني ولو آية) وأمروا بالبلاغ ليؤخذ منهم ذلك، فأخذ أهل العلم من الصحابة الأفاضل عقيدة الإسلام الصافية الخالدة، ودين رب العالمين الذي أنزله على سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه، واعتصموا بذلك ولم يختلفوا أو يتفرقوا، فإذا اختلفوا صاروا كالذين من قبلهم. وقوله تعالى: (بَغْيًا بَيْنَهُمْ)، بغياً: مفعول لأجله، أي: لأجل البغي، أو بسبب أنهم بغى بعضهم على بعض حدثت الفرقة بينهم.

تأجيل الله تعالى القضاء بين العباد إلى يوم القيامة

تأجيل الله تعالى القضاء بين العباد إلى يوم القيامة وقال تعال: (وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ)، أي: لولا وعد الله أنه ينظر عباده ويمهلهم إلى يوم يبعثون، فإبليس قال لله عز وجل: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} [الحجر:36 - 38] فأنظر إبليس إلى يوم القيامة، وكذلك وعد الله له ولأتباعه أنه يؤخرهم سبحانه وتعالى إلى يوم يبعثون ولا يعاجلهم بالعقوبة في الدنيا، ولولا وعد الله لاستحقوا العقوبة حالاً على ما يقولون وما يعلمون. قال تعالى: (إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ)، الأجل المسمى هو يوم الحساب وهو يوم القيامة، يوم الجمع ويوم النشور ويوم الجزاء، وأجلهم في ذلك وعد من الله، ووعد الله حق، ولولا هذا الوعد لقضى الله عز وجل بين عباده. قال تعالى: (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ)، أي: تفرق الذين من قبلنا بسبب البغي فيما بينهم، وورثوا الكتاب للذين من بعدهم، فأخذوا بالتوراة وبالإنجيل وهم في شك في قلوبهم من هذا القرآن ومن النبي صلى الله عليه وسلم، مع أن الله بين لهم، فوقعوا في الشك في النبي صلوات الله وسلامه عليه وفي هذا القرآن ببعدهم عن الحق الذي كان عندهم في التوراة وفي الإنجيل، فقد حرفوا وأزالوا الحق عن مواضعه فصاروا في عمى لا يهتدون طريقاً، ووصفهم الله بأنهم ضالون ومغضوب عليهم، ولذلك يدعو المؤمن: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7]، و (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ): اليهود. و (الضَّالِّينَ): النصارى. وهم الذين تفرقوا في دينهم من بعد ما جاءتهم البينات ومن بعد ما جاءهم العلم، فصاروا في شك مريب، أي: موقع للريبة في القلوب.

تفسير قوله تعالى: (فلذلك فادع واستقم كما أمرت)

تفسير قوله تعالى: (فلذلك فادع واستقم كما أمرت) قال تعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [الشورى:15]. قوله: (فلذلك فادع) أي: فلذلك الدين القيم، ولهذه الشريعة ادع الخلق إلى دين ربك وادع إلى كتابه. قال تعالى: (وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ)، أي: استقم على دين الله سبحانه وعلى شرعه بتوحيدك لله سبحانه، ونفذ أوامره واجتنب نواهيه. وقد أمره في سورة هود بالاستقامة على دينه سبحانه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (شيبتني هود وأخواتها)، فسورة هود فيها ذكر القيامة وفيها ذكر الأشقياء والسعداء، قال تعالى: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:105 - 108]، فشاب النبي صلى الله عليه وسلم مما أمره الله عز وجل في سورة هود، ومما أخبره بما سيكون في يوم القيامة من بعث العبيد وما يكون منهم من شقي وسعيد ومن حساب شديد. وأخوات سورة هود هن السور التي مثلها في ذكر يوم القيامة والجزاء والجنة والنار، قال الله سبحانه وتعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود:112] فهو سبحانه وتعالى بصير وخبير بكم سبحانه وتعالى، ففي سورة هود أمر بالاستقامة كما في هذه الآية. وهنا أمره سبحانه وتعالى بالاستقامة فقال: (وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ)، فأمره أن يستقيم على هذا الدين، وهو مستقيم على دين الله عز وجل، وهذا من باب: إياكِ أعني واسمعي يا جارة، فيؤمر بالاستقامة وهو عليها عليه الصلاة والسلام، فالمؤمنون أولى بأن يستقيموا على دين الله سبحانه، ولا يتفرقوا فيه، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ} [آل عمران:103]، ولا تزيغوا عن دين الله سبحانه.

الجمل العشر في قوله تعالى: (فلذلك فادع واستقم كما أمرت)

الجمل العشر في قوله تعالى: (فلذلك فادع واستقم كما أمرت) وهذه الآية العظيمة اشتملت على عشر جمل في كل جملة حكم مستقل بذاته، وكل منها منفصلة عما قبلها، ولا نظير لها في القرآن كله إلا آية الكرسي، قال تعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [الشورى:15]، والجمل هي: 1 - (فَلِذَلِكَ فَادْعُ). 2 - (وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ). 3 - (وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ). 4 - (وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ). 5 - (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ). 6 - (اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ). 7 - (لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ). 8 - (لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ). 9 - (اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا). 10 - (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ). فهذه عشر جمل وفي كل جملة حكم قائم بذاته، ومعنى أراده الله عز وجل وأمر به، ومثلها آية الكرسي، قال تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255] 1 - (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ). 2 - (الْحَيُّ الْقَيُّومُ). 3 - (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ). 4 - (لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ). 5 - (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ). 6 - (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ). 7 - (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ). 8 - (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ). 9 - (وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا). 10 - (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ). وهذه عشر جمل وفي كل جملة حكم مستقبل بذاته. وهذا من بلاغة وفصاحة القرآن إذ يأمر الله عز وجل فيها بأمر أو ينهى عن شيء. فالله عز وجل أمر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بأن يدعو الخلق لهذا الدين ولهذه الشريعة العظيمة. ثم أمره بأمر آخر وهو أن يستقم على دين الله سبحانه كما أمر الله سبحانه وتعالى، والمعنى أن ينفذ جميع ما أمر الله به ويمتنع عن جميع ما نهى الله عنه، وهذا أمر بإقامة الدين كله، فمن حقه أن يشيب رأسه صلوات الله وسلامه عليه عندما يسمع ذلك.

معنى قوله تعالى (ولا تتبع أهواءهم)

معنى قوله تعالى (ولا تتبع أهواءهم) ثم نهاه عن اتباع الهوى فقال تعالى: (وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ)، فإن هؤلاء الكفار سيدعونك إلى البعد عن دين الله سبحانه، فاحذر أهواء هؤلاء الكفار، ومن ذلك أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إذا أردت أن نتبعك فلا يليق بنا أن نجلس مع هؤلاء الفقراء، فاجعل لنا مجلساً ولهم مجلساً، ولا يتحدث العرب أننا جلسنا مع هؤلاء الفقراء والصعاليك، فكاد صلى الله عليه وسلم يميل لذلك، فأنزل الله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:52]، فالله عز وجل يحذر نبيه صلوات الله وسلامه عليه: إذا طردت هؤلاء فستكون من الظالمين، وحاشا له صلوات الله وسلامه عليه أن يطردهم ظلماً وعدواناً واستكباراً، فهذا مستحيل، ولكن كونه يطردهم، أو يمنعهم، أو لا يقعد مع هؤلاء الذين يذكرون الله عز وجل، فإنه يعتبر في حق النبي صلى الله عليه وسلم ظلماً. وكذلك قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أتريد منا التوحيد؟ اعبد آلهتنا وادع إليها، ونحن نستجيب لك وندخل معك في هذا الدين، فيقول الله عز وجل له: (وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) فلا يوجد في الدين قاعدة اسمها (الغاية تبرر الوسيلة)، أي: لكي يدخل هؤلاء في الدين فلا مانع أن نشرك معهم اليوم لكي يسلموا معنا غداً، فالدين دين خالص لله سبحانه وتعالى، فإن قبلوا فالحمد لله، وإن أعرضوا فعليهم الجزاء من الله عز وجل، والدين دين قيم، ودين قوي، ودين لا يحتاج إليكم، بل أنتم الذين تحتاجون إلى الله الغني الحميد، يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15]، سبحانه وتعالى، فهو مستغن عن العباد وعن عبادتهم، وأنزل الدين لتنتفعوا أنتم، لا لينتفع هو سبحانه وتعالى، فلذلك يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: (وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ). وأبو سفيان حين جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبيل فتح مكة، مر مع أبي بكر رضي الله عنه على مجموعة من المسلمين الذين كانوا مستضعفين قبل ذلك رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، وإذا به ينظر إليهم وقد صاروا بعز في هذا الإسلام، فينظرون إليه ويقول أحدهم وهو بلال أو غيره رضي الله عنهم: أما أخذت سيوف الله من رقاب أعداء الله؟ أي: أنه بقي من رقاب أعداء الله أمثال أبي سفيان، وكان شيخ الكفار في كفره، ثم أسلم وحسن إسلامه رضي الله تبارك تعالى عنه. فلما قالوا ذلك غضب أبو بكر رضي الله عنه، وقال: أتقولون هذا لشيخ قريش؟! فـ أبو بكر، يريد أن يتألفه ليسلم ويدخل في دين الله عز وجل، فبلغ الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لـ أبي بكر: (ارجع إليهم فصالحهم، لعلك تكون أغضبتهم، إن كنت أغضبتهم فقد أغضبت ربك) أي: إن كنت أغضبت هؤلاء الفقراء من المسلمين الذين كانوا يؤذون في مكة وكان يؤذيهم أبو سفيان ومن معه فقد أغضبت ربك، فرجع أبو بكر رضي الله عنه وهو ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ، ورفيق النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، فقال لـ بلال ومن معه: لعلي أغضبتكم يا إخواني، فقالوا: لا، غفر الله لك. فالله عز وجل أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يجلس مع هؤلاء الفقراء، وألا يتركهم ليذهب إلى هؤلاء الكفار حتى لو كان الثمن دخولهم في الدين، فأمره الله ألا يجعل لهؤلاء مجلساً ولهؤلاء مجلساً، وإذا أرادوا فليجلسوا مع هؤلاء الفقراء، وإذا لم يريدوا فلا يجلسوا فهم الذين يخسرون وليس المؤمنين.

الإيمان بما أنزل الله من كتب على رسله

الإيمان بما أنزل الله من كتب على رسله قال تعالى: (وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ)، أي: قل وعلم المؤمنين أن يقولوا: آمنت بكتب الله سبحانه التي أنزلت من السماء، والمؤمنون كلهم يؤمنون بكتب الله سبحانه ما أخبرنا بها وما لم يخبرنا بها، ونؤمن إجمالاً أن الله أرسل رسلاً وأنزل كتباً من السماء على هؤلاء الرسل. فقال لنبيه: قل آمنت بما أنزل الله من كتاب، فالتوراة نؤمن أنها كتاب من عند الله ونزلت من عند الله، والإنجيل كتاب من عند الله، وكذلك صحف إبراهيم والزبور التي أنزلت على داود، فنؤمن بكتب الله التي أنزلها الله على الأنبياء السابقين إجمالاً، وأنها دعت الخلق إلى توحيد الله وإلى الإيمان بالله سبحانه وتعالى، وأفضل هذه الكتب وخيرها وخاتمتها كلها هذا القرآن العظيم الذي جاء من عند رب العالمين. قال تعالى: (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ)، أي: أمرت أن أحكم بينكم بالعدل، وهذا أمر للنبي صلوات الله وسلامه عليه وللمؤمنين، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الشورى الآية [15]

تفسير سورة الشورى الآية [15] لقد أمر الله رسوله الكريم في غير موضع من القرآن بالاستقامة، وأمر الرسول عليه الصلاة والسلام أصحابه بها، وحثهم على فعل المأمور على أكمل وجه واجتناب المحظور، وبالاستقامة يحصل العبد على رضا سيده وعلى حب مولاه سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (فلذلك فادع واستقم كما أمرت)

تفسير قوله تعالى: (فلذلك فادع واستقم كما أمرت) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الشورى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [الشورى:15]. ((فَلِذَلِكَ فَادْعُ)) يأمر الله سبحانه تبارك وتعالى نبيه صلوات الله وسلامه عليه بالدعوة إلى دينه، هذا الدين القيم العظيم دين الإسلام دين التوحيد، ملة أبيكم إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.

الأمر بالاستقامة على دين الله

الأمر بالاستقامة على دين الله قوله: ((وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ))، أي: استقم على هذا الطريق كما أمرك الله عز وجل ونفذ كل ما أمرك الله أن تفعله، واجتنب كل ما منعك الله عز وجل عنه، فكن مستقيماً على طريق الله سبحانه وتعالى منفذاً لكل ما يريده الله سبحانه وتعالى، مجتنباً لكل ما نهاك الله سبحانه وتعالى عنه. وأمر الله في سورة هود بالاستقامة أيضاً، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل يسأله وهو سفيان بن عبد الله الثقفي كما في صحيح مسلم قال سفيان: (قلت: يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك أو أحداً غيرك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قل آمنت بالله فاستقم)، وفي رواية لـ أحمد: (قل آمنت بالله ثم استقم). فأمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بالاستقامة، وبهذا الأمر أمر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين بالاستقامة على دين الله تبارك وتعالى، وفي رواية أخرى لـ أحمد:>أن سفيان قال بعد ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم: (فأي شيء أتقي؟ فأشار بيده إلى لسانه صلوات الله وسلامه عليه). وتتقي غضب الله سبحانه بأن تنفذ أوامره وتجتنب محارمه، ومن أعظم ما تتقي الله عز وجل فيه اللسان، فكن مستقيماً فلا تتكلم إلا بالحق؛ لا تتكلم بزور ولا تتكلم ببلاهة فيحاسبك الله عز وجل عليه يوم القيامة ويعذبك عليه، فقل: آمنت بالله، ثم استقم على طريق الله وعلى دين الله سبحانه وتعالى، واتق أن تقع بلسانك في شيء قد حذرنا الله سبحانه منه. وفي رواية أخرى قال الرجل: (يا رسول الله! ما أخوف ما تخاف علي -أي: ما هي أشد الأشياء التي تخافها علي- فأخذ بلسان نفسه، ثم قال: عليك هذا). فأخوف ما يخاف النبي صلى الله عليه وسلم على كل إنسان مؤمن هو اللسان الذي يقع فيما حرم الله سبحانه وتعالى، واللسان بالكلام السيئ يثور فإذا به يستحق عذاب السعير، واللسان يتكلم بالحق فينجو صاحبه، ويتكلم بالباطل فيوبق صاحبه، واللسان قد يقع في الكذب، في الغيبة، في النميمة، في النفاق، في شهادة الزور، في قول الزور وغيرها من آفات اللسان، ولذلك أخوف ما يخاف على الإنسان من لسانه أن يقع في الحرام بأن يسيء بالكلام الظاهر. أمر أصحابه بالاستقامة فقال عليه الصلاة والسلام: (استقيموا ولم تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ عليها إلا مؤمن)، فالصحابة طلبوا النصيحة، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الاستقامة، ولو أن النبي صلى الله عليه وسلم حدثهم من بداية الأمر بكل شرائع الدين لشق عليهم، ولكنه قد أوتي جوامع الكلم صلوات الله وسلامه عليه، وبين الرسول صلى الله عليه وسلم الاستقامة فقال: (قل آمنت بالله ثم استقم) فلا تشرك بالله شيئاً، واعبد الله ولا توجه عبادتك إلى أحد غير الله. وقوله عليه الصلاة والسلام: (استقيموا ولن تحصوا) أي: لن تحصوا أعمال البر، فالبر كثير جداً، والله سبحانه وتعالى يقول: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا} [البقرة:177] وهذه كلمات عظيمة، فقد كانت هناك أشياء يظنونها من البر وهي لا معنى لها، فقد كانوا إذا خرج أحدهم يريد الحج خرج من ظهر بيته، والحكمة من ذلك عندهم: أنه إذا خرج من ظهر البيت فسيرجع إليهم، فكانوا يعتقدون أن من البر أن يخرج من ظهر بيته، فقال تعالى: ((لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ))، إنما البر في هذه الأعمال الصالحة، وليست هذه كل الأعمال، ولكنه ذكر رءوس الأعمال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لن تحصوا)، فأعمال البر كثيرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)، وما بين ذلك أعمال كثيرة من أعمال البر.

الصلاة أفضل الأعمال

الصلاة أفضل الأعمال الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الشورى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [الشورى:15]. ((فَلِذَلِكَ فَادْعُ)) يأمر الله سبحانه تبارك وتعالى نبيه صلوات الله وسلامه عليه بالدعوة إلى دينه، هذا الدين القيم العظيم دين الإسلام دين التوحيد، ملة أبيكم إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.

فضل صلاة النافلة

فضل صلاة النافلة قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (اعلموا أن خير أعمالكم الصلاة)، فإذا نقبت عن أفضل الأعمال تجد أنها الصلاة، فهي من أعظم العمل الذي يتقرب به العبد إلى الله عز وجل. فذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث أن الصلاة أحب العمل إلى الله سبحانه وتعالى، وأفضل ما يتقرب به العبد إلى الله عز وجل، مما افترضه الله عليك، وقد افترض عليك الصلاة والصيام والزكاة والحج، وأحب ما تتقرب إلى الله عز وجل من الأعمال المفروضة هي الصلاة، قال الله عز وجل: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)، فتصلي الصلاة المفروضة كما أمرك الله سبحانه وتعالى، وتواظب عليها، وتؤديها في أوقاتها، لا تسه عنها، ولا تغفل عنها، ولا تفرط فيها، ولا تجمع الصلوات بعضها إلى بعض، ولكن صل الصلوات على وقتها كما أمرك الله بقوله: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103] أي: فرض محدود بتوقيت، لا يجوز لك أن تخرجها عن وقتها فتصلي الصلاة في غير وقتها. قال الله عز وجل: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:4 - 7]، فهم كانوا يصلون ولكنهم كانوا يجمعون الصلوات بعضها إلى بعض، ويعطل أحدهم الصلاة عن معناها وعن مقصدها، ويدخل في الصلاة ولا يفهم كيف يصلي ولا ما الذي يلزم في صلاته، وينشغل في صلاته بعمل، أو بمال، أو بأصحاب، فإذا به في صلاته لا يعقل شيئاً منها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تلك صلاة المنافق يرقب الشمس حتى إذا اصفرت قام فنقرها أربعاً)، وهذه من سمات المنافقين، حيث يرقب الشمس حتى تكاد الشمس تغرب وقد اصفرت فيقوم فينقرها أربع ركعات، فهو ليس من الذين لا يصلون بالكلية، أما الذي لا يصلي كلية فهو أشد وأعظم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة)، فتصلي الصلاة الصحيحة ويقبلها الله سبحانه وتعالى، فيكفر عنك بهذه الصلاة من سيئاتك، قال عليه الصلاة والسلام: (الصلاة الخمس، والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان والعمرة إلى العمرة مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر)، فإذا اجتنبت الكبائر فهذه الأفعال مكفرات، ومثله أن يسهو في صلاته. وقال ربنا سبحانه: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45]، فالصلاة التي يريدها الله عز وجل وكانت أعظم أعمالك هي الصلاة التي تنهاك عن الفحشاء والمنكر، فتخرج من الصلاة ولا تؤذي أحداً من الخلق، وتعطي الفقير والمسكين، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتحب الصلاة وتنتظر وقت الصلاة التي تليها. يقول ربنا سبحانه وتعالى كما في الحديث القدسي: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه) وهذا من فضل العمل الصالح، وأعظم العمل الصالح صلاة الفريضة، فتصلي الفريضة وتكثر من النوافل، قبل الفجر تصلي ركعتين وقبل الظهر أربعاً وبعده أربعاً، وقبل العصر أربعاً، وبعد المغرب تصلي ركعتين، وبعد العشاء ركعتين تتقرب بذلك إلى الله بالنوافل وترضي ربك، وهي محبة الله لك كما قال تعالى: (لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)، فإذا وصلت إلى هذه الدرجة وهي محبة الله لك قال: (كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به)، كان الله سمعك الذي تسمع به، والمعنى: أن الله يحفظ سمعك، ويحفظ بصرك، ويحفظ لسانك، ويحفظ يدك ورجلك، وكان الله لك في كل هذه الأشياء حافظاً ووكيلاً وحفيظاً عليك: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64]، فيحفظ سمعك فلا تسمع إلا ما يرضي الله سبحانه وتعالى، فعندما يريد إنسان أن يحدثك بغيبة أو بنميمة أو بسخرية بالاستهزاء بكذا فلا تسمع، ولا تحب ذلك؛ لأن الله جعل سمعك سمعاً ربانياً، لا يسمع إلا ما يحبه سبحانه وتعالى، ويكره إليك المعاصي فلا تحبها، فإذا أراد بصرك أن ينظر إلى ما حرم الله إذا بالواعظ في قلبك يزجرك وينهاك فتمتنع من ذلك محبة لله سبحانه وطاعة لله وحباً من الله لك، وكذلك اليد التي تبطش بها تجاهد في سبيل الله، فيسدد الله رميتك لعدوك، قال الله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]، فأنت تمسك بالسيف لتضرب، وأنت الذي ترمي بالرمح، ولكن الذي يعينك ويعطيك القوة هو الله. قال: (ورجله التي يمشي بها) فيوفقك الله لطاعته والمشي إلى رضوانه، فتمشي في جنازة أو تعود مريضاً، فتجد نفسك كل مشي في طاعة الله يعينك الله عليه ويوفقك إليه، فكان الله عز وجل لك معيناً في ذلك. والمعنى: كنت له عوناً معيناً محافظاً حافظاً له مدافعاً عنه ناصراً له، وكل إنسان يحب الله سبحانه وتعالى، قال الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31]، وإذا كان الأمر أنك تريد محبة الله سبحانه، وتريد أن يكون معك، إن كنت تحب الله حقاًً فيجب أن تتبع النبي صلوات الله وسلامه عليه، قال تعالى: ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ))، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)، وهذا هو الإيمان الأصل وأنه لا يتحقق إيمان أحد حتى يحب الله أعظم الحب، ولا يوجد شيء يستحق أن يصل إلى كامل المحبة من محبتك لله سبحانه وتعالى، وكذلك حبك لرسول الله صلوات الله وسلامه عليه. والصلاة هي التي توصلك لحب الله، ولذلك في الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء)، ذكر هنا النور والضياء، لكن النور أعظم؛ لأن النور لا يؤذي، تقول: مشيت في نور القمر، وهو نور هادئ لا يوجد فيه إحراق، وتقول: مشيت في ضوء الشمس، وكلما ازداد الشمس كلما ازدادت الحرارة، تشرق الشمس في أولها، فترتفع وترتفع، وكلما ارتفعت ازدادت حرارة، فيأتي الإنسان في وقت الظهر إذا كان في الصيف فيجد حراً شديداً، ولذا جاء في السنة أنك إذا كنت في الصيف في الأيام التي فيها حر قاتل فيجوز لك أن تؤخر صلاة الظهر وأن تبرد بها، فقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في الحر يؤخر الظهر ليبرد بها، حتى يرجع الفيء فيخرج يصلي صلوات الله وسلامه عليه. ويقول عليه الصلاة والسلام: (والصبر ضياء)، فالصبر يضيء لك الطريق، ولكن الصبر لا بد أن يكون على الأذى وعلى المشقة وعلى الكراهة، فالإنسان يصبر على مصيبة نزلت به فالصبر عظيم جداً. والصلاة نور، فلا يوجد فيها أذى، فتستطيع أن تصلي قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب، فالصلاة سهلة.

فضل الصبر على المصائب

فضل الصبر على المصائب والصبر يكون عندما تنزل بالإنسان مصيبة كالموت فليس له سبيل إلا أن يصبر ويعتصر قلبه ألماً ويصبر على أمر الله، فقد بكى النبي صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم وقال: (إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون)، فقد حزن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يتكلم إلا بالحق صلوات الله وسلامه عليه، وقد كسفت الشمس في يوم موته، فقالوا: كسفت الشمس لموت إبراهيم، وكان هذا قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بأشهر يسيرة، فابتلى الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بوفاة ابنه قبل موته عليه الصلاة والسلام؛ ليكون صبره على وفاة جميع أبنائه، ما عدا فاطمة فإنها توفيت بعد النبي صلى الله عليه وسلم بستة أشهر؛ لتكون سيدة نساء الجنة مع أمها خديجة ومع مريم ومع آسية رضي الله عنهن. فالنبي صلى الله عليه وسلم يبتليه الله عز وجل، بموت أولاده وبناته صلوات الله وسلامه عليه في حياته، ويصبر صلى الله عليه وسلم على كل ذلك، وهل علم مثل هذا الصبر؟ فإنه في يوم بدر تموت ابنته صلوات الله وسلامه عليه امرأة عثمان، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم مع المؤمنين في قتال حتى ينصر الله المؤمنين، والمؤمنون في فرح عظيم، فلا يحب أن يكدر عليهم فرحهم فيفرح معهم صلى الله عليه وسلم، فيريهم الفرح وهو يكتم حزنه صلوات الله وسلامه عليه، وهو أشرف الخلق، وأرحم الخلق بالمؤمنين صلى الله عليه وسلم، وعلى الرغم من وفاة ابنته إلا أنه يظهر أمام المسلمين الفرح بنصر الله عز وجل وهو يبطن الحزن على ابنته، وهذا صبر عظيم. ويبتليه الله عز وجل بموت ابنه الصغير، وكان يحبه حباً شديداً، ولكنه صلى الله عليه وسلم يقول: (وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزنون ولا نقول إلا ما يرضي ربنا) ويدفن ابنه فيرجع وإذا بالمؤمنين يتكلمون فيقولون: كسفت الشمس لموت إبراهيم، فالشمس حزينة على موته، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يتناسى حزنه صلى الله عليه وسلم ويقول: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة) انظروا إلى يقين النبي صلى الله عليه وسلم العظيم وصبره العظيم؛ فقد مات ابنه ومع ذلك لا يترك أن ينصح الناس، ويبين لهم أن الشمس لم تنكسف لموت إبراهيم، فهي آية من آيات الله، وإذا كان الأمر كذلك فافزعوا إلى الصلاة، فيصلي بهم صلاة الكسوف صلوات الله وسلامه عليه. وبهذا استشعر النبي صلى الله عليه وسلم عظمة الصلاة، فقال: (وجعلت قرة عيني في الصلاة) وكان يقول لـ بلال إذا حزبه أمر: (أرحنا بها يا بلال!) أي: بالصلاة. هذه الصلاة العظيمة التي أمرنا الله عز وجل وأمرنا بها النبي صلوات الله وسلامه عليه في سنته، وأمرنا بأن نعجل هذه الصلاة وأن نستقيم بها وأن نصلي صلاة تقرب إلى الله سبحانه وتعالى، فالوضوء شرط في صحة الصلاة، والشرط هو شيء خارج عن العمل، أما أركانها فهي: تكبيرة الإحرام، وقراءة الفاتحة، والقيام في الصلاة، والركوع، والسجود والركن يكون متعلقاً بالعمل وجزءاً منه، وأيُّما امرئ صلى بدون وضوء فلا تصح صلاته، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن) وهو جزء من حديث الاستقامة: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن)، فتحافظ على الوضوء لأنك تحب الصلاة، فتصلي الصلاة التي كتبها الله عز وجل وافترضها عليك، وتحافظ على الوضوء، والمحافظة على الوضوء شيء عظيم جداً، فالنبي صلى الله عليه وسلم ذكر أنه دخل الجنة ورأى بلالاً المؤذن، وبلال كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يؤذن للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان حاملاً نفقة النبي صلوات الله وسلامه عليه، فقال له: (إني سمعت خشخشة نعليك أمامي في الجنة) فهو في الدنيا بجوار النبي صلى الله عليه وسلم وأمامه في قضاء الحاجات وكذلك في الجنة؛ فهو خادم النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (فأخبرني ما تصنع؟ قال: ما توضأت وضوءاً إلا وصليت بعده ما كتب لي) فالرجل يصلي ركعتين بهذا الوضوء، وليس الوضوء للفريضة؛ فإن كل الناس يفعلون ذلك، ولكن زاد بلال عليهم في أنه ما توضأ في أي وقت إلا وصلى خلفه ركعتين. فالوضوء لا يحافظ عليه إلا مؤمن، فالمؤمن يحب الوضوء، يحب أن يجلس طاهراً متوضئاً، والمؤمن في باله أن يكون دائماً على وضوء. فالوضوء نور للإنسان، والوضوء يجلب الوقار للإنسان، والوضوء نور المؤمن يوم القيامة، حتى لو دخل إنسان من الموحدين النار سبقت معصيته وسيئاته واستحق النار، فإن النار تأكل من بني آدم كل شيء إلا مواضع الوضوء؛ لأنه لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن، فالمؤمن يتوضأ فيصلي، ويجلس لطلب العلم وهو على وضوء، ولا يكون في مجلس إلا وهو على وضوء؛ لأنه علم أن من انتظر الصلاة وهو على وضوء فهو في صلاة، فإذا كنت جالساً من العصر إلى المغرب تنتظر صلاة المغرب فأنت في صلاة.

تفسير سورة الشورى (تابع) الآية [15]

تفسير سورة الشورى (تابع) الآية [15] الدعوة إلى الله سبحانه والاستقامة على الدين من صفات الأنبياء والصالحين، وقد نهى الله تعالى عن اتباع أهواء أهل الباطل، وأمر بالإيمان والتمسك بكتابه وتطبيقه بين خلقه، فلا حجة بعد ظهور الحق ونزول القرآن من عند الله، فإليه سبحانه المرجع والمآب ليحكم بين خلقه بالعدل والقسط.

تفسير قوله تعالى: (فلذلك فادع واستقم كما أمرت)

تفسير قوله تعالى: (فلذلك فادع واستقم كما أمرت) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الشورى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [الشورى:15].

فضل الدعوة إلى الله والاستقامة على الدين

فضل الدعوة إلى الله والاستقامة على الدين ذكرنا في الحديث السابق والذي قبله هذه الآية العظيمة من هذه السورة، وذكرنا أنها عبارة عن عشر جمل كل جملة منها حكم قائم برأسه مستقل بذاته، وقد اجتمعت العشرة في هذه الآية الواحدة لتعطي معنى إجمالياً باتباع دين الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: ((فَلِذَلِكَ فَادْعُ))، أي: لتلك الشريعة العظيمة، ولذلك الدين القيم الذي ذكره قبل ذلك في قوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الشورى:13]. وفي سورة يوسف أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يدعو إلى سبيل الله، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]، وقال الله سبحانه وتعالى في سورة النحل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعو إليه، وبين له طريقه، وبين له كيف يدعو إليه، فالطريق هو دين الإسلام دين التوحيد، يدعو إليه النبي صلى الله عليه وسلم على بصيرة هو ومن اتبعه. والمؤمن يدعو إلى الله بعد أن يتعلم، فإذا أردت أن تدعو إلى الله فتعلم، والعلم الشرعي: هو العلم بهذه العقيدة الإسلامية العظيمة، العلم بشرع الله ودينه وفقه هذا الدين العظيم، فتدعو إلى الله على بصيرة وأنت تعلم إلام تدعو، وعلى أي طريق تقف وتثبت، فتدعو إلى الله سبحانه وتعالى، وتستقيم على هذا الدين كما أمر الله سبحانه، وكما أمر النبي صلوات الله وسلامه عليه، قال تعالى: ((وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ))، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قل آمنت بالله ثم استقم)، وقال النبي صلوات الله وسلامه عليه لأصحابه: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن). ففي هذا الحديث أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالمحافظة على الصلاة، وأخبر أن الدين عظيم، ولن تحصي أنت أعمال البر وأعمال الخير التي أنت مطالب بأن تأتي بها، ولكن سدد وقارب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سددوا وقاربوا)، فتعمل عمل الخير، ولا تحصي؛ لأن الثواب يحصيه الله سبحانه، وأنت لا تعرف قدر هذا الثواب العظيم عند الله سبحانه. والأعمال كثيرة، فخذ بقدر طاقتك، قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وقال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]، فاعملوا أعمال الخير، ولن تحصوها لكثرتها، فما استطعتم فافعلوا، والثواب عند الله أعظم مما تتخيلون. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن)، بعدما قال: (واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة)، فأخبرنا أن المحافظ على الوضوء إنسان مؤمن، وكما ذكرنا المحافظة على الصلاة ذكرنا المحافظة على أهم شرط في الصلاة وهو الوضوء. فلا بد أن تحافظ على الوضوء وتكون على طهارة، فإذا ذكرت الله سبحانه كنت على وضوء، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يكون على وضوء ما استطاع، وذات مرة سلم عليه رجل ولم يكن على وضوء، فتيمم بالجدار ورد عليه السلام صلوات الله وسلامه عليه، وقال: (كنت على غير وضوء، فكرهت أن أذكر الله) يعني: على هذه الحال، كره أن يرد السلام إلا وهو على وضوء، ولما لم يكن هناك ماء تيمم ورد عليه السلام صلوات الله وسلامه عليه. هذا منه صلى الله عليه وسلم شيء عظيم، ولسنا مطالبين بذلك، فهو لم يأمرنا أمر وجوب أن نكون طول اليوم متوضئين، الواجب علينا أن نتوضأ للصلاة، ولكن أخبر إخباراً ليحث على ذلك، أن يكون الوضوء في أكمل حالاتك طالما أنت تقدر على ذلك، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن؛ لأنه سيحافظ على صلاته، وسيحافظ على تكبيرة الإحرام إذا أراد أن يذهب إلى الصلاة، ولو أن المؤذن أذن لصلاة العصر وهو على وضوء، فإنه سيقوم سريعاً ويصلي سنة العصر القبلية، ويتوجه إلى المسجد فيدرك تكبيرة الإحرام. ولو أن إنساناً أراد أن يدخل الخلاء بعد أن أذن المؤذن، فدخل دورة المياه، وقضى حاجته، ثم خرج فتوضأ، فقد تفوته تكبيرة الإحرام، ولعله إلى أن يأتي تكون قد فاتته الصلاة. وانظر لحديث النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال: (من صلى لله أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتبت له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق)، فالذي يحافظ على الصلاة شهراً وعشرة أيام يصلي في جماعة مائتين صلاة، ويحافظ على تكبيرة الإحرام مع الإمام يجعل الله له أجراً عظيماً، ويكتب الله له براءتين ينجيه من النفاق، فلا يكون منافقاً ولا يموت على النفاق، والأمر الآخر أنه يعطيه براءة من النار. فالمؤمن يؤمل فضل الله سبحانه، ويرجو رحمة الله عز وجل، ويواظب على ذلك، ولعل الله سبحانه يمكنه، ولعله ينخذل منه شيء، فتفوته تكبيرة الإحرام، فلا ييأس ولكن يعمل أكثر، فيحاول حتى يصل في النهاية بفضل الله سبحانه وتعالى. قال الله تعالى: ((فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ)) أي: استقم على طريق الله سبحانه وتعالى، وحافظ على دين الله وتعلمه، وحافظ على الصلاة وعلى الوضوء تكن مؤمناً.

نهي الله نبيه عن اتباع أهواء المشركين

نهي الله نبيه عن اتباع أهواء المشركين قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: ((وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ))، أي: لا تتبع أهواء هؤلاء؛ لأن هؤلاء يدعونك إلى الشر وإلى الهوى، ويدعونك إلى البعد عن شريعة الله سبحانه وتعالى، وقد كانوا يحاولون ذلك حثيثاً مع النبي صلى الله عليه وسلم. فقد ذهب إليه شيبة بن ربيعة والوليد بن المغيرة، وقد كان الوليد أغنى المشركين، وكان أعز المشركين فيهم، وقد لقبه ربه سبحانه بأنه وحيدٌ في ماله، أي: أغنى الناس في المال، وأعز الناس في الولد وفي النسب وفي الرجال، قال تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ} [المدثر:11 - 15]، هذا الرجل ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أعطيك نصف مالي ودع هذا الدين. وشيبة بن ربيعة يقول له: إن ابنتي أجمل البنات، أزوجك ابنتي ودع هذا الدين، ويعرضون على النبي صلى الله عليه وسلم الزواج بعشر نساء من أجمل النساء على أن يترك الدين فيقول له ربه: ((وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ))، وحاشا له صلوات الله وسلامه عليه أن يتبع أهواء هؤلاء، ولكن الله يقول له ذلك ليعتبر المؤمنون بما قاله الله سبحانه، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن يستقيم على الدين، فالمؤمنون أولى بهذا، فهو قد استقام وقد أدبه ربه، وعلمه ربه سبحانه، ومع ذلك يقول الله له: ((وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ)) فالمؤمنون يأخذون بذلك ويستقيمون على دين الله، وعلى طريقه، ويقيمون أمر الله سبحانه وتعالى، ولا يتبعون الهوى.

أمر الله لنبيه بالإيمان بالكتب المنزلة من عنده وبإقامة العدل

أمر الله لنبيه بالإيمان بالكتب المنزلة من عنده وبإقامة العدل قال الله تعالى: {وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ} [الشورى:15] أمر أن يتلفظ بذلك: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر، خيره وشره حلوه ومره، آمنت بما أنزل الله من كتاب، آمنت بكل الكتب التي أنزلها الله وأخبر عنها وصدقته، وآمنت بأنها منزلة من عند رب العالمين، وآمنت أن الله أنزلها. ولكن معنى (آمنت): صدقت وأقررت، فالمطلوب منه صلى الله عليه وسلم ومن الخلق جميعهم بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيموا دين التوحيد، ويقيموا شرع النبي صلوات الله وسلامه عليه، فهو ناسخ لما قبله، قال تعالى: ((وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ))، فالمقصود: الإيمان بما أمرنا الله عز وجل أن نؤمن به، بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر. وقد أُمر النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك المؤمنون بأن يقيموا هذا الدين وأن يعدلوا، قال تعالى: ((وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ))، والعدل لا يكون إلا بكتاب من عند الله، فالله الذي نزل الكتاب بالحق والميزان، وأنزل العدل وبينه لنا، ولو ترك الناس لأهوائهم وأنفسهم، لاخترع كل إنسان ميزاناً للعدل الذي يقوله، ولكان القوي يفرض رأيه على الجميع، ويقول: العدل كذا، وهو محض الظلم، فالعدل هو الذي أمر الله عز وجل به، وفرضه سبحانه، ولا مجاملة فيه، وأنزل الله الميزان لنتعلم كيف نزن، وكيف لا نحيف ولا نظلم. وكذلك أمرنا الله سبحانه تبارك وتعالى أن نعدل فلا نظلم، فلا يظلم بعضنا بعضاً ولا نظلم غيرنا. وقد تكره إنساناً، ولكنك مأمور أن تعدل معه، وقد تبغض إنساناً في الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك أنت مأمور بأن تعدل معه، وتقيم شرع الله عز وجل فيه وفي غيره، هذا هو الدين القيم العظيم الذي يعلمنا العدالة، فلا بد أن نتعلم العدالة ونعمل بها شئنا أم أبينا؛ لأن الله سوف يجازينا يوم القيامة. وإنَّ في ضمير الإنسان ما يدفعه أن يقوم بالعدل؛ لأن الله سيسأله يوم القيامة، قال تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} [المائدة:2]، فاحذروا من عدم العدل، فإنه ليس لكون المشركين في يوم من الأيام صدوكم فالآن تظلمونهم، قال الله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8]. وانظر لميزان العدالة في الإسلام، فقد أمر بالعدل ولو مع عدوك، ولو مع من تكرهه وتبغضه في الله سبحانه وتعالى، لذلك يذهب رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى يهود خيبر ليأخذ منهم ما أمر الله عز وجل بأخذه، فالنبي صلى الله عليه وسلم تركهم يزرعونها على أن تكون الثمار قسمة بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل من الصحابة رضي الله عنهم ليأخذ منهم ما هو عليهم أن يدفعوه، فحاولوا أن يرشوه، وأخذوا يحيفون في الأمر، فقال: والله إنكم لأبغض الخلق إلي، ومع ذلك لا يمنعني بغضي لكم أن أعدل فيكم، قالوا: بهذا قامت السموات والأرض، أي: قامت بالعدل وأمر الله عز وجل بالعدل. وهذا عمر رضي الله عنه، يأتي إليه رجل من العرب ويطلب منه شيئاً، فأعطاه عمر رضي الله عنه، ولكن في نفس عمر منه شيء، إذ كان الرجل أعرابياً، وكان جلفاً وفيه فضاضة، فقال له عمر: والله إني لأبغضك، فنظر الأعرابي إلى عمر وقال: هل بغضك لي يمنعني من حقي؟ قال: لا، قال: إنما يحزن على الحب النساء. فهذا الأعرابي يعترف بأن عمر كان عادلاً، وأيضاً هذا لحماقته، فإن الذي يحبه عمر هو الرجل المؤمن، ولن يحب إلا مؤمناً، فإذا كان عمر يكره هذا الإنسان فإن الأولى بهذا الإنسان أن يقول لـ عمر رضي الله عنه: لم تكرهني؟ وما هي الصفة التي أغيرها إذا كان في شيء تكرهه؟ ولكن الرجل لم يفهم. والمقصود: أنك إن كرهت إنساناً فلا تظلمه، هذه هي العدالة التي أمرنا الله عز وجل بها.

معنى قوله تعالى (الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم)

معنى قوله تعالى (الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم) قال تعالى: ((اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ)) الله سبحانه هو الرب وهو الإله، ومقتضى ربوبيته: أنه يفعل أفعالاً لا يقدر عليها أحد، فينفع ويضر، ويعز ويذل، ويعطي ويمنع، ويحيي ويميت، ويخلق ويعدم سبحانه وتعالى، وهو على كل شيء قدير، فالله هو الرب الذي يعبد وحده لا شريك له، وكلمة (الله) تعني: المعبود حقاً، فهو الذي يستحق العبادة وحده لا شريك له، فالله ربنا وربكم وإن زعمتم غير ذلك، فالله الذي نعبده هو الرب الوحيد سبحانه وتعالى، ولا رب غيره، ولا إله يستحق العبادة سواه. قال تعالى: ((لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ)) أي: ثواب أعمالنا لنا، ولكم شؤم أعمالكم وسيئاتكم، ولن تأخذوا من حسناتنا شيئاً، ولن نأخذ من سيئاتكم شيئاً، طالما أننا دعونا إلى الله، وقمنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأقمنا دين الله عز وجل، فلنا ثواب أعمالنا سواء استجبتم أم لم تستجيبوا، قال تعالى: ((وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ))، أي: إن دخلتم في دين الله عز وجل فلكم الثواب، وإذا لم تدخلوا في دين الله فعليكم العقاب والعذاب، ولا تضرون إلا أنفسكم، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا لا يجني جان إلا على نفسه، ولا يجني والد على ولده، ولا ولد على والده)، قالها في حجة الوداع في خطبته صلوات الله وسلامه عليه. فالإنسان لا يجني إلا على نفسه، وهذا معنى قوله سبحانه: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] أي: لا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى، وإنما كل إنسان يحمل إثمه، فإذا سن للناس سنة سيئة حمل إثمها وكأمثال آثام غيره، لا ينقص من آثام الآخرين شيء، وكل إنسان يحمل إثمه على عاتقه.

لا حجة بعد ظهور الدين

لا حجة بعد ظهور الدين قال الله سبحانه: ((لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ)) يعني: قد ظهر الحق، فلا مخاصمة بيننا وبينكم، وليس هناك وقت للخصام والجدال، فقد ظهر الدين وبان، والله عز وجل نشر نوره، وكانوا قد قرروا أن يحتجوا على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الصحابة، فكان اليهود والنصارى يقولون: ديننا قبل دينكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونحن آمنا قبل أن تأتوا أنتم، فيقال لهم: إن الله عز وجل قد نبأ وبشر في كتبكم بالنبي صلوات الله وسلامه عليه، وأمرتم أن تتبعوه، وشهد الله عز وجل عليكم بذلك، فلا حجة بيننا وبينكم، أنتم آمنتم بكتبكم ولم تؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ونحن آمنا بكل الكتب التي نزلت من عند الله عز وجل، وأمرنا بالعدل مع الخلق وأن نقيم هذا الدين القيم وأن نعمل به، فكل الكتب قبل النبي صلى الله عليه وسلم كتب حقٌ نزلت من عند الله عز وجل، ولكن أصحابها حرفوا وبدلوا ما فيها من حق، كما أخبر الله سبحانه وتعالى، فجاء هذا القرآن العظيم مهيمناً عليه وناسخاً لما فيه، وأمرنا الله عز وجل أن نتبع هذا الدين، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يحكم به، فقال له سبحانه وتعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:49]. فقوله تعالى: ((لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ)) أي: لا وجه للخصومة بيننا وبينكم، قد تبين الرشد من الغي، وقد ظهر الحق، ولذلك كان اليهود يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم حين يجيب على أسئلتهم: أنت نبي، فإذا قال لهم: ما يمنعكم أن تتبعوني؟ يجيبون بأجوبة شتى، البعض منهم يقولون: نخشى أن تقتلنا اليهود، والبعض الآخر يقولون: إن داود دعا أنه لا يزال في ذريته نبي فنحن ننتظر نبياً من ذريته، والبعض الآخر يقولون: أنت نبي إلى الأميين فقط، يقرون له بأنه نبي صلى الله عليه وسلم، وإذا أقروا بذلك قد أقروا له بالعصمة صلوات الله وسلامه عليه، ومع ذلك لا يتبعونه فيظهر منهم الباطل فيما يقولون. فهؤلاء يشهدون أنه نبي يوحى إليه من عند الله، ومع ذلك لا يتبعونه! والنصارى يذهبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون: نحن على دين مثلما أنت على دين. وممن ذهب إليه عدي بن حاتم، فقد كان عدي بن حاتم رجلاً نصرانياً، وذهب للنبي صلى الله عليه وسلم وقد علق الصليب، فلما جلس مع النبي صلى الله عليه وسلم دعاه النبي صلى الله عليه وسلم للإسلام، فقال: أنا على دين، مثلما أنت على دين، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا أعلم بدينك منك، ألست من الركوسية؟ ألست تأكل مرباع قومك وهذا لا يحل لك في دينك) أي: أنت على دين اسمه الركوسية، وفي دينك أنت لا يحل لك أن تأكل مرباع قومك، فقد كان يأخذ الربع من قومه وليس العشر، فقام الرجل تواضعاً للنبي صلى الله عليه وسلم، وعرف أنه كاشف أمره فبدأ يتراجع عما هو فيه. فالنبي صلى الله عليه وسلم دعاه إلى دين الله سبحانه وتعالى، وفي النهاية قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن اليهود مغضوب عليهم، وإن النصارى ضلال، فقال عدي: فإني مسلم)، فدخل في دين الله عز وجل. وجاءت وفود النصارى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولما دعاهم إلى الله رفضوا أن يدخلوا في دين الله عز وجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران:61]، وتهيأ لهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ السيدة فاطمة، وعلي بن أبي طالب، والحسن والحسين وخرج لهم وقال: (تعالوا نتباهل). نذهب إلى الصحراء وندعو على الكذاب أن تنزل عليه لعنة الله عز وجل، فخافوا من ذلك وقالوا: نعطيك ما تريد، ماذا تريد؟ خذ منا الجزية، ولا نتباهل معك، وعرفوا أنه على الحق صلوات الله وسلامه عليه. فلذلك قال الله عز وجل: ((لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ)) أي: ليس عندكم شيء من الصواب الذي تقولون أنكم عليه، ولا وقت للجدال بيننا وبينكم، وقد تبين الرشد من الغي.

المرجع والمآل إلى الله تعالى

المرجع والمآل إلى الله تعالى قال تعالى: {اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا} [الشورى:15] أي: لنا مرجع إلى الله عز وجل، يجازينا ويحاسبنا، فالكاذب والكافر يدخله الله عز وجل النار، والمؤمن التقي يدخله الله عز وجل الجنة، فالله يجمع بيننا يوم القيامة للحساب. فإن الدنيا فيها الخصومة والمجادلة، والذي صوته أعلى يغلب، فلا بد من حكم يحكم بين الاثنين، وقد يميل الحكم إلى هؤلاء وقد يميل إلى هؤلاء، ولكن في الآخرة لا يوجد مثل ذلك، فالله هو الحكم العدل سبحانه وتعالى، والله وحده يحكم بين عباده، وهو الذي يجمع بيننا ليحكم بين عباده يوم القيامة، وليجزي الظالم على ظلمه، وليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بخير جزاء على ما قدموا وعملوا، فإن يوم القيامة يوم الجمع، قال تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن:9] أي: ذلك يوم التغابط، ذلك يوم القيامة، يجمع الله بين عباده، ويجتمع الظالم والمظلوم، والقاتل والمقتول، والمؤمن والكافر، والشقي والتقي، الجميع عند الله عز وجل في موقف واحد، والذكر والأنثى والصغير والكبير، الكل بين يديه، فيفصل بينهم سبحانه وتعالى بالحكم العدل. قال تعالى: ((اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)) أي: إلى الله مصير العباد، وكل يسير في طريقه، وفي النهاية الموت يجمع الجميع، والكل يسير إلى الآخرة، فمنهم من يدخل الجنة، ومنهم من يدخل النار، والله أعلم بحال عباده، فالعقيدة في قلب الإنسان المؤمن أن يؤمن بالله سبحانه وتعالى، وأن الله هو المعبود، وأنه الرب الخالق سبحانه وتعالى، ويؤمن بملائكة الله سبحانه أنهم يطيعون الله، قال تعالى: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]. ويؤمن أن الجنة فيها ملائكة، ويتنعم الخلق بما يفيضه الله عز وجل عليهم من رزق وبركات وتسليم الملائكة عليهم، بل ويسلم عليهم ربهم في جنة الخلود، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها. ويؤمن أن النار فيها ملائكة، قال تعالى: {عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، نسأل الله العفو والعافية، فالإيمان يجعل المؤمن خائفاً من لقاء الله سبحانه؛ لأنه يؤمن بيوم القيامة وأن الله إليه المصير، وأن الله يجمع الخلق يوم القيامة، فهو آمن وصدق وأقر واعترف، فلا بد من العمل طالما أنك مؤمن فاعمل لهذا اليوم، فالإيمان يدفع العبد للعمل، والإيمان بالله يدفعه لحب الله وتوحيده، والإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم يدفعه لمتابعة النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك الإيمان بالرسل عليهم الصلاة والسلام قال تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]، والإيمان بكتب الله سبحانه، يعني: يأخذ شرع الله من كتابه ويقر بالكتب السابقة كلها، ويعتقد أن هذا القرآن العظيم شاهد ومهيمن على الكتب السابقة، ويعمل بما في هذا الكتاب، فهنا الإيمان يدفع للعمل بشرع الله، وللاقتداء بسنة النبي صلوات الله وسلامه عليه، وللخوف من لقاء الله يوم القيامة، قال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37]. كذلك يؤمن بالقضاء والقدر: أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فإذا آمن بالقضاء والقدر كان كل ما ينزل عليه سهلاً على نفسه؛ لأن الله قدر ذلك، فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، كما أخذ هذا الميت سيأخذني أنا أيضاً، فلا أحزن حزناً شديداً يدفعني للسخط على قدر الله، فلا بد أن أرضى بقضاء الله وقدره، وأقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، كلنا ملك لله سبحانه، هو خلقنا، وهو يملكنا سبحانه، وإليه نرجع ليجازينا. وقد كان بين وفاة إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عدة أشهر، ولم يكن يعرف متى يموت صلى الله عليه وسلم، مات ابنه قبله صلى الله عليه وسلم حتى يصبر على فقدانه، ولا يطول عليه الأمر حتى يموت هو بعد ذلك صلوات الله وسلامه عليه. فالإنسان يفكر: إذا مات فلان فإنني سأموت بعده، فلماذا أتسخط على قضاء الله سبحانه؟ أنا راجع إلى الله وسيجازيني، فالإنسان يصبر نفسه، قال تعالى: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200]، فالإنسان المؤمن يصبر لأن الدنيا فانية، فالله قبل ألف وأربعمائة سنة قال: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النحل:1]، فعلى المسلم أن يصبر نفسه، ويواسي نفسه، حتى لا يتسخط على قضاء الله وقدره، وحتى يرضى بقضاء الله سبحانه، وحتى ينال أعظم الأجر عند الله. نسأل الله من فضله ومن رحمته فإنه لا يملكها إلا هو. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الشورى [16 - 17]

تفسير سورة الشورى [16 - 17] أنزل الله سبحانه وتعالى القرآن، وظهر به الحق وبان، فلا حجة للكافرين بعد ذلك، فهم لا يؤمنون بالبعث ولا يرجونه، لكن المؤمنين يؤمنون بيوم البعث، فتراهم مشفقين من ذلك اليوم العصيب، وقد جعل الله سبحانه لقيام الساعة أشراطاً وعلامات؛ ولذلك فإن الساعة من الخمسة الأمور التي اختص الله تعالى بعلمها.

تفسير قوله تعالى: (والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة)

تفسير قوله تعالى: (والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الشورى: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ * اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ * يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} [الشورى:16 - 18]. بعد ما أمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعو إلى هذا الدين القيم بقوله: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [الشورى:15]، أمره الله سبحانه وتعالى بأن يبلغ، ونهاه عن أن يتبع أهواء الكفار الذين يريدون منه أن يتبع ما هم فيه، ويشترطون للدخول في دينه أن يتابعهم في شيء، فلا تتبع أهواءهم، واحذر من هوى هؤلاء فإنهم يريدون أن يضلوك عن سبيل الله سبحانه وتعالى. والمشركون قد حاولوا أن يضلوا النبي صلى الله عليه وسلم، وربنا أثبت ذلك في كتابه سبحانه فقال: {وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء:113]. فحاول الكفار أن يضلوا النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يلفتوه عن دعوته إلى الله، وأن يشغلوه بأمور من أمور الدنيا حتى يتلهى عن هذا الدين. كذلك حاول أهل الكتاب أن يلفتوا النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يشككوا المسلمين في ذلك، فكانوا إذا سئلوا من أهدى سبيلاً؟ قالوا: {هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء:51]، أي: قال أهل الكتاب للمشركين: أنتم أهدى من محمد سبيلاً. فعجب الله عز وجل من أمر هؤلاء: كيف أنهم يعرفون الحق ومع ذلك يقولون للمشركين: أنتم أهدى من هؤلاء سبيلاً؟ بل بلغ الأمر أكثر من ذلك، قال تعالى: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران:72]. فمن الفتن العظيمة أن الكفار فيما بينهم يتفقون، أن يدخلوا في الدين في الصباح، وبالليل يخرجون من هذا الدين، قال تعالى: {قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران:72]، حتى يرى الناس أن هؤلاء يدخلون ويخرجون منه، فيكون الأمر سهلاً، ولكن لم يقدروا على ذلك. فهذا دين الله ونور من عند الله وبرهان من عنده، فهو حجة قوية دامغة، أما هم فحجتهم ضعيفة داحضة، عرف ذلك هرقل عظيم الروم حين ذهب إليه أبو سفيان فقال له هرقل: إني سائلك عن أشياء فلا تكذبني، وسأله عشرة أسئلة، من ضمن هذه الأسئلة قال هرقل لـ أبي سفيان: هل أتباعه الضعفاء أم الأقوياء؟ قال: بل الضعفاء، قال كذلك أتباع الرسل، ثم قال: هل يرتد أحد منهم سخطاً لدينه؟ فقال أبو سفيان: لا، قال: وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب، فأخبر أن دين الله لا يدخل فيه أحد ويرتد ساخطاً لهذا الدين، طالما أن المسلمين يدخلون مع النبي صلى الله عليه وسلم ولا يرتدون عن هذا الدين، إذاً هو من رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم. وكاد هرقل أن يسلم بعد ما سأل هذه الأسئلة وغيرها من الأسئلة كسؤاله لـ أبي سفيان: هل كان أحد من آبائه ملكاً؟ فقال له: لا، قال: لو كان أبوه ملكاً لقلت: رجلاً يطلب ملك أبيه، قال: هل هذا الرجل كان يكذب قبل ذلك عليكم؟ فقال له: لا، لم يكذب، قال: ما كنت لأظن أن يدع الكذب على الناس ويكذب على الله، وسأله أسئلة وفي النهاية جمع حاشيته في قصره، وأغلق عليهم باب القصر، وقال لهم: أهل أدلكم على دينٍ هو خير؟ اتبعوا هذا الرجل، فنخروه وصرخوا ورفعوا أصواتهم، وهرعوا إلى الأبواب ساخطين عليه، ولكن هرقل بخبثه قال: ارجعوا إنما كنت أختبر قوتكم في دينكم. ولم يكن يختبر قوتهم، وإنما أراد أن يرى هل سيكونون معه أم لا؟ فإذا به هو الذي يمشي مع هؤلاء على ما هم فيه من باطل، ويظل على ما هو فيه، فرجعوا وسجدوا له، كأنه أراد من قومه أن يسجدوا له ويطيعوه، ويكونوا معه، لكن يدخل في دين النبي صلى الله عليه وسلم ويضيع عليه الملك فهو لا يريد ذلك، ولما قيل ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ضن الخبيث بملكه)، خاف هذا الخبيث إن يضيع منه الملك، ولكن دين الله هو الذي يبقى، وتقوى الله هي التي تنفع يوم القيامة. وملك آخر هو كسرى ذهب إليه خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الله سبحانه، فإذا به يمزق الخطاب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مزق الله ملكه)، فقتله ابنه، ولم يزل القتل فيهم حتى تولت عليهم امرأة من بناته، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) فانكسرت بجنود كسرى بعد ذلك بما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم. فهذا الملك مزق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، فمزق الله ملكه، وتحكمت فيهم امرأة فضيع الله ملكهم بعد ذلك، ونصر الله الإسلام ونشره، وملك المسلمون بلاد قيصر وبلاد كسرى، وأخذوا ممالك الفرس والروم بفضل الله سبحانه وتعالى. وهنا في الجنوب ملك الحبشة النجاشي واسمه أصحمة ومعناها: عطية رضي الله عنه، هذا الرجل كان نصرانياً يعرف الحق، ذهب إليه المهاجرون برسالة النبي صلى الله عليه وسلم؛ وفيهم جعفر بن أبي طالب أخو علي بن أبي طالب وابن عم النبي صلوات الله وسلامه عليه، وتغيظت قريش وأرادت إرجاع هؤلاء ليعذبوهم وليفتنوهم، فأرسلوا وراءهم مجموعة فيهم عمرو بن العاص وغيره. وذهب هؤلاء الكفار إلى النجاشي وإلى من معه بهدايا كثيرة جداً، وكان أهل الحبشة يحبون الجلود من بلاد العرب، فأرسلوا إليهم بجلود كثيرة هدايا للملك ولبطارقته وجنوده، فقبلوا منهم الهدايا، وفي اليوم الثاني ذهب عمرو بن العاص إلى ملك الحبشة وكان كافراً وكان ذكياً جداً، ذهب ومن معه إلى الملك يوقعون بينه وبين المهاجرين، فجاءوا يحتجون: إن قوماً نعرفهم من أقربائنا قد تركوا ديننا وصبوا، وجاءوا إلى بلادكم، وقد أرسلنا قومنا إليك لنأخذهم ونرجع بهم إليهم، فإذا بالرجل يغضب ويقول: لا والله، كيف أرسل معكم قوماً استجاروا بي ونزلوا بلادي ضيوفاً، لا والله لا تأخذونهم، فرجعوا مخزيين ثم فكروا ليلتهم وقالوا: نرجع إليهم بحيلة، وكان صاحب الحيلة عمرو بن العاص، وكان ذكياً كما ذكرنا. وأصبح في اليوم الثاني وذهب إلى الملك، ثم قال للملك: أيها الملك! إن هؤلاء ليسوا على ديننا وليسوا على دينكم، إنهم يقولون في المسيح مقالة شنيعة، والنصارى يعبدون المسيح من دون الله سبحانه، قال: وماذا يقولون؟ قال: أرسل إليهم، فأرسل إليهم، فبات المهاجرون على رأسهم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه يفكرون ماذا يقولون للملك؟ ثم قالوا: والله ما نقول إلا الحق. وذهبوا إلى الملك في اليوم الثاني وسألهم وقد جمع البطارقة، وجمع من معه وسألهم: إن قومكم يقولون: كذا وكذا فبأي شيء جئتم؟ فأخبروه أنه جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان من أوسطهم نسباً، ومن أفضلهم، ومن أشرفهم صلوات الله وسلامه عليه، جاء بكتاب من عند الله سبحانه وتعالى، وفيه أنه يأمرنا بالتوحيد، ويأمرنا بالصلاة، ويأمرنا بالصدقة، وينهانا عن الفواحش وعن المنكر، قال: هذا دين حسن، فقال له عمرو: اسألهم ماذا يقولون في المسيح؟ فقال: ما تقولون في المسيح؟ قالوا: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء:171]، وإذا بالملك يأخذ عصاه أو قشة من الأرض وقال: والله ما زاد المسيح على ما قالوا بمقدار هذه، وكان من حوله ينفرون مما يقول، فقال: انفروا وإن أبيتم، والله لو قدر لي لأذهبن إليه فلأغسلن قدميه صلوات الله وسلامه عليه. هذا الرجل الذي قد نصره الله سبحانه وتعالى على قومه، قال لقومه: إن الله لم يستأذنكم حتى يرد عليَّ ملكي، فإن ملكه أخذ منه قبل ذلك، فرده الله سبحانه وتعالى عليه، فقال ونسب الفضل لصاحبه: إن الله قد رد إلي ملكي من غير أن يستأذنكم، والله لا أقول إلا كما يقول، ولو كنت أقدر لتوجهت إليه صلوات الله وسلامه عليه، ولغسلت قدميه. هذا الرجل الفاضل العظيم أصحمة النجاشي لما توفي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوفاته فقال: (قوموا فصلوا على صاحبكم، إن أخاكم النجاشي قد مات)، فصلى عليه النبي صلوات الله وسلامه عليه. فانظر الفرق بين هذا الملك العظيم، وبين هؤلاء الذين ضنوا بملكهم وضلوا عن سبيل الله سبحانه، فتمزق ملكهم، وهذا الرجل لما توفي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يضع منه ملكه، بل ظل ملكاً حتى توفاه الله سبحانه وتعالى، هذا الرجل يخبرنا جعفر أنه بعد يومين من ملكه خرج عليه قومه وأراد بعضهم أن يغيروا عليه، فخرج يقاتلهم، فأشفق الصحابة عليه وخافوا، وكان بينهم وبين مكان القتل نهر، فقالوا: من يذهب فينظر خبر المعركة؟ فالمهاجرون يتمن

تفسير قوله تعالى: (الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان)

تفسير قوله تعالى: (الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان) قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} [الشورى:17]، سبحانه وتعالى. بدأ هذه الآية بلفظ الجلالة، هذه الكلمة العظيمة التي تملأ القلوب، وتملأ العقول نوراً وبصيرة، فهو الله سبحانه الذي يعبد وحده لا شريك له. قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ} [الشورى:17]، جاء هذا الكتاب تشريفاً لنا، جاء من السماء من عند رب العالمين، كتاب فيه حكم الله سبحانه، يحكم بيننا ويحكم علينا بحكم الله الملك، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد:41]. فالإنسان يحكم ويجد من يعقب على حكمه، ومن ينقض حكمه، ويستأنف الحكم من جديد، لكن الله يحكم ولا معقب وليس هناك أحد ينقض حكم الله سبحانه، أو أحد يبدأ حكماً جديداً بعد حكم الله سبحانه، قال الله تعالى: ((اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ)) أي: متلبساً بالحق، ونزل حقاً من السماء، ونزل مشتملاً على الحق. هذا كتاب الله سبحانه وتعالى فيه الحق، ونزل من عند الله فهو حق وليس باطلاً، ونزل الكتاب مشتملاً على الحق نزولاً حقاً، نزل وفيه الحق من عند رب العالمين. (والميزان): معطوفة على الكتاب، منصوبة، أي: وأنزل الميزان، أي: أنزل العدل، وأنزل الشريعة التي تأمركم بالعدل، فعلمكم العدل، وعلمكم الوزن، وعلمكم الكيل، ونهاكم عن التطفيف، وعلمكم كيف تصنعون الميزان، والله هو الذي أرشدكم إلى ذلك سبحانه وتعالى، حتى يحق الحق في هذه الدنيا، وحتى يعرف الإنسان ماذا عليه بشرع الله سبحانه وتعالى.

قرب قيام الساعة

قرب قيام الساعة ثم يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} [الشورى:17]، أي: ما يشعرك، وهل تدري ((لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ))؟ والساعة قريب كما أخبر الله سبحانه، وفي يوم القيامة يوم واحد بخمسين ألف سنة، وقال تعالى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47]، فعمر هذه الدنيا قصير، لا تنظر لمن يقول: إن عمر هذه الأرض خمسون مليون سنة أو مائة مليون سنة، فإن آدم لم يكن في الملايين التي يزعمونها هذه، فإن العمر من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى عهدنا ألف وأربعمائة سنة. فقولهم: إن الإنسان القديم من كذا مليون سنة، هذا من الكذب الذي يقولونه، فإن ما بين آدم وبين النبي صلى الله عليه وسلم آلاف من السنين، والله أعلم بها، فقد انقضت سنون من عهد آدم إلى عهد نبينا صلى الله عليه وسلم وصارت عبرة لمن يعتبرون، والآن نحن بعد النبي صلى الله عليه وسلم بألف وأربعمائة سنة، والله قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ((لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ)). ولم يخبرنا سبحانه وتعالى عن الساعة، قال تعالى: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} [الأعراف:187]، وانظر إلى هذه الصفات التي يذكرها الله سبحانه، فالساعة قريبة جداً تنتظرونها كما ينتظر المولود من المرأة الحامل، حتى إذا امتلأ بطنها، واستمر بها حملها، وقرب شهر ولادتها إذا بهم ينتظرون نزول الجنين، قال تعالى: {لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:187]، الكل ينتظرون أهل السموات وأهل الأرض وكأنها المرأة الحامل المثقلة بحملها التي على وشك أن ينزل منها الجنين، قال تعالى: ((ثَقُلَتْ))، أي: ثقلت الساعة على أهل السماء والأرض، قال تعالى: ((لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً))، أي: لا تنزل ولا تأتي إلا بغتة. وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} [الأعراف:187]، أي: كأنك تكثر السؤال عنها، فمحمد صلى الله عليه وسلم لا يسأل إلا عما ينتفع به وتنتفع به الأمة، أما الساعة فالله أخبر أن علمها عنده سبحانه فهو لا يسأل، فقوله تعالى: ((كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا))، أي: كأنك تسأل كما هم يسألون عنها، وكأنك عليم بوقتها، قال تعالى: {إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} [الأعراف:187]، فعلم الساعة عند الله سبحانه وتعالى. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بارزاً للناس، فسأله جبريل: ما الإيمان؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث)، قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:285]، وقال تعالى: {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285]، والمصير: هو اليوم الآخر، وقال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، فهي ستة أصول للإيمان، فالكل يؤمنون بها. فجبريل يسأل ليعلم الناس فيقول للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما الإيمان؟ فأخبره أن الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، وبلقائه، وتؤمن بالبعث، قال: ما الإسلام؟ قال: الإسلام: أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان، قال: ما الإحسان؟ فقال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك). فهذه أصول الإسلام يخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم جبريل، والصحابة لا يعرفون أنه جبريل، فجاء جبريل ليسأل فيتعلم أصول هذا الدين من النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها منزلة عظيمة للنبي صلى الله عليه وسلم أن السائل جبريل والمجيب النبي صلى الله عليه وسلم، والعادة كانت العكس، أن ينزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فيخبر النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: أتاني جبريل بكذا وبكذا. وهذه المرة جبريل في مكان المتعلم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم يجيب، ثم سأل جبريل النبي صلى الله عليه وسلم: (متى الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، وسأخبرك عن أشراطها). إذاً: يعلم النبي صلى الله عليه وسلم علامات الساعة وأشراطها، أما وقتها فلا يعرف النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنها ستكون الساعة في يوم جمعة، ولا يعرف في أي شهر هذه الجمعة وفي أي سنة، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وسأخبرك عن أشراطها: إذا ولدت الأمة ربها -أي: سيدها- وإذا تطاول رعاة الإبل البهم في البنيان). فقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا ولدت الأمة ربها)، يعني: تنسى الأحكام الشرعية فيقع الناس في الحرام وبسبب ذلك تلد الأمة ربها، أي: سيدها، كأن يكون إنسان اشترى أمة واستولدها سيدها، فيكون ابنها حراً ولا يكون عبداً، وإذا توفي السيد تصير الأمة حرةً؛ لأن ابنها أعتقها، والابن لا يجوز له أن يملك أمه، فهذه أمة يملكها هذا الرجل، والرجل وطأ الأمة فأنجبت له الأمة ابناً والابن حر كأبيه، والمرأة أمة كما هي، لأنه اشتراها بماله، أما الزوجة فقد دفع مهرها وأشهد عليها، وأخذها من وليها، فالزوجة شيء والأمة شيء آخر. فهذه الأمة لما ولدت الحكم الشرعي أنه إذا توفي هذا السيد تصير هي حرة، والذي حررها هو ولدها؛ لأن الولد لما توفي الأب صار هو الوارث لجميع مال أبيه، والأمة من ضمن مال أبيه. فصار الولد وارثاً للمال بما فيه الأمة، والأمة أمه، فلا يجوز له أن يملكها في الشريعة، فبمجرد ما انتقلت إلى ملك ابنها صارت حرة. فإذا نسى الناس أحكام الشريعة، وبقي الأمر على ما كان في الجاهلية، أنَّ الولد يملك أمه فيأمرها وينهاها، فإن الساعة تأتي في مثل ذلك. كذلك ينسى الإنسان الأحكام الشرعية فإذا بالسيد بعدما يطأ الأمة ويحبلها يبيعها، فإذا بها تلد الابن، فيأخذ الرجل ابنه ويبيع المرأة، ولا يحل له أن يبيعها، فإذا صارت لغيره ونسيت ابنها في يوم من الأيام فاشتراها ابنها؛ لأن هناك فرقاً بين المرأة وبين ابنها، فصار الابن يملك أمه، وهذا من أشراط الساعة. شرط آخر: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وإذا تطاول رعاة الإبل البهم في البنيان)، فترى الراعي يملك عمارة مائة طابق، يملك عمارة ناطحة السحاب، فالساعة قربت طالما أن هؤلاء الذين كانوا فقراء ومساكين ورعاة يتطاولون في البنيان، فهذه من علامات الساعة، وقد اقتربت الساعة. وانظر إلى البلدان التي كانت في يوم من الأيام مراعي، وأهلها كانوا رعاة للغنم في الجزيرة وغيرها، صاروا أغنى الناس، وصار عندهم القصور العالية، قال تعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة:54]، وليس المعنى: أنه يحرم عليهم أن يملكوا، وإنما المعنى: أنه إذا انقلبت هذه الأوضاع فإن الساعة آتية، فصاروا يملكون ناطحات السحاب، وصاروا يملكون البيوت والعمارات في بلادهم وفي بلاد غيرهم، ويملك الرجل القرية في سويسرا وفي أمريكا، وغيرها من الدول. فإذا صار الأمر على ذلك فانتظروا الساعة؛ لأن هذه من علامات الساعة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رعاة الإبل البهم)، والبهم معناه: المجهولون الذين لم تكن لهم مكانة في يوم من الأيام، كانوا رعاة غنم والآن صاروا ملوكاً ورؤساء على الناس، فإذا صاروا كذلك فانتظروا الساعة. والبهم كأنها صفة للإبل على الكسر فيها، أي: بهيمة الأنعام، ويسميها النبي صلى الله عليه وسلم (حمر النعم)، أي: الأنعام الحمراء، وهي أغلى وأنفس الأنعام عند أصحابها، والسوداء أقل الأنعام ثمناً، ومع ذلك فإن راعي الإبل يصير متطاولاً في البنيان، فهذه من أشراط الساعة في خمس لا يعلمهن إلا الله: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:34]. هذا ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم، فأدبر الرجل بعد ما سمع ذلك ومشى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ردوه)، فأرادوا أن يردوه لكنهم ما وجدوه، وقد جاء إليهم في رواية مسلم: (شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد)، رجل غريب وثيابه نظيفة جداً شديدة البياض، وشعره أسود لا يرى عليه أثر سفر، قال: (ولا يعرفه منا أحد)، فهو آتٍ من قريب، ومع ذلك لا أحد يعرف هذا الإنسان، فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ردوه)، وفطن له النبي صلى الله عليه وسلم في النهاية حين انصرف فقال: (أتعلمون من السائل؟ قالوا: لا، قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم). أي: جاء جبريل يعلمكم أمر دينكم؛ لأنكم لم تسألوا عن هذه الأشياء المهمة، فجاء جبريل يسأل فأوضح لكم هذه الأشياء. قال تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} [الأحزاب:63]، أي: أن الساعة قريبة. روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: عائشة: (كان رجال من الأعراب جفاة يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسألونه متى الساعة) أما أهل الإيمان فلا يسألون عنها، لأن الساعة عند أهل الإيمان هي الموت، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين). فساعة كل إنسان ستأتيه، سواء جاءت الساعة الكب

تفسير سورة الشورى الآية [19]

تفسير سورة الشورى الآية [19] الله عز وجل لطيف بعباده، فقد خلقهم سبحانه وأسبغ عليهم أنواع النعم والخيرات، وأرسل إليهم الرسل وأنزل عليهم الكتب، وبين لهم طريق الخير من طريق الشر، كما أنه سبحانه يدفع عنهم البلايا والمصائب والمحن، وكل ذلك من لطفه سبحانه وتعالى ورحمته بهم.

تفسير قوله تعالى: (الله لطيف بعباده يرزق من يشاء)

تفسير قوله تعالى: (الله لطيف بعباده يرزق من يشاء) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الشورى: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ * مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ * أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ} [الشورى:19 - 22]. يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن اسم من أسمائه وصفة من صفاته العظيمة وهي: صفة اللطف منه سبحانه وتعالى، ومن أسمائه اللطيف، قال سبحانه: ((اللَّهُ لَطِيفٌ))، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة) أي: عد هذه الأسماء، وعرف هذه الأسماء، وحفظها، وعرف معانيها، واستعمل هذه الأسماء في دعائه، فاختار الاسم المناسب للدعاء الذي يريده، فدعا ربه عز وجل به، وذكره به، فالله عز وجل يكشف عنه ما به ببركة استخدامه ذكر الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى. وقوله: ((اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ)) الله اللطيف سبحانه، واللطف فيه معنى البر منه سبحانه وتعالى، وفيه معنى اللطف والرفق بالعباد، والعلم الخفي بهم، ولننظر إلى آيات الله سبحانه وتعالى، فإنه قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: ((اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ))، وهم يؤذون النبي صلوات الله وسلامه عليه، والسورة مكية، وهم يبتعدون وينفرون الناس عنه، والله يلطف بهم، ويرزقهم ويعطيهم، ويمد لهم؛ لعلهم يرجعون إليه سبحانه وتعالى. انظر إلى إبراهيم وهو يدعو ربه سبحانه: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة:126] إبراهيم الخليل الذي اجتباه الله واصطفاه بني بيت الله الحرام، ودعا ربه: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} [البقرة:127]، ودعا ربه سبحانه أن يجعل ذريته ذريةً مسلمة له سبحانه، وأن يرزق المسلمين من فضله سبحانه، فكان جواب الله عز وجل: {قَالَ وَمَنْ كَفَرَ} [البقرة:126] فهو سبحانه وتعالى لا يمنع رزقه عن مؤمن ولا عن كافر، فقد يضيق على من يشاء ولا يمنعه، فكل إنسان خلقه الله خلق له رزقه معه، فرزق الله سوف يأتيك، ولو أنك تفر من رزقك كما تفر من موتك لأتاك رزقك كما يأتيك الموت، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أن ابن آدم فر من رزقه كما يفر من الموت لأتاه رزقه كما يأتيه الموت). وهذا من لطف الله سبحانه وتعالى بعباده، فالله لطيف بهم حفي بهم كريم بهم بر بهم يوصل إليهم أرزاقهم بشيء لطيف خفي، فلا يدري الإنسان حين يخرج من بيته ما الذي يحضره اليوم؟ وما الذي يرزقه الله اليوم؟ فإذا بالله يسبب أسباباً لطيفة خفية، حتى يصل إليه رزقه الذي قسم له، فهو سبحانه يرزق من يشاء من عباده ويمنع من يشاء بلطفه سبحانه؛ فقد تكون محتاجاً لشيء، وتجد ذلك الشيء أمامك، فتمد يدك لتأخذه فيضيع منك، ويأخذه غيرك؛ لأنه لم يقسم لك، فتحزن أنت في نفسك على أن هذا فاتك، ولكن الله لطيف بعباده سبحانه، علم الله بعلمه الخفي أنك لو أخذت هذا لضرك، فمنعه عنك، ومنع عنك الضرر الذي يكون من ورائه، فلا تدري أن الله سبحانه يعطيك بفضله سبحانه، ويمنعك بفضله وبعدله سبحانه وتعالى، فهو سبحانه يتفضل عليك؛ فإذا به يمنع عنك شيئاً سيضرك بعد ذلك، وأنت لا تدري، وأنت تظن أنه نفع محض، والله يعلم أن هذا يؤذيك ويضرك في دينك ودنياك وأخراك فيحجب عنك ذلك ويمنعه بلطفه الخفي تبارك وتعالى. إذاً: الله لطيف بر رفيق بعباده سبحانه في إيصال المنافع لهم، وفي صرف البلاء عنهم من وجه يلطف إدراكه، أي: يخفى إدراكه، فقد تدعو ربك: يا رب! أعطني، كذا يا رب! أعطني كذا، يا رب! أعطني كذا، وأنت مؤمل أن يعطيك، فيعطيك الله سبحانه، وقد تدعو ربك وتلجأ إليه سبحانه: يا رب! أعطني كذا، فلا يعطيك؛ لأنه يعلم أنه سوف ينزل بك بلاء لو أنك أخذت ذلك الشيء، فيصرفه عنك، ويرفع عنك ذلك البلاء، فأنت قد تدرك أن هذا لم يأتك، ولكن الله سبحانه قد صرف عنك بلاءً شديداً، لعله مرض ينزل بك، أو مصيبة تنزل بأحد ممن تحبهم، فيرفع الله عز وجل ذلك.

أنواع استجابة الدعاء للعبد

أنواع استجابة الدعاء للعبد والدعاء مستجاب للعبد بواحد من ثلاثة: إما أن يعطيك الله عز وجل ما طلبت، وإما أن يصرف عنك من الشر مثل هذا الذي سألته من الخير، وإما أن يدخر لك ذلك إلى يوم القيامة، ويوم القيامة يوم شديد، كثير الكروب، لا مهرب من الله سبحانه ولا منجى منه إلا إليه، فيعلم الله أنك تأتيه محتاجاً لحسنات، فقد تنفد حسناتك يوم القيامة، فربما أنك ظلمت فلاناً، وشتمت فلاناً، وقذفت فلاناً، فتأتي يوم القيامة وقد ضاعت حسناتك في ذلك، واحتجت لحسنات، فأخر لك دعاءً لم يستجبه فتنتفع به في يوم القيامة، فتتمنى يومئذٍ لو أن الله عز وجل لم يستجب لك دعاءً من أدعيتك، وأنه ادخر جميعها إلى يوم القيامة.

وجوب الثقة بالله عز وجل ولطفه

وجوب الثقة بالله عز وجل ولطفه فعلى العبد أن يثق في لطف الله سبحانه وتعالى، فإذا عجل لك شيئاً فقد ادخر لك أشياء، فتحمد ربك أنه لم يعطلك الدنيا كلها، فقد كان أصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه يقولون: نخشى أن تكون عجلت لنا طيباتنا؛ لأن الكفار عجلت لهم طيباتهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فقد رآه عمر بن الخطاب في مشربة له -في غرفة مرتفعة- وكان قد خاصم صلوات الله وسلامه عليه نساءه، فأراد الناس أن يستأذنوا عليه، فلم يدخل عليه أحد، فجاء عمر يستأذن ليدخل على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أبو زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو وزير النبي صلوات الله وسلامه عليه في أمره وفي دعوته عليه الصلاة والسلام، فاستأذن فلم يأذن له، فاستأذن ثانية فلم يأذن، فاستأذن ثالثة فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم، ودخل عمر رضي الله عنه، قال: فما وجدت شيئاً يرد البصر، الحجرة التي فيها النبي صلى الله عليه وسلم لا تحوي شيئاً يرد البصر؛ لأن الإنسان الذي يدخل ويريد أن ينظر في هذه الغرفة لا يجد شيئاً يرد بصره؛ لأن الغرفة خالية لا تحوي شيئاً إلا سريراً ينام عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا السرير مفروش بحصير، والحصير قد أثرت في جنب النبي صلى الله عليه وسلم، فجلس ونظر عمر فلم يجد إلا إهاباً معلقاً، جلد خروف قبل أن يدبغ، وكأنه جاهز ليدبغ. فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: أنت! وأنت رسول الله هكذا، وقيصر وكسرى على الحرير وعلى الذهب؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟! قال: لا. قال النبي صلى الله عليه وسلم: أولئك قوم قد عجلت لهم طيباتهم) كأن الله سبحانه أعطاهم الدنيا حتى يحرموا من الآخرة، فلا يكون لهم عند الله عز وجل يوم القيامة شيء، فإذا صنعوا معروفاً في الدنيا جوزوا عليه في الدنيا، أما الإنسان المؤمن فيدخر له إلى يوم القيامة. ((اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ)) يلطف بك بعلمه الخفي، وبره الحفي، فيعطيك شيئاً، ويدخر لك الكثير عنده سبحانه وتعالى، وهذا الذي يصنعه الإنسان الذي يخاف على نفسه من الدنيا، ويخاف على نفسه من النار يوم القيامة، ينفق في الدنيا شيئاً، ويدخر عند الله عز وجل الأشياء الكثيرة التي تنفعه، فقد ورد أنهم ذبحوا للنبي صلى الله عليه وسلم شاة وفرقوا منها، فلما جاء صلوات الله وسلامه عليه سأل فقال: (ما بقي منها؟ قالت له عائشة: لم يبق منها إلا الكتف، فقال: بل بقي جميعها إلا الكتف)، أي: الذي وزعتموه على الفقراء والمساكين هو الذي بقي ليوم القيامة، وهو الذي نؤجر عليه، والذي أكلناه في الدنيا فقد أكلناه ونفد، قال عز وجل: {مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96] فالشيء الذي معك في الدنيا هو القابل للنفاد، وأما الذي ادخرته عند الله فهو باقٍ لا يضيع أبداً.

من صور لطف الله عز وجل بعباده

من صور لطف الله عز وجل بعباده قال تعالى: ((اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ)) لطف الله عز وجل ذكرنا أنه بمعنى البر، وبمعنى الرفق، وبمعنى الاحتفاء والإكرام لأوليائه سبحانه وتعالى، وكذلك من لطفه سبحانه: العلم بغوامض الأشياء، فالأشياء الغامضة التي يشكل عليك أمرها الله يعلمها تبارك وتعالى، ويفرج عنك ما أشكل عليك من ذلك. كذلك من لطف الله سبحانه: أن ينشر مناقب العباد، وأن يستر مثالبهم، فالله لطيف بعباده، تجد الشيء الخيّر الذي تفعله الله عز وجل ينشره، وتجد من يقول لك: جزاك الله خيراً على ما فعلت، وقد تستر هذا الشيء، ويشاء الله عز وجل أن يعرف؛ ليشكرك الناس، وأنت لم تطلب ذلك. والذنوب التي أفعلها بيني وبين ربي من لطفه أنه يسترها سبحانه وتعالى، فالله لطيف بعباده، يستر عليك ذنوبك، فلا أحد يطلع على شيء قد ستره الله سبحانه وتعالى، ولم يؤاخذك بها في الدنيا، ولم يفضحك بها في الدنيا، فلطف بك، ونشر ما تمدح به، وستر ما تذم به من لطفه وكرمه سبحانه وتعالى. ومن لطفه أن كلف العباد عبادته، وكلفهم بما هو دون طاقتهم، ولم يكلفهم ما هو فوق الطاقة، والله عز وجل كلف عباده بأن يعبدوه بأشياء معينة، وبطرق معينة، قال سبحانه: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]. ولكن هل كلفنا الله طاقتنا جميعها؟ أبداً والله! بل الله سبحانه رحيم لطيف بعباده، كلفنا أقل من ذلك، كلفنا أن نصلي خمس صلوات في اليوم والليلة، وموسى عليه الصلاة والسلام استثقلها على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقال: إن أمتك لا يطيقون ذلك. وها نحن نصلي الخمس الصلوات، ونصلي التراويح، ونصلي النوافل، ونقدر عليها، ونقدر على أكثر منها، ولم يكلفنا الله سبحانه إلا ما هو أقل، وكلفنا أن نصوم شهر رمضان، فنحن نصوم رمضان، ونصوم ستاً من شوال، ويوم عرفة، ويوم عاشوراء، وقد يصوم البعض الإثنين والخميس، وغير ذلك. فعلم الله أنكم تقدرون، ولكنه بفضله كلفكم الشيء الأقل؛ وحتى لا تتعبوا، وحتى لا يشق عليكم، وحتى لا تتركوا العبادة فكلفكم بما تطيقون، وبأقل مما تطيقون أيضاً، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، فإنه سبحانه لما أمرك أن تنفق قال: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7] ولم يكلفك الشيء الذي لم يؤتك إياه، وقال: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7] فكلفك الله بالإنفاق الواجب على زوجتك، وعلى عيالك، وعلى أمك، وعلى أبيك بما أتاك الله، فإذا كنت قليل المال فمن هذا المال القليل، وإذا كنت كثير المال فمن سعتك ومن طاقتك، ومع ذلك يعطيك أكثر مما تنفق، ووعد سبحانه أنه لا ينقص المال من النفقة ومن الصدقة، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ولا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها، هذا رزق الله، وهذا كرم الله سبحانه، فالله لطيف بعباده. وحين تنزل المصيبة في مكان ويتأمل الإنسان ويقول: يا ترى ماذا سيفعل أهل هذا المكان؟ فمن لطف الله عز وجل أنه يرفع هذه المصيبة، ويرفع هذا البلاء، ويرزق أهله الصبر عليه. فالإنسان يتوقع لو حصل فيّ شيء فلن أستطيع أن أصبر على هذا الشيء، فيقع عليك وتصبر عليه؛ لأن الذي لطف بك هو الله سبحانه وتعالى، والذي صبرك وقدرك وأعانك على هذا البلاء هو رب العالمين تبارك وتعالى. فانظر إلى السيدة أم سلمة رضي الله عنها حين توفي زوجها أبو سلمة رضي الله عنه، وكان أبو سلمة خير الناس لها، وهي لا تظن أن أحداً من الناس خير من أبي سلمة رضي الله عنه، فلما مات حزنت عليه حزناً شديداً، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يعلمها أن تدعو وتقول: (اللهم أجرني في مصيبتي، واخلف لي خيراً منها)، وأن تقول: (إنا لله وإنا إليه راجعون). فالإنسان قد تنزل به المصيبة، والذي أنزلها هو الله، والذي يكشفها هو الله، والذي يعين عليها ويصبِّر عليها هو الله، فالله لطيف بعباده سبحانه، فعلمها فقالت ذلك الدعاء، قالت: ولكن كنت أقول: أبو سلمة مات وأقول: اخلف لي خيراً منه، من خير من أبي سلمة؟ وكونها تقول: اخلف لي خيراً منه، قد يخلف لها في الدنيا فيعطيها زوجاً آخر، وقد يعطيها صبراًَ ورزقاً ويعطيها ما يشاء تبارك وتعالى، ولا يشترط أن يكون الخير أن يرزقها زوجاً، فهي ظنت أنه لا أحد خير من أبي سلمة. وتمر الأيام والليالي، وتمر عدتها، وإذا بالذي يخطبها هو النبي صلوات الله وسلامه عليه، وهذا شيء ما كان على بالها أبداً، فلم يكن في بالها أن النبي صلى الله عليه وسلم سوف يخطبها، ولذلك قالت: من خير من أبي سلمة؟ فهي تظن أنه لا أحد خير من أبي سلمة لا أبو بكر ولا عمر ولا غيرهما، وكل امرأة عندها زوجها هو خير ما يكون، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يخطبها ويتزوجها، قالت: (فأبدلني الله خيراً منه)، أبدلها الله خيراً من أبي سلمة بسيدنا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه. فالله لطيف بعباده؛ يلطف بك من وجه أنت لا تستشعره، ولا تحسه؛ فإذا بلطف الله يأتي ويخفف عنك البلاء، يكشف البلاء، ويرفع عنك الحرج الذي أنت فيه والهم والغم والمصيبة. والمسلمون الذين هاجروا إلى الحبشة مرة، وهاجروا مرة أخرى، وهاجروا إلى المدينة، هاجروا وهم لا يدرون إلا أن هناك الجنة، وهناك الأجر من الله سبحانه وتعالى، لكن كم مقدار هذا الأجر؟ هل كانوا يتوقعون أن يخلد الله ذكرهم بأن يذكرهم في القرآن ويصفهم المهاجرين السابقين الأولين لأنهم هاجروا إلى مكان الإيمان؟ وأهل المدينة هل كانوا يتوقعون أن يذكرهم الله سبحانه، ويخلد ذكرهم لأنهم تبوءوا الدار، وتبوءوا الإيمان، وكانوا هم الذين ينصرون الله ورسوله؟ فالمهاجرون الصالحون والأنصار المفلحون ما كانوا يتوقعون أن الله يمدحهم في الدنيا، ويذكر ذلك، فإذا بالله يمدح هؤلاء وهؤلاء بما يدوم إلى يوم القيامة من ذكرهم رضي الله تبارك وتعالى عن جميعهم. فالإنسان المؤمن يفعل الخير وهو يحسن الظن في الله، وهو يؤمل فضل الله، فالله لطيف بعباده، ((اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ)).

ذكر بعض ما قاله أهل العلم في معنى لطف الله عز وجل

ذكر بعض ما قاله أهل العلم في معنى لطف الله عز وجل من لطف الله سبحانه ما ذكره أهل العلم: قال الحسين بن فضل: لطيف بهم في القرآن وتفصيله وتيسيره، يعني: أن من لطفه سبحانه وتعالى أنه نزل هذا القرآن العظيم السهل الممتلئ، فإن القرآن سهل جداً، كما قال عز وجل: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [القمر:17] فكل إنسان يفهم العربية ويقرأ القرآن يفهم هذا الذي يقوله الله سبحانه، لكن هذا الشيء السهل جداً هل تقدر أن تأتي بمثله؟ لا تقدر، فإن ذلك صعب جداً، بل مستحيل، كما قال عز وجل: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88]. فاذهب واحفظ قواميس اللغة كلها، واعرف كلام العرب كله، وحاول أن تأتي بمثله، فلن تقدر؛ فإن العرب كانوا عارفين بهذا الشيء، ولكنهم ما قدروا على ذلك أبداً، ولا استطاعوا إليه سبيلاً، وقد حاولوا فما وصلوا. فمن لطف الله أنه أنزل هذا القرآن العظيم شريعة ومنهاجاً، وقال: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [القمر:17] فتحفظ كتاب الله فتجده سهلاً، وبقدر الآيات التي تحفظها لو أعطوك كلام أناس تحفظه فإنك ستجده صعباً وتقول: لا أستطيع، وهكذا أبيات الشعر، لكنك تستطيع أن تحفظ من القرآن ما يشاء الله سبحانه وتعالى، والقرآن ميسر الفهم، فأنت تفهم القرآن، وكل من يفهم العربية يفهم القرآن، والله يفضل بعضكم على بعض في الفهم؛ فإذا قرأت الآية: ((اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ))، فإن كل واحد يفهم أن الله لطيف، فعندما تنزل مصيبة بإنسان يقول: يا لطيف! يا رب! الطف بنا، تجد الإنسان يقول هذا من غير أن يعرف اللغة العربية، فالله لطيف بعباده، لطف الله سبحانه بعباده فكان براً بهم، وحفياً بهم، ورفيقاً بهم، أوصل إليهم النفع بطرق خفية، وأحدهم لا يدري من أين يأتي هذا النفع إليه، تشتد بهم المصيبة حتى تبلغ الذرى فإذا بفضل الله يأتي وتنكشف الكرب التي هم فيها، فالمصائب إذا نزلت وجلت وعظمت، فكلما عظمت إذا بالله يخففها فترتفع، والبلاء حين يشتد ينفرج، كما قيل: اشتدي أزمة تنفرجي، فإذا اشتدت الأزمة ونزل الكرب بالإنسان جاء لطف الله سبحانه، فانكشفت هذه الأزمة، كما قال الشاعر: ولرب نازلة يضيق بها الفتى ذرعاً وعند الله منها المخرج ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرج فقد يشتد البلاء والأزمة فتقول: لا أستطيع، لا أقدر، وإذا بلطف الله يأتي، وترى المريض يبيت في البيت يصرخ ويصرخ، ويطلع الصبح فيقول: سبحان الله! كانت ليلة شديدة، فإذا اشتد الكرب جاء الفرج من عند الله سبحانه، وذهب هذا الشيء، وهذا من لطف الله سبحانه وتعالى، وكلنا نفهم هذا المعنى. وقوله: ((يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ)) أي: يعطي من يشاء الرزق. وقوله: ((وَهُوَ الْقَوِيُّ)) أي: القادر القاهر العزيز سبحانه.

من لطف الله تعالى تيسيره لفهم القرآن

من لطف الله تعالى تيسيره لفهم القرآن والكل يفهم هذا المعنى، فإذا جاء أهل العلم فهموا منها أعلى مما يفهم غيرهم، فالله لطيف، وكلمة (لطيف) في اللغة معناها كذا ومعناها كذا، ولطيف من لطف، والله عز وجل إذا عبر عن نفسه أنه لطيف فهي من (لَطَف (بالفتحتين، وليس من (لَطُف) بالفتح والضم، فأنت محتاج أن تعرف هذه الأشياء، وليس كل إنسان يقدر أن يعرفها، قال عز وجل: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [القمر:17] فإذا بالعالم يفهم أشياء عظيمة يفرح بها، وإذا بالأمي يفهم أشياء في نظره أيضاً هي عظيمة يفرح بها، فأنا فهمت، وأنت فهمت، والثالث فهم، والعالم فهم، والجاهل فهم، وكل فهم ما يقصده الله سبحانه وتعالى. فمثلاً: قول الله عز وجل: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] هل يأتي إنسان ويقول: لا أفهم معنى كون الطلاق مرتين؟ A لا، بل يفهم أنه لك أن تطلق مرة وتراجع، وتطلق مرة أخرى وتراجع، فإن طلقها الثالثة فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره، فالإنسان يفهم هذا، وفهم هذا، وفهم أهل العلم من وراء ذلك. فأعطى الله عز وجل كل إنسان على قدر ما آتاه من علم أعطاه فهماً وفقهاً، ولا يحرم أحداً، بل الكل يقرأ القرآن فيفهم ولو المعنى العام الذي تدل عليه هذه الآيات، فيفرح بأن يسر الله عز وجل له دينه. قال عز وجل: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] أي: هل من متعظ؟ فإنك تقرأ قصيدة من قصائد الشعر فتقف عند كل بيت قليلاً وتقول: ماذا يقصد هنا؟ وهكذا البيت الثاني، ويمكن أن تقف عند القصيدة كلها، وإذا قرأت السورة من القرآن فمستحيل أن يكون الأمر كذلك؛ فإن هذا كتاب رب العالمين نزل للخلق جميعهم هداية من رب العالمين، فجعله سهلاً، فاقرأ القرآن يفهمك الله سبحانه، ويعلمك الله، كما قال سبحانه: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:282]. إذاً: من لطف الله سبحانه أنه نزل القرآن ويسره وفصله، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يفهمهم ما قد يشكل عليهم منه، وعلم أهل العلم ففهموا وفطنوا، وعلَّموا خلق الله ما يريده الله سبحانه وتعالى.

لطف الله بأوليائه

لطف الله بأوليائه قال الجنيد: لطف بأوليائه حتى عرفوه، ولو لطف بأعدائه لما جحدوه. فمن لطف الله عز وجل أنه جعل أولياءه يعرفونه، قال عز وجل: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63] فإن كنت تريد أن تكون ولياً فالأمر سهل، وليس صعباً، فالناس يرون أن الأولياء هم الذين ماتوا. وأن الأولياء هم سيدي فلان، وسيدي فلان، وقد يكون هؤلاء من الأولياء، ولكن الولاية لم يحجرها ربنا على قوم دون غيرهم، بل الله عز وجل يقول: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62] من هم أولياء الله؟ قال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63] فآمن واتق ربك تكن من أولياء الله سبحانه وتعالى. فأولياء الله تولوا ربهم ولم يتولوا غيره، ولم يشركوا بالله سبحانه، وتوكلوا على الله، ولم يكلوا أمورهم لغيره سبحانه، وأخذوا بالأسباب ولم يتكلوا، وكانوا رءوساً في دين الله سبحانه وتعالى، وتوجهوا إلى ربهم فاستعانوا به فأعانهم، وآمنوا فاستشعروا بحلاوة الإيمان، ولا يستشعر الإنسان حلاوة الإيمان حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، فكن كذلك تكن ولياً لله سبحانه وتعالى. فاستقم على طريق الله سبحانه حتى يعطيك من فضله ومن رحمته ما يوصلك إلى هذا المقام العظيم، مقام التواضع بين يدي الله سبحانه، مقام هضم النفس، وترى نفسك أنك لا شيء، فكلما زادك الله علماً ازددت علماً بجهلك، وكلما زادك الله مكانة ازددت تواضعاً، وكلما أعزك الله سبحانه هضمت أنت نفسك؛ حتى تكون ولياً لله سبحانه وتعالى. قال الجنيد: لطف بأوليائه حتى عرفوه. أي: حتى عرفوا الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، علموا أن الله هو القاهر القوي الغالب القادر، علموا أن الله هو الرحمن الرحيم، اللطيف، الخبير، عرفوا الله بأسمائه الحسنى، عرفوا الله من شرعه، عرفوا الله من آياته، رأوا في كل شيء لله عز وجل آية: وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد فمن لطف الله أن عرفهم، ويسر لهم العلم فتعلموا، فكانوا أولياء الله سبحانه وتعالى. قال: ولو لطف بأعدائه لما جحدوه. وهذا محمد بن علي الكتاني يقول: اللطيف بمن لجأ إليه من عباده إذا يئس من الخلق. أي: أن الله سبحانه هو اللطيف بمن لجأ إليه وقد يئس من العباد، وجد كل الناس يخذلونه، ولا أحد يقف بجواره، وجد نفسه مظلوماً، وعادة الناس أن يقفوا مع القوي، فإن كان القوي هو المظلوم وقفوا معه، وإن كان القوي هو الظالم وقفوا معه؛ لأنهم يخافون من الظالم القوي، فيكونون معه، وهذه عادة الناس، فإذا استيئس الإنسان من الناس لجأ إلى رب الناس سبحانه فلطف به سبحانه وأعطاه وكان معه، قال سبحانه: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110]. فقوله: ((حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ)) أي: يئسوا من إيمان قومهم، وحصل عندهم اليأس من إيمان قومهم، كما قال نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام يذكر قومه: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:27] أي: هؤلاء لو تركتهم يا رب فأولادهم سيكونون مثلهم، فأنا قد بلوتهم وخبرتهم، وعشت معهم، كما قال سبحانه حاكياً عنه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح:5 - 12]. دعاهم بالترغيب ليل نهار، ولكن لا فائدة، ولذا قال: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:13] أي: لا تخافون من ربنا؟ فدعاهم بالترهيب والتخويف، وقال: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح:13 - 14]، وذكر لهم آيات الله سبحانه، وفي النهاية: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح:26] أي: لا يوجد فائدة يا رب! فقد صار لي ألف سنة أدعو هؤلاء القوم، ولكن لا فائدة {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:26 - 27] أي: لا فائدة فيهم، كما قال سبحانه: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف:110] أي: ظن الرسل أن قومهم كذبوا بهم، جاءهم نصر الله. فظن الرسل أنهم قد كذبوا، أي: حدث لهم ظن أن قومهم كذبوهم، وظن أتباعهم أن رسلهم قد كذبوا، وأنهم لم يفهموا عن ربهم ما أراده سبحانه. فالأمر ضيق جداً، والرسل يجدون الكفار يكيدون لهم، والأتباع بدوا يتشككون، فلما ضاق الأمر جاء أمر الله سبحانه وتعالى. وقوله: ((فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ)) [يوسف:110] أي: فينجي الله بعظمته سبحانه وتعالى المؤمنين. وقوله: {وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110] هذا من لطف الله بعباده المؤمنين؛ حتى لا يصلوا إلى الشك، فيكفروا بالله سبحانه وتعالى، فإذا بنصر الله يأتي، ونصر الله قريب، فالله لطيف بمن لجأ إليه من عباده إذا يئس من الخلق، فإذا توكل على الله سبحانه، ورجع إليه، قبله الله سبحانه، وأقبل الله عز وجل عليه.

لطف الله بعباده

لطف الله بعباده قوله: ((اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ)) ينشر من عباده المناقب، ويستر عليهم المثالب، ينشر مناقب عباده، فتسمع عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يفعلون كذا وكذا، وكان جعفر بن أبي طالب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم في الكرم، فكان رضي الله تبارك وتعالى عنه من أكرم الناس، ولما قتل إذا بأكثر من مائة بيت من أبيات المدينة يستشعرون: أين الطعام الذي كان يأتينا؟ فقد كان يذهب في الخفاء بالليل بالطعام للبيت الفلاني من غير أن يعرفوا من الذي جاء إليهم بذلك، فإذا بهم لما قتل شهيداً رضي الله عنه يفتقدون الطعام الذي كان يأتيهم، فـ جعفر رضي الله عنه الله كتم ذلك وأسره طاعة لله، وابنه كان يقتدي بأبيه رضي الله تبارك وتعالى عنه، وقتل شهيداً رضي الله عنه، وكان باراً كريماً رضي الله عز وجل عنه، فجعل الله له جناحين يسرح ويطير بهما في الجنة، ويأخذ من أرزاق الجنة من حيث يشاء. فلم يكن وهو ينفق على الناس يقول: أنا جعفر بن أبي طالب أعطيكم هذا الطعام، وإنما كان يكتم ويستر؛ ولما مات نشر الله سبحانه وتعالى له هذا الفضل، فنعرف فضله، ونعرف فضل المنفقين من أصحاب النبي رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، أسروا طاعة الله سبحانه؛ فإذا بالله ينشرها، ويطلع المؤمنون على فضل الله على هؤلاء، فيقتدون فهم، ويؤجر أولئك الصحابة مثل أجرهم، وكمثل أجر من يعمل بأعمالهم إلى أن تقوم الساعة. ((اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ))، فهو الذي يظهر الجميل، ويستر القبيح سبحانه، ويبذل الكثير، وييسر العسير بفضله وكرمه. نسأل الله من لطفه وكرمه وفضله ورحمته فإنه لا يملكها إلا هو. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الشورى [19 - 23]

تفسير سورة الشورى [19 - 23] الله سبحانه لطيف بعباده، فقد جعلهم شعوباً وقبائل وسخر بعضهم لبعض لتبادل المنافع، ومن كان عمله لله عز وجل وجد ثمرته في الآخرة، ومن لم يبتغ بعمله الدار الآخرة يؤتيه الله ثمرة هذا العمل في الدنيا وقد لا يؤته، وفي يوم القيامة يفصل الله فيه بين عباده، فمنهم من يدخل النار جزاء ما قدم، ومنهم من يدخله الله الجنة جزاءً بما كانوا يعملون.

تفسير قوله تعالى: (الله لطيف بعباده يرزق من يشاء)

تفسير قوله تعالى: (الله لطيف بعباده يرزق من يشاء) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الشورى: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ * مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ * أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ} [الشورى:19 - 22]. قال الله عز وجل: ((اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ)) سبحانه وتعالى، واللطيف: البر الرفيق سبحانه وتعالى، يبر عباده ويعطيهم ويرزقهم ويمنحهم سبحانه، واللطيف: ذو العلم الخفي، والتقدير المحكم الجميل سبحانه وتعالى، له في عباده لطفٌ في إيصال الخير لهم، وفي صرف الشرور عنهم؛ ولذلك عقب ذلك بقوله: ((اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ)). يرزق العباد بعضهم من بعض، والله عز وجل له حكمة عظيمة إذ جعل هذا صغيراً وهذا كبيراً، وهذا يريد هذه الصنعة، وذاك يريد صنعة أخرى، وجعل عباده يحتاج بعضهم لبعض، وهذا من لطف الله بعباده، ولو أن كل إنسان قدر أن يخدم نفسه، وقدر على كل مصالحه، ما احتاج واحد لآخر، لكن الله سبحانه قال: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13]. والإنسان عندما يرى نفسه مستغنياً عن خلق الله سبحانه يستكبر عليهم، ولا ينظر لأحد منهم، ويرى أنه لا يريد من أحد شيئاً، فلا يريد أن يعرف أحداً، ولا يتعرف على غيره إلا إذا احتاج إليه في يوم من الأيام، قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7]، وطبيعة الإنسان إذا استشعر في نفسه الغنى لم يعد يحتاج إليك، فتراه يتكبر على الخلق، بل يتكبر على خالقه سبحانه وتعالى، ونسي أن الله هو الذي أعطى له ذلك، فإذا به يشرك بالله سبحانه، ويعبد غير الله، فإذا ضيق ربه عليه رجع إلى ربه يقول: يا رب يا رب! قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ} [الزمر:8]، وقال تعالى: {فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} [الزمر:49]. وهذه طبيعة عجيبة في الإنسان، فالإنسان عندما يضيق الله عليه يقول: يا رب! أعطني، فإذا أعطاه من فضله نسي ذلك وقال: بعملي وجهدي وذكائي، أنا وارث مال كذا، وربنا يعطيني لأني أستحق ذلك، فيغتر ويتكبر ويمن على ربه، بأنه يعبد الله سبحانه وتعالى، فلذلك من حكمته سبحانه أن جعل العباد فقراء، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [فاطر:15]. فيستشعر الإنسان الفقر في نفسه، فإنه مهما أعطاه الله الغنى يخاف أن ينقص المال، فيريد مالاً أكثر؛ لأنه يخاف أن يفاجأ بصروف السنين، فيحس أنه سيحتاج في يوم من الأيام، فيريد أن يكثر المال؛ لأن الإنسان فقير بخلقته وبطبعه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15]. فالله وحده سبحانه الغني، وخزائنه ملأى لا تنفد، سحاء الليل والنهار، ينفق ويعطي عباده دائماً، وخزائنه لا تنفد أبداً. والإنسان ظلوم كفار، ظلومٌ لنفسه، يشرك بربه، ويكفر نعم الله عز وجل عليه، قال تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34]. والله لطيفٌ بعباده سبحانه، فمن لطفه أن جعل بعضكم لبعض سخرياً، قال تعالى: {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف:32]، أي: سخره بأجره واستخدمه بأجرة، فيتخذ الناس بعضهم بعضاً، وكل فرد يحتاج إلى غيره، فقد يحتاج الغني إلى الصانع؛ لأنه لا يجيد الصنعة الفلانية، فيعطي الصانع أجرة على عمله، وبذلك حصل تبادل منافع بينهم، فلو لم يوجد الاحتياج لاستغنى الناس بعضهم عن بعض، ولتقطعت الأواصر والصلات بسبب الاستغناء، ولكن الله من لطفه الخفي سبحانه أن جعل عباده يفتقر بعضهم إلى بعض، فيحوج الله عز وجل العباد بعضهم لبعض، حتى يجتمعوا ويتعارفوا فيما بينهم. قال تعالى: ((يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ)) سبحانه وتعالى، فالإنسان يحتاج إلى رزقه لأنه ضعيف، والله هو القوي لا يحتاج إلى أحد، وهو القاهر والغالب سبحانه، ومهما تعاظم في الإنسان قدر نفسه وقوته فليعلم أن الذي خلقه أقوى منه، وهذا هو الذي كان يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، فقد رأى أبا مسعود البدري رضي الله عنه وهو يضرب غلاماً له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أعلم أبا مسعود) فلم ينتبه أبو مسعود من شدة غضبه وضربه للعبد الذي عنده، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أعلم أبا مسعود) فانتبه أبو مسعود فنظر، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم فكف عن ضرب الغلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام) أي: الله قادر على أن يمنع يدك هذه التي تضرب بها، والله قادر على أن يسلبك قوة يدك، فلا تقدر على أن تحركها، فاعلم حين ترى من نفسك القدرة على الغير، أن الله أقدر عليك، فهو قوي سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء. فهو الرزاق لجميع العباد في وقت واحد، فترى كل عبد يجد ما يقوته وما يقوم بأمره، فهو القوي القاهر العزيز الذي لا يغالب ولا يمانع سبحانه وتعالى، فرزقك المقسوم لا بد أن يأتيك مهما أخفاه غيرك ومهما أراد الغير أن يمنعه منك، فالله إذا شاء شيئاً فعله، ومن هذا الذي يغالب ربه، ويمنع نعمة أراد الله أن يرسلها لفلان؟! وما يفتح الله للعباد من نعمة أو فضل فلا أحد يقدر أن يمسك ذلك، وإذا أراد الله أن يمسك ذلك وأن يمنع فلا أحد يقدر أن يفتح ذلك، قال تعالى: {مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر:2]. فقوله تعالى: ((وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ)) أي: عزيز لا يغالب ولا يمانع، إذا أراد شيئاً لا بد أن يوجد ويقع ما أراده الله سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه)

تفسير قوله تعالى: (من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه) قال الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى:20]. فالذي يريد الدنيا يعطيه الله، والذي يريد الآخرة يعطيه الله سبحانه وتعالى، ولكن عطاء الله مقيد بقضائه وقدره سبحانه وعلمه وحكمته، فالإنسان يطلب الدنيا، والله يقول: سنعطيك من الدنيا، ويعطيه ما قسم له؛ ولذلك الآيات التي ذكر الله عز وجل فيها الإعطاء قيدها بآية في سورة الإسراء، قال الله سبحانه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:18]. فإذا كنت تريد الدنيا عجلنا ذلك لك، ولكن لا يأتيك منها إلا ما قسمناه وما أردناه أن يصل إليك، قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ} [الإسراء:18 - 20]. فالله يعطي الجميع ويرزق عباده، ولا يمنع الله سبحانه رزقه وعطاءه عن أحد، وإنما بما قدره وقسمه سبحانه وتعالى. قال تعالى: ((مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ))، والحرث: كسب الآخرة، فإذا أردت أن تكسب الجنة وتكسب رحمة الله وتخفيف الحساب يوم الحساب، فاعمل لهذا اليوم. قال الله تعالى: ((مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ)) أي: يعطيه الآخرة ويعطيه الحسنى وزيادة، نسأل الله عز وجل أن يرزقنا الحسنى وزيادة، وأن يعطينا حرث الآخرة وألا يحرمنا من فضله ومن رحمته سبحانه وتعالى، فإذا أردت الآخرة وسعيت لها سعيها ابتغاء وجه الله عز وجل فإن الله يعطيك. قال الله تعالى: ((وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا)) أي: إذا كنت تريد الدنيا وتعمل لها أعطيناك من الدنيا ما أردنا، وفي الآخرة قال تعالى: ((وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ)) فقد أخذ حظه في الدنيا، ولم ينل شيئاً من الآخرة. والناس أصناف، قال تعالى: ((وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ)). ولكن من الناس من: {يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:200]. يريد الدنيا فقط، فهي همه الشاغل ليل نهار، فيؤتيه الله عز وجل ما شاء من الدنيا وقد يحرمه منها، وفي الآخرة له عذاب النار والعياذ بالله، فإذا أعطى الله عز وجل عبداً من عباده الفهم والعقل والإيمان سأل ربه الآخرة، وقال: ((رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً)). وحسنة الدنيا: معرفة الله سبحانه وتعالى وعبادته ورزقه الحلال، فيعطيه المال الطيب والرزق الطيب والولد الطيب والزوجة الطيبة في الدنيا؛ لينتفع بها على أمر الآخرة، وليستعين بها على أمر الآخرة، وفي يوم القيامة يكون له الحظ الوافر عند الله عز وجل، ومن الناس من يطلب الدنيا فقط ويقول: ((رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا)) فتراه يريد مالا كثيراً وزوجة جميلة سواء كانت صالحة أو طالحة، المهم أن تكون جميلة فقط، والمال لا يهمه أهو من حلال أم من حرام؟ فإذا آتاه الله عز وجل الدنيا ضيع حظه في الآخرة، قال تعالى: ((وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ)). أي: ليس له حسنة في الآخرة وليس له نصيب في الآخرة. لذلك لا بد أن يكون قلب الإنسان نقياً يطلب الآخرة، مخبتاً يرجع إلى الله سبحانه وينيب إليه، ولا بد أن ينوي النية الحسنة في كل أعماله، فإن صاحب النية الحسنة يؤجر، والآخر لا شيء له، والذي ينام وينوي أن يقوم الثلث الأخير من الليل ليعبد ربه ويصلي، ثم نام ولم يقم الليل، ونام عن صلاة الفجر أيضاً، فإن نومه صدقة عليه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) فيصلي حين يذكرها وتكتب له بنيته، وقس على ذلك كل عمل تنوي به الخير، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، فالأعمال الصالحة تكون بالنوايا الخالصة، والأجر العظيم منه سبحانه. والحرث في الدنيا بمعنى: الزرع، ونتيجة زرعهم يُرى في الآخرة، فحرث الآخرة: هو جنى ما زرعه في الدنيا، ومن يرد جنى الآخرة {نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى:20].

تفسير قوله تعالى: (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله)

تفسير قوله تعالى: (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) قال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى:21]. يعني: بل هل لهم شركاء شرعوا لهم من الدين؟ والذي يشرع هو الله الرب سبحانه وتعالى، والتشريع من صفاته سبحانه، فهو الحاكم الذي يحكم بين عباده، ومن صفاته: أنه صاحب الشريعة، فالله عز وجل هو الذي يشرع لعباده، فهو الذي شرع لنا هذا الدين، فهل لهؤلاء المشركين شركاء شرعوا لهم من الدين؟ أين شركاؤهم؟ وأين هذه الآلهة التي يزعمون؟ هل هذه الأصنام كلمتهم وقالت لهم: اعبدوا بالصورة الفلانية؟ هل عندهم أثارة من علم أو كتاب يقول لهم: اعبدوا بالصورة الفلانية؟ ليس عندهم شيء، بل عرفوا أن الأصنام لا تعقل ولا تفهم ولا تسمع ولا تجيب، فكيف يعبدونها من دون الله، وهي لا تملك أن تشرع ولا تسمع ولا تعقل. قال الله تعالى: ((وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ)). أي: ولولا كلمة القضاء من الله عز وجل، والفصل بمعنى: القضاء والحكم بين العباد، فهو سبحانه يفصل الخصومة ويقضي بين الناس، هذا شقي وهذا سعيد، هذا في الجنة وهذا في النار، والكلمة التي سبقت من ربك ألا يعاجلهم بالعقوبة، بل يؤخرهم إلى يوم القيامة ليجازيهم، فلولا هذه الكلمة لقضي بينهم، ولذلك لم يقض بينهم الآن، و (لولا) حرف امتناع لوجود، فـ (لولا) حرف امتناع القضاء بين العباد في الدنيا لوجود الكلمة التي سبقت، فالله يمتنع من أن يقضي بين العباد الآن، إنما القضاء يكون يوم القيامة. قال تعالى: ((وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ)) أي: لقضى الله عز وجل وفصل وحكم بين العباد. قال تعالى: ((وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) يعذب الله سبحانه وتعالى يوم القيامة جميع الظالمين، خاصة المشركين، إذاً: الظالم يعذبه الله سبحانه، ولكن هنا قصد المشركين، الذي يشركون بالله سبحانه؛ ولذلك عقب بقوله سبحانه: {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} [الشورى:22].

تفسير قوله تعالى: (ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا)

تفسير قوله تعالى: (ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا) قال تعالى: {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ} [الشورى:22]. قوله: ((تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا)) أي: ترى الظالمين خائفين مما أشركوا، والمقام مقام ذكر التوحيد والشرك، فالمشركون بالله الذين ظلموا أنفسهم الظلم الأكبر تراهم مشفقين مما كسبوا، عبدوا الأصنام من دون الله وتوجهوا لها وتركوا دين الله، فهم يوم القيامة مشفقون من حساب رب العالمين سبحانه، وكذلك غيرهم من الظلمة والمجرمين تراهم مشفقين مما كسبوا، أي: من جزاء ما كسبوا. قال تعالى: ((وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ))، أي: ترحموا على أنفسكم ما شئتم يوم القيامة، فإن يوم القيامة يوم جزاء وليس يوم تكليف، وليس في يوم القيامة تعويض لما سلف، فإن أمر العبادة كان في الدنيا. فقوله تعالى: ((وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ))، أي: عذابه سبحانه، أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضات الجنات، قال تعالى: ((وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ)) يقال: روضات ورياض، والروضة: البستان العظيم والنزهة التي يتنزه فيها الإنسان، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل جنته. فقوله تعالى: ((وَالَّذِينَ آمَنُوا))، قيدت بقوله تعالى: ((وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ))، أي: في بساتين مزهرة، وفي قصور عامرة في جنات رب العالمين، ترى هؤلاء يلعبون وينعمون، ويفرحون، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) فالروضة: موضع النزهة الذي يتنزه فيه الإنسان وهو كثير الخضرة. وقوله تعالى: ((لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ)) (ما) من ألفاظ العموم، أي: كل ما يتمنونه ويشتهونه، فأنت في الجنة اطلب من الله ما شئت، فهي دار يشرفك الله عز وجل فيها، ويعطيك ما تشتهيه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ينادي عليهم المنادي: يا أهل الجنة إن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً، وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وأن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً) كل ذلك في جنة الخلود، قال تعالى: {َلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62]. فلا يخافون من المستقبل أمامهم، فهم في رحمة الله عز وجل، وقد طمأنهم الله عز وجل بأن هذه الجنة دار الخلود، وقد رضي الله عنهم فلن يسخط عليهم بعد ذلك أبداً، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل جنته. قال الله سبحانه وتعالى: ((لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ)) أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن رجلاً من أهل الجنة قال: (يا رب أريد أن أزرع؟ فقال الله عز وجل: أوما يكفيك هذا؟) أي: كل الذي أعطيتك هذا لا يكفيك؟ (قال: أشتهي ذلك، قال الله عز وجل: دونك، فرمى البذرة فزرعت وحصدت، قال الله: دونك يا ابن آدم فإنه لا يشبعك شيء) وكان رجل أعرابي جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: تراه رجلاً من هؤلاء، يعني: من الأنصار، أما نحن فنحن أصحاب إبل وهؤلاء أصحاب زروع، رضوان الله على الجميع، وإذا اشتهى العبد في الجنة الولد، فيكون حمله ووضعه وفصاله في مقدار ساعة، لا تعب كما كان في الدنيا، تسعة أشهر ووضع ورضاعة وتعب، فالجنة عظيمة وغالية، والذي يعرف الجنة لا يأبه لما يأتيه أو يضيع منه في هذه الدنيا إلا لأمر دين الله سبحانه وتعالى فقط، قال الله سبحانه: {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الحديد:12] أي: النجاح الباهر العظيم أنك تصل إلى الجنة، فإذا دخلت الجنة فقد فزت هذا الفوز العظيم عند الله، وأفلحت ونجحت.

تفسير قوله تعالى: (ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا)

تفسير قوله تعالى: (ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا) قال الله تعالى: {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} [الشورى:23]. قوله: ((ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)) أي: ذلك الفضل العظيم من الله الذي يبشر به عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات، بشارة من الله سبحانه وتعالى للمؤمنين، فالمؤمن الذي يتعب نفسه لله سبحانه، ويحسن العمل لله، ويخلص النية لله، يبشره الله بذلك. وقد تكررت هذه الكلمة في القرآن، وفيها قراءتان: (يُبَشِّر)، و (وَيبْشُر)، أي: يظهر البشرة على وجه المؤمن بما حدث في قلبه من فرح، فالجمهور يقرءونها: ((يُبَشِّرُ)) ويقرؤها حمزة والكسائي وفي هذه الآية فقط يقرؤها ابن كثير وأبو عمرو مع حمزة والكسائي: (يَبْشُر)، (يُبَشِّر) للتكثير، تكثير البشارة، و (يبْشُر) يظهر البشر على وجوه المؤمنين بما فرحت قلوبهم. فقوله تعالى: ((ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)) أي: يبشر المؤمنين الذين أتعبوا أنفسهم في الدنيا من أجل دينهم ومن أجل أن يفوزوا برضى ربهم، ومن أجل الجنة عملوا الصالحات. (قل) لهؤلاء جميعاً: ((لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)) والاستثناء إما أن يكون متصلاً وإما أن يكون منقطعاً، وهذا الاستثناء يسمى: الاستثناء المنقطع، أي: أنه منفصل عما قبله، فلو كان استثناءً متصلاً لقال: أجري عندكم المودة في قرابتي، ولكنه قال: لا أسألكم أجراً، أي: لا أريد منكم أجراً أصلاً، ولكن أطلب منكم أن تراعوا ما بيني وبينكم من القرابة.

تفسير ابن عباس لقوله تعالى: (إلا المودة في القربى)

تفسير ابن عباس لقوله تعالى: (إلا المودة في القربى) جاء عن ابن عباس رضي الله تبارك وتعالى عنهما ما يوضح معنى قوله: {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23]. فقد روى البخاري عن طاوس عن ابن عباس أنه سئل عن قول الله تعالى: {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23]، وكان من الجالسين سعيد بن جيبر من تلامذة ابن عباس رضي الله عنهما فقال: قربى آل محمد صلى الله عليه وسلم، فقال ابن عباس رضي الله عنه: عجلت -أي: استعجلت في الجواب- فالصحابي عبد الله بن عباس موجود، فلماذا يجيب التلميذ؟ فقال: عجلت، أي: ليس المعنى كذلك، ثم قال رضي الله عنه: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة، فقال: إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة. فالنبي صلى الله عليه وسلم جعله الله عز وجل وسطاً في قومه، فإن قريش جميعها أقرباء للنبي صلى الله عليه وسلم، هذا يلتقي معه في الجد الأول، وهذا في الجد الثاني، وهذا في الجد الرابع، وهذا في الجد السابع، فكل بطون قريش أقارب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولما نزل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم نسوا هذه القرابة، فمن هؤلاء من أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من لم يسلم، والذي لم يسلم آذى من أسلم، فقال لهم ربهم سبحانه وتعالى: راعوا القرابة التي بينكم، فهؤلاء المسلمون منكم وبينكم وبينهم قرابة، فلا أطلب منكم مالاً، وقد قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: اطلب من مالنا ما شئت، واطلب من نسائنا ما شئت، وإن كان بك مس من الجن أرسلنا الأطباء حتى نعذر فيك، فرفض النبي صلى الله عليه وسلم كل ذلك، وقال: (إنما الذي أريده كلمة واحدة، قالوا: وأبيك عشراً، اطلب، أي: نحلف لك أن نعطيك عشر كلمات وليس كلمة واحدة، قال: (قولوا: لا إله إلا الله) قالوا: أما هذا فلا، فهم يعرفون أنهم إذا قالوا: لا إله إلا الله سوف يتركون كل ما هم فيه، ويتوجهون إلى الله ويأخذون هذه الشريعة من النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن غرورهم منعهم أن يقولوا: لا إله إلا الله، وحجتهم أنهم إذا قالوا كلمة التوحيد سيكونون أتباعاً للنبي صلى الله عليه وسلم وهو أصغر منهم سناً، فرفضوا أن يقولوا: لا إله إلا الله. إذاً: أنتم رفضتم ذلك فلا تعذبوا المؤمنين، وراعوا القرابة التي بيننا، دعوني أدعو غيركم، ولا تقطعوا الأرحام، وكانت قريش من أكثر الناس صلة للرحم، وما قطعوا الرحم إلا عندما جاء النبي صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى دين الله عز وجل، فبدءوا يقطعون الأرحام بسبب ذلك، ويعذب كافرهم مؤمنهم بذلك، فقال لهم ربهم: ولكن راعوا المودة في القربى، أن توادوني في قرابتي وفي أنفسكم، فكلكم بيني وبينكم قرابة، فلا يعذب بعضكم بعضاً، ولا يتشاجر بعضكم مع بعض. إذاً: (إلا) هنا بمعنى: ولكن، أي: لا أسألكم عليه أجراً أصلاً، ولكن أطلب منكم مراعاة صلة الأرحام التي بيننا.

مضاعفة الحسنات من الله تعالى

مضاعفة الحسنات من الله تعالى قال الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} [الشورى:23] أي: الذي يكسب حسنة يزيده الله تعالى الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، وقد يغلب الدرهم بالحسنة مائة ألف درهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سبق درهم مائة ألف درهم) ومعلوم أن الحسنة بعشر أمثالها، ولكن في هذا الحديث يضاعف الله الدرهم مائة ألف درهم، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً فقيراً له درهمان ورجلاً غنياً له مالٌ كثير، والفقير تصدق بدرهم من درهميه، أي: أنفق نصف ثروته، وأعطاها لفقير آخر، وآخر له مالٌ عظيم أخذ من عرض ماله مائة ألف، ولم يؤثر فيما بقي، ولكن الله لا يضيع الإحسان، لا من هذا ولا من هذا، ولكن هذا الفقير إذا نظرنا إلى النسبة والتناسب، نجده أنفق نصف ثروته، فسبق الدرهم مائة ألف درهم بفضل الله سبحانه. قال تعالى: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا} [الشورى:23] أي: نزيد من عندنا إحساناً على ما أحسن هذا الإنسان. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} [الشورى:23] أي: يغفر لعباده سبحانه، ويشكر لهم حسن صنيعهم، ويشكر لهم ما أنفقوا وما قدموا. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على الإحسان وأن يثيبنا عليه الحسنى وزيادة بفضله وكرمه ومنه، فهو أرحم الراحمين. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الشورى [22 - 23]

تفسير سورة الشورى [22 - 23] يخبر الله تعالى عن حال الظالمين في عرصات يوم القيامة، كيف أنهم مشفقون خائفون من عذاب الله تعالى، وهذا الخوف والإشفاق لا ينفعهم؛ بل عذاب الله واقع بهم لا محالة، بينما المؤمنون في روضات الجنات لهم فيها ما يشاءون من مآكل ومشارب وملابس ومساكن ومناظر ومناكح وملاذ، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وقد أخبر سبحانه وتعالى عن وجوب مراعاة النبي صلى الله عليه وسلم في أهله وقرابته، ومحبتهم الحب الشرعي الذي ينبغي لمثلهم.

تفسير قوله تعالى: (ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا)

تفسير قوله تعالى: (ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل: {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ} [الشورى:22]. يخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية بأن الظالمين يوم القيامة يشفقون على أنفسهم من كسبهم الباطل، مما اكتسبوا من الشرك بالله سبحانه والكفر، والوقوع في المعاصي العظيمة وظلم الخلق، تراهم مشفقين حين لا تنفعهم شفقتهم. قال تعالى: ((تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا)) أي: مما اقترفوا في هذه الحياة الدنيا. قوله: ((وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ)) أي: جزاء أعمالهم واقع بهم، فسيجازيهم الله عز وجل يوم القيامة ويعذبهم، ولا تنفعهم رحمتهم لأنفسهم ولا شفقتهم على أنفسهم ولا اعتذارهم إلى ربهم سبحانه. أما المؤمنون فهم في روضات الجنات، قال تعالى: ((وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ)) فالمؤمن هو الذي اتقى ربه سبحانه، والذي عمل بكتاب الله عز وجل وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يبدل ولم يحرف ولم يغير، واتبع صراط الله المستقيم، فهؤلاء المؤمنون الذين عملوا الصالحات لهم روضات وبساتين في جنات الخلود، في أعالي الجنات، ولهم مكان عظيم يتنزهون فيه ويتنعمون فيه ويفرحون بالجزاء فيه، ((لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ)) ذلك الفضل تفضل الله عز وجل به عليهم، وجعلهم الفائزين الناجين المفلحين، وأعطاهم من رحمته سبحانه وتعالى، وأدخلهم الجنة وجعل ذلك أعظم الفوز.

تفسير قوله تعالى: (ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا)

تفسير قوله تعالى: (ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا) قال تعالى: {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} [الشورى:23]. قوله: ((ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)) ذلك الفضل الكبير جنات الخلود وروضات الجنات هو الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات، المؤمنين الأتقياء، ولاحظ أنه يكرر (آمنوا وعملوا الصالحات)، فالإنسان الذي يقول: آمنت بلسانه ولا يعمل شيئاً لا ينتظر هذا الجزاء، وإنما يحاسبه الله سبحانه ويقول له: أين العمل الذي أمرناك أن تعمله؟ أين صلاتك؟ أين صيامك؟ أين أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر؟ هذا كله من خصال الإيمان. فالإنسان إذا قال: لا إله إلا الله دخل الإسلام، ولكن لا يكفي، بل لابد أن يعمل؛ لأن الذين آمنوا صدقوا وعرفوا أن الله ربهم، فقالوا: لا إله إلا الله وعملوا الصالحات. قال الله سبحانه: ((قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا)) أي: يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل للناس للكافرين وللمسلمين: لا أسألكم عليه أجراً، أي: لا أطلب أجراً من أحد لا من أهل الإسلام ولا من الكفار على تبليغ رسالة الله سبحانه، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم ينصحهم أن يصلوا أرحامهم مع النبي صلى الله عليه وسلم فلا يقطعونها، وأن يصلوا أرحامهم بعضهم مع بعض ولا يقطعونها، فهو يقول: لا أسألكم عليه أجراً، ولكن أطلب منكم المودة في القربى، أن تودوا ما بيني وبينكم من قرابة، هذا يقوله الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم ويقول للناس: أن راعوا ما بينكم وبين النبي صلى الله عليه وسلم من مودة ومن صلة رحم فلا تقطعوها. وهذه السورة سورة مكية ما عدا أربع آيات فيها مدنية، وهذه الأربع آيات هي هذه الآية التي معنا: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23] وما يليها.

وجوب مراعاة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل بيته وعدم أذاهم

وجوب مراعاة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل بيته وعدم أذاهم قال المفسرون: وكأن الخطاب للمؤمنين أيضاً: أن راعوا قرابة النبي صلى الله عليه وسلم فلا تتعرضوا لهم بأذى، حتى وإن كان إسلامهم متأخراً. وأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم منهم من كان من السابقين كـ علي رضي الله تعالى عنه، وجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وغيرهم، ومنهم من تأخر في إسلامه وتأخر في هجرته للنبي صلى الله عليه وسلم، كـ العباس عم النبي صلوات الله وسلامه عليه، فلعل البعض من المؤمنين يقول للعباس شيئاً يؤذيه به: أنت رجل كبير وأنت عم النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك تتأخر في الهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم! فلعل النبي صلى الله عليه وسلم يسمع ذلك أو يبلغه فيتأذى بذلك، فينهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقولوا ذلك، ويأمرهم بحب آل بيته صلوات الله وسلامه عليه، وأن يحبوهم وأن يراعوا القرابة التي بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم. ولعل البعض من الناس يقول لبعض آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم: إنكم تأخرتم في إسلامكم فلا ينفعكم أنكم أقرباء النبي صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء أخطئوا في ذلك؛ لأن أقرباء النبي صلى الله عليه وسلم تنفعهم مودة النبي صلى الله عليه وسلم، وينفعهم نسبهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فهو الذي قال: (كل نسب وسبب مقطوع يوم القيامة إلا نسبي وسببي) صلوات الله وسلامه عليه، فكل نسب وسبب مقطوع يوم القيامة إلا نسب النبي صلى الله عليه وسلم، فآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ينتفعون بقرابتهم من النبي صلى الله عليه وسلم، وهم المؤمنون منهم الذين دخلوا في دين الله عز وجل، فهؤلاء ينفعهم قربهم من النبي صلوات الله وسلامه عليه، طالما أنهم أسلموا حتى ولو كان إسلامهم قد تأخر فتنفعهم قرابتهم للنبي صلى الله عليه وسلم. ولذلك أراد عمر رضي الله عنه أن يتصل بالنبي صلى الله عليه وسلم بسبب من الأسباب، فلذلك تزوج من أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكانت صغيرة في السن، وهو رضي الله عنه لم يتزوجها إلا لهذا الشيء، مع أن ابنته السيدة حفصة بنت عمر زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه أحب أن يرتبط بالنبي صلى الله عليه وسلم بسبب آخر فيكون أقرب، فتزوج بابنة علي رضي الله تعالى عنه. فالغرض: أن بعض المسلمين قد أساء مع آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وبعضهم لعله تطاول عليهم وقال: لا ينفعكم سببكم ولا نسبكم للنبي صلى الله عليه وسلم وقد تأخر إسلامكم، فهذا أحزن النبي صلى الله عليه وسلم، والله عز وجل يأمر الجميع ويقول: صلوا قرابة النبي صلى الله عليه وسلم وراعوها، ولذلك كان لهم تشريف عند الله عز وجل بأنهم ممن منعهم الله عز وجل أن يأخذوا الصدقة، فقال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:60]. فجعل الصدقات لهؤلاء، أما قرابة النبي صلى الله عليه وسلم فقد جعل لهم سهماً آخر وهو سهم ذوي القربى، فقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} [الأنفال:41] فجعل سهم قرابة النبي صلوات الله وسلامه عليه في المغانم. فجعل الله عز وجل لهم أشرف ما يكون ومنعهم من أحقر ما يكون؛ تشريفاً لقرابتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم الحسن مرة وقد مد يده على تمرة ملقاة من تمر الصدقة، فأخذها ووضعها في فمه، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يأخذها منه ويقول: (كخ كخ، أما علمت أنا لا نأكل الصدقة؟) وهو طفل صغير، وهذا لا يقال إلا لإنسان كبير ومع هذا قال ذلك لطفل صغير في السن حتى يعلمه، ولم يتركها له، ولم يقل: سأدفع ثمنها، وإنما منعه من أن يأكلها صلوات الله وسلامه عليه. فالغرض: أن الله سبحانه قال للخلق جميعهم الكفار والمؤمنين: إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يطلب منكم شيئاً على أن يبلغ رسالة الله سبحانه، ولكن الذي يأمركم به أن تراعوا القرابة التي بينكم وبينه، وهذا الخطاب لقريش الذين تربطهم بالنبي صلى الله عليه وسلم قرابات ما من بطن من بطون قريش إلا وبينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم قرابة، ثم باقي الناس يطلب منهم صلة الأرحام ويقول: لا تؤذوا قرابتي، مثل العباس رضي الله عنه وغيره من أقارب النبي صلى الله عليه وسلم الذين تأخر إسلامهم، وقد وبخهم البعض على ذلك. فالله عز وجل يبين لهم أن هؤلاء أقارب النبي صلى الله عليه وسلم، واحترامكم لهؤلاء من احترامكم للنبي صلى الله عليه وسلم، والعباس كان السن بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم ليس كبيراً، ومع ذلك كان يفرح النبي صلى الله عليه وسلم إذا رآه، ويقول: (هذا العباس هذا عمي) ويقول: (عم الرجل صنو أبيه) والنخل منها صنوان وغير صنوان، والنخلة غير الصنوان هي التي تكون قائمة على ساق واحدة ويطلع الفروع من الساق الواحدة، أما الصنوان فهي التي لها ساقان، فيكون أصل النخلة واحداً ويتفرع منه ساقان، وكل ساق فيه رأس نخلة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم يقول عندما رأى العباس: (عم الرجل صنو أبيه)، يعني: أنه يجتمع مع أبيه في جده، فإذا كان يقول عن جده أنه أبوه فكذلك العم يكون أباً للإنسان مع عدم وجود أبيه، وهو أولى الناس به مع عدم وجود أبيه. وكون العباس رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا لا يمنع أن النبي صلى الله عليه وسلم يأمره بالحق ويأمر الناس أن يأخذوا منه الحق، ولما خرج جيش الكفار إلى بدر كان العباس فيهم، وهو لم يخرج للقتال، وإنما أجبروه على الخروج معهم، فخرج ولم يقاتل، وأسر العباس رضي الله تعالى عنه، فلما أسر وجيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخذوا الفدية أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا من العباس الفدية، وقال: (لا تدعوا له درهماً، فقال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إني كنت مسلماً قبل، قال: ظاهرك كان علينا)، يعني: وإن صدقناك في أنك كنت مسلماً لكنك كنت في جيش العدو، فظاهرك كان علينا، فلابد أن تدفع حتى تخرج من الأسر، ودفع العباس، والله سبحانه وتعالى قال للمؤمنين: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الأنفال:70]. فـ العباس دفع الفدية وفدى نفسه وفدى عقيلاً ابن أخيه، ولما قال سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الأنفال:70] قال العباس بعد ذلك: (فوالله لقد آتاني الله عز وجل خيراً مما أخذ مني وأنا أرجو الأخرى) يعني: أنا دفعت الفدية عن نفسي وعن عقيل ابن أخي، والله عز وجل عوضني خيراً من ذلك، وأنا أنتظر مغفرة الله؛ لأن الله وعد بذلك.

تألف النبي صلى الله عليه وسلم بعض قريش وإعطاؤهم من الغنائم يوم حنين

تألف النبي صلى الله عليه وسلم بعض قريش وإعطاؤهم من الغنائم يوم حنين إن الله عز وجل أمر المؤمنين أن يراعوا قرابة النبي صلى الله عليه وسلم فلا يتعرضوا لهم بشيء من التوبيخ أو بشيء من التعيير؛ فإنهم آل بيته صلوات الله وسلامه عليه، وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح الله عليه تألف البعض من قريش، فإذا بالأنصار يحدث في قلوب بعضهم شيء من الحزن: كيف لما فتح الله عليه يبدأ بقرابته وقبيلته ونحن أهل المدينة الذين عملنا كذا وكذا؟ فقد جاء في صحيح البخاري ومسلم ومسند الإمام أحمد وغيرهم من طريق عباد بن تميم عن عبد الله بن زيد بن عاصم قال: (لما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قام النبي صلى الله عليه وسلم وقسم الغنائم في المؤلفة قلوبهم)، ولاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة جمع أهلها قال: (ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم) فهم الآن في ضعف، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يعاملهم مثل معاملتهم له، بل قال: (اذهبوا فأنتم الطلقاء). فعفا عنهم صلوات الله وسلامه عليه، فأسلم خلق كثير من أهل مكة، وكان جيش النبي صلى الله عليه وسلم الذي خرج من المدينة لفتح مكة كان عدده عشرة آلاف، فإذا بأهل مكة يمدون النبي صلى الله عليه وسلم بألفين من الجنود يخرجون مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا مكسب كبير للإسلام، فخرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم مجاهدين، وخرجوا معه إلى الطائف وإلى هوازن في حنين، وأفاء الله عز وجل وفتح على النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما أعطاهم الله درساً هنالك في حنين: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} [التوبة:25] فلما غنم صلوات الله وسلامه عليه وبدأ يوزع المغانم، وزع على أصحابه على من يستحق، ولكن أعطى النبي صلى الله عليه وسلم البعض تأليفاً لقلوبهم ومنع البعض الآخر، فأعطى بعض كبار قريش، فتكلم بعض الأنصار، يقول عبد الله بن زيد بن عاصم: (فكأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصاب الناس) يعني: وجدوا في أنفسهم وحزنوا كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى أقرباءه وقبيلته، ولم يعطنا نحن؟! وفي رواية الإمام أحمد من حديث أبي سعيد قال: (وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت فيهم القالة) يعني: بدءوا يتكلمون ويقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى أهله قرابته، ولم يعطنا، والنبي صلى الله عليه وسلم حاشا له أن يقسم بغير العدل، فهو صلى الله عليه وسلم لا يطلب شيئاً من الدنيا، وقد نزلت هذه الآيات من قبل ذلك تقول لهم: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الشورى:23] أي: لا آخذ أجراً على الدعوة إلى الله عز وجل، ولكن أطلب منكم المودة في القربى. قال: (فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن عبادة، فقال سعد بن عبادة للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إن هذا الحي قد وجدوا عليك في أنفسهم) أي: أصابهم حزن أنك أعطيت القرشيين ولم تعط الأنصار من هذا الفيء الذي أصبت، فأنت قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار شيء، وكأنهم نسوا أن النبي صلى الله عليه وسلم في يوم من الأيام أخبرهم (أني أعطي الرجل وغيره أحب إلي) يعني: أنا أعطي الإنسان وغيره أحب إلي حتى أتألفه، وأدع هذا للإيمان في قلبه، فهذا قلبه ممتلئ بالإيمان عامر غير محتاج إلى أن أتألفه على هذا الدين، ولكن البعض الآخر أعطيه من أجل أن يثبت على دين الله سبحانه ولا يتزعزع ولا يتزلزل. فالنبي صلى الله عليه وسلم سأل سعد بن عبادة فقال: (قد وجدوا عليك وقالوا: قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب ولم يكن في هذا الحي من الأنصار شيء، قال: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ فقال: يا رسول الله! ما أنا إلا امرؤ من قومي) يعني: أنا واحد منهم، لقد كانوا صادقين رضوان الله تعالى عليهم، لا يكذبون، فلم يقل له: لقد أنكرت عليهم وعملت كذا، ولكن قال: أنا واحد منهم. فقد كان سعد بن عبادة رضي الله عنه رجلاً صادقاً وهو سيد الخزرج، أما سعد بن معاذ سيد الأوس فكان قد قتل شهيداً أصابه سهم في أكحله يوم الخندق، فدعا ربه سبحانه وتعالى وقال: (إن كنت أبقيت في قتال المشركين شيئاً فأبقني لهم، وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فافجرها) فقبض في ذلك بعدما حكم في بني قريضة، فكان استشهاده قبل حنين بحوالي ثلاث سنوات رضي الله تعالى عنه. فقال سعد بن عبادة: (ما أنا إلا امرؤ من قومي، قال صلى الله عليه وسلم: فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة)، فجمع الأنصار، فاجتمعوا للنبي صلى الله عليه وسلم وجاءوا، وحضر بعض المهاجرين فتركهم النبي صلى الله عليه وسلم، وحضر غيرهم فمنعهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الأنصار! ما مقالة بلغتني عنكم؟ ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله بي؟). هذه المعاتبة الرقيقة منه صلوات الله وسلامه عليه لهؤلاء، يعني: أنتم نسيتم عندما جئتكم وكنتم تعبدون أحجاراً فهداكم الله على يدي، ثم قال: (وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف بين قلوبكم) أي: كنتم عالة فقراء ففتح الله الفتوح عليكم فأغناكم الله بي، وكنتم تقتتلون فيما بينكم الأوس مع الخزرج فاجتمعتم مع بعض وصرتم الأنصار، فألف الله بين قلوبكم بي، (قالوا: الله ورسوله أمن وأفضل) فهم اعترفوا بالحق، وقالوا: لله المنة ولك علينا المنة، وكنا مخطئين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟ فقالوا رضوان الله عليهم: وبم نجيبك يا رسول الله؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: أما والله لو شئتم لقلتم فصدقتم وصدقتم: أتيتنا مكذباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك) انظر للإنصاف من النفس، وإن كان الحق كله معه صلوات الله وسلامه عليه، ومع ذلك يقول هذا تأليفاً وترضية للأنصار، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (أوجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم؟) يعني: أوجدتم في أنفسكم على حقير من أمر الدنيا تألفت به هؤلاء؟ هل حزنتم من أجل ذلك؟ ثم قال: (أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاء والبعير وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟) أي: ألا يكفيكم أن الناس يرجعون بالشاء والبعير والغنائم وترجعون أنتم وأنا معكم إلى دياركم؟ فلقد فتحت مكة، وكان بإمكاني أن أمكث في مكة بلدي، لكن لا، بل أرجع معكم معشر الأنصار. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار)، يعني: لولا فضيلة الهجرة وأني مهاجر من مكة إلى المدينة والهجرة لا يعدلها شيء، لقلت: أنا من الأنصار، أي: أنا محمد صلى الله عليه وسلم المدني الأنصاري، فنقول إذا نسبنا النبي إلى البلاد: هو المكي ثم المدني صلى الله عليه وسلم؛ لأنه عاش في مكة وولد فيها وتربى فيها صلى الله عليه وسلم فهي بلده، ثم هاجر فصار مقره المدينة فصار مدنياً بعد ذلك صلى الله عليه وسلم، فلو شاء النبي صلى الله عليه وسلم لكان امرأً من الأنصار لا من المهاجرين، ولكن الهجرة لها المنزلة العظيمة عند الله. ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ولو سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار) فدعا النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار بهذه الدعوة العظيمة المباركة التي ظلت فيهم وفي أبنائهم بهذا الأمر العظيم الذي فعلوه مع النبي صلى الله عليه وسلم، وبهذا الجواب من النبي صلى الله عليه وسلم الذي قاله ثم بكى الأنصار حين سمعوا ذلك، وقالوا: (رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسماً وحظاً) أي: رضينا أن يأخذ الدنيا ونحن نأخذ الرسول عليه الصلاة والسلام، ويكفينا هذا الحظ الأعظم لنا. وقد جاء في بعض الروايات أن بعض الأنصار كأنه عير العباس فقالوا: أسلمنا قبلك، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم حزن لذلك وأمرهم أن يحبوا آل بيته صلى الله عليه وسلم كما يحبون النبي صلوات الله وسلامه عليه. إذاً: فيدين الإنسان المؤمن بحب النبي صلى الله عليه وسلم، وحب المهاجرين، وحب الأنصار، وحب آل بيت النبي صلوات الله وسلامه عليه، الذين وصى الله عز وجل بهم.

عظيم عطاء الله عز وجل وإحسانه وشكره ومغفرته

عظيم عطاء الله عز وجل وإحسانه وشكره ومغفرته يقول الله عز وجل: ((وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ)) أي: من يكتسب حسنة فإن الله عز وجل يعطي على الحسنة من فضله سبحانه وتعالى الإحسان العظيم، ويزيدهم من فضله، والحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ)) أي: إن الله غافر الذنب سبحانه وتعالى، فهو غافر وهو غفور وهو غفار سبحانه وتعالى، والمعنى في ذلك من الغفر، والغفر بمعنى التغطية، فهو يغطي الذنوب سبحانه وتعالى، فكأن الله سبحانه يغفر ويستر ويكفر ويمحو سبحانه وتعالى، وقد يبدل هذه السيئات إلى حسنات، كما قال الله عز وجل في عباد الرحمن: {فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:70]. وقوله: ((إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ)) أي: يستحق أن يشكر سبحانه وتعالى، فهو المشكور على ما ينعم به على عباده، وهو الذي يشكر صنيع العباد إذا فعلوا الخير وإذا فعلوا الإحسان، ولا يضيع أجر من أحسن عملاً، إذا أحسن العباد فالله يشكر لهم ذلك ويثيبهم عليه، قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7] أي: إن تشكروا نعمة الله يشكر لكم صنيعكم. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما أنعم الله على عبد من نعمة فقال: الحمد لله، إلا كان شكره لهذه النعمة أحب إلى الله منها)، انظر كيف ينعم الله عليك، والإنسان عندما يذهب إلى شخص ويعطيه هدية، يقول له: شكراً، فقيمة الهدية (شكراً) وهي كلمة قالها بلسانه، لكن الله الكريم سبحانه وتعالى هو الذي أنعم عليك بإسلامك، وهو الذي أعطاك نعمة الشكر والعطاء، فأي النعمتين أحب إلى الله؟ الشكر أحب إلى الله مما أعطاك من مال ومما أعطاك من نعم منه سبحانه وتعالى. وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نثيب في العطاء، فعندما يهدي لك إنسان فكافئه، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي على الهدية المثلين والثلاثة والأربعة والسبعة الأمثال، كان يعطي كثيراً صلى الله عليه وسلم ليذكرنا بفضل الله وبنعمته، فهذا النبي الذي هو عبد لله ورسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم كان يعطي هذا كله فكيف بعطاء ربي سبحانه وتعالى؟ كم يعطي من فضله وكرمه! فالله شكور يشكر لعباده {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7] فاشكروا الله يشكركم ويعطكم من فضله ومن إحسانه سبحانه وتعالى. نسأل الله من فضله ومن رحمته فإنه لا يملكها إلا هو. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الشورى [23 - 25]

تفسير سورة الشورى [23 - 25] لم يعهد الكفار في الجاهلية على النبي صلى الله عليه وسلم كذباً قط، فكان لزاماً لذلك بل الأحرى ألا يكذب على الله عز وجل، فالذي يكذب على الله عز وجل أو يعصيه له عذاب شديد، ومع ذلك فإن الله سبحانه وتعالى رحيم بعباده، فقد جعل باب التوبة مفتوحاً لكل مذنب تائب، حتى المشرك يغفر الله له شركه إذا تاب قبل موته، ولابد في يوم القيامة من القصاص لرد الحقوق إلى أهلها.

تفسير قوله تعالى: (أم يقولون افترى على الله كذبا)

تفسير قوله تعالى: (أم يقولون افترى على الله كذباً) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الشورى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى:24 - 25]. قال الله سبحانه وتعالى للنبي صلوات الله وسلامه عليه: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23]، ومعناها كما قدمنا: لا أطلب أجراً على تبليغ رسالة الله سبحانه، والاستثناء استثناء منقطع، أي: ولكن الذي أطلبه منكم أن تودوني في قرابتي، وأن يود بعضكم بعضاً، ولا تقطعوا الأرحام، بل تصلوا ما بيننا من أرحام، حتى ولو لم تتابعوني في أمر الدين، ودعوني أبلغ رسالة الله عز وجل. فكأنه يقول لهم صلى الله عليه وسلم راعوا ما بيننا من أرحام في أن تكفوا شركم عنا، إذا لم تتقوا الله عز وجل وتخافوا من الله سبحانه وتعالى، وتدخلوا في هذا الدين فأقل ما فيها مراعاة الأرحام، وهذا الطلب منه صلوات الله وسلامه عليه لأن قريشاً كانوا من أوصل الناس رحماً، وكانوا يعرفون صلة الأرحام ويفعلون ما يصلون به أرحامهم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يذكرهم بما قاله الله سبحانه: {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23]، أي: صلوا الرحم التي بيني وبينكم، ولا تقطعوها ودعوها موصولة، ودعوني أدعو إلى الله سبحانه وتعالى، وهم لو قاتلوا وحاربوا النبي صلى الله عليه وسلم انقطعت الأرحام التي بينهم وبينه عليه الصلاة والسلام، فيقول: صلوا الأرحام ودعوني أدعو غيركم إلى الله، فإذا استجاب هؤلاء فذلك خير، وأنتم انظروا في هذه الاستجابة إما أن تتابعوا وإما أن تظلوا على ما أنتم عليه، ولكن عليكم لصلة الرحم، ودعوني أدعو إلى الله سبحانه وتعالى. ثم قال الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا} [الشورى:23]، الذي يقترف ويكتسب حسنة من الحسنات يعطيه الله عز وجل من فضله الحسنى وزيادة. قال الله تعالى: ((أَمْ يَقُولُونَ))، أي: بل أيقولون؟ تسمى (أم) هذه الإضرابية المنقطعة المقدرة ببل والهمزة، تحذف (أم) وتوضع مكانها (بل أ) كأنه يقول: أضرب عن هذا وانظر في أمر هؤلاء هل يقولون أنك افتريت على الله سبحانه وتعالى، اعجب لأمر هؤلاء، بل أيقولون قد افترى على الله كذباً، وهم قد قالوا ذلك، وقد قال له ربه سبحانه: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33]. فالله عظيم وكريم ولطيف، فانظر إلى تلطفه بنبيه صلوات الله وسلامه عليه، والإنسان عندما يكون صادقاً إذا قيل له: أنت كذاب، يتألم ويتوجع ويتأسف، بخلاف الإنسان الكذاب، إذا أتى إنسان وقال له: أنت كذاب لا يتأثر؛ لأنه يعرف نفسه أنه كذاب، وإن كان يظهر أمام الناس أنه متأثر، فكل ذلك كذب وكله تمثيل، لكن الصادق عندما يقال له: أنت كاذب، فهذا يؤلمه جداً ويتعبه، وقد يهلكه مثل هذا الافتراء ومثل هذا الاتهام. فقالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم: إنه كذاب، فأتعبه ذلك جداً صلوات الله وسلامه عليه، فإذا بالله يتلطف معه ويقول له: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33]، أي: هم يعرفون الحق تماماً، وأنا أظهر لك ما بداخل قلوبهم، فهم يجحدون، والجحود عكس الإقرار، فالإقرار: أن تشهد على نفسك بالحق الذي تعلمه، والجحود: أن أنفي ما أنا مقر به في داخلي، وهذا بخلاف الإنكار، فالإنكار: كمن يقول لك: ليس لك عندي شيء، والله ما لك عندي شيء، فهو يحلف وفي زعمه أنه صادق في نفسه، فهو ينكر هذا الشيء وقد يكون ناسياً، إما الجاحد فإنه يجحد الشيء وينفيه وهو في قلبه معترف به ويعرفه، فالظالمون بآيات الله لا ينكرون وإنما هم بآيات الله يجحدون، قال تعالى: {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33]. ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6]، أنت ستهلك نفسك عليهم لماذا؟ فقوله تعالى: ((بَاخِعٌ))، أي: مهلك ((إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا))، أي: ألا يكونوا مؤمنين، فالنتيجة ليست عليك، فلست عليهم بمسيطر، ولست عليهم بوكيل ولا حفيظ، النتيجة على الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة:99]، عليه الصلاة والسلام، فعليك أن تبلغ الرسالات، فإن استجابوا فلك الأجر ولهم الأجر، وإن لم يستجيبوا فلك الأجر وعليهم الوزر، فعلى ذلك إن قالوا: افتراه، فهم يجحدون ويكذبون. فقوله تعالى: ((أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا))، أي: بل أيقولون افترى على الله الكذب، وافترى، أي: جاء بالفرية، والفرية: أعظم الكذب، فكأنه يقول: هل يقولون عنك جئت بأعظم الكذب؟ تركت الكذب على الناس وكذبت على الله سبحانه وتعالى؟ وقد سأل هرقل أبا سفيان فقال: هل عهدتم منه كذباً؟ قال: لا، قال: فما كنت لأراه يدع الكذب على الناس ويكذب على الله سبحانه وتعالى.

عقاب الله تعالى لمن يفتري عليه

عقاب الله تعالى لمن يفتري عليه قال الله عز وجل: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى:24]، لو حصل أنك افتريت على الله سبحانه -وحاشا له صلوات الله وسلامه عليه- لختم الله عز وجل على قلبك، فهؤلاء بلغت بهم السفاهة أن يظنوا أنك تكذب على الله سبحانه، ويؤيدك الله بالمعجزات وأنت تكذب عليه كيف يكون ذلك؟ ولو حصل أنك كذبت على الله- وحاشا له صلى الله عليه وسلم- لطبع الله على قلبك وعاقبك، وهم يعرفون كيف ينتقم الله عز وجل ممن يعصيه وخاصة في الحرم، فقد كان عندهم تمثالان: إساف ونائلة، يقولون: هما رجل وامرأة كانا يزنيان في الحرم فمسخهم الله إلى صنمين، فكانوا يعرفون أن هذين ارتكبا معصية لله عز وجل في الحرم، والكفار كانوا يقعون في الزنا. فالله عز وجل يعاقب داخل الحرم من يقع في معصية أو يكذب على الله سبحانه، فإن أبرهة لما أتى إليهم من اليمن وأراد أن يدمر الكعبة وأن يصرفهم من التوجه إلى البيت إلى القليس دمره الله عز وجل وجنده، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ} [الفيل:1 - 2]، أي: في ضلال، تاه كيدهم وذهب والإنسان يجمع كيده حتى يتوجه بهذا الكيد كله على عدوه فيقصمه، فإذا جمع العدد والعدد، وجاء بسلاحه هذا، وفجأة ضرب بالسلاح فكان هباءً منثوراً، وذهب وضل كيده، قال تعالى: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} [الفيل:3 - 4]، أي: من نار جهنم {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:5]، أي: صاروا كتبن أكلته البهائم ثم روثتهم، فالله هو الذي يصنع ذلك بأعدائه دائماً، فهل يترك الله إنساناً يفتري عليه، وليس هذا فقط، بل ويؤيده بالمعجزات، فيعطيه القرآن العظيم المعجزة الخالدة، ويجعله يشير إلى القمر فينشق القمر، ويرون من آياته صلوات الله وسلامه عليه ومعجزاته، أين ذهبت عقول هؤلاء؟ ولذلك يقول لهم سبحانه وتعالى، ويقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى:24]، ولها معانٍ من ضمنها هذا المعنى الذي ذكرناه، فقوله تعالى: {فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى:24]، أي: إن كذبت على الله سبحانه وتعالى فالله عز وجل يطبع على قلبك وينسيك هذا الذي أنت فيه من أمر الدعوة إلى الله والرسالة وغير ذلك. والمعنى الآخر لقوله تعالى: {فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى:24]: إن يشأ الله يحرمهم من هذا الفضل العظيم ويحرمهم من هذا القرآن، فيختم على قلبك فلا تبلغهم شيئاً، ففي صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله اطلع على أهل الأرض فمقتهم جميعهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب)، فقبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم اطلع الله على أهل الأرض فأبغضهم جميعهم ومقتهم، والمقت: أشد البغض لشركهم بالله، إذ كانوا يعبدون الأصنام وكانوا يتوجهون بها إلى الله سبحانه، وكان يأكل بعضهم بعضاً، ويغصب بعضهم مال بعض، ويأخذ بعضهم حريم بعض، ولا يوجد عدل بينهم، ولا إحسان فيما بينهم، فمقت الله أهل الدنيا جميعهم إلا بقايا من أهل الكتاب كانوا على التوحيد، وليس كل أهل الكتاب، وإنما الذين كانوا على التوحيد، وكانوا ينتظرون خروج النبي صلوات الله وسلامه عليه. الغرض: أن الله عز وجل يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: {إِنْ يَشَإِ اللَّهُ} [الشورى:24]، (إن) لفظة جازمة، تفيد تأكيد أن هذا قبل الحدوث، بخلاف (لو) فإنها تفيد امتناع وقوع شيء لامتناع وجود شيء آخر، فهي حرف امتناع لامتناع، تقول: لو جئتني أكرمتك، فهو يعرف أنك لن تأتي، ولكن الله تعالى قال: {إِنْ يَشَإِ اللَّهُِ}، فالقدرة صالحة، والله قادر على كل شيء سبحانه وتعالى. ولذلك كان يقول لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، ويقول: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65]، هذا النبي صلوات الله وسلامه عليه، وحاشا له أن يقع في الشرك صلى الله عليه وسلم، ولكن الإنسان طالما وهو في الدنيا فهو في قضاء الله وقدره سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:284]، فلا يعجزه شيء، فإذا قال ذلك لنبيه صلى الله عليه وسلم فمن باب أولى أن يخاف المشركون على أنفسهم؛ إذ إن هذا القول للنبي الذي هو خليل الرحمن وحبيب الله سبحانه وتعالى ومع ذلك يقال له ذلك، إذاً: خافوا على أنفسكم أنتم. فقوله تعالى: {إِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى:24]، أي: ينسيك هذا الذي آتاك الله سبحانه وتعالى، ويحرمهم من هذا الفضل. المعنى الثالث لقوله تعالى: {إِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى:24]، أي: يربط على قلبك، ويقويك على هؤلاء، وهذا وعد قد فعله الله سبحانه وتعالى ونفذه، فـ (إن) تفيد احتمال وجود ذلك، بخلاف (لو)، والآية تحتمل معاني كما ذكرنا، وبعضها يعضد بعض وليست متنافرة.

محو الله للباطل وإحقاقه للحق

محو الله للباطل وإحقاقه للحق قال الله تعالى: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} [الشورى:24] ستجد هذه الكلمة مكتوبة في المصاحف كلها: {وَيَمْحُ} [الشورى:24] ياء، ميم، حاء، لا يوجد بعدها واو، وإن كان إعرابها أنها استئنافية مبتدأ بها، فهي جملة جديدة، فهو فعل مضارع مرفوع وليس مجزوماً، فليست معطوفة على ما قبلها، وهذا من جمال كتاب الله سبحانه ومن توفيق الله سبحانه للذين كتبوا المصحف فقد كتب المصحف بطريقة في غاية العجب، ولو أن الإنسان تفكر كيف كتب هذا المصحف لشعر أن من ضمن إعجاز القرآن كتابة القرآن. والقرآن العظيم كتب من غير نقط، والذين كتبوه هم الذين تلقوا القرآن من النبي صلوات الله وسلامه عليه، فكتبوا القرآن على ما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم، فقد سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن بكل قراءاته، فكتبوا الكتاب الذي يحتمل جميع القراءات التي فيها، بل وتحتمل اللهجة أيضاً في الكلام، فتجدهم كتبوا الكلمة التي ترجع لأصل فيها، مثل كلمة (الصلاة) فقد وضعوا بعد اللام واواً؛ لأن ألفها أصلها واو، ولذلك ردها للأصل، والزكاة أصلها واو وأعادها إلى أصلها، فعندما يعيدها إلى أصلها وتقرأ قراءة من القراءات لأهل الإمالة مثل: حمزة والكسائي وخلف، فإنك تعرف أن ألف الزكاة واوية، وليست يائية، ومستحيل أن يكون فيها إمالة، إلا أن يخطئ الإنسان في قراءة أو في كلام، كقراءة البعض من الناس، وكلهجة بعض الناس يقول لك عن الساعة: السيعة مثلاً، فهذه لهجته. وقد راعى القرآن لهجات العرب في ذلك، ومن كتب القرآن راعى أصول الكلمات حتى لا يخطئ من يقرأ على أي وجه من الوجوه، ويعرف أن هذه واوية لا تقرأ أبداً بإمالة، فلا نقول في الصلاة: الصلية مثلاً، ولا في الزكاة: الزكية، بخلاف الربا، وإن كتبت لاحتمال الأمرين، فتقرأ بالإمالة وتقرأ: (والربا)، كذلك هنا في هذه الكلمة لاحظ الكاتب أن {يَمْحُ اللَّهُ}، الواو بعدها ألف الوصل، فلو أنه كتب (يمحو الله) فستقرأ: (ويمحو الله) وهذا لا يصلح، فلالتقاء الساكنين لابد من حذف واحد من الاثنين والتعبير عنه بحركة من الحركات، لذلك كتبت {وَيَمْحُ اللَّهُ}، لأنك تنطقها هكذا: {وَيَمْحُ اللَّهُ}، ولكن لا تعرب أنها معطوفة على ما قبلها. فقوله تعالى: {إِنْ يَشَإِ اللَّهُ}، إن: أداة جزم، يشأ: فعل مضارع مجزوم وهو فعل الشرط، و A يختم، {وَيَمْحُ}، لو جعلناها معطوفة على {إِنْ يَشَإِ}، لكان المعنى: يمحو الله الباطل إن يشأ، وهذا لا يصلح؛ لأن الله سبحانه وتعالى قضى بأنه يحق الحق ويبطل الباطل، فقد قضى أن هذا لا بد أن يكون، فلذلك (يمحو) ليست معطوفة ككلمة، وإنما العطف عطف جملة، فتصبح الواو عاطفة لما بعدها للجملة كلها على ما قبلها، وتصير (يمحو) كلمة في ابتداء، فيصبح فعلاً مضارعاً مرفوعاً. ومثل هذه الكلمة قوله تعالى: {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق:18]، فليست لزوماً، بل أصلها (سندعو): فعل مضارع مرفوع، ولكن كتبوها عيناً مضمومة لالتقاء الساكنين، وهذا من حكم كتابة القرآن بهذه الطريقة العجيبة الجميلة، كذلك عندما تقرأ في المصحف الذي لم يكن منقوطاً فإن الله يذكر معنى في آية ما، وإذا قرأت نفس الآية بوجه آخر فإنك تجد لها معنى آخر، يريد الله عز وجل هذا المعنى ويريد هذا المعنى، ففي القراءة الأولى لا نضع نقطاً، وطالما أن هذه قراءة وهذه قراءة فلا نضع نقطاً، حتى إن الذي يقرأ بكذا يجوز له ذلك، والذي يقرأ بكذا يجوز له ذلك. قال تعالى: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ}، أي: يزيل الباطل، وقال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة:32]، ويقول تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} [الصف:8] انظر لهذا التعبير، نور الله سبحانه نور عظيم، وكأنهم ظنوا أنها نار خافتة بسيطة سوف يطفئونها بالنفخ فيها، وقد حاولوا وفعلوا، وإذا بهؤلاء الذين يحاولون أن يطفئوا نور الله سبحانه يجعل الله عز وجل في قلوب بعضهم نوراً فيدعون إلى دين الله بعد ذلك، منهم: عمر بن الخطاب الفاروق رضي الله تبارك وتعالى عنه، الذي أراد في يوم من الأيام أن يقتل النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد ذلك يقرأ القرآن فإذا به يذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآه الصحابة خافوا منه، فقد أتى وهو متقلد سيفه، وإذا بـ حمزة رضي الله عنه يقول: دعوه فإن أراد شيئاً قتلناه بسيفه، ويدخل عمر بن الخطاب على النبي صلى الله عليه وسلم ويمسكه النبي صلى الله عليه وسلم بثوبه ويقول: أما آن لك أن تؤمن؟ قال: لقد جئت لأسلم، فكان إسلام عمر رضي الله عنه فتحاً عظيماً، وما تجرأ المسلمون أن يمشوا في الطريق إلا بعد إسلام عمر رضي الله عنه. ولم يكتم عمر إسلامه؛ بل خرج بين الناس وصرخ فيهم بلا إله إلا الله، وأعلن إسلامه، يقول عبد الله بن عمر وكان صغيراً: إذا بهم يفيضون إليه كالسبيل، أراد الكفار من كل وادٍ أن يهجموا على عمر ويضربوه رضي الله عنه، ومن العجب أن الذي أنقذ عمر هو الوليد بن المغيرة، فقد قال: أنا على ما هو عليه، فخافوا من الوليد بن المغيرة، ولم يكن على ما هو عليه، فإذا بهم يتركون عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه يصرخ فيهم بلا إله إلا الله، ويخرج المسلمون مع عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه ويتوالى إيذاء الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بعد ذلك. قوله تعالى: {ويُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ}، أي: بما أنزل من هذا القرآن العظيم، يحق الحق بقضائه وقدره، ويحق الحق بكن فيكون، ويحق الحق سبحانه وتعالى بنصر المؤمنين، والمؤمن يجاهد بلسانه وبيده وبقلبه وإيمانه ويدعو إلى الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]، فالإنسان يجاهد والذي يأتي بالنتيجة هو الله سبحانه وتعالى، فهو الذي ينصر الدين وينشره ويفتح له القلوب، وإنما المجاهد سبب من الأسباب فقط. قال تعالى: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}، أي: يعلم كل شيء سبحانه وتعالى، فهو العليم، وهو الشهيد، وهو الخبير، وهو اللطيف سبحانه وتعالى، وهذه كلها من أسماء الله الحسنى العظيمة التي فيها معانٍ متقاربة، وإن كان كل منها يختص بشيء فيها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة)، فالله عالم الغيب والشهادة وعلام الغيوب، يعلم كل ما ظهر وما خفي، وما كان في السر وما كان في العلن سبحانه وتعالى. ولكن يعطي معنى زائداً هنا أنه ما خفي علمه الله سبحانه وتعالى، ففي هذه الآية إشارة للعلم الخفي، والله شهيد أي: عليم سبحانه، ولكن العلم بالجلي أي: الشيء الظاهر المشاهد، فالله عز وجل عليم وخبير وشهيد، والله سبحانه لطيف عليم، فيعامل العباد بعلمه سبحانه وتعالى وبلطفه الخفي، فيرفق بهم لما يعلم في قلوبهم سبحانه وتعالى مما يستحقون، وقد فسرنا قبل ذلك هذه الكلمة العظيمة. فقوله تعالى: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الشورى:24]، أي: عليم بما تحتويه صدور خلقه. وقوله: {بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الشورى:24]، أي: بما في القلوب.

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده)

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده) قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى:25]، فانظروا إلى كرم الله سبحانه وتعالى، هم يقولون: افتراه، والله عز وجل يخبر عن هذه الجريمة التي قالوها وعن العقوبة، ثم يقول: إنه يبسط لهم يد التوبة إن تابوا إلى الله، فيتوب الله عز وجل على هؤلاء إن تابوا إليه، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ}، أي: يقبل توبة عباده، فعل وفاعل ومفعول، قوله تعالى: {عَنْ عِبَادِهِ}، يعتبر المفعول الثاني، فكلمة (يقبل) تتعدى لمفعول واحد فقط، ولا تتعدى للمفعول الثاني إلا بمن أو بعن، فهنا تعدَّت للمفعول الثاني بقوله: {عَنْ عِبَادِهِ}. ومن العباد من يتوبون إلى الله فيقدمون هذه التوبة فيتجاوز الله عن عباده سبحانه وتعالى، فكأن معنى: {يَقْبَلُ التَّوْبَةَ}، أي: يعفو ويتجاوز عن عباده، فالقرآن كتاب فصيح وبليغ، يعبر بالكلمة عن الجملة، وبالحرف عن الجملة، فقوله تعالى: {يَقْبَلُ التَّوْبَةَ}، أي: أخذها، ولكن لا نعرف ماذا فعل بهم، لكن لما قال: {يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [الشورى:25]، قد قبل ما قالوا، قالوا: تبنا، فقال: تبت عليكم ولن أعاقبكم، ومحونا هذا الذنب وتجاوزنا عنه وعفونا عنه، فقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ}، اي: يعفو عن هؤلاء العباد فيما أسرفوا وفيما وقعوا فيه، يقبل التوبة عمن تابوا إلى الله وأخلصوا لله، ودخلوا في دين الله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمرو بن العاص: (مد يدك، فمد يده ثم سحبها، قال: لم يا عمرو؟! فقال: أريد أن أشترط، قال: وماذا تشترط؟ قال: أن يغفر الله لي، قال: أما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله، وأن التوبة تهدم ما قبلها). فإذا كان إنساناً كافراً دخل في دين الله عز وجل وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأصلح، فهذه تجب ما قبلها، ويغفر الله له كل ما وقع فيه قبل ذلك، ومن تاب إلى الله توبة نصوحاً فالله يتوب عليه. قال الله تعالى: {وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ}، أي: يتجاوز سبحانه وتعالى عن سيئات وقع فيها صاحبها، وقوله: {السَّيِّئَاتِ} [الشورى:25]، أي: جنس السيئات وكل السيئات يعفو عنها، ولا يوجد ذنب يتعاظم على الله سبحانه وتعالى، فإن {اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53]، وإذا تاب العبد إلى الله تاب الله عز وجل عليه، فيغفر الله الشرك فما دونه، فكل الذنوب يغفرها الله سبحانه بالتوبة. وإذا مات العبد على الشرك فـ {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48]، لأن الشرك يحبط كل الحسنات، فهو أقبح السيئات التي يقع فيها العبد، فإذا مات العبد على الشرك فإنه لا يرجو مغفرة من الله عز وجل، ولو أن العبد لم يقع في الشرك بالله سبحانه، ووقع في معاصٍ، فإنه يكون في خطر المشيئة إن شاء الله تجاوز عنه وإن شاء أوبقه وعذبه، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:48]، وإذا لم يمت العبد وتاب فإن الله يغفر الذنوب جميعاً الشرك وما دونه، طالما أن العبد يتوب إلى الله فالله يتوب عليه، ولكن التوبة بشروطها. فمن تاب إلى الله عز وجل إذا كانت المعصية بينه وبين الله يتوب إلى الله ويستر نفسه ولا يفضحها، وإذا كان بينه وبين الخلق مظالم فلابد من إرجاع المظالم لأصحابها أو التحلل منهم، فالله يعفو عن السيئات بالتجاوز عمن تاب إليه سبحانه. وقوله تعالى: {وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى:25]، هذه قراءة حفص عن عاصم، وحمزة والكسائي وخلف ورويس عن يعقوب، وباقي القراء وهم الجمهور يقرءونها: (ويعلم ما يفعلون) سبحانه علام الغيوب، فهو يعلم ما يفعل هؤلاء الكفار، وما يفعلونه بالنبي صلى الله عليه وسلم، فمن تاب منهم تاب الله عز وجل عليه.

بعض الآيات والأحاديث الدالة على كرم الله على عباده وتوبته عليهم

بعض الآيات والأحاديث الدالة على كرم الله على عباده وتوبته عليهم نذكر في التوبة بعض هذه الأحاديث كي نعرف توبة الله وكرم الله سبحانه وتعالى على عباده، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى:25]، وقال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]، فالله عظيم سبحانه وتعالى يغفر الذنوب جميعاً، وعندما تسمع قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:48]، تجد كرم الله سبحانه في كونك مسلماً ولست مشركاً، فترجو من الله أن يغفر الذنوب سبحانه وتعالى، فكل من يقول ذلك لا يقع في الشرك ولا يدعو إلا الله، ولا يتوسل إلا بالله، ولا يطلب من غير الله ما لا يجوز أن يطلب إلا من الله سبحانه وتعالى. فالدعاء والاستغاثة والاستعانة كلها عبادات، فتلجأ إلى الله عز وجل، وتقول: لا إله إلا الله بشروطها: علم، ويقين، وقبول، وانقياد، وصدق، وإخلاص، ومحبة، وولاء، وبراء، فإذا أتيت بحقها وعرفت معناها، وأيقنت بذلك فإنك مسلم، وإذا وقعت في الذنوب يتوب الله عليك إذا تبت إليه. ومن الأحاديث: ما جاء عنه صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: (ما من عبد يذنب ذنباً فيحسن الطهور، ثم يقوم فيصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر الله له، ثم قرأ هذه الآية: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:135])، فليس هناك أحد يغفر الذنوب إلا الله، قال تعالى: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:135]، بشرط {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135]، فلابد أن تتوب إلى الله ولا تصر على فعلك، وإذا كانت المعصية تتعلق بحق إنسان، وقيل لك: اذهب استسمح من فلان إذا أردت التوبة، فلم تذهب بل أبيت، فأنت مصر على ما أنت عليه من المعصية، وقد تظلم إنساناً وتقول: لأنه سيئ الأخلاق، فلابد أن تعطيه حقه حتى وإن كان سيء الأخلاق. ومن الناس من تجده كثير العناد فيقع في الكفر؛ لأنه يعبر بتعبيرات يخسر بسببها عند الله عز وجل. والذي يريد أن يتوب إلى الله لابد أن يرد المظالم إلى أصحابها، ويستسمح ممن وقع في حقهم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يقتل المؤمن متعمداً، أو الرجل يموت كافراً). وروى الإمام أحمد من حديث جابر بن عبد الله قال: بلغني حديث عن رجل سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتريت بعيراً ثم شددت عليه رحلي، فسرت إليه شهراً حتى قدمت عليه الشام، فإذا عبد الله بن أنيس، -وهذا يدل على اهتمامهم بطلب العلم- إذ إن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما سمع حديثاً، وهذا الحديث لم يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن سمعه ممن كان معه، فأحب أن يكون إسناد الحديث عالياً، أي: أقصر سلسلة توصل إلى راوي الحديث، فأراد جابر بن عبد الله أن يسمعه ممن سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، فقام يشد رحله إلى الشام شهراً كاملاً، يركب جملاً ويسافر من المدينة إلى الشام لسماع حديث واحد. قال: ثم شددت عليه رحلي، فسرت إلى الشام شهراً حتى قدمت عليه، فإذا عبد الله بن أنيس -وهو صحابي من الصحابة الأفاضل رضي الله تبارك وتعالى عنه- قال: فقلت للبواب: قل له: جابر، قال: جابر بن عبد الله؟ قلت: نعم. فخرج يطأ ثوبه فاعتنقني واعتنقته، فقد تعجب عبد الله بن أنيس من حاله، فقد أتاه من المدينة قائلاً له: حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص، أي: في قصاص الآخرة، قال: فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسمعك، قال عبد الله بن أنيس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يحشر الناس -أو قال: العباد- يوم القيامة عراة غرلاً بهماً)، قوله: (عراة)، أي: كما خلقهم الله عز وجل، (غرلاً)، أي: غير مختونين كما نزلوا من بطون أمهاتهم، قال: (قلنا: وما بهماً؟ قال: ليس معهم شيء)، أي: فقراء ليس لديهم دراهم ولا مال، قال: (ثم يناديهم -أي: ربهم سبحانه وتعالى- بصوت يسمعه من قرب)، يعني: الجميع يسمعونه؛ لأن الصوت قريب منهم، قال: (بصوت يسمعه من قرب: أنا الملك الديان)، والديان: الذي يدين العباد سبحانه وتعالى، والدين بمعنى: الجزاء، أي: الذي يجازي العباد، ولا أحد يجازيهم غيره (أنا الملك الديان، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقصه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عنده حق حتى أقصه منه). فهذا من أهل الجنة ذاهب إلى الجنة وقد جاوز الصراط، وحسناته غلبت سيئاته، ولكنه عمل عملاً أوقفه عن دخول الجنة، كأن يكون ظلم شخصاً حتى إن كان من أهل النار، قال: (ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عنده حق حتى أقصه منه حتى اللطمة)، أي: ضرب إنسان بيده ظلماً، وقد كان أهل الجاهلية عداة ظالمين بغاة، فقد كانوا يفتخرون بأنفسهم أنهم طغاة، هذا منطق أهل الجاهلية، فلما جاء الإسلام منع الظلم ورد المظالم إلى أهلها، فالمسلم إذا تطاول على خلق الله يأتي به الله يوم القيامة فيأخذ من حسناته ويعطيها لمن ظلم، وهذا هو المفلس يوم القيامة، يأتي بحسنات أمثال الجبال، ولكنه ظلم الخلق كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (أكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، ولطم هذا، وقذف هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته أخذ من سيئاته فطرحت عليه فطرح في النار). هنا يقول الله عز وجل: (حتى أقصه منه، حتى اللطمة، قلنا: كيف وإنما نأتي الله عز وجل عراة غرلاً بهماً؟ قال: بالحسنات والسيئات)، هذا المفلس هو المسكين يوم القيامة؛ لأنه وجد نفسه سيدخل الجنة، لكنه ظلم خلقاً كثيرين، فتؤخذ من حسناته لهذا ولهذا ولهذا، حتى تفنى حسناته كلها، فإن بقي عليه مظالم أخذ من سيئاتهم إلى سيئاته فيقذف في النار، فإياك إياك والظلم، واحذر من العناد والكبر، فهي معصية إبليس، فإياك أن تقتدي بإبليس، فقد قال لله عز وجل عنه أنه قال: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء:61]، ما دمت قد خلقته من طين فأنا أحسن منه خلقتني من نار، فلماذا أسجد له؟ وهكذا تكبر إبليس، فكانت أول معصية يعصى بها الخالق سبحانه أن يستكبر إبليس عن الطاعة، فاحذر أن تقلده حتى لا تكون معه في النار. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الشورى [25 - 27]

تفسير سورة الشورى [25 - 27] إن الله تعالى يقبل توبة العبد إذا تاب إليه توبة نصوحاً خالصة، مستشعراً الندم والحسرة على فعله، عازماً على ألا يعود إلى ذلك الذنب، بل ويبدل الله سيئاته حسنات، والله ذو الفضل العظيم. ولا يضر العبد إذا عاش فقيراً إذا كان طائعاً تائباً عابداً قانتاً، فالنبي صلى الله عليه وسلم كانت تمر عليه الأهلة وما يوقد في بيته نار، وكان يربط الحجر على بطنه من الجوع، وهو سيد الأولين والآخرين صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده)

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الشورى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ * وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى:25 - 27]. قوله سبحانه: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ)، فالله توّاب رحيم سبحانه، فهو يتوب على عبده، والله حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع يديه إلى الله عز وجل، فالله يستجيب له، قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث: (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل)، وقال: (يستجاب لأحدكم ما لم يدعُ بإثم أو قطعية رحم)، فالله سبحانه يستجيب دعوات العبد ما لم يعجل في دعائه وطلبه من الله عز وجل، وما لم يدع بقطيعة رحم أو بإثم. (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ) أي: يقبل فيتجاوز عن سيئاتهم وعن ذنوبهم. (وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ) هنا يخبر أنه يعفو عنها، فيمحو هذه السيئات ويجعلها كأنها لم تكن شيئاً، فيعفو الله سبحانه وتعالى عنها ويسامح في ذلك، ففضله على خلقه عظيم سبحانه، وأعظم السيئات هو الشرك، فإذا تاب العبد منه إلى الله عز وجل تاب الله عز وجل عليه. (وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) أي: يعلم ويقدر على المجازاة سبحانه، فيجازي العبد على ما يفعله.

أحاديث تحث على التوبة

أحاديث تحث على التوبة وقد ذكرنا أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في توبة الله سبحانه على عباده ومن هذه الأحاديث ما في صحيح البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن الناس من أهل الشرك كانوا قد قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فأنزل الله سبحانه: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} [الفرقان:68]، والآثام: هي عقوبة الإثم، {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:69 - 70]. إن الله غفور رحيم، وعفو كريم، فهو يبدل السيئات حسنات، ويبدل الآثام بالحسنات، وهذا من فضله سبحانه، ويؤتى بالعبد يوم القيامة فيقول الله عز وجل لملائكته: أحضروا كبار وصغار سيئاته، فيأتي ببعض سيئات هذا العبد ويخفي عنه الباقي، والعبد يتذكر: عملت كذا وعملت كذا، فالله عز وجل يقول له: عملت كذا؟ فيقول: نعم، وهو يعلم أن هناك ما هو أشد من ذلك، فالله عز وجل يقول له: عملت كذا؟ فيعترف بذنبه أمام الله عز وجل، ويقول له: وعملت كذا؟ فيقول: نعم يا رب! كل ذلك وقد ستر الله عز وجل عنه من كبائر ذنوبه؛ لأنه قد تاب في الدنيا، فالآن الله عز وجل ستر عنه البعض وأراه البعض الآخر، فلما رأى ذلك من فضل الله سبحانه إذا بالله سبحانه يقول: قد عفونا عنك، وقد بدلناها لك حسنات، أي: فهذا الذي تراه أمامك الآن قد غفرناه لك، وبدلنا هذه السيئات حسنات، فإذا بالعبد يتطاول ويقول لله عز وجل: هناك ذنوب ليست هاهنا، يعني: هناك معاصٍ أنا عملتها وليست مكتوبة، وذلك لما رأى أن السيئات تنقلب إلى حسنات، والله عز وجل كريم يتفضل على عبده بالتوبة والمغفرة. فهذا الحديث فيه: أن أناساً جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا على الشرك، وقالوا: نحن في أيام الشرك عملنا كثيراً من السيئات، فقد قتلنا وسرقنا وزنينا وأكثرنا من ذلك، فهل إذا دخلنا في الإسلام سيفغر لنا ربنا أو ماذا سيفعل بنا؟ فأنزل الله سبحانه وتعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:70]، وأنزل الله سبحانه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]، فالله يغفر الذنوب جميعاً، فإذا تبتم إلى الله ودخلتم في الإسلام، فالله يغفر الذنوب جميعاً سبحانه. ومن الأحاديث العظيمة ما جاء في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن رجل ممن كانوا قبلنا قتل تسعة وتسعين نفساً فأراد أن يتوب، فذهب يبحث عن أعلم أهل الأرض، فدل على عابد من العباد، فذهب إليه فقال له: إني قتلت تسعة وتسعين نفساً فهل لي من توبة؟ فقال: ليس لك توبة، فقتله وكمل به المائة، ثم سأل فدلوه على عالم فذهب إليه وسأله: قتلت تسعة وتسعين نفساً وكلمت مائة فهل لي من توبة؟ قال: ومن يمنعك من التوبة؟ ولكن أنت في أرض أهلها أشرار، اترك هذه الأرض واذهب إلى مكان كذا؛ فإن فيه أناساً يعبدون الله، فاذهب فاعبد الله معهم، فخرج هذا الرجل من هذه الأرض إلى الأرض الأخرى ومات في الطريق، فإذا بالملائكة يختصمون فيه، فملائكة العذاب يقولون: لم يعمل خيراً قط، وملائكة الرحمة يقولون: إنه خرج تائباً، فأوحى الله عز وجل إلى الاثنين أن قيسوا ما بينه وبين الأرضين، فإلى أيتهما كان أقرب فهو من أهلها، فقاسوا فإذا بالله يوحي إلى الأرض أن اقربي من هنا وابعدي من هنا، فوجدوه أقرب إلى أرض الرحمة فجعلوه من أهلها، فيقبض إلى رحمة الله سبحانه). فهذا قتل وأكثر، وتاب إلى الله فأدركته الرحمة فكيف بما دون ذلك من الذنوب؟! فإذا تاب العبد تاب الله عز وجل عليه، حتى ولو كان قاتلاً ثم تاب فإن الله يرحمه، ولكن الغالب أن قاتل النفس لا يتوب. فإذا أدركت العبد التوبة من الله عز وجل فالله يتوب عليه، أما إذا لم تدركه التوبة وافتخر بما فعل، وفعل هذا الشيء معانداً، وفرح بهذا الذي فعله من قتْل مؤمن بغير جرم وبغير حق، فهذا الذي جاء فيه الحديث الآخر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما كان الله ليجعل لقاتل مؤمن توبة). إن الإنسان الذي يعرف الإسلام ويعرف الحق، ويعرف أن هذا مؤمن ثم يذهب فيقتله بغير ذنب، أو يقتل إنساناً مؤمناً على شيء حقير من الدنيا لا يساوي أن يقتله من أجله، فنقول: رحمة الله تسع كل شيء، ولكن الله له الحكمة البالغة، فبحكمته سبحانه يلهم هذا التوبة فيتوب، ويحجب عن هذا التوبة فلا يتوب، فالله عليم حكيم والأمر راجع إليه سبحانه وتعالى؛ لذلك فالعبد يخاف من الله عز وجل، وما يدريه إن قتل إنساناً فلعل الله لا يلهمه أن يتوب، ولكن من وقع في المعصية فنقول له: تب إلى الله عز وجل، والله يتوب على من تاب، لكن عليك أن تفكر إذا عملت معصية من يضمن لك أن ترجع إلى الله وأن تتوب، أو تعيش حتى تتوب؟ فلعلك تقع في المعصية ويقبضك الله عز وجل عليها، فتموت على هذه المصيبة التي فعلت. فلذلك الإنسان المؤمن إذا وقع في المعصية فليتب إلى الله، وإذا لم يقع في المعصية فليقل لنفسه: من لي بالتوبة إذا وقعت في هذه المعصية، ولعلي أموت عليها فأكون من أهل النار، ولذلك فابتعد عن المعاصي، وإذا وقعت فتب وبادر بالتوبة إلى الله، فإنه هو الغفور الرحيم. فعلى المسلم أن يستشعر التوبة، وأن يستشعر بالجرم الذي وقع فيه، وأن يستشعر أنه وقع في شيء عظيم تجاه الله سبحانه، فإذا استشعر ذلك فتاب تاب الله عليه، وقد يعاود فيقع مرة ثانية ويستشعر بالذنب فيبادر بالتوبة، فالله عز وجل جعل ملكين: ملكاً على اليمين وملكاً على الشمال، ملكاً يكتب الحسنات، والآخر يكتب السيئات، وجعل ملك الحسنات هو الأمير على ملك السيئات، فإذا وقع العبد في معصية يقول: ارفع يدك؛ لعله يتوب، فيرفع يده ست ساعات عن العبد لعله يتوب إلى الله، فإذا مات فلا يلومنّ إلا نفسه؛ لأنه هو الذي وقع في ذلك، فقد فُتح له الباب للتوبة فلم يتب إلى الله، فاستحق العقوبة. قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه سبحانه، قال: الله عز وجل: (إذا أذنب العبد ذنباً فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، قال الله تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب ذنباً وتاب، فقال الله: علم عبدي أن له رباً يأخذ بالذنب ويغفر الذنب، ثم أذنب العبد ذنباً ثالثاً ثم رجع تائباً إلى الله، فقال الله عز وجل: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يأخذ بالذنب ويغفر الذنب، وفي الرابعة يقول الله: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يأخذ بالذنب ويغفر الذنب، اعمل ما شئت فقد غفرت لك). فإذا وقع في الذنب علم أن الله سيعاقبه فيبادر سريعاً، وقد جاء في الحديث: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، ولا يمكن ألا يقع الإنسان في حياته كلها في الذنب، ولكنه إذا أذنب رجع فتاب إلى الله، ويندم على ذنبه، ويستغفر على معصيته، ويعزم ألا يرجع إلى الذنب مرة ثانية، وإذا كان في حق إنسان رد المظلمة إليه واستحله، ففي هذه الحالة يكون تائباً حقيقة، فالتائب ليس هو الذي قال: أستغفر الله وكفى، بل التائب هو الذي يتوب ويندم ويبكي على خطيئته التي وقع فيها، ويعزم على ألا يرجع إليها مرة ثانية فهذا يستحق أن يتوب الله عز وجل عليه، وكلما أذنب رجع، فكأن الله يقول له: إن كانت هذه عادتك: أنك إذا وقعت في الخطأ لم تتعمد هذا الخطأ، أو تعمدت فوقعت فيه وبادرت بالتوبة، فإذا فعلت ذلك ولو مراراً فسنغفر لك، فرحمة الله عظيمة واسعة، وكما جاء في الحديث: (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل). والعبد يكون مع ربه بين الخوف والرجاء، بين الخوف من الذنوب، والخوف ألا يتوب الله عليه، وبين رجاء رحمة الله، فهو يرجو رحمته ويخاف عقابه، فإذا كان هكذا فهو جدير بأن يتوب توبة صادقة، وأن يغفر الله له، وفرق بين هذا وبين من ينوي العود إلى الذنب، وإذا تاب فإنما يستغفر الله باللسان، وأما القلب فلم يتحرك، ولم يندم، ولم يعزم على ترك الذنب، فالقول باللسان لا ينفعه عدم موافقة القلب، وليس داخلاً في هذا الحديث، وإنما هذا الحديث في التائب الصادق إلى الله سبحانه. قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)، يعلم ما تفعلون فيجازيكم على ما فعلتم.

تفسير قوله تعالى: (ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات)

تفسير قوله تعالى: (ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات) قال تعالى: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الشورى:26]، السياق في ذكر رحمة رب العالمين سبحانه، ولذلك أكثر المفسرين على أن الضمير في قوله: (يَسْتَجِيبُ) عائد إلى الله سبحانه، (ويستجيب) بمعنى: يجيب، وقالوا: أجاب واستجاب تأتي بمعنى واحد أحياناً، فهذا منها. إذاً: فالله يقبل، والله يعفو، والله يعلم، والله يستجيب، والأصل المعروف أن تكون الجملة هكذا: ويستجيب للذين آمنوا، ولكن قال هنا: ((ويستجيب الذين آمنوا))، فهي أحياناً تتعدى للمفعول بنفسها، وإن كان الغالب أنها تتعدى للمفعول باللام، فيقال: يستجيب لـ (كذا)، وقد تكون: يستجيب كذا، فيستجيب بمعنى يجيب، وكأن السين لاستدعاء الفعل منه سبحانه، وكأنهم طلبوا فاستجاب سبحانه لهم، تقول: طلبت من الله فأجابني، ودعوت الله فاستجاب لي. فقوله: ((يستجيب الذين آمنوا)) معناها: يجيب الذين آمنوا، فضُمِّن معنى الإعطاء. قالوا: ومن معانيها أيضاً: ليشفع بعضهم في بعض، فكأنهم يطلبون منه فيفعل، فيدخل بعضهم الجنة، ثم يطلع على النار فيجد فيها صديقه الذين كان معه في الدنيا وكان على الإسلام، ولكن عصى الله سبحانه، فيقول: يا رب! شفعني فيه، إنه كان صديقي في الدنيا، فيستجيب الله عز وجل فيشفع هذا في هذا، ويخرج هذا من النار بشفاعة هذا فيه، فتأتي بمعنى: أنه يستدعي للذين آمنوا الإجابة، أي: يجيبهم فيما سألوه وطلبوه. وكذلك قد يأتي المعنى في قوله: (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا) على بابها وعلى أصلها، أي: فيستجيب المؤمنون لله، ويدخلون في دين الله طواعية، ويتابعون النبي صلوات الله وسلامه عليه، ويعملون بما أمر الله عز وجل به، ويتركون ما نهى الله عز وجل عنه، فيزيدهم الله عز وجل من فضله، وإن كان المعنى الأول أجمل في أن الضمير في كل الأفعال السابقة عائد على الله سبحانه، فهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، وهو يعلم ما تفعلون، وهو الذي يستجيب سبحانه، ويزيدهم من فضله سبحانه. (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) إذاً فالذي يستحق الإجابة من الله وأن يعطيه سبحانه هو المؤمن الذي يعمل الصالحات؛ ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الكافر سواء كان يهودياً أو نصرانياً أو غير ذلك إذا أسلم فحسن عمله، فالله عز وجل يكفر عنه ما مضى، فالإنسان في كفره يقع في معاصٍ كثيرة، والكفر أعظم الذنب، فإذا أسلم وأحسن فالإسلام يهدم كل ما كان قبله. فإذا أسلم ولم يحسن، إذا أسلم وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، لكن ما زال يسرق، أو يزني، أو يقع في المعاصي فإنه يؤاخذ بهذه الذنوب، أي: بما يفعله الآن في الإسلام، وتنفعه لا إله إلا لله في أنه لا يخلد في النار، فإذا قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله فإنها تنفعه يوماً من الدهر وإن أصابه قبل ذلك ما أصابه، إذاً فكلمة لا إله إلا الله تنفع كل مسلم حتى وإن دخل النار، وفي النهاية فالله سبحانه يخرجه من النار برحمته وشفاعة الشافعين ويدخله جنته سبحانه، وهؤلاء هم عتقاء الله من النار، لكنه قد يكون في النار إلى ما شاء الله، وهذا خلود دون خلود الكفار، فالكفار يخلدون في النار فإذا رأوا البهائم قد صارت تراباً قال أحدهم: {يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40]، ولا يكونون تراباً، بل لا يزالون في النار أبد الآبدين، نسأل الله العفو والعافية. فيستجيب الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات، ((ويزيدهم من فضله)) أي: يعطيهم الحسنى ويزيدهم من فضله سبحانه. فالعبد يسأل ربه والله يستجيب له ويعطيه عطاء عظيماً، وعطاء يليق به، والعبد مهما تخيل الجنة فلن يصل إلى حقيقتها، وسيتخيل من البيئة التي هو فيها، ومن الأرض التي خلق عليها، فالإنسان عندما يرى بستاناً عظيماً جميلاً فيه من الثمار ما شاء الله فإنه يقول: هذا مثل الجنة، وهذا في تخيله هو وإلا فالجنة أعظم من ذلك بكثير، فليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء، لكن الحقيقة أعظم بكثير، وانظر إلى أهل الجنة وهم يعطون من ثمار الجنة فيقولون: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة:25]، فتشتبه مع الثمر السابق في المنظر فقط، وأما الطعم فشيء آخر خالص، فيقول الله سبحانه: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة:25] فالتشابه في المنظر، وأما الطعم فيختلف. فيعطيهم ما طلبوه ويزيدهم، والحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة لا يعلمها إلا الله سبحانه. (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ)، وأعظم فضله سبحانه على عباده: النظر إلى وجهه، وأعظم فضله سبحانه رضوانه، ولذلك جاء في الحديث أن الله يقول لأهل الجنة: (يا أهل الجنة! هل لكم من شيء تريدونه؟ فيقولون: يا رب! وماذا نطلب وقد أعطيتنا ما لم تعطِ أحداً من العالمين؟! فيقول: اليوم أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً). وأما الكافرون فيقول الله سبحانه عنهم: (وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ)، وانظر إلى منظرهم في النار، قال تعالى: {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون:104]، تقول: فلان كلح وجهه، إذا اشتد قبح وجهه ولو أن إنساناً لفحته النار في وجهه -والعياذ بالله- فإن منظر وجهه سوف يتغير، ويحتاج إلى عدة عمليات تجميل حتى يرجع شيء مما كان عليه قبل ذلك، فالكفار إذا دخلوا النار كلحت وجوههم، فصاروا سود الوجوه، زرق العيون، عمياً في النار، فتحرقهم النار، فإذا بالشفة السفلى تنزل إلى صدر أحدهم، والشفة العليا تشمر إلى أعلى، فتخيل منظر إنسان بهذه البشاعة!! وأهل النار يوبخهم ربنا سبحانه بقوله: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [المؤمنون:105]، {فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ} [الجاثية:31]، ألم تكن الآيات تتلى عليكم، فلماذا لم تتبعوا القرآن ولم تتبعوا الآيات؟ {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} [المؤمنون:109 - 110]، فقد كان الكفار المجرمون أهل النار يضحكون من المؤمنين ويسخرون منهم، وكم من إنسان أراد أن يصلي فيمنعه هؤلاء المجرمون بسخريتهم، وهؤلاء قال الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين:29 - 33]، وفي يوم القيامة: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين:34 - 36].

تفسير قوله تعالى: (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض)

تفسير قوله تعالى: (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض) يقول ربنا سبحانه: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى:27]، فالله له الحكمة العظيمة البالغة، فثق بالله سبحانه سواء أعطاك قليلاً أم أعطاك كثيراً، كن على ثقة أن الله عز وجل يفعل بك الخير، {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:26 - 28]، فربك الكريم سبحانه يقول لك: أنت ضعيف وأنا أريد أن أخفف عنك، فافعل ما آمرك به حتى أخفف عليك في الدنيا وفي الآخرة، حتى أخفف عنك الحساب يوم القيامة، فأنت ضعيف لا طاقة لك بعذاب الله سبحانه، ولا طاقة لك بأن يضيق عليك في الدنيا وفي الآخرة، فتب إلى الله سبحانه. (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ) ماذا سيكون؟ لو أن كل الناس صاروا أغنياء فهل سيحتاج بعضهم إلى بعض؟ وهل سينظر أحدهم إلى الثاني؟ وأين التكافل الاجتماعي بين الناس؟ لكن في حال وجود الضعيف مع القوي فالقوي يشفق على الضعيف ويحنّ له، ويميل إليه فيعطيه وينفق عليه، فالفقير يحب الغني الذي يعطيه، فيدعو له، فتكون هناك ألفة وترابط بين الناس، فالله عز وجل بحكمته جعل العباد فيهم الضعيف والقوي، وفيهم الفقير والغني، وفيهم الصغير والكبير، وجعل الله عز وجل العباد يحتاج بعضهم إلى بعض؛ حتى يوجد التكافل بين الناس، وتوجد المعاشرة والمحبة بينهم، ولا يستغني بعضهم عن بعض.

بيان ما كان عليه النبي من الحاجة والمخمصة

بيان ما كان عليه النبي من الحاجة والمخمصة قال تعالى: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ) ماذا سيحصل؟ (لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ)، قال تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك:14] فالله هو الذي خلق الإنسان، وهو يعرف طبيعته، وطبيعته أنه إذا أعطي وصار غنياً فإنه يطغى ويبغي على خلق الله سبحانه، لذلك كان نبينا الكريم العظيم صلوات الله وسلامه عليه يدعو ربه ويقول: (اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين)، فهذا حال النبي الذي لو طلب من ربه لجعله ملكاً من الملوك، وقد أنزل الله عز وجل عليه جبريل فقال له: (إن ربك يخيرك: إن شئت عبداً نبياً، وإن شئت ملكاً نبياً، فنظر إلى جبريل يستشيره - والمستشار مؤتمن - فأشار إليه جبريل أن تواضع، فقال: بل عبداً نبياً) فتواضع النبي صلى الله عليه وسلم فيما طلب من ربه سبحانه، ورفض الدنيا، وفضل أن يجوع يوماً ويأكل يوماً، فإذا جاع سأل ربه، وإذا شبع حمد ربه سبحانه. وكان يخرج من بيته صلوات الله وسلامه عليه وقد استشعر الجوع الشديد، ولا شيء في بيته صلى الله عليه وسلم، فلا يوجد طعام يطعمه في بيته، فكان يمر عليه اليوم واليوم واليوم ولا يوجد في بيته شيء صلوات الله وسلامه عليه، وكان يربط على بطنه الحجر من شدة الجوع، وقد خرج يوماً فإذا بـ أبي بكر فقال: ما أخرجك يا أبا بكر؟ قال: الجوع يا رسول الله! وجاء عمر رضي الله عنه فقال له: ما أخرجك؟ قال: أخرجني الذي أخرجكما الجوع، فمشى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر حتى وصلوا إلى بيت رجل من الأنصار، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم فرح به ودعاه هو وأبا بكر وعمر، فجلسوا وآتاهم بعنقود من عناقيد حديقته فيه رطب، فأكل النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر، وجاء لهم بماء بارد فشربوا الماء وحمدوا الله، وإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (والله لتسألن عن النعيم) أي: هذا من النعيم الذي تسألون عنه، فقال عمر يسأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي نعيم يا رسول الله؟! وإنما هما الأسودان التمر والماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة)، فهذا النبي الكريم جعله الله سبحانه يجد أحياناً ولا يجد أحياناً، ويموت النبي صلى الله عليه وسلم وقد مرت عليه شهور ولم توقد في بيته نار، ولم يطبخ في بيته شيء، ومن منا يمر عليه ستون يوماً ولم توقد النار في البيت لعمل الطعام والشراب؟!! فتُسأل عائشة: فما كان طعامكم؟ قالت: الأسودان - أي: السائد عندنا في المدينة - التمر والماء. وهذا أبو هريرة يطعم الناس الخبز، فقد عمل لهم فرناً وأوقف عليه خبازاً، وأبو هريرة كان من أفقر خلق الله في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنه، وكان رجلاً قنوعاً، وقد تعلم القناعة من النبي صلوات الله وسلامه عليه، وكان أهم شيء عنده أن يطلب العلم من النبي صلى الله عليه وسلم، ويحفظ منه أحاديثه صلوات الله وسلامه عليه، فكافأه النبي صلى الله عليه وسلم بأن دعا له أن يحفظ فلا ينسى، قال: (شكوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنني أنسى، فقال: ابسط ثوبك، فبسط ثوبه، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: اضمم عليك ثوبك، فضم عليه ثوبه، قال: فما نسيت بعد ذلك شيئاً حفظته)، فـ أبو هريرة استحق المكافأة مع أنه لم يكن من السابقين المهاجرين، فإسلامه كان متأخراً، فقد أسلم في عام خيبر، ومع ذلك حفظ من الأحاديث ما لم يحفظه غيره رضي الله عنه، وصار راوية الإسلام رضي الله عنه، فأحب الدين، وأحب الله، وأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحبه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأكرمه، وجعله قريباً منه ليسمع منه أحاديثه الكثيرة التي يقولها، ودعا له أنه لا يحبه إلا مؤمن، وفعلاً ما من مؤمن يرى أبا هريرة إلا ويحب أبا هريرة رضي الله عنه، وما من مؤمن يسمع لـ أبي هريرة إلا ويحب أبا هريرة، ومن أبغض أبا هريرة فلا يستحق أن يكون مؤمناً. فـ أبو هريرة رضوان الله تبارك وتعالى عليه كان فقيراً، ولما مات النبي صلى الله عليه وسلم أغناه الله عز وجل، ومع ذلك لم ينسَ الفقر، ولم ينسَ أنه كان فقيراً، وكان يقول للناس: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يأكل النقي من الخبز. فـ أبو هريرة كان يطعم الناس الخبز، ويقول لهم: مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يطعم ولم يأكل من هذا صلوات الله وسلامه عليه، فعرف ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر به، والمؤمنون الفقراء يتأسون به، ولما فتحت عليه الدنيا صلى الله عليه وسلم ما وضعها في جيبه، ولم يدخرها، وإنما أنفق لله سبحانه، وكان يأخذ ما يقوت أهله، والباقي ينفقه على المؤمنين وعلى ضيوفه، حتى إنه قبل أن يتوفى فتح الله عز وجل عليه، فصار له نصيب من المغنم، ونصيب من الفيء، فكان له فدك وغيرها، فيقول: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة) أي: ما تركناه فهو صدقة، فلا يورث مال النبي صلى الله عليه وسلم، فأنفق ماله كله مما فتح الله عز وجل عليه في سبيل الله، والمسلمون كذلك كان لهم من المغانم، ويموت أحدهم وله أموال، وله بيوت، ويرثه أهله، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فلم يكن كذلك، فقد توفي صلى الله عليه وسلم وكل ما تركه صدقة على المسلمين، فلم يأخذ شيئاً حياً ولا ميتاً صلوات الله وسلامه عليه، ولا ترك لأهله إلا محبة المسلمين والدعاء لهم، وما جعله الله عز وجل لهم في كتابه سبحانه وتعالى. إذاً: لو بسط الله الرزق لعباده لبغوا، ولكن جعل منهم فقراء وأغنياء، فالفقير يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم مات وليس عنده شيء صلوات الله وسلامه عليه، ومات ودرعه مرهونة عند رجل من اليهود في أوساق من شعير، وإذا لم يدفع أحد الثمن فإن اليهودي سيبيع هذه الدرع ويأخذ منها ثمن الشعير، ولكن قضى عنه علي رضي الله عنه دينه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، واسترد هذه الدرع من اليهودي، فمات النبي صلى الله عليه وسلم وهو على هذه الحالة، مات ودرعه مرهونة عند يهودي. والسبب الذي جعل النبي صلوات الله وسلامه عليه يشتري من اليهودي أن اليهودي سيطلب حقه من النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يشتر من المسلم شفقة وخوفاً أن المسلم لا يأخذ ماله، أو إذا مات النبي صلى الله عليه وسلم فإن المسلم يستحي أن يقول لأهل النبي صلى الله عليه وسلم: أين حقي؟ فسيقولون: ما ترك لنا النبي صلى الله عليه وسلم، فيستحي المسلم أن يأخذ حقه، وأما اليهودي فلن يستحيي، فمات النبي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند اليهودي حتى فكها علي رضي الله تبارك وتعالى عنه. والغرض من هذه القصص بيان ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يحزن المؤمن إذا وجد نفسه فقيراً، وإذا بات جائعاً، أو بات عارياً، وإن كان هذا نادراً ما يحدث، ولكن الله يفعل بعباده ما يشاء. نسأل الله من فضله ورحمته في الدين والدنيا والآخرة، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصلّ اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الشورى الآية [27]

تفسير سورة الشورى الآية [27] إن المتأمل في حال الناس يجد فيهم الغني والفقير، والموسع عليه ومن قدر عليه رزقه، فيقف عقله حائراً أن يجد لذلك تفسيراً؛ إذ كل الناس على هيئة وخلقة واحدة، لكن لما كان الله تعالى يسمى بالحكيم ويتصف بالحكمة كشف لنا في هذه الآية سبب ما نراه من تفاوت في الرزق ولماذا لا يكون كل الناس أغنياء؟ فبين الله أنه لو بسط الرزق للعباد لكان ذلك سبباً في بغيهم في الأرض وطغيانهم وعدوانهم على بعضهم، لكن الحكيم الخبير يعلم ما يصلحهم فينزل الرزق بقدر ينتفي معه طغيانهم وفسادهم جميعاً في الأرض، وذلك مقتضى حكمته وخبرته جل وعلا.

تفسير قوله تعالى: (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض)

تفسير قوله تعالى: (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى:27]. يخبرنا الله عز وجل بفضله وبرحمته وبعلمه وبقدرته أنه يحكم في خلقه بما يشاء، ويقدر لهم أرزاقهم بالنحو الذي تجري به حكمته وعلمه، فلو أنه بسط للعباد جميعهم ووسع عليهم لبغوا في الأرض، ولو أنه ضيق على الجميع لقنطوا من رحمة الله تعالى، ولكن يبسط الرزق فيفتح لمن يشاء ويقدر ويقبض ويضيق على من يشاء، وكل ذلك بعلمه وبقدرته وبحكمته سبحانه وتعالى. فالله يخبرنا أنه لو بسط الرزق لعباده لبغوا في الأرض، والبغي هو الطغيان، وهو أشد الظلم. والبغي أن الإنسان يطلب ما عند غيره لنفسه قهراً وظلماً وعدواناً، فلو أن الله عز وجل بسط الرزق لعباده جميعهم لكانوا كلهم أغنياء وما احتاج أحد إلى أحد. وإذا لم يستشعر الإنسان حاجته إلى جاره كانت العداوة والبغضاء، وكان كل منهما يريد أن يأخذ ما عند الآخر. لكن الله عز وجل يحوج العباد بعضهم إلى بعض؛ ليتعطافوا فيما بينهم، ولتكون بينهم المودة والرحمة، والحاجة والانتفاع. فلله سبحانه حكمة في أن ضيق على فلان، ووسع على فلان؛ ولذلك الذي يعطيه الله شيئاً فليرض بما قسمه الله، سواء كان هذا الشيء قليلاً، أو كان كثيراً. فالله لو بسط الرزق لعباده لبغوا في الأرض، ولكن ينزل سبحانه وتعالى بقدر ما يشاء، فالرزق نازل من السماء، وخزائن الله عز وجل ملأى يعطي لعباده بقدر، فيعطي هذا ويضيق على هذا لحكمة منه ولقضاء وقدر حكيم من الرب جل وعلا، فأنت تدعو ربك: يا رب، يا رب! فيصعد الدعاء وينزل الرزق من السماء. فالله سبحانه وتعالى يحب من عبده أن يسأله، فلعله ضيق عليك لتقول: يا رب، يا رب! وترفع يديك إلى الله عز وجل، فيصعد صوتك إلى السماء، فيجيبك الله عز وجل، ويجازيك وينزل عليك الرزق سبحانه وتعالى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يستجاب له وقت البلاء فليكثر من الدعاء في الرخاء). فصوتك مسموع في السماء في وقت الرخاء تدعو ربك، وتشكره، وتثني عليه سبحانه؛ فعندما يضيق بك الأمر تجد ما عند الله عز وجل من فرج قريباً جداً من حيث لا تحتسب، قال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]. فالمؤمن يتقي الله سبحانه، ويتقي أن يغير الله عليه، ويتقي معاصي الله، فإذا ضيق الله عز وجل عليه فهو راض في نفسه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اقنع بما قسم الله لك تكن أغنى الناس)، فبقناعتك بما أعطاك الله سبحانه تكن غنياً، ويجعل الله عز وجل في قلبك الإيمان والحب له سبحانه. والقناعة أفضل من المال، وكم من إنسان يؤتيه الله عز وجل المال وإذا به يطمع في غير الذي أعطاه الله سبحانه، وإذا به مع كثرة ما أعطاه الله سبحانه يبغي في الأرض، قال تعالى: ((وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ)) أي: لظلم بعضهم بعضاً، ونعرف ذلك من قوله سبحانه: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7] فالإنسان وقتما هو فقير محتاج يقول: يا رب يا رب! ويظهر التعاون مع الناس والحب لهم والرحمة، وعندما يغنيه الله سبحانه إذا به يبطر نعمة الله، ويكون مع ربه كالعبد اللئيم مع سيده، فيعصي ربه سبحانه، ولا يطيع أمره ولا يعمل بما قاله الله سبحانه، وطغيانه عندما يرى نفسه استغنى، ويشعر أنه غني، ويترك الدعاء ويطغى على خلق الله، ويبغي في الأرض فساداً، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:204 - 206]. وانظر في المقابل إلى هذا الإنسان الذي ذكره الله فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} [البقرة:207]، فعلينا أن نكون كهذا الثاني الذي يبيع نفسه ابتغاء مرضاة الله، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111]، فالله اشترى منك نفسك واشترى منك مالك وأعطاك عوض ذلك الجنة، فقبل منك البيع وأعطاك العوض ورد عليك الثمن أيضاً. فانظر إلى فضل ربنا الكريم، طلبت منه الجنة ودفعت نفسك ودفعت مالك فقبلك، وأعطاك الجنة، وأعطاك نفسك، قال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169]، فهم أحياء عند ربهم، قدموا أنفسهم لأجل الجنة، ودفعوا الثمن أموالهم، فإذا بالله يعطيهم الجنة التي أرادوها ويرد عليهم أرواحهم ليكونوا أحياء وغيرهم أموات في البرزخ. أما الذي يبيع نفسه للشيطان، ولا يقدم لله عز وجل شيئاً إلا الكلام كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة:204]، وكما قال الشاعر: يعطيك من طرف اللسان حلاوة ويروغ منك كما يروغ الثعلب فقد كان المنافقون إذا أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم تكلموا كلاماً جميلاً عن الإسلام، فإذا خرجوا من عند النبي صلى الله عليه وسلم إذا بهم يكفرون بالله، ويجدون جمالاً فأخذوها وسرقوها، ووجدوا قبيلة بينهم وبينهم نزاع فأحرقوا أموالهم، فأنزل الله عز وجل يفضحهم بهذه الآية. وقوله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى} [البقرة:205] تولى: لها معنيان: تولى بمعنى أدبر، أي: رجع عما قال وأفسد في الأرض. أو تولى بمعنى: أصابته ولاية، فصار والياً وحاكماً، وله مركز عند الناس، فنسي ما كان يقول، كان يتكلم عن صلة الرحم فنسي ذلك. وإذا قيل لأمثال هؤلاء: اتقوا الله، تأخذهم العزة بالإثم، ويقول لك: أنت تعلمني! ويغضب وينفر منك. كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا قيل لأحدهم: اتق الله، يقول: سمعنا وأطعنا، يخشع لله تبارك وتعالى، لكن بعض الناس إذا قيل له: اتق الله، يقول: أنت تراني مجنوناً حتى تقول لي: اتق الله! وقد تقول لإنسان: هداك الله، فيقول لك: تراني ضالاً حتى تقول لي: هداك الله! يريد أن ينفذ ما يمليه عليه هواه. وهذا الإنسان الذي يسير وراء هواه، آخر أمره أنه باغ في الأرض، وأنه بغيض إلى الله عز وجل، والله لا يحب المفسدين. فمثل هؤلاء يقول الله سبحانه فيهم: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ} [الشورى:27] أي: لصاروا بغاة ظالمين، يظلم بعضهم بعضاً. وقد جاء عن النبي صلوات الله وسلامه عليه أنه أخبر عن طمع ابن آدم فقال: (لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى له ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب)، فلو كان لابن آدم وادٍ من ذهب لتمنى له ثانياً، ولو كان له واديان لتمنى ثالثاً ولا يقنع. وعندما يتفكر الإنسان في ذلك لو كان الوادي مليئاً بالذهب ماذا سيعمل به؟ ومتى سينفقه؟! لكن طمع الإنسان يجعله يتمنى أن يعيش كثيراً طالما أنه يوجد مال كثير وينسى ربه سبحانه وتعالى، لكن التراب الذي خلق منه هو الذي سيملأ جوفه لا الذهب ولا الفضة، ومن تاب من الشره والطمع ومن المعاصي والبغي والإفساد في الأرض، ومن الحسد للخلق؛ فإن الله يتوب عليه.

رزق الله تعالى لعباده بقدر

رزق الله تعالى لعباده بقدر قال تعالى: {وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ} [الشورى:27]، وقال: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، فالرزق قضاء وتقدير من الله سبحانه ينزل بحساب منه، هذا يستحق كذا، وذاك يستحق كذا، والأرض الفلانية تستحق المطر؛ لأن أهلها يستحقون، والأرض الفلانية لا تستحق؛ لأن أهلها لا يستحقون، والأرض الفلانية لا تستحق، لكن سينزل عليها المطر من أجل أن فيها بهائم، وفيها من خلق الله من يحتاج إلى ذلك أما أهلها فلا يستحقون وهكذا. وقد جاء في الحديث في صحيح مسلم: (أن رجلاً كان يمر في صحراء إذ سمع صوتاً من السماء يقول: اسق حديقة فلان، فصار وراء السحابة، فسقت الحديقة، فإذا بالرجل ينادي صاحب الحديقة: يا عبد الله! ما اسمك؟ قال: ولم؟ فقال: أخبرني ما اسمك، فأخبره ثم قال: لم سألتني عن اسمي؟ قال: سمعت منادياً ينادي من السحاب: اسق حديقة فلان، فأخبرني ما الذي تصنعه؟ قال: أما إذ أخبرتني عن ذلك فإني إذا جمعت ثمار هذه الحديقة فآكل أنا وعيالي ثلثه، وأرد فيها ثلثه، وأتصدق بثلثه). فقد جعل لله حظاً في ماله مقداره ثلث المال، وإذا كان العبد يفعل ذلك فانظر كيف يصنع الله به ويعطيه من فضله هذا الخير وهذه البركة. وقد ذكر الله تعالى أصحاب حديقة آخرين وهم أصحاب الجنة، كان أبوهم رجلاً صالحاً وكان يعطي الفقراء والمساكين ويتصدق، فلما توفي أبوهم قال الأبناء: إن أبانا كان مبذراً، وكان سفيهاً، كان ينفق المال ويعطي الفقراء، وأي حظ للفقراء في هذه الحديقة؟ وقد ذكرنا أن الإنسان قد يعطيه الله عز وجل فيطغى، وهؤلاء وجدوا الحديقة فيها ثمار كثيرة جداً، والفقراء يشاركونهم فيها، فقال الله عنهم: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ} [القلم:17 - 18]، فحلفوا أن يحصدوها في الصباح فإذا جاء الفقراء وقت الظهر لا يجدون شيئاً. ولم يستثنوا ولم يقولوا: إن شاء الله نصنع كذا، لكن أقسموا وهم قادرون، قال تعالى: {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} [القلم:25]، (على حرد) أي: على انفراد عن الفقراء، وهم في أنفسهم يظنون أنهم قادرون على ذلك. قال تعالى: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} [القلم:19 - 20]، حصدت قبل أن يحصدوها، وأخذها الله قبل أن يأخذوها، وأرادوا حرمان الفقراء فحرمهم الله، قال تعالى واصفاً حالهم: {فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ} [القلم:23 - 26]، تائهون، {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ} [القلم:27 - 28]، أي: أما قلت لكم: إياكم وهذا العمل السيئ، نزهوا ربكم سبحانه أن تتعاملوا معه معاملة اللئام، ألم أحذركم من ذلك؟ تذكروا: {قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ} [القلم:29 - 30]، كل واحد يقول للآخر: أنت السبب، {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ} [القلم:31]، أي: قد طغينا أن وجدنا هذا الرزق العظيم فأحببنا الانفراد به، وظننا أنه من كدنا ومن تعبنا، ولمنا أبانا الذي توفي على ما كان ينفقه على الفقراء، فأصبحنا نحن الملومين وصرنا نحن والفقراء سواء. فحرمهم الله عز وجل بسوء صنيعهم، وليس كل النفوس واحدة، فليس كل النفوس تشكر الله سبحانه وتعالى، وتخرج لله سبحانه وتعالى طمعاً فيما عند الله، إنما الغالب في الإنسان الشح والبخل بما أعطاه الله، ولا يعطي الحقوق لأصحابها.

تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الدنيا

تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الدنيا وفي قوله تعالى: ((وَلَكِنْ يُنَزِّلُ))، قراءتان: قراءة الجمهور (ولكن ينزِّل)، وقراءة ابن كثير وأبي عمرو ويعقوب: ((وَلَكِنْ يُنَزِلُ)). قال تعالى: ((وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا))، أي: طمع بعضهم في بعض، أفراداً وجماعات ودولاً، ويبغي بعضهم على بعض، ولكن الله يقدر ما يشاء وينزل بقدر ما يشاء سبحانه وتعالى. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: (والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تفتح عليكم الدنيا كما فتحت على الذين من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها)، وكان ما أخبر به النبي صلوات الله وسلامه عليه، وهذا حديث في الصحيحين. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم جلس ذات يوم على المنبر وجلسنا حوله فقال: إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها)، أي: أما وأنتم فقراء فلست خائفاً عليكم، إنما أخاف عليكم عندما تصبحون أغنياء (فقال رجل: يا رسول الله! أويأتي الخير بالشر؟)، يعني: الخير الذي هو فتح الدنيا، وما يرزقنا ربنا وينزل علينا من بركات من السماء ويفتح لنا الأرض، هل هذا الخير سيأتي بعده شر؟ (فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل للرجل: ما شأنك تكلم النبي صلى الله عليه وسلم ولا يكلمك؟ قال: فرأينا أنه ينزل عليه)، أي: جاء الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم فمسح عنه الرحضاء؛ لأنه لما كان ينزل عليه جبريل بالوحي من السماء كان يكون عليه ثقيلاً، كما قال تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:5]، ويكون في اليوم المطير يتصبب عرقاً كأنه في يوم شديد الحر صلوات الله وسلامه عليه. (ثم مسح عنه الرحضاء، فقال: أين السائل؟ وكأنه حمده على أن سأل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال: إنه لا يأتي الخير بالشر)، أي: فالعادة أن الخير تبعه الخير، لا الشر، فالمال نعمة من نعم الله تعالى لكن إذا كان في نفس الإنسان الطمع فهنا يأتي إليه الشر. ويضرب لنا هذا المثل صلوات الله وسلامه عليه فيقول: (وإن مما ينبت الربيع يقتل أو يلم)، وفي رواية: (إنه كل ما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم إلا آكلة الخضر)، والمعنى أنه عندما ينزل المطر يكون في الأرض جداول الماء، فينبت نبات كثير، وتأتي البهائم والمواشي والأغنام فتأكل كثيراً إلى أن يقوم الراعي بالانصراف بها، ولعل بعضها يأكل حتى يقتل حبطاً، والحبط: الانتفاخ، فإذا انتفخت ولم تخرج فضلاتها ماتت إلا أن يدركها صاحبها. وكذلك الإنسان في الدنيا يأكل المال، ولا يخرج زكاة ولا يعطي الفقراء ولا المساكين ولا يصل الرحم، إنما يجمع ويجمع ثم يحرس هذا المال، ويأكل إلى أن ينتفخ، فتجده غنياً عنده ملايين كثيرة ثم يصاب بالأمراض الكثيرة، يريد أكل اللحم كل يوم فيؤدبه الله بمرض النقرس المسمى داء الملوك، فيمنعه الطبيب من أكله، عندها يريد أن يأكل كل شيء، وفي آخر حياته يندم. سمعت أحد الممثلين وكان مليونيراً يقول: إنه يتمنى أن يأكل مثلما يأكل الناس فلا يقدر، بل يقدم ما يشتهيه من الطعام للناس يأكلونه أمامه وهو محروم. يقول: ليت الملايين التي عندي تذهب وترجع لي صحتي، ولو أعرف أن شيئاً يرجع لي ذلك لأنفقت فيه كل مالي. ونحن نقول: أما كان ذلك من أول شيء أن تعتدل في حياتك، وتطيع الله سبحانه وتعالى، ولا تعصي ربك سبحانه وتعالى، لأن الله يؤدب العباد. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إلا آكلة الخضر أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت الشمس فثلطت وبالت ثم رتعت)، يعني: أن البقرة أكلت شبعها ثم استقبلت الشمس وعرقت وثلطت وبالت وانتفعت بهذا الذي أكلته. ثم يعقب على هذه الصورة وعلى هذا المثل فيقول صلى الله عليه وسلم: (وإن هذا المال خضرة حلوة) أي: إن هذا المال هو كالنبات الذي للبهائم، فهو طعام وزرق إن استخدمه الإنسان استخداماً صحيحاً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ونعم صاحب المسلم لمن أخذه بحقه، فجعله في سبيل الله واليتامى والمساكين، ومن لم يأخذه بحقه فهو كالآكل الذي لا يشبع، ويكون عليه شهيداً يوم القيامة) أي: يكون شهيداً يوم القيامة على الذي يأخذه من غير حق، كأن يسرقه أو يحسد غيره ويتمنى زوال النعمة لتصير له، فيسعى في ذلك، ويبغي بغياً وظلماً وطغياناً وعدواناً. فيأخذ هذا المال من غير حقه، وينفقه في غير حله، فيكون كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون شهيداً عليه يوم القيامة. فإذا ضيق الله عز وجل على إنسان فليحمد الله سبحانه، وليطلب من الله، وليرض بما قسم الله له، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس)، فإذا رضيت وقنعت فترضى عن الله سبحانه وتكون أغنى الناس بهذه القناعة، وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يقنعوا، وأن يرضوا بما أعطاهم الله سبحانه.

قصة حكيم بن حزام رضي الله عنه عند سؤاله النبي صلى الله عليه وسلم مالا

قصة حكيم بن حزام رضي الله عنه عند سؤاله النبي صلى الله عليه وسلم مالاً وهنا قصة لـ حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه، إذ كان سيداً من سادات العرب، أسلم متأخراً وذهب إلى النبي صلوات الله وسلامه عليه ثم قال: (أعطني يا رسول الله، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رجع ثانية فقال: أعطني يا رسول الله! أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جاء ثالثة فأعطاه، ثم قال: يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى). أي: أن هذا المال مثل البقل الذي ينبت في الأرض، فتأكله المواشي، فالماشية تستحلي هذا الذي ينبت الربيع، وكذلك الإنسان يستحلي هذا المال، قال: (فمن أخذه بسخاوة نفس) جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما آتاك الله من هذا المال من غير مسألة ولا إشراف نفس فخذه)، كما لو أن إنساناً أعطته الدولة جائزة فيأخذها، وكذلك لو أن إنساناً قال: سأعطيك هذا الشيء هدية، فاقبل طالما أنك لم تستشرف لها ولم تطلبها وهي من حلال، فخذها يبارك لك في ذلك، لكن لو أن الإنسان يقول: أنا أريد أكل كذا، أو أريد المال الفلاني، أو أريد فلاناً يهدي لي هدية، أو أريد هدية على لا شيء قدمته له، فهذا طالب مال من غير أن يبذل له منه شيء، فيقول لك: لا تطلب المال بهذه الصورة، لكن لو أتاك من غير مسألة ولا إشراف نفس فاقبله، وسيبارك لك فيه. وإذا كان الإنسان لحوحاً كثير المسألة يطلب المال من غير وجه حق لا يبارك له فيه، فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه) فنفسه سخية، ليس طماعاً، ولا مستشرفاً، ثم يأخذ هذا المال ويصل به رحمه أو يدفع به حاجة ولا يقول: سأضعه في البنك لما تحصل لي حاجة ثم أصرفه. ولكن قال: سأنفق هذا المال، ومثلما أنتفع أنفع فلاناً وفلاناً. فهذا أخذه بسخاوة نفس، فهو يستحق البركة، فالله يبارك له فيه، فإذا أخذ مائة تصدق منها بثلاثين أو أربعين، وكأن المال لم ينقص منه شيء ببركة الله تبارك وتعالى. وغيره يأخذ المائة وهو يستشعر الفقر والخوف، ألا تنتهي ولعلها تنتهي منه قدام عينيه سريعاً، فالله عز وجل يبارك لسخي النفس المؤمن. قال: (ومن أخذه بإشراف نفس) بأن كان طماعاً، يحاول أن يأخذ المال الذي ليس من كسبه ولا من تعبه، مثل كثير من المتسولين يمد أحدهم يده ويطلب من الناس، ولا يعمل؛ لأنه يكسب في اليوم عشرة جنيهات أو عشرين جنيهاً أو أكثر من ذلك، فهو أحسن له في نظره، ففرق بين إنسان وإنسان، وينبغي للإنسان أن يعطي الفقراء الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، ويبحث عن هؤلاء في عائلته، أو جيرانه، وسيلاقي من يستحق العطاء، أما مثل هؤلاء المتسولين فالذي ينبغي في حقهم ألا يعودوا على هذا الفعل، وأن يتحرى في معرفة الصادق منهم فيعطى، أو يؤمرون بالذهاب إلى لجنة الزكاة ليعطوهم منها، وقد يتعاطف معهم البعض مع أن كثيراً منهم كذابون، وقد رأينا إحدى المتسولات ذهب معها إلى بيتها فوجد فيه حقائب متعددة، وفي واحدة فقط ثلاثة آلاف جنيه، أما الدفاع عنهم بغير وجه حق فلا داعي لذلك. وبالمناسبة أحياناً قد يأتي إلى المسجد بعض من يتعاطى الحشيش أو المخدرات أو الهروين ويقلب المسجد ويعمل إرباكاً للمصلين، فيقوم بعض الشباب بمنعه من دخول المسجد، ثم يسلمه إلى القسم، ثم تجد بعض الطيبين يعترض على ذلك، وهذا مما لا ينبغي. وقد يدخل المسجد من يسرق الأحذية، فإذا دعي عليه أو قبض عليه اعترض بعض هؤلاء، وكذلك هذا غير صحيح. ومرة كنا في جنازة وفي الدور الثاني للمسجد علق رجل جاكته، وفيه ألف جنيه، فأتى السارق وأخذها، فلما مسك هو أو صاحبه اعترض بعض أهل الخير وتحولت المشكلة من قبض على السارق إلى عراك بين هؤلاء. وحادثة أخرى دخل رجل المسجد ومعه سكين وفي عقله خلل، ويقول: أنا المهدي، وعلامة صدقي أني أشق أحدكم نصفين ثم أحييه. فبعض هؤلاء يقول: حرام عليك اتركه يصلي، ولو كنت ساجداً فقد يقطع رقبتك، فمثل هذا الاعتراض لا يصح. وحادثة وقعت في رمضان، أتى سارق فأخذ عشرين حذاءً من المسجد، ثم قبض على السارق، فجاء مجموعة من هؤلاء يقولون: حرام عليك، اتركه يذهب. لكن هو ليس حراماً عليه سرق الأحذية وترك الناس يذهبون إلى بيوتهم حفاة، وقد يمنع بعضهم من الصلاة في بيت الله سبحانه!! ومرة في صلاة الفجر جئت إلى المسجد فلقيت شخصاً لابساً حزاماً ويمسك السيف في يده، فكيف نصلي وهو واقف على رؤوسنا؟! فيأتي أحد هؤلاء ويقول: حرام عليكم لا أحد يمسكه. ومرة بعدها جاء السارق فأخذ فلوس أحد هؤلاء، فوقف يصيح ويقول: سرق مني فلوسي! فلماذا هذه المرة تصيح على فلوسك والمرة السابقة تقول: حرام عليك؟! فنحن جئنا إلى المسجد لنعبد الله سبحانه وتعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم سأله أحد الصحابة فقال: (يا رسول الله! أرأيت إن جاء أحد يريد أخذ مالي، قال: لا تعطه)، يعلمنا الشجاعة والحفاظ على الكرامة، وإذا لم يكن الإنسان قوياً أخذ المجرمون ماله، والدولة اليوم لا تأخذ على أيدي المجرمين وأصحاب المخدرات والحشيش. فقد يأتي أحد هؤلاء ويقول: هات ما في جيبك، فإذا لم تكن قوياً ضاع مالك، ولا بد في بيوت الله أن يوجد من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104]، ونحن لا نقول لك: اعتد على الناس، لكن إذا مسك من يؤذي فلا بد أن ينال جزاءه. وفي إحدى المرات بدأنا في صلاة المغرب، فدخل شخص يصيح ويتكلم بالكفر، وبعد الصلاة كل واحد انصرف، ولم يكلمه أحد. وكلنا يعلم المقولة المشهورة: إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، فالمجنون الذي يدخل المسجد لا يقال له: اتق الله في المصاحف، وكذلك الذي يدخل ليسرق المصاحف من بيوت الله عز وجل، لا بد أن ينال جزاءه حتى يرتدع. وبعض الإخوة يأتي إلي ببعض السكارى متعاطي المخدرات، وعقله ضائع، ويقول: اجلس معه يا شيخ، ونحن لم نجد وقتاً نكلم العقلاء فكيف نكلم المجانين؟! والله تعالى يقول: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء:43]. وهناك من يجد المجنون أو المصروع فيقول: اذهب به إلى الشيخ يقرأ عليه، ونحن نقول: اذهب إلى الطبيب يعالجه. ويوجد بعض الدجالين أحياناً يصلون معنا في المسجد ومعه كراسه مكتوب عليها عنوان مسجد نور الإسلام، وأي واحد صرع أو جن ذهب إليه، فاحذروا مثل هؤلاء. ونحن نؤمن بالعلاج بالقرآن ونصدق به، لكن عالج نفسك أنت بالقرآن، احفظ آيات الرقية وهي: فاتحة الكتاب و ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ))، و ((قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ))، و ((قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ))، ثم ارق نفسك، أما أن تذهب إلى الشيخ ليرقيك فليس عندنا دجل في المسجد، فإذا كنت متعلماً فارق نفسك، أو يرقيك أخوك، أو أبوك، أما المسجد فلا يفعل فيه هذا الشيء. وسبب انتشار هذه الظاهرة: أن بعض الناس لا يجد عملاً فيأخذ حقيبته ويضع فيها مسجلاً؛ لأنه ليس حافظاً للقرآن، ويحمل عصاه، فإذا جاء إليه المريض فتح التسجيل وبدأ يضربه بالعصا وقد يقتله، وكم قرأنا في الجرائد مثل ذلك. فنحن هنا ندرس دين الله سبحانه وتعالى، وندرس التفسير العلمي الصحيح، والمعجزات الكونية التي ذكرها العلماء، أما أن نسأل عمن يعالج ويقرأ القرآن فما السبب أن يخرج العفريت بقراءة الشيخ ولا يخرج بقراءتك؟! وما هو الفرق بينك وبينه؟ إنها عقول عجيبة جداً، وكم من إنسان قالوا: إنه جن، ثم عرض على الطبيب النفسي فشفي، لكن المشكلة أننا دخلنا في السحر، وفي الدجل، والكهانة. فاتقوا الله تبارك وتعالى، وامنعوا مثل هذا الشيء. والأصل أن نحافظ على حرمة بيوت الله، وعلى قدسيتها، ونحافظ على أنفسنا تقرباً إلى الله عز وجل بذلك. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الشورى [27 - 28]

تفسير سورة الشورى [27 - 28] الله سبحانه هو الذي يبسط الرزق لعباده ويقدر، وله في ذلك الحكمة البالغة، وسوف يعود إليه الغني والفقير، وسيحاسب الشاكر والصابر والجاحد لنعمته، وهو الذي ينزل الغيث فهو في علمه سبحانه لا يعلمه إلا هو، ويرحم عباده ويشكر إذا شكروا، ويحمد نفسه إذا بطروا وكفروا.

تفسير قوله تعالى: (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض)

تفسير قوله تعالى: (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. وقفنا في سورة الشورى عند قول الله عز وجل: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى:27]. الله حكيم سبحانه، والله خبير وبصير، يرى عباده سبحانه ويعلم ما ينفعهم وما يضرهم سبحانه، وهو الخبير سبحانه، العالم بخفايا النفوس، وبخفايا ما يكنه العباد، وقد ذكرنا لله عز وجل الأسماء الحسنى كما ذكر في كتابه، فمن أسمائه سبحانه: العليم، والخبير، والشهيد، وكلها راجعة إلى علم الله سبحانه وتعالى، والعليم أعم، والخبير يختص بالعلم بما خفي، والشهيد يختص بالعلم بما ظهر، فهو العليم، وهو الخبير، وهو الشهيد سبحانه وتعالى، وهو اللطيف، فعلمه دقيق خفي ومعه يصرف ويدبر الأمور بلطفه، وبرفقه، وبرحمته، فهو اللطيف بعباده سبحانه وتعالى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة). لذلك ينبغي أن نتأمل في أسمائه الحسنى، وأن نحصيها ونعدها، ونحفظها، وأن نتأمل في معانيها ونستخدمها في أوقاتها فيما تطلب من دعاء، فتستخدم الاسم في المناسبة التي تدعو بها وفي ذكر الله سبحانه وتعالى بهذا الاسم العظيم الله خبير، الله بصير، الله لطيف، الله عزيز سبحانه وتعالى.

حكمة الله تعالى في تقسيم الأرزاق

حكمة الله تعالى في تقسيم الأرزاق قال تعالى: {إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى:27]، فهو يعلم ما الذي ينفعهم فيعطيهم سبحانه وتعالى، وكل شيء يجري بحكمة الله، وهو أعلم بها، وقد يرى العباد مقتضى هذه الحكمة، وقد لا يرى الإنسان ما وراء ذلك، فالله أعلم بمن يستحق فيعطيه سبحانه وتعالى، سواء بدى لنا ذلك الأمر أو لا، فهو الخبير ذو العلم الدقيق الذي هو أعلم بخفايا العباد وبالذي يستحقون، فترى الشيء أمامك وتتمنى له كذا، ولكن تجد في حقيقته في النهاية أنه ليس كما تظن، فالله يدبر أمر الخلق على ما يعرف هو، لا على ما تريد أنت، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يريهم أشياء من ذلك بتصرفه هو صلوات الله وسلامه عليه، فيعطي البعض من العباد من الزكاة ويعطيه من الصدقة، ويعطيهم هدية، ويتألفهم النبي صلوات الله وسلامه عليه، فيجيء بعض الصحابة ويقول: يا رسول الله! فلان أحوج، فلان هذا أولى من فلان، فيبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه يعرف ذلك، يقول: (إني لأعطي القوم وغيرهم أحب إلي، ولكني أكلهم لإيمانهم). فهذا تصرف من النبي صلى الله عليه وسلم، والناظر إليه نظر إلى أنه لماذا فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم؟ فلان هذا ليس هو الذي يستحق، وفلان الثاني أولى منه، فيقول: أعطي هؤلاء أتألفهم ليثبتوا، وليكونوا على الدين حتى لا يتزلزلوا ولا يتزعزعوا، وأترك فلاناً لأن إيمانه قوي، فهذا علم النبي صلى الله عليه وسلم، وعلمه علم بشر صلوات الله وسلامه عليه، فكيف بعلم رب البشر سبحانه وتعالى؟! قال الله تعالى: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} [الانفطار:7]، وقال تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، فالله بحكمته أعطى فلاناً ومنع فلاناً، فإن من عباد الله عز وجل من لا يصلحه إلا الفقر؛ لأنه إذا أغناه الله طغى وبطر وأشر، وصار ظالماً، وصار يأخذ أموال الناس مع أنه إنسان غني، فالله أعلم بأن هذا لا يصلح له إلا أن يكون فقيراً، وإن أراد الله عز وجل به رحمة فيفقره، وإن أراد رحمه، فإن أراد شقاوته أعطاه من المال، وكل يجري بحكمته سبحانه، اختار لهذا الشقاوة ولهذا السعادة وهو أعلم ما الذي يستحقه العبد؛ لأنه هو الذي خلقه، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [التغابن:2]، فهو أعلم بمن يستحق رحمته، ومن يستحق عذابه، وهو أعلم بنفوس العباد، فلذلك يعطي العباد ما يريد، يريد الله عز وجل بعبده الرحمة، ويريد الله عز وجل أن يجعله من أهل جنته، ويعلم أن هذا الإنسان لو كان غنياً فسيطغى في هذه الدنيا، فيجعله فقيراً ليرحمه سبحانه وتعالى. ويعلم أن فلاناً هذا لا يصلح له إلا الغنى؛ لأنه إذا أغناه الله سبحانه فهو يعطي وينفق في سبيل الله، فيعطيه الله وهو أعلم بعباده سبحانه، ويعلم من عباده أن فلاناً لو أغناه لصار ظالماً، ويريد الله شقاوته، والله أعلم بعباده، فيغنيه ويعطيه، ولو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى لهما ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، فإذا به يأخذ ما أغناه الله به وينفقه فيما حرمه الله سبحانه؛ لينال قضاءه وقدره الذي قسمه الله سبحانه وتعالى له، عمل المعصية وهو على علم وبينة أنه عصى الله سبحانه. لذلك نقول: الله أعلم بنفوس العباد حين يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، وحين يضيق على من يشاء سبحانه، ولذلك إذا أعطاك الله عز وجل المال فاعلم أن هناك من يستحق، فأعط وأخرج زكاة مالك، وأخرج زكاة فطرك، وأخرج صدقة مالك، وأعط للقرابة، وأعط للجيران، وأعط للفقراء، وأنفق لله سبحانه وتعالى، ولا تنس الحقوق التي أمرك الله عز وجل أن تؤديها، وإذا ضيق الله عز وجل عليك فاحمد الله سبحانه وتعالى بشرط أن تأخذ بالأسباب، تذهب إلى عملك، وتتعب نفسك وتحاول، فإذا ضيق الله عز وجل عليك فهو أعلم سبحانه أن هذا هو القدر الذي ينفعك ويصلح لك، هو أعلم أنه لو أعطاك أكثر من ذلك لأطغاك فمنع الله عز وجل عنك ذلك، فهو أعلم سبحانه وتعالى ما الذي تستحقه وما الذي يدخره لك عنده يوم القيامة. الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم من أيام الآخرة، وأيام الآخرة مقدارها كما قال تعالى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47]، فيدخل الفقراء قبل الأغنياء بخمسمائة سنة. فالإنسان المؤمن يصبر نفسه ويسلي نفسه بذلك، فهذا يوم عند الله عز وجل بألف سنة، فأيامنا هذه لا تساوي شيئاً، ولذلك لما قيل لأهل الدنيا: كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟ {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [المؤمنون:113]، فإذا كان عمره خمسين سنة، أو مائة سنة وقارنه بيوم قدره خمسون ألف سنة، فإن عمره كله لا يساوي يوماً من أيام الآخرة، قال تعالى: {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون:113] فهل ستضيع الخلود في الجنة بسبب يوم في الدنيا تحسبه يوماً طويلاً جداً، وهو عبارة عن أيام وليال وسنون قليلة تضيع في النهاية، وتذهب وتتساقط كأوراق الشجر وتذهب إلى ربك سبحانه لتقول: لبثنا يوماً؟ قال تعالى: {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} [طه:104] ويقولون: أو بعض يوم. إذاً: المؤمن إذا أعطاه الله عز وجل من الدنيا عرف حق الله، وإذا منعه الله سبحانه فليحسن الظن بالله سبحانه أنه لا يمنعه إلا لمصلحة وراء ذلك لهذا العبد أن ينجيه من العذاب ويدخله جنته، ويمنع عنه الفتن في الدنيا، فإن رحمة الله عظيمة واسعة، قال تعالى: {إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى:27].

طمع الإنسان في طلب الدنيا وجمع ما فيها

طمع الإنسان في طلب الدنيا وجمع ما فيها ذكرنا أن الإنسان لو فتحت له الدنيا لطلب وطلب أكثر، ولا يشبع أبداًَ من الدنيا، وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اثنان لا يشبعان: طالب علم، وطالب دنيا)، فطالب العلم لا يشبع أبداً، كلما ازداد علماً كلما ازداد علماً بجهله، فيطلب أكثر وأكثر ويتعلم أكثر، وكلما ازداد علماً كلما ازداد تواضعاً، وازداد إحساناً وإحساساً بأنه يجهل الكثير. وطالب الدنيا كلما فتحت له الدنيا لم يشبع، يشيب ابن آدم ويشب معه اثنان: حب المال، وطول العمر، فطالب الدنيا يريد أن يعيش في الدنيا، ويريد أن يطول عمره، وكلما كبر في السن كلما ازداد حرصاً على البقاء وحرصاً على الدنيا، والصغير كلما ازداد في السن كلما ازداد إرادة للعودة إلى الدنيا، إلا من رحمه الله سبحانه وتعالى.

التحذير من الدنيا والاغترار بها

التحذير من الدنيا والاغترار بها والله سبحانه يحذرنا من هذه الدنيا، قال تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185]، أي: متاع يستمتع به المغرور، فتراه يستمتع بقوته، وتأتي عليه حالة المرض والضعف، ويستمتع بغناه وتأتي عليه حالات الضياع والفقر فيضيع غناه، ويستمتع بجماله ويأتي عليه الكبر والسن فيذهب الجمال، فهو يستمتع بالغرور لحظات ويضيع بعد ذلك ما استمتع به، فالحياة الدنيا زخرف وزينة، وقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه مرة ليريهم هذه الدنيا، أخذهم إلى مزبلة، أي: قمامة لقوم، وقال: هذه الدنيا، هذا ملحهم وهذا لحمهم، وهذا طعامهم، فالدنيا تتبهرج للإنسان وتتزين له، ويظن أنه حصَّلها، فإذا بها تسحب منه أو يسحب هو منها، هذه هي الدنيا، فإياك أن تفتنك مهما كان لك فيها من شيء، وإياك أن تطلب فوق ما يكفيك، وإذا أخذت ما يكفيك فاحمد الله، فإذا طلبت أكثر من ذلك فقد تطلبه من وجه حرام، فتضيع به. وقد عرفنا حديث حكيم بن حزام عندما سأل النبي صلى الله عليه وسلم مرة، ومرتين وثلاثاً، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يوقفه ويذكره صلوات الله وسلامه عليه، ويقول له: (يا حكيم! يا حكيم! إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاء نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع). فالإنسان الذي يطلب ويقول دائماً: هات هات، ويمد يده وينهم عليها لن يستفيد منها بشيء، ولو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى له ثالثاً، وفي النهاية لا يملأ جوفه إلا التراب، يموت وينزل قبره والتراب هو الذي سيملأ جسده وعينه، وفهم ذلك حكيم بن حزام رضي الله عنه، وكان من أشراف العرب رضي الله تبارك وتعالى عنه، فقال: (فقلت: يا رسول الله! والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحداً بعدك شيئاً حتى أفارق الدنيا) أي: لقد علمتني، فمن الآن حتى أموت لن أسأل أحداً شيئاً، وأنا سألتك أنت ولا أسأل أحداً بعدك شيئاً حتى أفارق الدنيا، قال ذلك ووفى رضي الله تعالى عنه، فكان أبو بكر رضي الله عنه يدعو حكيماً إلى العطاء، إذ كان يجعل العطاء للناس من الفيء ومن المغانم، فيأتي بـ حكيم بن حزام ويقول: خذ حقك الذي حصلت عليه من الجهاد وحقك في الفيء وفي الغنيمة، فيقول: لا، ويأبى أن يقبله، ومات أبو بكر وجاء عمر رضي الله عنهما، فكان عمر رضي الله عنه يدعو حكيماً ليعطيه فيأبى أن يقبل منه شيئاً، فقال عمر رضي الله عنه للمسلمين: إني أشهدكم يا معشر المسلمين على حكيم، إني أعرض عليه حقه من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه. رضي الله عنه، فلم يرزأ حكيم أحداً من الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفي، ولم يأخذ من إنسان شيئاً، ولم يطلب من أحد شيئاً حتى حقه الذي هو له في بيت المال كان يرفض ويأبى أن يقبله رضي الله عنه؛ لأنه عاهد النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك. حكيم فعل ذلك وكثيرون فعلوا مثلما فعل حكيم، فكانوا لا يسألون أحداً شيئاً، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع أصحابه على ألا يسألوا أحداً شيئاً، فكان أحدهم تقع عصاه وهو راكب على جمله فينيخ الجمل وهو راكب فوقه وأمامه أناس لو طلب منهم أن يعطوه العصا لأعطوه، فإذا سألوه قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا أسأل أحداً شيئاً، هذه هي بيعتهم، فقد بايعهم على أن يكونوا شرفاء في أنفسهم ولا يطلبون من أحد شيئاً، وبايعهم على أن ينزهوا أنفسهم عن مطامع الدنيا ولا يسألون أحداً من هذه الدنيا طالما أنهم يقدرون عليها، فكانوا على ذلك حين فتحوا الفتوح ولم ينبهروا، فتحوا ديار كسرى وديار قيصر ورأوا الذهب والمجوهرات، ورأوا ما فيها من أشياء فلم ينبهروا بها، ولم يمد أحد يده على شيء يأخذه لنفسه، وإنما يرجع كله للأمير ليقسم بين الناس المغانم والفيء بحق الله سبحانه الذي جعله لهم. ومن الأحاديث التي جاءت عنه صلى الله عليه وسلم ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إني أخاف على أمتي اثنتين: القرآن واللبن)، وتعجب لهذا الشيء؛ إذ خاف على الناس من القرآن وخاف على الناس من اللبن، قال النبي صلى الله عليه وسلم موضحاً ذلك: (أما اللبن فيبتغون الريف، ويتبعون الشهوات، ويتركون الصلوات)، فهذا رجل عنده إبل وعنده بقر، فيأخذ إبله أو بقره فيرعاها بعيداً ويخرج من المدينة، فإذا جاء وقت الصلاة تركها، أو يصليها خارج المدينة، فتراه لا يريد أن يبتعد أكثر عن العشب، وتراه يخاف على بقره وعلى إبله، فيخرج ويبعد عن المدينة شيئاً فشيئاً حتى يترك الصلوات الخمس من أجل أن تدر إبله أو بقره اللبن، وبذلك يحافظ على إدرارها للبن فلا تضمر ضروعها، فيترك الصلوات حتى لا يصلي إلا الجمعة فقط، ثم بعد ذلك يترك الجمعة والجماعة، ولذلك قال لهم: أخاف عليكم اللبن، وليس كل الناس عندهم لبن، وليس كل الناس عندهم بقر، إنما هذا مثال يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: الشيء الذي سيشغلك عن صلواتك احذر منه. فمن الناس من يقول يوم الجمعة: سأصلي الجمعة في مسجد كذا، فترى كل واحد يوسوس للآخر فيقول: هيا نصطاد وهو يوم جمعة، فيخرج ليصطاد، ويستحلي الصيد في النهار، فيبعد عن المسجد ويقترب من شاطئ البحر ويدخل ليصطاد فيضيع صلاة الجمعة، وهكذا كل يوم جمعة يضيع الجمعة، وهذا هو الذي خاف منه النبي صلى الله عليه وسلم عليكم، وهكذا كلما اغتر الإنسان بشيء من حطام الدنيا منى نفسه بما شاء فيضيع الصلوات، ويضيع الجماعة والجمعة، ونسي الإنسان نفسه بعدما كان مواظباً على الصلوات، فالنبي صلى الله عليه وسلم يخاف عليكم اللبن، وقس على ذلك غيره. قال: (والقرآن)، أي: أخاف على أمتي القرآن، قال صلى الله عليه وسلم: (يتعلمه المنافقون فيجادلون به المؤمنين). يتعلم المنافق القرآن، كما ينزل المطر على أرض خصبة فتنبت نباتاً حسناً، وإذا نزل المطر على أرض غير طيبة أنبتت نباتاً غير طيب، والقرآن مطر ورحمة من الله عز وجل ينزل على الجميع، فالإنسان الذي نفسه طيبة ينتفع بهذا القرآن، ويخاف الله سبحانه، والإنسان الذي نفسه خبيثة لا يخاف الله فيتعلم القرآن ليجادل به، فكان يخاف النبي صلى الله عليه وسلم على المؤمنين من جدال المنافقين، يخاف عليهم أن يقال فيهم: فلان شيخ، وهذا الشيخ يفتي بأن البنوك حلال، ولذلك ضاق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته ممن يتأول القرآن، فتراه يتأول حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي صرح فيه بمنع بناء المساجد على القبور، يقول صلى الله عليه وسلم: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، يحذر من ذلك صلوات الله وسلامه عليه، ويقول: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد)، فهذا النبي صلى الله عليه وسلم حذر أصحابه، فيتعلم الإنسان القرآن ويتعلم شيئاً من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه يدخل في الشرك بالله سبحانه. فتراه يقول ببناء المسجد على القبر، ويقول: ليس في ذلك شيء، بل يتطاول أحدهم ويقول: هذه سنة، وأنتم تميتون السنة أماتكم الله، ونحن نعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبن مسجداً على قبر في حياته، وأما قولك: قياساً على المسجد النبوي، فالنبي لم يفعل ذلك صلى الله عليه وسلم، ولم يجرؤ أحد من المسلمين أن يرفع مقام النبي صلى الله عليه وسلم أو يرفع جسده صلى الله عليه وسلم من قبره ليذهب به إلى مكان آخر، وهو الذي أخبر أن الأنبياء يدفنون حيث يموتون، وقد دفن حيث مات صلى الله عليه وسلم، وحين وسع الصحابة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أخذوا يتحرون أن يتسع المسجد بعيداً عن قبره صلى الله عليه وسلم، حتى انتهى عهد الصحابة وجاء من جاء بعدهم فوسع المسجد وأدخل فيه قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وليس هناك أحد يصلي إلى قبره صلوات الله وسلامه عليه بحيث يكون خلف قبره صلوات الله وسلامه عليه. إذاً: قبره صلى الله عليه وسلم لا يقاس عليه غيره، فقد حذر أن يتخذ قبره وثناً يعبد صلوات الله وسلامه عليه، كما كان أهل الجاهلية يفعلون عند الأصنام وعند التماثيل، فعندما يأتي إنسان ويتعلم من القرآن ويقول: يا أخي! قال الله في أهل الكهف: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:21]، فنقول له: هذا شرع من قبلنا، ولا يكون شرعاً لنا، فإن شرعنا شرع مخصوص جاء إلينا ليعم الأمة من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، ونسخ ما قبله من الشرائع، فكل ما كان قبلنا منسوخ بشرعنا، وكذلك هل في الآية أن المؤمنين فعلوا ذلك؟ ومن الذي قال ذلك؟ {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ} [الكهف:21]، فولاة الأمور هم الذين قالوا هذا الشيء، وهل ولاة الأمور في كل عصر كانوا على علم بالسنة أو على علم بالقرآن؟ إذاً الذي فعل هم الذين غلبوا على أمرهم، فإن كانوا مؤمنين فهذا شرع من قبلنا وليس شرعاً لنا، إنما شرعنا كلام النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول محذراً من ذلك: وهو في آخر حياته، وهو صلى الله عليه وسلم في مرض وفاته: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ألا أني أحذركم من ذلك)، فيجيء الإنسان ويقول: لا، إنما يقصد ألا تذهب وتسجد له، وهل كان هناك سجود لأحد بعد مجيء النبي صلى الله عليه وسلم؟ نقول: إن معاذ بن جبل ذهب إلى الشام ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المدينة، فأول ما رأى النبي صلى الله عليه وسلم سجد على الأرض قدام النبي صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما هذا يا معاذ؟ فقال: يا رسول الله! وجدتهم يفعلون ذلك لكبرائهم وأنت أولى، فقال الن

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا)

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا) قال سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى:28]، (ينزل) فيها قراءتان: قراءة ابن كثير وأبي عمرو ويعقوب: (وهو الذي يُنْزِلَ) وقراءة باقي القراء بالتثقيل: (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ)، و (الغيث): المطر العظيم الذي يغيث الله به العباد، يخرجهم من ضنك وضيق وقحل ومحل إلى نعمة وخصب، وإلى إخراج ما أنزل الله عز وجل عليه المطر من ثمرات، ومن نبات أغاثه الله سبحانه. ويستحيل أن يقدر مخلوق من مخلوقات الله عز وجل أن يأتي بالمطر أو بالغيث إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ} [الشورى:27]، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ} [الشورى:28]، فينزل الغيث الذي يغيث، فقد تأتي سحابة في السماء وتنزل مطراً قليلاً لا ينبت شيئاً، ولا يكون من ورائه شيء، فهذا مطر، والإنسان يحاول فقد حاولوا في أمريكا وفي اليابان وغيرها أن ينزلوا مطراً، وهم يعلمون أن الله سبحانه وتعالى هو الذي ينزل الغيث، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:34]. فإنزال الغيث ليس للناس فيه شيء، وإنما الأمر إلى الله سبحانه وتعالى، فقد حاولوا أن ينظروا كيف ينزل هذا المطر، فعرفوا أن ذرات التراب يتجمع عليها بخار الماء حتى يتكثف ويتثاقل عليها، ثم يكون هناك ثقل بزيادة معلومة، فحاولوا أن يثقلوا هذه السحابة بشيء حتى تعمل وتنزل علينا المطر، وفعلوا ذلك ونزل عليهم مطر على شكل رذاذ، لكن ليس هو الذي خلق السحاب، ولا هو الذي كثف الماء في السحاب، ولا هو الذي أعطاها وقتها للإنزال، السحابة وصلت درجة امتلأت فيها وانتظرت إذن الله سبحانه وتعالى، فجاءت الأسباب وثقلت فنزل المطر حيث يشاء الله سبحانه، فما الذي يصنعونه هم؟ لقد حاولوا خلق الجنين في المرأة الحامل، والله عز وجل هو الذي خلق الجنين، وهو الذي كونه، وأوجده، قال تعالى: {وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} [الشورى:50]، فإذا جاء وقت الجنين وهم منتظرون الشهر التاسع وتعسرت المرأة في الولادة قالوا: سنفتح بطنها، أنتم أخذتم بسبب من الأسباب فقط، فلا أنتم الذين خلقتم الجنين، ولا أنتم الذين أوجدتموه، بل الله هو الذي أوجد كل شيء، ولذلك أرادوا عمل شيء مكلف جداً، وهو البحث عن سحابة وتفجيرها بصاروخ، ومن الممكن أن ينزل المطر وقد لا ينزل، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ} [لقمان:34]، وحده سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} [لقمان:34]. فعلم إنزال الغيث متى ينزل؟ وكيف ينزل؟ وعلى من ينزل؟ وكيف يقسم؟ الله عز وجل وحده عنده علم ذلك، وهي آية من آيات الله سبحانه، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا} [الشورى:28]، قد يقنط الإنسان من الرحمة، ويصاب باليأس إذا لم يكن هناك مطر، وانظر إلى البلاد التي إذا منع الله عز وجل عنها المطر كيف يصنعون؟ هناك بلد قريب منا جداً في جنوب الغرب منا وهي النيجر، تعيش هذه الأيام في مجاعة شديدة جداً، إذ منع الله عز وجل عنهم المطر سنة واحدة، فلم تثمر الحقول شيئاً، فإذا بهم يبحثون عن الطعام ويموت الكثير منهم جوعاً، ويحدث لهم هزال شديد جداً، وتفشى المرض فيهم، فأخذوا يبحثون عن الطعام في جحور النمل، يبحثون عن مكان تجمع النمل ليأخذوا الحبوب، نسأل الله أن يفرج عن عباده الهموم ويرفع عن عباده البلاء، ونسأله عز وجل أن يرفع عن المسلمين في كل مكان مقته وغضبه سبحانه، وأن يسقيهم من فضله سبحانه وتعالى. قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا)، إن بلادنا هذه حينما تقرأ في التاريخ أتى عليها زمان لم يجدوا ما يأكلون فيه، وقد ذكر الإمام الذهبي في تاريخ الإسلام وغيره أن حفنة من القمح كانت تباع بمثلها من الذهب، من المجاعة الشديدة في ذلك التاريخ، قال: حتى أكل الناس كل شيء وأكل بعضهم بعضاً، كانوا يحملون الميت ويذهبون به إلى المقابر وقبل أن يصل إلى المقابر يكون الناس قد أخذوه وأكلوه، وفي الشام حدث ذلك ولا حول ولا قوة إلا بالله. فالله على كل شيء قدير، ونحمد الله سبحانه على فضله، ونحمده على رحمته، ونحمده على ما ينزل علينا من بركات من طعام ومن شراب، فقد رأينا مثل هذه الأشياء، ونسأل الله عز وجل أن يرفع عن المسلمين ما هم فيه. قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ)، ورحمة الله عز وجل صورها عظيمة وكثيرة، قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156]، فينشر المطر وينزل برحمة الله عز وجل على البلاد، فيخرج بها ما يشاء الله عز وجل من ثمرات ونبات، ومما يستفيد منه الخلق، ينشر رحمته ويبثها في كل مكان. قال تعالى: (وَهُوَ الْوَلِيُّ)، يختم الله الآية باسم من أسمائه الحسنى سبحانه (الولي) أي: مولاك، الذي يتولى أمرك، ويدبر أمورك، فتوكل على الله سبحانه فهو وليك، قال تعالى: (وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) وانظر لجمال أسمائه الحسنى وكيف يختم بها سبحانه وتعالى الآيات، يقول لك: لا تخف أنا ربك، أنا أتولى أمرك، أنا أدبر لك ما تحتاج إليه، وأشدد عليك لترجع إلي ولتدعوني، فأنا أفعل بك الخير وأصرف أمورك، وأكون وكيلك، فالله هو الولي الحميد سبحانه وتعالى، وهو المحمود وإن لم تحمده أنت، وإن لم يحمده خلقه، فالله الحميد المستحق لذلك، أنزل على العباد من نعمه، قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7] وإن كفروا وجحدوا النعمة فإن الله يقول: {وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]، ويصبر ويحلم عن عباده. فهو الحميد الذي يحمد نفسه، قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، وقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} [الكهف:1]، وقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1]، وقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فاطر:1]، وقال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:2]. فالله سبحانه هو الولي الذي يتولى أمر عباده ويغيثهم سبحانه وتعالى وينجيهم، قال تعالى: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأنعام:63]، فإذا أنزل عليكم الغيث فاحمدوا الله واشكروه على نعمه سبحانه، فإذا فعلتم زادكم من فضله سبحانه، وإن لم تفعلوا فاحذروا من عذاب الله، نسأل الله من فضله ورحمته فإنه لا يملكها إلا هو. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الشورى [29 - 31]

تفسير سورة الشورى [29 - 31] إذا تفكر الإنسان في خلق الله سبحانه عرف حقارة نفسه أمام خلق السماوات والأرض بما فيهما من مجرات ونجوم وكواكب، وقد خلق الله من الدواب في الكون ما لا يعلمها إلا هو سبحانه، ومن فضل الله وكرمه أن يبتلي الإنسان في نفسه أو ماله أو غير ذلك ليكفر عنه سيئاته، ويزيد له في حسناته.

تفسير قوله تعالى: (ومن آياته خلق السموات والأرض وما بث فيهما من دابة)

تفسير قوله تعالى: (ومن آياته خلق السموات والأرض وما بث فيهما من دابة) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الشورى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ * وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:29 - 30]. إن خلق السموات والأرض من آيات الله سبحانه وتعالى لأولي الألباب، وآياته لقوم يعلقون، وقد ذكر الله عز وجل خلق السموات والأرض في كتابه العزيز، وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن آيات من آيات الله سبحانه وتعالى، وعن عظيم هذا الخلق، وأمرنا أن نتفكر في خلق السموات والأرض، ونهانا أن نتفكر في ذاته سبحانه وتعالى، وأمرنا حتى نستدل على قدرته وعلى قوته وعلى عظمته أن نتفكر في آياته سبحانه وتعالى، فالإنسان إذا تفكر في الذات الإلهية يأتي إليه الشيطان فيوسوس له، فنهانا عن ذلك، فنحن مأمورون بالتدبر في آيات الله لنعرف من هو الله سبحانه، فهو يخبرنا عن نفسه: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر:23 - 24]. إذاً: هو الذي يخبر عن نفسه سبحانه، ونحن نؤمن ونصدق، أما أن تتخيل ذلك فلا يجوز؛ لأنه لا تدركه الأفهام، ولا تبلغه الأوهام سبحانه وتعالى، ومهما حاول الإنسان أن يتفكر فلن يصل إلى ذلك، فلذلك أمرنا أن نتفكر في آياته لنستدل على قدرته، وعلى قوته، وعلى عظمته، وعلى أنه وحده الرب الذي يستحق أن يعبد. فمن آياته خلق السموات والأرض، وقد قال لنا في سورة البقرة: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة:164]. أي: لمن عندهم عقول، وعندهم قلوب تعقل، وبصائر يرون بها آيات قدرة الله سبحانه وتعالى، فيعقلون أنه لا يستحق العبادة إلا هو وحده لا شريك له. وفي سورة آل عمران في آخرها يقول: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:189 - 191]. إذاً: تدبروا في آياته وفي خلقه، وعلموا أن الله لم يخلق هذا عبثاً ولم يخلقه سدىً، وإنما خلقه لحكمة منه سبحانه، فتفكروا فيما وراء ذلك، قال تعالى: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} [آل عمران:191] إذاً: وراء ذلك حكمة الله، وقدرة الله، وعلم الله وأسماء الله الحسنى وصفاته العلى التي قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعةً وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة) فهم قد تأملوا في آياته، وتأملوا في أسمائه وصفاته، وعرفوا ربهم سبحانه وتعالى فقالوا: ما قدرناك حق قدرك، قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91] سبحانه وتعالى. هذا ربنا العظيم الذي يأمرنا أن نتأمل وأن نتفكر، وهذا نبينا صلوات الله وسلامه عليه الذي يخبرنا أن الأرض وما فيها إذا قورنت بالسموات ما هي إلا كحلقة في فلاة، أو قطرة في ماء، وإذا جمعت السموات والأرض وحاولت أن تعرف حجمها بجوار كرسي الله سبحانه لوجدت أن حجمها كحلقة في فلاة، وكلما ازداد الإنسان علماً كلما ازداد علماً بجهله، وقد سمعنا قبل ذلك قوله سبحانه: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53] أي: أنه الحق من عند الله، وأن هذا الكتاب حق، وأن النبي الكريم حق، وأن الساعة حق، وأن ما أنزل الله عز وجل من السماء إلينا شريعةً ومنهاجاً هو الحق، قال تعالى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [آل عمران:60].

عظمة خلق الله تعالى في النجوم والأفلاك

عظمة خلق الله تعالى في النجوم والأفلاك أهل الفلك يحدثوننا عن أشياء نحن لا نعرفها، ولا يتبين لنا ما فيها، وإذا رأينا من يعد النجوم قلنا: هذا فارغ ليس لديه عمل، لكن أهل الفلك فرغوا لذلك وعدوا النجوم التي يرونها، وأخبرونا بما وراء ذلك، فأخبرونا أن أعدادها هائلة جداً، فتفكروا في خلق السموات والأرض حتى تعلموا من هو ربكم سبحانه الذي خلق ذلك، إذا قرأت {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255] عرفت علو الله وعظمته سبحانه وتعالى، فأنت إذا نظرت إلى الأرض، ونظرت إلى الشمس بجوارها عرفت من علماء الفلك أنها بعيدة جداً عن السماء، وعن أطراف الكون الذي ندركه أو يدركونه هم، وعلى ذلك فلا تستطيع أن تدرك أبعاد هذا الكون الذي ندركه، فهل من الممكن أن يدرك الإنسان كم مساحة الكرة الأرضية التي نعيش عليها؟ إن الكون الذي نعيش فيه تملؤه هذه النجوم والأقمار والشموس ولا نستطيع أن نعرف حدوده، بل إن علم الفلك لم يصل إلى ذلك أبداً، وأهل هذا العلم يقولون: مستحيل أن ندرك ذلك، فهم يقيسون المسافات في هذا الكون، والمسافات بين النجوم بعضها البعض يقيسونها بالسنة الضوئية، قال الله تعالى في هذه النجوم: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:75] إنك ترى النجم على ما يجيء لك من الضوء فتقول: هي تحركت من مكانها وانتقلت إلى مكان آخر، فأنت ترى موقعها ولا ترى النجم نفسه، فالضوء يصل إليك من النجم في أربع سنوات ضوئية ونصف سنة ضوئية. إن المسافات إذا كانت أضخم من ذلك بكثير فإنك لن تحسبها إلا بالثانية الضوئية، والسنة الضوئية، والثانية الضوئية معناها: المسافة التي يقطعها الضوء خلال ثانية واحدة إلى بعد ثلاثمائة كيلو متر. إن الشمس تبعد عن الأرض بحوالي مائة وأربعين مليون كيلو متر، وهذا بعد واسع جداً، لكن قياساً على غيرها من النجوم فهو بعد بسيط جداً، فعندما نحسب بعد النجوم نحسبه بالسنة الضوئية، والسنة ثلاثمائة وستون يوماً، اضرب ثلاثمائة وستين يوماً في أربع وعشرين ساعة، ثم اضرب في ستين دقيقة، ثم اضرب في ستين ثانية، ثم تحصل على السنة الضوئية وتضربها في ثلاثمائة ألف كيلو متر، وبذلك تستنتج مسافة السنة الضوئية، فالسنة الضوئية تساوي تسعة وثلاثة من عشرة مليون كيلو متر، والمليون في المليون ترليون كيلو متر، إذاً: تسعة وثلاثة من عشرة ترليون كيلو متر، هذه هي السنة الضوئية، فإذا قيل لنا: إن هذا النجم في السماء يبعد عنا بمقدار أربع سنوات ونصف سنة ضوئية، فاضرب في تسعة وثلاثة من عشرة ترليون سيكون الناتج: أربعين ترليون كيلو متر بين هذا النجم وبيننا. إن النجوم زينة للسماء الدنيا، ولا ندري كم بعدها في السماء الدنيا، وقد خلق الله سبع سموات، وقد استفتح النبي صلى الله عليه وسلم ففتحت له باب السماء الدنيا، وسلمت عليه الملائكة ووجد فيها من رسل الله فلاناً وفلاناً والسماء الثانية مثلها، فهي سموات عظيمة جداً، وبعد الكون بعد عظيم شاسع واسع، يقول العلماء: يقدر قطر الجزء المدرك من الكون بأكثر من عشرين بليون سنة ضوئية، وهذا أعظم مما يتخيله الإنسان، وهو مخلوق خلقه الله. وإذا أردنا أن نصنع آلة حديثة توصلنا إلى أبعد من ذلك لما استطعنا؛ لأن الكون يتسع، ودائرة الكون تكبر، فالكون تحت هذه السماء الدنيا، والسماوات فوق السماء الدنيا، والله سبحانه فوق السماوات، ويقول العلماء: إن أفلاك الكون تجري بسرعة الضوء، أي: ثلاثمائة ألف كيلو متر في الثانية الواحدة، ويقولون: هذا الجزء المدرك مستمر في الاتساع منذ لحظة الخلق الأولى للكون وإلى أن يشاء الله، وذلك بمعدلات فائقة تتباعد بها المجرات عن المجرة التي نحن فيها، فالمجموعة الشمسية بكل ما نراه حولنا في مجرة واحدة وتتباعد المجرات بعضها عن بعض، وتكاد تقرب من سرعة الضوء، وعلى ذلك يقول العلماء: فإننا كلما طورنا أجهزة الرصد والقياس وجدنا هذا الجزء من أطراف الكون المدرك قد تباعد واختفى عن إدراكنا! فانظر إلى قدرة الله سبحانه وتعالى في هذا الكون العظيم!! يقول العلماء: ويحصي علماء الفلك الجزء المدرك من الكون بحوالي مائتي ألف مليون مجرة، أي: مائتي مليار مجرة، هذا الذي تمكنوا من إحصائه، والمجرة التي نحن فيها يسمونها: مجرة درب التبانة، وفيها شموس وأقمار وفيها نجوم بعضها مثل الشمس وبعضها أكبر منها، وبعضها أصغر، ويقولون: المجرة التي نحن فيها وتنتمي إليها الأرض على هيئة قرص مفلطح، هذا القرص يبلغ قطره مائة ألف سنة ضوئية، وسمك هذه المجرة يبلغ عُشْر هذه القيمة وهو عشرة آلاف سنة ضوئية، والسنة الضوئية مقدارها تسعة وثلاثة من عشرة ترليون كيلو متر. والمجرات تتخذ أشكالاً متعددة تحتوي على عدد من النجوم، والمجرة التي نحن فيها وتنتمي إليها الأرض تحتوي على عدد من النجوم يتراوح هذا العدد بين الألف مليون والترليون نجم، وذكروا أشياء كثيرة أكثر من ذلك، وغرضنا ليس هو إحصاءها، وإنما الغرض: أن هذا الكون واسع وفسيح جداً يحار له العقل ولا يدركه، وعندما يتسع الكون يضيع ما قد عرفنا قبل ذلك، كل هذا تحت السموات والأرض التي هي فوق هذا العالم، فإذا كان هذا الكون الذي خلقه الله سبحانه وتعالى ندرك بعضه ولا نقدر أن ندرك أكثر من هذا الذي أدركناه، والعلماء يقولون: إن هذا الكون ضخم جداً، وهناك تجمعات أخرى نحن لا نراها من هذه المجرات، ولم نستطع أن نصل إليها في هذا الكون؛ لأنها تبعد في كل وقت فيقف العقل البشري عاجزاً عن أن يصل إلى حجم الكون، وهو خلق من خلق الله سبحانه. فإذا قال: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23] سبحانه الكبير باللام التي تفيد اختصاصه وحده سبحانه بهذه الصفة على عظمتها وعلى أحقيتها، فإذا قلنا: هذا الكون كبير، وفلان كبير، وفلان أكبر من فلان، فإننا نقول: الله هو الكبير، وهو أكبر من كل شيء سبحانه، فإذا دخلت في صلاتك وقلت: الله أكبر، أي: الله أكبر من كل شيء، وإذا واجه الإنسان معضلة من المعضلات أو مشكلة من المشكلات يصلي فيقول: الله أكبر من ذلك، الله الكبير سبحانه القادر على أن يحل المشاكل كلها سبحانه وتعالى، فالله الكبير أكبر من كل شيء، وفوق كل شيء، وأنت لم تدرك من هذا الكون شيئاً، قال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255]. إن الإنسان في تخصصاته في الدنيا إذا تخصص في الطب ثم تخصص في شيء آخر كالسمعيات مثلاً، ثم في الزراعة، فهذا شيء صغير جداً أمام علم الله سبحانه، فالإنسان لا يحيط بشيء من علم الله سبحانه وتعالى في هذا الكون، ولهذا أخبرنا سبحانه أن من آياته خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ. وقال تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ} [الغاشية:17 - 19]، أفلا ينظرون كيف خلقت هذه الأشياء؟ وقال لنا: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران:190] ولما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لقد أنزلت علي الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتدبرها)؛ ولذلك إذا قرأت: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة:164] فتأمل في خلق الله سبحانه تعرف قدرة ربك سبحانه وتعالى الذي أحاط بهذا كله علماً، فهذه الشموس، وهذه النجوم التي تمشي وتجري فتروح شمالاً ويميناً، وكلها تدور في هذا الكون بانتظام منسق، ويجعل الله سبحانه وتعالى لكل شيء أجلاً، فهذا النجم ينفجر، وهذا النجم يبدأ ميلاده كما قدره الله سبحانه وتعالى. والإنسان حيث يشاهد هذا الكون يجد أن كل شيء يحييه الله عز وجل ويميته سبحانه، قال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [البقرة:255] , وقال تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} [الرحمن:5 - 7]، رفع هذه السموات، وأنزل لكم العدل في أرضه حتى تعدلوا وحتى تزنوا بالحق، وحتى لا تخسروا في الميزان، علمنا العدل الذي به قامت السموات والأرض، وقد قامت السموات والأرض بحساب دقيق عادل من الله سبحانه، ولو أن هذا الحساب فيه شيء من الخطأ لسقط الكون كله، ولتخبطت النجوم في بعضها، وهلك الكون، ولكن الكون موجود به ذلك، ولذلك يخبرنا ربنا سبحانه عن آية من آياته يسمونها: آية التمانع، قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22] فلو كان في الكون آلهة إلا الله لفسد هذا الكون، فنقول: دليل التمانع أنه إله واحد امتنع من الفساد، فالسموات لها نظام موحد، فالنجوم تطلع كل يوم من مكانها، والشمس من مكانها، والقمر يطلع على عادته، والأرض تسير في مكانها منذ أن خلقها الله سبحانه في فلكها، قال تعالى: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء:33] ولو كان هناك آلهة غير الله لقال إله للشمس: اطلعي، والآخر يقول: لا تطلعي، وذلك يقول للأرض: سيري من هذا المكان، والإله الآخر يقول: من هذا المكان، فلو كان ذلك لهلك الكون وفسد. والعادة أن المركب فيه رُبَّان واحد، ولا يمكن أن يسيره ربانان، فهذا الكون العظيم هل يعقل أن فيه كذا إله يدبر أمر هذا الكون ويسيره؟! قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:22 - 23]. قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) إذا قلنا: إن هذه الأرض التي نراها عظيمة وفسيحة بجوار السموات كحلقة في فلاة، وأن هذا الكون الذي حولك تحت السماء، فكيف تكون سما

عظمة خلق الله تعالى فيما بث في السماء والأرض من دواب

عظمة خلق الله تعالى فيما بث في السماء والأرض من دواب قال الله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ) فهذه آية واحدة من الآيات الموجودة في الكون، فكونه يجعل لنا سبحانه النجوم الزاهرة في هذه السموات ويجعل لنا في هذه السموات ما نستدل به عليه، ومن الناس من يعرف أن هنا شرقاً وهنا غرباً بهذه النجوم، قال تعالى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16] فأعطى الإنسان العقل حتى يفكر في ذلك فيهتدي إلى سبيله ويهتدي إلى خالقه سبحانه وتعالى. وكذلك خلق الله في السموات دواباً لا نعلمها، يقول العلماء: أردنا أن نصعد كوكب الزهرة كي نعرف هل هناك مخلوقات لله سبحانه، أم أنه ليس هناك غيرنا في هذا الكون؟ فقمنا بتحليل تربة كوكب الزهرة لكي نعرف هل هناك أوكسجين أو ماء أم ليس هناك شيء من ذلك؟ فوجدناه محاطاً بالجليد، ولم نعرف من أين جاء هذا الجليد؟ فالله يبث ما يشاء من خلقه فيما يشاء سبحانه وتعالى ويخلق ما يشاء. وقد علمنا أن السموات ما فيها موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك من الملائكة، وعلمنا أن الله عز وجل جعل ملائكة في الأرض سياحين يسيحون في الأرض ويبحثون عن مجالس الذكر، ويحيطون بنا ويحفظوننا بأمر الله سبحانه، ونحن لا نرى هذه الملائكة، ولكننا نؤمن بها ونعلم أن قوتها أعظم منا بكثير، وأنهم: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، فإذا تكلم الإنسان وقال: النجوم خالية فارغة ليس فيها أحد، فنقول: الله يخلق ما لا تعلمون، فالأرض حولنا فيها ملائكة وفيها جان وفيها شياطين، ونحن لا نرى شيئاً من ذلك، ونؤمن بوجود هذه الأشياء، فالله بث في السموات دواباً، وبث في الأرض دواباً، ونحن نعلم شيئاً ويخفى عنا الكثير، والله يعلم كل شيء سبحانه وتعالى. فقوله تعالى: (وَمَا بَثَّ) أي: نشر، وقوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ) أي: من دلائل قدرته وعظمته سبحانه وتعالى آية له، ومن معجزاته وعلامات قدرته ودلائل قوته سبحانه أن خلق السموات وخلق الأرض وبث في السموات والأرض دواباً، وكل ما يدب في مكان فهو دابة. فقوله تعالى: (وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ) أي: من آيات الله سبحانه؛ فإذا حاولت وتأملت كم من الدواب على هذه الأرض وكم من الأجناس التي خلقها الله، فإن تحت كل جنس من هذه الأجناس أنواعاً، وتحت كل نوع أصنافاً، ويقسم العلماء هذه الأشياء ويحاولون حصر الأجناس، وما قدروا أن يحصروها، والحصر مستحيل لخلق الله سبحانه، والله يعلمها بأفرادها فرداً فرداً، وهذا الفرد ما فيه من أعضاء خلقها الله سبحانه يعلمها واحداً واحداً، ويعلم كيف تسير؟ وكيف تقوم؟ وكيف تنام؟ وهو الذي يحييها ويميتها سبحانه، قال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16] سبحانه وتعالى. قال تعالى: (وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ) وقد عرفنا هذا، وعرفنا أن الحجم أعظم بكثير، والعدد عظيم وعظيم جداً، يخبرنا ربنا سبحانه أنه أحصى كل شيء عدداً، فنحن نجتاز المليون والمليار والترليون، وما بعدها من أعداد لا نستطيع معرفتها، فالله أحصى كل شيء عدداً، وكل شيء عده الله وأحصاه ولا يغيب عنه شيء سبحانه، فهو خالقه ومالكه سبحانه وتعالى، وبث هذه الدواب التي يعلمها في هذا الكون، ثم هو على جمعهم إذا يشاء قدير. يقولون: إنه كلما ازداد العدد على الإنسان كلما صعب الحساب وصعب الجمع، فالله عز وجل يخبر أنه هو الخالق، وأنه وحده الذي ينفرد بذلك، وأنت لا تقدر إذا زاد العدد عليك أن تجمع هذا العدد، لكن الله يقدر على ذلك سبحانه، وهو قادر على جمع كل ما خلق من دواب، وكل ما خلق في هذا الكون سبحانه وتعالى.

قدرة الله تعالى على جمع خلقه يوم القيامة

قدرة الله تعالى على جمع خلقه يوم القيامة قال تعالى: (وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ)، ولم يقل: لو يشاء، وإنما قال: إذا يشاء؛ لتحقق ذلك، فهو لا يمتنع أبداً، فوقتما يشاء سبحانه سيجمع الخلائق، ويحشر الجميع، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، (وهو على جمعهم إذا يشاء) أي: في الوقت الذي يريده ويشاؤه (قدير) سبحانه وتعالى. إذا نظرنا لهذا الإنسان المخلوق كم يوجد من البشر على هذا الكون؟ نقول: الموجودون الآن من البشر أحياء على هذا الكون ستة مليار، فكم ماتوا منذ خلق الله آدم؟ وكم يخلق الله إلى أن تقوم الساعة؟ وكم العدد كله؟ وكم من المليارات، وكم من الأعداد العظيمة من البشر؟! وكل إنسان من هؤلاء خلقه الله وخلق له رزقه، وحسب له حياته ووقت مماته سبحانه وتعالى، خلقه ومعه رزقه وعمله، وإما شقي أو سعيد، ومكانه جاهز في الجنة أو في النار، أليس هو العظيم العلي الكبير سبحانه وتعالى؟! والذي يعلم كل شيء وأحاط بكل شيء علماً ولا يضيع منه شيء، ولا يغيب عنه شيء، ولا ينسى ربك أحداً، ولا ينسى ربك شيئاً سبحانه وتعالى. فالله سبحانه يأمرنا أن نتدبر في هذا الكون، فالكون عظيم، والذي خلقه هو الله الأعظم سبحانه وتعالى، وهو الذي يقدر أن يجمع الناس، فإذا كان ربنا خلق هذا الكون وسيجمعهم بعد ذلك فهل يستطيع أحد أن يهرب من ربنا سبحانه وتعالى؟! فالله هو الذي دبر هذا الكون كله، وكل شيء يجري تحت مشيئته وقدرته، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:41] فهو الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا، وكل ما في الكون يحركه الله، وكل شيء يدور وكل شيء يجري في هذا الكون بأمر الله، ومن العجيب أن حركة كل شيء في هذا الكون حركة عجيبة جداً، والناس الوحيدون الذين يوافقون هذه الحركة هم المسلمون، فأنت حين تتحرك وتدور حول الكعبة تدور مثلما يدور الكون كله، فتدور عابداً لله سبحانه، تطوف ببيت الله سبحانه كما يطوف الكون كله بمثل هذه الحركة، وهي حركة عجيبة؛ إذ أن الكون كله يدور على مثل هذه الحركة، وقد أمرنا الله نحن المسلمين أن نطوف حول البيت بمثل هذه الحركة، فهي عبادة لله سبحانه وتعالى، والذي خلق ذلك كله يقول: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134] فلا مهرب ولا مفر من الله، فهو الذي أحاط بالكون العظيم كله، فكيف تهرب من الله وأنت لا تستطيع أن تخرج من هذا الكون؟!

تفسير قوله تعالى: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير)

تفسير قوله تعالى: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) يقول الله سبحانه: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] فأنت ضعيف مخلوق خلقك الله سبحانه، وهو القوي العزيز الرحيم سبحانه، والإنسان حين يعصي الله يعاقبه الله بشيء من المصيبة بكرمه وفضله سبحانه وتعالى، قال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) فأنتم استحققتم ما وقعتم فيه فجازاكم الله، ولو جازانا الله على كل مصيبة فلن نقدر أن نتحمل ذلك. قال تعالى: (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) فجازاكم بالبعض فهو يعفو عن الكثير سبحانه وتعالى لعلكم تعودون إليه وتتوبون إليه سبحانه وتعالى. يقول لنا النبي صلوات الله وسلامه عليه فيما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما: (ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه) انظر إلى رحمة الله وكرمه سبحانه وتعالى، فحتى لا توافي ربك بمعاص كثيرة يوم القيامة يبتليك الله عز وجل بشيء من التعب والنصب أو مرض تؤذى به، أو جرح أو وخز إبرة أو شوكة تشاكها فيعطيك حسنات، أو يكفر عنك من سيئاتك، فتلقى الله عز وجل يوم القيامة وقد خفف عنك بمصائبك. قال تعالى: (فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) لذلك إذا حدث لك شيء من ذلك فقل: الحمد لله، ولا تعترض على أمر الله، فكله بما كسبت أيدينا ووقوعنا في المعاصي، فالله يفعل فينا ذلك رحمةً بنا، فالله لا يحاسبنا على كل المعاصي -فهو أكرم من ذلك- وإنما ببعضها تذكرةً لنا بأننا ضعفاء، فالإنسان ضعيف لا يقدر أن يمنع نفسه، وهو الذي يتعاظم على الناس ويقول: أنا قوي، فإذا شاكته شوكة عرف قدره، وعرف أنه ضعيف فتراه يصرخ من جراء ذلك، فالله العظيم سبحانه يقول: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) وهذه قراءة الجمهور، وقرأ نافع وأبو جعفر، وابن عامر: (بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) بغير فاء. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن) إن الهم الذي يهمك ويضايقك لك أجر فيه من الله عز وجل إذا قلت: الحمد لله، ورضيت بقضاء الله وقدره، وعلمت أن ذلك بما كسبت يداك ووقوعك في المعاصي، فإن الله يجعل لك في ذلك أجراً، لكن لا تطلب من ربك أن يعاقبك على ذلك، ولكن اطلب رحمة الله سبحانه فهو يعفو عن كثير سبحانه وتعالى. قال: (ولا هم ولا حزن ولا أذى) أوذي بكلمة ضايقته، أو مر في الطريق فأوذي وتقطعت ثيابه فحصل فيه جرح أو أذى، أو أصابه الغم أياماً وليالي، كل هذا تكفير لسيئات الإنسان، وزيادة حسنات عند الله سبحانه، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه. جاء في حديث في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنه دخل شباب من قريش عليها وهي بمنى وهم يضحكون -ولعلهم أقرباء للسيدة عائشة - فدخلوا عليها وهم يضحكون قالت: وما يضحككم. قالوا: فلان خر على طنب فسطاط فكادت عينه أن تذهب، قالت عائشة: فلا تضحكوا فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة) فتضحك على ماذا؟ تضحك على المنظر الذي أمامك؟ ألا تعلم أن من وراء ذلك يكفر الله عنه سيئات. إذاً: حقيقة هذا الأمر: أن الله يكتب له حسنات، فهل تضحك على أن الله يكتب له حسنات، وتضحك على أن الله يكفر عنه سيئات؟ لا تضحك على مثل ذلك، وإذا لم يتبين لك ذلك فلا تضحك على مصيبة أخيك، ولا تشمت بمصيبة أخيك فيعافيه الله ويبتليك. ولذلك كانت السيدة عائشة كثيراً ما تتمثل ببيت واحد من العرب: فقل للشامتين بنا أفيقوا سيلقى الشامتون كما لقينا تذكر أن الدهر إذا أناخ بأرض قوم أو على قوم أناخ على أناس آخرين، وهذه عادة الإنسان في هذا الكون أن الله عز وجل يضعه ويرفعه، فإذا رأيت إنساناً قد وضعه الله فلا تشمت به؛ لأن الضر سيكون عليك بعد ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أبى الله أن يرفع شيئاً إلا وضعه). قال تعالى: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ} [الشورى:31] ذكر الله لنا من خلق السموات والأرض وقدرته العظيمة الفائقة الباهرة، وهذا الخلق العظيم الذي يحيرنا نحن من خلق الله، فأين نفر من الله سبحانه؟ لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الله: (لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك) فأنت إذا هربت من الله إلى الله، ستهرب من الله إلى أين؟ إلى الله سبحانه، فارجعوا إلى ربكم وتوبوا إليه وأنيبوا، ارجعوا إلى ربكم ولا تفروا، فأين المفر من الله سبحانه وتعالى وهو القادر عليكم. نسأل الله من فضله ورحمته إنه على كل شيء قدير. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الشورى [30 - 34]

تفسير سورة الشورى [30 - 34] يذكر المولى سبحانه أن كل مصيبة تنزل بالإنسان سببها الذنوب والآثام، ومن عظيم رحمته أنه يعفو عن كثير من الذنوب ويغفرها سبحانه، ثم بين بعد ذلك عظيم قدرته في إحاطته بخلقه وأنه لا يعجزه أحد منهم، وليس لهم من قريب أو ناصر يمنعهم من الله إن أراد حسابهم ومجازاتهم على أعمالهم، ثم ذكر آية أخرى دالة على عظيم قدرته وكمالها من جهة، ومن جهة أخرى تدل على ضعف الإنسان وأنه لا يفعل شيئاً إلا بعد أن يشاء الله تعالى، وهذه الآية هي تلك السفن التي تمخر عباب البحر، فإن أراد الله أسكن الريح فسكنت معها، وإن أراد أن يوبقها أوبقها، ولا يتعظ بهذه الآيات إلا من كان كثير الصبر على البلاء جزيل الشكر على النعماء.

تفسير قوله تعالى: (وما أصابكم من مصيبة فيما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير)

تفسير قوله تعالى: (وما أصابكم من مصيبة فيما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الشورى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]. يخبرنا الله سبحانه وتعالى بأننا لا نبتلى ببلاء في هذه الدنيا إلا بذنب اقترفناه، كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30]، ومع ذلك فالله كريم عظيم سبحانه يتكرم ويعفو عن الكثير. يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: هذه الآية أرجى آية في كتاب الله عز وجل. والصحابة لهم تعبيرات جميلة في آيات من كتاب الله سبحانه، فيرى بعضهم هذه الآية أرجى، والبعض الآخر قد يرى آية أخرى. ومعنى قوله: (هذه أرجى آية) أي: أرجو من الله عز وجل فضلها، وما ذكر في هذه الآية من عفو الله عن الكثير الذي تطمئن الإنسان المؤمن. وقوله سبحانه وتعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]، قالوا: هذه أرجى آية في كتاب الله؛ لأن فيها غفران كل الذنوب. وقالوا أيضاً في قوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، هي أرجى آية في كتاب الله طالما الإنسان على التوحيد، ويقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولا يقع في الشرك بالله، ولا في الكفر فهو يرجو رحمة الله. ومعنى قولهم: هذه أرجى، أي: من آيات الرجاء التي يرجو المؤمن ما فيها من فضلٍ وتكفيرٍ ومغفرة. كذلك هذه الآية: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ)، أرجى آية في كتاب الله، فإذا كان يكفر عنا بالمصائب، ويعفو عن كثير، فماذا يبقى بعد كفارته وعفوه، فابتلاك ببعضها في الدنيا وعفا عن كثير سبحانه، فإذا كان الأمر بين الابتلاء وبين العفو فماذا يبقى بعد ذلك؟ والغرض بيان سعة رحمة رب العالمين سبحانه. والمؤمن يرجو الله ويخاف من ذنوبه، ويعلم أن الله غفور رحيم، وأن الله شديد العقاب، فلابد أن يسير في الدنيا بين هذين الأمرين، أي: بين الخوف والرجاء، فيخاف ذنوبه أن توبقه، ويحب ربه ويرجو رحمته، ويحسن الظن به كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه وهو يموت: (كيف تجدك، قال الرجل: أجدني أرجو الله وأخاف ذنوبي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما اجتمعا في قلب عبدٍ في مثل هذا الموضع إلا أمنه الله مما يخاف، وأعطاه ما يرجو). فرحمة الله عز وجل عظيمة واسعة، والمؤمن يعبد ربه بين الخوف والرجاء، كما كان أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام، فقد قال الله عز وجل عنهم: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:90] أي: رغبة فيما عندنا، ورهبة مما عندنا، فهذا مقام الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، كلهم يعبدون الله عز وجل بين الخوف والرجاء رغباً ورهباً. قال تعالى: ((وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ)) جاء عن السلف رضوان الله عليهم في ذلك كلام جميل، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن، ولا أذىً ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)، فكل ما يبتلى به الإنسان يكفر الله عز وجل عنه من خطاياه لذلك، وهذا في الإنسان المؤمن الموحد لربه سبحانه، الذي يعبد ربه، ويقع في الذنوب، فالله يتجاوز ويعفو ويغفر ويبتليه في الدنيا بذلك. أما الكافر فليس بعد الكفر ذنب، إنما يعافي الله تعالى له بدنه، ويعطيه مالاً وولداً؛ حتى يلقى ربه سبحانه، وليس له عنده شيء، وليس له حجة. يقول الحسن: دخلنا على عمران بن حصين رضي الله عنه، وهو رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الأفاضل الذي كانت الملائكة تسلم عليه، وكان قد أصيب ببواسير، فلما اشتد عليه المرض طلب من يكويه فكوي، فكان آخر العلاج الكي، وهو بغيض، وقد كان العرب يستخدمونه كنوع من الوقاية من الأمراض؛ فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الكي، فلا يستخدم إلا في أضيق الحدود كنوع من العلاج، مثل: توقيف النزيف، أما أنه وقاية من العلاج فلا. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن كان الشفاء ففي ثلاث: في شرطة محجم، أو شربة عسل، أو كية نار، وأنهاكم عن الكي). فـ عمران بن حصين رضي الله عنه لما كوي دخلوا عليه بعد ذلك، ووجدوه يتألم رضي الله عنه ويقول: لقد اكتوينا فما أفلحنا ولا أنجحنا. ويقصد أنه بعد أن اكتوى لم تعد الملائكة تسلم عليه، ثم ما لبث أن عادت الملائكة تسلم عليه كما كانت. فـ الحسن البصري دخل على عمران بن حصين رضي الله عنه، فقال رجل من الحاضرين: إني ليمنعني من زيارتك ما بك من الوجع. فقال عمران: يا أخي! لا تفعل، فوالله إني لأحب الوجع، ومن أحبه كان أحب الناس إلى الله، والله قدره علي فأنا راض بما قدره الله سبحانه. انظر لحبهم لله سبحانه وتعالى، الألم عليه شديد، وهو يقول: أنا أتألم منه، لكن أحبه لأنه يقربني من الله، والله يحب ذلك، وقد قال الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]، فهذا مما كسبت يدي، وعفو ربي عما بقي أكثر. إنه اتهام النفس، والتواضع بين يدي الله سبحانه وتعالى. قال مرة الهمداني: رأيت على ظهر كف شريح قرحة -ومعلوم أن شريحاً القاضي رجل مخضرم عاش في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه لم يسلم إلا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أعدل القضاة رضي الله تعالى عنه، وقد قضى لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه دهراً طويلاً، وكان من أعلم الناس بالحكم بين الخصوم- فسأله إنسان فقال له: يا أبا أمية ما هذا؟ قال: هذا بما كسبت أيدينا، ويعفو عن كثير. يعني: هذه بسبب ذنوبنا، ويعفو الله عن كثير. والإمام محمد بن سيرين لما ركبه الدين اغتم لذلك؛ فقد كان رجلاً كريماً، ويحب الإنفاق، فقال: إني لأعرف سبب هذا الغم، إنه بذنب أصبته منذ أربعين سنة! فما زال رحمه الله تعالى ذاكراً ذنبه الذي ارتكبه منذ أربعين سنة، فلما ابتلاه الله عز وجل عرف سبب الابتلاء. هذا بعض ما جاء عن السلف الصالح رضوان الله عليهم في ذلك، فعلى الإنسان أن يتهم نفسه إذا ابتلي بشيء وينظر ماذا عمل. وجاء أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مرض مرضاً شديداً وهزل حتى صار كالفرخ من الضعف، فعاده النبي صلى الله عليه وسلم فتعجب من حالته، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لعلك دعوت على نفسك بشيء، قال: نعم، قال: بم دعوت؟ قال: قلت: اللهم ما كنت معاقبني به يوم القيامة فعاقبني به الآن. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تستطيع، سل ربك العفو والعافية). فالإنسان يرى رحمة الله عز وجل العظيمة الواسعة، فلا ينبغي أن يدعو على نفسه، ولكن يدعو لنفسه بالخير، ومن أجمل الدعاء: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. ومن ذلك الدعاء في الليالي التي هي مظنة ليلة القدر بما قاله النبي صلى الله عليه وسلم يعلم عائشة: (اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عنا). فيدعو الإنسان المؤمن له ولأهله ولإخوانه وللمؤمنين، يدعو بالعفو، وعفو الله عز وجل أعظم وأوسع بكثير، فلا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا إلا بخير.

تفسير قوله تعالى: (وما أنتم بمعجزين في الأرض)

تفسير قوله تعالى: (وما أنتم بمعجزين في الأرض) قال تعالى: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [الشورى:31] قد ذكرنا سعة هذا الكون العظيم الذي خلقه ربنا سبحانه وتعالى. فإذا قال لنا: ما أنتم بمعجزين في الأرض، فهذا صحيح، أين نذهب من الله سبحانه وتعالى؟! الأرض أرض الله، والسماء سماء الله سبحانه وتعالى. جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً كان ينبش القبور، ويسرق أكفان الموتى، وما عليهم من حلي، فلما حضرته الوفاة قال لأبنائه: أي أبٍ كنت لكم؟ قالوا: خير أب، قال: فإذا أنا مت فأحرقوني، ثم انتظروا يوماً شديدة ريحه فذروا نصفي في البر، ونصفي في البحر؛ فإن يقدر الله عليّ يعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين). كأنه نسي قدرة الله سبحانه، ولو أن إنساناً ظن أن الله لا يقدر عليه فهذا كافر، ولكن كأن الرجل مع اندهاشه من الموت، وشدة رعبه وخوفه من لقاء الله سبحانه وتعالى تكلم بذلك. فلما مات فعلوا به ذلك، وإذا بالأمر غاية في البساطة، ومن يعجز الله عز وجل؟ يأمر الله الأرض أن اجمعي ما فيك منه، فتجمع له الأرض ما فيها منه، ويأمر البحر أن اجمع ما فيك منه، فاجتمع الرجل وقام بين يدي الله عز وجل، فقال: يا عبد الله! لم فعلت ذلك؟ قال: من خوفك يا رب! فعفا سبحانه وتعالى، ورحمة الله واسعة وعظيمة. قال تعالى: ((وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ)) فأين تذهب؟ الأرض أرض الله سبحانه، قال تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة:1 - 5]. يأمر الله الأرض أن تتزلزل وتخرج ما فيها من كنوز، فيقول الإنسان: ما الذي يحصل فيها؟ فتقول الأرض: إن الله أمرني بهذا وأوحى إلي به وأذن لي فيه. فإذا بالأرض تحدث أخبارها وما صنع عليها، تحدث عمن كان يصلي ويعبد الله فوقها، ومن كان يطغى عليها. يقول تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه} [الزلزلة:7] ذرة: نملة، أو هباء، فمن يعمل مثقال ذلك في الأرض من خير يره. قال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:8]، ما عملت من خير تجزى عليه، وما عملت من شر تجزى عليه، والله يعفو ويتكرم ويؤاخذ ويعذب من يشاء سبحانه، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، {وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]. {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا} [فاطر:41]، السماوات وما فيها، والأرض وما فيها وما فوقها وما تحتها وما بينهما، يمسك كل هذه الأجرام والكواكب والأفلاك والمجرات أن تزول، وهي باقية في مدارها وفي ملفها وجريانها، كما قال تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس:38]. فيقدر الله سبحانه وتعالى هذه الأشياء ولا شيء يهرب من مكانه، والكل يدور كما أمره الله سبحانه، وماذا يكون هذا الإنسان بجوار هذه الأشياء التي لا يقدر الإنسان على عدها، ولا على معرفة كل ما فيها، ولا على أن يحيط بشيء من علم الله عز وجل فيها. فالله الذي أحصى كل شيء عدداً، وخلق كل شيء، وجعل فيك أشياء أنت لا تعرفها، ففي كل يوم كذا مليون خلية تموت وكذا مليون خلية تخلق في جسدك وأنت لا تشعر. فالذي يحييها خلية خلية، ويميتها واحدة واحدة هو الله سبحانه وتعالى، أحصى كل شيء صغيراً كان أو كبيراً. قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [الشورى:31] الولي هو القريب منك، والمقصود أنه ليس لك ولي يتولى أمرك من دون الله عز وجل، فكلكم تقفون بين يدي الله عز وجل ولا يوجد أحد يجير أحداً من عذاب الله سبحانه وتعالى، وما لكم من دون الله من ولي يتولى أمركم، ولا نصير يدفع ويدافع عنكم أمام الله عز وجل ويناصركم.

تفسير قوله تعالى: (ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام)

تفسير قوله تعالى: (ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام) ذكر الله لنا آيات من آياته سبحانه، كخلق السماوات والأرض وما وردت فيهما من دلائل، وما أكثر ما يذكر لنا آياته التي تدل على وحدانيته، وأنه وحده الرب القادر، وأنه وحده الإله الذي يستحق أن يعبد سبحانه وتعالى. ومن هذه العلامات الدالة على قدرته سبحانه وتعالى ما ذكره الله تعالى في قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ} [الشورى:32] وفي قوله: (الجوار) ثلاث قراءات: قراءة الجمهور وصلاً ووقفاً (الجوار)، فإذا وصلوا كان بالكسرة (الجوارِ في البحر)، وقرأها ابن كثير ويعقوب (الجواري) بالياء وصلاً ووقفاً. و (الجواري) جمع جارية، وهي السفن. وقراءة أبي جعفر وأبي عمرو: (الجوار) وصلاًَ، و (الجواري) وقفاً. والإنسان حين يصنع السفينة ينسى أن الله هو الذي أقدره على ذلك، وهو الذي أجرى الماء، وأرسل الرياح، وهو الذي أنزل من السماء ماء، وهو الذي أعطاك العقل لتصنع هذه السفينة، وهذه الغواصة، وهذه الطائرة، وهذه المدمرة، كما قال عز وجل: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:8]. إذاً: هو الذي خلق لكم السفن الجارية، وخلق لكم الخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة، ويخلق ما لا تعلمون، فلو قال لهم في الماضي: أنه سوف يخلق الطيارة، ويخلق السيارة، لم يفهموا شيئاً من ذلك، ولكن قال: (ويخلق ما لا تعلمون). وقال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} [النحل:9] السبيل: القاصد الذي يدلك على طريقك، وجعل عقلك يميز الطرق المختلفة، وبه تعرف كيف تسير، فالذي دلك على الطريق هو الله سبحانه وتعالى بجعله عقلك يستوعب ذلك. وعقل الإنسان يستوعب أشياء كثيرة، لكن إذا جاء أمر الله وتاه العقل يصبح الإنسان لا يدري شيئاً، فلا يعرف زوجته ولا أخاه ولا الطريق التي كان يسير فيها. فتعرف نعمة الله عليك، واشكره على النعمة التي أعطاك؛ حتى يزيدك من فضله، فلا تنسب الفضل لنفسك. فإذا تعاظم الإنسان في نفسه، وادعى الفضل لها، إذا بالله يريه آية من آياته: ((وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ)). والجواري: السفن العظيمة التي تسير في البحر، وأول ما علم الله عز وجل صناعة السفن لنوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فصنع نوح السفينة، وكان قومه يمرون به ويهزءون ويضحكون ويسألون: ما هذا؟ فيقول: سفينة، فيقولون: وما السفينة؟ قال: تمشي على الماء. فيضحكون منه، أين الماء الذي سوف تمشي فيه؟! قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ} [هود:40] جاءت المعجزة، فإن كنتم متعجبين من سفينة موجودة في الصحراء؛ فسوف نجعل فرن النار يخرج منه الماء. ولم يمض سوى وقت يسير وإذا بالسفينة يأتيها الماء إلى الصحراء؛ حتى تسير هذه السفينة بأمر الله. قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40] جرت السفينة في البحر، فعلم الله عز وجل نبيه نوحاً عليه السلام أن يقول: باسم الله مجراها ومرساها، كما قال تعالى: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هود:41] أي: أُسمي الله في أول مسيرها، وأسمي الله حين تقف، باسم الله وببركة الله، وبقدرة الله يكون مجرى هذه السفينة ووقوفها. فإذا تعاظم الإنسان لصنعه السفينة وقال: أنا صنعتها، فإن الله يغرقها، ولما صنع الغرب سفينة سموها: السفينة التي لا تقهر، وركب فيها أغنى أغنياء العالم بثرواتهم لأجل أن يفتخروا أنهم ركبوا أعظم سفينة على وجه الأرض، فتأتي دوامة تلفها، ثم تقسمها نصفين وتغرقها. يطلع الإنسان بالصاروخ إلى الفضاء، ويظن أنه قهر الفضاء، فإذا به يصنع مثله فلا ينطلق، فعندما يتعاظم الإنسان على خالقه، ويكفر بخالقه سبحانه، ويبغي ويطغى يأتيه التأديب من رب السماء سبحانه وتعالى. إذا كانت هذه السفينة التي يصعد بها إلى القمر، فهناك مخلوقات خلقها الله عز وجل تصعد أبعد من ذلك، فالجن خلقهم الله وأنت لا تراهم، وجعل الله سبحانه وتعالى فيهم القدرة أن يتشكلوا بما يشاء الله سبحانه، وقد كانوا يصعدون ويسترقون السمع من السماء، فقد كانوا يركب بعضهم على بعض حتى يصلوا إلى السماء، ويسترقوا أخبار السماء بما يشاء الله، ثم تتبعهم شهب تحرقهم. فهذه المخلوقات صعدت دون أن تحتاج لما يحتاجه الإنسان، إلا أن الله عز وجل منعهم، وأخبر سبحانه وتعالى بذلك فقال: {إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} [الحجر:18]. إذاً: من ضمن آيات الله المثيرة العظيمة التي ترونها: السفينة الجارية في البحر كالأعلام، أي: كالجبال، والعلم هو الجبل، والقصر العظيم، فالسفينة مثل القصر، فهي ممتلئة بالغرف، وهي شيء عظيم في البحر، ويحملها الماء بقدرة الله تبارك وتعالى.

تفسر قوله تعالى: (إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره)

تفسر قوله تعالى: (إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره) قال تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنْ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [الشورى:33] كانت السفينة في السابق تتحرك عن طريق الشراع الذي تدفعه الريح، فالله قادر على أن يوقف الرياح فلا تتحرك هذه السفينة. وكذلك السفن التي عمدة حركتها في البحر اليوم على المحركات فالله قادر أيضاً على إيقافها عن الحركة، فمهما صنع الإنسان من أشياء فهي بيد الله، وتحت قدرته، إن شاء سيرها وإن شاء دمرها، فليحذر الإنسان من الغرور، وعليه أن يحمد ربه على ما أعطاه ليزيده، كما قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]. والغواصة الروسية المسماة: (المدمرة) كانت قد تعاظمت نفوس أصحابها، فحبسها الله في البحر بشبكة صيادين التفت حول مروحتها فأشرف طاقمها على الغرق لولا أنهم أسعفوا، فالله تعالى يسبب الأسباب، ويدبر لعباده أمر محياهم ومماتهم، ومعاشهم وحياتهم، ليشكروه فيزيدهم من فضله سبحانه. قال تعالى: ((فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ)) الركود: التوقف على ظهر الماء وعدم الحركة، ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ)) أي: في ذلك آيات عظيمة باهرة، وهي معجزات عظيمة أن يخلق الله هذا الماء، ويجعل هذه السفينة تقف عليه وتتحرك، ولكن لمن هذه الآيات؟ ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لكل صبارٍ)) الصبار: كثير الصبر على قضاء الله وقدره، يصبر فيعتبر ويتفكر، فينتفع بهذه الآيات، فهو في وقت البلاء صابر، وفي وقت الرخاء شاكر، وهذا المنتفع بهذه الآيات يركب سفينته فيقول: {بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [هود:41]. وإذا ابتلاه الله عز وجل دعا ربه سبحانه وتعالى، وإذا أنعم عليه وأعطاه حمد الله تعالى، فهو صابر في وقت الصبر، وشاكر في وقت النعمة، فاستحق أن يذكر الله سبحانه وتعالى وصفه أنه يعتبر بهذه الآيات: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم:5].

تفسير قوله تعالى: (أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير)

تفسير قوله تعالى: (أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير) قال تعالى: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:34] أي: يهلك ويدمر ويغرق السفينة بذنوب العباد، فإذا أغرق السفينة فبسبب ظلم أهلها، ويعفو عن كثير. يركب الإنسان السفينة وهو ماشٍ بقضاء الله وقدره، وليس ذلك بحذق الملاح ومهارته، وقد سمعنا قصة مركب المعتمرين من الإسكندرية، فبينما هم قد قاربوا البر وأصبح أمامهم، إذ جاءهم مركب آخر للبضائع فاصطدم بمركبهم فخرقه، لكن من رحمة الله بهم أن بقي مركبهم ملتصقاً به حتى نجوا بأنفسهم وأنقذ الله ألفاً وأربعمائة ومات واحد أو اثنان. قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:65]. كان أهل الجاهلية إذا ركبوا السفينة نادوا: يا رب يا رب! حتى إذا نجوا رجعوا يعبدون اللات والعزى من دون الله سبحانه وتعالى. ومن هؤلاء عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه، فلما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة فر هارباً؛ لأنه من ضمن من أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه، وكانوا أربعة من أهل الكفر وامرأتان قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: (اقتلوهم ولو وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة). فقد روى الإمام النسائي من حديث سعد بن أبي وقاص قال: (لما كان يوم فتح مكة أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلا أربعة نفر وامرأتين وقال: اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة). فالأول: عكرمة بن أبي جهل، والثاني: عبد الله بن خطل، والثالث: مقيس بن صبابة، والرابع: عبد الله بن سعد بن أبي السرح. فكان كل واحد منهم له عمل في الكفر يؤذي به النبي صلوات الله وسلامه عليه، وكان من أشدهم كفراً عكرمة وأبوه أبو جهل الذي قتل يوم بدر. ومشى على طريقته ومنواله عكرمة بن أبي جهل، فظل يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤذي المسلمين، ولا يجد موطناً يكيد فيه للنبي صلى الله عليه وسلم، ويقاتل فيه النبي صلى الله عليه وسلم إلا وفعل ذلك، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل هؤلاء الأربعة، وامرأتين، قتل منهم اثنان، وتاب اثنان ودخلا في الإسلام، والله يمن على من يشاء. ويذكر عكرمة بن أبي جهل أنه خرج من مكة هارباً فركب السفينة فأصابتهم عاصفة، فقال أصحاب السفينة: أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئاً هاهنا، وكان أصحاب السفينة كفاراً. وقد ذكرنا في قصة الحصين أبي عمران بن حصين الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (كم إلهاً تعبد؟ فقال: ستة، واحد في السماء وخمسة في الأرض. فقال له: من الذي ترجو؟ قال: الذي في السماء. قال: يا حصين! كيف تعبد من لا تنتفع به؟) ثم أسلم بعد ذلك حصين رضي الله عنه. فهم كانوا يعبدون هذه الآلهة، وعندما يسألون عنها يقولون: ما نعبدها إلا لتقربنا إلى الله زلفى، فكانوا يعبدون هذه الأصنام لئلا يأتي إليهم من يقول لهم: اعبدوا الذي أنا أعبده، فكل واحد له إله يخصه؛ إنها عنجهية الجاهلية والعصبية والاستكبار؛ لذلك تركوا دين النبي صلى الله عليه وسلم استكباراً، لا لأنه ليس على الحق، فهم يعرفون أنه الحق، ولكن قالوا: لا نتبعك لأنك ستأمرنا وتنهانا. قال ربان السفينة: أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئاً هاهنا، فعند ذلك استيقظ عكرمة من غفلته بعد سنين طويلة في معاداة الله ومعاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: والله لئن لم ينجني من البحر إلا الإخلاص لا ينجيني في البر غيره. وقال: اللهم إن لك عليّ عهداً إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمداً صلى الله عليه وسلم حتى أضع يدي في يده، فلأجدنه عفواً كريماً. فجاء فأسلم رضي الله تعالى عنه. وكان بعض المسلمين يذكر أمامه أباه، فالنبي صلى الله عليه وسلم نهاهم عن ذلك وقال: (لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء) وجاهد عكرمة في سبيل الله جهاداً عظيماً رضي الله تعالى عنه، فلما كانت وقعة اليرموك بين المسلمين والروم في أول خلافة عمر رضي الله عنه، وكانت حرباً شديدة جداً، فمر به رجل ورآه يقاتل قتالاً شديداً حتى قتل، فوجدوا فيه بضعة وسبعين ما بين ضربة وطعنة ورمية. وكان عكرمة قبل ذلك يقول: من يبايع على الموت؟ فبايعه جماعة من المسلمين، وكان يقول رضي الله عنه: إني ما تركت موطناً إلا وقاتلت فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فلا أجد موطناً أدافع فيه عن هذا الدين إلا وقاتلت فيه. فقاتل وقتل شهيداً رضي الله عنه. والثاني الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله: عبد الله بن سعد بن أبي السرح، وكان قد أسلم، وكان يجيد القراءة والكتابة، فكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، فكان يعتبر من كتاب الوحي، ثم فتن بالدنيا، وارتد عن دين الله عز وجل، وهرب إلى الكفار يطعن في النبي صلى الله عليه وسلم، وينفر الناس عن الدين، ويقول: أنا الذي كنت أكتب هذا القرآن، أنا الذي كنت أملي هذا القرآن، فالقرآن من تأليفي. فينسب لنفسه أشياء لم يكن له، وكان كاذباً فيها، وهذه فتنة للكفار، وفتنة للمسلمين، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله. وكان أخاً لـ عثمان بن عفان رضي الله عنه لأمه، فلما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة إذا بـ عثمان يأتي به للنبي صلى الله عليه وسلم، وطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعفو عنه، فرفض النبي صلى الله عليه وسلم أن يبايعه. وظلا منتظرين، فإذا بـ عثمان يلح على النبي صلى الله عليه وسلم، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبايعه، وفي النهاية حقن دمه وتركه، وكأنه وجد على المسلمين فقال: (أما كان فيكم رجل رشيد يقوم لهذا فيقتله -بما صنع من كفر وردة، وآذى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وآذى المسلمين- قالوا: يا رسول الله! هلا أشرت لنا بعينك، قال: ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين). الثالث ممن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله وقتل: عبد الله بن خطل، وهو رجل من الذين كفروا بالله تبارك وتعالى، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله لأنه كان مسلماً وارتد عن دين الله، وذهب إلى مكة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم لما أسلم هذا الرجل قد أرسله ليجمع الصدقات، ومعه مولى من المسلمين، فلما خرج في الطريق أمر هذا المولى أن يصنع الطعام، ثم نام، فلما وجده لم يصنع الطعام قتله، وهرب ورجع مرتداً إلى الكفار، ثم أتى بمغنيتين تغنيان بهجاء النبي صلى الله عليه وسلم في مجالس الخمر لقريش، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهما. والرابع هو: مقيس بن صبابة وقد قتل، وهذا الرجل كان قد أسلم هو وأخ له اسمه هشام، فقتل أحد الأنصار أخاه، وبحثوا عن القاتل فلم يجدوه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار أن يدفعوا الدية له، فأخذ الدية، وبعدما أخذ الدية قتل رسولاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان معه، فأخذ الدية، وقتل رجلاً مظلوماً، ثم ارتد وفر إلى مكة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم به فقتل. فهؤلاء الأربعة الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهم، وكذلك المرأتان اللتان كانتا تغنيان بهجاء النبي صلى الله عليه وسلم، وسب دين الله عز وجل، وعفا عن ألوف من أهل مكة، وهم كفار في ذاك الحين، وقد رد ربه سبحانه وتعالى ذلك إلى اختياره إن شاء أن يعفو، وإن شاء أن يقتل، فعفا صلوات الله وسلامه عليه. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الشورى [32 - 36]

تفسير سورة الشورى [32 - 36] يخبر الله سبحانه عن آياته العظيمة في هذا الكون، فيجب على الإنسان أن يتأمل في مخلوقات الله ليزيد إيمانه، فإن الله يعفو عن كثير من ذنوب عباده ويتجاوز، لكن في الآخرة لا مهرب ولا مفر من الحساب، والتوكل على الله من صفات المؤمنين الصادقين، ولنا في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة في توكله على الله وثقته بالنصر على الأعداء.

تفسير قوله تعالى: (إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره)

تفسير قوله تعالى: (إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ * إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ * وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} [الشورى:32 - 35]. يخبر الله عز وجل عن آياته العظيمة في هذا الكون التي يجب على كل إنسان أن يتأمل فيها وأن يتدبرها وأن يتفكر فيما خلقه الله عز وجل له، وقدرة الله العظيمة على الخلق أن دله وأن خلق له وبين له، فهذه آية من آيات الله عز وجل لا تقدر أنت عليها إلا أن يعينك الله سبحانه وتعالى، فمن آياته هذه السفن الجارية العظيمة الجواري في البحر كالأعلام، وكالجبال وكالقصور العظيمة. قال الله تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} [الشورى:33] إذا شاء ربنا سبحانه وتعالى أسكن الريح، فوقفت هذه البواخر وهذه السفن العظيمة تنتظر رحمة الله سبحانه وتعالى، فتركد على ظهره، فإن يشأ الله سبحانه وتعالى يوقفها، ونفهم منه أنها تجري من أول الآية، إذاً: بمشيئة الله هي جارية فإذا شاء أوقفها، أو إن شاء أغرقها وأوبقها وأهلكها وأهلك من فيها. قال تعالى: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:34] فإن يشأ يسكن الريح، وإن يشأ يوبق السفينة ويعف عن كثير سبحانه وتعالى، فالله العظيم سبحانه وتعالى يعفو ويتجاوز عن ذنوب العباد، ويتجاوز عن ذنوب كثيرة لعباده، فهو سبحانه وتعالى يفعل ذلك، فإذا شاء عفا وإذا شاء لم يعف سبحانه وتعالى، وإذا شاء عفا عن كثير من ذنوب العباد وإذا شاء عفا عن الذنوب جميعها، فالله على كل شيء قدير، وإذا شاء سبحانه وتعالى جعل الإنسان مؤمناً فهو داخل تحت عفو الله سبحانه، وإذا شاء الله عز وجل كان العبد كافراً فلم يعف عن شيء سبحانه وتعالى. فالعفو للمؤمن الذي عرف التوحيد، وأناب إلى ربه وتاب وعرف ربه سبحانه، ولم يشرك به، فهذا تحت مشيئة الله عز وجل، إذا شاء الله عز وجل عفا عنه، وهو يعفو عن كثير من الذنوب بهذا العفو لعله ينجيه يوم القيامة، وإن يشأ يوبقه سبحانه وتعالى، أما إذا كان كافراً فلا عفو، والكافر يحاسب يوم القيامة على كل شيء، فليس بعد الكفر ذنب، وإذا لقي ربه كافراً فالله يسأله عن كل شيء سبحانه وتعالى. فيقول هؤلاء: لم نكن نصلي؛ لأنهم سئلوا عن ذلك: هل صليتم؟ قالوا: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ} [المدثر:43 - 46] كانوا كفاراً يكذبون بيوم الدين، ومع ذلك حاسبهم على صلاتهم وحاسبهم على كل ما صنعوا في هذه الدنيا. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الكتابي اليهودي أو النصراني لو أسلم فله أجره مرتين، والله عز وجل يعفو عما سبق منه، هذا إذا أسلم وأحسن إسلامه، أو أصلح، أما إذا أسلم ولم يصلح ولم يعمل صالحاً فالله يحاسبه على ذنوبه جميعها، ما فعلها في كفره وما فعلها في إسلامه؛ لأنه لم يصلح، وتنفعه كلمة لا إله إلا الله، ولكن المعاصي يحاسب على الجميع، فشرط على هذا الكافر أنه إذا أسلم أصلح، فإذا أصلح فالله عز وجل يعفو عن الذنوب التي كانت مع الكفر، فإذا لم يصلح عفا عما كان من ردته وكفره، ولكن يؤاخذ بذنوبه من كبائر وغيرها.

تفسير قوله تعالى: (ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص)

تفسير قوله تعالى: (ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص) قال تعالى: {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} [الشورى:35] الكلمات قبلها كلها ساكنة مجزومة، قال: (إن يشأ يسكن الريح) (أو يوبق) (ويعف عن كثير) سبحانه وتعالى، ثم قال: {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ} [الشورى:35] فجاءت منصوبة، والعلماء لهم مذاهب في هذا النصب الذي يأتي بعد المجزومات، فقد قال: (إن يشأ)، رجع لمشيئته سبحانه وتعالى، وهنا: {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} [الشورى:35] يقيناً سيعلمون. فالله قد شاء ذلك أنهم يعلمون ألا مهرب لهم، ويعلمون ذلك في حالتين: يعلمون في حالة ما يهلكهم الله عز وجل بذنوبهم، فيعلمون أنه لا مفر من الله، فهم يعلمون، فلا يحسن أن يقول: إن يشأ يعلم هؤلاء؛ لأنه قد شاء الله عز وجل أن يعلموا أين الهلاك، قال تعالى: {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} [الشورى:35]. والحالة الثانية: يعلمون يوم القيامة حين يجمعون ليوم القيامة فلا يعرفون الفرار؛ إذ لا مفر من الله سبحانه، فهم يعلمون ذلك، فليس هذا متعلقاً بالمشيئة، ولذلك قالوا في تقدير شيء قبله هنا: لينتقم الله عز وجل من هؤلاء وليفعل بهم وليفعل بهم وليعلم هؤلاء كذا، فجاءت معطوفة على جملة محذوفة تقديرها: أن الله يبعثهم ويهلكهم، ويجمعهم ليحاسبهم وليعذبهم ولينتقم منهم وليعلم هؤلاء أنهم لا يقدرون على شيء، هذا من أفضل ما قيل فيها، وقيل غير ذلك. {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} [الشورى:35] أي: من مهرب يهربون إليه، وأنى يهربون من الله سبحانه وتعالى؟ إذاً: المحيص: المكان الذي يهرب فيه، أو الهروب نفسه، فما لهم من مهرب من الله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا)

تفسير قوله تعالى: (فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا) ثم يقول الله لعباده: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الشورى:36] قال تعالى هنا: (فما أوتيتم من شيء) وقال في سورة القصص: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا} [القصص:60] والمعنى: مهما أوتيتم من شيء، ومهما أعطاكم الله عز وجل من شيء لا تفتخروا بهذا الشيء ولا تستكبروا به، ولا يبغ بعضكم على بعض به، ولا تطغوا في الأرض فإن الله عنده ما هو أعظم من ذلك بكثير. فالذي أعطاكم هذا هو متاع للدنيا، والدنيا زائلة فمتاعها كذلك، قال تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185] فالمعنى: لا تفرح بغناك، فإنك تترك هذا المال في يوم من الأيام، ولا تفرح بقوتك فإنه يأتي عليك الشيب والشيخوخة وكبر السن، فتذهب هذه القوة التي تفتخر بها، ولا تفرح بصحتك، فإنه يأتي عليك الأمراض يوماً وراء يوم ويذهب هذا الذي كنت فيه، ولا تفرح بجمالك فإنه يزول في يوم من الأيام، ولا شيء يبقى في هذه الحياة الدنيا فكل ما عليها فان، يفنى ويبيد ولا يبقى إلا الرب وحده لا شريك له، وسوف يجازي العبيد يوم القيامة يحصي أعمالهم في الدنيا ويحاسبهم يوم القيامة. قال تعالى: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الشورى:36] الذي عند الله هو الجنة، وجنة الخلود خير وأبقى، (خير) على وزن أفعل اسم تفضيل معناها: أخير، أي: أفضل بكثير من هذا الذي تراه في هذه الحياة الدنيا، وقوله تعالى: ((وَأَبْقَى)) إشارة إلى أن الدنيا فانية لا تبقى، والذي عند الله هو الذي يبقى، أما الدنيا فهي تزول. إذاً: أخبرنا قبل ذلك بقوله: {وَمِن آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} [الشورى:29] فأخبرنا عن السماوات وعرفنا ذلك، وأخبرنا عن الفلك الذي تحت السماء الدنيا وفيه ما فيه من الأشياء التي نجهلها، وفي الجزء الذي ندركه منه فقط الأعداد التي لا نحصيها من المجرات والكواكب والشموس والنجوم والأقمار، أشياء عظيمة وعظيمة جداً.

عظم نعيم الجنة

عظم نعيم الجنة هذا هو الخالق الذي خلق ذلك، وحين يقول لنا ويخبرنا عن جنة الخلود أنها عظيمة جنة عرضها السماوات والأرض، وإذا قلنا: إن عندنا أرضاً، والأرض طولها كذا وعرضها كذا، والعادة أن الطول أكبر من العرض، فنعبر بالطول أنه أكبر من العرض، فإذا عبر بالعرض وقال: عرضها السماوات والأرض فكم يكون طولها؟ وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن آخر من يخرج من النار ويدخل الجنة، وعن آخر واحد من العصاة الموحدين، مكث دهراً في النار والعياذ بالله، وخلد في النار ما شاء الله عز وجل، ولا يستطيع أن يعرف كم خلد فيها، قال تعالى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47] فإذا قلنا: الخلود بنظرتنا في الدنيا مليون سنة أو مائة مليون سنة، فإذا كان هذا بأيامنا فكيف يكون الخلود عند الله عز وجل في أيام يوم القيامة؟ فهؤلاء دخلوا النار فمكثوا فيها، ثم جاء العفو من الله عز وجل عن هؤلاء، فآخر واحد من العصاة الموحدين يخرج من النار ليدخل الجنة، ويمشي على الصراط، يمشي مرة ويكبو مرة وتلفحه النار مرة، ويزحف مرة حتى يخرج من فوق الصراط، وإذا خرج قال: الحمد لله الذي نجاني من هذا، لقد أعطاني الله ما لم يعط أحداً من العالمين، يقول ذلك لأنه قد دخل الجنة بعد أن كان لا يعرف إلا السجن الذي كان فيه في النار والعذاب الأليم المقيم، فهذا خرج من النار، ولكن بقي فيها الكفار ولم يخرجوا، فلما نظر إلى هؤلاء الكفار حمد الله أنه هو الذي نجا، وإن كان مكث فيها ما شاء الله عز وجل، ولكن خرج في يوم من الأيام، وقال: الحمد لله الذي أعطاني ما لم يعط أحداً من العالمين. فإذا بالرب سبحانه وتعالى يري هذا الإنسان شجرة أمامه بعدما تعدى النار وتجاوزها، فنظر إليها وأعجبته، والله يعلم ذلك سبحانه وتعالى، ووجد تحتها ماءً فإذا به يصبر ويصبر، وفي الأخير لم يصبر فقال: يا رب! أدنني من هذه الشجرة، فآكل من ثمرها وأشرب من مائها، فقد كانت أمنيته الخروج من النار، والآن يريد الشجرة هذه، فإذا به يدنو منها ويشرب من الماء الذي نبتت منه ويأكل من ثمرها، فيقول له ربه: لعلي إن أعطيتك ذلك أن تطلب غيرها، فيقول: لا يا رب لا أطلب غيرها، ويعطي ربه العهود والمواثيق ألا يسأل غيرها، فيقربه الله عز وجل ويدنيه من هذه الشجرة التي يريد، فدنا منها ومكث زمناً، وإذا بالله يريه شجرة أخرى هي أحسن من الأولى، والله حكيم سبحانه وتعالى وهو كريم ويريد له الخير. فلما أراه تلك الشجرة وهي أعظم من الأولى إذا به يصبر ويصبر ويصبر، وفي النهاية لا يطيق، فقال: يا رب! أدنني من هذه ولا أسألك غيرها، قال: ما أغدرك يا ابن آدم! ألم تعطني العهود والمواثيق ألا تسأل غيرها؟ قال: يا رب! لا أسألك غيرها، أدنني منها، فيدنيه منها، ويتكرر الأمر ويريه ما هو خير من ذلك ويطلب الخير حتى يدنيه الله، حتى يرى باب الجنة، فيصبر ما شاء الله أن يصبر وفي النهاية لا يطيق، فيقول: يا رب! أدخلني الجنة، يقول: ما أغدرك يا ابن آدم! ألم تعطني العهود والمواثيق ألا تسأل غيرها؟ فإذا بالله عز وجل يدخله جنته سبحانه وتعالى. وإذا دخل العبد الجنة رآها مليئة فلا يلقى لنفسه مكاناً، ويجد فيها كل الناس قد أخذوا أماكنهم، وهو في تخيله ليس له مكان فيها، فيسأل ربه: يا رب! أعطني من الجنة، فيقول الله: تمن، فيتمنى ويتمنى ما يشاء، ويذكره الله عز وجل ويتمنى أقصى ما وصل إليه مما يتمناه، فيقول له ربه سبحانه: ألا تحب أن يكون لك مثل ملك ملك من ملوك الدنيا؟ فيفرح العبد ويقول: نعم يا رب! فيقول: فلك مثلها ومثلها ومثلها ومثلها وعشرة أمثالها، أي: عشرة أمثال ملك ملك من ملوك الدنيا. هذا لواحد فقط ممن دخلوا الجنة، فيا ترى كم أعداد أهل الجنة؟ وكم يدخل الجنة من عباد الله سبحانه وتعالى؟ نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها، فإن باب الجنة يأتي عليه يوم وهو كظيظ من الزحام؛ لكثرة الداخلين إليها، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها. إن ما ذكره الله عز وجل لك في هذه الدنيا لم تحط به علماً، فقد وزع الكواكب والنجوم والأقمار والشموس في السماء، وهي أكثر من الناس، فإذا كانت هذه الكواكب أنت لم تقدر على عدها، ولا علماء الفلك بما لديهم من آلات ما قدروا على عدها، فقد قالوا: عدد المجرات في السماء مائتا مليار مجرة، قالوا: هذا الذي تمكنا من عده ومعرفته، وما فوق ذلك كثير لا نعرف عنه شيئاً، فالمجرة الواحدة فيها أكثر من مائتي مليار من الشموس والأقمار والنجوم، والنجم الواحد أضعاف الأرض مليون مرة، هذا نجم واحد، فهل يعجز الله عز وجل أن يعطي لأهل الجنة في الجنة لكل منهم ما شاء مثل كوكب الأرض وأعظم منه بكثير ليكون ملكاً من ملوك الجنة؟ فإن الله على كل شيء قدير، ويملك كل شيء سبحانه، فقد وعد عباده الصالحين بالجنة، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وهذه النجوم والأقمار قد رأتها العين، فالله عز وجل وعد المؤمنين بما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. فقوله تعالى: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الشورى:36] أي: قليل زائل، وما عند الله في جنة الخلود هو الذي يبقى، وهذه الجنة الباقية جعلها الله لمن كانت فيه صفات استحق بها أن يكون من أهل الجنة، وأول هذه الصفات: الإيمان، أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر، وأن توالي في الله وأن تعادي في الله، وأن تحب في الله وأن تبغض في الله، فإن حققت أصول الإيمان فأنت من المؤمنين الذين يعملون الصالحات.

التوكل على الله من صفات المؤمنين

التوكل على الله من صفات المؤمنين قال تعالى: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الشورى:36] فالمؤمنون يتوكلون على الله عز وجل، ويعلمون أن الله خالقهم، وأن الله رازقهم، وأنه مدبر أمرهم، وأنه هو الذي يملك كل شيء، ولذلك كان التوكل على الله أمراً واجباً، قال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23] فالمؤمن يكل أمره كله إلى الله، ويقول: الذي يملك النفع ويملك الضر هو الله سبحانه وتعالى، والذي يملك الرزق هو الله سبحانه وتعالى. إذاً: أنا أتوكل عليه، وأفوض أمري إليه، وأوجه وجهي إليه سبحانه وتعالى، جعلت ربي وكيلي، أنا لا أقدر والله يقدر على كل شيء، فهو الذي يقوم بتدبير أموري ومصالحي، والذي يقدرني على كل شيء، هذا هو التوكل على الله، فأنت حين توكل المحامي ليتكلم بالنيابة عنك توكله لأنك لا تستطيع أن تتكلم، ومع ذلك فأنت تعطيه أجرة على توكيلك له، فالإنسان يوكل إنساناً فيما لا يقدر هو أن يقوم به، فوكيل الإنسان نائب عنه؛ لأنه فوض إليه هذا الأمر أن يقوم به لعدم استطاعته أو لعدم تخصصه. فالإنسان حين يوكل غيره يوكله لأنه محتاج إليه، ولله عز وجل المثل الأعلى، فهو وكيلك سبحانه يدبر كل شيء، ويعطيك اليد التي تبطش بها، والعين التي تنظر بها، ويدلك على الخير فتفعل هذا الخير، وينزل عليك الرزق من السماء فتأخذ أنت هذا الرزق، ويقدرك على أن تأخذه، وعلى أن تأكله وتشربه، وعلى أن تستطعم به، وعلى أن تهضمه وتخرجه، فهو وكيلك سبحانه وتعالى في كل شيء، وهو الذي يقدرك على الخير سبحانه وتعالى، وهو الذي يعطيك، ولذلك عندما تقوم من النوم قل كما كان يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور). فهو الذي أحيانا بعد ما أماتنا في هذا النوم، وتحركنا بعد ما كنا هامدين على الفراش، وتحركت أعضاؤنا وقمنا نواصل أعمالنا، فالذي له الفضل هو الله وحده لا شريك له، والذي يتوكل على الله ليس كلاماً يقوله، وإنما ثقة في قلبه أن الله قادر على كل شيء. إن الله أمره للشيء كن فيكون، فإذا توكلت على الله فاملأ قلبك بالإيمان والثقة به سبحانه، فهو القادر على كل شيء، فتخرج إلى عملك وتطلب الرزق وفي قلبك الثقة في الله ولسان حالك: سيرزقني وسيعطيني الله سبحانه وتعالى، فالله أعظم وأكرم. فليمتلئ قلبك بالثقة به سبحانه وتعالى، وكن عند حسن الظن بالله سبحانه، أحسن الظن بالله وأحسن العمل يكن الله عز وجل عند حسن ظنك، فهو الذي يقول: (أنا عند ظن عبدي بي) ويقول النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه: (لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً). لو أنكم تتوكلون على الله حق التوكل، فهي ليست كلمة تقال باللسان، فإن الطير خرج ثقة في الله عز وجل، وبحث عن الرزق فوجد الرزق وأعطاه الله عز وجل، خرج وهو خامص بطنه فرجع وبطنه مليء بالطعام ويطعم فراخه كذلك، ولو أنكم تتوكلون على الله وتثقون في الله عز وجل أعظم الثقة لأعطاكم الله عز وجل ما تريدون منه، ولزادكم من فضله سبحانه وتعالى. ولولا ثقة المؤمنين في ربهم سبحانه وتعالى في يوم بدر لما انتصروا على جيش المشركين الذي يبلغ تعداده ألف مقاتل، خاصة وأن عدد المسلمين في هذه الغزوة ثلاثمائة رجل فقط، إذ كانوا لا يريدون قتالاً ولكنهم خرجوا من أجل قافلة لقريش، ولم يستعدوا للقتال، لكن أهل مكة تجهزوا بألف أو يزيدون مستعدين للقتال. والنبي صلى الله عليه وسلم يرى الأمر على ذلك، فهو كله ثقة في الله عز وجل ولكن يريد أن يسمع من أصحابه، هل الثقة في قلوبهم أم لا؟ فيقول: (أشيروا علي أيها القوم)، قريش جاءت، أشيروا علي أيها القوم! فالمهاجرون قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (اغد على بركة الله)، لكنه لم يرد المهاجرين، وإنما كان يريد الأنصار، فقال سيد الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم: (لعلك تريدنا يا رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، فقال الرجل: يا رسول الله! أوصل حبال من شئت واقطع حبال من شئت، وسر حيث شئت وقف حيث شئت، فوالله لو خضت بنا البحر لخضناه معك). ففرح النبي صلى الله عليه وسلم، وبشرهم بالنصر، وأخذ يريهم مصارع القوم، هنا يقتل أبو جهل، هنا يقتل فلان، هنا يقتل فلان، يشير قبل القتال، ثقة في الله سبحانه وتعالى، ووحي من الله سبحانه وتعالى. وبدأ القتال، وقاتل المسلمون قتالاً عظيماً، ولولا التوكل على الله سبحانه لما انتصر هؤلاء، فقتل أبو جهل، فرعون هذه الأمة، فقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم أبا جهل، ووصفه بأنه فرعون هذه الأمة، ويروي لنا عبد الرحمن بن عوف أحد العشرة المبشرين بالجنة قصة حدثت في يوم بدر يقول: إنه كان عن يمينه غلام وعن يساره غلام صغيران في السن يقاتلان، فهؤلاء مع النبي صلى الله عليه وسلم كانوا رجالاً وكانوا أبطالاً، قال: وجدت غلاماً عن يميني وغلاماً عن يساري فوددت لو أني بين أشد منهما، يقصد معاذ ومعوذ ابني عفراء، يقول أحدهما له: يا عمي! تعرف أبا جهل؟ قال: نعم أعرفه، قال: إذا رأيته فدلني عليه، قال: ولم؟ قال: قد أقسمت لو رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يكون الأعجل منا قتيلاً، أي: لا أفارقه حتى أقتله، أو أموت شهيداً رضي الله تبارك وتعالى عنه. فقال الآخر: يا عمي! تعرف أبا جهل؟ فيعجب من هذا، وإذا بـ أبي جهل يخرج مثل الحرجة، والحرجة: الغابة الكثيفة، فقال عبد الرحمن بن عوف: ذاك صاحبكما، وأشار إليه، وإذا بهما ينطلقان إليه، وفعلا ما قالاه، فهذا يضربه من هنا وهذا يضربه من هنا، حتى جندلاه على الأرض وأوقعاه، وذهبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم كل منهما يقول: أنا قتلته يا رسول الله! فتعجب النبي صلى الله عليه وسلم وفرح بهما وقال لأحدهما: (أرني سيفك، أرني سيفك، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم على آثار سيفيهما الدم قال: كلاكما قتله). وإذا بـ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وهو يقاتل يجد أبا جهل على الأرض، فذهب إليه وضربه بالسيف، يضرب أبا جهل بسيفه فلا يؤثر فيه. فقال له عبد الله بن مسعود: قد أخزاك الله وأبعدك يا عدو الله، فقال أبو جهل: أبعد من رجل قتله قومه، فيضربه بالسيف فلا يؤثر فيه، فقال أبو جهل: خذ سيفي فاضربني به، فيأخذ سيفه ويحز به رقبته ويقتله، ويذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقول له: هذا رأس أبي جهل، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا فرعون هذه الأمة)، ويأمر به وبأمثاله أن يدفنوا في قليب بدر، بئر من الآبار دفنوا فيها. والغرض: ما الذي نصر المؤمنين في هذه الموقعة؟ فهذه صورة رجل من الكفار هو أبو جهل، وهذا ابن مسعود يضربه بالسيف لا يؤثر فيه، وهذا غلام صغير وهذا غلام صغير، وعبد الرحمن بن عوف يتمنى لو أنه بين أقوى منهما، هل مثل هذا الجيش بتقدير العقل يغلب وينتصر؟ في تقدير العقل يقول: لا يمكن ذلك أبداً، ولكن الأمر ليس أمر العقل، الأمر أمر الله الذي يمن على المؤمنين فيقول: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]، {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23]. فلما يتوكل المؤمنون على الله ويعلمون أن الله هو الذي ينصرهم، وأنه هو الذي يعزهم ويقويهم، ويهلك أعداءهم، يأتي النصر من الله سبحانه، فأعدوا العدة وثقوا في الله عز وجل وتوكلوا على الله سبحانه، وإذا انعكس الأمر وظن المؤمن أنه هو الذي يغلب العدو وهو الذي يقاتل العدو فإن الله سبحانه قال: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة:25]. فتح المؤمنون مكة في العام الثامن من الهجرة في رمضان، وعفا النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل مكة، ودخل من أهل مكة جيشان مع جيش النبي صلى الله عليه وسلم أسلموا، وتوجهوا إلى الطائف إلى هوازن للقتال هناك، وتحصن أهل الطائف من النبي صلى الله عليه وسلم، ووقف أهل هوازن للنبي صلى الله عليه وسلم على جبلين، والمسلمون ذهبوا إلى هنالك فرحين بالنصر الذي فات، وكثيرون منهم شباب، وكثيرون منهم من قريش دخلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ومن أهل مكة، فلما رأوا أن فتح مكة كان سهلاً أخذهم الغرور، فلم يأخذوا عدتهم للقتال ولم يلبسوا دروعاً وذهبوا يقاتلون بهذه الصورة، واغتروا بعددهم فقد كان عددهم اثني عشر ألفاً، فذهبوا إلى هنالك، وانتظرهم المشركون فوق الجبال، وبالسهام والرماح كادوا يقضون عليهم، وفر الجيش كله، ويثبت النبي صلى الله عليه وسلم ويثبت معه أصحابه الأفاضل أبو بكر وعمر وغيرهم، ويثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم آل بيته رضوان الله تبارك عليهم. فيقوم النبي صلى الله عليه وسلم في ثمانين من أصحابه، إذ لم يثبت من أصحابه إلا ثمانون من اثني عشر ألفاً مع النبي صلى الله عليه وسلم، فسيد المتوكلين صلوات الله وسلامه عليه يقف في موطن يفر فيه المؤمنون الشجعان، ويفر فيه الأنصار والمهاجرون، ويقف النبي صلى الله عليه وسلم للكفار، ويتقدم عليهم صلى الله عليه وسلم ويقول: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) صلوات الله وسلامه عليه. وإذا به يتقدم إليهم، لولا أن العباس كان يحوش بغلة النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم يتقدم

تفسير سورة الشورى [36 - 37]

تفسير سورة الشورى [36 - 37] متاع الدنيا زائل، وما في الآخرة خير وأبقى، وقد عرف المؤمن ذلك فهو يجتنب الفواحش والكبائر، وتراه متوكلاً على الله، ويعفو عمن ظلمه، والكبائر كثيرة مبسوطة أدلتها في الكتاب والسنة، فعلى المسلم أن يجتنبها ليفوز برضا الله سبحانه في الدنيا والآخرة.

تفسير قوله تعالى: (فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا)

تفسير قوله تعالى: (فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الشورى: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى:36 - 37]. ذكر الله سبحانه وتعالى أن الإنسان مهما أوتي في هذه الدنيا من نعم الله سبحانه وتعالى فهو متاع قليل، وهو زينة الحياة الدنيا، قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف:46]، فالذي يؤتاه العبد في الدنيا ينبغي عليه أن يشكر الله سبحانه وتعالى عليه، ولا يفعل ذلك إلا المؤمنون الذين ذكر الله صفاتهم هذه، قال تعالى: (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)، للمؤمنين، المتوكلين، المستجيبين لله سبحانه، الذين يجتنبون ما حرم الله، ويفعلون ما أمرهم الله عز وجل به، والذين يكبتون أنفسهم عن غيظها وعن ملذاتها إلا ما أحل الله سبحانه وتعالى. ووصف الله الذين آمنوا بقوله: (وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)، وما عند الله خير وأفضل من هذه الحياة الدنيا، ولا وجه للمقارنة، فالدار الآخرة للمؤمنين الصالحين، قال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83].

الإيمان شرط في قبول العمل الصالح

الإيمان شرط في قبول العمل الصالح فالإنسان المؤمن التقي الذي لا يبتغي العلو ولا الإفساد في الأرض، ولا البغي على الخلق ولا الطغيان هو الذي لا يظلم أحداً، فإن هذا الإنسان المؤمن له عند الله عز وجل هذه الدار الآخرة، قال تعالى: (لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)، إذاً: هذه من أول صفاتهم: الإيمان، أما الكافر فليس له عند الله شيء، فإذا مات الإنسان الكافر فقد أعطاه الله عز وجل في الدنيا ما شاء سبحانه، فإذا جاء يوم القيامة وقال: لقد عملت صالحاً، كنت أصل الرحم، كنت أتصدق، كنت أفعل كذا، يقال له: لا ينفعك هذا كله؛ لأنك لم تكن مؤمناً بالله سبحانه وتعالى. والذي يعمل الخير ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى سوف يأخذ أجره من الله، والذي يعمل الخير ابتغاء مرضاة الناس سيأخذ ثوابه من الناس، فسوف يمدحونه، ويشكرونه، وسيأخذ شهرة في الناس، فقد أخذ أجره في الدنيا؛ لأنه لم يبتغ به وجه الله سبحانه وتعالى. لذلك الكافر فعل هذا في الدنيا حتى يقال: إن هذا إنسان جواد، ويقال عنه: جواد حتى يشتهر، ويأخذ عند الناس منصباً كبيراً، ويكون رأساً فيه، والناس يمدحونه ويحبونه ويثنون عليه، لكن الله سبحانه لا يقبل من العمل إلا ما كان صالحاً ولوجهه خالصاً، ولذلك فإن الكافر يطلب العمل الحسن الذي عمله، ويظن أنه يؤجر عليه يوم القيامة، فيقول الله عز وجل: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]، أي: يصير كالهبأة التي تراها في الغبار وذرات الغبار، وكذلك عمله صار هَبَاءً مَنْثُورًا؛ لأنه لم يقل يوماً من الدهر: رب اغفر لي، رب ارحمني، ولذلك جبير بن مطعم بن عدي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن عمل أبيه مطعم، وجبير كان مسلماً وأبوه كان رجلاً كافراً، وكانت له خصال حميدة وكثيرة جداً مع الناس، من إطعام الفقراء، واسمه مطعم؛ لأنه كان يطعم الناس، فيسأل جبير النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أبي كان يفعل من البر هل ينفعه ذلك عند الله؟ قال: إنه لم يقل يوماً من الدهر: رب اغفر لي وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم). فلم يكن يؤمن أن هناك بعثاً، بل كان يعمل هذا للدنيا فقط، وأخذ ثوابه في الدنيا من ثناء الناس عليه، ومن كلامهم الطيب عنه، ومن شكرهم له، أما عند الله فلا ينتفع بعمل تطلب به الناس وتطلب به الله في نفس الوقت؛ لأن العمل لابد أن تطلب به الله سبحانه وتعالى وحده لا شريك له. إن أصل الأصول هو توحيد الله سبحانه وتعالى، والإيمان بما جاء من عند الله سبحانه والتصديق به، فإذا صدق الإنسان بذلك نفعه هذا الذي فعله، وإذا لم يكن مصدقاً لم ينتفع بشيء، قال الله عز وجل: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:103 - 104]، فقوله تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ)، أي: هل نخبركم عن هؤلاء؟ قال تعالى: (بِالأَخْسَرِينَ)، أي: أخسر الخلق (أَعْمَالًا)، قال تعالى: (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا)، أي: تاهوا وضاعوا، اتبعوا شيئاً خلاف ما قاله الله سبحانه وتعالى، فكان سعيهم لغير وجه الله سبحانه، فضل وضاع، فلما جاءوا يوم القيامة لم يجدوا شيئاً عند الله سبحانه وتعالى، لأنهم (ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، ومصيبتهم أنهم (يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا). والإنسان إذا كان عاصياً نرجو أن يتوب هذا العاصي، ويعلم أنه عاص لله سبحانه، فإذا كان لا يعرف أنه يعصي فكيف يتوب؟ وإذا كان لا يعرف الحق، أو ترك الحق وراءه وضل وسار على الضلال، فكيف يقبل الله منه عملاً صالحاً يعمله؟ فالمسافر إذا أخبرته أن هذا المكان خاطئ، وعرف أن المكان خطأ، فسار فيه فلعله يضيع ولعله يرجع، ولكن الإنسان إذا عرف طريق الصواب، ومشى في الطريق الخطأ وهو يظن أنه على صواب حتى ضاع في النهاية، فمستحيل أن يرجع هذا الإنسان وهو يظن أنه على صواب، كذلك هؤلاء قال تعالى: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ} [الكهف:104]، أي: خاب وخسر سعيهم في الحياة الدنيا، {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:104 - 105] حبطت أعمالهم أي: خاب سعيهم وشقوا في الدنيا وفي الآخرة، ففي الدنيا لم يعرفوا ربهم ولم يصدقوا بما جاء من عند ربهم، فعملوا أعمالاً ابتغاء وجه الناس، وعملوا أعمالاً يظنون أنها تخلدهم ذكراناً بعد موتهم، فلما ماتوا ولقوا ربهم سبحانه لم يجدوا أعمالهم، فضاعت منهم هذه الأعمال التي طلبوا بها الناس في الدنيا. لذلك على المؤمن أن يصدق بالله سبحانه، ويعمل لله سبحانه، ويتوكل على الله سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون)

تفسير قوله تعالى: (والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون) ومن صفاتهم قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى:37]، فهذه ثلاثة أوصاف لهؤلاء: يجتنبون كبائر الإثم، ويجتنبون الفواحش، (وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ)، فهو إنسان مؤمن تقي نقي يبتعد عما حرم الله سبحانه ويجتنب الكبائر، وهنا قال تعالى: (كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ)، فالإثم مضاف إلى الكبائر، والفواحش معطوف على الكبائر، فالكبائر كبائر، والفواحش كبائر، إذاً: هم يجتنبون كل الفواحش، فلا يقع المؤمن في الفاحشة أبداً، ويجتنب جميع الكبائر، والله عظيم وكريم قد وعد عبده المؤمن أنه إذا اجتنب الكبائر في الدنيا يكفر عنه عند وفاته سيئاته.

من الكبائر اليمين الغموس

من الكبائر اليمين الغموس قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (واليمين الغموس)، وهي مأخوذة من الغمس، فاليمين الغموس تغمس صاحبها في النار والعياذ بالله. واليمين الغموس أن يأخذ الإنسان الشيء أو يفعل الفعل ثم ينكر ويحلف بالله أنه ما فعل ذلك، ليقتطع مال امرئ مسلم بعير حق، أو رجل آخر يأخذ وديعة من رجل آخر، فيأخذ الوديعة ويصرفها على نفسه، ولما يأتي صاحبها ويطلب حقه ينكره ويقول: لم تعطني شيئاً، أو متى أعطيتني؟ فيقول صاحب الوديعة: والله لقد أعطيتك ويحلف عليه، فيقول الذي أخذ الوديعة: والله ما أخذت منك شيئاً، فيحلف ليستحل مال المسلم، فإذا فعل ذلك استحق أن ينزل ويحل في نار جهنم والعياذ بالله باليمين الغموس. واليمين الغموس لا كفارة لها؛ لأنها ذنب أعظم من أن تقول: أصوم وأنجو من العذاب، فإنها لا كفارة لها إلا أن تدركك رحمة الله سبحانه وتعالى، فتتوب وتعيد الحقوق لأصحابها، وإلا يعذبك الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وما حلف حالف بالله يمين صبر فأدخل فيها مثل جناح بعوضة)، أي: شيء تافه لا قيمة له، أخذ من الآخر شيئاً بسيطاً من ماله ثم حلف بالله أنه لم يأخذ شيئاً واستهان بذلك، قال صلى الله عليه وسلم: (إلا جعلت نكتة - نقطة سوداء- في قلبه إلى يوم القيامة). ومن الكبائر التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم وحرمها ومنعنا منها: الرشوة، وقد ذكر القرآن عن اليهود أنهم كانوا يأكلون السحت، وأنهم كانوا يتعاملون بالرشوة، فالرشوة من الكبائر، وأكل السحت من الكبائر، والإنسان قد يقع فيما حرم الله سبحانه وتعالى فيتحمل الوعيد من الله عز وجل، قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة:38]، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قالوا: من يا رسول الله؟! قال: من لا يأمن جاره بوائقه)، فهو إنسان شرير يخيف الجيران فيكون الجار خائفاً منه أن يسرقه أو يؤذيه أو يضرب عياله، فمثل هذا قد نزع النبي صلى الله عليه وسلم منه الإيمان وقال: (والله لا يؤمن)، فهذا الجار المؤذي قد استحق بهذه الخصال الشريرة أن يكون مرتكباً لكبيرة من الكبائر. قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السرقة وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم وهو مؤمن) إذاً: هؤلاء وقعوا في جرائم، فهو إنسان سارق، وإنسان منتهك، وإنسان مختلس، وإنسان مغتصب وقعوا في كبائر، وليس عندهم إيمان في حال وقوعهم في هذه الكبائر.

الربا من كبائر الذنوب

الربا من كبائر الذنوب وهناك كبائر من الذنوب نص النبي صلى الله عليه وسلم على أشياء منها، فالربا مثلاً من أفحش ما يقع فيه الإنسان من الذنوب، يقول لصاحبه: أسلفك مائة على أن تردها لي مائة وعشرة، أو تردها لي مائتين، فهذا يأكل دماء ولا يتاجر، فلابد أن تعطي إنساناً القرض على سبيل المواساة والرفق به، وتأخذ مالك بعينه، ولا يجوز لك أن تقرض الإنسان شيئاً وتقول: لو وضعت هذا في البنك لربحت كذا، ولو شغلتها لربحت كذا، فإذا أردت أن تأخذ مني قرضاً ثم ترده بزيادة ووافقت فهذا حرام لا يجوز؛ لأنك لو نظرت النظرة الأخرى لوجدت أن مالك سيضيع ويبور، لكن ضع مالك معك ولا تأخذ رباً على ذلك، فإذا أخذت الربا فإن الله سبحانه يقول: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة:275] أي: يقومون من قبورهم يوم القيامة مثل المصروعين، والسكارى، يترنحون شمالاً ويميناً بسبب أكلهم أموال الناس بالباطل، وشربهم من دماء الناس بالباطل. قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث طويل ذكره سمرة بن جندب: (رأيت الليلة رجلين -وذكر في الحديث- قال: فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم، وعلى وسط النهر رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد الرجل أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فرده حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فيرجع حيث كان قال: فقلت: من هذا؟ فقال: آكل الربا). هذا عذابه في البرزخ إذا كان في قبره، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أصنافاً من الناس يعذبون في قبورهم، من هؤلاء الذين يعذبون آكل الربا؛ لأنه كان يسلف ويقول: أعطيك المائة وتردها لي مائة وعشرة، سأعطيك الألف ورتده لي ألفاً وكذا، هذا الذي يأكل دماء الناس في قبره يكون في نهر من دماء الناس يسبح فيه، فالإنسان إذا جرح ونزف الدم ثم وقف يذهب ليغسل يديه من أثر الدم، فكيف بمن يسبح فيه كله، كما كان في الدنيا طعامه وشرابه من ذلك، كذلك هو في قبره يغوص في هذا الدم ويسبح فيه. وفي الدنيا الإنسان إذا أراد العوم في ماء البحر لا يعرف أن يعوم؛ لأن الماء كثير، فيصعب عليه السباحة، فكيف به إذا كان يسبح في نهر من دم، ومع ذلك يسبح ويريد أن يهرب من هذا النهر، فإذا وصل إلى الشاطئ فتح فمه ليتنفس، وإذا بالذي يقف على شاطئ النهر معه حجر يرمي به في فم هذا الإنسان، فيرجع مرة أخرى إلى النهر ليسبح، وهكذا إلى أن تقوم الساعة وهو على هذه الحال. وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن من علامات الساعة: من يحل للناس الحرام ويغير اسمها بأسماء أخر، فمنهم من يستحلون الخمر ويتناولونها ويشربونها، ويسمونها بغير اسمها، فتراهم يشربون الخمر ويقولون: هذا ليس خمراً، هذا اسمه حشيش، أو هذه بودرة، فيغيرون اسم الخمر، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (والخمر ما خامر العقل)، أي شيء تشربه ويذهب عقلك فهو الخمر بعينه، سواء كان جامداً أو يابساً أو طرياً، فكل ما تشربه ويذهب عقلك أو يخالط عقلك فهو من الخمر، ولكنهم يسمونها بغير اسمها ويستبيحونها ويحللونها، وكذلك الربا يسمونه: فوائد البنوك، ومن ثم يقولون: هو مال حلال ليس فيه شيء من الحرام، ويقولون لك: خذ بقول المبيح، وهذه قاعدة عجيبة جداً ما سمعناها أبداً، وما قالها أبداً أحد من أهل العلم، وهو قولهم: المسائل إذا اختلف فيها فخذ بقول المبيح، والقاعدة هي: خذ بقول من تثق فيه، ليس بقول المبيح، وإلا لأصبح كل واحد يبيح شيئاً فيأخذ الناس منه ما أباح فيبيحون الخمر والربا والسرقة، فيصبح الدين كله خذ بقول المبيح ولا حول ولا قوة إلا بالله، فهذه قاعدة ما سمعناها أبداً، وما قالها أحد أبداً، لا من فقهاء الإسلام ولا من الأصوليين ولا من غيرهم من علماء الدين، بل هذه قاعدة شيطانية يجعلها بعض الناس ليستبيحوا ويستحلوا ما حرم الله سبحانه وتعالى. إنما على الإنسان إذا استفتى أن ينظر من الذي يفتيه، وينظر إلى دينه وإلى علمه، قال معاذ رضي الله تبارك وتعالى عنه: (احذروا من زيغة الحكيم، قالوا: وكيف نعرفها؟ قال: إن الشيطان يأتي للحكيم فيجعله يغيب ويبعد عن الصواب)، فالناس لا يسكتون جميعاً، بل لابد أن يجعل الله عز وجل في أمة النبي صلى الله عليه وسلم من ينكر المنكر على صاحبه. إن ابن عباس رضي الله عنهما من علماء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سمع حديثاً ولم يعرف باقيه فحدث بالذي سمعه فقال: (لا ربا إلا في النسيئة)، وهو عالم عظيم رضي الله عنه، ولكن فلتة عظيمة وقع فيها رضي الله تبارك وتعالى عنه، فإذا بالناس يقفون له ويقولون: ما هذا الذي تقول؟ الربا في النسيئة وفي غير النسيئة، فقد نهى الله عن الربا، قال: والله ما قلت إلا ما سمعت من فلان، إذاً: هو سمع شيئاً فحدث، ولم يسمع الباقي فأخطأ رضي الله تبارك وتعالى عنه. فلذلك العلماء يقولون: معنى الحديث: أن الربا الذي كان موجوداً عندهم هو ربا النسيئة، فإذا كان ربا النسيئة حراماً وأنت تستفيد منه، فكيف يكون ربا الفضل حلالاً؟ والفرق بين الاثنين: أن ربا النسيئة أن تستقرض الألف وبعد شهر تردها ألفاً ونصف الألف، وهو حرام لا يجوز، أما ربا الفضل فكأن يقول لك: خذ ألفاً وأعطني ألفاً ونصف الألف، فقوله: (لا ربا إلا في النسيئة)، أي: الغالب ذلك، فإذا كانت النسيئة حراماً فربا الفضل أشد حرمة منه، ولكن ابن عباس حدث بذلك فأخطأ رضي الله عنه فوقف، فهو صحابي وعالم كبير. وحدث ابن عباس بنكاح المتعة بأنه يجوز، فقام له الصحابي علي بن أبي طالب وقال له: إنك إنسان تائه، وهذا اعتراض من علي بن أبي طالب رضي الله عنه على ابن عباس، قال: إنك إنسان تائه، ثم قال: (لقد حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر لحوم الحمر الأهلية وحرم المتعة). فالحكيم قد يقع في الخطأ، ولكن لن تتركه الأمة على خطئه، بل يقومونه إذا أخطأ، فلذلك حذرنا معاذ من زيغة الحكيم، ولم يحذر من زيغة بقية الناس؛ لأن الإنسان الذي يقوم أمام الناس وهو قدوة لهم أو يظنون فيه أنه كذلك قد يقتدون به في خطئه، والعصمة في كتاب الله وسنة النبي صلوات الله وسلامه عليه، فقد حرم الله الربا، وكل العلماء إلى سنين قليلة ماضية متفقون على أن فوائد البنوك حرام، ولكن الوضع تغير الآن، فقد جعلوا هذه الفوائد حلالاً بعدما كانت حراماً، وهي بنوك لم تتغير معاملتها إلى الآن، فاحتالوا على الناس وقالوا: نجعل فرعاً إسلامياً في هذا البنك والمعاملة نفس المعاملة، والموظفون نفس الموظفين، والإنسان المؤمن حين يسمع أحاديث الربا يخاف على نفسه. هذا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه بلال رضي الله تبارك وتعالى عنه بتمر جيد، وقد كان من نصيب النبي صلى الله عليه وسلم تمر رديء، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: (أكل تمرنا هكذا؟)، أي: تمرنا تمرنا تمر رديء فمن أين أتيت بهذا؟ قال: إني أبيع الصاع بالصاعين والصاعين بالثلاثة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أوه! عين الربا، لا تفعل) أي: فأنت قد وقعت في الربا، وبلال لم يكن يعرف ذلك رضي الله تبارك وتعالى عنه، وعلمه النبي صلى الله عليه وسلم كيف يتخلص من التمر الرديء، فقال: (بع التمر الرديء بالمال، واشتر بالمال التمر الآخر)، إذاً: جعل له النبي صلى الله عليه وسلم أن يتصرف ببيع التمر الرديء بالمال، ثم يشتري بالمال التمر الآخر، لكن لا يبع التمر بالتمر، فإن التمر جنس ربوي والتمر الآخر جنس ربوي، ولذلك قال: (أوه!)، أي: يتأوه ويتوجع لهذا الذي فعله، وقال: (هذا عين الربا). فالربا مصيبة، ومهما ظن المرابي أنه رابح وأنه سوف يكون له مال كثير، فإن عاقبته في النهاية إلى قلة وإلى ذلة وإلى ضياع، كما أخبرنا النبي صلوات الله وسلامه عليه فقال: (الربا ثلاثة وسبعون باباً)، وفي رواية: (اثنان وسبعون حوباً -ذنباً- أدناه كالذي يأتي أمه في الإسلام)، والعياذ بالله! فهذا أدنى ما يكون من الربا، فكيف تقبل من نفسك أن تفعل ذلك؟ وإذا تكلمنا عن البنك نتكلم عن المعاملات أيضاً، فمن الناس من يفتح بقالة، فيأتيه شخص ويعطيه عشرة آلاف جنيه ويقول: شغل هذه النقود لي، وسأعطيك كل شهر مائتي جنيه، فكيف يشغل هذا المال من أجل أن يعطيه كل شهر مائتي جنيه؟ فإما أن يشغل هذا المال مضاربة، وإما أن يكون مستلفاً منه هذا المال، فعلى صاحب البقالة أن يرد المال كما كان من غير زيادة، أو يوضح ما الذي يصنع فيه. فإذا أردت أن تشغل مال شخص ما، وأخذت منه ألف جنيه، فإذا شغلتها مع مالك كله فتحسب، فتقول مثلاً: مالي عشرة آلاف، ووضعت عليها هذا الألف فصارت إحدى عشر ألفاً فأشغل الجميع، وفي النهاية تقول لصاحب الألف: لك من ربح مالك خمسون في المائة ولي خمسون في المائة من الربح، فإذا خسر المال وكان بتفريط مني فالخسارة علي جميعها، وإذا كان قضاء الله وقدره من غير تفريط مني فنتحملها جميعاً. هذا إذا أراد أن يضارب بأموال الناس، أما أنه سيأخذ منك عشرة آلاف ويعطيك كل شهر مائتين وهكذا، وأنت تطالب بحقك وتريد مائتين وخمسين، فتجد البعض من الناس بسماجة وغباء يقول لك: أنا لا أتعامل بالربا، فالربح مرة كذا، ومرة كذا، مرة أعطيك مائتين، ومرة أعطيك مائتين وعشرة، فكونك حددت ربحاً على رأس المال فهذا هو الربا. والمعاملة بالمضاربة أن يأخذ نسبة من الربح، فإذا كان الربح ألفاً يشغل هذا الربح، فإذا كان منه نصف الربح يكون لطرف واحد ربع الربح، وهذا الذي يأخذه ليس من رأس المال، بل من الربح الذي يحصل، فإن لم يكن في ذلك ربح فليس له شيء طالما عمل الطرف الثاني الذي عليه، فهذا الذي يجري في المضاربة الشرعية التي لا يكون عليه شيء فيها، أما أخذ أموال الناس بصورة من صور الربا، فهو داخل تحت هذه الأحاديث التي قالها النبي صل

اجتناب الكبائر من صفات المؤمنين

اجتناب الكبائر من صفات المؤمنين قال الله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء:31]، فالكبائر: كل ما حرمه الله سبحانه وتعالى وتوعد عليه بعقوبة من عنده سبحانه وتعالى أو بعذاب أو بغضب أو بلعنة أو بحد يكون في الدنيا، وما ألحق بذلك مما لا حد فيه ولكنه مثل هذه الكبائر. فالعلماء يقولون: الذنوب تنقسم إلى: كبائر وصغائر، والإنسان حين يتعامل مع ربه سبحانه يعلم أن ربه هو العظيم الكبير فلا يخطئ في حق الله سبحانه، فإذا وقع في معصية يبادر بالتوبة إلى الله، سواء كانت كبيرة أو صغيرة، والمؤمنون الذين وعدهم الله بالنجاة لا يقعون في الكبيرة؛ لأنهم يريدون النجاة يوم القيامة، بل إن المؤمن يخاف من الصغائر، ولا يستهين بها؛ لأن الاستهانة بالذنب تجعله كبيرة من الكبائر، فلو أنه واظب وداوم على صغيرة من الصغائر مستهيناً بهذه الصغيرة فإنه يستهين بحق الله سبحانه وتعالى. ولذلك الذنب إذا تهاون به صاحبه واستهان به فهو من الكبائر أو ملحق بالكبائر؛ لأنه يشعر أنه لا دين عنده، فهو يعصي الله، ويتلذذ بمعصية الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال العلماء: إذا استهان العبد بالمعصية فوقع فيها، وفعله يدل على الاستهانة بحق الله، فإن هذه الاستهانة تُصَير المعصية كبيرة من الكبائر.

اجتناب الفواحش من صفات المؤمنين

اجتناب الفواحش من صفات المؤمنين قوله تعالى: (وَالْفَوَاحِشَ) أي: ويجتنبون الفواحش، والفواحش: ما فحش من الذنوب الكبيرة، وقد يكون منصوصاً على الكثير منها أن الفواحش من الكبائر، ولكن هي أشياء تنبئ بشيء من الرذالة والنتانة والقذارة، فالفاحش يقع في الفحش من الشيء، والمؤمن ليس فاحشاً؛ لأن الإنسان الذي يفحش يكون لسانه بذيئاً، وهذا إنسان فاحش بالقول، وإذا كانت أفعاله تدل على الفحش فهذه فواحش الأفعال. يقول العلماء: الفحش والفحشاء والفاحشة: القبيح من القول والفعل، والقبيح: الشيء السيئ، يقال: أفحش عليه في المنطق بمعنى: كلمه بكلام بذيء، أي: قال القبح من القول، ورجل فاحش أي: ذو فحش، وفي الحديث في سنن أبي داود قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبغض الفاحش المتفحش)، فهذا بغيض إلى الله، ومن أبغض العصاة إلى الله سبحانه، وكل العصاة يبغض الله عز وجل فيهم معصيتهم، ولكن هذا أشد الناس بغضاً؛ إذ يبغضه الله سبحانه وتعالى لفحشه وتفحشه. يقول العلماء: والفاحش: ذو الفحش والخنا من قول أو فعل، يقع في الزنا ويقع في المحارم، والمتفحش: الذي يتكلف سب الناس ويتعمد ذلك، والفاحش في الحديث: هو كل ما اشتد قبحه، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن المؤمن ليس بالفاحش ولا بالبذيء، وكثيراً ما تأتي كلمة الفواحش بمعنى الزنا.

ذكر بعض كبائر الذنوب

ذكر بعض كبائر الذنوب إذاً: المؤمنون يجتنبون الوقوع في الكبائر، والكبائر كثيرة، جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم نصوص على بعضها، ويلحق بها غيرها، فمما ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم قوله: كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة (اجتنبوا السبع الموبقات)، أي: المهلكات، فهي سبع كبائر من أعظم الكبائر التي يقع فيها الناس، قال: (الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات). فهذا الحديث ذكر سبعاً من أكبر الكبائر، وفي رواية أخرى ذكرها وذكر فوقها اثنتين، فقال صلى الله عليه وسلم: (وعقوق الوالدين، واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتاً). من هذه الكبائر: الشرك بالله سبحانه وتعالى الذي لا يغفره الله عز وجل، والسحر، فالذي يتعلم السحر يتعلم الكفر، وقد أخبر الله عز وجل في كتابه عن هاروت وماروت أنهما يعلمان الناس السحر، قال تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102]، أي: لا تكفر بتعلم السحر، وبعمل السحر، فمن الكفر التعامل بالسحر وعمل السحر. قال: (وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق)، فهذه من كبائر الذنوب العظيمة، أن يقتل نفساً حرم الله عز وجل قتلها إلا بالحق. قال: (وأكل الربا)، فأكل الربا من أكبر الذنوب والمعاصي، ومن أفحش ما يقع فيه الإنسان؛ لأنه يعلم أنه يمص دماء الناس، يعطي ديناً ويأخذ عليه مالاً فوق المال الذي أعطاه. قال: (وأكل مال اليتيم)، كأن يكون عمهم أو أخاهم الأكبر، فيتولى أموالهم ويأخذ منها ما ينفقه على نفسه وعلى أهله وينفقها في الحرام، فهو يضيع على اليتامى أموالهم، وهذا من أقبح ما يكون، وإن لم تنزل الشريعة بتقبيحه، فعقل الإنسان يقبح مثل ذلك. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والتولي يوم الزحف)، أي: أن يتولى الإنسان حين يلتقي الصفان، والمؤمنون يطلبون الشهادة والنصر من الله عز وجل فإذا به يهرب ويدخل في قلوب المؤمنين الوهن، ويجعل الناس يخافون من أعدائهم، لأنه بدأ بالهرب فجعل غيره يقلده في ذلك. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات)، وهو أن ترمي امرأة محصنة فاضلة مستورة بجريمة الزنا، فهذا من كبائر الذنوب. قال: (وعقوق الوالدين)، أي: أن يعصيهما ولا يبر بهما، يأمرانه بالمعروف وهو يرفض ذلك، وينهيانه عن المنكر وهو يرفض ذلك، فهو لا يطيع الوالدين، بل يقطع ويعق، وهذا من كبائر الذنوب. قال: (واستحلال البيت الحرام)، أن يستحل ارتكاب الذنوب في بيت الله الحرام، ويستحل أن يقاتل المسلمين فيه، ويستحل أن يؤذي الناس في بيت الله الحرام، ويستحل ما حرم الله في المسجد الحرام، أو في بيت الله الحرام قبلتنا أحياء وأمواتاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. كذلك جاء عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو: (إن من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه)، والصحابة ما كانوا يتخيلون ذلك، بل العرب لم يكن عندهم أن واحداً يعق أباه أو أمه، مستحيل أن يوجد ذلك؛ لأن العربي بطبيعته يحب أباه ويوقره، ويوقر جده، ويعرف أهله وحق أهله، ولذلك كانوا يذهبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليقولوا له على عادتهم التي كانوا يقولونها: (إني سائلك عن شيء، فيقول: سل، فيقول: أنت خير أم جدك عبد المطلب؟). فعلى عادة العرب أنه ليس من الممكن أبداً أن يقول أحدهم: أنا أحسن من أبي، أو أحسن من جدي، بل كانوا يفتخرون بآبائهم وأجدادهم، لذلك فإن الرجل يسأل النبي صلى الله عليه وسلم على مقتضى هذه العادة التي عنده: (أنت خير أم عبد المطلب؟)، فلا يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فهو خير من على الأرض جميعهم صلوات الله وسلامه عليه. الشاهد: أن العرب كانوا يوقرون الآباء، لذلك لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه، قالوا: وهل يسب الرجل والديه؟ قال: يسب أبا الرجل فيسب الرجل أباه، ويسب أمه فيسب أمه)، فالرجل قد يسب أبا الرجل، فيقوم الآخر بالرد عليه فيسب أباه وأمه، إذاً: هذا تسبب في لعن أبيه، فمن الفعل القبيح أن يشتم أبا الرجل، ومن الفحش أن يشتم أباه وأمه، وهذا مما يقع فيه الناس من فواحش الذنوب. أيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من أكبر الكبائر: الشرك بالله، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس)، فمن أكبر الكبائر والذنوب: الشرك بالله، وعقوق الوالدين، والعق بمعنى: القطع، أي: يقطع والديه، قال: واليمين الغموس، فهذه كبيرة أخرى من الكبائر لم تذكر في الحديث السابق. إذاً: مفهوم العدد الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم هو للتعليم فقط، لبيان سبع من الكبائر، وليس المقصود: الحصر في السبع أو التسع فقط؛ لأن الكبائر كثيرة؛ ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنه حين سئل: الكبائر سبع؟ قال: هن إلى السبعين أقرب.

تفسير سورة الشورى الآية [37]

تفسير سورة الشورى الآية [37] يخبر الله تعالى أن من صفات المؤمنين الإيمان بالله والتوكل عليه، واجتناب كبائر الإثم والفواحش، فهم قد يقعون في الصغائر أما الكبائر والفواحش فهم يجتنبونها، وقد جاءت النصوص بالتحذير من كبائر الذنوب، وهي تتفاوت، فبعضها أشنع من بعض وأفظع، فالذي ينبغي للمؤمن أن يحذر من الوقوع في الكبائر والفواحش، وأن يبتعد عنها وعن أصحابها؛ حتى يسلم منها.

تفسير قوله تعالى: (فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وإذا ما غضبوا هم يغفرون)

تفسير قوله تعالى: (فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وإذا ما غضبوا هم يغفرون) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. وقفنا في سورة الشورى عند قول الله سبحانه: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى:36 - 37]. الإيمان بالله عز وجل والتوكل عليه من صفات الذين أعد الله عز وجل لهم في الدار الآخرة جنات تجري من تحتها الأنهار، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وهؤلاء اتصفوا بهذه الصفات التي أرضوا بها ربهم سبحانه وتعالى. ومن صفاتهم أيضاً: اجتناب كبائر الإثم واجتناب الفواحش، والإنسان يستحيل ألا يقع في صغيرة؛ لأنه ليس معصوماً، وإنما المعصوم من اصطفاه الله عز وجل وجعله نبياً ورسولاً، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) أي: كل إنسان يقع في المعصية، والمعصية تنقسم إلى صغائر وإلى كبائر، والكبائر منها الفواحش، وهي ما يفحش في طبع الإنسان، ويرى ذلك شيئاً فاحشاً عظيماً شديداً، وهو كبيرة كغيره، ولكن حين يسمع الإنسان عن هذا الفعل الذي يفعله فلان يستشعر بعظيم قبح هذا العمل الذي عمله، وإن كانت كل الكبائر قبيحة وكلها تمجها طباع المؤمنين، ولكن ما فحش منها كان أعظم. قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ} [الشورى:37] ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة عدد فيها بعضاً من هذه الكبائر، وهي كثيرة، فحين يذكر ثلاثاً من الكبائر ليس معناه أن هذه الثلاث هي الكبائر فقط، وحين يذكر سبعاً من الكبائر ليس معناه: أنه لا توجد غير هذه السبع، لكن المعنى: أن هذه كلها من الكبائر وبعضها أعظم من بعض، وأعظم وأفحش الكبائر التي يقع فيها الإنسان الشرك بالله سبحانه وتعالى، وكذلك السحر، إلى أخر ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أشياء أخرى غير ذلك. ومن الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم في الكبائر: (اجتنبوا السبع الموبقات، قيل: وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، والزنا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) فهذه من الكبائر التي يقع فيها الإنسان. وذكر النبي صلى الله عليه وسلم من الكبائر: استحلال الكعبة، وعقوق الوالدين. ويذكر القرآن لنا أشياء من الكبائر.

استحلال الخمر والزنا والمعازف في آخر الزمان وعقوبة ذلك

استحلال الخمر والزنا والمعازف في آخر الزمان وعقوبة ذلك جاء في صحيح البخاري: (ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف). قوله: (يستحلون الحر) أي: يستحلون الزنا، (والحرير والخمر والمعازف) أي: هؤلاء الأقوام يستحلونها ويتعاملون بها على أنها حلال ليس فيها شيء، فتراهم يشربون الخمر، ويلبسون الحرير، ويسمعون المعازف، ويذهبون إلى الملاهي، ويقعون في الزنا. ثم قال: (ولينزلن أقوام إلى جنب علم) أي: يذهبون في رحلة صحراوية بجوار جبل من الجبال يلعبون هنالك، قال: (تروح عليهم سارحتهم فيأتيهم آت لحاجته، فيقولون له: ارجع إلينا غداً) عندما يأتي صاحب الحاجة يطلب حاجته منهم يقولون: تعال غداً، أما الآن فهم يلعبون ويبتعدون عن ربهم سبحانه، فإذا فعلوا ذلك قال: (فيبعثهم الله ويقع العلم عليهم، ويمسخ منهم آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة). نسأل الله العفو والعافية، هذه ذنوب ومعاصي الناس. والآن يشنشنون حول استباحة هذه الأشياء بأي صورة من الصور، يقول لك: هذا الحديث أصله ضعيف، وهذا الحديث أصله كذا، وبعض الدعاة الذين كانوا قبل هذا يقولون: إن هذا حرام، تراه يتراجع قليلاً في الأمر ويقول: ليست حراماً جداً، وإنما الحرام هي الموسيقى التي هي مثيرة للفتن، أما الموسيقى التي ليست مثيرة للفتن فليست حراماً، والأغاني التي لا أدري ماذا فهو لكي يرضي الكفار ويظهر بأن الإسلام دين الوسطية يقول: ها نحن نجيز الموسيقى والرقص والأغاني وغير ذلك ونفعلها، ويقول: إن الإسلام فيه فن وفيه كذا نقول: هذا تمييع للدين، وتجد آخر يقول: أنا لا أفتي ولا أتكلم في الفتاوى، وبعد قليل تجده يقول: الموسيقى حلال ليس فيها شيء، وهي غذاء للروح، كيف تقول: أنك لا تفتي وتقول عن الموسيقى إنها حلال؟! من أين أتيت بهذا الشيء؟! والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون). وإذا جاء إنسان كان مغنياً كافراً ودخل في الإسلام وجاء إلى صاحبنا فقال له: أنا مغن، ويقولون: إنه لا توجد أغان إسلامية، فيقول: بلى، توجد الأغاني الإسلامية، فبإمكانك أن تغني مع الموسيقى في مدائح للرسول صلى الله عليه وسلم، نقول لهذا: أين ذهبت بحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يمنع من ذلك وفيه: (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)؟ ما هي المعازف؟ أليست هي الموسيقى أم شيء آخر؟ وقد روى هذا الحديث الإمام البخاري في صحيحه، والأئمة الأربعة على المنع من ذلك، فإذا به يقول: نتوسط، ولا يلزم أن نقول: إنه حرام، دعنا نقول: إنه مكروه؛ لأن هناك موسيقى كذا وهناك موسيقى كذا، ولم نسمع هذا من النبي صلى الله عليه وسلم. نقول لهذا وأمثاله: لا تميع دين الله عز وجل، وحدث بما قاله الله وما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، فقد قال: (بلغوا عني ولو آية) فهذا دين الله عز وجل. وقوله: (يستحلون الحر والحرير) تجد البعض يلبس الحرير ويقول: ليس فيه شيء، وهذا الحرير أنا اشتريته من مالي الحلال، وهذا الحرير وضعته في ماء زمزم، وغير ذلك من الأعذار الواهية، فلماذا تستحل الحرير؟ الحرير حرام على الرجال لا يجوز لك أن تلبسه. قوله: (والخمر يسمونها بغير اسمها)، فيقول لك: هذا ليس خمراً، وإنما هذا أصله دواء للسعال، فتراه يشتري دواء السعال ويشرب الزجاجة كلها، وهو يعرف أن هذا الدواء فيه من الكحول، وأنه لو شرب الزجاجة كلها سيذهب شيء من عقله، وهناك فرق بين أن يكون هذا الشيء دواء يتعاطاه الإنسان، كدواء يصفه له الطبيب، وبين أن يأخذه إنسان ليشربه حتى يذهب عقله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أسكر ملء الفرق منه فملء الكف منه حرام) أي: لو كان إنسان سيشرب مائعاً كثيراً لكي يسكر سيقول لك: لو شربت شربة واحدة لن أسكر، وإنما أصل إلى حد الإسكار عندما أشرب الزجاجة كاملة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: لا، ولا شربة واحدة منها، وملء الكف منه حرام؛ لأنه في النهاية يؤدي إلى الإسكار. إذاً: على ذلك الإنسان الذي يضحك على نفسه ويقول: هذا ليس خمراً، وإنما هذه اسمها كذا، نقول: لا تضحك على نفسك ولا تخدع نفسك، فالمخدرات هي أشنع من الخمور، ولم تستبح في بلاد الإسلام إلا حين جاء الباطنية الروافض الإسماعيلية، فهم الذين أباحوها للناس، وقالوا للناس: الذي يتبعنا يدخل الجنة، فكانوا يعقدون لهم مجالس ويعطونهم خمراً وحشيشة تذهب عقولهم، ويقولون لهم: نحن ندخلكم الجنة ونفعل كذا أي مسلم يرضى بأن يذهب عقله الذي ميزه الله عز وجل به عن الخلق؟ يذهب عقله بأن يشرب هذه الأشياء التي حرمها الله سبحانه وتعالى. يقول النبي صلوات الله وسلامه عليه: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام بغير إزار، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل حليلته الحمام، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر) أي: إذا كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فلا تجلس مع أناس يشربون المسكرات، حتى وإن كنت لا تشرب؛ لأنك تصير راضياً بهذا سواء تكلمت أو لم تتكلم، فلا تجلس معهم فقد نهاك النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. وقوله: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام بغير إزار)، الإسلام دين النظافة والطهارة، ويعود المسلم إذا كان في مكان عمومي يغتسل فيه أن يلبس إزاره، وأن يستر ما بين السرة والركبة، فكن مستتراً وأنت في هذا المكان. وقوله: (ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل حليلته الحمام) فلا ترسل بامرأتك حماماً عمومياً للنساء فتجلس النساء عاريات بعضهن مع بعض فتكون المصيبة، فلا الرجال يجلسون في مجالس عراة بعضهم مع بعض، ولا النساء كذلك، فإن من وراء ذلك غضب الله سبحانه، فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يفعل ذلك. ومن الأحاديث التي جاءت في الخمر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مخمر خمر) أي: كل مغط للعقل، ومخمر الشيء هو الذي وصل إلى أن صار وتحول إلى خمرة، قال: (وكل مسكر حرام). وقال: (ومن شرب مسكراً بخست صلاته أربعين صباحاً، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد الرابعة كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال) وعيد من الله لابد أن يسقي هذا الإنسان الذي شرب الخمر أربع مرات أو تعاطى الحشيش أربع مرات أن يسقيه من طينة الخبال، قيل: (ما هي طينة الخبال؟ قال: صديد أهل النار). ثم قال: (ومن سقاه صغيراً لا يعرف حلاله من حرامه) أي: من ضحك على طفل صغير وأعطاه خمرة يشربها، أو أعطاه حشيشاً يأكله، هذا الذي فعل ذلك قال: (كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال) هذا الذي يبيع المخدرات ويضحك على الأولاد في المدارس ويقول: ذق هذه، وشم هذه، واشرب هذه، سأعطيك مجاناً لن آخذ منك شيئاً، ومرة ومرتين إلى أن يتعود الولد على ذلك، ولعل هذا الذي يبيع لا يشربها ولا يأكلها. فهذا الإنسان حق على الله على أن يسقيه من طينة الخبال من صديد أهل النار، فاحذروا من غضب الله، وربوا أبناءكم على حب الله وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى طاعة الله سبحانه، وحكموا شرع الله، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

التحذير الشديد من شرب الخمر والتبرج

التحذير الشديد من شرب الخمر والتبرج قال تعال: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ} [الشورى:37] من الآثام العظيمة ذكرنا الربا، وذكرنا الرشوة والسحت، وذكرنا من ذلك الخمر، والخمر أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها أم الفواحش وأم الكبائر، فمن الأحاديث التي تدل على فاحشة هذه الجريمة -جريمة شرب الخمور- قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من مات وهو مدمن الخمر لقي الله كعابد وثن). إذاً: مدمن الخمر حين يلقى الله يوم القيامة مثله مثل الذي يعبد الوثن، فعابد الوثن قد ألغى عقله فعبد غير الله سبحانه اختياراً، وهذا ألغى عقله اختياراً فوقع في الفواحش ووقع في الكبائر ووقع فيما حرم الله سبحانه وتعالى. ويقول صلى الله عليه وسلم: (الخمر أم الخبائث) وفي رواية: (أم الفواحش) وقال: (فمن شربها لم تقبل صلاته أربعين يوماً، فإن مات وهي في بطنه مات ميتة جاهلية) وكل ما خامر العقل فهو خمر، فكل شيء يأكله الإنسان أو يشربه أو يشمه أو يتعاطاه عن طريق الوريد، ويخالط عقل الإنسان فهو خمر. إذاً: فاسحب هذا الحكم على ما يشربه الإنسان من خمر، وعلى ما يأكله الإنسان من حشيش، وما يشمه من بنج وغيرها، فكلها خمر. وكم نسمع عن إنسان سهر ليلة فأكل حشيشاً وزاد منه فمات من ليلته، فهذا مات ميتة جاهلية، مات كعابد وثن، ختم له بالسوء ولا حول ولا قوة إلا بالله، شرب الخمر، أو أكل الحشيش، أو أخذ إبرة، أو شم مخدراً ووقع ميتاً، وفي الحديث الآخر: (الخمر أم الفواحش وأكبر الكبائر، من شربها وقع على أمه وخالته وعمته). وقال في حديث آخر صلوات الله وسلامه عليه: (ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجلة) أي: المتشبهة بالرجال، هذه من الكبائر التي تقع فيها المرأة، فالمرأة حين تلبس كالرجل، فتخرج لابسة البنطلون والقميص، وتقلد الرجل في شغله وفي مشيه، وفي الدب على الأرض أمام الناس، وتتشبه بالرجال وتقول: أنا حرة أفعل الذي يعجبني، وتنسى ربها سبحانه وتعالى، فهذه مهما ظنت أن الناس يحترمون أفكارها فهي مخطئة، بل العكس كل الناس يحتقرونها ولا قيمة لها عند الناس، وإخراج الجنس للناس صنيع اليهود، واليهود هم الذين يحتقرون المرأة أصلاً، واليهود عرفوا أنها الوسيلة لإغواء الشعوب، فأخرجوها للناس حتى يضيع الناس ويتحكم اليهود ويسيطرون على الخلق، هذا المخطط موجود في بروتوكولات حكماء صهيون، فقد قالوا ذلك منذ أكثر من مائة سنة. فهم الذين أخرجوا المرأة من بيتها، وهم الذين صنعوا بيت الموضة للنساء؛ لأجل أن تخرج المرأة للعمل حتى تأتي بالمال الذي به تأتي بالموضة الجديدة، فتنتهي فلوسها على هذا الشيء، وتكون حقيرة ودمية ولعبة في أيدي هؤلاء، يلعبون بها كيف شاءوا، ويأمرونها بالعري فتتعرى، ويأمرها ربها سبحانه بالحجاب فترفض، وترد كلام ربها سبحانه، وإذا سئلت عن أشياء في الإسلام بسيطة جداً لا تعرفها، تنسى أهم أمور دينها الإيمان بالله سبحانه، فهذه وبالها يوم القيامة ألا يكلمها الله سبحانه، ولا ينظر إليها. ثم قال: (والديوث) أي: الذي يرضى بالفواحش في بيته. وقال صلى الله عليه وسلم: (وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والمدمن الخمر، والمنان بما أعطى)، فمن الكبائر أن الإنسان يعق والديه، ويدمن الخمر، ويمن بما أعطى للخلق، والمرأة تترجل وتتشبه بالرجال، كذلك تبرج المرأة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صنفان من أمتي لم أرهما: أناس معهم سياط كأذناب البقر يضربون الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة). وفي حديث آخر قال عن المتبرجات: (العنوهن فإنهن ملعونات) أي: هذه المرأة المتبرجة التي تخرج للناس كاشفة عما أمرها الله عز وجل أن تستره، ولا تهتم ولا تخاف من الله سبحانه وتعالى، ولا تستحيي من الخلق، وتقول: أنا حرة، فلننظر في حرية هذه حين تأتي يوم القيامة ما الذي تصنعه مع ربها سبحانه وتعالى؟ وقد أغوت الخلق وفتنتهم، واستكبرت على الخالق سبحانه وتعالى. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، ويضرب على رءوسهم بالمعازف والقينات، يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم قردة وخنازير)، فهذه كبائر يقعون فيها؛ من شرب الخمر، ومن حضور الحفلات والملاهي التي فيها المغنيات والراقصات وهؤلاء يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم قردة وخنازير.

المفاسد المترتبة على ترك تحكيم شرع الله

المفاسد المترتبة على ترك تحكيم شرع الله أما البشر فيحلون بأمزجتهم ويحرمون بأهوائهم، ففي الغرب إذا زنى شخص بامرأة وهي راضية فليس لأحد أن يعترض، كذلك في قوانين بعض البلاد الإسلامية إذا فعل هذا الشيء - والعياذ بالله - ينظر إلى المرأة هل هي صغيرة أو بالغة، فإذا كانت بالغة كبيرة راشدة لها الاختيار في هذا، وإذا كانت صغيرة فيكون بهذا قد اغتصبها، فإذا حوكم هذا الإنسان حكم عليه بستة أشهر سجن ويخرج بعد ذلك. أما دين الله عز وجل فينظر في الإنسان الذي وقع في هذه الجريمة، فإذا لم يكن متزوجاً جلد مائة جلدة، وإذا كان متزوجاً فإنه يقتل رجماً بالحجارة، يرجم الزاني وترجم الزانية؛ لأنه لو ترك الأمر لأهواء البشر لرجعوا إلى عادات الجاهلية الأولى مرة ثانية يبيحون ما حرم الله سبحانه، ويئدون أبناءهم، ومن العجيب أن الوأد ما زال موجوداً، فعند الكفار إذا كانت المرأة حاملاً وهذا الحمل غير مرغوب فيه فإنها تذهب إلى الدكتور ليجهض الجنين، حتى ولو كان هذا الجنين قد نفخت فيه الروح. ولا تعجب من ذلك! ففي الصين تقرأ خبراً من الأخبار: حذر مسئول صيني من أن عدد الرجال الذين لا يجدون زوجات لهم في الصين قد يتراوح ما بين ثلاثين وأربعين مليوناً، إن التوازن الطبيعي الذي جعله الله عز وجل في الخلق توازن بحكمة منه سبحانه، فهو جعل الذكور وجعل الإناث، وليس لك أنت أن تختار ذكراً أو أنثى، وإنما الله عز وجل هو الذي يحدد وهو الذي يقدر ما يشاء، فيأتي الإنسان ويلعب في هذا الشيء ويتغافل عن حكمة الله سبحانه وتعالى، فإذا به ينشر الفساد في الأرض. واسمع هذا الخبر حتى تعرف كيف أن الإنسان عندما يتدخل فيما ينظمه الله عز وجل في كونه يخرب الكون ويجعل البلاء ينزل من السماء، يقول الخبر: إنه بحلول عام ألفين وعشرين سيكون أربعون مليوناً من الصينيين لا يجدون ما يتزوجون من النساء، وهذا يؤدي إلى انتشار البغاء والزنا، والاتجار في الرقيق؛ بسبب عدم وجود نساء. وأرجع المسئول سبب تراجع أعداد النساء في الصين إلى تفضيل إنجاب البنين؛ لأن في الصين أن قانون الدولة يمنع أن يكون للشخص أكثر من ابن واحد فقط، هذا هو القانون الذي وضعه البشر، فعلوا ذلك خوفاً من الفقر، مع أن الصين غزت التكنولوجيا العالمية وتكسب من ورائها. فحين أصدروا هذا القانون تجد الرجل يذهب بامرأته للطبيب ليكشف عليها، فإن كان المولود ذكراً أبقاه، وإن كان أنثى أجهضها، هذا هو السبب الذي أحدث فجوة بين الذكور والإناث، وهذا الخبر نشر في الجرائد الذي يقول فيه المسئول الصيني الذي اسمه دي ويشونج نائب رئيس لجنة استشارية بشأن السكان: إن كثيراً من الأزواج يجهضون الأجنة الإناث بعد معرفة نوع المولود من خلال الاختبارات الطبية، مما أدى إلى ارتفاع عدد المواليد الذكور، وتوقع أن يتسبب ذلك في موجات من الجرائم والقلاقل الاجتماعية. وفي حديث آخر يقول: إن سياسة الصين المثيرة للجدل تسمح لكل أسرة بإنجاب طفل واحد فقط، وقال: إن ذلك ليس توقعاً خيالياً، يعني: توقعه بالجرائم والزنا وبيع الرقيق، وقال: وسيؤدي الأمر إلى أن يصبح عدد العزاب في الصين أكبر من تعداد سكان دولة مثل ماليزيا. إذاً: هذه الفجوة الكبيرة بين الذكور والإناث، وعدم التوازن في تعداد الذكور والإناث يشكل خطورة كبيرة في المناطق هنالك. نقول: هذا نتيجة تصرف البشر حين يحكم البشر البشر، وحين يبتعدون عن حكم الله رب العباد سبحانه وتعالى، هذا الذي يؤدي إليه قتل المولودات من البنات، وهذا الذي أخبروا عنه، أما ما كان خافياً فلا ندري كم قدره، وهذا في بلاد واحدة، فماذا في بقية البلدان؟!

تعريف العلماء للكبيرة

تعريف العلماء للكبيرة قلنا: إن العلماء حدوا لها حداً وقالوا: الكبيرة هي ما نص القرآن أو السنة أنها كبيرة، أو توعد فاعل ذلك بأن يعاقبه الله يوم القيامة، أو ذكر أنه ملعون من يفعل كذا، أو ذكر غضب الله على من يفعل كذا. إذاً: كل ما توعد بغضب أو بلعنة أو بعقوبة في الآخرة أو بحد في الدنيا، فهذا من الكبائر، أو نص على أن هذا الفعل من الكبائر.

التحذير من جريمة الزنا

التحذير من جريمة الزنا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدث أصحابه ويعظم لهم أمر هذه الكبائر حتى لا يقعوا فيها، فيقول صلى الله عليه وسلم وقد سئل: (أي الذنب أعظم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أن تشرك بالله وهو خلقك، قال: ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك، قال: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك)، هذه كلها كبائر. والإنسان حين يقع في الزنا، فهذه كبيرة من الكبائر، وهي فاحشة من الفواحش، كذلك السارق أتى كبيرة من الكبائر، والزاني أتى فاحشة من الفواحش، والذي يقع في اللواط أتى فاحشة من الفواحش، وهذا كله من الذنوب الكبيرة العظيمة. والكبائر بعضها أعظم فحشاً من بعض، فإذا كان الزنا فاحشة فكيف بمن يزني بحليلة جاره! المفترض أن يحافظ على حرمة جاره، وأن يدافع عن جاره وعن حريم جاره، فهذا الذي يزني بحليلة جاره يكون قد ارتكب أفحش ما يكون ومن أعظم الكبائر عند الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32]، {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} [النساء:22]. إذاً: الزنا كبيرة من الكبائر، وهو فاحشة، وأعظم ما يكون في الزنا أن يزاني بحليلة جاره، وأعظم وأفظع منه أن يتزوج المرء واحدة من محارمه أو ينكحها، فإذا تزوجها فقد كفر؛ لأنه استحل ما حرم الله، فإذا واقعها وزنى بها فيكون واقعاً في فاحشة عظمية، قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} [النساء:22]. ولذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم زنى ماعز وزنت الغامدية، فأقام عليهما الحد صلوات الله وسلامه عليه، وزنى إنسان كان مريضاً فأمر بإقامة الحد عليه، قالوا: إننا لو نقلناه لتخسف؛ لأنه ليس به قوة، سبحان الله! ليس فيه قوة ويقع في الزنا، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإقامة الحد عليه، ولكن خفف وقال: (خذوا عثكولاً فيه مائة شمراخ واضربوه به) والعثكول هو العذق الذي تتعلق فيه البلح، فأمرهم أن يأخذوا عثكولاً ويضربونه ضربة واحدة به، فأقيم عليه الحد بذلك.

حكم الزنا بالمحارم

حكم الزنا بالمحارم بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن إنساناً تزوج امرأة أبيه، يقول البراء: (لقيت خالي وقد حمل الراية ومعه مجموعة من المسلمين، فقلت: إلى أين؟ قال: إلى رجل تزوج امرأة أبيه لنقتله ونخمس ماله). فهذه فاحشة من أعظم ما يكون، فكون المرء ينكح زوجة أبيه ويتزوجها، فإنه قد ارتكب جرماً عظيماً، قال الله عز وجل: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} [النساء:22]. فقد كان أهل الجاهلية يفعلون ذلك، الأب يتزوج بامرأة، ثم إذا توفي الأب إذا بالابن يمسك هذه المرأة وتكون أسيرة عنده، ومن حقه أن يزوجها لأحد من الناس ويأخذ هو مهرها، أو يتزوجها هو، فجاء الإسلام ليمنع هذه العادات القبيحة ويذكر أنها من أعظم الفواحش: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} [النساء:22]. فالله عز وجل حرم الكبائر ومن الكبائر الفواحش، ولكن نص عليها لفظاعتها، ولعظيم شرها.

حكم قتل الأبناء خشية الفقر والعار

حكم قتل الأبناء خشية الفقر والعار قوله: (أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك) من الذنوب العظيمة أن يقتل الأب ابنه، أو الأم تقتل ولدها، فكان أهل الجاهلية يئدون البنات، ويذكر أن رجلاً من أهل الجاهلية يقال له: قيس التميمي، هذا الرجل كان قد أغار قوم على قومه وأخذوا الحريم معهم، ومن ضمن من أخذوا من الحريم ابنة هذا الرجل، فلما أخذوها كانت عند رجل من هؤلاء أمة، ثم بعد ذلك اصطلحت القبيلتان، وجاء هذا السابي يخير البنت بين أبيها وبينه، قال: هل تريدين أباك أو تريدينني؟ فاختارت من سباها، فأقسم الرجل أنه لا تولد له ابنة إلا وأدها، فأخذ منه الناس هذه العادة السيئة وفعلوها، فكانوا يقتلون البنات، ويقولون: نقتل البنات؛ لأن بنت فلان عملت كذا ولا نريد أن تفعل بناتنا هذا الشيء، وهذا في الظاهر، ولكن الحقيقة في الباطن أنهم كانوا يحتاجون إلى الذكور، كانوا يريدون ذكوراً لأجل أن يشتغلوا ويأتوا بالمال، ولكي تغير القبائل بعضها على بعض، فهم يريدون ذكوراً حتى يغيروا على القبيلة الثانية، أما البنت فأنا أصرف عليها وتفقرني ولا تأتي بشيء، والولد سيأتي لي بالمال، فلذلك فضحهم الله عز وجل حين قال: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} [الأنعام:151] أي: أنتم تقتلون أولادكم لأنكم لا تريدون أن يأكلوا معكم، قال تعالى: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام:151] فالرزق من عندنا فنحن نرزق الجميع. وقال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء:31] فالرزق من عند الله سبحانه، فكون الإنسان يقتل ابنه هذا تجرد من الرحمة، وتجرد من آدميته ومن إنسانيته، وهذا الفعل من كبائر الذنوب ومما يفحش من الذنوب، حين يسمع الناس أن فلاناً قتل آخر في مشاجرة أو كذا، قد لا يتفاحش عند الناس حين يسمعون ذلك، لكن حين يسمعون أنه قتل ابنه، فهذا شيء فظيع جداً أن يفعله الإنسان.

عظمة دين الله عز وجل وشريعته وحكمه

عظمة دين الله عز وجل وشريعته وحكمه هذه الأمور وقعت في الجاهلية الأولى، ولو ترك الناس لأهوائهم من غير تشريع لعادوا إلى هذه الجاهلية الأولى، سواء اتفقوا على مثل هذه العادات، أو لم يتفقوا، فقد يسن لهم ويقنن لهم هذا الشيء، لذلك نقول: هناك فرق بين الإسلام والقوانين الوضعية، القوانين البشرية تقول لك: حكم البشر للبشر، وهذا أصل معنى الديمقراطية، أي: أصل معنى الديمقراطية أن الحكم للشعب، أما الإسلام فمعناه أن الحكم لله، قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف:40]، وقال: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك:14]، وقال: {وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:70]. فالله سبحانه وتعالى هو الحكم والحكم له سبحانه وتعالى، ولم يجعل للعباد أن يختاروا، فلم ينزل القرآن لأجل أن يختار الناس ما أرادوا منه ويتركوا ما أرادوا، قال الله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] أي: ما كان ولا يكون أبداً لإنسان يتصف بالإيمان أن يختار على الله سبحانه وتعالى، فعلى ذلك يخبرنا ربنا سبحانه هنا ويقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [يوسف:40] أي: هذا الدين العظيم وهذا الدين المستقيم، وهذا الدين الذي يهذب أخلاق الخلق، دين الله سبحانه، فلو ترك الأمر للناس لاختيارهم لاختار الناس ما تقتضيه شهواتهم، فإذا بهم يبيحون الزنا، بل سيبيحون الزنا بالمحارم ولا أحد ينكر ذلك، ويفعلون الفواحش علناً أمام الناس ولا أحد ينكر ذلك، فالذي ينظر إلى الغرب الكافر وإلى أمريكا الكافرة وينظر إلى ما يصنع الناس هناك يعلم أن دين الله حق، فهو الدين الذي يهذب الأخلاق، ويهذب النفوس، ويقوم الخلق؛ لأنه دين الله الذي خلقك فسواك فعدلك، والذي ميزك بقلبك وبعقلك عن البهائم، ميزك عما لا يفهم مما خلق الله سبحانه وتعالى، فهذا دين الله سبحانه يقبح إلينا هذه الأشياء، ويقول: هذه فواحش لا تقربوها فضلاً عن أن تفعلوها. وهذا الدين يأمرنا بالعدل والإحسان ليس مع المسلمين فقط، بل مطلقاً مع الخلق جميعهم، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} [النحل:90] والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن المقسطين على منابر من نور يوم القيامة، الذين يعدلون في أهلهم وحكمهم وما ولوا). أي: يعدلون العدل الذي أمر الله عز وجل به، فهو سبحانه أنزل الميزان وأنزل العدل بين الخلق ليحكم الناس بالعدل، هذا دين الله سبحانه الذي يحكم خلقه به، وهو أعلم بخلقه سبحانه وتعالى، فالمؤمنون يفعلون ما أمر الله ويجتنبون ما نهى الله عز وجل عنه، يجتنبون أن يقعوا في كبائر الإثم وفي الفواحش، فيمتنعون من ذلك حتى يغفر الله عز وجل لهم. إذاً: الله عز وجل هو الذي يحل لنا ما شاء وهو الذي يحرم علينا سبحانه ما شاء، ولو ترك الإنسان لرأيه وهواه لفعل أفحش الفواحش بدعوى أن القانون يجيز ذلك، لذلك حين تسأل إنساناً: هل الخمر حرام؟ يقول لك: ولماذا تباع وهناك تراخيص في بيعها؟ فهذا قال هذا القول لأن القانون يبيحها، كذلك الزنا، يمسك الإنسان الزاني ويدخل السجن ثلاثة أشهر ويخرج، أو إذا عفا أولياء البنت عن هذا الزاني أفرج عنه دون حد. فالدين لم يترك للخلق، انظر حين حرم الله عز وجل الخمر ما الذي حدث؟ أمر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين بأن يريقوا ما عندهم من الخمور، فأراقوا الخمور على الأرض، فإذا بها تسيح في سكك المدينة كالسيل، هذه الخمور كانت أموال هؤلاء، وهل يوجد إنسان يضيع ماله؟ لم يقولوا: اصبروا علينا قليلاً حتى نبيع الخمر الذي عندنا ثم حرموه علينا، أبداً لم يقولوا هذا، ولكن أتى رجل للنبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! إن عندي أموال يتامى وهي خمر أفلا أخللها؟ - أي: أحول خمر الأيتام إلى خل - قال: لا، وأمره أن يريقها) فحرمت الخمر ولم يترك لأحد من الخلق أن يختار على الله سبحانه وتعالى.

تفسير سورة الشورى (تابع) الآية [37]

تفسير سورة الشورى (تابع) الآية [37] لما كان ابن آدم خطاء ولابد أن يدرك حظه من الذنوب، جاءت هذه الآية في سياق ذكر صفات المؤمنين، فبين الله عز وجل أن الذنوب تتفاوت، وأن منها كبائر وصغائر، فالكبائر لا تكفرها إلا التوبة، أما صغائر الذنوب فقد جعل الله عز وجل لها مكفرات كثيرة منها: اجتناب الكبائر وفواحش الذنوب، فمن صفات المؤمنين اجتنابها وعدم الإصرار على الصغائر، ثم ذكر صفة أخرى وهي أن المؤمن ليس كغيره بل هو مسيطر على نفسه، مالك لها، إذا غضب تجاوز عمن أساء إليه، وليس تجاوزه عجزاً، إنما هو تجاوز الكريم عند مقدرته على خصمه، فيعمل ذلك ابتغاء وجه الله تعالى.

تفسير قوله تعالى: (والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون)

تفسير قوله تعالى: (والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى:37]. إن اجتناب كبائر الإثم والفواحش من صفات المؤمنين الذين يغفر الله عز وجل لهم عند وفاتهم بفضله وكرمه، قال سبحانه: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31] فالكبائر إذا اجتنبها المؤمن طول حياته فإن الله عز وجل يكفر عنه سيئاته التي هي صغائر ذنوبه بفضله وكرمه ورحمته سبحانه وتعالى. وقد جعل الله مكفرات كثيرة، فجعل الصلاة إلى الصلاة، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، والعمرة إلى العمرة، وكذلك اجتناب الكبائر، كل ذلك مكفرات لصغائر الذنوب عن العبد. وقد ذكر الله هنا الذين يجتنبون كبائر الإثم ويجتنبون الفواحش، وفي سورة النجم ذكر الاستثناء فقال: {إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم:32]، فهم يجتنبون كبائر الإثم، ولكن يقعون في اللمم وهي الصغائر، وكل إنسان لا بد أن يقع في حال غضبه، أو في حال فرحه، أو في حال هربه من شيء، فلابد أن يقع في شيء من اللمم. فعلى المؤمن أن يجتنب الكبائر ولا يستهين بالصغائر، وإذا وقع في شيء من الصغائر تاب إلى الله تعالى ورجع إليه. فإذا كان عند الوفاة وبقي عليه شيء من سيئاته وقد اجتنب كل الكبائر فالله عز وجل يكفر عنه هذه السيئات بفضله ورحمته سبحانه. وكذلك قد جعل الله عز وجل للعبد في حياته مكفرات، مثل الشوكة يشاكها، والبلاء يبتلى به، والمصيبة يبتلى بها، وما يصيبه من هم وغم ووصب ونصب ومصيبة إلا كان له في ذلك أجر وكفر الله عز وجل عنه من سيئاته بذلك. وفي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ} [الشورى:37] قراءتان: قراءة الجمهور: (الذين يجتنبون كبائر الإثم). وقراءة حمزة والكسائي: (كبير الإِثْمِ)، أي: الإثم الكبير. وقوله تعالى: {وَالْفَوَاحِشَ} [الشورى:37]، أي: ويجتنبون أيضاً الفواحش.

عفو النبي صلى الله عليه وسلم وكظمه للغيظ

عفو النبي صلى الله عليه وسلم وكظمه للغيظ وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلنا على ذلك بفعله وهو القدوة الحسنة العظيمة، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21] يأتي إليه ورجل يقول: (يا محمد! أعطني من مال الله لا من مالك ولا مال أبيك، ويلببه بردائه)، أي: يخنق النبي صلى الله عليه وسلم بقميصه، ويا ترى هذا الإنسان الذي يفعل هذا الشيء هل يستحق أن أحداً يعطيه شيئاً؟! ويقول: يا محمد، ولا يقول: يا رسول الله، أو يا نبي الله. ولكن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يقول: (اترك ردائي، أعطوه من مال الله) ويصفح عنه صلوات الله وسلامه عليه ويأمر بإعطائه ويضرب بذلك المثل القدوة، ولو أنه زجره لاستحق ذلك، ولو غير النبي صلى الله عليه وسلم زجره لاستحق ذلك ولا لوم عليه، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يؤدبه ربه ويجعله أسوة يكظم غيظه ويصبر طاعة لله، ويأمر لهذا الإنسان بالعطاء. وجلس النبي الكريم صلى الله عليه وسلم مع مجموعة من المشركين يدعوهم إلى الإسلام، وأثناء ذلك يأتي رجل ويقول: (يا رسول الله! علمني مما علمك الله، علمني مما علمك الله، علمني مما علمك الله، فعبس النبي صلى الله عليه وسلم)، أي: قطب وجهه، وعبس صلى الله عليه وسلم، كأنه يتمنى منه الصبر عسى الله أن يهدي هؤلاء. ولو أن إنساناً مكان النبي صلى الله عليه وسلم وزجره لا يلام؛ لكون الدعوة إلى الله عز وجل هنا أهم من تعليمه ما ليس فرضاً عليه كالصلاة، ويجوز تأخير البيان عن وقت المخاطبة. إذاً: ليس فرضاً عليه الآن أن يعلم هذا، إنما الفرض عليه أن يدعو إلى الله سبحانه وتعالى عسى أن يدخل هؤلاء المشركون في دين الله. ولكن أيضاً يؤدب الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم، فينزل القرآن ويقول: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس:1 - 4]، فيعاتب في ذلك، وغاية ما فعله مع رجل أعمى أن قطب جبينه صلى الله عليه وسلم، وظهر عليه ملامح الغضب فقط، فيجيء الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فيقول: (مرحباً بالذي عاتبني فيه ربي). فعلينا أن نقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإذا شتم أحدنا تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصنع شيئاً غير تقطيب وجهه وعوتب في ذلك، فيعفو عن هذا الإنسان لعل الله عز وجل يعفو عنا يوم القيامة. وهذا حديث آخر رواه الإمام أحمد في مسنده، وأصله في البخاري ومسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وسنسوق لفظ الإمام أحمد؛ لأن فيه فائدة زائدة عن غيره، وهو حديث إسناده صحيح قال: (قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم محارب خصفة بنخل، فرأوا من المسلمين غرة، فجاء رجل منهم يقال له: غورث بن الحارث) وهذه الغرة ذكرت في رواية مسلم يقول جابر: (غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد، فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في واد كثير العضاة، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة، فعلق سيفه بغصن من أغصانها وتفرق الناس)، فالغرة أنهم تركوا النبي صلى الله عليه وسلم وحده تحت شجرة وعلق سيفه في الشجرة. قال: (فجاء الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم تحت الشجرة حتى قام على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أخذ سيف النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: من يمنعك مني؟)، كأنه يقول: لقيتك أخيراً، وأنت نائم على الأرض، وسيفك في يدي، فمن يجيرك مني؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الله يمنعني منك، فسقط السيف من يد الرجل، وأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: من يمنعك مني؟)، وهنا كان لسان الحال: فالله منعني، وعرفت أنني على الحق، وأنت كافر، فليس بيننا وبينك أمان، (وإذا بالرجل يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: كن خير آخذ). فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أتشهد أن لا إله الله؟ قال: لا، ولكني أعاهدك أن لا أقاتلك) ومعنى قوله: إني لن أقاتلك مرة أخرى ولن أكون مع قوم يقاتلونك، أما الإسلام فلن أدخل فيه. (فخلى سبيله، ونادى النبي صلى الله عليه وسلم فجاء الناس إليه فقال: إن رجلاً أتاني وأنا نائم، فأخذ السيف فاستيقظت وهو قائم على رأسي فلم أشعر إلا والسيف صلتاً في يده، فقال لي: من يمنعك مني؟ قلت: الله، ثم قال في الثانية: من يمنعك مني؟ قلت: الله، قال: فشام السيف فهاهو ذا جالس)، ومعنى (شام السيف) أدخله في غمده، واختصر القصة كلها. ولو أن أحداً مكانه لقال: فعل كذا وفعلت كذا، ويطيل في وصف القصة. ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لو قال لهم: إني صرخت فيه، فقلت: الله، فسقط منه السيف، لعل الصحابة يقتلونه. قال: (فذهب الرجل إلى أصحابه، وقال لهم: قد جئتكم من عند خير الناس). فهذا الرجل الكافر رجع إلى أصحابه، وقال: جئت من عند خير الناس، قال: (فلما كان الظهر أو العصر صلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف). أيضاً مما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس) فإذا أردت أن يحبك الله سبحانه وتعالى فانفع نفسك وانفع غيرك. فالإنسان حين يعمل ويكسب من عمله وينفع الناس يكون نافعاً لنفسه وللناس، فيحبه الله عز وجل. قال: (وأحب الأعمال إلى الله عز وجل: سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعه)، فمن الأعمال التي يحبها الله سبحانه وتعالى أن تدخل السرور على قلب إنسان مؤمن آذاك في شيء، وتوقع منك العقوبة فهو خائف من هذه العقوبة، فإذا بك تفرج عنه وتعفو فتدخل السرور على قلبه بذلك، فيكون لك الأجر عند الله سبحانه ويحبك الله سبحانه وتعالى. (أو تكشف عنه كربة أو تقضي عنه ديناً)، عليه دين والدين كربة من الكربات ففرج عنه بقضائه، (أو تطرد عنه جوعاً)، كأن يكون صائماً وجاء وقت الإفطار وليس عنده شيء يأكله، فأعطيته وأطعمته. قال: (ولأن أمشي مع أخي في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد شهراً) أي: يعتكف في المسجد النبوي، وفي الاعتكاف أجر عظيم جداً. فأعظم من هذا الأجر أن يمشي مع صاحب حاجة حتى يقضي له حاجته. قال: (ومن كف غضبه ستر الله عورته)، وهذا الشاهد، فإذا كنت تريد الله تعالى يسترك في الدنيا وفي الآخر فاكظم غيظك ما استطعت، وحدث نفسك بأن الله عز وجل أقدر عليك من قدرتك على هذا، وحدث نفسك بالحور العين، واذكر قول الله عز وجل {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56]، وإذا كنت قائماً فاجلس، وإذا كنت جالساً فاضطجع، ولا تتكلم في وقت الغضب لعلك تنطق بالشيء الذي يثير الشر أكثر وأكثر. فالنبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا كيف نعالج الغضب، قال: (لا تغضب)، أي: لا تتعاط أسباب الغضب، فإذا وقعت في الغضب وثرت جداً قال: (إذا كنت قائماً فاجلس، وإذا كنت جالساً فاضطجع). وقال: (توضأ وصل ركعتين)، وذلك لأن الغضب من نار، والماء يطفئ النار، فتطفئ نار غضبك بهذا الوضوء. وقال: (من كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه) فهناك إنسان قوي يستطيع أن ينتصر وإنسان ضعيف لا يقدر أن ينتصر، وكل منهما إذا كظم غيظه فهو مأجور، ولكن الأعظم أجراً هو القادر على أن يفعل بخصمه ما يستطيع ثم يكظم غيظه وغضبه ويسكت، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاءً يوم القيامة)، ففي يوم القيامة يوم اليأس، والناس في ذلك الموقف العظيم، يقولون لله: (يا رب! اصرفنا ولو إلى النار)، يقولون ذلك من شدة ما يعانونه من وقوف على أقدامهم خمسين ألف سنة، والشمس قد دنت من الرءوس، فإذا بالله يملأ قلب هذا الإنسان رجاءً، فهو راجٍ ربه سبحانه، ومؤمل ما عند الله، والذي في قلبه الرجاء يعطيه الله ما يرجوه منه سبحانه وتعالى. قال: (ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تتهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام)، فالذي يمشي مع أخيه في حاجة، كأن يقول: تعال كلم لي فلاناً، فأنا أخاف غضبه، فيذهب معه ويمنع غضب هذا الآخر عنه، فهذا يثبت الله قدمه على الصراط يوم تزل الأقدام على الصراط فلا يسقط في نار جهنم. قال: (وإن سوء الخلق يفسد العمل كما يفسد الخل العسل)، فقد يعمل الإنسان خيراً كثيراً جداً، ولكنه بسوء خلقه يضيع أجره، كان يعطي الفقراء ثم يمن عليهم، أو يشتمهم، ومثل ذلك: كإنسان عنده عسل فيخلطه بالخل فيفسده، وكذلك سوء الخلق يفسد العمل كما يفسد الخل العسل. ذكر أن الأحنف بن قيس رضي الله عنه كان من أحلم الناس، وكان الناس يتعجبون من حلم هذا الرجل، فيقولون له: ممن تعلمت الحلم؟ قال: تعلمته من قيس بن عاصم المنقري التميمي -وهو الذي سن الوأد ثم تاب إلى الله عز وجل وبعد ذلك كان من أحلم العرب- قال: شهدته وقد جلس في قومه وهو محتب. قال: فجاءوا إليه برجل موثق في الحبال فقالوا: هذا ابن أخيك قتل ابنك. قال: فوالله ما حل حبوته، ثم قال لابن أخيه: يا بن أخي! قطعت رحمك، وأفسدت ما بيننا وبينك. ثم قال: أطلقوه. وقال: قوموا إلى أم المقتول فأعطوها مائة ناقة فإنها غريبة. من يفعل هذا الأمر؟! ليس المطلوب أن تكون مثله، لكن المطلوب ممن يغضب لأتفه الأسباب أن يتذكر هذا الرجل. وقصة أخرى للأحنف أنه كان واضعاً ابنه على رجليه، وجاءت الجارية وفي يدها سفود فيه شواء، فإذا بالسيخ يسقط من يدها على الغلام فيقتله، ففزعت

ضابط الكبيرة

ضابط الكبيرة وهنا يتكلم العلماء في أمر الكبائر، وليست الكبائر هي التي نص عليها النبي صلى الله عليه وسلم أو هي التي ذكرها الله عز وجل في كتابه فقط، بل قد وضع العلماء لها ضابطاً، فقالوا: كل ذنب من الذنوب توعد الله عز وجل عليه بالعذاب، أو جعل فيه حداً، أو لعن الله عز وجل فاعله أو غضب عليه فهو كبيرة من الكبائر التي تفحش في نظر المؤمن حين يسمعها، ولو لم ينص على أن هذا من كبائر الذنوب. يقول العز بن عبد السلام رحمه الله: إذا أردت معرفة الفرق بين الصغائر والكبائر فاعرض مفسدة الذنب على مفاسد الكبائر المذكورة في القرآن كالسرقة، والزنا، وقتل النفس، أو في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، يقول مثلاً: فمن شتم الرب سبحانه وتعالى، فانظر إلى المشرك وانظر إلى الذي يشتم، فالمشرك بالله معظم لله تبارك وتعالى، ويقول: أن لا أقدر أنا أعبد ربي مباشرة، إنما أجعل الصنم يوصل هذه العبادة؛ لأنني أحقر من أن أصل إلى الرب فأعبده مباشرة، فهذا عنده شيء من التعظيم، لكنه أشرك في تعظيمه، فوقع في كبيرة من الكبائر. والذي يشتم الرب سبحانه وتعالى تجده أفحش بكثير من الذي أشرك بالله سبحانه وتعالى؛ لأن هذا استهان بربه. فالأول: جعل معه في ملكه غيره. والثاني: كأنه ألغى ربه، فلاشك أن الشتم أفحش. وكذلك الذي يشتم الرسول صلى الله عليه وسلم، أو يستهين برسل الله عليهم الصلاة والسلام، أو يكذب أحداً من رسل الله. وقد جعل الله تعالى الحرم آمناً كما في قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت:67]. فالحرم آمن شرعاً وقدراً، ففي الجاهلية كانوا يعرفون حرمة هذا الحرم، فما كان أحد يجرؤ أن يلحد داخل الحرم، كأن يقتل إنساناً، أو يأخذ مال إنسان، بل كان الرجل يجد قاتل أبيه وقاتل أخيه داخل الحرم فلا يمسه بسوء، وينتظره خارج الحرم إن أراده بسوء، أما داخل الحرم فكانوا يخافون من ذلك، فهذا التحريم القدري. أما التحريم الشرعي فبما أنزل على النبي صلوات الله وسلامه عليه من قرآن ومن سنة. فلو أن إنساناً ظلم إنساناً داخل الحرم وقد جعله الله حرماً آمناً، فهذا ألحد في الحرم، قال تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25]، ففي الآية وعيد للذي تحدثه نفسه أن يلحد في الحرم أن يذاق من عذاب أليم، فكيف بمن يفعل ذلك؟ ولو كان يؤذي الحرم نفسه، كأن يفكر بهد الحرم، أو يسرق شيئاً من الحرم، أو لطخ الحرم بعذرة، أو تغوط أو بال داخل الحرم الذي قدسه الله عز وجل وجعله طاهراً آمناً، فإذا سقنا كل ذلك على الإلحاد في الحرم نجد أنها من كبائر الذنوب، مع أن هذا مما لم يذكر في القرآن ولا في السنة، ولكن دخل بقياس الأولى، فهذا أولى بأن يكون إلحاداً في الحرم من غيره. كذلك جعل الله عز وجل المصحف له حرمة عظيمة، قال تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يمس القرآن إلا طاهر)، فلو أن إنساناً رمى المصحف أو مزقه، فقد يكون ذنب هذا الإنسان أفحش من مسه على غير طهارة، بل يكفر الذي يفعل ذلك. كذلك الزنا كبيرة من الكبائر، فإذا زنى الإنسان بحليلة جاره كان هذا أفحش، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لأن يزني الرجل بعشرة أبيات أيسر من أن يزني بحليلة جاره)، وهذا الذي يزني بعشرة أبيات واقع في كبيرة من الكبائر، ولكن أفحش من ذلك أن يقع في حليلة جاره، وأفحش من ذلك أن يمسك امرأة محصنة لغيره ليزني بها، فيقول العلماء: هذا من فواحش الذنوب ومن كبائر الذنوب التي يقع فيها الإنسان. كذلك القتل من كبائر الذنوب، والذي يمسك بمؤمن لغيره ليقتله هذا مشارك له ومماثل له في هذا الذي فعله. كذلك من الكبائر: أكل مال اليتيم، فلو أنه أخذ مال اليتيم، واشترى به طعاماً وأكله فهذا من كبائر الذنوب، ولو أنه أخذ مال اليتيم ورماه في البحر، فيكون هذا أفحش بكثير من الأول، فالأول قد يكون جائعاً، ولكنه واقع في كبيرة وأكل ناراً والعياذ بالله. أما الثاني: فإنه استهان بالشريعة، واستهان بحق اليتيم، وكسر قلبه بأن أحرق ماله، أو أتلفه عليه، فهذا أعظم بكثير. فهذه الأشياء إن لم تنص عليها الشريعة فقد نصت على ما هو أقل منها، فهذا أفضع وأشنع من الأول الذي نص عليه قوله سبحانه: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام:152]، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10]، كذلك لو أن إنساناً هرب في القتال فقد وقع في كبيرة من الكبائر، وقد توعده الله عز وجل بغضبه، قال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال:16]، فلو أن إنساناً دل الكفار على عورات المسلمين بأن قال لهم: في المكان الفلاني مجموعة من المسلمين؛ فتجسس للكفار، فأنزلوا عليهم القنابل فأحرقوا المسلمين، كيف يكون فحش ذنب هذا الإنسان؟ لا ننظر إلى أنه قال كلمة، إنما ننظر للنتيجة لذلك، فهذا أشار بيده على المكان فدمروه. وهذا مثلما كان يفعل اليهود بالفلسطينيين، يجندون بعضاً منهم يقف لهم في مكان فيشير على السيارة، فتأتي الطائرة وتضرب الصاروخ على قادة حماس وقادة القسام فتحرقهم. فهذا الذي دلهم ذنبه أعظم من أن يقتل مؤمناً، وكذلك لو دل الكفار على عورات المسلمين مع علمه بأنهم يستأصلون بدلالته، ويسبون حرمهم وأطفالهم ويغنمون أموالهم، ويزنون بنسائهم، وانظر إلى الكفار لما دخلوا العراق، واقرأ عن المذابح التي حصلت هناك، واقرأ عن الفواحش التي ارتكبوها في نساء المسلمين، يدخلون لتفتيش البيوت ثم يزنون بنساء المسلمين، والعالم كله ساكت على ذلك، ولا أحد يعترض على هذه الجرائم التي فعلوها في سجن أبو غريب وغيره من السجون هناك. فهذا الذي دلهم على عورات المسلمين، والذي عرض بلاد المسلمين لذلك، والذي أعان على مثل ذلك، كيف يكون ذنبه عند الله سبحانه وتعالى؟! وأي كبيرة وقع فيها؟ وأي فحش وقع فيه أعظم من هذا الذي يقع في ذلك؟ وقس على ذلك غيره. يقول العز بن عبد السلام رحمه الله: وهذا نسبته إلى هذه المفاسد أعظم من تولية يوم الزحف. عندما تقول: فلان هرب من الحرب، أيهما أعظم جرماً عند الله سبحانه وتعالى وأيهما أعظم جرماً في عقل الإنسان: هذا الذي دل على العورات، فحصلت كل المفاسد والمصائب، أم الآخر الذي هرب من القتال وحده؟ فإن وقع هذا في كبيرة، فهذا وقع في أعظم وأشنع من أن يوصف بكبيرة فقط. ولو أن إنساناً كذب ليأكل ويستحل مال مسلم، أو كذب ليأخذ شيئاً من مال مسلم ثم أنكر أنه أخذه، وحلف يميناً غموساً، فهذا وقع في كبيرة من الكبائر استحق بها النار. ولو أن هذا الإنسان كذب وقال: إن فلاناً هذا رأيته يقتل فلاناً، فأخذوه وقتلوه. أي الاثنين أعظم جرماً: هذا الذي أخذ شيئاً من المال، أم الذي شهد على الإنسان وكذب عليه فقتل بسبب كذبه؟ لا شك أن هذا أعظم بكثير من الأول، فإذا كان فعل الأول كبيرة؛ فالثاني من فواحش الكبائر. يقول العلماء: ولو شهد اثنان بالزور على قتل موجب للقصاص، فسلم الحاكم المشهود عليه إلى الوالي فقتله، وكلهم عالمون بأنهم ظالمون، فذنبهم أعظم ممن قتل إنساناً عمداً وعدواناً. ولو أن مجموعة تواطئوا مع الحاكم على الشهادة على شخص أنه قتل شخصاً آخر، فأمر الحاكم الجلاد بأن يقتل هذا الرجل فهؤلاء ذنبهم أعظم ممن قتل إنساناً عامداً مع أنهم لم يباشروا القتل. هذا مختصر لكلام العز بن عبد السلام رحمه الله في كتاب قواعد الأحكام. فالخلاصة: إذا أردت أن تعرف أن هذا الذنب كبيرة من الكبائر فانظر لما يترتب عليه من مفسدة، وقسها على الكبائر التي جاءت في القرآن الكريم أو جاءت في سنة النبي صلى الله عليه وسلم لتعرف قبح هذا الذنب هل يوصله إلى أن يعد من الكبائر أم لا؟

العفو والغفران من صفات المؤمنين

العفو والغفران من صفات المؤمنين قال الله عز وجل: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى:37]. الإنسان المؤمن مطلوب منه عند الغضب أن يكظم غيظه، ولا ينفذ غضبه حتى لا يؤذي نفسه ويؤذي غيره إلا أن يكون الغضب لله سبحانه وتعالى. فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصبر ويحلم إلا أن يكون لله فيغضب ويقيم حد الله سبحانه. والمطلوب من المؤمن أن يتجاوز ويعفو إلا أن يكون في حد من حدود الله سبحانه، إلا أن تنتهك حرمات الله ففي هذه الحالة يغضب لله سبحانه ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فإذا لم يتمعر وجهه حين تنتهك حدود وحرمات الله فهو يستحق العذاب لذلك. وقوله تعالى: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى:37]، نزل في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقوله: (يغفرون) أي: يتجاوزون ويحلمون عمن يسيئ إليهم. فـ أبو بكر شتمه إنسان، فتجاوز عنه أبو بكر رضي الله تعالى عنه، فلامه الناس لماذا لا يرد عليه، وكان ذلك في مكة، فمدح الله تعالى أبا بكر رضي الله عنه في ذلك. وقيل: بل نزلت حين لامه الناس على إنفاق ماله كله، وحين شتم فعفا وصفح، فأنزل الله عز وجل ذلك. ولكن العبرة بعموم اللفظ، فهي وإن كانت نزلت في أبي بكر رضي الله عنه، ولكنها تعم أبا بكر وغيره من المؤمنين. فكل إنسان مؤمن أوذي في شيء وعفا مع قدرته على الانتصار فالله عز وجل يعطيه هذا الأجر. وقد كانت العرب تعد من مكارم الأخلاق أن يتغافل الإنسان أحياناً عمن يسيء إليك، ولذلك قال أحدهم: ولقد أمر على اللئيم يسبني فمضيت ثمت قلت لا يعنيني أي: أمر على هذا اللئيم وهو يسبني فأقول: إنه لا يقصدني إنما يقصد شخصاً آخر، ويتغافل عن مثل ذلك. وقد يقدر الإنسان أن ينتصر على من ظلمه، ولكن الإسلام يعود الإنسان على ضبط النفس والعفو مع القدرة، ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الصائم: (فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم)، لم يقل: فليسبه وليقاتله، ولكن قال: (فليقل: إني صائم)، فيذكر نفسه ويذكر غيره بأنه صائم، فلا يرد على الإنسان ما فعله بمثله، ولكن يعفو ويصفح، إلا أن يكون في حد من حدود الله فينتقم لله سبحانه وتعالى. قال تعالى: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى:37]، أي: يتجاوزون ويحلمون، وإذا كظمت الغيظ فقد يهيج الناس المشاعر بقولهم: أنت ضعيف لم تقدر عليه؛ فهنا تذكر نفسك بمثل هذه الآية، وبمثل قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35]. وبما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من أحاديث في البشارة بما يكون وراء هذا الصبر العظيم. فمما جاء عنه صلى الله عليه وسلم حديث رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وهو حديث صحيح، ورواه الإمام أحمد أيضاً ونذكر رواية الإمام أحمد وهي أطول من غيرها وهي حسنة، عن سهل بن معاذ عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من كظم غيظه وهو يقدر على أن ينتصر دعاه الله تبارك وتعالى على رءوس الخلائق حتى يخيره في حور العين أيتهن شاء). فالإنسان المؤمن يذكر نفسه بأن من وراء كظم الغيظ حور العين، وهذه أعظم جائزة يتمناها الإنسان من الله سبحانه وتعالى، والحور العين ليست مثل نساء الدنيا، بل أعظم وأجمل بكثير من نساء الدنيا، ولو أن واحدة منهن اطلعت على هذه الدنيا لأضاءتها، والحور العين خلقهن الله عز وجل لعباده المؤمنين، {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56]. ثم قال: (ومن ترك أن يلبس صالح الثياب وهو يقدر عليه تواضعاً لله تبارك وتعالى، دعاه الله تبارك وتعالى على رءوس الخلائق حتى يخيره في حلل الإيمان أيتهن شاء). وهذا من فضل الله سبحانه على الإنسان المؤمن الغني حين يتواضع، فهو يقدر أن يشتري أفخر الثياب، وبإمكانه أن يشتري بدلة بعشرة آلاف جنيه، أو بمائة ألف جنيه، لكنه يتواضع فيلبس مثل الناس. وليس معنى ذلك أن يلبس الصوف، أو يلبس الخشن، أو يلبس الشيء الذي يزدريه الناس، لكن المطلوب هو التواضع، فيعيش كما يعيش الناس، يلبس الزهيد من الثياب، والعادي من الثياب الذي يلبسه الناس، لكن بقصد أن يفعل ذلك ابتغاء وجه الله عز وجل، قال صلى الله عليه وسلم: (وهو يقدر عليه)، فهو لم يتركه بخلاً لكنه بدل أن ينفق هذا المال في شراء الثياب يتصدق به، فيدعوه الله تبارك وتعالى على رءوس الخلائق حتى يخيره بين حلل الإيمان أيتهن شاء. وهذا الحديث يدلنا على عظم ثواب كظم الغيظ.

تفسير سورة الشورى الآية [38]

تفسير سورة الشورى الآية [38] من صفات المؤمنين: أن أمرهم شورى بينهم، والاستشارة تكون بعد الاستخارة، والعزم يكون بعد الاستشارة، وإذا عزم النبي صلى الله عليه وسلم على أمر بعد المشاورة فليس له أن يرجع عنه، ويقتدي ولي الأمر به في ذلك، وقد شاور النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في مواطن كثيرة منها: غزوة بدر، وغزوة أحد، وحادثة الإفك، وغيرها.

تفسير قوله تعالى: (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة)

تفسير قوله تعالى: (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. ذكرنا أن الله سبحانه وتعالى مدح المؤمنين الذين يتصفون بصفات منها أنهم على ربهم يتوكلون، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى:37 - 38].

ذكر ما جاء من مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم بدر

ذكر ما جاء من مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم بدر أيضاً: مما جاء أنه في يوم بدر شاور النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، هذا قبل الخروج لعير أبي سفيان، فقال: (من كان سلاحه حاضراً فليخرج معنا)، فخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة وبضعة عشر، ولكن أبا سفيان أفلت إلى مكان آخر، وأرسل إلى الكفار يستغيث بهم، فجاء الكفار لقتال النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه يجدون أن الأمر ليست عيراً يأخذونها، بل هو جيش آت، وهم ليسوا مستعدين لهذا الجيش، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه. روى الإمام مسلم عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان. يقصد أنه في البداية شاور، وبعد ذلك شاور صلى الله عليه وسلم حين استغاث أبو سفيان بالكفار، فتكلم أبو بكر فأعرض عنه صلى الله عليه وسلم، فتكلم عمر فأعرض صلى الله عليه وسلم، فقام سعد بن عبادة رضي الله عنه فقال: إيانا تريد يا رسول الله! وهذا وإن كان في صحيح مسلم إلا أن الظاهر أنه ليس سعد بن عبادة؛ لأن سعداً لم يكن معهم، وإن كان قد أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، لكنه لم يكن معهم إنما كان معهم سعد بن معاذ رضي الله تبارك وتعالى عنه، وكان فيها المقداد بن الأسود، واشتهر المقداد بمقولة قالها رضي الله عنه، لكن هذه رواية الإمام مسلم. والحديث في مسند الإمام أحمد وفيه: أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لقد شهدت من المقداد مشهداً لأن أكون أنا صاحبه أحب إلي مما على الأرض من شيء، قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم وكان رجلاً فارساً، وهو الفارس الوحيد الذي كان موجوداً في يوم بدر، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: أبشر يا نبي الله! لما استشاره النبي صلوات الله وسلامه عليه فقال قائل الأنصار: تستشيرنا يا رسول الله؟ فقال المقداد رضي الله عنه: إنا والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى صلى الله عليه وسلم: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] ولكن والذي بعثك بالحق لنكونن بين يديك، وعن يمينك وعن شمالك ومن خلفك حتى يفتح الله عليك. وفي رواية أخرى لهذا الحديث ذكرها ابن أبي شيبة فقال سعد بن معاذ -وهذا هو الراجح أن القائل كان سعد بن معاذ سيد الأوس، والآخر سعد بن عبادة سيد الخزرج، لكن القائل كان سعد بن معاذ، ولعل الآخر قالها قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم إليه- قال سعد بن معاذ: لئن سرت حتى تأتي برد الغماد من ذي اليمن لنسيرن معك، يعني: سر أينما تريد فنحن معك، حتى وإن سرت إلى اليمن فسنكون معك، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم كلاماً جميلاً وفيه: ولن نكون كالذين قالوا لموسى وذكر ما قال المقداد رضي الله عنه، قال: ولعلك خرجت لأمر فأحدث الله غيره، فامض لما شئت، وصل حبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وسالم من شئت، وعاد من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، رضي الله تبارك وتعالى عنه. هذا سعد بن معاذ الذي اهتز له عرش الرحمن حين مات شهيداً رضي الله تبارك وتعالى عنه وحملته الملائكة، وحمله المسلمون، وكان ضخماً عظيم البدن رضي الله تبارك وتعالى عنه، ولما حمله المسلمون ما شعروا بذلك، فقد كان خفيفاً وهم يحملونه، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه حملته الملائكة، وهو صاحب هذه المقولة العظيمة الذي عاش مجاهداً في سبيل الله، والذي دعا ربه حين أصيب في أكحله في عرق في يده رضي الله تبارك وتعالى عنه في يوم الأحزاب فقال: اللهم إن كنت أبقيت للمشركين قتالاً فأبقني لهم، فإن لم تبق لهم قتالاً فخذني إليك، فأخذه الله سبحانه وتعالى واستجاب له دعوته. وكان يهود بني قريظة حلفاء للأوس من الأنصار في الجاهلية، ولذلك لما حاصر النبي صلى الله عليه وسلم بني قريظة تحصن بنو قريظة في الحصون، وأبوا أن ينزلوا على حكم النبي صلى الله عليه وسلم، ونزلوا على حكم سعد بن معاذ، فقد كان حليفهم في الجاهلية وأرسلوا إليه، وكانوا قبل ذلك أرسلوا لـ عبد الله بن أبي بن سلول ومن قبلهم بنو النضير أرسلوا إليه، وبنو قينقاع كذلك أرسلوا إليهم، فقد كانوا حلفاء للخزرج، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم هذا المنافق عبد الله بن أبي بن سلول، وقال أتقتل هؤلاء كذا دارع وكذا رجل معه سيف وكذا، والله لا تقتلهم! وضل يشفع لليهود حتى أجلاهم النبي صلوات الله وسلامه عليه أخذاً بكلام هذا الرجل، وكذلك أرسلت بنو قريظة إليه وقالوا له: لقد كنت حليفنا في الجاهلية، وأخذوا يتوددون إليه فقال: سأحكم، وسكت ولم يقل: سأحكم بكذا، حتى خرج، فقالوا: لا نريد إلا حكم سعد بن معاذ -رضي الله عنه- قال: فحكمي فيكم أن تقتل مقاتلتكم، وأن تسبى ذراريكم ونساؤكم، وأن تؤخذ أموالكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد حكمت بحكم الملك)، هذا حكم الله سبحانه وتعالى نطق به سعد بن معاذ الأوسي الأنصاري رضي الله عنه سيد الأوس، فكان رجلاً موفقاً في حياته حتى توفاه الله سبحانه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لمناديل سعد في الجنة خير من الدنيا وما فيها) هذا منديله، فكيف بما أعد الله عز جل لـ سعد وغيره في الجنة؟ نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل جنته، وأن يقينا عذابه وناره. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

استشارة الأمناء من أهل العلم والعزم والتوكل بعد الاستشارة

استشارة الأمناء من أهل العلم والعزم والتوكل بعد الاستشارة يقول البخاري رحمه الله: وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها، فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى غيره اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم: فكان الأمين من أهل العلم لا يرضى أن يفتي السلطان بما حرم الله فيبيح ما حرم الله، ولكن يفتي بما أحل الله عز وجل، وأي حكم ليس فيه دليل على المنع الأصل فيه الجواز، فيفتون للخلفاء بما قال الله وبما قال النبي صلى الله عليه وسلم وبما هو مباح في الأمر الدنيوي، من غير أن يتعرضوا لأمر حرمه الله فيحلونه، ولا لأمر أحله الله فيحرمونه. قال البخاري: ورأى أبو بكر قتال من منع الزكاة، فقال عمر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله؟) لاحظ فقه الإمام البخاري رحمه الله فيما نذكره؛ إذ يسوق القول الذي يختاره هو، ثم يدلل عليه بالدليل، والإمام البخاري فقيه محدث رضي الله تبارك وتعالى عنه، فأنت تأخذ فقه البخاري من تراجمه، ففي صحيح البخاري ترجمة الباب وعنوان الباب كذا، وقد يكون العنوان كلمة أو كلمتين، وقد يكون العنوان صفحة كاملة، ومن هذا العنوان الذي يذكره البخاري تعرف فقه البخاري واختيار البخاري في صحيحه، أو من الأقوال ما يعمم به في الباب. فهنا يذكر القول وبعده الدليل، فقد بدأ بقوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38]، {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159] واختار أن المشاورة قبل العزم والتبين، أي: أنك تستشير، وقبل الاستشارة الاستخارة قبل أن تجزم وتقطع، ثم تستشير الناس بعد ذلك ثم تعزم على الشيء، فالاستشارة قبل العزم، قال: لأن الله عز وجل عقب ذلك بقوله: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159] إذاً: إذا استشرت الناس وعزمت على شيء بعد ذلك، فالاستشارة تكون قبل العزم، وهذا دليلهم. وإذا عزم النبي صلى الله عليه وسلم على شيء وقطع عليه، فليس له أن يرجع عن ذلك، قال تعالى: (فإذا عزمت فتوكل على الله)، والسنة أيضاً تفيد ذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم في يوم أحد لما عزم على الخروج بعد الاستشارة أرادوا الرجوع في ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا ينبغي لنبي لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله).

ذكر ما جاء من عزم أبي بكر على قتال المرتدين

ذكر ما جاء من عزم أبي بكر على قتال المرتدين ثم قال رحمه الله بعد ذلك: وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها، فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى غيره اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم. والمعنى: أنه لا قول لأحد ولا اجتهاد مع النص، فإنه يلزمك أن تنفذ ذلك، فإذا أمر الله فلا اختيار، بل عليك أن تنفذ من غير استشارة. ودليل الإمام البخاري في ذلك قوله: ورأى أبو بكر قتال من منع الزكاة. في عهد أبي بكر لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم وتولى أبو بكر الخلافة إذا بأناس كثيرين يرتدون، ويمنعون الزكاة، وقالوا: الزكاة كنا ندفعها للنبي صلى الله عليه وسلم، والله يقول: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ} [التوبة:103] فالنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يأخذها، وقال: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة:103] وأنتم لن تصلوا علينا فلن ندفع الزكاة، فسموا الجميع: مانعي الزكاة والمرتدين، مع أن فيهم من لم يرتد ولم يمنع الزكاة ولكنه قال: أنا أدفع الزكاة لكن لن أدفعها للإمام، فكلهم سموا مرتدين وإن كان في ذلك تفصيل، فالإمام البخاري يستدل بأن أبا بكر رأى أن يقاتل هؤلاء، وأن يقاتل الجميع، من ارتد ومن منع الزكاة بتأويل أو بغير تأويل، فإذا بـ عمر يعترض عليه ويقول: كيف تقاتلهم وهم يقولون: لا إله إلا الله؟ وفي اعتراضه أتى بنص من النصوص، فإذا بـ أبي بكر رضي الله تبارك وتعالى عنه يرد عليه بنص آخر ويقول: (لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة) أي: إن الله أمر بقوله: أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، وقال تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء:102] إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم أو من يقوم مقامه يقيم لهم الصلاة فيصلون جماعة، فمن منع الجماعة هذا نقاتله، وكذلك الزكاة قال: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] وقد أخذها النبي صلى الله عليه وسلم تنفيذاً لأمر الله، فمن منع اعتراضاً على أن الإمام يأخذ الزكاة من الناس فيدفعونها له، فهو مفرق بين الصلاة والزكاة. إذاً: احتج أبو بكر بالنص؛ فلذلك رضي عمر بما قاله أبو بكر رضي الله عنه. فمقصد البخاري: أننا إذا اختلفنا في شيء مع وجود النص فإنه يلزم الجميع أن يأخذوا بهذا النص، وأن يتركوا آراءهم، ولذلك ترك عمر رأيه، وأخذ بالنص الذي ذكره أبو بكر رضي الله تبارك وتعالى عنه. يقول: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) فالذي يؤيد ما يقوله أبو بكر رضي الله عنه أن أبا بكر اختار أن يقاتل هؤلاء؛ لأن النص معه أن الذي يمنع الزكاة يلغي شيئاً من دين الله ومن أركان الإسلام، فهو مبدل للدين، ونص النبي صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه)، فالمقصد منه: أن الإنسان إذا اختلف مع غيره رد الأمر إلى الله وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا وجد النص في الكتاب والسنة لزمه أن يعمل به.

أصحاب مشورة عمر رضي الله عنه

أصحاب مشورة عمر رضي الله عنه قال: وكان القراء أصحاب مشورة عمر كهولاً وشباناً. كذلك كان عمر يأخذ بالشورى رضي الله تبارك وتعالى عنه، وكان يستشير القراء وحفاظ القرآن، ولو نظرت إلى هذا الزمان لوجدت أن حفاظ القرآن لا أحد يهتم بهم، لكن في أيام النبي صلى الله عليه وسلم كان حافظ القرآن له أهمية كبيرة جداً، كما ذكرنا في الحديث السابق أنهم كانوا يحفظون القرآن عشر آيات عشر آيات، ولا ينتقل أحدهم من العشر الأولى حتى يتقنها ويعلم معناها، ويعلم ما فيها من أحكام ويعمل بها، فكان إذا حفظ القرآن أصبح عالماً بالأحكام، عاملاً بالقرآن، عالماً من العلماء، أما الآن فلا نقدر أن نقول: إن حافظ القرآن عالم أو فقيه أو كذا؛ لأن ذاك يحفظ القرآن، وذاك يحفظ الحديث، وذاك يتعلم الفقه، وهكذا، لكن كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا توجد هذه التفرقة، فقد كان حافظ القرآن إماماً وعالماً؛ لذلك كان عمر رضي الله عنه أهل شوراه هم حفاظ القرآن، ليس كما في هذا الزمان الذي أصبح من أهل الشورى الممثلون والرقاصون والكتاب والمخادعون والمنافقون والصحفيون؛ بل الذي يعرف دين الله وينصح لله سبحانه وتعالى هؤلاء هم أهل الشورى. فأهل شورى عمر رضي الله عنه هم القراء وحفاظ القرآن والعلماء بكتاب الله عز وجل وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان عمر يستشير هؤلاء الحفاظ، وكان إذا استشارهم ووصلوا إلى أمر أخذ بما يقولون رضي الله تبارك وتعالى عنهم، وأهل مجلس عمر رضي الله عنه كانوا كهولاً، والكهل: الذي جاوز أربعين سنة، أو شباناً وهم دون ذلك وكذلك المشيخة، وذكر أنه كان في مجلس شورى عمر بعض الناس الذين لهم مودة مع عمر رضي الله عنه، فأتى إلى هذا الرجل عمه، وقال: يا ابن أخي! ألك كلام مع هذا الأمير؟ فقال: نعم. قال: فدلني عليه، كأنه يقول: توسط عنده من أجل أن أكلمه فرضي الله عنه، فأخذه وذهب به إلى عمر رضي الله عنه، وهو لا يعرف ما الذي سيقوله عمه لـ عمر رضي الله عنه، فلما جلس الرجل وعمه قال عم الرجل لـ عمر رضي الله عنه: هيه يا عمر! والله ما تعطي الجزل، ولا تحكم بالعدل. فقام له عمر بالدرة ليضربه، فإذا بابن أخيه يقول: يا أمير المؤمنين! إن الله عز وجل يأمر بالعدل ويقول: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]، وإن هذا من الجاهلين، فأنقذ عمه بذلك، فالله سبحانه وتعالى يأمرنا بالعدل وأن نحكم به، فكان عمر يحكم بالعدل، قال راوي الحديث: وكان عمر وقافاً عند كتاب الله، فقد كان الرجل ذكياً حين أتاه بهذه الآية، وذكره بأنه يحكم بالعدل، فعلى ذلك لا يضره ما يقول هذا الإنسان، فلما قال: (وأعرض عن الجاهلين) وهذا جاهل، سكت عمر وذهب فوراً غضبه رضي الله تبارك وتعالى عنه، وسكت عن هذا الرجل، هذا ما ذكر الإمام البخاري في صحيحه من الشورى.

ذكر ما جاء من استشارة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه

ذكر ما جاء من استشارة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه يقول الإمام البخاري: وشاور النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم أحد في المقام والخروج؛ إذ إن الكفار قادمون إلى المدينة، والنبي صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه، فقد كان الكفار عددهم ثلاثة آلاف مقاتل، والنبي صلى الله عليه وسلم يعلم بمقدم جيش الكفار، فاستشار أصحابه في المكوث في المدينة ومقاتلتهم فيها أو الخروج إليهم لقتالهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يميل إلى أن يمكث في المدينة ولا يخرج منها، هذا كان رأيه صلى الله عليه وسلم، فاستشار أصحابه فطلبوا أن يخرجوا كما خرجوا في يوم بدر، وكان رأيه صلى الله عليه وسلم أن يمكثوا في المدينة، فهي حصن حصين وعدد الكفار كبير، فالخروج إليهم يتطلب عدداً كبيراً، وكان من أصحاب هذا الرأي عبد الله بن أبي بن سلول، فقد كان رأيه أيضاً أن يمكث النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة ولا يخرج للكفار خارج المدينة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم استشار؛ لأن الله عز وجل أمره بذلك، فلما استشارهم كان أكثر الآراء على الخروج وعدم المكث في المدينة، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم ينفذ، فلبس النبي صلى الله عليه وسلم لأمة الحرب وأراد الخروج، فقالوا: استكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج، فذهبوا إليه وقالوا له: يا رسول الله! إن بدا لك أن تقعد فاقعد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ينبغي لنبي يلبس لأمته فيضعها حتى يحكم الله) أي: قضي الأمر، فقد لبست لباس القتال فلا ينبغي أن أخلعها، فخرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا بـ عبد الله بن أبي بن سلول يخذل النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، ويخرج بثلث الجيش من أتباعه، ويترك النبي صلى الله عليه وسلم وجيش المسلمين، ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا سبعمائة رجل بعد أن كانوا ألف رجل، وجيش الكفار ثلاثة آلاف، فهذا صنيعه، وكم صنع من الإجرام مع النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرجل المجرم المنافق الذي كان يبطن الكفر، ويظهر الإسلام، ويتولى اليهود، فلم ينفعه ذلك حتى مات وجاء ابنه يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي عليه، هذا الرجل المجرم خذل جيش المسلمين، ورجع بثلث الجيش، ووجد لنفسه عذراً فقال: لم يسمع كلامي، وإنما سمع كلامكم أنتم، ورجع بعدما استيقن أن الكفار قد أتوا، وكأنه وجدها فرصة حتى يتخلص من النبي صلى الله عليه وسلم ومن المؤمنين الذين معه، وحصل ما حصل في يوم أحد، وانتصر المسلمون في أولها حتى عصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فانهزموا في آخرها. فالغرض: أنه استشار القوم، وليس هنا فقط، بل قد استشارهم قبل ذلك في بدر، واستشارهم بعد ذلك في الخندق، وفي مواطن كثيرة كان يستشير أصحابه.

ذكر ما جاء من قصة الإفك

ذكر ما جاء من قصة الإفك يقول الإمام البخاري رحمه الله: وشاور -يعني: النبي صلى الله عليه وسلم- علياً وأسامة فيما رمى به أهل الإفك عائشة، فسمع منهما حتى نزل القرآن. لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة المريسيع، ومعه السيدة عائشة رضي الله عنها ورجع النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت السيدة عائشة استعارت من أسماء قلادة لها، فضاعت القلادة من السيدة عائشة وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالرحيل، وذهبت السيدة عائشة تبحث عن القلادة، وجاء من كانوا يحملون هودجها، وظنوا أنها بداخل الهودج وهو المحمل الذي يحمل فوق الجمل، ونساء النبي صلى الله عليه وسلم رضوان الله تبارك وتعالى عليهن كن مستورات لا أحد ينظر إليهن، فحملوا الهودج وكانت خفيفة وظنوها بداخله، وانطلق النبي صلى الله عليه وسلم لأمر يريده الله تبارك وتعالى، وبعدما وصلوا إلى مكان ما افتقدوا عائشة رضي الله عنها، فلبثت السيدة عائشة في هذا المكان، فإذا برجل كان في مؤخر جيش النبي صلى الله عليه وسلم في أمر من الأمور يجد السيدة عائشة في مكانها فيحملها رضي الله تبارك وتعالى عنه، واسمه صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه، فلما رآها إذا به يتعجب ويقول: سبحان الله! وما زاد على ذلك، وأتى بجمله وأناخه، فركبت عائشة رضي الله عنها وأخذها وانطلق بها إلى المدينة، وإذا بالمسلمين يصلون وليست معهم عائشة، فتكلم أهل النفاق في ذلك، ورأس النفاق كان هذا المجرم عبد الله بن أبي بن سلول، والمفروض أن المسلمين قد تعلموا منه درساً في يوم أحد، فمثل هذا لا يصدق فيما يقول، فإذا به يشيع بين المسلمين أن السيدة عائشة أحدثت حدثاً، فإذا بالبعض يتكلم وهو يستخفي ويختبئ ولا يظهر ذلك إلا فيمن حوله، ولكن المسلمين تكلموا فيما بينهم حتى وصل الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم، وجرت قصة طويلة، وفي النهاية قام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر يقول للناس: (من يعذرني في رجل قال على أهل بيتي. كذا وكذا؟) يعني: من يعذرني إن فعلت فيه شيئاً، قال: (والله! ما علمت على أهلي إلا خيراً، برجل والله ما دخل بيتي إلا معي)، وعبد الله بن أبي بن سلول هذا من الخزرج، فقام الأوس وقالوا: (يا رسول الله! إن كان منا مرنا بأمرك فقتلناه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا بأمرك ففعلنا ما أمرت)، فإذا بالخزرج تأخذهم نعرة الجاهلية فقالوا: (كذبتم والله لا تقدروا أن تفعلوا شيئاً). وهذه مصيبة أيما مصيبة، فقد ابتلي النبي صلى الله عليه وسلم بأناس يتكلمون عن زوجته وأحب النساء إليه صلى الله عليه وسلم، ولما أراد أن يقف على المنبر من أجل أن يعذروه صلى الله عليه وسلم إذا بهم يتعرض بعضهم على بعض، وكادوا يقتتلون في المسجد، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يهدئهم ويرجع إلى بيته صلوات الله وسلامه عليه، ويستشير علياً رضي الله عنه، ويستشير أسامة، فيسأل علياً: ما هو رأيك في هذا؟ وتأخر الوحي عنه حتى يرينا صبر عائشة رضي الله عنها، وأن الابتلاء كان حتى مع النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا ابتلي إنسان بمثل ذلك صبر، قال تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى:43] فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يستشير أسامة، وكان يلقب أسامة بحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبوه زيد بن حارثة رضي الله عنه الذي كان في يوم من الأيام يدعى بـ زيد بن محمد، فلما نزل تحريم التبني كان زيد حب النبي صلى الله عليه وسلم، وابنه أسامة بن زيد حب، أي: حبيب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد رباه النبي صلوات الله وسلامه عليه هو وأباه. فلما استشار أسامة قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أهلك يا رسول الله! والله ما علمنا عليهم إلا خيراً، فاستشار علياً رضي الله عنه، فإذا بـ علي يتكلم الكلام الذي يليق بإنسان كبير عاقل عنده حكمة، حيث إن الوحي تأخر عنه، وأصابه غم في بيته وبين المسلمين، والأمر أسهل من ذلك أن ينتبه لأمر المسلمين ولأمر الدعوة، فقال علي: طلقها يا رسول الله! والنساء كثيرات، ودامت الوقيعة بين عائشة وبين علي فترة طويلة، إذ لم يكن في نفس علي شيء من عائشة ولم يكن يتهمها رضي الله تبارك وتعالى عنه، ولكنه رجل دولة، رجل ينظر إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس متفرغاً حتى ينظر لأمر البيت وأمر كذا، فلا بد أن ينتبه لأمر الدعوة، وربنا يقضي ما يشاء تبارك وتعالى، فلما استشارهما صلى الله عليه وسلم لم ينفذ رأيهما ولكنه استشار، واستشار واحدة أخرى كانت تخدم عائشة رضي الله عنها وكانت أمة وأعتقتها السيدة عائشة رضي الله عنها وهي بريرة رضي الله عنها، فاستشارها فقالت: (يا رسول الله! والله ما علمنا على أهلك إلا خيراً، غير أنها جارية حديثة السن كانت تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله، فهذه لما استشارها النبي صلى الله عليه وسلم قالت الحقيقة، فأقصى خطأ في عائشة أنها تعمل العجين وتنساه وتنام. فلما استشار النبي صلى الله عليه وسلم في النهاية سكت صلوات الله وسلامه عليه، وانتظر أمر الله سبحانه وتعالى، وكانت عائشة في هذا الوقت عند النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: ولم أجد منه ما كنت آراه، أي: لم يعد لطيفاً يدخل ويسلم علي ويقبلني، وعائشة غير منتبهة تماماً لما يدور حولها، ولما رجعت عائشة أصابها شيء من التعب، فأرادت في يوم من الأيام أن تخرج لقضاء حاجتها، فكانت معها أم مسطح بن أثاثة أحد الذين تكلموا في أمر السيدة عائشة رضي الله عنها، وكان رجلاً مؤمناً طيباً، ولكنه سمع فتكلم، فدعت عليه أمه، وحينما خرجت مع السيدة عائشة رضي الله عنها كادت تقع فقالت: تعس مسطح، فقالت عائشة رضي الله عنها: (لم تدعين عليه؟ فقالت لها: أو ما بلغك ما قال؟ قالت: وما قال؟ فحدثتها بالحديث، فرجعت مصابة بالحمى في بيت النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: أصابتني حمى بنافض، ورجعت إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم تشتكي الحمى، وتعبت تعباً شديداً، ثم قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: ائذن لي أذهب إلى والدي، فأذن لها وذهبت إلى أبيها وإلى أمها فسألتهما: هل سمعتم هذا الذي حدث؟ فأجابا: نعم، سمعنا بذلك، فقالت لها أمها تطيب قدرها: يا بنية! قلما كانت امرأة وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها، أي: أنت امرأة جميلة وعند النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يحبك، والناس من الضروري أن يتكلموا عنك، فلا تهتمي بهذا الشيء، فإذا بالسيدة عائشة تبكي وما انقطع دمعها، وأخبرت أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها قبل أن تذهب إلى أبويها، ويخبرها النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم ينزل وحي في ذلك، فينصح أهل بيته قائلاً: (يا عائشة! إن كنت ألممت بأمر فتوبي إلى الله فإن الله غفور رحيم) حتى قالت عائشة: فانقطع دمعي، إذ كانت تبكي قبل ذلك، فلما قال ذلك أخذها الغيظ من هذا، حتى النبي صلى الله عليه وسلم يقول ذلك! وهو يحبها ويعرف قدرها، قالت: فانقطع دمعي وقلت: والله لو أنني أخبرتكم بشيء أنا صادقة فيه والله يعلم أني صادقة تكذبونني فيه، وإن أخبرتكم بشيء أكذب عليكم فيه صدقتموني، أي: لو قلت لكم: أنه فعلاً حصل هذا الذي أشيع عني كنتم ستصدقون، وإن كنت سأصدق في القول فلا أحد سيأخذ بكلامي، ثم استأذنته وذهبت إلى أبيها وقالت: ولا أقول إلا كما قال أبو يوسف -قالت: ونسيت اسمه، نسيت اسم يعقوب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بسبب الغم الذي أصابها- لا أقول إلا كما قال أبو يوسف: فصبر جميل، أي: أصبر الصبر الجميل حتى يأتي أمر الله سبحانه وتعالى، ونزل القرآن وإذا بالله عز وجل يقول في كتابه العظيم: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11]. فالحكمة هنا: أن هذا خير لك يا رسول الله أن تبتلى فتصبر، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يصبر ليبين للناس أن العرض فيه حكم الله سبحانه وتعالى، والذين قذفوا نزل فيهم الحد بأن يجلدوا، وأفلت عبد الله بن أبي بن سلول لأنه ما أظهر هذا أمام الناس، إذ كان قوله في السر، فالذين أظهروه هم الذين أخذوا وأقيم عليهم الحد، وكان منهم مسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش أخت زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كانوا يتكلمون عن ذلك قالت السيدة عائشة عن زينب: حفظها الله بالورع، وأختها وقعت فيه، أما هي فلم تقع في ذلك مع أنها ضرتها، فقد كانت السيدة زينب بنت جحش ورعة لم تقع في ذلك. وعلم الله عز وجل المؤمنين الصبر بذلك، فصبر النبي صلى الله عليه وسلم، وصبر أبو بكر الصديق رضي الله تبارك وتعالى عنه، حيث إن عائشة هي ابنته، والذي كان يتكلم عنها هو ابن خالة أبي بكر الصديق مسطح بن أثاثة وكان رجلاً فقيراً، وكان أبو بكر ينفق عليه، ومع ذلك كان من أول من تكلم على السيدة عائشة هو مسطح، فأقيم عليه ال

من صفات المؤمنين الاستجابة لله والرسول

من صفات المؤمنين الاستجابة لله والرسول ذكر الله عز وجل من صفات المؤمنين صفة الاستجابة، أنهم يطيعون الله سبحانه، ويطيعون رسوله صلوات الله وسلامه عليه، وأنهم سريعون في الإجابة إذا دعوا إلى الله أو دعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله: (استجابوا) أي: أجابوا، كأن السين للاستدعاء، فاستدعوا من أنفسهم ذلك باستدعاء الله عز وجل إجابتهم، فبادروا وسارعوا إلى طاعة الله سبحانه وتعالى، وإلى طاعة الرسول صلوات الله وسلامه عليه، فهم المجيبون لله، ولمجيبون للرسول صلوات الله وسلامه عليه، والمنفذون لأمر الله وأمر الرسول عليه الصلاة والسلام. والاستجابة صفة عظيمة للمؤمنين، وقد جعل الله عز وجل في الأنصار أعظم ما يكون من الصفات صفة الاستجابة، ولذلك لما قدم وفد من الأنصار على النبي صلى الله عليه وسلم قبل هجرته وكان عددهم اثني عشر رجلاً، فدعاهم إلى دين الله عز وجل فاستجابوا، ورجعوا إلى قومهم فدعوهم، فالأنصار استجابوا للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم مهد الله للهجرة وجاء الأمر منه عز وجل وهاجر إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولما وصل إليهم كانت بيوت كثيرة من بيوت الأنصار قد دخلوا في الإسلام، إذ أرسل إليهم قبل ذلك مصعب بن عمير رضي الله عنه يدعوهم إلى الله، فما في الأنصار من بيت إلا ودخل فيه الإسلام، فكانت دعوة عظيمة من الأنصار رضوان الله عليهم، واستجابة عظيمة منهم لله، ولهذا مدح الله المؤمنين خاصةً الأنصار باستجابتهم لله سبحانه. فقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ} [الشورى:38] هذه سببها مخصوص، ولكن كما ذكرنا العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكل مؤمن يطيع الله عز وجل، وكل مؤمن يستجيب حالاً لكلام الله سبحانه ولكلام الرسول صلى الله عليه وسلم فهو داخل تحت هذه الآية.

من صفات المؤمنين إقامة الصلاة

من صفات المؤمنين إقامة الصلاة قال تعالى: (وأقاموا الصلاة) أي: داوموا عليها، وأدوها في أوقاتها التي شرعها الله سبحانه وتعالى، فصلوا لله واستقاموا على هذه الصلاة صلاةً صحيحة مقبولةً، صلاةً يرضى الله عز وجل عنهم وعنها، صلاةً تمنع وتنهى صاحبها من الفحشاء والمنكر.

من صفات المؤمنين الشورى فيما بينهم

من صفات المؤمنين الشورى فيما بينهم ومن صفاتهم: أن أمرهم شورى بينهم، هذه من أخص صفات المجتمع المسلم الذي يحبه الله سبحانه وتعالى، فليس في المجتمع المؤمن من ينفرد برأيه ويلزم الجميع بما يقول، فالله عز وجل مدح هنا المؤمنين ومدحهم في سورة آل عمران، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159] فلولا أن عندهم رأياً لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يشاورهم، فمدح الله عز وجل المؤمنين بأن أمرهم شورى بينهم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم يشاورهم في الأمر، ومعلوم أنه لن يشاورهم في الأحكام الشرعية؛ لأن الأحكام الشرعية ليست محل جدل ومناقشة ومحل شورى بين المؤمنين، إنما يشاورهم في أحكامهم الدنيوية، فإذا خرج للجهاد في سبيل الله عز وجل استشار المؤمنين في الطريق: أي طريق يسلكها؟ واستشار المؤمنين كيف يبدأ بأعدائه، وكيف يفعل بهم صلوات الله وسلامه عليه، ويستشيرهم في أمور من أمور الدنيا، أما أمر الدين فهذا وحي السماء ينزل بالأحكام لا مشاورة فيها لا للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا لأصحابه، فهو مأمور من ربه سبحانه بأن يفعل فيفعل، والمؤمنون مأمورون بأن يفعلوا فيفعلوا وينتهوا فينتهوا، فالشورى هنا في أمر دنياهم، يشاورهم النبي صلوات الله وسلامه عليه. وقد جاء عنه صلوات الله وسلامه عليه أنه كان كثير الاستشارة لأصحابه، وهذا من تواضعه عليه الصلاة والسلام، فهو الذي مدحه ربه بأنه لا ينطق عن الهوى، ولا يتكلم بهواه، وإنما يتكلم بوحي من الله سبحانه وتعالى، فلو أنه مدح المؤمنين بأن أمرهم شورى بينهم، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يشاورهم لجاء من بعده فقال: النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يستشير أحداً، فينفرد برأيه، ولكن بدأ بنفسه صلى الله عليه وسلم، وهو رسول الله الذي عصمه الله، والذي أيده ربه بالوحي من السماء، فإذا أخطأ في شيء ينزل القرآن ليصوب له: افعل كذا لا تفعل كذا عليه الصلاة والسلام. إذاً: فربنا يأمر المؤمنين بهذه الشورى بأمرين: الأول: القرآن، يقول تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159] فإذا كان النبي المعصوم عليه الصلاة والسلام يشاور في الأمر فغيره من باب أولى. والأمر الثاني: مدح المؤمنين بأن أمرهم شورى بينهم، وينفذ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بسنته عليه الصلاة والسلام، فيتعلم من بعده منه. ذكر الإمام البخاري في صحيحه باباً عن الشورى فقال: باب قول الله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38] و {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159] وأن المشاورة قبل العزم والتبين؛ {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159]. وهذا من جميل ترتيب الإمام البخاري لتراجم أبوابه رضي الله تبارك وتعالى عنه، فيذكر أن الله سبحانه قال: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38]، وقال: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159] وأن المشاورة قبل العزم، والمعنى: أني أشاور في أن أعزم على أمر، وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً آخر مع هذه الشورى العظيمة، وهي أن تستخير الخالق سبحانه وتعالى، إذاً: هناك استخارة واستشارة، فتطلب الخيرة من الله سبحانه، تطلب منه أن يختار لك وأن يلهمك الصواب، وأن يوفقك لتسير على ما يحبه سبحانه وتعالى، وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا هم أحدكم بالأمر فليصل ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم أني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر -ويذكر الأمر الذي يستخير فيه- خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاقدره لي، ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به). إذاً: تستخير الخالق سبحانه وتعالى وتستشير المخلوق؛ لأن هذا أمر الله عز وجل، قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159]، وقال: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38]، فإذا ظهر لك الأمر بناءً على الاستخارة، وبناءً على الاستشارة فاعزم عليه وتوكل على الله سبحانه، ولذلك الترتيب الجميل للإمام البخاري، يقول لك: وأن المشاورة قبل العزم والتبين: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159]. إذاً: هنا ربنا يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159]، أي: إذا أخذت أمراً وقطعته بشيء فامش في هذا الأمر وتوكل على الله سبحانه. يقول البخاري رحمه الله: فإذا عزم الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن لبشر التقدم على الله ورسوله، قال: وشاور النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم أحد. المقصود من كلام البخاري: أنه إذا استشار النبي صلى الله عليه وسلم فاتفقوا على أمر: نفعل كذا، ثم بدأ ينفذ النبي صلى الله عليه وسلم نتيجة هذه الشورى فليس لهم أن يرجعوا في كلامهم بعد ذلك، فلا بد أن يفعلوا ما استشارهم فيه صلى الله عليه وسلم وما وصلوا إليه من أمر.

تفسير سورة الشورى (تابع) الآية [38]

تفسير سورة الشورى (تابع) الآية [38] ذكر الله عز وجل مبدأ الشورى في كتابه الكريم، وأمر بها نبيه صلى الله عليه وسلم لما يترتب عليها من المصالح الدينية والدنيوية والأخروية، وهذه الشورى لها آدابها وأحكامها وحدودها، وليست بالشورى التي يتزعمها من رضعوا اليوم من لبان الغرب، فجاءوا يتشدقون بملء أفواههم أن شورى الغرب المستوردة هي من الإسلام، فشورى الإسلام معلومة ومحسومة لا تقبل التعديلات ولا التبديلات.

الشورى في الإسلام

الشورى في الإسلام الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. تكلمنا في الحديث السابق عن صفات المؤمنين الذين يستحقون من الله سبحانه وتعالى أن يعطيهم الخير، أو ما هو أخير من هذه الحياة الدنيا في الجنة من النعيم المقيم، {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [القصص:60]، والذين يستحقون الجنة هم المؤمنون الذين يتوكلون على ربهم، والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، والذين إذا ما غضبوا هم يغفرون، وكذلك هم الذين يقيمون الصلاة وأمرهم شورى بينهم، وذكرنا أن الشورى صفة تتعلق بهذا المجتمع المسلم، ومن الصفات العظيمة التي أمر الله عز وجل بها نبيه صلى الله عليه وسلم، ووصف المؤمنين بها ومدحهم عليها، فقال: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38]، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159]، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فكان يستشير أصحابه صلوات الله وسلامه عليه في أمور الدنيا، كالقتال مثلاً، حتى يعود المسلمين على مبدأ الشورى العظيم.

حديث: (المستشار مؤتمن) وما فيه من فوائد وعبر

حديث: (المستشار مؤتمن) وما فيه من فوائد وعبر ذكرنا أن النبي صلوات الله وسلامه عليه قال في الحديث: (المستشار مؤتمن)، وفيه قصة جميلة رواها الإمام مسلم والترمذي، وهذا لفظ الإمام الترمذي عن أبي هريرة، يقول: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم في ساعة لا يخرج فيها ولا يلقاه فيها أحد، فأتاه أبو بكر رضي الله عنه فقال: ما جاء بك يا أبا بكر؟! فقال: خرجت ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنظر في وجهه وأسلم عليه. فلم يلبث أن جاء عمر فقال: ما جاء بك يا عمر؟! فقال: الجوع يا رسول الله! -فقد كان فقيراً لا يجد شيئاً يأكله- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا قد وجدت بعض ذلك)، وكذلك أبو بكر ولكنه استحيا، ولذلك جاء في رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أخرجني الذي أخرجكما)، أي: إذا كان أخرجكم الجوع ولم تستطيعوا الجلوس فخرجتم إلى الطريق، فكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجه الجوع، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انطلقوا إلى منزل أبي الهيثم بن التيهان الأنصاري -وهو رجل من الأنصار كان كثير النخل والشاة، ولم يكن له خدم، بل كان يخدم نفسه بنفسه- قال: فلم يجدوه، فقالوا لامرأته: أين صاحبك؟ فقالت: انطلق يستعذب لنا الماء -أي: خرج يحضر لهم ماءً عذباً من بئر بعيد- فلم يلبث أن جاء أبو الهيثم بقربة يزعبها فوضعها، ثم جاء يلتزم النبي صلى الله عليه وسلم ويفديه بأبيه وأمه صلوات الله وسلامه عليه -فقد وجده خير ضيف أتى إليه- فأقبل إليه يحتضنه ويقبله ويقول: فداك أبي وأمي، ثم انطلق بهم إلى حديقته فبسط لهم بساطاً، ثم انطلق إلى نخلة فجاء بقنو فوضعه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أفلا تنقيت لنا من رطبه -أي: أنه أعطاهم قنواً مملوءاً بالبلح، من الأحمر والأسود، وفيه من كل الأنواع، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: لو أعطيتنا أقل من هذا- فقال الرجل الكريم: يا رسول الله! إني أردت أن تختاروا أو تخيروا من رطبه وبسره -وهذا من كرمه، فإنه لما رأى عليهم علامات الجوع أطعمهم الموجود، ولم يتأخر عليهم- فأكلوا، وشربوا من ذلك الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا والذي نفسي بيده من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة، ظل بارد، ورطب طيب، وماء بارد. فانطلق أبو الهيثم ليصنع لهم طعاماً، -وهذا بعد أن قدم لهم ما كان موجوداً؛ لشدة جوعهم- فلما انطلق قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تذبحن ذات در -أي: أنه صلى الله عليه وسلم نهاه أن يذبح شاة فيها لبن- فذبح لهم عناقاً أو جدياً -من الماعز- فأتاهم به فأكلوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل لك خادم؟ قال: لا، قال: فإذا أتانا سبي فأتنا)، فرد الجميل بالجميل، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أهدى إليه إنسان شيئاً يعطيه المثل والمثلين وأكثر من ذلك، فبما أن هذا الرجل قد أكرمهم فإن النبي صلى الله عليه وسلم سيعطيه عبداً من العبيد يخدمه في المكان الذي هو فيه. ومما ينبه عليه هنا أن بعض الناس ربما يضحك ممن يقدم للضيف شيئاً قبل الغداء، وقد يقول: إنه ما أعطاهم ذلك إلا لكي يأكلوا بعده ما سيقدمه لهم. فـ أبو الهيثم بن التيهان لما رأى عليهم الجوع أعطاهم شيئاً يأكلونه، ولو أنه ذهب وذبح الشاة وطبخها لتأخر عليهم وتركهم جياعاً، وهذا من أدبه وكرمه رضي الله عنه، والنبي صلى الله عليه وسلم يعرف كرم هذا الرجل، ولذلك قال له: (لا تذبحن ذات در)، فلما جاء سبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أتاه هذا الرجل، وقد أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعبدين لا ثالث لهما، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (اختر -أي: واحداً من الاثنين رداً لجميله الماضي- فقال أبو الهيثم للنبي صلى الله عليه وسلم: يا نبي الله! اختر لي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم -وهذا الشاهد من الحديث كله-: إن المستشار مؤتمن -أي: بما أنه قد استشار النبي صلى الله عليه وسلم فسوف يختار له الأفضل؛ لأن المشورة أمانة- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: خذ هذا فإني رأيته يصلي، واستوص به معروفاً). إن أبا الهيثم له حديقة كبيرة، ونخل كثير، وشاة وغنم كثير، وليس له خادم يخدمه، فهو يخدم نفسه بنفسه رضي الله تعالى عنه، فلذلك أحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيه ما ينتفع به، فالإنسان حين يهدي لآخر فلينظر الشيء الذي ينتفع به ويهديه له، وبعد أن أعطاه العبد أوصاه به خيراً، فانطلق أبو الهيثم فرحاً بالعبد الذي أخذه وذهب إلى امرأته وقال: هذا العبد أهدانيه النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبرها بأنه قال: (استوص به خيراً)، وكانت امرأة تقية، فقالت له: ما أنت ببالغ ما قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن تعتقه، وهذا من صلاحها وتقواها، فلم ترض أن ترتاح مع زوجها والعبد يعمل، فأعتق الرجل العبد واستمع لنصيحة امرأته الفاضلة رضي الله عنهما، وقال: هو عتيق، فهذه المرأة أشارت على زوجها بالصواب، وإن كانت تلك المشورة على نفسها. فعلى الإنسان أن ينصح ولو على نفسه، يقول الله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النساء:135]، فإذا نصح الإنسان لأخيه كما ينصح لنفسه وأدى الأمانة فلينتظر البركة من وراء ذلك، فهذا الرجل بعد أن أعتق العبد ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخبره بما صنع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل حين سمع منه ما فعل هو وامرأته: (إن الله لم يبعث نبياً ولا خليفة إلا وله بطانتان، بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالاً)، وقس على ذلك من بعدهم، فكل إنسان يملك أمراً من الأمور، ويعمل عملاً من الأعمال فحوله أناس، وله بطانة، منهم من يأمره بخير، ومنهم من يأمره بشر، فالذين يريدون أن يأكلوا منه ويأخذوا المال يأمرونه بالشر، أو بأي شيء، المهم أن يأخذوا من ورائه المال، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن يوق بطانة السوء فقد وقي)، فكأنه يمدح تلك المرأة التي جعلها الله بطانة خير، فقد أشارت عليه بالخير وأمرت بالمعروف. وهكذا فكل إنسان له بطانتان، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع، ومن الخيانة فإنها بئست البطانة)، فبئست البطانة أن يكون من حولك خونة، ينظرون في مصالحهم فقط، فيعنونك على الخطأ ولا يرشدونك إلى الصواب؛ حتى يأخذوا من ورائك المال، ويحصلوا منك على مصلحة. فالكبير والصغير من الناس له بطانة سوء تفسد ولا تصلح، وبطانة خير تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ومن يوق بطانة السوء فقد وقي). نسأل الله عز وجل أن يقينا بطانة السوء، وأن يقينا كل شر في الدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

من هم أهل الشورى

من هم أهل الشورى يقول ابن الجوزي رحمه الله: إنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه فيما لم يؤت به وحي، وعمهم بالذكر والمقصود أرباب العلم وأصحاب الرأي والحكمة. فقوله سبحانه: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159]، هذه صيغة عموم، والمقصد من هذا العموم: الخصوص، وليس العموم، والمعنى: شاور بعضهم وليس جميعهم، رجالاً ونساءً صغاراً وكباراً، ولكن اجمع أهل المشورة واستشرهم، ولذلك كان عمر رضي الله عنه يجمع إليه القراء وحفاظ القرآن فيشاورهم، وإذا أشار عليه أحد غيرهم بشيء قبله إذا كان فيه صواب، فقد أشارت عليه امرأة بشيء فقبل منها. فهنا النبي صلى الله عليه وسلم لما أمره الله عز وجل بالشورى قال: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159]، ففي يوم بدر قال: (أشيروا علي أيها الناس)، فتكلم أبو بكر، فأعرض عنه، وتكلم عمر فأعرض عنه، وهو يقول: (أشيروا علي أيها الناس) وهو يريد مشاورة الأنصار، فهم أهل المدينة وأصحاب البلد الذي فيه النبي صلوات الله وسلامه عليه. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المستشار مؤتمن)، وسيأتي هذا الخبر في قصة طويلة له صلى الله عليه وسلم. إن الإنسان حين يستشير إنساناً فقد ائتمنه على هذا الرأي الذي يقوله، وكذلك إذا استشارك إنسان فقد ائتمنك، وطلب منك الأمانة، فاحذر أن تشيره بما يكون فيه ضرر عليه، فهذه أمانة ولابد أن تؤدي، يقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58]، فإذا أعطاك إنسان سره، واستشارك وطلب منك الرد فقد أودعك أمانة، فرد إليه أمانته برأيك الصحيح. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المستشار مؤتمن)، معناه: أنه مسئول يوم القيامة عند الله عز وجل عن هذه الأمانة التي لزمه أن يردها، وأن يجيب على من استشاره. قال الحسن رضي الله عنه: إن الله تعالى لم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه لحاجة منه إلى رأيهم، ولكن أراد أن يعرفهم ما في المشاورة من البركة، ففي آراء الجماعة بركة، فأراد الله عز وجل أن يعرف المسلمين ذلك. وقال عمر رضي عنه: شاور في أمرك من يخاف الله، أي: لا تذهب إلى من يعاديك، أو يتمنى لك الشر لتستشيره، ولكن شاور من يخاف الله سبحانه وتعالى، ويعطيك الرأي السديد. قيل لرجل من قبيلة عبس: ما أكثر صوابكم! أي: الصواب عندكم كثير، فقال الرجل: نحن ألف -أي: عدد القبيلة ألف رجل- وفينا حازم واحد نشاوره في أمرنا -فإذا حدث للقبيلة أمر شاوروه وأخذوا بمشورته- قال: فصرنا ألف حازم. فعلى المرء ألا يهضم كلام العلماء ولا يستهتر به ولا يحتقره، وليأخذ بكلام العقلاء والحكماء، وليعمل به، فإن كثيراً من الناس يستشير عالماً في مسألة لا ليعمل أو يتفقه، فإن وافق الحكم هواه أخذ به، وإلا سأل آخر، فيطلب ما يوافق هواه، وهذا استهتار بدين الله عز وجل. كان علي رضي الله عنه يقول: رأي الشيخ خير من مشهد الغلام، أي: مشهده في القتال، فالغلام أقوى في الحرب، ولكن رأي الشيخ خير من مشهد الغلام؛ لأن الشيخ له خبرة في الحياة، وخبرة في الحرب، وقد خاض المعارك قبل ذلك وعرفها، فالأخذ برأي الشيخ أولى من الأخذ برأي الغلام، ومع ذلك فالغلام يؤخذ برأيه، ولذلك لما أراد عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه أن يدخل الشام وفيها الطاعون استشار جمعاً من المهاجرين، فاختلفوا عليه: فمنهم من يقول: ادخل، أتفر من قضاء الله سبحانه وتعالى؟ ومنهم من يقول: ارجع ولا تدخل، ثم استشار مشايخ قريش الكبار، فقال: ما رأيكم؟ فلم يختلف عليه أحد منهم، وقالوا: ارجع ولا تذهب، فإنك سوف تهلك نفسك وتهلك الجيش، فهذه آراء الشيوخ، فاقتنع بكلامهم ورجع. وكان من بركة هذه المشورة أن عبد الرحمن بن عوف كان غائباً، فلما رجع قال لـ عمر بن الخطاب: لقد أصبت فيما فعلت، وعندي في ذلك خبر، فحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا نزل الطاعون في أرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها، وإن لم تكونوا فيها فلا تدخلوها)، فحمد الله عمر رضي الله عنه، ورجع، وهذا هو رأي المشيخة، فلقد كانت آراؤهم أصوب؛ لما لهم من خبرة في الحياة، فإذا لم يكن عندهم سنة في أمر من الأمور فكروا وأعملوا الآراء، وهم أهل لأن يوفقوا، بسبب كبر سنهم، وكثرة عبادتهم، وخبرتهم في إدارة الأمور. يقول عبد الملك بن مروان: لأن أخطئ وقد استشرت أحب إلي من أن أصيب من غير مشورة، بمعنى: أنه ليس أحب إليه أن يصيب بدون أن يستشير، بل الأحب أنه لو أخطأ بعد أن استشار، وهذا كلام حكيم من رجل عالم، فلقد كان هذا الرجل يقرب العلماء ويحبهم، فكان إذا أخطأ وقد استشار لم يندم، وإذا أصاب من غير مشورة يدخله العجب، وهكذا فالإنسان عندما يصيب مرة بدون مشورة يفرح ويعجب بنفسه، لكنه إن أصاب هذه المرة فقد يخطئ مرة أخرى ويضيع نفسه ومن معه بعد ذلك، هذا ما قاله العلماء. ومن كلامهم أيضاً: من طلب الرخصة من الإخوان عند المشورة، ومن الفقهاء عند الشبهة، ومن الأطباء عند المرض، أخطأ الرأي وحمل الوزر وازداد مرضاً، وهذه من حكم العلماء، ومعنى (من طلب الرخصة من الإخوان) أي: أنه يشاور ويريد ممن يشاوره أن يسهل عليه ولا يعطيه الحقيقة؛ فينبغي على المرء ألا يطلب الرخصة عند المشورة، ولذلك قالوا: صديقك من صدقك لا من صدقك، وأخوك من وعظك لا من عذرك، وقالوا: أخوك من عذلك لا من عذرك، أي: أخوك حقيقة هو الذي يعظك ويعذلك، ويذكرك بأخطائك، أما الذي يعذرك دائماً، ولا يقول لك إذا أخطأت: أنت مخطئ، فقد غرك، وسوف تظل على الخطأ بدون أن يمنعك منه أحد، وإذا أتى إليك من ينصحك ويذكرك بأخطائك فقد تظن أنه يكرهك. وقولهم: صديقك من صدقك، بمعنى أن الصديق الحقيقي هو الذي يصدقك، يقول: ما يقول ولا يكذب عليك، ويقول لك الصدق، فإذا أصبت صوبك، وإذا أخطأت خطأك، فهو صادق معك، وليس صديقك من صدقك، فكلما تقول شيئاً يقول: أنت صادق فيه، مع أن كل الناس يقولون: إنك مخطئ، فمن صفات أهل الجاهلية أن تصوب المخطئ من أجل قرابة بينك وبينه، وهذه هي العصبية. وقولهم: ومن الفقهاء عند الشبهة، أي: أن يسأل الفقيه في أمر مشتبه فيه ويريد منه رخصة في هذا الأمر. وقولهم: ومن الأطباء عند المرض، أي: أن يمرض ويذهب إلى الأطباء فيمنعوه من بعض الأشياء، فيطلب منهم ألا يمنعوه من ذلك وأن يسهلوا عليه. فإذا صنع الإنسان ذلك فقد أخطأ الرأي، وحمل الوزر، وازداد مرضاًَ، طالما أنه يعمل بالشبهة، ويطلب من الفقيه أن يفتيه بجوازها، فيأثم الفقيه ويأثم هو أيضاً، ويحمل الوزر، ويزداد مرضاً.

اهتمام الإمام أحمد بالشورى

اهتمام الإمام أحمد بالشورى وللعلماء كلام عظيم في مبدأ الشورى، يقول ابن مفلح الحنبلي في الآداب الشرعية: فصل في التزام المشورة في الأمور كلها ومعنى قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159]. قال: قال المروزي: كان أبو عبد الله -يقصد الإمام أحمد رحمه الله- لا يدع المشورة، يقتدي بالنبي صلوات الله وسلامه عليه فيما أمره الله عز وجل به في قوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159]، يقول: حتى إنه كان ليشاور من هو دونه فهذا إمام من الأئمة العظام رحمه الله ورضي الله عنه، وهو الإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة، الفقيه العظيم العالم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، والذي حفظ من المتون ومن الأحاديث ما لم يكن يحفظ أحد مثله رحمه الله، فقد قالوا: إنه حفظ ألف ألف حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة والتابعين وغيرهم من أحاديث موصولة بأسانيد كثيرة، ومن أحاديث منقطعة، ومن آثار عن الصحابة رضوان الله تبارك وتعالى عليهم وغير ذلك مما حفظه، فكان فقيهاً عظيماً، وإماماً من أئمة أهل السنة، ابتلي فصبر ودافع عن دين الله عز وجل، حتى توفي وهو على منهج النبي صلى الله عليه وسلم، رضي الله عنه وأرضاه. فكان رحمه الله يتبع النبي صلى الله عليه وسلم في الشورى، حتى إنه ليشاور من هو دونه، وليس هذا عيباً أن الإنسان يستشير غيره، ويأخذ برأي غيره، ويستفيد منه، فلعله يكون عند نفسه مصيباً، فإذا استشار بان له الخطأ في رأيه، وهذا من عظمة الشورى. يقول: وكان إذا أشار عليه من يثق به، أو أشار عليه من لا يتهمه من أهل النسك من غير أن يشاوره قَبِل مشورته، وكان إذا شاوره الرجل اجتهد له رأيه، وأشار عليه بما يرى من صلاح، وكان يستشير الناس، فإن جاءه أحد من أهل الصلاح المتمسكين والمتعبدين يشير عليه برأي قبل رأيه وأخذ بنصيحته، وهو أيضاً إذا جاءه إنسان يطلب منه النصيحة والمشورة أشار عليه، واجتهد له برأيه رضي الله عنه ورحمه.

معنى الشورى

معنى الشورى يقول ابن الجوزي رحمه الله في قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159] معناه: استخرج آراءهم واعلم ما عندهم بالشورى، فإذا استشرت الناس فكل منهم سيدلي برأيه الذي عنده، فتستفيد من آرائهم إذا رأيت، ولعلك تجد رأياً من آراء الناس أصوب مما تقوله أنت، فلا تحتقر لأحد رأياً حتى تسمع ما يقول. يقول الزجاج: يقال: شاورت الرجل مشاورة وشواراً، وما يكون عن ذلك اسم المشورة، ويقال لها المشورة، يقال: فلان حسن الصورة والمشورة، أي: حسن الهيئة واللباس، وحسن المشورة أي: صاحب رأي. قالوا: معنى شاورت فلاناً أي: أظهرت ما عندي وما عنده، يقال: وشرت الدابة إذا امتحنتها فعرفت هيئتها في سيرها -فهذا من معاني كلمة شار- قال: وشرت العسل إذا أخذته من مواضع النحل، وعسل مشار، أي: مأخوذ من أماكن النحل. فالمشورة هي عرض الآراء على الناس، أو على أهل الشورى، وأخذ هذه الآراء والنظر فيها.

الهدف من أمر الله نبيه بالشورى

الهدف من أمر الله نبيه بالشورى يقول ابن الجوزي: اختلف العلماء رضي الله عنهم لأي معنىً أن الله عز وجل أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه، مع كمال رأيه وتدبيره صلوات الله وسلامه عليه، بمعنى: هل كان محتاجاً لآرائهم صلى الله عليه وسلم وقد كمل علمه وحلمه، وكملت أراؤه عليه الصلاة والسلام؟ يقول ابن الجوزي: قيل: ليستن به من بعده، وهذا صحيح، فالله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:1]، وليس معنى ذلك أنه لا يتقي الله صلوات الله وسلامه عليه، فيأمره الله عز وجل بذلك ليتقوا الله وليأتمروا بأمره، ولا يستنكفوا عن عبادته. وقيل مثل ذلك في مقام الوعيد: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65]، وحاشاه أن يقع في الشرك صلى الله عليه وسلم وأن يكون من الخاسرين، وقد أخبره الله بقوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:2]، والنبي صلى الله عليه وسلم مستحيل أن يشرك وقد عصمه الله سبحانه، ولكن إذا قيل للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك فالأمة أولى بذلك، فعلى المسلمين أن يخافوا على أنفسهم من الشرك. فالنبي صلى الله عليه وسلم استشار أصحابه حتى يستن به المؤمنون. وقيل: لتطييب قلوبهم حين يستشيرهم، ولو استشار الإنسان إنساناً آخر في أمر من الأمور فسوف يحس ذلك المستشار أن له وضعاً واعتباراً واحتراماً، فيقول رأيه وهو طيب النفس، حتى ولو كان أقل منك، ولن تأخذ برأيه، ولكنك قد أرحت باله وطيبت نفسه باستشارتك له. فالشورى مبدأ عظيم تطيب به نفوس الناس، وإذا حدث خطأ بعدها فلن يقول أحد لآخر: أنت انفردت بالرأي والحكم، ولكن سيقال: هذا رأي الجميع والخطأ منهم جميعاً.

فوائد الشورى

فوائد الشورى قال ابن الجوزي: من فوائد المشاورة: تطييب القلوب، ونظير هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (البكر تستأمر في نفسها)، فالبكر تستأذن فإذا كانت صغيرة فلأبيها عليها ولاية إجبار، فيجبرها أن تتزوج، ولكن مع ذلك يطيب خاطرها بالمشاورة؛ لأنه يستأمرها، ويأخذ رأيها، حتى وإن كان له ولاية إجبار في سن معينة، ولكن لابد أن يستشيرها ويأخذ رأيها حتى يطيب قلبها، وتطيب نفسها. كذلك من هذا الباب كما يقول الشافعي: مشاورة إبراهيم عليه السلام لابنه حين أمر بذبحه، فقد رأى في المنام أنه يذبح ابنه، ولا بد أن ينفذ ذلك، فرؤيا الأنبياء وحي من الله عز وجل، فكونه يقول لابنه: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102]، ليس معنى ذلك أن إسماعيل لو رفض الذبح سيترك إبراهيم أمر الله، وإنما لتطييب القلب والموافقة على أمر الله، والرضا بقضائه وقدره، فقال الابن الكريم لأبيه الكريم: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102]. ومن فوائد المشاورة: أن المشاور إذا لم ينجح أمره علم أن امتناع النجاح محض قدر، فلم يلم نفسه، ولو أن إنساناً استشار جماعة في المسالة الفلانية، وكل أدلى برأيه، واتفقت الآراء على عمل معين، وبعد ذلك لم يتحقق المطلوب، فسوف يقول: هذا قضاء الله وقدره، بعد أن استخرنا الله واستشرنا الناس. ومن فوائد الشورى أيضاً: أنه قد يعزم على أمر ويتبين له الصواب في قول غيره، فقد يعزم على شيء، ثم يستشير الناس، فيشيرون عليه بترك ذلك الشيء لما سيترتب عليه من المضار، وقد يعزم على نكاح امرأة، ويستشير الناس في ذلك فيشيرون عليه بأن هذه المرأة لا تصلح لك، وفيها من الصفات ما لا يناسبك، ثم يتبين له الصواب في رأيهم بعد ذلك، وقس على ذلك غيره. يقول علي رضي الله عنه: الاستشارة عين الهداية، وقد خاطر من استغنى برأيه، والتدبير قبل العمل يؤمنك من الندم. وهذا كلام حكيم من علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فإذا استشار الإنسان غيره وصل إلى الصواب في الأمر، وقد خاطر من استغنى برأيه، أي: أن الإنسان الذي يحسب نفسه أنه يفهم كل شيء، فيعمل ما يريد بدون أن يستشير الناس؛ فإنه قد يصل في النهاية إلى مأزق خطير لا يقدر على الخلاص منه، فيتمنى لو أنه استشار أولئك الذين احتقر آراءهم. قال رضي الله عنه: وما استنبط الصواب بمثل المشاورة، بمعنى: ما استدرك أو ما استخرج الصواب، يقال: استنبطت الماء: أي: استخرجته من الأرض، واستنبط الصواب بمعنى: استخرجه من قلوب الناس وعقولهم وتفكيرهم، فعلم الإنسان أن يشاور حتى يصل إلى الصواب. قال: ولا حصنت النعم بمثل المواساة وهذا كلام رجل حكيم، ومعناه: إذا أردت أن تحافظ على النعم التي أعطاك الله إياها فتصدق منها وأد زكاتها، قال: ولا اكتسبت البغضاء بمثل الكبر، والمعنى: إذا تواضعت للناس أحبك الناس كلهم، وإذا استكبرت عليهم أبغضك الناس كلهم.

تفسير سورة الشورى [36 - 38]

تفسير سورة الشورى [36 - 38] وصف الله عباده المؤمنين الذين أعد لهم جنات النعيم بأنهم يتوكلون على الله في جميع أمورهم، وأنهم يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، وأنهم يغفرون عند غضبهم، وأنهم استجابوا لأوامر ربهم، وانتهوا عما نهاهم عنه خالقهم، وأنهم يقيمون الصلاة ومما رزقهم الله ينفقون، وأنهم ينتصرون ممن ظلمهم إن كان الخير في الانتصار، وإلا صبروا وعفوا إن كان في ذلك صلاح وخير.

بيان صفات المؤمنين المذكورة في سورة الشورى

بيان صفات المؤمنين المذكورة في سورة الشورى الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الشورى: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى:36 - 39]. هذه صفات من صفات المؤمنين الذين أخبر الله عز وجل أنه أعد لهم ما هو خير مما في هذه الدنيا من زينة ومال وغير ذلك، قال تعالى: ((فَمَا أُوتِيتُمْ)) أي: مهما أوتيتم أو كل ما أوتيتم من هذه الحياة الدنيا فهو متاع قليل كما قال تعالى: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الشورى:36].

فضل الصدقة

فضل الصدقة الصدقة عظيمة جداً، وقد جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث في فضل الصدقة التي تخرجها لله سبحانه، والأجر الذي يكون عند الله، منها ما روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا الطيب)، أي: من تصدق بنحو تمرة أو ما يشابهها، كأن أعطيت فقيراً ثمرة أو ثمن ثمرة، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (بعدل تمرة)، أي: بأقل ما وجد، فالله عز وجل يعلم أن هذه إمكانياتك التي تقدر عليها، فيقبل منك بكرمه وفضله وجوده ذلك. قال رسول الله: (فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل)، الفلو: المهر الصغير، فهو يشبه نماء الصدقة بالحصان الصغير الذي تعلفه وتطعمه وتسقيه إلى أن يصير كبيراً، فكذلك الصدقة التي تصدقت بها فإنها كانت تمرة بسيطة فإذا بالله ينميها لك سبحانه، فيعطيك عشر أمثالها، أو سبعمائة ضعف فيها، أو ما شاء الله عز وجل من أجر عليها، وعندها تصير التمرة جبلاً عظيماً من الحسنات بفضل الله وكرمه. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سبق درهم مائة ألف درهم)، فالدرهم كان لإنسان فقير، كل ثروته درهمان فتصدق بدرهم، فهو أنفق نصف ثروته، والآخر له مال عظيم كثير فتصدق من عرض ماله بمائة ألف، فله أجر عظيم عند الله على المائة ألف، ولكن من نظرة أخرى فإن الأول تصدق بنصف ثروته، والثاني تصدق بشيء من ماله، أو بعشر ثروته، أو غير ذلك، فكأن الدرهم سبق المائة الألف، ولكل أجر وخير عند الله سبحانه وتعالى. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة: (ما نقص مال من صدقة)، وهذا وعد من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يعدنا لأن الله أوحى إليه بذلك، وقد ذكر في حديث آخر أنه قال: (ثلاث أقسم عليهن وذكر منها: وما نقص مال من صدقة). فثق في وعد الله عز وجل على لسان النبي صلى الله عليه وسلم أنك إذا أنفقت مالك فإنه لا ينقص بسبب الصدقة، وإنما ينميه الله ويبارك فيه سبحانه وتعالى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً). والنظرة في هذه الأحاديث كلها نظرة دنيوية ونظرة أخروية، فنظرة الدنيا هي أنك إذا أنفقت من مال الله أتاك الناس ونصحوك بإبقاء مالك فلعلك تحتاجه، فتوقن بأن مالك لن ينقص، بل سيزيد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما نقص مال من صدقة). والنظرة الدنيوية الأخرى هي العفو، وذلك حين يعفو الإنسان عمن ظلمه، فنظرة الناس والأهل والأصدقاء أن هذا العفو ضعف من الإنسان. أما نظرة الآخرة فهي أنك قد تعززت بذلك، فيزيدك الله عز وجل بهذا العفو عزاً عنده سبحانه وتعالى وعند الخلق، فتصير عزيزاً حتى وإن تكلم عليك الناس، ولكن الله عز وجل يجعل لك عزة على الناس بسبب ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً).

من صفات المؤمنين الإنفاق في سبيل الله

من صفات المؤمنين الإنفاق في سبيل الله ومن صفات المؤمنين قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى:38] أي: إن من صفاتهم الإنفاق في سبيل الله سبحانه وتعالى، وسواء قلت النفقة أو كثرت فهي بحسب ما يعطي الله سبحانه وتعالى الإنسان، قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7] وقال: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق:7]، فالإنسان الغني ينفق من هذا الغنى ومن هذه السعة، قال تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق:7] أي: ضيق عليه رزقه: {فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق:7] أي: مما أعطاه الله من مال قليل. وهناك نفقات واجبة على الإنسان كأن ينفق نفسه، أو على زوجته، أو على أولاده، أو على أبيه وأمه الذين يحتاجون إلى ذلك، فهذه نفقات أمر الله عز وجل بها، فهي نفقة وهي صدقة تؤجر عليها، وهناك نفقة إذا كنت غنياً وتملك نصاباً فتخرج زكاة مالك التي أمرك الله عز وجل بها وقال: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43]، فتنفق على الفقراء والمساكين، وعلى من يحتاجون، فالإنسان ينفق مما آتاه الله، قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] والله طيب لا يقبل إلا طيباً، وقد أمرك بالإنفاق من الطيب فقال: {مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة:267] وقال: {مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:57]، وقال: {وَلا تَيَمَّمُوا} [البقرة:267] أي: لا تتوجهوا إلى {الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة:267] فلا تنفق الشيء الرديء فتقول: هذا لله، ولكن أخرج لله ما يرضى ربك عنك بإنفاقك إياه، وانظر إلى ابني آدم لما أراد كل منهما أن يعرف منزلته وأيهما أفضل؟ فقيل لهما: قربا قرباناً، فهذا تقرب إلى الله بأجود ما يجد من بهيمة الأنعام التي عنده، وذاك نظر إلى حقله وبستانه وقال: الله غني عن هذا، فنقى أردأ شيء مما عنده وقال: هذه لله، فإذا بالله يقبل ما كان طيباً وصالحاً، فقبل من هذا ولم يقبل من هذا؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً. فلا تيمموا إلى الخبيث تنفقون منه وإذا أعطاكم أحد هذا الخبيث فمستحيل أن تقبلوه، قال تعالى: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ} [البقرة:267] أي: إذا أعطاكم أحد هذا الخبيث فلن تأخذوه إلا إذا خدعكم إنسان فأعطاكموه. فالذي ينبغي في النفقة هو أن تنفق ما تحب أن تأخذه، أو ما تحب أن يرزقك الله عز وجل مثله وأمثاله. إذاًً: من صفات المؤمنين الإنفاق في سبيل الله، قال الله عز وجل: {يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً} [البقرة:274]، أي: أنهم لا ينفقون في النهار فقط لأجل الرياء، بل هم ينفقون بالليل والنهار، بل من وجدوه محتاجاً أعطوه من مال الله، وينفقون سراً وعلانية، فإذا كانوا في العلانية أرادوا أن يقتدي الناس بهم، وإذا كانوا في السر أنفقوا فكان أعظم في الأجر، فهم ينفقون في كل أحوالهم بالليل والنهار في السر والعلانية.

التوكل على الله

التوكل على الله وقال تعالى: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الشورى:36] أي: الذي عند الله هو الأخير والأبقى الذي يناله من فيه هذه الصفات، والتي هي كما قال تعالى: {لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الشورى:36] أي: المؤمنون الأتقياء الذين يثقون في الله عز وجل ويتوكلون عليه ولا يكلون أمورهم إلى غيره سبحانه وتعالى، والذين يستيقنون بما أعد الله عز وجل للمؤمنين من فضل وكرامة ورحمة، الذين يستيقنون أن ربهم هو الرزاق الكريم، وأنهم ما خلقوا إلا لعبادته سبحانه، وأنه يرزقهم من فضله سبحانه.

اجتناب الكبائر والعفو عن الناس

اجتناب الكبائر والعفو عن الناس ومن صفاتهم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى:37]. أي: من صفاتهم اجتناب الكبائر والفواحش، وإذا وقعوا في شيء منها تابوا إلى ربهم سبحانه وتعالى، ورجعوا إليه، وإذا غضبوا على أحد من الخلق أساء إليهم فهم يتذكرون ما عند الله من فضل لمن عفا فيعفون ويصفحون ويسامحون ويتجاوزون، فالله يعاملهم بما عاملوا به الخلق، فلما عاملوهم بالتجاوز والإحسان فالله عز وجل يحسن الله إليهم، ويتجاوز عنهم سبحانه وتعالى.

الاستجابة لله وإقامة الصلاة

الاستجابة لله وإقامة الصلاة ومن صفات هؤلاء أيضاً كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38] أي: أنهم استجابوا لله سبحانه وتعالى لما دعاهم إليه واستجابوا لما قاله النبي صلوات الله وسلامه عليه، فلا يتلكئون، ولا ينكصون على أعقابهم، ولا يترددون في قبول ما أمرهم الله عز وجل به. ومنها: أنهم صلوا الصلاة التي يرضى عنهم بها ربهم سبحانه وتعالى، فقوله: ((وَأَقَامُوا الصَّلاةَ)) أي: اعتدلوا في صلاتهم، وأحسنوا فيها، واستيقنوا بالأجر من الله فاستراحوا بها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وهو القدوة والأسوة يقول: (أرحنا بها يا بلال)، ويقول: (وجعلت قرة عيني في الصلاة). فكذلك المؤمنون يستريحون بالصلاة لقربهم من ربهم سبحانه وتعالى، فهم أقاموا الصلاة وواظبوا عليها، وواظبوا على صلاة الجماعة فلم يتركوها، وإذا دعوا إليها فنادى المنادي: حي على الصلاة، حي على الفلاح، استجابوا وأسرعوا ملبين نداء ربهم مستيقنين بالفضل من الله سبحانه وتعالى.

المشاورة في الأمر

المشاورة في الأمر ومن صفاتهم قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38] فالمؤمنون يشاور بعضهم بعضاً في أمورهم، ولا يستبد أحدهم بالأمر دون غيره، والشورى تكون في أهل الرأي، فلا يستشار الحمقى والمغفلون، وأهل الاستهتار والفسوق، وإنما الشورى تكون لأهل الدين والتقوى، ولأهل الخبرة والحنكة، ولأهل الفن الذي يسأل صاحبه فيه. فالذي يجيد القتال والجهاد في سبيل الله عز وجل يستشار في أمور الجهاد والقتال في سبيل الله، والذي يعرف بيع الناس وشراءهم وما يقومون به من معاملات، فيحتاجون لأن يسعر عليهم الحاكم، أو يضع عنهم أشياء من أرباحهم، أو غير ذلك، فيستشير أهل المعرفة والتخصص في هذا الشيء. وأهل الاقتصاد الذين يفهمون أحوال المسلمين، وأحوال سوق المال الذي عند المسلمين يستشارون في ذلك، أما حدود الله سبحانه وتعالى فيتكلم عنها العلماء والفقهاء وأهل الحديث؛ لأنهم أصحاب المعرفة في دين الله عز وجل، أما أن يترك أهل العلم، وأهل الفقه، وأهل الدين، ويستشار أهل الفسق، وأهل الرقص والغناء، فهذا بمنأى عن التعقل. فلو أن إنساناً جاء وجمع مجموعة من الناس لا يفهمون شيئاً في أمر البيع والشراء وقال لهم: أنا أريد أن أعمل تجارة فبماذا تشيرون علي؟ لقيل له: بم يشيرون عليك فيها؟ فهم لا يعرفون كيف يشيرون عليك، وإذا أشاروا عليه أخطئوا فيها؛ لأنها ليست مهنتهم، وليست عملهم، ولقيل له: إذا أردت أن تفتح محلاً وتتاجر في شيء فاسأل أهل الصنعة في هذا الشيء. وإذا أردت أن تبني عمارة من العمارات فاسأل المهندس والمقاول اللذين يفهمان في ذلك. فالشورى تكون لمن يفهم ويجيد وعنده تخصص في ذلك، بحيث يكون أميناً في دينه، خبيراً في هذا الشيء، فقد يكون الإنسان أميناً ولكن لا خبرة له بهذا الشيء، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يستشير أصحابه أهل مشورته كـ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ولقد كانا كالوزيرين للنبي صلى الله عليه وسلم يستشيرهما في أموره صلى الله عليه وسلم. فكان كلما حدث شيء جمع له المسلمين الذين يفهمون في ذلك وأخذ بآرائهم صلوات الله وسلامه عليه، ففي يوم الخندق استشار النبي صلوات الله وسلامه عليه المسلمين ماذا يصنعون مع الكفار إذا قدموا؟ فأشار عليه سلمان رضي الله تعالى عنه بحفر خندق بينهم وبين الكفار؛ لأن عدد الكفار القادمون عليهم عدد ضخم جداً، والأمر أصعب من أن يخرجوا لقتالهم، فيفعل النبي صلى الله عليه وسلم ما قال سلمان. وكان النبي بنفسه عليه الصلاة والسلام يحفر معهم الخندق، وينشد مع من ينشد من المسلمين قائلاً: اللهم لا خير إلا خير الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة. فالغرض أن الاستشارة تكون لأهل العلم في الأمر الذي يستشارون فيه، فلا يجوز أن يستشير الحاكم في أحكام الله ودينه سبحانه إنساناً لا خبرة له في ذلك، أو يستشير إنساناً فاسقاً في دينه، بعيداً كل البعد عن كتاب الله وعن سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

التواضع وفضله

التواضع وفضله الأمر الثالث الذي يقسم عليه النبي صلى الله عليه وسلم هو: (وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله)، أي: أن الإنسان المتواضع ينكر الناس عليه ويقولون له: لماذا تلبس لباس الفقراء؟ ولماذا تمشي على قدميك؟ ولماذا؟ ولماذا؟ فينظرون إليك على أنك هاضم لنفسك، ولكن النظرة عند الله عز وجل أنك إذا تواضعت لله يرفعك الله سبحانه وتعالى، ولا تظن أنك سترتفع في الدنيا بتطاولك على الناس واستكبارك عليهم، بل هذا الترفع على الخلق يجلب من الناس العداوة والبغض، وهو أسرع طريقة لأن يكرهك الناس، وأسرع طريقة لأن يحبك الناس هي أن تتواضع لهم، وأن توافقهم في الصواب؛ ولذلك كانوا يسألون قيس بن عاصم: لماذا يحبك الناس؟ فقال: لو امتنعوا عن شرب الماء لامتنعت عنه، ومستحيل أن يمتنع أحد عن شرب الماء، وليس مقصده ذلك، وإنما المقصد عدم المخالفة. وإياك أن تنظر لنفسك وترفعها، فما رفع الإنسان نفسه إلا وضعه الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك تواضع، فإذا كنت في مجلس مع الناس وقيل لك: اجلس، فاختر المكان المتواضع لتجلس فيه، ولا تختر أعلى الأماكن وتجلس فيها، فإذا فعلت ذلك لعل الناس يتركونك مرة، ولكن لن يتركوك دائماً في ذلك، وقد نهاك النبي صلى الله عليه وسلم أن تجلس على مكرمة إنسان إلا بإذنه، فإن استضافك أحد عنده في بيته، وأدخلك غرفة الجلوس، فلا تجلس حتى تسأل عن مكان جلوسك؛ فلعلك تجلس في مكان لا يرغب رب الدار أن تجلس فيه. فهذه آداب عظيمة يعلمناها الإسلام العظيم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا عبد أجلس كما يجلس العبد، وآكل كما يأكل العبد)، صلوات الله وسلامه عليه. وقد رفعه الله سبحانه وتعالى في الدنيا والآخرة وكرمه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] وقالت عائشة رضي الله عنها: (كان خلقه القرآن). والتواضع: هو أن ترى نفسك وضيعة، وأنها أقل من الغير، فبهذا يرفعك الله سبحانه وتعالى، أما إذا نظرت إلى نفسك بأنها أعلى من الغير وأحسن منهم، فيأبى الله أن يدوم لك هذا النظر، فيريك أنك أقل من الناس ويبتليك بمرض، فيجعلك تحتاج للدكتور وتحتاج للناس، فتجد نفسك قد احتجت لهؤلاء الذين كنت تستغني عنهم. والله عز وجل جعل بعضكم يحتاج إلى بعض، فأنت اليوم معك مال ولا تدري بكوارث الأيام ومصائبها؛ لذلك تواضع لله. ولا تستكبر بوظيفتك، فإن الوظيفة لا تدوم، واعلم أنك مهما عاملت به الناس أثناء غناك أو وظيفتك فإنهم سيعاملونك حين فقدك، فإن تواضعت لهم رفعوك، وإن تكبرت عليهم تركوك وأهملوك، وانظر إلى سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه، فلقد كان يخرج بين الناس ويمشي بينهم، وينام في الطريق، ولقد نام مرة تحت شجرة، فأتى رجل من بلاد الفرس يبحث عن عمر فدل على مكانه تحت الشجرة، فلما أتى إليه ووجده نائماً قال: عدلت فأمنت فنمت يا عمر. فالإنسان الذي يعدل في الدنيا يحبه الخلق، وفي الآخرة يجعله الله سبحانه وتعالى على منبر من نور، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن المقسطين على منابر من نور يوم القيامة).

فضل الصدقة

فضل الصدقة نرجع لحديث النفقة، روى الإمام البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال رجل: لأتصدقن بصدقة!)، وانظر إلى هذا الرجل كيف يلزم نفسه بالصدقة في وقت تأتي النفس فتجبن صاحبها وتبخله، فهذا الرجل قال: (لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق)، إذ إنه خرج في الظلام فوجد رجلاً فأعطاه تلك الصدقة، ورجع هذا المنفق إلى بيته، ورجع الآخر إلى بيته، ثم قام يحدث الناس بما جرى له في الليل، (فأصبح الناس يتحدثون: تصدق على سارق، فقال: الحمد لله على سارق) فحمد الله سبحانه على ذلك، ولم يمنعه ذلك من التصدق مرة أخرى فقال: (لأتصدقن بصدقة، فخرج بالليل فوضعها في يد امرأة) فإذا بها امرأة زانية. فأخذت المرأة المال، ولما أصبحت تحدثت بهذا الشيء، (فقيل: تصدق الليلة على زانية، فقال: اللهم لك الحمد على زانية، ثم خرج الليلة الثالثة وتصدق بصدقة فوضعها في يد غني ثم ذهب يحدث بها، فتحدث الناس: تصدق الليلة على غني، فقال الرجل: الحمد لله على سارق، وعلى زانية، وعلى غني، فإذا بهذا الرجل ينادى فقيل له: إن الله سبحانه وتعالى يقول: أما صدقتك على سارق فلعله أن يستعف عن سرقته). فالله له حكمة سبحانه وتعالى في ذلك، منها أن هذا الذي أخذها وسخر عليك اليوم، غداً سيتوب ويتصدق كما تصدقت أنت عليه، فقد سننت له سنة حسنة وأرجعته عما كان فيه من ذلك. قال: (وأما الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها، وأما الغني فلعله يعتبر فينفق مما أعطاه الله)، أي: كأن الله يقول: لم نضيع لك هذه الصدقة، بل لك أجر الصدقة وأجر السنة الحسنة التي سننتها في هؤلاء ليعملوا مثلك بعد ذلك فيكون لك أجر هؤلاء. وانظر إلى الذكرى كيف يذكرهم الله سبحانه فيقول: {ومَمَا رَزَقْنَاهُمْ} [البقرة:3] فالمال مال الله سبحانه وتعالى، فكأن الله يقول: نحن رزقناك فأعطن فلست الذي خلقت المال، ولست الذي اكتسبته بجدك وتعبك، وإنما ذلك من توفيق الله عز وجل لك، ورزق الله سبحانه وتعالى لك. روى الإمام أحمد من طريق يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير حدثه أنه سمع عقبة بن عامر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل امرئ في ظل صدقته يوم القيامة). أي: أن الصدقة ظل، وهذا الظل ظل الله سبحانه وتعالى، وليس هناك ظل يوم القيامة إلا ظل الله، في يوم مقداره خمسين ألف سنة، والناس قائمون كما قال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] وتدنو الشمس من رءوس الخلائق، ويكون هناك حر شديد، وفي الدنيا يغمى على الإنسان من شدة الحر، أما في الآخرة فلن يغمى عليه، والإنسان في الدنيا إذا غرق يموت، أما في الآخرة فإنه لا يغرق في عرقه، فموقف القيامة موقف عصيب وعظيم، والإنسان المؤمن يظله الله عز وجل في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فإذا كنت من أهل الصدقة المكثرين فإن الله عز وجل يظلك في ظل صدقتك، ويكون هذا الظل في الموقف كله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى يفصل بين الناس)، أو قال: (حتى يحكم بين الناس)، وراوي الحديث هو يزيد بن أبي حبيب يحدث عن أبي الخير واسمه مرثد بن عبد الله عن عقبة بن عامر، وعقبة صحابي، قال يزيد بن أبي حبيب: وكان أبو الخير لا يخطئه يوم إلا تصدق فيه بشيء ولو كعكة أو بصلة. أي: أنه كان يتصدق بأي شيء وجده، فإن وجد كعكة تصدق بها، وإن وجد بصلة تصدق بها. وهذا الحديث رواه ابن خزيمة، وذكر عن مرثد أنه كان أول أهل مصر يذهب إلى المسجد، وما رأيته داخلاً المسجد قط إلا وفي كمه صدقة، إما مال، وإما خبز، وإما قمح، حتى ربما رأيته يحمل البصل فأقول: يا أبا الخير! هذا ينتن ثيابك، فيقول يا ابن حبيب! أما إني لم أجد في البيت شيئاً أتصدق به غير هذا، إنه حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ظل المؤمن يوم القيامة صدقته). وأنت أيها الأخ! تصدق بما استطعت من الصدقة، فاللقمة تجعلها في فم امرأتك صدقة، والنفقة على عيالك صدقة، والتبسم لأخيك صدقة، وتعين الرجل على دابته فتحمله عليها أو تحمل له متاعه عليها صدقة، وأن تصلح بين متخاصمين صدقة، وأن تلقي السلام على المسلم صدقة، فتصدق فإن المؤمن في ظل صدقته يوم القيامة. وروى البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد). أي: أن أحب أموال أبي طلحة إليه حديقة عظيمة جميلة اسمها بيرحاء، وكانت أمام مسجد النبي صلوات الله وسلامه عليه، وهذه الحديقة كان فيها بئر من الآبار العذبة الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يشرب منها. قال أنس: (فلما أنزلت هذه الآية: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92]) أي: أنه لما سمع هذه الآية فإذا به يفكر، ويرى أن البر اسم جامع لجميع خصال الخير، وحتى أكون باراً وأجمع خصال الخير فلن يتوفر لي ذلك حتى أنفق مما أحب من المال، فذهب للنبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! إن الله تبارك وتعالى يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] وإن أحب أموالي إلي بيرحاء). وانظر إلى قول الله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا} [آل عمران:92] (من) هنا تبعيضية، أي: من بعض ما تحبون، فهذا يحب هذه الحديقة فيخرج منها شجرة، يخرج منها ثماراً، فـ أبو طلحة قال: أنا أحب هذه الحديقة، فهي كلها لله سبحانه وتعالى. فقال: (إنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: بخ، ذاك مال رابح)، و (بخ) كلمة تقال عند الثناء والمدح والتعجب لما فعل هذا الإنسان من مكرمة عظيمة، وقوله: (ذاك مال رابح)، أي: أن تجارتك مع الله رابحة عظيمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين). وهذا من رحمة النبي صلى الله عليه وسلم الكريم ومن حنانه؛ إذ لم يأخذها ويوزعها على الناس بنفسه، بل جعل أبا طلحة نفسه هو الذي يوزعها، وهذا أحب للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الناس سيحبونه لذلك، فإذا أعطى الأقربين أحبه الأقربون، ولن يزالوا يذكرون له ذلك ويمدحونه، ويثنون عليه، ويدعون الله له، فأحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون هو الذي يفعل ذلك بنفسه حتى يؤجر عليها الأجر العظيم، فقال: (أرى أن تجعلها في الأقربين، قال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه). نسأل الله عز وجل أن يعيننا على كل ما يحبه ويرضاه. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الشورى [39 - 43]

تفسير سورة الشورى [39 - 43] من صفات المؤمنين التي ذكرها الله تعالى في سورة الشورى: الانتصار ممن ظلمهم؛ ليردعه ذلك عن الاجتراء على أعراض المسلمين وأموالهم، ولكن الأفضل هو العفو والصفح عن الظالم، وهذا لا يكون في الظالم الذي يستحلي ظلمه، وإنما يعفى عمن ترك ظلمه ورجع وتاب إلى الله تعالى.

تفسير قوله تعالى: (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون)

تفسير قوله تعالى: (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون) الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. يقول الله عز وجل في صفات المؤمنين الذي لهم الدار الآخرة: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ * وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى:39 - 41]. البغي: هو الظلم، فمن صفات المؤمنين أنهم إذا ظلمهم أحد فهم ينتصرون إذا كان قصاصاً أو نحو ذلك، ولكنهم قد يفضلون العفو على ذلك، فلهم أن ينتصروا. ولذلك كان السلف يحبون الإنسان ينتصف من ظالمه، وإذا كان قادراً عفا عنه، والسبب في ذلك: أنهم كانوا يخافون من تمادي الظالم في ظلمه، فالإنسان الوقح الذي يريد ظلم غيره لو سكت عنه كل الناس، وعفا عنه كل الناس لتمادى في بغيه وفي ظلمه. فالإنسان المستكبر والظالم الباغي الذي يأخذ أموال الناس لا بد من التصدي له، ولا ينبغي العفو عن مثل هذا. قال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) فكأن الأصل أن تنتصف وأن تنتصر ممن يظلمك، فإذا وجدت منه تراجعاً وندماً على ما فعل، فيكون العفو أولى عن مثل هذا الإنسان. والآية في هذه السورة مكية، فهي في المشركين وفي غيرهم، ومن صفات المؤمنين: أنهم ينتصرون من الجميع، من المشركين ومن غير المشركين، سواء كان الذي ظلمه كافراً أو مسلماً. ويقول العلماء: إن الله سبحانه وتعالى ذكر الانتصار في معرض المدح، وذكر العفو في معرض المدح، فمدح الانتصار والعفو.

متى ينبغي للمسلم ألا يعفو عمن بغى عليه

متى ينبغي للمسلم ألا يعفو عمن بغى عليه وبعد ذلك قال: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ)، وهذا في حالتين -كما يقول ابن العربي المالكي رحمه الله-: الحالة الأولى: أن يكون الإنسان باغياً معلناً بالفجور، كأن يكون قاطع طريق، ويفرح بهذا الشيء، فيجب أن تنتصر منه ولا تعطه حتى وإن وصل الأمر إلى أن تقتله أو يقتلك، ولذلك جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله: (أرأيت إن أراد رجل أن يأخذ مالي؟ قال: فلا تعطه، قال: فإن قاتلني؟ قال: فقاتله، قال: فإن قتلني؟ قال: فأنت شهيد، قال: فإن قتلته؟ قال: فهو في النار)، فتعلمنا الشريعة الحكيمة العظيمة أن المؤمن لا يتهاون في حقه، ولا يكون التهاون عن ضعف، فلو تركت الناس يتطاولون عليك لأوشك أن يسود السفلة والمجرمون، ومثل هذا يجب أن تأخذ حقك منه في أي صورة من صور أخذ الحق: أن تشكوه للحاكم، أو تشكوه للقاضي؛ ولتمنعه بذلك من ظلمك فلك هذا الشيء، فمدح الله عز وجل من ينتصر في هذا المقام، وكان السلف رضوان الله تبارك وتعالى عليهم يحبون ذلك. قال إبراهيم النخعي: إنهم كانوا يكرهون للمؤمنين أن يذلوا أنفسهم، فيجترئ عليهم الفساق، فلو أن فاسقاً مشى يستهزئ بالمؤمن ويشتمه، والمؤمن الأول يسكت عنه، والثاني يسكت عنه، والآخر يسكت، فسيشيع بين الناس الاستهزاء بكتاب الله وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم وبالدين كله. لكن لو أن المسلم أخذ حقه فوقف لظالمه يدافع عن دين الله وعن حقه، سيخاف الفساق، يذكر أن ثمانية أفراد ركبوا في القطار وأخذوه من محطة إلى محطة، وفتشوا جميع الركاب، وأخذوا كل أموال الركاب، وآذوا الركاب، والعجيب أنه قطار كامل يُفعل به هذا الشيء من ثمانية أفراد فقط! ويعفو المسلم إذا خاف الظالم من الله عز وجل، وندم على ما فعله، ورجع عن الذي هو فيه، ففي هذه الحالة اعف واصفح عنه، لكنه إذا ظل على ما هو عليه من إجرام وظلم، فانتصر منه بأي صورة من صور الانتصار. لذلك قال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون للمؤمنين أن يذلوا أنفسهم، فتجترئ عليهم الفساق، وهذا فيمن تعدى وأصر على ذلك، وهذه الصورة الأولى: الإنسان الباغي المعلن الفجور، الوقح، والذي يجهر بوقاحته، والذي يؤذي الصغير والكبير، فالانتقام منه أفضل.

متى يستحب للمسلم أن يعفو عمن بغى عليه

متى يستحب للمسلم أن يعفو عمن بغى عليه الصورة الثانية: في الإنسان الذي يقع ذلك منه فلتة، وليس من عادته أن يعمل هذا الشيء، فوقع في ظلم وندم على فعله؛ لأنه ليس من عادته، فالعفو عن مثل هذا أفضل، وهذا قد يجعله يستحي ويخجل مما عمله، فالفرق بين الصورتين: أن الأول مجرم، فهذا يستحق أن يؤاخذ، ولا يعفى عنه؛ لأنه يتطاول على الجميع، ولا أحد يردعه، وينطبق عليه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى:39]. لكن الحالة الثانية: أن فعله هذا فلت منه وليست عادته، فيسن في مثل ذلك الصبر والعفو؛ لعله يراجع نفسه، ولعله يستحيي مما صنعه.

تفسير قوله تعالى: (وجزاء سيئة سيئة مثلها)

تفسير قوله تعالى: (وجزاء سيئة سيئة مثلها) ثم قال سبحانه: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى:40] هذه سيئة وهذه سيئة، ولكن الفرق بينهما أن الأولى جرم من صاحبها، فهي سيئة ساءت غيره. والثانية: عقوبة لهذا الظالم الذي يستحق العقوبة، وسميت الثانية سيئة كمشاكلة لفظية، وأن فيها إساءة للظالم فعومل بما يسوؤه ويزعجه ويؤدبه ويردعه، (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) أي: جزاء الإثم والإجرام: العقوبة، والعقوبة حسنة وليست سيئة، لكن بالنظر من ناحية المجرم، فحين وقعت العقوبة عليه أساءت إليه وقبحته أمام الناس. وهنا معنى المشاكلة اللفظية: أن اللفظة هي اللفظة، ولكن تختلفان في المعنى، فجزاء الإساءة من الإنسان أن يعاقب على إساءته، وتأول العلماء هذه الآية على أن للإنسان أن يأخذ ماله ممن أخذ منه هذا المال بأي صورة من الصور، طالما أن هذا مالك بعينه، ولست متأولاً فيه، فلو أن إنساناً وجد حقيبتك وأخذها ثم خبأها فقلت: هات الحقيبة التي أخذتها، فقال: لن أعطيك شيئاً، وأنت عرفت المكان الذي خبأها فيه، فكسرت المكان وأخذت الحقيبة، فيجوز لك ذلك؛ لأن المال مالك بعينه ولست متأولاً. وصورة التأويل التي يقع فيها الظلم: إنسان يعمل عند شخص، واتفق معه على أن يعطيه عشرة جنيهات في اليوم، فوجد أنه يبذل شغلاً أكثر مما يبذله غيره، وغيره يأخذ مالاً أكثر منه، فتأول لنفسه وقال: أنا أستحق أن آخذ مثلما يأخذون، إذاً سأستخرج من ماله، وهذا لا يجوز؛ لأنك متفق معه أصلاً على مقدار معين، فلا يجوز لك أن تأخذ أكثر منه إلا إذا أعطاك صاحب العمل. فتأول العلماء على أن للمظلوم أن يأخذ حقه ممن ظلمه، ولو عنوة، ولو بالقوة، ولو بالشكوى، ولو بأن يمد يده ويأخذ هذا المال، إذا لم يترتب على ذلك مفسدة عظيمة، وفي هذا نظرتان: نظرة أنك عند الله مظلوم فلك هذا الشيء. ونظرة أخرى أنك تعامل على الظاهر، فالقاضي ليس مطلوباً منه أن يتفهم موقفك وبأن هذا مالك. قال تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) فهذا في القصاص، فإذا ضرب إنسان إنساناً وجرحه أو قطع عضواً من أعضائه، فجزاء السيئة القصاص إذا كان مما يقتص فيه. فإذا عفا أولياء المظلوم أو من أسيء إليه فلهم الأجر على عفوهم، والعفو -كما ذكرنا- يكون عن الإنسان الذي حدثت منه السيئة فلتة، ليس مجرماً أصلاً، أما إذا كان محارباً لدين الله ولرسوله، فلا يعفى عن مثل هذا الإنسان قال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة:33]. قال تعالى: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ) أي: ترك القصاص، وأصلح بين الظالم والمظلوم فله أجره عند الله سبحانه وتعالى. وذكرنا أن القصاص ليس فيه مقابلة القصد بالقصد، فلو أن إنساناً قال لإنسان: يا ابن كذا! فسب أباه، فيرد عليه ويقول: لا، أنت ابن كذا، فهذا خطأ، فليس لك أن تقتص في مثل ذلك، وإنما هذا يعزر بما يليق به من ضرب أو سجن أو بما يحكم الحاكم فيه. قال تعالى: (فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) فالظالم بغيض إلى الخالق سبحانه وتعالى، كما أن الناس لا يحبونه، فالله سبحانه وتعالى يبغضه، والله أعد له نار جهنم التي أعدت للظالمين.

تفسير قوله تعالى: (ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل)

تفسير قوله تعالى: (ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل) قال سبحانه: {وَلَمَنْ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى:41] فالذي ظلم فانتصر ممن ظلمه، وانتصف منه، وأخذ منه (فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) أي: ليس عليهم حرج، ففي هذا المقام أنت مخير بين العفو ولك الأجر، أو أن تنتصر من الظالم ولا شيء عليك، وإذا انتصرت بشرط أن تأخذ حقك وليس أكثر من ذلك. فللإنسان أن يستوفي ذلك بنفسه، أو أن يطلب من الحاكم أن يأخذ له حقه.

تفسير قوله تعالى: (إنما السبيل على الذين يظلمون الناس)

تفسير قوله تعالى: (إنما السبيل على الذين يظلمون الناس) قال تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى:42]. (السبيل) هو العقوبة بأن يعاقبه الله عز وجل، قال: (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ) أي: لكم عليهم سبيل وطريق، ولكم عليهم أن تقوموهم وأن تقيموا عليهم حدود الله سبحانه وتعالى؛ لأنهم ظلموا. قال تعالى: (وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ) أي: يطلبون البغي وهو الظلم (بِغَيْرِ الْحَقِّ) أي: بغير وجه حق. قال تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة:91] وهذه الآية التي ذكرها الله في سورة التوبة، وذكر في هذه السورة: (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ) فهنا مقابلة، فالإنسان الظالم لكم عليه سبيل، بينما الذي يحسن أو ينتصر ويأخذ حقه فهذا محسن، فلا سبيل على من يأخذ حقه.

حكم تحليل من أخذ مالك أو انتهك عرضك

حكم تحليل من أخذ مالك أو انتهك عرضك اختلف العلماء كما يقول القرطبي رحمه الله في التحليل، وكان يقول باستحبابه، أي: عندما يأتي إليك إنسان ويقول لك: حللني أي: سامحني فيما فعلت فيك، فهل يستحب لك أن تحلله؟ كان سعيد بن المسيب لا يحلل أحداً من عرض ولا مال. فإذا كان الإنسان من النوع الذي اعتاد السرقة، فكلما سرق ذهب إلى الشخص المسروق وطلب منه السماح، فهذا لا يستحق المسامحة، من باب الردع له؛ لأنه إذا وجد أن لا أحد يريد أن يعفو عنه، سيخاف من الله عز وجل. لكن ليس كل الناس بمثل هذه الصورة، فهناك أشخاص يتوبون، فما المانع أن يحلل الإنسان أمثالهم؟ لذلك كان سليمان بن يسار ومحمد بن سيرين يحللان من العرض والمال، فإذا أخذ إنسان منهم مالاً وذهب يتسامح منهم، كانا يحللانه في ذلك. أما الإمام مالك فهو وسط بين القولين، فكان يرى أنه يحلل من المال دون العرض، فإذا أخذ إنسان منك مالاً، وجاء يقول لك: أنا أخذت منك هذا المال فسامحني، ورد لك المال فقال: لا بأس بأن تحلله، أما العرض فقد سب وانتهى الأمر، ففي أي شيء يحلله الإنسان؟ ووجهة نظره: أنه لو اعتاد البذاءة، وكل من سبه سامحه سيتمادى، فمثل هذا لا يستحق؛ لأنه سيعتاد على انتهاك أعراض الناس، والكلام البذيء الفاجر الفاحش. والأمر واسع في ذلك، والأولى في الجميع أن يعفو الإنسان ويصفح كما أمر الله سبحانه وتعالى، فصارت المسألة ثلاثة أقوال: الأول: لا يحلله بحال وهو قول سعيد والثاني: يحلله وهو قول القرطبي، والثالث إن كان مالاً حلله، وإن كان عرضاً لم يحلله وهو قول الإمام مالك رحمه الله. قال ابن العربي: ووجهة النظر أن الرجل إذا غلب على أداء حقه، فمن الرفق به أن يتحلله، أي: إنه قد يكون أخذ منك مالاً في يوم من الأيام ثم تاب إلى الله وليس معه مال، فجاء يقول لك: سامحني لقد سرقت منك عشرة جنيهات في يوم من الأيام، أو اختلست منك مبلغاً، والذي جعله يفعل هذا أنه خاف من الله، ورجع عن هذا الذنب، فاعف عنه، ولا تتركه معذباً في الذي صنعه. أما الإنسان الذي تطاول في العرض، فأصبح لسانه بذياً أي: متعوداً على هذا، فمثله لا يعفى عنه، لكن إذا تاب إلى الله، وأصلح فيما بينه وبين الله، وتغير حاله، وتغير أدبه، فلا مانع من أن يعفى عنه ويستر عليه. روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي اليسر حديثاً وفيه: أنه استدان منه إنسان مالاً، فذهب ليطالب بالمال، وقد كاتب عليه ورقة؛ لأن الله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282]، فخرج إليه ابنه فقال: أين أبوك؟ قال: إن أبي حين رآك ذهب فاختبأ في غرفة أمي، فنادى أبو اليسر عليه وقال: اخرج إلي فقد علمت أين أنت، فخرج إليه الرجل، فقال له: ما حملك على أن اختبأت مني؟ أعطني المال الذي سلفتك، فقال الرجل: خشيت والله أن أحدثك فأكذبك، وأن أعدك فأخلفك، وكنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت معسراً، يعني: أنت صحابي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ما الذي يلزمني أن أخرج وأكذب عليك، أو أعطيك وعداً تدعو علي، فأنت صحابي فاضل، لا أستطيع أن أكذب عليك، فقال أبو اليسر لهذا الرجل: آلله! يعني: أسألك بالله هل الذي تقوله صحيح؟ قال: والله! أنا صادق في الذي أقوله، قال: فأتى بالصحيفة التي كتب فيها الدين ثم قطعها، ومحا ما فيها، ثم قال: إن وجدت قضاء فاقض، وإلا فأنت في حل.

تفسير قوله تعالى: (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور)

تفسير قوله تعالى: (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور) قال تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى:43] فالإنسان الذي يصبر ويعفو ويتجاوز عما فعل فيه، (إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) أي: من عزائم الأمور، وكأن الآية فيها شيء مضمر، وهذا مثلما نقول: {أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35] فالرسل كلهم أفاضل، وكلهم قاموا بأمر الله عز وجل، وبلغوا رسالات الله، وأمر الله عز وجل، لكن كان هناك من كانوا أقوى من غيرهم، وأشد عزيمة من غيرهم، فكأن الإنسان الذي يعفو ويصبر أشد عزيمة من غيره، وقوي العزيمة، صابر على أمر الله، وهو إنسان قوي شديد في أمر الله، ومتمسك بدين الله، (إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) أي: متمسك بما يحبه الله سبحانه وتعالى، وما يرتضيه من عباده أن يفعلوه. إذاً: الإنسان له أن ينتصر ممن ظلمه، وله أن يعفو عمن ظلمه بحسب حال هذا الظالم، وإذا كان الظالم يستحلي الظلم فلك أن تنتصر منه، وعلى ذلك ينزل الحديث الذي جاء في قصة السيدة عائشة مع السيدة زينب رضي الله تبارك وتعالى عنهما. فالسيدة زينب بنت جحش بنت عمة النبي صلوات الله وسلامه عليه، من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، كانت تفتخر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت تفتخر أن الذي زوجها من النبي صلى الله عليه وسلم هو الله من فوق سبع سماوات، تقول: زوجكن أباؤكن وزوجني الله من فوق سبع سموات، ولها الحق أن تفتخر بمثل هذا. ولكن قد يحدث من الغيرة بين نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يكون محموداً، ولذلك جاءت إلى السيدة عائشة رضي الله عنها، والنبي صلى الله عليه وسلم عندها، وكأنها تغيضت منها أن النبي صلى الله عليه وسلم عندها، فقالت لها كلاماً شديداً موجعاً، فسكتت السيدة عائشة، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول للسيدة عائشة: (دونك فانتصري) وهذا المقام مقام العفو، فعفت عائشة وسكتت، ولكن لما استطالت الأخرى في ذلك، ردت عليها فأفحمتها، قالت: فجف ريقها في حلقها، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على أن نرضيه بأقوالنا وأفعالنا ونوايانا، وأن يتقبل منا سبحانه وتعالى. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الشورى [44 - 48]

تفسير سورة الشورى [44 - 48] ذكر الله عز وجل في هذه الآيات من سورة الشورى أن من أضله الله فلا هادي له، كما ذكر حال الظالمين في يوم القيامة عندما يرون العذاب ولا محيص لهم منه، وأمر الله عز وجل عباده بأن يستجيبوا لأوامر الله وأوامر رسوله، وبين الله تعالى أن طبيعة الإنسان إن أصابته حسنة فرح بها، وإن أصابته سيئة فإنه يقنط من رحمة الله تعالى وييأس.

الإيمان بالقضاء والقدر

الإيمان بالقضاء والقدر الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الشورى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ * وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ * وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ * اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ * فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ} [الشورى:44 - 48]. في هذه الآيات يخبرنا الله سبحانه وتعالى عن قضائه وقدره، وأنه بيده مقاليد كل شيء، فيهدي من يشاء وهذا من فضله سبحانه، ويضل من يشاء بعدله سبحانه وتعالى، قال جل شأنه: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]، وقال أيضاً: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه الإيمان بالقضاء والقدر، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأن الله بيده مقاليد كل شيء، وكان صلى الله عليه وسلم يحمد ربه سبحانه ويقول: (اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت ولا مضل لمن هديت، ولا مقرب لما أبعدت ولا مباعد لما قربت، ولا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت). وإذا أراد الله شيئاً فيستحيل أن يكون على غير ما أراده سبحانه وتعالى، فالله قدر كل شيء، وكتب عنده كل شيء، وجعل العباد في هذه الدنيا يعملون ويجازيهم الله على أعمالهم، وهو أعلم بحالهم أيستحقون الجنة أو يستحقون النار؟ خلق خلقه فقال: (هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي). والصحابة رضوان الله عليهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان الأمر قد فرغ منه، فهؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار ففيم العمل إذاً؟ فأرادوا أن يجادلوا في القضاء والقدر، فقطع عنهم هذا الأمر، فالقضاء والقدر ليس للجدل فيه مكان وإنما يجب الإيمان به، أن تؤمن أن الله على كل شيء قدير، وأنه قدر مقادير كل شيء سبحانه وتعالى، وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ومن مشيئته أن جعل للعباد مشيئة، قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30] أي: ما تريدونه وما ستفعلونه قد علمه الله، ولكن جعلكم تكتسبون، فتجازون على ما اكتسبتم. وقال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ} [البقرة:286] أي: من خير، {وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286] من شر، فالإنسان يكسب ويكتسب، يكسب لنفسه الحسنات ويكتسب عليها السيئات، فاكتساب العبد محل الجزاء. فالإيمان بالقضاء والقدر عند أهل السنة وسط بين من يقول: العبد مجبور، ومن يقول: ليس هناك قدر والله لا يعلم إلا بعد عمل العبد، فأهل السنة وسط بين الاثنين، فهم يقولون: الله يشاء، والله يعلم سبحانه وتعالى، وما تشاءون إلا أن يشاء الله. والله كلف العباد وجعل لهم الاختيار فيما يكتسبون، وقد علم الله سبحانه ذلك وكتبه عنده وقدره، فيبقى على العبد أنه يكتسب بكامل حريته، فيكون مختاراً مريداً فاعلاً آخذاً تاركاً معطياً مانعاً، فيرى نفسه تفعل ذلك ولا أحد يجبره. فالعبد إذا أمسك كوباً من الماء فإنه مختار فيه، فإن شاء شرب الماء وإن شاء لم يشربه، وهذا الاختيار هو الذي يسأل الله عز وجل عنه ويحاسب عليه يوم القيامة، فشرب الماء قد يكون مباحاً أو واجباً عليه حتى لا يهلك نفسه، وقد يكون آثماً في وقت الصيام ويبطل صومه بذلك. فهنا ثلاث حالات في اختيار العبد في شرب الماء؛ ففي حالة يجب عليه، وفي حالة يباح له، وفي حالة يحرم عليه، ويبقى العبد مختاراً حين يفعل ذلك، فإذا قال العبد: الله أجبرني على ذلك، فإنه يكون كاذباً فيما يقول، فإن الله لم يجبره، وإنما شاء سبحانه وتعالى، وأعطاه مشيئة يختار بها ما يريد فيحاسبه الله على ما اختاره، فيحاسبه على كسبه من خير أو شر.

تفسير قوله تعالى: (ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده)

تفسير قوله تعالى: (ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده) قال الله تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى:44]. قوله: (وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ) أي: من يخذله الله سبحانه وتعالى فإنه في ضلال، فالإنسان المجرم الذي اتبع الشيطان وترك دين الله سبحانه وتعالى، فإنه مخذول قد خذله الله سبحانه، ومن يهده الله فلا مضل له، قال تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي} [الأعراف:178] فهذا قد أنعم الله عز وجل عليه بذلك. فالله سبحانه بيّن لجميع عباده حتى لا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، أنزل الكتب من السماء، وأرسل الرسل يهدون الخلق إلى الله سبحانه، والإنسان المؤمن جعل الله عز وجل قلبه مفتوحاً وعقله مفتوحاً منيراً، فأبصر واختار وعرف الطريق الصواب، والإنسان الكافر أظلم قلبه بكفره وبجحوده بالله. فإن المعاصي تنكت على القلب نكتاً سوداء حتى يسود القلب، فلم يضئ له الله عز وجل ما أظلم من قلبه، فيبقى في ظلمة لا ينتفع بما جاءه من النور. والمؤمن أراد الطاعة وأحب ربه سبحانه فأنار الله له قلبه، فإذا به يبصر وينتفع بما جاء من عند الله، فالأول: لم يعطه الله عز وجل نوراً، والثاني: أعطاه الله عز وجل نوراً، فمن أظله الله من الذي يهديه بعد ذلك؟ فمن كان قلبه قد أظلم لم يجعل الله عز وجل فيه ما يضيء له بسبب ما اقترفت يداه. ومعنى قوله تعالى: (فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ) أي: من سيلي أمره؟ والولي القريب هو الذي يتكفل بأمور الإنسان ويقوم عليها ويدبر له حاله، فهذا من الذي يليه بعد الله سبحانه وتعالى إذا أضله الله فحجب عنه النور؟ فلا هادي لهذا الإنسان وليس له من يلي أمره فيدخله في الإيمان. ومعنى قوله تعالى: (وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ) أي: حين رأوا العذاب في قبورهم حين كانت قبورهم عليهم حفرة من حفر النار، وكذلك حين رأوا العذاب في يوم القيامة فهم يجأرون ويصرخون، قال تعالى: {ويقولون هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى:44]، أي: هل إلى مرد نرد مرة ثانية إلى الدنيا؟ وهل إلى مرجع إلى الدنيا من سبيل؟ وهل هنالك وسيلة نعتذر بها لنرجع إلى الدنيا؟ فليس هنالك رجوع، فإن الحياة الدنيا مرة واحدة، ثم بعدها الوفاة ثم البعث والجزاء في دار الخلود إما جنة وإما نار، فهذه هي الحياة الباقية. والله عز وجل قضى أن لا رجوع إلى الدنيا، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99 - 100] ولو أعاد الله الكفار إلى الدنيا فإنهم سيعملون ما حرم الله عليهم، فالله يعلم بتقلبات قلوب عباده، فيعلم جحود من جحد وكفر من كفر وإيمان من آمن، ويعلم أن الكفار لو عادوا إلى الدنيا فإنهم سيرجعون إلى الكفر والجحود، قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:28] أي: لكاذبون فيما يدعون. وقوله تعالى: (وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ) أي: في وقت الوفاة، عندما تنزل عليهم ملائكة من نار جهنم والعياذ بالله، معهم مسوح من النار لتأخذ أرواحهم فيها، فعندما يرون هؤلاء الملائكة إذا بهم من شدة الرعب والذعر تتفرق أرواحهم في أجسادهم فتسحبها الملائكة وتخرجها بقوة، فيتمزق منها العروق والعصب كالشوك الكثير الشعب في الصوف المبلول. فإذا وضعت صوفاً مبلولاً وبداخله أشواك مختلفة ومتفرعة وحاولت أن تسحب الشوك فإن الصوف يتمزق، والشوك يتكسر، فهؤلاء تنزع أرواحهم بهذه الطريقة، تتفرق في أجسادهم من شدة الرعب فتسحب وتؤخذ بقوة، ويقال لها: أيتها النفس الخبيثة! كنت في غضب من الله فاخرجي إلى غضب من الله سبحانه وتعالى. فهذا في الفجار، وهذا أول ما يكون مما يرون من العذاب، ثم إذا حملوا على النعش وذهب بهم إلى قبورهم فإن روح كل منهم تقول: يا ويله! إلى أين تذهبون به؟ لا يريد أن يصل إلى القبر؛ لأنه يعرف ما الذي ينتظره هنالك، فسوف ينزل إلى القبر فيجده حفرة من حفر النيران والعياذ بالله. فهذا العبد يقول: (هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ)، و A لا، ليس هناك مرد مرة ثانية، فإذا قامت الساعة فإن الكافر أو الفاجر في قبره عندما يفتح له باب إلى النار فيرى ما ينتظره هنالك فإنه يقول: رب لا تقم الساعة، رب لا تقم الساعة. والمؤمن يرى النعيم الذي هو فيه وهو في القبر ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقال له: هذا منزلك من الجنة، فيقول: رب أقم الساعة، كي أعود إلى أهلي ومالي في الجنة، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل جنته ورحمته سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل)

تفسير قوله تعالى: (وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل) قال الله تعالى: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنْ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ} [الشورى:45] أي: إذا قامت القيامة فإنه يعرض الذين كفروا على النار، قال تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف:20] أي: ما أعطيناه لكم من طيبات الدنيا فإنكم ضيعتموها في معصية الله، وفي الكفر والشرك بالله، وفي طلب الملاذ المحرمة، {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} [الأحقاف:20] أي: الإهانة والتحقير والخلود في النار والسعير بسبب ما كنتم تصنعونه في الأرض من استكبار، فهذا الجزاء بسبب ما عملتم من معصية الله، واستحققتم هذا الذي نالكم، فيعرضون على النار ويعذبهم الله سبحانه وتعالى فيها ويقول لهم: {أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأنعام:30]. فتأمل منظر هؤلاء عندما يعرضون على النار، فلو أن إنساناً أوقد له نار وقيل له سنقذفك فيها، ثم يدفع إلى النار وهو ينظر إليها ويرى العذاب أمامه وسيدخل فيه، فهذا مثل هيئتهم التي يصورها القرآن العظيم. وقوله تعالى: (خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ) أي: في غاية الذل وهم يساقون إلى نار جهنم، فلا ينفعهم الخشوع الآن فقد كانوا في الدنيا مستكبرين، واستعلوا بأنفسهم على خلق الله، وأفسدوا في الأرض وابتغوا فيها الفساد، فلا ينفعهم في هذا اليوم الخشوع. وقوله تعالى: (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) انظر إلى منظر هؤلاء وهم ينظرون من طرف خفي، تأمل إنساناً مصبوراً موثوقاً مكتفاً يسوقونه للإعدام، والسياف آخذ بالسيف وسيضربه على رقبته، فهو ينظر إلى هذا السيف من طرف خفي، لا يقدر أن يفتح عينه بكاملها؛ لأنه مرعوب، فهو يسارق النظر إلى السيف متى سينزل عليه؟ وكذلك عندما توضع نار أمام إنسان ويدفع إليها فإنه من شدة الخوف ينظر إليها من طرف خفي، فلا يقدر أن يفتح عينيه لينظر إليها، فكيف به وقد أعماه الله عز وجل، قال تعالى: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} [طه:102] وهكذا الكفار قد أعمى الله عز وجل أعينهم فاستشعروا بهذه النار بقلوبهم وبأبدانهم، ومنهم من ينظر إليها ويسارقها ويراها، قد غارت أحداقهم بداخل محاجرها، واختفت من شدة الذل وما يرونه من العذاب أمامهم.

الخسران الحقيقي هو يوم القيامة

الخسران الحقيقي هو يوم القيامة وقوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا) فالمؤمنون الآن يتكلمون، فقد كانوا في الدنيا مكتوماً على أنفاسهم لا يتكلمون من هؤلاء الفجرة الكفرة المجرمين، فلما أدخل المجرمون النار فرح المؤمنون برحمة رب العالمين عليهم وحمدوه على ذلك، (إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أي: ذهب منهم كل شيء كان معهم في الدنيا، فقد كانوا ملوكاً وحكاماً وأمراء وكان معهم في الدنيا أشياء كثيرة، أما في يوم القيامة فلا يبقى معهم شيء من أشياء الدنيا، قال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات:22 - 26]. أي: لا يقدر أن ينصر بعضهم بعضاً، فأين ذو الأكتاف الذي كان يقول: سنقف على باب جهنم؟ قال الله تعالى: (وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ) أي: قد أذلهم الله سبحانه بما استكبروا في الدنيا على خالقهم، دعوا إلى دين الله فأبوا واستكبروا، ورفعوا أصواتهم على خلق الله سبحانه، فالآن يجزون عذاب الهون بما كانوا يستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كانوا يفسقون. قال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ) هذا هو الخسران الحقيقي، أما الخسران في الدنيا كخسارة الأموال، أو تعذيب الظلمة لنا ونحو ذلك فهذا ليس خسراناً حقيقي، والخسران الحقيقي هو أن هذا الإنسان لا يملك شيئاً، ويقاد إلى نار جهنم وقد غلت يداه إلى عنقه ولا يقدر على الفكاك، ويرى النار ولا يجرؤ أن يفتح نظره إليها والعياذ بالله، قال الله عز وجل في سورة إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام: {مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [إبراهيم:43]. والناس في هذا اليوم منهم من أعماه الله فلا يرى شيئاً، ومنهم من يبصر ولكنه قد أغمض عينيه من شدة الرعب والخوف فلا يقدر أن ينظر في هذه النار. ومعنى قوله تعالى: (مُهْطِعِينَ) أي: مسرعين تدفعهم الملائكة وتسوقهم إلى النار وهم منقادون معهم. ومعنى قوله تعالى: (مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ) (قنع) من الكلمات التي لها معنيان متضادان، فهي بمعنى: رفع رأسه، وبمعنى: خفض رأسه، والصورتان في بعضهم البعض، فهم قد خفضوا رءوسهم من الذل أو قد رفعوها من الرعب ينظرون أمامهم إلى النار. ومعنى قوله تعالى: (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ)، أي: قد أحدقوا النظر إلى النار لا يرون غيرها والعياذ بالله. أما أفئدتهم فقد ذهبت من صدورهم إلى أعناقهم وحل محلها الهواء من شدة الرعب والخوف في هذا اليوم، قال تعالى: (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ)، لقد كان يشغلهم في الدنيا المال والبنون والزوجة حتى صارت قلوبهم فارغة قد امتلأت بالغم والهم والرعب والخوف والجبن في هذا اليوم العظيم. أما المؤمنون فقد فرحوا برحمة الله فهم في حبور وسرور وفرح. والإنسان يجمع الدنيا كلها من أجل أن يخلد فيها، فهو يريد أن يعيش، أما في يوم القيامة فقد فقدَ نفسه التي يحميها ويدافع عنها، فهي تدخل الجحيم والعياذ بالله، فهذا الخسران هو أعظم الخسران عندما خسر نفسه التي كان يفديها بأي شيء في الدنيا. وكذلك خسر أهله، فقد كان في الدنيا له أولاد ونساء يستمتع بهم وكانوا كفاراً فكلهم يدخلون النار، فكل واحد له عذابه وله سجنه الذي هو فيه وإذا كانوا معه يتبرأ كل منهم من الآخر. فإذا كان أهله مؤمنين فاستحقوا الجنة كامرأة فرعون فمستحيل أن يراهم بعد ذلك، أو أن ينال منهم شيئاً، فإن كانت زوجته فقد ضاعت منه وورثها غيره من أهل الجنة فصارت له، فقد خسر أهله أعظم الخسران ويقاد إلى النيران، ويقال له: هذا منزلك في الجنة لو أنك آمنت بالله تعالى، فأننت محروم من دخول الجنة. والكفار لهم منزلة في الجنة وفيها الحور العين، فأورثها الله عز وجل للمؤمنين، فكان على هؤلاء أعظم الخسران والحرمان والندم والشقاء حين ضاعت الجنة وضاع كل هذا الجمال وكل هذا الذي فيها وأخذها المؤمنون. هؤلاء الذين كانوا ينظرون إليهم في الدنيا عبيداً وخدماً فيقول أهل النار: {مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنْ الأَشْرَارِ} [ص:62] كانوا معنا في الدنيا، وكنا نظنهم من الأشرار الحثالة الذين ما لهم قيمة أين هؤلاء؟ يبحثون عنهم في النار ولم يجدوهم. ثم عرفوا أن هؤلاء دخلوا الجنة: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72] فاز المؤمنون فأخذوا الجنة العظيمة، وخسر الكفار والفجار فدخلوا النار. قال سبحانه: (إِنَّ الْخَاسِرِينَ) أي: الخسران الحقيقي (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ). روى ابن ماجه في الحديث الذي صححه الشيخ الألباني عن أبي هريرة قال: قال: النبي صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا له منزلان، منزل في الجنة ومنزل في النار)، أي: كل إنسان له مكانان مكان في الجنة، ومكان في النار، فإن عمل صالحاً دخل الجنة، وإن عمل غير صالح دخل النار، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله)، أي: أخذوا نصيب الكفار من الجنة، قال الله عز وجل: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:10 - 11]. والنار يملؤها الله عز وجل بالكفار فلا تمتلئ، وتظل هكذا وهي تقول: هل من مزيد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى يضع الجبار فيها قدمه فتقول: قط قط)، أي: يزجرها الله عز وجل فتقول: اكتفيت فتسكت. والجنة واسعة عظيمة لا تمتلئ بأهلها وكلما أعطاها الله عز وجل من أهلها فهي لا تمتلئ حتى ينشئ الله لها خلقاً آخر، أي: يخلق لها خلقاً لم يذنبوا قط ويجعلهم في الجنة ينعمون فيها. يقول ربنا سبحانه: (أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ) (إن) للتحقيق والتأكيد، فالظالمون يقيناً في عذاب مقيم خالد لا يفنى ولا يزول عنهم، ويظلون في نار جهنم، كما قال تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56] أي: يبدل الله عز وجل جلودهم، وهذا أصعب ما يكون من العذاب، وكذلك إذا اخترقت أمعاؤه ومعدته كأن يحصل للمعدة قرحة فيتألم الإنسان ألماً شديداً جداً، ولو أن القرحة فتحت المعدة وخرقتها لكان الألم مثل الموت تماماً. فهؤلاء تتمزق أمعاؤهم في النار، قال تعالى: {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج:20 - 22]. فعذابهم في النار كلما نضجت جلودهم وتفحمت وظنوا أنهم سيموتون ويرتاحون من العذاب، فإذا بجلودهم تتبدل مرة ثانية وثالثة وهكذا أبداً، {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56] ويقال لهم: ذوقوا عذاب السعير والعياذ بالله وهم في عذاب مقيم دائم لا ينقطع.

تفسير قوله تعالى: (وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله)

تفسير قوله تعالى: (وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله) قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى:46] أي: من الذي يتولى أمرهم ويدافع عنهم؟ فإن ذهبوا إلى الشرق أو إلى الغرب من أجل أن ينصروا من دون الله، فليس لهم أحد يجيرهم من عذاب الله سبحانه. قال تعالى: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ)، وسبق قوله تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ} [الشورى:44] وختم بقوله: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) أي: ليس له طريق للهداية يصل بها إليه، لأن الله قد أعمى بصره وبصيرته فلا ينتفع بما جاءه من عند الله سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله)

تفسير قوله تعالى: (استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله) ينادي ربنا سبحانه خلقه فيقول: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنْ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ} [الشورى:47]. قوله: (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ) أي: الحقوا أنفسكم فقد أعذر الله وأنذر خلقه وبصرهم وبين لهم، فلا عذر لأحد بعد البيان؛ لأنهم يؤمنون أنه الرب، وكان الكفار إذا سئلوا: من ربكم وخالقكم؟ قالوا: الله، ولكنهم لا يؤمنون. فيقول لهم: استجيبوا للرب الخالق سبحانه الذي يدعوكم إلى توحيده وعدم الشرك به: (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ) ونكر اليوم تعظيماً له، أي: يوم فضيع وعظيم وهو يوم القيامة لا مرد له من الله، وقوله تعالى: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ)، أي: مستحيل أن يُرّد هذا اليوم، فلا يقدر أحد أن يؤخره يوماً ولا ساعة. وقرأ حمزة هذه الآية بمد (لا) النافية متوسطاً فيها للمبالغة في النفي، وليس هنا همزة حتى تمد، وإنما هذا النوع من المد يسمى للمبالغة في النفي، أي: أنه مستحيل أن يرد هذا اليوم، كما قرأ: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] بمد مبالغة في النفي، أي: أنه مستحيل أن يشك في هذا أنه من عند الله سبحانه وتعالى. وقوله تعالى: (مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) أي: إلى أين تلجئون؟ قال تعالى: {لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} [التوبة:118] أي: ما لكم حصن تتحصنون فيه من عذابه، والإنسان يلجأ إلى الشيء الذي يجيره ويعيذه ويعصمه، وهذا الملجأ يوم القيامة لا يكون إلا إلى الله. ومعنى قوله تعالى: (وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) أي: لا تقدرون على الإنكار؛ لأنه تشهد عليكم جلودكم وأيديكم وأرجلكم وأنفسكم وأبدانكم فلا تقدرون على الإنكار أمام الله سبحانه، ولا تجدون من ينكر على الله ما يصنع بكم، أما في الدنيا فقد ينكر على فلان ما هو فيه من شر، كأن يضرب خادمه، فمن هذا الذي ينكر على الله أن يعذب هؤلاء في النار؟ لا أحد، فهو القائل جل شأنه: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر:16] فلا يستطيع أحد أن يجيب، فيجيب نفسه ويقول: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16].

تفسير قوله تعالى: (فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا)

تفسير قوله تعالى: (فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً) قال الله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ} [الشورى:48]. قوله: (فَإِنْ أَعْرَضُوا) أي: أعطوا النبي صلى الله عليه وسلم ظهورهم، ورفضوا أن يدخلوا في دينه صلوات الله وسلامه عليه، (فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحزن حزناً شديداً لعدم إيمان هؤلاء الكفار، وكان كلما دعاهم إلى الإسلام ازدادوا عتواً واستكباراً، ونفروا عن النبي صلى الله عليه وسلم وتولوا عنه وأعطوه أدبارهم، فكان يحزن النبي صلى الله عليه وسلم لذلك، قال تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6] أي: إنك ستهلك نفسك من أجل أن يؤمنوا، فلست عليهم بوكيل، قال تعالى: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:22] {فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء:80]. والحفيظ هو الذي يحفظ عليهم أعمالهم ويحاسبهم بها، والنبي صلى الله عليه وسلم ليس هو الذي سوف يحاسبهم وإنما هو الله، فهو الحفيظ الذي يحيطهم فيحفظهم ويمنعهم من الوقوع في الكفر، ولا يقدر على ذلك عليه الصلاة والسلام. قال تعالى: (إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ). فوظيفته أن يبلغ رسالة الله سبحانه فقط ولا يكرههم على هذا الدين، قال تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} [البقرة:256]. وقوله تعالى: (إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ) (إن) بمعنى ما، فهنا أسلوب قصر، أي: ما عليك إلا البلاغ، فليس النبي مسيطراً على الخلق، فلا يملك قلوبهم فيحولها من شيء إلى شيء آخر، إنما الله عز وجل هو القادر على كل شيء. وقوله تعالى: (وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً) (إنا) هنا أتى بنون العظمة فهو الخالق القادر سبحانه وعادة الإنسان كما قال تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:6 - 8]. ومعنى كنود أي: جحود. وقوله تعالى: (وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنْسَانَ) أي: جنس الإنسان، وكل إنسان فيه من ذلك بحسبه، فالمؤمن يعصمه الله فإذا وقع في المعاصي كان له نصيب من ذلك فتأتيه رحمة الله فلا يغتر الإنسان بها. أما إذا وقعت عليه المصيبة فإنه يقع في اليأس، قال تعالى: (وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا) أي: إذا أتاه مال أو صحة أو عافية أو منصب أو زوجة حسناء أو أولاد أو بيت حسن فإنه يفرح بهذا الشيء. قال تعالى: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) فالسيئة جاءت بما كسبت أيديهم فاستحقوا ذلك بذنوبهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى الشوكة يشاكها يكتب له بها أجر)، أي: يكون ذلك بما كسبت يداه فيكون له أجر من الله عز وجل على ذلك. قال تعالى: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ) أي: جحود، يقول: لماذا يا رب في كل وقت تأتي لي بمصيبة؟ ونسي أن الله أعطاه الزوجة الحسناء والأولاد والبيت الواسع والوظيفة المناسبة، فينسى كل هذا بمجرد أن جاءت له مصيبة من المصائب، فهذا ينكر النعم فيجحدها. قال تعالى: (فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ) أي: يكفر بربه ويكفر بنعم ربه سبحانه فيسترها ولا يذكرها، ولا يحمد ربه سبحانه وتعالى عليها، قال الله عز وجل: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران:189] فإن الله سبحانه وتعالى يملك السماوات والأرض ويملك كل شيء سبحانه وتعالى. وعنده ملائكته يحمدونه ويشكرونه سبحانه وهو الغني الملك، وهو قادر على أن يعطي وأن يمنع، فإذا شكرتم فلأنفسكم، وإذا كفرتم فإنما تضرون أنفسكم. فشكر الله على نعمه سبب لدوامها، قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7] والكفر بنعم الله سبحانه وجحدها كمن يقول: الله ما أعطاني شيئاً! فهذا سبب لمنع رزقه وفضله سبحانه.

تفسير سورة الشورى [49 - 51]

تفسير سورة الشورى [49 - 51] في هذه المادة تجد الكلام عن ربوبية الله تعالى وتصرفه في هذه المخلوقات كيف يشاء، فيرزق من يشاء، ويهب الأولاد لمن يشاء، ويمنع من يشاء، فهو أعلم بما يصلح عباده، وتجد أيضاً الكلام على صور كلام الله لأنبيائه ورسله، فمنهم من كلمهم من وراء حجاب، ومنهم من يوحي إليه وحياً، ومنهم من يرسل إليه رسولاً فيوحي إليه بإذنه ما يشاء.

تفسير قوله تعالى: (لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء)

تفسير قوله تعالى: (لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الشورى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ * وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى:49 - 51]. يخبرنا الله سبحانه وتعالى بعظيم ملكه سبحانه وقوته وقدرته، قال سبحانه وتعالى: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) أي: يملك كل شيء؛ فالسموات خلقها الله سبحانه والأرضون من خلقه، فهو الذي خلقها وهو الذي دبر أمرها، وهو الذي أوجد الخلق فيها، فالله يملك كل شيء. (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ) فهو سبحانه وتعالى يخلق ما يشاء، وقال: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]، فلله عز وجل الخلق، وهو خالق كل شيء، ولله عز وجل الأمر، يأمر بما يشاء في خلقه. وقوله: (يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ) فخلقه فيهم الصغير والكبير، وفيهم الذكور والإناث، وفيهم الجميل والدميم، فهم على ما شاء الله عز وجل، فيرينا خلقه ويرينا آياته، حتى نتعظ، وحتى نعتبر، وحتى نعلم أن الخالق هو الله وحده لا شريك له، الذي يستحق أن يعبد وحده، فكما أن له الخلق فكذلك له الأمر، وهو الذي يشرع، ولذلك قال: ((أَلا لَهُ)) وحده سبحانه، ((الْخَلْقُ)) فإذا سئل الإنسان: من الذي يخلق؟ فيقول: الله، من الذي يرزق؟ يقول: الله، من الذي يُعبد؟ يقول: الله، فالله هو الذي له الخلق وله الأمر على خلقه، قال سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23]، فأمرهم بعبادته، فكما أن له الخلق وهو المتفرد به فكذلك له الأمر؛ يتفرد بالتشريع لخلقه، ويتفرد بأن يعبد وحده لا شريك له. قال تعالى هنا: (يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ) ثم أرانا شيئاً من ذلك حتى نتعظ ونعتبر فقال: (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ). فالله خالق كل شيء سبحانه، مدبر كل أمر سبحانه، يخلق ما ينتظم الكون به، وما يدبر به أمر كونه سبحانه وتعالى، والله أعلم ما الذي يستحق خلقه، وما الذي ينفع خلقه، والإنسان ينظر من منظور ضعيف ضيق فيما يراه أمامه من الكون، فيحدد لنفسه أشياء، فيقول: أنا أريد ذكوراً، أو يقول: أنا أريد إناثاً، أو لا أريد شيئاً، أو أريد أن أؤخر الإنجاب، فالإنسان يريد بحسب فهمه القاصر، ولكن الله عز وجل خالق الكون ومدبر الكون يخلق ما يشاء، فيجعل ما يخلقه لمصالح العباد؛ لمصالحهم في الدنيا ومصالحهم في الآخرة، لمصالح دنياهم ومصالح دينهم حتى يتقوا ربهم سبحانه ويعبدوه، وحتى يعلموا أنه القادر على كل شيء. قوله: (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا) أي: يجعل ذرية من يشاء من خلقه الإناث فقط، ومن أنبياء الله عز وجل من كانوا كذلك، فهذا لوط النبي عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام كانت ذريته كلها إناثاً، ولم يكن له ذكور. (وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ) ويجعل ذرية من يشاء من عباده الذكور فقط، وقد فعل ذلك في بعض أنبيائه، فجعل ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام كلهم ذكوراً ولا يوجد إناث لإبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.

تفسير قوله تعالى: (أو يزوجهم ذكرانا وإناثا)

تفسير قوله تعالى: (أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً) ثم قال تعالى: {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى:50]. قوله: (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً) فيجعل لعبده الإناث ويجعل له الذكور، كما كان في ذرية إسماعيل على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فإنه أنجب الذكور وأنجب الإناث، فكان لإسماعيل من الذكور وكان له من الإناث. (وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا) سبحانه وتعالى، فجعل في الخلق وفي الأنبياء من هو كذلك، فهذا المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام لم يتزوج ولم يكن له ولد، ويحيى لم يكن له ولد. (وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا) في أصل خلقته لا يكون له الولد، فالله عز وجل كما جعل في أنبيائه كذلك جعله في خلقه؛ ليرينا آيات قدرته، فالله القادر سبحانه، والله هو الذي يهب، وكل ما في الخلق محض هبة من الله وعطية منه؛ إن أعطاك الولد أو البنت فذلك هبة منه سبحانه، وإن منعك ذلك فالله يفعل ما يشاء، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون. وقوله: (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا)، (يزوج) هنا بمعنى: يقرن، أي: أنه يرزق من يشاء من عباده ذكوراً فقط، ويرزق من يشاء من عباده إناثاً فقط، أو يقرن الاثنين لمن يشاء من عباده، فينجب الذكور والإناث، كما كان لنبينا صلوات الله وسلامه عليه، فقد كان له من الأبناء الذكور عبد الله والقاسم وإبراهيم، وعبد الله كان يلقب بـ الطيب والطاهر، وكلهم ماتوا صغاراً. وله صلوات الله وسلامه عليه من الإناث: فاطمة وبقيت بعده ستة أشهر، وباقي بنات النبي صلى الله عليه وسلم متن في حياته عليه الصلاة والسلام، وهن: رقية وزينب وأم كلثوم. فوهب للنبي صلى الله عليه وسلم الذكور والإناث، وأخبره أنه: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب:40]، هذه الآية يخبر تعالى فيها أنه لن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم ذكر يعيش حتى يصير رجلاً فيكون من ضمن الأقوام، فما كان له ذلك، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يموت أبناؤه في حياته عليه الصلاة والسلام، فمات جميع الذكور، وماتت بنات النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يبق إلا فاطمة ماتت بعده صلوات الله وسلامه عليه بستة أشهر. فالله سبحانه وتعالى أرانا هذه الآيات في أنبيائه حتى نقتدي بهم، فهذا رزقه الله الذكور، وهذا رزقه الله الإناث، وهذا لم يرزقه الله عز وجل ذرية أصلاً، وجعله عقيماً، وهذا ليس عيباً من العيوب، فإن هذا قضاء الله وقدره، وهذه قسمة الله في خلقه، فإنه سبحانه يهب لمن يشاء ما يشاء، وهو أعلم، كما قال عز وجل: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]. فقوله: (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا) أي: يقرن بين الذكور والإناث، فيكون للرجل البنات والذكور. وبدأ سبحانه بقوله: (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا)، فقدم ذكر الإناث، ولذلك كان بعض السلف يحب أن يرزقه الله عز وجل أول ما يرزقه الأنثى، وأول ما يكون له ذلك يفرح، ويقول: هذه بركة؛ لأن الله عز وجل قدم ذكر الإناث فقال: (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا)، فبدأ بهن، وقال: (وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ). فالله عز وجل يخلق وأنت لا تقدر أن تخلق شيئاًَ، فإذا أعطاك الله عز وجل البنت فلا تعترض، ولا تقل: لقد كنت أريد ولداً، وإذا أعطاك الولد فلا تعترض وتقول: كنت أريد بنتاً، فليس الأمر بمزاجك، فإن هذا خلق الله عز وجل، يخلق سبحانه وتعالى ما يشاء، ويحكم ما يريد.

حكمة الله تعالى في اختلاف ما يهب للناس من أولاد وبنين

حكمة الله تعالى في اختلاف ما يهب للناس من أولاد وبنين وأما لماذا جعل لهذا الذكور ولهذا الإناث؟ ولماذا أعطى لهذا عشرة وأعطى لهذا واحداً؟ ولماذا أعطى هذا كذا؟ فالله يفعل ما يشاء سبحانه، وذلك لحكمة لا نعلمها نحن، فعنده الحكمة والحجة البالغة سبحانه، ختم ليقطع عن الإنسان الجدل والمماراة في ذلك، فهو العليم سبحانه، وهو أعلم حيث يجعل ما يشاء سبحانه، فهو عليم وهو قدير على كل شيء. وقد ذكر الإناث والذكور ليرينا كمال خلقته سبحانه، وإن كان أيضاً يخلق خلقاً ناقصاً ليرينا الآيات وأنه على كل شيء قدير، فوهب الذكور لمن شاء فنزل ذكراً، ووهب الإناث لمن يشاء فنزلن إناثاً، ومنع من يشاء رحمة منه سبحانه وعلماً منه لمن يستحق ذلك ومن يستحق هذا، ومن يضره هذا الذي يأتيه. فالله عز وجل قد يجعل الإنسان عقيماً، ولا يتفكر الإنسان لعل الله إذا أعطاه الولد فقد يكون عاقاً، ويقول: يا ليتني لم أخلف، وهناك أناس على هذه الحالة، فتجد أحدهم يقول لك: ابني يعمل المنكرات وقد أتعبني، ودائماً أذهب وراءه إلى مركز الشرطة، يا ليتني لم أخلف! فالله سبحانه أعلم بالحكم في ذلك، وقد ذكر الله لنا في القرآن في سورة الكهف قصة موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام مع الخضر عليه السلام، وكيف أنه أراه الله عز وجل الآيات فلم يصبر على ما يراه، ومن ضمن ما أراه أنهما أتيا على غلام، فإذا بالخضر يقتل هذا الغلام، فأنكر موسى هذا، وقد أخذ عليه الخضر العهد ألا يعترض على شيء، وألا يسأله عن شيء حتى يحدث له منه ذكراً، فلم يطق موسى ذلك وقال: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} [الكهف:74]، فهي نفس لم تعمل فيك شيئاً، ولا وقعت في شيء، ومازالت صغيرة في السن، فلمَ قتلته؟ {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} [الكهف:74] وهذا نبي وهذا نبي، وموسى أحد أولي العزم من الرسل، ومع ذلك أراه الله عز وجل أنه لا يعرف كل شيء، فهذا نبي من الأنبياء وهو يعرف أكثر منك، فقد أعلمه الله أشياء من المغيبات ففعل ذلك. وفي آخر القصة قال له: {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [الكهف:80]، فانظر رحمة الله سبحانه على الأب والأم، فرحمة منه أن هذا الغلام يموت وهو صغير، وإذا عاش فإنه سيخرجكما عما أنتم عليه من إيمان، فخشينا أن يرهقهما وأن يتعبهما وأن يؤذيهما بكفره فيضطران لمتابعته على الكفر، فيكفران هما أيضاً مع ابنهما: {فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف:80 - 81]، أراد الله سبحانه أن يبدل الأم والأب من هو أفضل من ذلك، وأقرب رحماً. إذاً: فالله عز وجل يصنع بعبده الشيء الذي قد لا يعجب العبد، فيقول: لماذا الله حرمني؟ ولا يعلم أن الله هو العليم القدير سبحانه، فقد منعك بقدرته سبحانه وهو القادر على أن يعطيك، ولكن لا يصلح لك ذلك، فالله أعلم بالذي يصلح لك حتى تستمر على الإيمان، وحتى تستمر على الطاعة، وحتى تستمر إلى أن تدخل الجنة، فقد لا يصلح لك أن يكون عندك ولد، ولذلك منعك لحكمة عنده سبحانه. قال تعالى: (إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) أي: عليم بعباده، وبمن يستحق ذلك ومن ينفعه ذلك، ومن لا يستحق ومن يؤذيه ويضره ذلك، (قَدِيرٌ) فأرانا آياته، فهذا إنسان ينزل وهو كامل، وهذا آخر ينزل سقطاً، فتجد المرأة تسقط في الشهر الثالث أو في الرابع أو في الخامس، فينزل غير مكتمل، فترى هذا الخلق الغير مكتمل الذي نزل الآن من بطن أمه على هيئة من هيئات النقصان، تجده لا يوجد له يدان، فخلقه الله عز وجل آية للعباد، لنحمد الله عز وجل على ما أعطانا، ولو شاء الله لجعلنا مثل هذا الإنسان، فالله عز وجل على كل شيء قدير. وتلد المرأة الإنسان فينزل أعمى أكمه، فالله عز وجل يرينا هذا الناقص حتى تحمد الله على ما أعطاك سبحانه. وجعل ذكوراً وجعل إناثاً، ونرى في خلق الله الخناثى، والخنثى: هو الذي له فرج وله قبل، فله ما للرجل وله ما للمرأة، فيجعل الله عز وجل ما يشاء ليرينا آياته، ويحصل الإشكال عند الناس: فهل الخنثى هذا سنعامله معاملة الذكر أو معاملة الأنثى؟ وإذا صار وارثاً فكيف سنورثه؟ فالله سبحانه تبارك وتعالى يرينا بعض الأشياء لنعرف قصور أذهاننا، وضعف عقولنا، فيجلس الإنسان يفكر ويحتار، وقد يلهمه الله عز وجل الفكرة على يد إنسان آخر. وقد كان أهل الجاهلية لا يعرفون مسألة الخنثى وأنه يولد مولود خنثى، إلى أن جاءت قضية خنثى إلى فارض العرب عامر بن الظرب، وقد كان سيد القوم، وكان من كبرائهم ومن شيوخهم الذين يرجعون إليهم في الأحكام فيقضي بينهم، ويرجعون إليه في الفرائض قبل الإسلام، وذات مرة ولد لأناس مولود خنثى، فلما جاء وقت الميراث احتاروا كيف يورثون هذا الخنثى؟ فذهبوا إلى عامر بن الظرب، وأخبروه أن عندهم ولداً خنثى، ولا يدرون كيف يورثونه، وقد كان من عادة العرب أنهم يورثون الذكور ولا يورثون الإناث، فاستشكل عليهم: هل نعتبره ذكراً ونعطيه أم نعتبره أنثى ولا نعطيه شيئاً؟ فسألوه، فاحتار الرجل وجلس يفكر، وقد كان سيد القوم، وكان من أكرم القوم، فمن أراد طعاماً أو شراباً فإنه يذهب إلى عامر بن الظرب، وكلمة (الظرب) معناها الجبل، أي: عامر بن الجبل. فاحتار عامر: كيف سيورث هذا؟ فذهب إلى بيته ونام، فجعل يتقلب على سريره، فجاءته جاريته وسألته، وقالت: ما لك مضطرباً من أول الليل؟ فقال: لقد سألوني عن شيء لعلي أجد عندك مخرجاً، فقالت: وما ذاك؟ قال: هناك خنثى لا ندري كيف نورثها، قالت: هذا الذي أرقك؟! قال: نعم، قالت: ورثه من حيث يبول، ففطن الرجل وأصبح وقضى بينهم، فقال: انظروا من أين يبول من فرج الأنثى أو من ذكر الرجل، فمن حيث بال فإنه يعتبر به، فصار بعد ذلك حكماً، وجاء الإسلام وأقر ذلك، واستقر الأمر على هذا الذي قالته هذه المرأة. فالغرض: أن الله عز وجل يرينا آياته سبحانه، يرينا أنه العليم، وأن فوق كل ذي علم عليم: فلا تغتر بعلمك، فقد يظن الإنسان أنه عالم فتأتيه مسألة بسيطة جداً فلا يستطيع أن يجيب عنها ويحتار فيها، ويمكن أن يأتي شخص صغير فيجيب عنها، والكبير لعله لا يدري، كما حدث في هذه القصة التي ذكرنا.

حكمة الله تعالى في جعل بعض الناس عقيما

حكمة الله تعالى في جعل بعض الناس عقيماً وقوله: (وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا)، العقيم: هو الذي لا نسل له، أي: مقطوع الذرية، لا ذرية له لا ذكوراً ولا إناثاً، وكلمة (عقيم) تطلق على الذي لا ينتج، أو الشيء الذي لا نتاج من ورائه، ويوصف بالعقم أشياء، فيقال: هذا رجل عقيم، وامرأة عقيمة، أو عقيم أيضاً، ومنه يقال: الملك عقيم، وكأن الملك يحرض الرجل على ابنه والابن على أبيه، وإذا زوج الملك ابنه فسينافسه ويقتله، فكان الملك عقيماً، يجعل الملك يقتل ابنه، ويجعل الابن يتخلص من أبيه لينفرد بالملك، فالملك يوصف بأنه عقيم؛ لأنه يجعل الأب لا يهتم بأمر ابنه، بل إذا كان ابنه سينافسه في الملك فإنه يقضي على ابنه؛ ليتفرد له ملكه في المملكة التي هو فيها. وقالوا: بالملك تنقطع الأرحام، ويحدث فيها العقوق؛ خوفاً على الملك، وكم رأينا في التاريخ من أناس قتل بعضهم بعضاً على الملك، فترى الرجل يقتل أخاه؛ لأنه سيرث الملك عن أبيه؛ ليكون الملك له، فالله عز وجل جعل هذه الدنيا عبرة وعظة للخلق، فكان الملك عقيماً. كذلك الريح وصفها الله عز وجل بأنها عقيم، أي: أنها ريح لا تنتج، وليس من ورائها خير، بل من ورائها الشر، فلا تلقح السحاب ولا ينزل على إثرها المطر، وإنما تكون مصائب على الخلق، فهذه هي الريح العقيم. وكذلك يوم القيامة يوصف بأنه يوم عقيم؛ لأن يوم القيامة لا يوم بعده، ولا تنتظر بعده حياة دنيوية، فهذا اليوم ليس بعده أيام أخر، وإنما هو يوم واحد فقط، يقضى فيه بين الخلق، ثم بعد ذلك إما الجنة وإما النار، ولا يوجد يوم ثانٍ للحساب غير هذا اليوم الواحد، ولذلك يوصف بأنه يوم عقيم؛ لأنه لا يوم بعده للعمل ولا للجزاء ولا للحساب. إذاً: يجعل الله عز وجل من يشاء من خلقه له الذكور، ومن يشاء له الإناث.

كيف يذكر الولد وكيف يؤنث

كيف يذكر الولد وكيف يؤنث جاء في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل تغتسل المرأة إذا احتلمت ورأت الماء؟ قال: نعم، فقالت عائشة رضي الله عنه: تربت يداك وأُلت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعيها، وهل يكون الشبه إلا من قبل ذلك؟ إذا علا ماؤها ماء الرجل أشبه الولد أخواله، وإذا علا ماء الرجل ماءها أشبه أعمامه)، فالشبه يأتي من ماء الرجل ومن ماء المرأة. وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: أن يهوداً سألوه عن ذلك: كيف يذكر الإنسان؟ أي: كيف يصير ذكراً؟ والأنثى كيف تصير أنثى؟ فقد روى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنه الله عنهما قال: (أقبلت يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء، فقالوا: يا أبا القاسم! إنا نسألك عن خمسة أشياء، فإن أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي واتبعناك)، هؤلاء اليهود يقولون: نسألك عن خمسة أشياء إذا أجبت عنها جواباً صحيحاً فأنت نبي، ونتبعك فيما تأتينا به، قال: (فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه -يعني من العهود والمواثيق- أنهم يفعلون ما قالوا، فقال اليهود: الله على ما نقول وكيل، فقال: هاتوا، قالوا: أخبرنا عن علامة النبي) وهؤلاء من أهل الكتاب، جاءوا وقد عرفوا من التوراة أجوبة هذه الأسئلة، فتجدهم يقولون: هذا رجل لم يقرأ توراة ولا إنجيلاً، ولم يطلع على كتب أهل الكتاب، فإن أجاب إجابة صحيحة عن هذه الأشياء فإنه نبي، وإذا لم يجب جواباً صحيحاً فليس نبياً، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: أخبرنا عن علامة النبي؟ أي: كيف تكون علامة النبي؟ فقال: (تنام عيناه ولا ينام قلبه)، أي: أن النبي إذا نام يكون منظره أنه نائم، ويغلق عينيه، أما قلبه فهو يقض متعلق بالملكوت، متعلق بالرب سبحانه وتعالى، فقالوا: (أخبرنا كيف تؤنث المرأة وكيف تذكر)، يعني: الجنين في بطن أمه كيف يصير أنثى وكيف يصير ذكراً؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يلتقي الماءان: ماء الرجل وماء المرأة، فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة أذكر) علا بمعنى: غلب، أي: إذا كان ماء الرجل أغلب لماء المرأة فإنه يكون ذكراً بإذن الله، قال: (وإذا علا ماء المرأة آنث، قالوا: أخبرنا ما حرم إسرائيل على نفسه)، وإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وهو أبو يوسف عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، قالوا: ما هو الذي حرمه يعقوب على نفسه؟ قال: (كان يشتكي عرق النسا، فلم يجد شيئاً يلائمه إلا ألبان الإبل ولحومها فلذلك حرمها)، أي: أنه وجد أن الشيء الذي يلائم عرق النساء ويزيد وجعه أن يشرب ألبان الإبل، فامتنع منها، ولم يحرمها على الناس، وإنما حرمها على نفسه للعلة التي هو فيها، قال الله عز وجل: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:93]، أي: قل لليهود: هذه الأشياء لم نحرمها نحن عليكم، وإنما حرمها إسرائيل على نفسه، وليس عليكم، فبين لنا النبي صلى الله عليه وسلم أن يعقوب حرم على نفسه ألبان الإبل لأنه كان يشتكي من عرق النسا، وهذا عرق يكون في فخذ الإنسان، يضرب الإنسان في فخذه إلى كعب رجله، وهذا العصب من الأعصاب يكون ألمه شديداً، فوجد أنه عندما يشرب ألبان الإبل يزيد عليه الألم، فامتنع من ألبان الإبل وحرمها على نفسه، فحرم اليهود على أنفسهم هذه الألبان، ولم يحرمها الله عز وجل عليهم. والغرض هنا في هذا الحديث هو: أنه لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لهم ذلك، قالوا: صدقت، أي: كل الذي قلته صدق، (قالوا: أخبرنا ما هذا الرعد؟ قال: ملك من ملائكة الله عز وجل موكل بالسحاب، بيده مخراق من نار، يزجر به السحاب يسوقه حيث أمر الله، قالوا: فما هذا الصوت الذي يسمع؟ قال: صوته، قالوا: صدقت)، أي: الذي تقوله موافق للذي عندنا في التوراة، ومع ذلك لا يتبعونه، بل يلجئون إلى الحيل للهرب وعدم الدخول في دين النبي صلى الله عليه وسلم، وبقي شيء واحد فقط، ما هو هذا الشيء؟ فقالوا: (هو الذي يبايعك إن أخبرتنا بها، فإنه ليس من نبي إلا له ملك يأتيه بالخبر)، ومعلوم أن الذي ينزل على الأنبياء هو جبريل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (فأخبرنا من صاحبك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: جبريل عليه السلام، قالوا: جبريل! ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا)، فهم يعادون ملكاً من ملائكة الله سبحانه، سبحان الله! أي عقول لهؤلاء القوم حين يعادون ملكاً قد عرفوا أنه مخلوق من نور، وأنهم -أي الملائكة- لا يعصون الله، وحقيقة الأمر أنهم يعادون الله سبحانه، فجبريل لا ينزل بالعذاب من عند نفسه، وإنما يأتي بالعذاب من عند رب العالمين؛ لأنكم تستحقون ذلك، قالوا: (جبريل ذاك عدونا، لو قلت: ميكائيل الذي ينزل بالمطر والرحمة والنبات والقطر لاتبعناك). وهذا من أعجب ما يكون! حتى نعرف كيف يجادل اليهود، وكيف يناقشون أي قضية من القضايا! فلم ينظروا إلى الرسالة التي جاءت وما فيها من رحمة للعالمين، ولا إلى ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم من صدق وصدقوه هم، ولكن في النهاية قالوا له: لا؛ لأن جبريل هو الذي يأتيك، ولو كان آخر غير جبريل لاتبعناك، فأنزل الله سبحانه: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [البقرة:97] فهذا عداء لله تعالى؛ لأنه هو الله الذي أرسل جبريل، فهؤلاء يعادون الله سبحانه، قال تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:98]، فهؤلاء باءوا بعداوة الله، وباءوا بغضب من الله سبحانه، {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [المائدة:78]، فلعنوا بسبب معصيتهم لله سبحانه، وبسبب اعتدائهم، وبسبب إفكهم وكذبهم وافترائهم على الله وعلى ملائكة الله عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام. والغرض من هذا الحديث أن الله يذكر أنه: (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا)، فبين النبي صلى الله عليه وسلم كيف تكون الأنثى وكيف يكون الذكر، وهذا بيد الله سبحانه، فيخلق ما يشاء ويفعل ما يريد سبحانه، ويجعل من يشاء والداً، ويجعل من يشاء عقيماً، فهو العليم الحكيم سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب)

تفسير قوله تعالى: (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب) قال سبحانه: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى:51]. لقد ذهب اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: ألا تكلم الله وننظر إليك إن كنت نبياً، فقد كان سيدنا موسى يكلم الله، وأنت أيضاً كلم الله وأرنا كيف تكلمه من أجل أن نصدق أنك نبي. واليهود قوم أصحاب حيل وأكاذيب وافتراءات، فقد كانوا يطلبون من موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام أموراً من المحالات، وقد عرفوا ربهم سبحانه، ومع ذلك يقولون: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا} [الأعراف:138]، وكأنهم يقولون: دعنا من هذا الذي في السماء، واعمل لنا إلهاً هنا أمامنا حتى نراه، فقال لهم موسى: {إِِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلاءِ} [الأعراف:138 - 139] الذين يعبدون الأصنام {مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:139]. قال تعالى: {قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا} [الأعراف:140]، فسكتوا عن هذا الشيء إلى أن مشى موسى عليه الصلاة والسلام ليكلم ربه، فلم يقولوا: نأتي معك لنسمع كلام رب العالمين سبحانه، وإنما جاءوا يطلبون ذلك من النبي صلوات الله وسلامه عليه. ولما ذهب موسى للقاء ربه سبحانه صنع لهم السامري عجلاً من ذهب، فعبدوه من دون الله وقالوا: هذا إلهكم وإله موسى، وموسى قد نسي، فقد ذهب ليرى الله والله موجود هنا، لا حول ولا قوة إلا بالله! فهؤلاء اليهود المجرمون -لعنة الله عليهم- يذهبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: إن موسى قد كلم ربه، فكلم أنت أيضاً ربك حتى نرى وحتى نصدق ونؤمن بما جئت به، فأنزل الله سبحانه: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى:51].

صور تكليم الله لأنبيائه

صور تكليم الله لأنبيائه فما كان لبشر أن يكلمه الله إلا بهذه الصور الثلاث: الصورة الأولى: قال تعالى: (إِلَّا وَحْيًا)، فيوحي إلى أنبيائه عليهم الصلاة والسلام، والوحي: هو الصوت الخفي الذي يأتيه فيدخل في قلبه، فيعقل ويفهم، ولا يعتريه شك في ذلك، ثم يتكلم بذلك، ولذلك جاء في الحديث: (إن روح القدس نفث في روعي -والروع هو القلب والنفس- أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب)، فهذه طريقة من طرق الوحي. ومن هذه الصورة ما يراه في المنام صلوات الله وسلامه عليه، ورؤيا الأنبياء كلها وحي. الصورة الثانية: (أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) أي: أن يتكلم الله عز وجل مع نبي من أنبيائه من رواء حجاب، كما كلم موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:143]، أي: أن موسى بعدما سمع كلام الله أراد أن ينظر إليه {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143]. فطلب موسى طلباً ليس له، وليس لأحد أن يرى الله في هذه الدنيا، {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً} [الأعراف:143]، خر الجبل مندكاً، وخرّ موسى أيضاً صعقاً، فلما أفاق قال: آمنت أنك لا ترى في هذه الدنيا، إذاً فالله سبحانه يخبر هنا أنه لا يرى في هذه الدنيا. ولما صعد النبي صلى الله عليه وسلم في قصة المعراج وصل إلى سدرة المنتهى، فإذا بجبريل يقف هناك كأنه حلس بالي، ويصعد النبي صلى الله عليه وسلم فوق ذلك، ومع ذلك لم يرَ ربه سبحانه، ورأى نوراً، وكلمه ربه ففرض عليه الخمس الصلوات، فلما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: (أرأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه) فحجابه النور سبحانه لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما وصل إليه من نوره. فالغرض أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نوراً، قال تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11]، إذاً فقد رآه بقلبه صلوات الله وسلامه عليه، وأما بعين بصره فلم ير ربه عليه الصلاة والسلام، وإنما سمع ربه، فكلم الله موسى على الأرض، وكلم محمداً فوق السموات صلوات الله وسلامه عليه، فشرفه وكرمه عليه الصلاة والسلام. وأكرم المؤمنين بأن فرض عليهم الصلوات الخمس في السموات، فقد عرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء، ثم نزل بهذه الفريضة العظيمة التي هي نور وهي الصلاة. فهنا وحي من الله أن يكلم عبداً من عباده، فكلم موسى عليه الصلاة والسلام، وكلم محمداً صلوات الله وسلامه عليه في السماء وليس في الأرض. الصورة الثالثة: (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا)، فيأتي جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى الأنبياء قبله، ولم يرَ النبي صلى الله عليه وسلم جبريل على هيئته الحقيقية إلا مرتين اثنتين فقط، فهو ملك عظيم له ستمائة جناح، وقد سد الأفق عليه السلام، قال الله عز وجل: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11]، هذا وهو في السماء عليه السلام: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17] أي: حين نظر إلى السماء وحين رأى جبريل في ليلة المعراج على هيئته الحقيقية، فلم يزغ بصره صلوات الله وسلامه عليه في كل ما رآه، ومن ضمن ما رآه أنه رأى جبريل عليه السلام. فالغرض أن الله يوحي لأنبيائه بصورة من هذه الصور: إما وحي ينفث في روعه، وإما أن الله عز وجل يكلمه من وراء حجاب، وإما أن يرسل جبريل أو من يشاء الله عز وجل فيكلم هذا النبي بوحي فيه، فيوحي بإذنه سبحانه ما يشاء من أحكام للعباد. وقوله: (أو يرسلَ رسولاً) هذه قراءة الجمهور؛ لأنه قال قبلها: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا)، أي: إلا أن يوحي إليه، فصار (أو يرسل) معطوفاً على (أن يكلمه)، وهو منصوب، أو أنها مستأنفة، فكأنها جملة مبتدأة، فقراءة نافع وابن ذكوان: (أَوْ يُرْسِلُ)، أي: هو سبحانه يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء إلى هذا النبي ليبلغ خلق الله بذلك. وقوله: (إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) فله علو الشأن، وعلو الذات، وعلو القدر، فشأنه عظيم، وقدرته عظيمة سبحانه، وهو فوق سماواته العلي العظيم. وهو حكيم فيما يصنع، فأفعاله كلها حكمة، ويحكم بما يريد. نسأل الله من فضله ورحمته إنه على كل شيء قدير. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الشورى [51 - 52]

تفسير سورة الشورى [51 - 52] لقد أكرم الله سبحانه وتعالى محمداً صلى الله عليه وسلم وأدبه فأحسن تأديبه تأهيلاً له لحمل الرسالة والتبليغ عن ربه سبحانه، فقد حفظه الله سبحانه في الجاهلية، وعصمه من الاحتكاك برذائلها وفحش أخلاقها، وعلمه ما لم يكن يعلم، فنبئ باقرأ وأرسل بالمدثر، وعلامات نبوته معروفة قبل مبعثه وبعد مبعثه صلى الله عليه وسلم.

وحي الله تعالى وتكليمه لأنبيائه ورسله

وحي الله تعالى وتكليمه لأنبيائه ورسله الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الشورى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} [الشورى:52 - 53]. هاتان الآيتان الأخيرتان من هذه السورة الكريمة سورة الشورى، يختمها الله عز وجل بذكر نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ووحي الله عز وجل إليه، تفضلاً على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين أن أوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم هذا القرآن العظيم، الذي هو نور، والذي هو روح، والذي يحيي به الله عز وجل قلوب عباده، ويخرجهم من الظلمات إلى النور.

كيفية تكليم الله سبحانه لأنبيائه ورسله

كيفية تكليم الله سبحانه لأنبيائه ورسله قال سبحانه: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى:51] هذه ثلاث صور يذكرها الله عز وجل في وحي الله إلى من يشاء من خلقه: الصورة الأولى: الوحي، وكلمة (وحي) فيها معنى الكلام الخفي وليس الظاهر الذي يطلع عليه الخلق، ولكنه وحي في خفاء عن الخلق، يوحي الله عز وجل إلى واحد من خلقه وهو النبي أو الرسول عليهما الصلاة والسلام. وهذا الوحي إلهام إشارة، وهو الذي يقذفه الله عز وجل في قلب النبي صلى الله عليه وسلم، والذي ينزل عليه مع روح القدس جبريل عليه السلام، من وحي ومن أخبار، ومن رسالة، ومن شيء مكتوب عند الله سبحانه وتعالى، إذاً: الوحي: ما يلقيه الله إلى نبي من أنبيائه. فما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً، عن طريق الوحي، أي: يقذف في قلبه، وفي روعه، وفي نفسه، فيقذف ما يريده من حق سبحانه وتعالى. أو يريه رؤيا منامية، فيكون فيها معنى هذا الوحي. إذاً: الوحي: ما يلقيه الله في قلب النبي صلى الله عليه وسلم، أو ما يراه في رؤيا منامية، أو إلهام من الله عز وجل لنبي من أنبيائه عليهم الصلاة والسلام. الصورة الثانية: (مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) كما كلم موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام من وراء حجاب. ومستحيل أن يرى الله عز وجل في الدنيا، فلا يراه أحد في الدنيا، فموسى لم ير ربه سبحانه، ولما أراد أن يراه، قال: {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143] أي: أنا أول المؤمنين أنك لا ترى في هذه الدنيا. إذاً: الصورة الثانية: أن يكلم الله عز وجل عبداً من عباده، كما كلم موسى على الأرض، وكما كلم محمداً صلى الله عليه وسلم في السماء، فالله عز وجل كلمهم من وراء حجاب. الصورة الثالثة: (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا) سبحانه وتعالى، وفيها قراءتان: قراءة نافع وابن ذكوان: ((أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا)). والقراءة الأخرى قراءة الجمهور: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى:51].

صور تكليم الله سبحانه لأنبيائه ورسله

صور تكليم الله سبحانه لأنبيائه ورسله إذاً: يرسل الله رسولاً من السماء وهو جبريل عليه السلام إلى من يشاء من أنبيائه، (فَيُوحِيَ) وأيضاً الوحي فيه الإخبار، ومنهم من يعطيه الله عز وجل ذلك وينزله عليه خاصة دون غيره، إذاً: فيه خفاء عن الغير، فيأتي جبريل فيكلم النبي صلى الله عليه وسلم ولا يراه أحد، يكلمه ويسر إليه صلى الله عليه وسلم ولا أحد يطلع على ما يقوله، فيخبر النبي صلى الله عليه وسلم من حوله. ولذلك جاء في حديث عن أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو: عثمان بن مظعون، يقص أنه أسلم قديماً في أيام مكة، ولكن كان إسلامه حياء من النبي صلى الله عليه وسلم، فقد مر به وهو جالس بفناء بيته، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا تجلس؟ قال: بلى، فجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الله عز وجل، فجلس يسمع حياء من النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يشخص ببصره إلى السماء، أي: يرفع بصره عليه الصلاة والسلام إلى السماء ثم ينزل به حتى نزل إلى الأرض، ثم انحرف عني يميناً -أي: كان جالساً مع عثمان بن مظعون يحدثه صلوات الله وسلامه عليه، ثم انحرف عنه، وتركه- قال: وإذا به ينغض رأسه وكأنه يستفقه شيئاً ويسمع، فلم يزل كذلك حتى رفع بصره بعد ذلك، ولم يزل يصعد به إلى السماء، ثم التفت إلي بعد ذلك. قال: فتعجبت، قلت: إنك صنعت شيئاً ما كنت تصنعه، قال: وفطنت لذلك؟ قال: نعم، قال: وما هو؟ قال: شخصت ببصرك إلى السماء ولم تزل تنزل به، ثم كأنك تستفقه من أحد عن يمينك، قال: ذاك جبريل أتاني آنفاً، فأخبرني بهذه الآية -وهي الآية التي أحبها عثمان بن مظعون رضي الله عنه- قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل:90]) فلما سمعها ابن مظعون فرح بهذا الدين، قال: وهذا أول ما استقر الإيمان في قلبي، قال: كان قبل ذلك يستحي من النبي صلى الله عليه وسلم، أما الآن فقد استقر الإيمان في قلبه حين سمع هذه الآية العظيمة، وهي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل:90] قال: فدخل حب محمد صلى الله عليه وسلم في قلبي، ثم قال: فأخبرت بها الوليد بن المغيرة، فقال الوليد: ما تقول يا ابن أخي؟ فتلاها عليه مرة ثانية، قال: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر! هذا قول الوليد بن المغيرة لما سمع هذه الآية. فالغرض أن الوحي جاء للنبي صلى الله عليه وسلم وعثمان بن مظعون قاعد، ولم ير جبريل وهو يأتي للنبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك كان الصحابة يعرفون مجيء الوحي بالتفات النبي صلى الله عليه وسلم عنهم، يكون جالساً معهم وفجأة يلتفت عنهم، ويعتريه كالحر الشديد، فيتفصد عرقاً صلوات الله وسلامه عليه، وقد يحدث له رعدة عليه الصلاة والسلام، ويصقل بدنه صلى الله عليه وسلم، ولكن لا يرون من يخاطب صلى الله عليه وسلم، فهذا وحي من الله يسمعه النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك كانوا يقولون: ترى ما لا نرى، وتخاطب من لا نخاطب، صلوات الله وسلامه عليه. هذا الوحي الذي هو إلقاء من الله عز وجل يلقي عليه الكتاب العظيم، وينزل عليه جبريل ويخبره بأحكام شرعية عظيمة، وهذا كله في خفاء عن الناس، لا أحد يرى من الذي يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ماذا يقوله جبريل، ثم هو يخبرهم صلى الله عليه وسلم بذلك. إذاً: هذا الوحي رسول من السماء يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيوحي بإذن الله ما يشاء، والعادة أن الذي ينزل من السماء على النبي صلى الله عليه وسلم هو نفسه الذي ينزل على الأنبياء قبله، ولكن قد ينزل الله عز وجل ملكاً آخر على النبي صلى الله عليه وسلم، مثلما نزل ملك من السماء على النبي صلى الله عليه وسلم، ويخبره جبريل أنه فتح باب من السماء، وهذا الملك أول مرة ينزل من السماء إلى الأرض، وقد نزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحدثه بشيء من السماء، فهذا يكون أحياناً. فالأصل: أن جبريل هو الذي يأتي النبي صلى الله عليه وسلم بما يريده الله عز وجل وبما ينزل عليه من هذا القرآن العظيم. قال تعالى: (فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ) أي: بإذن الله عز وجل (مَا يَشَاءُ) يوحي ويخبر نبيه عليه الصلاة والسلام بإذنه ما يشاء، (إنه عليُّ حكيم) سبحانه وتعالى، وله علو الشأن وعلو القهر وله علو الذات سبحانه وتعالى، علا على كل شيء، وغلب كل شيء، وقهر كل شيء، وشأنه عظيم وأعلى من أن يحاط به سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا)

تفسير قوله تعالى: (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا) قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]. قوله: (وَكَذَلِكَ) أي: كهذا الذي أوحينا إلى الأنبياء وبنفس الصورة التي أوحينا إلى الأنبياء نوحي إليك أيضاً، كما أوحينا إلى الذين من قبلك. فقوله: (وَكَذَلِكَ) أي: بطريقة الوحي من السماء إلى جميع الأنبياء، كذلك يوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم. (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَاٍ) وصف القرآن العظيم بأوصاف عدة منها: قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} [فصلت:41]. وقال تعالى: {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:22]. وقال تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة:77]. وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [إبراهيم:1] وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29]. فهو الكتاب الذي يخرج الناس من الظلمات إلى النور. وهو الكتاب الذي فيه التذكرة والاعتبار، وفيه أخبار من رب العالمين ننتفع بها، وفيه أحكام شرعية نعمل بها. كذلك سماه: نوراً، ووحياً، وروحاً، فالقرآن نور من عند الله عز وجل يضيء لنا طريقنا إلى الإيمان بالله، وإلى العمل الصالح. وروح من الله عز وجل يحيي به القلوب الميتة، فيوقظها من سباتها، ومن نومها، ومن موتها، ويحييها كما ينزل المطر من السماء فيحيي به الله عز وجل الأرض بعد موتها، كذلك هذا القرآن العظيم ينزل على القلوب الميتة فيحييها بفضل الله وبإذنه سبحانه وتعالى. قال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ) كان قبل ذلك صلى الله عليه وسلم لا يعرف أن هناك قرآناً سينزل، وأهل الكتاب كانوا يعرفون ذلك، أما هو فلم يتصل بهم حتى يعلم أن هناك نبياً سيبعث، فضلاً عن أن يعرف أنه هو النبي صلى الله عليه وسلم. فقوله تعالى: (مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ) أي: ما كنت تعرف شرائع هذا الدين، وقد نزل جبريل ليعلم المؤمنين ما هو الإسلام، وما هو الإيمان، وما هو الإحسان. فالإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إلى ذلك سبيلاً. والإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره. والإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك سبحانه وتعالى. فلم يكن يعرف ذلك صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل عليه الوحي من السماء؛ لذلك قال له سبحانه: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:7] أي: وجدك ضالاً عن هذه الشريعة لا تعرفها، وإن كان هو يعرف ربه عليه الصلاة والسلام.

تعبد النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة

تعبد النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة لقد كان صلى الله عليه وسلم يتعبد لله سبحانه وتعالى والناس في جاهلية جهلاء، وفي ظلمة ظلماء، وهو يعبد الله إله الأرض والسماء سبحانه وتعالى، كان يخرج يتحنث الليالي ذوات العدد، كما جاء في الصحيحين عن السيدة عائشة رضي الله عنها، تخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم أول ما بدأ به من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، إذاً: قبل أن ينزل عليه القرآن كان يرى الرؤيا وتتحقق الرؤيا كما رآها، حتى نزل عليه جبريل بالوحي من السماء، فكان صادق اللسان، صادق الحديث صلى الله عليه وسلم، أمين القلب، أميناً في معاملاته مع الخلق عليه الصلاة والسلام، فلذلك قبل رسالته عصمه الله سبحانه وتعالى، مما كان يقع في كبائر مما كان يفعله أهل الجاهلية، كما كان يقتل بعضهم بعضاً، ويأخذ بعضهم أموال بعض، ويغير القوي على الضعيف، وتغير القبائل بعضها على بعض، ويظلم الظالم ويجد من يدافع عنه في ظلمه، أما هو فلم يكن كذلك، وحاشا له صلى الله عليه وسلم. وكان الزنا في الجاهلية شيئاً سهلاً؛ لأنهم كانوا يقعون في الزنا ولا شيء عليهم في ذلك، وهو لم يقع في ذلك أبداً صلوات الله وسلامه عليه، بل عصمه الله سبحانه وتعالى، حتى إنه وهو صغير صلى الله عليه وسلم يقول له عمه: اخلع إزارك وضعه على كتفك، وهو يحمل حجارة مع من يحملون الحجارة، رحمة من العم بابن أخيه صلوات الله وسلامه عليه، أما الكبار فكانوا يتعرون ولا شيء عندهم في ذلك، فأراد أن يفعل صلى الله عليه وسلم ما قال له عمه، فإذا بالملك ينزل عليه من السماء ويقول: خذ عليك إزارك، فإذا به يرتعد صلى الله عليه وسلم ويقع مغشياً عليه، قال: فما وضعه عنه أبداً، فقد عصمه ربه سبحانه من أن تنكشف عورته صلوات الله وسلامه عليه، حفظاً من السماء للنبي صلى الله عليه وسلم. تقول عائشة رضي الله عنها: (كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح) فكان يأتي حراء فيتحنث -أي: يتعبد- وذلك كان قبل الوحي، وقبل أن ينزل عليه شيء، فكان يحب أن يعبد الله سبحانه وتعالى، وكان يبغض الأصنام بغضاً شديداً صلوات الله وسلامه عليه، ولا يأكل من ذبائحهم التي ذبحوها لهذه الأصنام، فانظر إليه وهو يتعبد في الغار عليه الصلاة والسلام، ويرجع إلى خديجة، وكان قد تزوج خديجة وعمره خمس وعشرون سنة، ويذهب يتعبد لله سبحانه وتعالى، وتجهزه الفاضلة خديجة رضي الله تبارك وتعالى عنها، تجهز النبي صلى الله عليه وسلم بزاده لليالي ذوات العدد، يتعبد لله سبحانه، ويرجع إليها وتجهز زاداً آخر ليذهب ويتعبد لله سبحانه وتعالى، ومكث على ذلك ليالي كثيرة في غار حراء، هذا قبل أن يوحى إليه صلوات الله وسلامه عليه. ومع ذلك يقول له ربه سبحانه: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:7]، ويقول سبحانه: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} [الشورى:52]، وصدق الله العظيم سبحانه، إذ يقول صلى الله عليه وسلم: (أنا وأنا رسول الله لا أدري ما يفعل بي ولا بكم)، وذلك لما قالت امرأة لصبي صغير توفي: هنيئاً له، عصفور من عصافير الجنة، حتى أخبره الله عز وجل بعد ست سنوات من هجرته صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه في الحديبية سورة الفتح بقوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:2] فعرف قبل وفاته بأربعة أعوام ما الذي يفعل به صلوات الله وسلامه عليه، وهو قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:2]. قال له ربه: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى:6 - 8]. فقوله تعالى: (ضَالًّا) أي: لا تعرف الشريعة، ولا تعرف هذا الدين، ولا تعرف أصوله ولا فروعه، صحيح أنت تعبد الله، وتجتنب الفواحش، ولكن هذا بحفظنا لك، ومنة من الله عز وجل عليه صلى الله عليه وسلم، ولم يكن يجهز نفسه ليكون رسولاً في يوم من الأيام، ولم يكن يجهز نفسه لشيء، فلم يطلب أن يكون سيداً على القوم ولا ملكاً لهم, لم يطلب شيئاً صلوات الله وسلامه عليه حتى أنزل الله عز وجل عليه الوحي.

ذكر ما جاء من بدء نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم

ذكر ما جاء من بدء نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم ولما نزل عليه الوحي نزلت سورة مفزعة، إذ نزل جبريل وأفزعه، ليثبته بعد ذلك، ويطمئنه صلوات الله وسلامه عليه بعد ذلك، فاسمع إلى هذا الخبر عن عائشة رضي الله عنها، تقول: حتى فجأه الحق وهو في غار حراء في مكة، فجاءه الملك صلوات الله وسلامه عليه فقال: اقرأ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني)، تخيل وهو صلى الله عليه وسلم، وهو في غار حراء يتعبد الليالي، وداخل الغار وفجأة يظهر له الملك ويأتيه من عند ربه سبحانه وتعالى، ويقول له: اقرأ، وكان قد جاءه قبل ذلك صلوات الله وسلامه عليه، إذ تمثل له الملك في السماء ثم غاب عنه، ومرة أخرى، وكأن الله سبحانه وتعالى يعلمه شيئاً فشيئاً ويدخل الشجاعة على قلبه شيئاً فشيئاً، فمرة رآه في السماء، ثم ظهر له مرة أخرى في السماء، ثم بعد ذلك جاءه وهو في الغار عليه الصلاة والسلام، ليأمره ويقول له: اقرأ، قال: (قلت: ما أنا بقارئ) فالنبي صلى الله عليه وسلم أمي لا يجيد قراءة ولا كتابة، أي: ما الذي أقرؤه؟ أنا لست قارئاً، لا أقرأ، والمكان مكان موحش، والأمر أمر صعب وشديد أن يأتيه ملك في هذه الحالة، فلذلك كان من حقه صلى الله عليه وسلم أن يرجع إلى بيته فزعاً، ويقول: غطوني غطوني، فقد خاف من الذي حدث، يا ترى ماذا سيحدث؟! هذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول له جبريل: اقرأ، ويأخذه ويحتضنه بشدة، قال: (فغطني ثم قال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني الثالثة فغطني وقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1 - 5]). فأنت لست قارئاً، أنت لا تعلم، وجدك ربك ضالاً فهداك سبحانه وتعالى، وعلمك ما لم تكن تعلم، فمن عليه، قال تعالى: {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:5]، وقال تعالى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء:113] صلوات الله وسلامه عليه. ورجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى السيدة خديجة رضي الله تبارك وتعالى عنها ترجف بوادره، وهذا أول ما نزل عليه من القرآن: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]، فنبئ باقرأ وأرسل بالمدثر. وعلم أنه رسول لما قال له ربه: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر:1 - 7]، فالأولى: (اقْرَأْ) والثانية: قم للناس، (قُمْ فَأَنذِرْ) ولما جاءه الوحي وأنزل عليه (اقرأ) رجع إلى خديجة رضي الله عنها، فقال: (زملوني زملوني)، رجع يرتعد من شدة الخوف صلى الله عليه وسلم، وقال: (زملوني)، أي: غطوني، وقال للسيدة خديجة رضي الله عنها: (يا خديجة! ما لي؟) ما الذي حصل لي؟ وأخبرها الخبر، وقال: (قد خشيت على نفسي) خشيت أن يكون ما حصل لي تهيؤات بسبب أن الشياطين تمتثل لي، خشي على نفسه صلى الله عليه وسلم. هذا المنظر الذي رآه صلى الله عليه وسلم لم يكن يخطر على باله، وكان هناك أناس في مكة متوقعين ذلك، وينتظرون أن يكون فلان رسولاً، أما هو صلى الله عليه وسلم فلم يكن على باله هذا الأمر، كان يعبد الله سبحانه وتعالى، ويرجو بذلك ربه سبحانه وتعالى، ترك الأصنام لأنه يبغضها ويكرهها صلى الله عليه وسلم، ويعبد الله ويتحنث في الغار الليالي، من الذي حفظه من عبادة الأصنام؟ ومن الوقوع في المنكرات والحرام؟ إنه الله سبحانه وتعالى، حفظ نبيه صلى الله عليه وسلم، ومن عليه بذلك.

قصة ذهاب خديجة بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى ورقة بن نوفل

قصة ذهاب خديجة بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى ورقة بن نوفل قالت السيدة خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم تطمئنه: لا تخف، وهنا الاستدلال بالأسباب على النتيجة، ماذا عملت أنت حتى يبتليك الله في عقلك؟ أنت تعبد ربك سبحانه وتعالى، قالت له كلامها الحكيم الذي يدل على عقلها العظيم رضي الله تبارك وتعالى عنها، تقول للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، هذه صفاته قبل الإسلام صلى الله عليه وسلم: إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، أي: الإنسان الذي انقطع وهو مسافر إلى مكان، ثم وقع الجمل الذي يحمله، ولم يقدر أن يكمل السفر، فقد صار كالاً هذا الإنسان، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يعطيه، ويزوده، ويعينه حتى يستطيع إكمال المسير، أبعد هذا كله يذهب الله عقله بسبب؟ لا يكون هذا أبداً. وقولها: وتقري الضيف، أي: أنت كريم مع أهلك، وكريم مع ضيوفك، وتعين على نوائب الحق، والحق: هو الله سبحانه وتعالى، وما يعتري الناس من نوائب، فالنبي صلى الله عليه وسلم يعين الخلق على نوائب الحق، فإذا كنت تفعل ذلك، فهل سيبتليك ربك؟! تستدل بفعاله عليه الصلاة والسلام، فلا يمكن أن يخزيك ربك، ولا يخذلك أبداً، وهذا الذي جاءك شيء صحيح وحقيقي. وذهبت به خديجة إلى ورقة بن نوفل، وهو ابن عم السيدة خديجة رضي الله تبارك وتعالى عنها، فهي خديجة بنت خويلد بن أسد، وهو ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، وكان امرأً تنصر في الجاهلية، إذ كان ورقة في الجاهلية يبحث عن الدين الحق، وكذلك زيد بن عمرو بن نفيل، كان الاثنان يبحثان عن الدين الحق، فلم تعجبهم الأصنام، أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان يبغض الأصنام، وتوجه يعبد الله عز وجل ويتحنث لربه في الغار. وبحث ورقة بن نوفل فوجد أقرب الديانات الموجودة النصرانية، بحث عن الرهبان، وأخذ الإنجيل فكان يكتب من الإنجيل بالعربية، فتنصر في الجاهلية، إذاً: هو عرف النصرانية وعرف الرهبان، ووصل لدرجة من الحكمة العظيمة رضي الله تبارك وتعالى عنه، ورآه النبي صلى الله عليه وسلم يلبس ثياباً بيضاء في رؤيا منامية، فاستدل على أن الله سبحانه وتعالى أكرم ورقة بن نوفل. وأما زيد بن عمرو بن نفيل فقد بحث فلم تعجبه اليهودية ولا النصرانية، وكان يسجد لله عز وجل ويقول: لو أعلم كيف أعبدك لعبدتك، يبحث عن الدين الحق، ولم تعجبه النصرانية، وكأن ورقة وجد من الرهبان من دله على الحق، أما الآخر فلم يجد، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم عن زيد بن عمرو بن نفيل: (إنه يبعث أمة وحده)، وبارك الله سبحانه وتعالى في ابنه سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل فصار أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله تبارك وتعالى عنه، وأبوه في الجاهلية مات على الحق، ويبعث يوم القيامة أمة وحده. وهذا ورقة بن نوفل قلنا: إنه استدل على الحق من معرفته بالنصارى قبل الإسلام، فقد رأى أناساً صالحين منهم، ممن كانوا ينتظرون نبينا صلوات الله وسلامه عليه، فممن كان ينتظره سلمان الفارسي، وقد مشى مع رهبان النصارى، وكل راهب يوصيه: اذهب لفلان واعبد الله معه حتى يظلك زمان فيه نبي سيظهر، حتى جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم. ورقة بن نوفل قالت له السيدة خديجة: اسمع من ابن أخيك، فقال ورقة: ماذا ترى؟ فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم ما رأى، فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى، أي: هذه الرسالة التي نزلت على موسى، جاءك الرسول من عند رب العالمين، يا ليتني فيها جذعاً، هذا الرجل الفاضل الذي عرف الحق، يقول له: يا ليتني حين يبعثك الله عز وجل وتبدأ تنشر هذه الدعوة، ويؤذيك قومه، يا ليتني كنت فيها شاباً قوياً فتياً، كنت سأنصرك، فقد نوى نية حسنة، والله عز وجل يأجره عليها رضي الله عنه، فقال: يا ليتني فيها جذعاً حين يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو مخرجي هم؟ فقال ورقة: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي. إذاً: دل هذا على أن الرجل كان يعرف الحق، فـ ورقة بن نوفل تنصر على ما كان من الدين الصحيح من النصرانية الذي كان قبل النبي صلى الله عليه وسلم، واطلع وعرف أن هذا رسول رب العالمين صلوات الله وسلامه عليه. وهكذا نبئ صلى الله عليه وسلم بسورة اقرأ، فلما ذهب إليه قال: يا ليتني حي حين يخرجك قومك، وإلى ذلك الوقت لم تكن قد نزلت عليه: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1 - 2] لم تنزل عليه إلا سورة العلق، فقال له ورقة بن نوفل: إن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً، ثم لم ينشب ورقة أن توفي رضي الله تبارك وتعالى عنه. وفتر الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم فترة، ثم نزل عليه جبريل مرة أخرى. وكان خلال فترة الوحي كما روى الإمام البخاري ومسلم أنه تحدثه نفسه أنه فتر عنه الوحي، وأن الناس سيقولون عنه: كاذب، فيأتيه جبريل فيثبته، أن اثبت إنك على الحق صلوات الله وسلامه عليه. إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم أُوحي إليه، وجاءه جبريل من السماء، وكان قبل ذلك يتعبد الله سبحانه، وهذا المقصد من ذكر هذا الحديث، فقد كان يعبد الله سبحانه، ولم يكن يعبد الأصنام، بل كان يبغض الأصنام، ولذلك في قصة بحيرى الراهب لما ذهب النبي صلى الله عليه وسلم مع عمه إلى الشام، ولقوا بحيرى الراهب، وإذا به يرى سحابة تظلل النبي صلى الله عليه وسلم، فتعجب الرجل من ذلك، وهذا قبل الإسلام، قبل أن يأتيه الوحي من السماء. فقال بحيرى: ابن من هذا؟ فقال رجل: ابني، قال: لا، ما ينبغي أن يكون أبوه حياً، فجاء أبو طالب وقال: ابني، قال: لا، ما ينبغي أن يكون أبوه حياً، قال: أنا عمه، وأبوه مات، فقال بحيرى للنبي صلى الله عليه وسلم: إني سائلك عن أشياء، فإذا به يختبره ويقول: باللات والعزى أخبرني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما أبغضت شيئاً بغضي لهما، فعرف أنه نبي صلوات الله وسلامه عليه، وأوصى به عمه، وحذره من اليهود، أنهم إذا عرفوا أنه بهذه الصفات فسيقتلونه، وطلب منه أن يرجع به صلوات الله وسلامه عليه. إذاً: قبل الإسلام لم يكن يعبد اللات ولا العزى ولا الأصنام صلوات الله وسلامه عليه، بل أيضاً كان لو وجد فرصة في أن يكسر الأصنام لَفَعَل صلوات الله وسلامه عليه.

كراهية النبي صلى الله عليه وسلم للأصنام قبل البعثة

كراهية النبي صلى الله عليه وسلم للأصنام قبل البعثة روى الإمام أحمد من حديث علي رضي الله عنه، قال: (انطلقت أنا والنبي صلى الله عليه وسلم) وهو في مكة صلوات الله وسلامه عليه، في يوم من الأيام، وكان علي صغيراً، والنبي صلى الله عليه وسلم كبير، قال: (انطلقت أنا والنبي صلى الله عليه وسلم حتى أتينا الكعبة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجلس، وصعد على منكبي) وعلي صغير، فكون النبي صلى الله عليه وسلم صعد على منكبه لا يستطيع أن يحمله، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يغير المنكر بيده هو صلى الله عليه وسلم، أي: هو الذي يكسر الأصنام بنفسه صلى الله عليه وسلم، إذ كان فوق الكعبة صنم من نحاس مثبت عليها، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم إزالة هذا الصنم، فلما وجد فرصة قال لـ علي: اجلس، وصعد على كتفه صلى الله عليه وسلم وأخذ بالصنم، ولم يقدر علي أن يرفع النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا به يلاحظ أن علياً يضعف، فنزل هو صلى الله عليه وسلم وجلس وقال لـ علي: اصعد، وصعد علي على منكبي النبي صلى الله عليه وسلم، يقول علي: (فصعدت، فنهض بي) ولما حمله على كتفه صلى الله عليه وسلم قال علي: (إنه يخيل إلي أني لو شئت لنلت أفق السماء)؛ لأنه فوق منكب النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ هذا الصنم، قال علي رضي الله عنه: (فجعلت أزاوله عن يمينه وعن شماله، وبين يديه ومن خلفه، حتى إذا استمكنت منه) فكونه يكون عمره ثمان سنين أو فوقها، والنبي صلى الله عليه وسلم يرفعه، ثم يفعل هذا، هذا إكرام من الله عز وجل لـ علي أنه على كتف النبي صلى الله عليه وسلم يمسك بصنم فوق الكعبة، وهذا عجيب جداً، إذ إن الكعبة يستحيل أن يصل أحد إلى سقفها، ولكن علياً شعر أنه علا جداً وهو فوق كتف النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث رواه الإمام أحمد بإسناد رجاله ثقات قال: (حتى إذا استمكنت منه، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقذف به، قال: فقذفت به، فتكسر كما تتكسر القوارير) تخيل صنم من نحاس موجود فوق الكعبة، يقذفه على الأرض وينكسر كما ينكسر الزجاج، ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (ثم نزلت فانطلقت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نستبق حتى توارينا بالبيوت خشية أن يلقانا أحد من الناس، قال: حتى استترنا بالبيوت، فلم يوضع عليها بعد) أي: لم يجرؤ أحد أن يضع صنماً مرة أخرى فوق ظهر الكعبة، بعد هذا الصنم الذي كسره النبي صلوات الله وسلامه عليه. والغرض: أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث لم يعبد الأصنام، ولم يتقرب إليها، إنما كان يعبد الله سبحانه، ويتقرب إلى ربه سبحانه، ستره الله عز وجل وهو صبي صغير، وأعطاه الحكمة صلوات الله وسلامه عليه وهو شاب كبير، حتى إن المشركين اختصموا في الحجر الأسود: من الذي يضعه؟ لما بنوا الكعبة، واختصمت على وضعه أربع قبائل، فإذا بهم يقولون: نحتكم لأول من يطلع علينا، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم أول من يخرج إليهم، فيقولون: هذا الصادق الأمين، فيأتي ويخلع رداءه ويجعله على الأرض، ويأخذ الحجر بيده الكريمة ويجعله على الرداء، ويأمر مندوباً من كل قبيلة أن يمسك بطرف من أطراف الرداء، فأمسكت كل قبيلة بطرف ورفعوا الحجر، وأخذه النبي صلى الله عليه وسلم بيده الكريمة ووضعه مكانه، فكان موفقاً قبل أن يبعثه الله، ثم لما بعثه الله أكمل عليه النعمة، وهداه لهذا الدين العظيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الشورى [52 - 53]

تفسير سورة الشورى [52 - 53] القرآن حياة القلوب، وقد جعله الله نوراً يهدي به من يشاء من عباده هداية إرشاد وهداية توفيق، وهداية الإرشاد هي بالدلالة والعلم، ويقوم بها كل داع إلى الحق، وهداية التوفيق هي بالتوفيق للعمل، وهي خاصة بالله وحده.

تفسير قوله تعالى: (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا)

تفسير قوله تعالى: (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله سبحانه وتعالى في آخر سورة الشورى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} [الشورى:52 - 53]. يخبر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن هذا الوحي الذي نزل عليه من السماء كالوحي الذي أنزل على الأنبياء من قبله فقال: (وَكَذَلِكَ) أي: كما أوحينا إلى السابقين من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام مثله تماماً نوحي إليك وحياً صادقاً من عند رب العالمين من السماء. (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا) يؤكد سبحانه وتعالى أن هذا الوحي من السماء وليس كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وقد بدأ هذه السورة بذلك وختمها بذلك سبحانه، ففي أولها قال: {حم * عسق * كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [الشورى:1 - 4] والسورة سورة مكية، يؤكد الله عز وجل فيها أمور العقيدة العظيمة، وتوحيد الله سبحانه وتعالى، وأن القرآن وحي من السماء، من عند رب العالمين سبحانه وتعالى، فقال في أول السورة: {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ} [الشورى:3] أي: كما أوحى للسابقين كذلك يوحي إليك، وقال في آخرها: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى:52] فوصفه بأنه روح يحيي الله عز وجل به من يشاء من خلقه، ممن ماتت قلوبهم فأحياهم هذا القرآن العظيم. وقال الله أيضاً في أوائل السورة: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الشورى:7] فتكرر ذكر الوحي ثلاث مرات في هذه السورة، لتأكيد أنه وحي من الله سبحانه، وليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو كلام رب العالمين وحي من السماء صادق نزل بالصدق وبالحق من عند الله سبحانه. قوله: (مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ) أي: لم تكن تعرف قبل ذلك الكتابة، {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت:48] والحكمة من ذلك (إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48]. فمن حكمة الله عز وجل أن جعل نبيه صلى الله عليه وسلم أمياً لا يقرأ ولا يكتب، وليس هذا مدحاً للأمية، ولكنه مدح للنبي صلوات الله وسلامه عليه، حيث أتى بالشيء المعجز من عند رب العالمين سبحانه، فلو كان يقرأ ويكتب لدخل الشك في قلوب الناس، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول له ربه سبحانه: لو كنت تقرأ وتتلو من قبله من كتاب إذاً لارتاب المبطلون المشككون في هذا الدين، ولقالوا: إنه نقله من كتب السابقين ويزعم أنه جاءه من عند رب العالمين. قال الله: (مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ) أي: ما كنت تعرف ما هذا القرآن الذي يأتيك من عند الله، ولذلك لما قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: (اقرأ. قال: ما أنا بقارئ) أي: لست قارئاً وما الذي أقرؤه؟! فهو لا يقرأ كتاباً صلى الله عليه وسلم، أي لا يجيد قراءة ولا كتابة، وإذا كان جبريل يريد منه أن يقرأ فما الذي يقرؤه؟ فجبريل في المرة الثالثة قال له: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [العلق:1 - 4] علم الناس أن يكتبوا بالقلم وهو لا يقرأ ولا يكتب صلوات الله وسلامه عليه، فالذي آتاك هذا العلم هو رب العالمين سبحانه، وهم يقرءون ويكتبون ومع ذلك لم يأتهم الوحي إلا عن طريقك أنت يا من لا تقرأ ولا تكتب صلوات الله وسلامه عليه. قال تعالى: {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:5] وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء:113]، وهنا يقول: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52]، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:7] أي: وجدك ضالاً عن الشريعة لا تعرف ما هذه الشريعة، فكان يعبد ربه ويوحد ربه ويكره الأصنام صلوات الله وسلامه عليه بما جعل الله عز وجل في قلبه من عصمة، فعصمه أن يقع في محظور قبل البعثة، وبعد البعثة زادت هذه العصمة من رب العالمين سبحانه وتعالى وزاده حفظاً، قال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]، فمعنى قوله: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا) أي: عن الشريعة فهداك الله عز وجل لهذه الشريعة. قوله: (وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا) أي: جعلنا هذا القرآن نوراً. (نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا) النور يأتي من عند الله سبحانه وتعالى، فإذا أشرقت الشمس رأى الناس طريقهم، ولكن ليس كل الناس يرون الطريق، فلو أن إنساناً أعمى فإنه لا يرى شيئاً، بل هو في ظلام سواء طلعت الشمس أو لم تطلع، فكذلك الإنسان الكافر الذي طبع على قلبه؛ لأنه لا يستحق إلا ذلك، ينزل القرآن وهو نور من عند الله سبحانه ليهديه، فلا يرى شيئاً ولا يفهم شيئاً، وغاية ما يفهمه أن النبي صلى الله عليه وسلم يهدده بيوم القيامة وهو ينكر يوم القيامة، جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا على رجل منهم من أول سورة فصلت إلى قوله: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:13] فوضع يده على فم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: اسكت اسكت، وقام مذعوراً إلى قومه، فسألوه: ما الذي سمعت؟ قال: سمعته يتوعدنا، وهو الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم لا يكذب، ومع هذا لم يهتد للدين، وقد سمع سورة فصلت من أولها: {حم * تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت:1 - 5]، فتلا عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى وصل إلى قوله: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:13] فخاف مما يأتيه من عند الله سبحانه؛ لأنه يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا هدد لا يكذب صلوات الله وسلامه عليه. ومرة كان النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت والكفار أبو جهل وغيره لعنة الله عليهم يسخرون منه ويتهكمون به، كلما طاف سخروا منه، ثم ذهب إليهم صلى الله عليه وسلم وقال: (ألا تسمعون، والله لقد جئتكم بالذبح) فإذا بأشدهم عليه صلوات الله وسلامه عليه يصير في غاية اللين ويقول: اذهب يا أبا القاسم! والله ما كنت جهولاً. فرعبوا منه حين قال: (لقد جئتكم بالذبح) وهو واحد صلوات الله وسلامه عليه وهم مجموعة، والذي خوفهم أنهم يعلمون أنه صادق لا يكذب صلوات الله وسلامه عليه، فإذا قال: (جئتكم بالذبح) فسيذبحون في يوم من الأيام، وقد ذبح أبو جهل حيث حز رأسه عبد الله بن مسعود رضي الله، وألقي جيفة قذرة في قليب بدر، فالنبي صلى الله عليه وسلم إذا قال ووعد بشيء فما ينطق عن الهوى، وإنما هو وحي من الله سبحانه وتعالى. قال سبحانه: (نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ) لم يقل: نهدي به كل الخلق، وإنما قال: (نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا) فالله يهدي من يشاء، يهدي من يستحق ذلك، ومن كتب عنده سبحانه وقدر له أنه يستحق الهدى هداه الله عز وجل. جاء في سنن أبي داود وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خلق الله الخلق في ظلمة وألقى عليهم من نوره سبحانه، فمن أصابه نوره هداه الله، ومن أخطأه ضل) والله يفعل ما يشاء سبحانه وتعالى، يهدي من يشاء تفضلاً منه سبحانه، ويضل من يشاء عدلاً منه سبحانه: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف:76] وقد أنزل الكتب وأرسل الرسل فلا حجة للخلق عند ربهم سبحانه.

هداية النبي صلى الله عليه وسلم إلى صراط الله المستقيم

هداية النبي صلى الله عليه وسلم إلى صراط الله المستقيم قال الله: (نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي) هنا يؤكد فيقول: (إنك) يقيناً (لتهدي) واللام للتأكيد، والفعل المضارع مسبوق باللام المؤكدة، أي: أنت تهدي فلا يزال على ذلك حتى يتوفاه الله عز وجل. قال تعالى: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي) فهو يهديهم، وفي آية أخرى قال: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] ففي آية (إنك لتهدي)، وفي أخرى: (إنك لا تهدي)، ولا تناقض بينهما، فهو هادٍ يدل ويرشد صلوات الله وسلامه عليه، أرشدهم وبين لهم ودلهم، تقول للإنسان: إذا أردت أن تصل إلى المكان الفلاني فاذهب من هنا، فأنت قد أرشدته ودللته، فإن هو مشى في طريق آخر فهذا أمره هو، فقول الله: (إنك لتهدي) أي: إنك لتدعو، وترشد وتبين وتدل إلى صراط الله سبحانه وتعالى. وقوله: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) أي: لا تحول من أحببت، فهو يملك أن يريهم صلى الله عليه وسلم طريق الحق، أما أن يحول القلوب فلا يملك ذلك؛ ولذلك كانوا يتعنتون معه صلوات الله وسلامه عليه، ويذهب أحدهم ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ} [الإسراء:90 - 93] يقولون: ولابد أن تأتينا بخطاب من السماء يثبت أنك رسول، ولو فعلت ذلك لن نتبعك! هذا القلب المتحجر ماذا سيعمل فيه النبي صلى الله عليه وسلم؟! فهؤلاء الكفار يقول له ربه سبحانه عنهم: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56]، وهذه الآية نزلت في أبي طالب عم النبي صلوات الله وسلامه عليه، وكان أحب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسلم هذا الرجل، فقد ربى النبي صلى الله عليه وسلم، ورد له النبي صلى الله عليه وسلم الجميل بأن أخذ علي بن أبي طالب فرباه بعد أن صار عمه كبيراً. وأبو طالب دافع عن النبي صلى الله عليه وسلم، ودافع عن الإسلام، وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم يدافع عنه، وما تجرأ الكفار أن يتعرضوا للنبي صلى الله عليه وسلم في حياة أبي طالب. وفي آخر حياته يأتيه الكفار لعنة الله عليهم وفيهم أبو جهل، وأبو جهل كان يخاف أن يسلم أبو طالب ويتبع النبي صلى الله عليه وسلم ويؤمن به، ويشكو أبو جهل لـ أبي طالب من النبي صلى الله عليه وسلم ما يقول، ويطلب من أبي طالب أن يحول النبي صلى الله عليه وسلم عما هو فيه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يا عم! والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الدين ما تركته حتى يقضي الله أمره)، فالأمر ليس أنكم تعطونني الدنيا وأترك هذا الدين، الأمر أن أبلغ رسالة الله، فعند وفاة أبي طالب أتى النبي صلى الله عليه وسلم إليه وقال: (يا عم! قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله، فقال: والله يا ابن أخي، لوددت أني أقر عينك بها) يعني: أنا أحب أن أقول هذه الكلمة لأجل أن تفرح، وكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب، وحزن النبي صلى الله عليه وسلم حزناً عظيماً على ذلك، فإذا بالله ينزل عليه: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] فالهدى ليس بيدك أنت. إذاً: الهدى الذي في هذه الآية هو بمعنى الدلالة، فأنت تدل، وترشد، وتدعو، وتبين، وهذه وظيفته صلى الله عليه وسلم {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:54]، والله هو الذي يهدي من الكفر إلى الإيمان، ويقلب القلوب ويصرفها؛ ولذلك كان صلوات الله وسلامه عليه يكثر أن يدعو: (يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك، فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما أكثر ما تقول ذلك! فقال: إن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء)، فالله يقلب القلوب إن شاء بالإيمان فجعلهم مؤمنين، وإن شاء بغير ذلك فجعلهم كما ما يشاء سبحانه وتعالى. قال تعالى: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) و (صراط) في جميع القرآن تقرأ بالصاد، وتقرأ بالسين، وتقرأ بالصاد المشم صوت الزاي، فقراءة قنبل عن ابن كثير، وقراءة رويس عن يعقوب: (إنك لتهدي إلى سراط) بالسين، وقراءة باقي القراء غير خلف عن حمزة: (وإنك لتهدي إلى صراط) بالصاد، ويقرؤها خلف عن حمزة بالصاد المشمة صوت الزاي: (زراط مستقيم)، هذه ثلاث قراءات في هذه الكلمة، والصراط بمعنى: الطريق، والطريق المقصود منه الطريق الأعظم شرعة الله، وطريق الشريعة دين الله سبحانه، فالمعنى: وإنك لتهدي إلى هذا الدين العظيم المستقيم الذي لا انحراف فيه ولا اعوجاج، وهو دين رب العالمين، وشريعة الله سبحانه، ومنهج الله الذي جعله لخلقه سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض)

تفسير قوله تعالى: (صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض) قال الله: {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} [الشورى:53] هذا دين رب العالمين سبحانه العظيم، الذي يؤكد لنا أنه الرب، وأنه المالك الحقيقي، وأنه مالك الملك، ملك الملوك سبحانه وتعالى الذي له ملكوت السماوات والأرض، ففي أثناء السورة قال: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الشورى:29]، وقال في أولها سبحانه: {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الشورى:4 - 5]، وختم السورة بقوله: (الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) فهو الذي يملك كل شيء. قوله: (أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ) أي: ترجع كل أمور العباد في النهاية إلى ربها ليحكم بين العباد ويفصل بينهم، وكأنه يقول: أنتم في الدنيا يلي بعضكم أمور بعض، وقد ينسى الإنسان أن الله هو الذي يدبر ذلك سبحانه، وأن الله هو الذي ييسر له رزقه حتى يأخذه من هنا، ويأخذه من هنا، فيذكر العباد أن كل أموركم وإن زعمتم في الدنيا أنكم ترجعون إلى حكامكم وإلى سلاطينكم وإلى ولاة أموركم لكن سيأتي يوم لا تجدون من ترجعون إليه إلا الله الواحد القهار سبحانه وتعالى الذي يرجع إليه العباد، وتصير إليه مقاليد أمور العباد، فالكل بيده في الدنيا وفي الآخرة يفعل ما يشاء، ويقضي بين عباده كما يشاء، ويحكم بما يشاء ويفعل ما يريد.

الزخرف

تفسير سورة الزخرف [1 - 8] سورة الزخرف سورة مكية، أقسم الله عز وجل في مطلعها بالقرآن العظيم، وأنه كتاب عربي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، كما بين الله في هذه الآيات أنه لا يهلك قوماً أو يعذبهم حتى يقيم عليهم الحجة، فكم أرسل الله من أنبياء إلى الأمم السابقة، وكم من أمم أهلكها الله عز وجل بسبب تكذيبهم، فكان في ذلك عظة وعبرة وتهديد لكفار قريش وغيرهم من المشركين.

تفسير قوله تعالى: (حم)

تفسير قوله تعالى: (حم) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: بسم الله الرحمن الرحيم {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ * أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ * وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ} [الزخرف:1 - 8].

إعجاز القرآن الكريم

إعجاز القرآن الكريم سورة الزخرف هي الثالثة والأربعون من كتاب الله عز وجل، وهي سورة من سور آل حاميم، وهي من السور المكية كغيرها من سور الحواميم، وفيها خصائص السور المكية كما عرفنا قبل ذلك في خصائص هذه السورة. وقد ذكرنا: أن سور آل حاميم، أو الحواميم التي بدأت بسورة: (غافر) وانتهت بسورة: (الأحقاف) نزلت متناسقة، أي: نسقاً، سورة وراء سورة على ترتيب وجودها في المصحف، فهذه السورة في ترتيب النزول هي الثانية والستون، فنزلت بعد سورة الشورى، وبعدها سورة الدخان. والحواميم قلنا أنها: سورة (غافر)، وسورة (فصلت)، وسورة (الشورى)، وسورة (الزخرف)، وسورة (الدخان)، وسورة (الجاثية)، وسورة (الأحقاف)، وكلها تبدأ بالحرفين: (ح) و (م). والله سبحانه وتعالى قد تحدى خلقه بهذا القرآن العظيم، فقال: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود:13]، وقوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23]، وهذا بعد أن تحداهم أن يأتوا بكتاب مثل هذا القرآن العظيم، وأنه لو اجتمع له الإنس والجن ليفعلوا ذلك، فقال: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88]، أي: لو أن بعضهم ظاهر بعضاً، وعاون بعضهم بعضاً على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، فلما لم يقبلوا التحدي ولم يفعلوا، تحداهم بعشر سور كما في سورة هود، فلم يقدروا، فتحداهم بسورة واحدة كما في سورة يونس، ولم يقبلوا هذا التحدي، ولم يفعل أحد منهم شيئاً، ولم يأتوا بشيء، حتى أن من أراد منهم أن يأتي بشيء ألف أشياء يسجعها على وزن سورة من سور كتاب الله، فإذا بأصحابه يسخرون ويضحكون منه، ويعلمون أنه كاذب فيما يقول. وهذه السورة العظيمة آياتها تسع وثمانون آية على عد بعض القراء، وعلى عد آخر ثمان وثمانون آية، وهذا عند قراء الشام، وبقية القراء على تسع وثمانين آية، والخلاف في: (حم) هل هي آية متصلة بما بعدها، أو أنها ليست آية متصلة؟ عند الكوفيين أن: (حم) آية، وما بعدها آية، وأما عند غيرهم: ((حم والكتاب المبين)) آية واحدة. أيضاً اختلفوا في: ((مهين)) عند الوقف عليها، هل هي جزء من آية أم لا؟ وكما ذكرنا مراراً نقول: إن اختلاف العد في الآيات ليس معناه أن هناك آية زائدة، أو آية ناقصة، لا، وإنما الخلاف في أين نقف؟ فإذا قرأ: {حم} ووقف عندها فهو يقف عند رأس آية، وإذا قرأ: ((حم والكتاب المبين)) الاثنين معاً فهي آية واحدة، فعلى ذلك هي نفس الآيات، ولكن الخلاف في أين يقف القارئ؟

الحروف المقطعة وتأويلها

الحروف المقطعة وتأويلها سورة الزخرف بدأها سبحانه وتعالى بقوله: {حم} [الزخرف:1]، (حم) حرفان اختارهما الله عز وجل لهذه السورة، وللست السور الأخرى، وآل حاميم تبدأ بهذين الحرفين في كل سورة من هذه السور، لحكمة من الله سبحانه وتعالى، إذاً: ما معنى هذين الحرفين؟ حكمة من الله عز وجل. وافتتح الله بعض سور القرآن بهذه الحروف إشارة إلى تحدي الخلق بأن هذا القرآن من جنس هذه الحروف التي تقرءونها، فأتوا بقرآن مثله، فالقرآن مركب من هذه الحروف، أي: حروف اللغة العربية، فألفوا منها كتاباً مثل هذا الكتاب إن استطعتم إليه سبيلاً. وهذه الحروف إذا ذكرت في أوائل السور فالغالب أنه يذكر بعدها إشارة إلى هذا القرآن العظيم، فقال في سورة غافر: {حم} [غافر:1] ثم قال: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غافر:2] وقال في سورة فصلت: {حم * تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت:1 - 2]، وفي سورة الشورى قال: {حم * عسق} [الشورى:1 - 2]، ثم ذكر الإشارة إلى كتاب الله سبحانه وتعالى. كذلك هنا وفيما بعدها من سور آل حاميم الغالب فيها أنه يشير، إما مباشرة إلى هذا القرآن، وإما بعدها بآيات إلى ذكر القرآن والتحدي للخلق.

تفسير قوله تعالى: (والكتاب المبين)

تفسير قوله تعالى: (والكتاب المبين) قال تعالى: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الزخرف:1 - 2]، أقسم الله عز وجل بالكتاب المبين، والكتاب هو: القرآن العظيم الذي نعرفه، فيقسم الله عز وجل به، ويصفه بأنه كتاب مبين، سواء هنا أو في مواضع أخرى من القرآن، و (مبين) إما من: بان، وإما من: أبان، وهما معنيان صحيحان، من: (بان) بمعنى: ظهر، فهو كتاب ظاهر واضح جلي لا شك فيه، ومن: (أبان) بمعنى: أظهر وأوضح وبين، فهو يبين لكل ذي عقل، ولكل ذي لبٍ، ولكل من يفهم، الأحكام حتى يعقلوا عن ربهم سبحانه وتعالى ما يأمرهم به، وما يريده منهم سبحانه وتعالى، فهو كتاب واضح جلي لا غموض فيه، ولا إشكال فيه، بل يفهمه من يعرف العربية معرفة العلماء، ومن يعرفها معرفة العامة، فيسمع القرآن فيعقل عن الله سبحانه وتعالى ما يقول، وما يأمر به سبحانه وتعالى، وما ينذرهم به، وما يبشرهم به، وما يخبر عن الإيمان به، كآمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله، ويبين لهم القرآن ما يشكل عليهم في حياتهم، فهو البيان والشفاء والموعظة، وقد ذكر الله في موضع آخر فقال: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [القصص:2] وهنا قال: {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الزخرف:2].

تفسير قوله تعالى: (إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون)

تفسير قوله تعالى: (إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون) قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف:3]. قوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ} [الزخرف:3]، هذا جواب القسم، فأقسم ربنا سبحانه وتعالى بالكتاب المبين: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف:3]، أي: جعلنا هذا القرآن العظيم بلسانكم: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195]، واللغة العربية أعظم اللغات، وأفصح اللغات، وأبلغ اللغات، وأجمل اللغات، فنزل القرآن بهذه اللغة العربية، نزل من السماء من عند رب العالمين، نزل بسفارة أعظم الرسل من الملائكة وهو جبريل، على أفضل رسل الله في الأرض محمد صلوات الله وسلامه عليه، في أشرف البقاع وهي مكة، وفي أفضل الزمان وهو رمضان، فكان القرآن أعظم ما نزل من السماء، في أعظم البقاع، على أعظم وأفضل الرسل صلوات الله وسلامه عليه، في أفضل الشهور وهو شهر رمضان: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان:3]. قال: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف:3]، و (جعل) لها معانٍ كثيرة، فهي هنا بمعنى: سماه ووصفه وقاله وبينه سبحانه وتعالى، فالله جعله قرآناً عربياً، ولو شاء لجعله قرآنا أعجمياً، فهو سبحانه الذي خلق العباد، وخلق اللغات، وخلق ألسنة العباد، وخلق عقول العباد، فيفهمون ما يريد الله عز وجل منهم، فلو شاء لجعله قرآناً أعجمياً، ولكن أنزله بلسان عربي مبين على النبي صلوات الله وسلامه عليه. ومثل (جعل) بمعنى: سمى ووصف قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ} [المائدة:103] أي: ما وصف ولا سمى هذه الأشياء، ولكن أنتم الذين افتريتم ذلك، وأنتم الذين سميتم ذلك. وكذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر:91]، ليس معناه: الذين خلقوا القرآن عضين، لا، وإنما معناه: الذين اختلفوا وتشاكلوا في القرآن، فكل منهم يقول فيه بشيء، فهذا يقول: سحر. وذاك يقول: كهانة. وغيرها من الأكاذيب والأوصاف التي يصفون بها القرآن، فهذا من معاني جعل، وهو سبحانه الذي أراد أن يبين لنا أن هذا القرآن عربي، تكلم به ربنا سبحانه وتعالى، فأوحاه إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل عليه السلام، فنزل به بهذا اللسان العربي على النبي صلوات الله وسلامه عليه. وكلمة: (قرآن) من القرء، وهو الجمع، فسوره مجموعة، وهو الذي يقرأ ويتلى، فالقرآن يتلى، ويجمع في صحيفة، ويجمع في الصدور. قوله: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف:3] هي قراءة الجمهور، وقراءة ابن كثير: (قراناً عربياً) يعني: يقرأ بالألف بدل الهمزة، وإذا وقف عليها حمزة قرأ كـ ابن كثير: (قراناً). قوله: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف:3] أي: عن ربكم سبحانه وتعالى ما يقوله لكم، وتفهمون هذا القرآن الذي هو بلسانكم، وكما ذكر الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم:4]، فكل رسول أرسله الله عز وجل إلى قوم أرسله بلسانهم، حتى يبين لهم، وهذا القرآن العظيم نزل بلسان عربي، نزل على النبي صلى الله عليه وسلم في مكة حتى ينتشر إلى العالم كله بهذا اللسان العربي المبين. قوله: فإذا عقلتم عن الله سبحانه ما أراد منكم، وما أراد بكم عملتم بما فهمتم، ولذلك السور المكية يخاطب الله عز وجل بها عقول العباد، وكأنه يقول لهم: أين عقولكم حين تعبدون هذه الأصنام من دون الله؟ فمن خصائص هذه السورة كغيرها من السور المكية، تقرير أمر العقيدة في قلوب الناس: عقيدة الإيمان بالله وحده، ونفي الشرك عن الله سبحانه، عقيدة الإيمان برسل الله وملائكة الله، والإيمان بما أنزل الله عز وجل من السماء، وإعمال العقول فيما يحدثونه من بدع، وفيما يقعون فيه من كفر وشرك، ولذلك يخاطب الله عقولهم حين يقول لهم سبحانه: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} [الزخرف:5]، أي: أنترككم وأنتم في إسرافكم وكفركم وشرككم، على ذلك حتى نهلككم بالعذاب من غير ما نقيم عليكم الحجة؟ لا، حاشا لله عز وجل، فهو القائل: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، فأنزل الكتاب وأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم، ليهدي الخلق إلى دين الله، حتى لا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.

تفسير قوله تعالى: (وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم)

تفسير قوله تعالى: (وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم) قال تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف:4] أي: أن هذا القرآن محفوظ عند الله عز وجل في اللوح المحفوظ، وأم الكتاب أي: أصل الكتاب، وأصل الكتاب عند الله سبحانه وتعالى وهو اللوح المحفوظ، {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:78 - 79]، أي: لا يمسه إلا ملائكة الله عز وجل، فلا يمسه إنس ولا جان، ولكن ملائكة الله الذين طهرهم واختارهم، هم الذين يمسونه، فشرف الله عز وجل هذا القرآن، وأخبر أنه في لوح محفوظ عند رب العالمين سبحانه، فمهما حاول الناس تبديله لا يقدرون ولا يجدون إلى ذلك سبيلاً، فالله حفظه عنده، وحفظه في صدور عباده المؤمنين، وأخبر أنه {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:78 - 79]، فهذا عند الله عز وجل، فأولى أن يكون كذلك عند المؤمنين، فلا يمس القرآن إلا الإنسان الطاهر، تشبهاً بملائكة الله المطهرين الذين يمسون اللوح المحفوظ: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79]. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يمس القرآن إلا طاهر)، ويبقى هنا: القياس على ما عند الله عز وجل، والنص من النبي صلى الله عليه وسلم أنك لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر، أي: طاهر من الحدث الأصغر أو الأكبر. قوله: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا} [الزخرف:4] أي: عند الله عز وجل، وقد عبر بنون العظمة وقوله: {لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف:4] أي: عالٍ رفيع، لا يقدر أحد أن يناله إلا من اختاره الله وشرفه الله سبحانه وتعالى، ولا يقدر أحد على أن يبدله، فقد قال الله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] فهو عليّ الشأن، مهيمن على غيره من الكتب، عليّ عن أن يناله أحد بتغيير أو تحريف أو تبديل. قوله: {حَكِيمٌ} [الزخرف:4]، أي: محكم أحكمه الله سبحانه، فهو مشتمل على الحكم، ليس فيه تناقض، وليس فيه إشكال، حفظه الله عز وجل من النقص، وحفظه من التغيير.

تفسير قوله تعالى: (أفنضرب عنكم الذكر صفحا)

تفسير قوله تعالى: (أفنضرب عنكم الذكر صفحاً) قال تعالى: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} [الزخرف:5]. ثم قال لعباده: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ} [الزخرف:5] أي: هل يعقل؟ أننا نخلقكم ثم نترككم سدى وعبثاً، ونهملكم من غير ما ننزل عليكم كتاباً نبين لكم فيه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [هود:50]. والذكر هنا: التذكير، والضرب بمعنى: الإعراض، أي: أفنعرض عنكم؟ قوله: (صفحاً) تقول: أعرض عن فلان صفحاً. أي: أعطاه جنبه ولم يعطه وجهه. وكأن المعنى هنا: أفنعرض عنكم ونترككم فيما أنتم فيه حتى نأخذكم ونعذبكم، فيكون لكم علينا حجة، فتقولون: لم تبعث إلينا رسولاً، لم تنزل علينا كتاباً؟ لا، وإنما لابد أن نبين لكم، وكذلك هل نخلقكم ونترككم هكذا، تعيشون وتموتون من غير حساب؟ لا، وإنما لابد من الحساب، فلن يضرب عنهم الذكر صفحاً، بل يذكرهم ويعظهم، ثم يقبضهم ويحاسبهم، فيعذب من يشاء ويرحم من يشاء قال: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنتُمْ} [الزخرف:5]، ومعنى: (أن) بسبب، أي: بسبب أنكم قوم مسرفون، أنترككم في إسرافكم؟ لا، فرحمة الله عز وجل عظيمة وواسعة، والعباد كفروا بالله، والخالق سبحانه مقت العباد فيما هم فيه، لذا جاء في الحديث الذي رواه مسلم عن عياض بن حمار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله نظر إلى أهل الأرض جميعهم فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب). فإذا كان العباد على شركهم بالله سبحانه، وهو يمقتهم على ما هم فيه من كفر وإشراك به، فهل يعرض عنهم، ويتركهم حتى يعذبهم؟ لو فعل ذلك سيكون قد ظلمهم، ولكن لأن رحمته وسعت كل شيء، أبى إلا أن ينزل عليهم كتاباً يبين لهم، ويرسل لهم رسولاً يبين لهم حتى لا يكون لهم على الله حجة. قوله: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} [الزخرف:5]، فيها قراءتان: الأولى: قراءة ابن كثير وأبي عمرو وابن عامر وعاصم ويعقوب بفتح الهمز: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} [الزخرف:5]، والخمسة الباقون يقرءون بكسر الهمز: ((إِن كنتم قوماً مسرفين)). فهل إن كنتم كذلك نعرض عنكم ونترككم على ذلك؟ لا، فرحمتنا أبت إلا أن نخبركم ونعظكم ونعلمكم، فإذا أبيتم فلكم العذاب عند الله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (وكم أرسلنا من نبي في الأولين)

تفسير قوله تعالى: (وكم أرسلنا من نبي في الأولين) قال تعالى: {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ} [الزخرف:6]، أي: أن هذه ليست أول مرة نرسل فيها إلى العباد رسولاً، بل قد أرسلنا كثيراً من الرسل، جاء في حديث في إسناده ضعف: أنهم تجاوزوا الثلاثمائة من رسل الله عز وجل، وأنبياء الله كثيرون تجاوزوا الأربعة والعشرين ألفاً عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، و (كم) في الآية: للتكثير. فالله أرسل رسلاً، وأنزل كتباً، وجعل أنبياء يدعون الناس، ويسوسون الناس حتى يهدوهم إلى رب الناس سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون)

تفسير قوله تعالى: (وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون) قال سبحانه: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الزخرف:7]، أي: أن كل مجموعة، وكل قوم، وكل أمة يبعث الله عز وجل إليهم رسولاً، فالعادة فيهم أن يكذبوا، وأن يعرضوا، وأن يسخروا، وسيذكر لنا في هذه السورة، قصة فرعون مع قومه، سخر منهم، وكيف استخفهم، وكيف أطاعوه، وكيف أهلك الله عز وجل الجميع، قال: {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ} [الزخرف:6]، أي: في الأقوام السابقين {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا} [الزخرف:7 - 8] يعني: هؤلاء الذين استهزئوا بك، كان من قبلهم فيمن هو أشد منهم قوة، قوم عاد وثمود وأصحاب الأيكة وقوم فرعون، فأهلكنا هؤلاء، فهل نترك هؤلاء هكذا بغير أن نحاسبهم؟ قال: {وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ} [الزخرف:8]، أي: مضى مثلهم، فقد ضرب لكم الأمثال، وذكركم بما جرى لهم، فاحذروا أن تصابوا بمثل ما أصيب به السابقون. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الزخرف [6 - 11]

تفسير سورة الزخرف [6 - 11] أرسل الله تعالى إلى الأمم الغابرة رسلاً كثيرة، وبين أن العادة الغالبة على الكفار في سلوكهم مع رسل الله تعالى هي الاستهزاء والتكذيب والإعراض فكان مصيرهم أن أهلكهم الله تعالى، وكذلك هذا مصير من استهزأ وكذب بمحمد صلى الله عليه وسلم، ثم بين الله تعالى كيف أن هؤلاء المشركين يعترفون لله سبحانه بالربوبية ومع ذلك لا يفردونه بالعبادة، مع أنه خلق السماوات والأرض، ومهد الأرض وجعلها صالحة للسكنى، وأنزل المطر من السماء بقدر ما يحتاج إليه فأحيا به الأرض الميتة، أفلا يستحق من هذا شأنه أن يفرد بالعبادة؟ بلى والله.

تفسير قوله تعالى: (وكم أرسلنا من نبي في الأولين)

تفسير قوله تعالى: (وكم أرسلنا من نبي في الأولين) الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل: {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَالَّذِي نَزَّلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الزخرف:6 - 11]. في هذه الآيات من سورة الزخرف يخبر الله سبحانه وتعالى أنه قد أرسل رسلاً كثيرين وعبر عن ذلك بقوله: وكم أرسلنا، أي: ما أكثر ما أرسلنا من أنبياء إلى قومهم يدعونهم إلى توحيد الله، وإلى طاعة الله سبحانه، ويعلمونهم أمر الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك كانت العادة أن يستهزئوا برسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وهنا في هذه السورة المكية يثبت الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم، ويثبت المؤمنين بأن هؤلاء الكفار ليسوا أول من كذب الرسل. ولكن من قبلهم كفار آخرون ضرب الله لهم الأمثال وكفروا بالله عز وجل ومكروا ومكر الله، والله خير الماكرين فأهلكهم. وكل إنسان إذا لم يتعظ ويعتبر بما جاء من عند الله؛ فهو عرضة لهذا الجزاء من عند الله سبحانه وتعالى، ولذلك يضرب الله الأمثال في القرآن، ويسوق القصص؛ لنتعظ ولنعتبر بما جاء فيها. والنبي: نبأه الله سبحانه فأخبره بأمور من أمور الغيب، وأمره أن يعلم الخلق، وأن يأمرهم بطاعة الله سبحانه، وأن يخبرهم بما يغضب الله سبحانه، فيجتنبوا ذلك. وقد أرسل أنبياء كثيرين منهم: من كان نبياً ورسولاً، ومنهم من كان نبياً فقط.

القراءات في قوله تعالى: (من نبي)

القراءات في قوله تعالى: (من نبي) والنبي فيه قراءتان: قراءة الجمهور: {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ} [الزخرف:6]. وقراءة نافع: {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِئ فِي الأَوَّلِينَ} [الزخرف:6].

الفرق بين النبي والرسول

الفرق بين النبي والرسول النبي من نبأه الله سبحانه، وأنزل عليه الوحي من السماء؛ ليأمره وينهاه، ويطلعه على أشياء من الغيب، ويأمره أن يعلم قومه. أما الرسول فهو من جاء بشرع جديد، وله كتاب من الله عز وجل، ومأمور بتبليغ وتنفيذ هذه الشريعة من عند رب العالمين. فالله أرسل أنبياء كثيرين، وقد ذكرنا أنهم جاوزوا الأربعة والعشرين ألفاً، أما رسل الله عز وجل فهم ثلاث مائة، أو يزيدون قليلاً. ففي كل فترة يبعث الله عز وجل نبياً أو رسولاً يهدي قومه إلى دين الله سبحانه، ولكن السابقين ما كان يأتيهم من نبي إلاَّ كان الأصل عندهم تكذيبه والاستهزاء به. ولما يخبرنا الله عز وجل بذلك يريد أن يثبت النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك يثبت كل من يدعو إلى الله سبحانه، ويعلمه بأن طريق الدعوة إلى الله لن تكون ممهدة، ومفروشة بالورود، وإذا لم يكن ذلك للأنبياء والرسل فكيف بمن دونهم. فهي طريق فيها الصعوبة، والشدة، وفيها المقابلة بالاستهزاء، وفيها المقابلة بالإنكار. فقد جوبه الأنبياء بذلك حتى مكن الله عز وجل دينه، ونصر رسله كما قال سبحانه وتعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف:110] أي: ينجي الله عز وجل من يشاء من عباده المؤمنين، ويهلك من يشاء من المجرمين، فإذا أتى أمر الله لا ينفع هؤلاء شيئاً بعد ما كفروا وأعرضوا، واستهزءوا بالرسل. فالمؤمن يثبته الله بأمره بالصبر، وأنه سيأتي نصر الله يوماً من الأيام، فلا يعجل. والمطلوب منه الأخذ بالأسباب، والنتيجة ليست عليه إنما على الله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (فأهلكنا أشد منهم بطشا)

تفسير قوله تعالى: (فأهلكنا أشد منهم بطشا) قال تعالى: {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ} [الزخرف:8] أي: أشد من هؤلاء الموجودين وهم أبو جهل وأتباعه، وأعوانه، فالسابقون من قوم نوح، وقوم عاد، وثمود كانوا أطول أعماراً وأعظم أجساماً، وأكثر أموالاً، وأشد قوة فأهلكناهم، وكذلك نفعل بهؤلاء. والبطش: الإمساك بالشيء والمغالبة عليه، فهؤلاء غالبوا وأرادوا أن يبطشوا بالرسل ويقتلوهم لكن الله، عز وجل أهلكهم. قال تعالى: {وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ} [الزخرف:8] أي: مضى سلفاً في كتاب الله سبحانه أن ضرب لك الأمثال عن هؤلاء السابقين، وأخبرك عن قوم عاد وثمود، وقوم لوط وعن أصحاب الأيكة وعن قوم إبراهيم، وعن قوم فرعون. فقد مضت أخبار وقصص هؤلاء السابقين في كتاب الله عز وجل وقد علمت ما حاق بهم، وما نزل بهم من عند الله سبحانه وتعالى. والمثل أيضاً: العقوبة والعذاب فالمعنى: مضى ما أخبرناك من تعذيب هؤلاء قال تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:40]. والفائدة من ذكر الأولين العبرة قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً} [النازعات:26] أي: إن في ذلك لموعظة وذكرى للمؤمنين. وقال: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:2] أي: اعتبروا وقيسوا أنفسكم على هؤلاء، فهؤلاء بغوا في الأرض وعلوا، وطغوا على رسل الله واستكبروا، فكانت النتيجة أن أهلكهم الله ومضى مثل الأولين. فإذا جاء هؤلاء وصنعوا صنيعهم كانت النتيجة إهلاكهم وإدخالهم النار. وكذلك إن كنتم من المؤمنين المصدقين؛ فنتيجة سلوك طريق الإيمان الجنة. ثم يعجب النبي صلى الله عليه وسلم من هؤلاء الذين لا يعقلون، ولا يتفكرون ويهرفون بما لا يعرفون، ويقولون ما لا يفهمون، ويجادلون النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] أي: نعجب لأمره سيجعل كل الآلهة من اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى وغيرها إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب.

تفسير قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم)

تفسير قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم) يقول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9]. أي: لو سألت هؤلاء الجهلة الكفرة: من الذي خلق السماوات والأرض؟ ليقولن معترفين: إن الذي خلق هذا كله هو الله سبحانه وتعالى الذي من أسمائه العليم العزيز. وقوله تعالى: ((ليقولن)) فعل مضارع سبقه لام التوكيد وفي آخره نون التوكيد الثقيلة وهذا يدل على وقوعه جواباً للقسم، يعني: والله ليقولن ذلك، وكأن المعنى: أنهم جزماً سيقولون ذلك إذا سألتهم: سواء نطقوا بألسنتهم، أم أعرضوا عن كلامهم، ففي قلوبهم يعرفون أن الذي خلق السموات وخلق الأرض هو الله العزيز الغالب. ولذلك كان يتهكم بهم حسان رضي الله عنه ويقول: زعمت سخينة أن تغالب ربها وليغلبن مغالب الغلاب وسخينة: المقصود بها قريش، كانوا إذا استهزئوا بهم قالوا لهم ذلك: فالذي يريد أن يغالب ربه سبحانه وتعالى فهو المغلوب. وهم يعرفون أن الله عزيز غالب على أمره، و (العزيز) هو القوي الذي لا يغلب ولا يمانع. و (العليم) الذي يعلم كل شيء ويعلم السر وأخفى. وكأنه يقول سبحانه اعجب لهؤلاء الجهلة حين يقولون: إن الخالق هو الله القوي الغالب علام الغيوب سبحانه، ومع ذلك يعبدون غيره. فإذا سئلوا: هل هذه الآلهة تنفع أو تضر؟ قالوا: لا تنفع ولا تضر، لكن نعبدها من أجل أن تقربنا إلى الله. فإن قيل: لماذا لا تعبدون الله مباشرة بدل أن تعبدوا هذه الآلهة؟ قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]. فهؤلاء الذين يتعجبون لمثل هذا الشيء ليست لهم عقول ولا أفهام. لكنهم يريدون خداع النبي صلى الله عليه وسلم ويبررون جهالتهم وكفرهم، وشركهم بالله بهذا التهكم الذي يقولونه.

تفسير قوله تعالى: (الذي جعل لكم الأرض مهدا)

تفسير قوله تعالى: (الذي جعل لكم الأرض مهداً) قال في وصف الله العزيز العليم: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الزخرف:10] أي: مهد لكم خلق هذه الأرض فجعلها مهداً. وفي قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا} [الزخرف:10] قراءتان: قراءة الكوفيين ((مهداً)). وقراءة باقي القراء: ((مِهَاداً)) أي: مهدها لكم وجعلها كالفراش فتقفون عليها وتجلسون وتنامون عليها. وهذه الأرض التي خلقها الله مكورة لو صغر حجمها لا يستقر الناس عليها، ولكن ضخمها سبحانه وتعالى ثم مهدها وجعل فيها ما هو مرتفع، وما هو منخفض ومستوٍ؛ حتى تسيروا عليها، وجعلها كفاتا تجمعكم أحياءً وأمواتا. قال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا} [الزخرف:10] أي: جعل لكم طرقاً تسلكونها حتى تصلوا إلى أعمالكم، وإلى تجاراتكم وتسلكونها في أسفاركم وغير ذلك. قال تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الزخرف:10] أي: تهتدون أن الذي دلكم على ذلك، وأن الذي خلق لكم ذلك هو الذي له النعمة عليكم، وله الفضل عليكم؛ فاعبدوه وحده لا شريك له.

تفسير قوله تعالى: (والذي نزل من السماء ماء بقدر)

تفسير قوله تعالى: (والذي نزل من السماء ماءً بقدر) قال تعالى: {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الزخرف:11] أي: الذي نزل المطر من السحاب. وقد جعل الله عز وجل لهذا الماء دوره في الكون يصعد من الأرض إلى السماء وينزل من السماء إلى الأرض وكل ذلك بقدر الله. فالشمس تبخر كمية معينة من هذه المياه ولو شاء الله لأدنى الشمس إلى الأرض فبخرت الماء كله فصعد إلى السماء ولكن جعل البعد بمقدار، كما قال: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد:8] وهذا الماء المبخر يصعد إلى السماء بقدر. ولو أن الله عز وجل لم يخلق الرياح لسوق السحاب لنزل المطر في نفس المكان ولم يستفد به أحد. ولكن الله العظيم سبحانه خلق الرياح لتحرك السحاب حيث يشاء الله عز وجل ثم يأمر بنزول الماء على من يشاء من خلقه سبحانه بقدر، قال تعالى: {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ} [الزخرف:11]. ولو شاء الله تعالى لفتح السماء فنزل الطوفان وأغرق المكان الذي ينزل فيه. ولو شاء الله عز وجل لصرفه فأصبح الناس لا يجدون شيئاً. ولكن الله بفضله ورحمته جعل هذا الماء ينزل من السماء قطرات لا تؤذي خلق الله سبحانه؛ فيغيثهم به وينبت لهم الزرع وينفع به بهيمة الأنعام ومن يشاء من خلقه سبحانه. فهذا الماء الذي نزل من السماء، وهذه الأرض الذي تزرعونها لا تعرفون عنها إلا ما علمكم الله سبحانه. فقد خلق دواباً في الأرض لتنتفعوا ومن ذلك: دود صغير يأكل تراب الأرض لكي يفكك أجزاء التربة، فإذا نزل المطر عليه انتفع به الإنسان فينبت النبات. فخلق الله هذه الدابة لتخدمك وأنت لا تراها. فمن كفران هذه النعم أن يعرض عنها الإنسان ويعبد غير الرحمن سبحانه وتعالى. قال تعالى: {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ} [الزخرف:11] أنشر بمعنى: أحيا.

القراءات في قوله تعالى (بلدة ميتا كذلك تخرجون)

القراءات في قوله تعالى (بلدة ميتاً كذلك تخرجون) وفي قوله تعالى: {بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الزخرف:11] قراءتان: قراءة الجمهور: ((بلدة ميتْاً)). وقراءة أبي جعفر: {مَيِّتاً} [الزخرف:11]. وكذلك في قوله: ((كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ)) قراءتان: قراءة الجمهور ((تُخْرجون)). وابن ذكوان عن ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف: {كَذَلِكَ تَخْرُجُونَ} [الزخرف:11] والمقصود هنا: تخرجون من الأرض يوم القيامة إلى محشركم، فكما أخرج النبات من الأرض وأحياها بعد موتها؛ كذلك يحييكم بعد ما تكونون تراباً رميماً وعظاماً. والله سبحانه هو الذي خلق الأزواج كلها، وخلق من كل شيء زوجين: من الإنسان ومن الأنعام وحتى من النبات، وخلق الكفر والإيمان فكل هذه الأصناف والأنواع من خلق الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ} [الزخرف:12] أي: من السفن، {وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} [الزخرف:12]. قال في آية أخرى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:8] فدلكم الله سبحانه وتعالى على فوائد هذه الأشياء، فركبتم الخيل والبغال والحمير، وخلق لكم وعلمكم كيف تصنعون السفن فركبتم عليها، وعلى السيارات، وركبتم ما خلقه الله عز وجل لكم. فاستووا على ظهوره، واشكروا نعمة الله الذي هداكم لذلك لعلكم تشكرونه وتعبدونه. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الزخرف [9 - 14]

تفسير سورة الزخرف [9 - 14] يذكر الله تعالى في سورة الزخرف اعتراف العباد سواء كانوا مؤمنين أو كافرين بأن الله هو الخالق والرازق، ولكن من الناس من يضله الله فيشرك مع الله إلهاً آخر، ثم يذكر الله سبحانه وتعالى بعض نعمه على عباده، ويعلمهم دعاءً يقولونه أثناء الركوب على الدابة، ليعلم الإنسان أنه إلى ربه منقلب وراجع.

تفسير قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم)

تفسير قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم) الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الزخرف: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ * وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} [الزخرف:9 - 14]. في هذه الآيات من سورة الزخرف يذكر لنا ربنا سبحانه وتعالى قدرته العظيمة على الخلق والإيجاد، التي عرفها الخلق جميعهم المؤمنون منهم والكافرون أيضاً، فلئن سألت هؤلاء الكفار الذين يشركون بالله سبحانه: من خلق السموات والأرض؟ لاعترفوا بأنه الله سبحانه، سواء صرحوا بذلك بألسنتهم أو أنهم أخفوا وكذبوا فيما يقولون، وقد جعلوا صفات الله العظيمة لغير الله سبحانه كما يقول الملحدون: الطبيعة خلقتنا، الصدفة أوجدتنا, فإذا سئلوا عن هذه الطبيعة وهذه الصدفة التي توجد: هل فيها قوة؟ هل عندها علم؟ هل لها صفات الإيجاد؟ فأعطوا هذه الطبيعة وهذه الصدفة قوة الله وقدرة الله وصفات الله سبحانه وتعالى, فهربوا من أن يقولوا: الله، وقالوا: غيره، وأعطوا لغير الله عز وجل الذي لا يكون إلا لله سبحانه, فهم إن أظهروا وقالوا: الله الذي يفعل ذلك اعترفوا وقالوا الحق, وإن أضمروا فقد كذبوا في الظاهر، ولكن الله يشهد على ما في قلوبهم من أنهم يعرفون الله سبحانه ولكنهم يجحدون آياته سبحانه وتعالى. وكان الكفار في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يعترفون ويقرون، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87]، بل كان أحدهم يذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقسم عليه ويقول: إني سائلك ومشدد عليك -يعني في السؤال- ويسأل النبي صلى الله عليه وسلم: أسألك بالذي خلق السماوات، وخلق الأرض، وخلق الجبال، وخلق البحار، آلله أرسلك؟ فهم في كفرهم يعرفون أن الله هو الذي خلق السماوات، وخلق الأرض، وخلق الجبال، وخلق الأشجار، وخلق البحار، وخلق الأنهار، قال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16] , فكانوا يقولون ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم, وإذا سألهم صلى الله عليه وسلم: من الذي خلقهم؟ ومن الذي يرزقهم؟ ومن الذي يرجون نفعه وضره؟ أخبروا أنه الله الذي في السماء سبحانه وتعالى, فالاعتراف بأن الله هو الرب القادر لم يكن المشركون يجادلون فيه، ولم يكن هناك جدال في أن الرب قادر وخالق وواحد، وأنه على كل شيء قدير، لم يكن عندهم خلاف في ذلك, إنما كان كلامهم ومخالفتهم للنبي صلى الله عليه وسلم في أنهم من يعبدون؟ هل يعبدون هذا الرب العظيم الذي خلق وأوجد وقدر وعلم أو يعبدون غيره؟ فكانوا يعبدون غيره؛ لأنهم يقولون: هي التي تقربنا إلى الله، سبحانه وتعالى عما يقولون علو كبيراً, فهنا القرآن يشهد عليهم بأنهم أقروا بذلك، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9] علموا أن الله عزيز وأن الله عليم ومع ذلك عبدوا غيره سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (الذي جعل لكم الأرض مهدا)

تفسير قوله تعالى: (الذي جعل لكم الأرض مهداً) قال الله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الزخرف:10]. من آيات قدرته سبحانه وتعالى، ومن عظيم نعمته، ومما تفضل به على عباده، أن رحمهم وأراهم رحمته: ((الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا)) أي: سواها لكم وجعلها مستوية تقدرون على أن تقفوا فوقها، وعلى أن تناموا عليها، وعلى أن تقعدوا وتسيروا وتذهبوا في فجاجها، سواها لكم ومهدها لكم وفرشها لكم، ومنعها من أن تميد بكم بما جعل فوقها من جبال رواسٍ. وقوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا} [الزخرف:10] أي: طرقاً تسيرون فيها وتذهبون إلى معايشكم، وقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الزخرف:10] أي: تهتدون حين تعرفون هذا طريق كذا، وهذا طريق كذا، فلم يدع الطرق جميعها طريقاً واحدة فيضيق عليكم، ولم يجعلها كلها مشتبهة فتضلون فيها، ولكن ميز لكم بين هذا وهذا؛ لعلكم تهتدون إلى طريقكم في ذهابكم إلى معايشكم، فإذا اهتديتم في الدنيا إلى معاشكم، كذلك تهتدون أن الذي جعل ذلك كله وخلقه وأوجده هو الله الذي يستحق العبادة، فلعلكم تهتدون لعبادته مما ترون من عظيم نعمه وآلائه وآياته سبحانه، ولعلكم تهتدون إلى ربكم سبحانه وتعالى فتعبدونه وحده.

تفسير قوله تعالى: (والذي نزل من السماء ماء بقدر)

تفسير قوله تعالى: (والذي نزل من السماء ماء بقدر) قال الله تعالى: {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الزخرف:11] فأرانا من آياته العظيمة سبحانه أنه نزل من السماء ماء بقدر، قال سبحانه: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد:8] فهو ينزل الماء من السماء أطناناً، تنزل على العباد في كل لحظة أطنان من الماء، لو أنه كثفها فجعلها في مكان واحد ونزلت على العباد لكانت طوفاناً على العباد وأغرقتهم، ولكن الله بفضله الكريم سبحانه جعلها موزعة على شكل قطرات على العباد حتى لا يهلكهم بذلك, ولو شاء لأنزلها جليداً من السماء فدمر العباد وكسر رءوسهم به، ولكن الله برحمته سبحانه ينزل من السماء ماء مباركاً على العباد غيثاً لهم, وينزله لهم رحمة منه سبحانه وتعالى بقدر ما يحتاجون، وعلى القدر الذي لا يهلكهم به سبحانه وتعالى، إلا أن يشاء له شيئاً، والله على كل شيءٍ قدير. وقوله تعالى: {فَأَنشَرْنَا} [الزخرف:11] أي: فأحيينا. قال تعالى: {بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الزخرف:11] كما ترون الأرض الميتة يحييها الله سبحانه، قال تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} [يس:33] هذه الأرض الميتة أحياها الله سبحانه وتعالى، وأخرج منها الثمار، وأخرج منها الحبوب، ورأيتم كيف كانت مقفرة فصارت زاهرة مثمرة، تخرج ما فيها من ثمار، كذلك يخرج لله عز وجل أجسادكم وأبدانكم من الأرض بعد أن تموتوا وتذهب هذه الأجساد، وتذهبون إلى ربكم سبحانه، كذلك يحييكم مرة ثانية، قال: {كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الزخرف:11] من قبوركم بعد أن صرتم رميماً وعظاماً.

تفسير قوله تعالى: (والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون)

تفسير قوله تعالى: (والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون) وقال الله تعالى: {وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} [الزخرف:12] أي: جميع الأصناف وجميع الأجناس، وجميع الأنعام، وجميع النعم، التي أخرجها الله سبحانه أنواعاً وأصنافاً وأجناساً، جعل لكم آية فيه، وجعل لكم نعمة فيه. وقال الله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} [الزخرف:12] أي: أوجد لكم وخلق لكم سبحانه وتعالى وهداكم في تفكيركم إلى أن تصنعوا هذه الأشياء، فجعل لكم الفلك تصنعونها، وعلم نوحاً كيف يصنع الفلك، فإذا بالعباد يصنعون كما صنع عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام, وهداهم الله إلى أن صنعوا السيارات والطائرات والصواريخ، وجعل لهم ما يركبونه سبحانه وتعالى، وسخر لهم ذلك حتى يذكروا نعمة الله، فسخر لنا الخيل والبغال والحمير، وجعلها لنا للركوب وجعلها لنا زينة، قال تعالى: {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:8] سبحانه وتعالى, {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ} [الزخرف:12] أي: السفن، {وَالأَنْعَامِ} [الزخرف:12] أي: بهيمة الأنعام، والأنعام تطلق على ثلاثة أشياء: على الإبل، وعلى البقر، وعلى الأغنام، فكأن هذا من العموم الذي يراد به الخصوص، فهنا الأنعام ليست كلها تركب، ولكن الذي يركب منها الإبل، وقد يركب الإنسان شيئاً آخر على وجه الندرة، ولكن لم يخلق لذلك ولذلك جاء في حديث في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينما رجل راكب على بقرة التفتت إليه فقالت: لم أخلق لهذا، وإنما خلقت للحراثة) بقرة تتكلم في الحديث يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً ركب على بقرة، وبينما هو يمشي بها، إذا بالبقرة تلتفت إليه وتقول له: لم أخلق لهذا، إنما خلقت للحراثة، وليس للركوب، فتعجب الناس وقالوا: بقرة تتكلم! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (آمنت به أنا وأبو بكر وعمر) وما في القوم أبو بكر ولا عمر، ولكن أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يري الصحابة قوة إيمان أبي بكر وعمر؛ لأن ما يخبر به النبي صلى الله عليه وسلم هو الحق، وما ينطق عن الهوى صلوات الله وسلامه عليه، فإن تعجبتم أنتم فإن أبا بكر وعمر لا يتعجبان، وإنما يصدقان ذلك, قال: (آمنت به أنا وأبو بكر وعمر، وأخذ الذئب شاة فتبعها الراعي فقال له الذئب: من لها يوم السبع، يوم لا راعي لها غيري) , وتعجب الناس ذئب يتكلم! قال: النبي صلى الله عليه وسلم: (آمنت به أنا وأبو بكر وعمر وما في القوم أبو بكر ولا عمر)، هذا من الأشياء العجيبة والله عز وجل يخلق ما يشاء سبحانه وتعالى، وقد جعل الحيوان أعجم لا ينطق ولا يتكلم، ولكن يرينا آية من الآيات سبحانه وتعالى أن ينطق هذا الأعجم، قال تعالى: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ} [غافر:81] فهاتان آيتان: بقرة تكلمت وقالت: لم أخلق للركوب، وهذا الشاهد في هذا الحديث مع هذه الآية أن الله عز وجل جعل لكم من الفلك والأنعام، وليس الأنعام جميعها بل جعل لكم (منها) أي: بعضها خاصة الإبل تركبونها دون غيرها، وهناك حديث رواه أبو نعيم في الدلائل عن أهبان بن أوس وهو صحابي وكان يلقب بمكلم الذئب, يعني: الذي كلمه الذئب ورد عليه، وحدثت قصة عجيبة لهذا الصحابي الفاضل يقول: (كنت في غنم لي، فشد الذئب على شاة منها) هذا الرجل سبب إسلامه أنه كان مع أغنام له، والذئب شد على شاة منها، أي: أنه أخذها وخطفها، قال: (فصحت عليه فأقعى الذئب على ذنبه يخاطبني) عجيب هذا الشيء! الذئب قعد على ذنبه مثلما يقعد الإنسان على مقعدته يكلمه ويقول له: (من لها يوم تشتغل عنها؟ تمنعني رزقاً رزقنيه الله تعالى؟ قال: فصفقت يدي) يعني: متعجب، ذئب يتكلم! هذا شيء عجيب وكان كافراً قبل ذلك وقال: (قلت: والله ما رأيت شيئاً أعجب من هذا، فقال: أعجب من هذا, رسول الله صلى الله عليه وسلم بين هذه النخلات يدعو إلى الله قال: فأتى أهبان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره وأسلم) , فهذه آية من آيات الله عز وجل، وليس كل الصحابة رأوا هذا الشيء، فآيات الله عز وجل لو أنها آية عامة وكذب بها الناس لأهلك الله عز وجل الناس وهذه عادة الله في عباده؛ أنه إذا أرسل آية للجميع فرأوها وعرفوها ثم لم يؤمنوا بها أتاهم العذاب من عند الله سبحانه وتعالى، ولكن يُري هذا الآيات البعض من الناس، لتكون حجة على هذا الذي رآها. ويخبر البعض أنه رأى الحصى يسبح بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي) صلوات الله وسلامه عليه، ورأى بعضهم السحابة تظل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسير، وعرفوا أنه نبي صلوات الله وسلامه عليه، ورأى بعضهم انشقاق القمر لما طلبوا آية من النبي صلى الله عليه وسلم يرونها، فأشار إلى القمر وانشق القمر فلقتين، فلقة أمام الجبل وفلقة وراء الجبل، ولكن كانت آيات للبعض وليست للجميع رحمة من رب العالمين سبحانه وتعالى. فقوله سبحانه: {وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا} [الزخرف:12] أي: الأجناس والأنواع والأصناف كلها، وقوله: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} [الزخرف:12] أي: ما تركبون عليه.

تفسير قوله تعالى: (لتستووا على ظهوره)

تفسير قوله تعالى: (لتستووا على ظهوره) قال الله تعالى: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف:13] أي: لتركبوا على ظهور الإبل، وعلى ظهور السفن، والسيارات وغيرها: {ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ} [الزخرف:13] إذاً: الإنسان لا يأخذ النعمة وينسى ربه سبحانه وتعالى، بل لابد أن تأخذ النعمة وتؤدي حق هذه النعمة عليك، بأن تشكر ربك سبحانه وتعالى. يقول الله تعالى: {ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا} [الزخرف:13] هاهو الله عز وجل علمكم ما الذي تقولونه حين تركبون الدواب وحين تركبون ما خلقه الله عز وجل لكم، قال تعالى: {وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف:13] إذاً: هذه سنة الله سبحانه التي ذكرها في كتابه، وحين تركبون دابة من الدواب وحين تركبون على ظهور ما خلقه الله عز وجل لكم تقولون: {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} [الزخرف:13 - 14] يعلمنا ربنا سبحانه ويعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم الأذكار، وذكر الله عز وجل يقول الله عنه: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]، فتذكر ربك سبحانه ليل نهار، وتذكر ربك وأنت في بيتك، وحين تأوي إلى فراشك، وحين تأتي إلى أهلك، وحين تدخل بيتك، وحين تخرج منه، وحين تذهب إلى المسجد، وإلى عملك، وحين تركب الدابة. هذا الذكر الذي ذكره الله عز وجل في هذه الآية يذكرنا بأن سفر الإنسان سفران: سفر في الدنيا من بلد إلى بلد, وسفر آخر طويل إلى الله عز وجل حتى تصل إلى الجنة في النهاية، فيقول سبحانه: {ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} [الزخرف:13 - 14]، فحين تخرج من بيتك مسافراً وتريد أن ترجع إلى بيتك لا تنس بيتك الأصلي الجنة، التي أهبط منها آدم فترجع إليها مرة أخرى، وكما أنك في سفرك تتزود بطعام وشراب ونفقة، فتزود للسفر الأكبر حتى ترجع إلى الجنة بتقوى الله سبحانه، فيذكرنا الله عز وجل في كتابه دائماً بسفر الآخرة, فلما ذكر الله الحج قال: {وتَزَوَّدُوا} [البقرة:197] ثم ذكرنا أننا مسافرون إليه، قال تعالى: {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197] , وعندما يذكرنا الله أنه أنعم على العباد وأنزل عليهم لباساً وريشاً قال: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26] وعندما تذكر وأنت تلبس الثياب أن الله خلقها لك لتتزين بها وتتجمل بها، فتذكر لباساً هو أعظم من ذلك؛ لباس التقوى، قال الله عز وجل: ((ذَلِكَ خَيْرٌ))، فدائماً تستدل بما أوجده الله عز وجل لك على ما أخبرك عنه وغاب عنك من أمر الآخرة. فقوله تعالى: {وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هذا} [الزخرف:13] سبحان: مصدر ومعناها أسبح الله تسبيحاً؛ لأن هذه الكلمة تغني عن جملة؛ لأن أصلها تسبيحاً لله: وهو مصدر أغنى عن جملة أصلها أسبح الله تسبيحاً عظيماً، وبدل هذه الجملة كلها كلمة سبحان الله أي: أنزه الله وأقدسه، فهو الذي ينزه عن كل عيب ونقص وشين سبحانه وتعالى، وما أعجب خلقه سبحانه وتعالى! فهو خلق عظيم وعجيب، فالإنسان يركب هذه الدواب ليس بقدرته، ولكن الله عز وجل هو الذي سخرها له ليركب عليها، وهي أقوى منه بكثير, فالحمار يحمل ما لا يقدر الإنسان أن يحمله، فهو أقوى من الإنسان بكثير، فلو أنه غضب على صاحبه لعضه ورفسه وأهلكه، ولكن الله عز وجل يذلِله ويسخره، فلا يتسلط الإنسان ويتكبر فيسلط الله الحيوان عليه. فلذلك الإنسان حين يركب الدابة عليه أن يذكر نعمة الله، وحين يركب على الحصان فلا يركب زهواً وفخراً وكبراً وخيلاء، أو يركب على الجمل فيرى نفسه أعلى من الناس وفوق الناس، فإن الله قد يكبه على وجهه، وكم من راكب ركب على جمل وعلا فوق الناس فإذا بهذا الجمل يعثر في الطريق في حفرة لفأر، وهذا من أشق الأشياء على الجمل، فلو أن حفرة فأر في الأرض وطئها الجمل لو قع الجمل، ويذكر العلماء قصصاً كثيرة في هذا المعنى، فيقول بعض أهل العلم في ذلك: يقول سليمان بن يسار: أن قوماً كانوا في سفر فكانوا إذا ركبوا قالوا: {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} [الزخرف:13 - 14]، وفيهم رجل على ناقة له رازم، أي: أنها بطيئة وضعيفة وهزيلة فكان يقول: إنها ناقة رازم، وليست محتاجة لهذا الذكر، أي: كل الذين يركبون الجمال يقولون: سبحان الذي سخر لنا هذا، لأن جمالهم عظيمة وقوية وجمله ضعيف، وهو الذي يمسكه، فهو ليس محتاجاً أن يقول: هذا الذكر، قال: أما أنا فإني بهذا لمقرن، قال: فقنصت به فدقت عنقه. فالإنسان حين يغتر ويرى أنه قادر يسلط الله عليه ما يهلكه، وانظر إلى مروضي الثعابين والأسود والنمور في السيرك ترى العجب من هؤلاء، عندما يغتر ويحس أن الأسد تحت يده يتسلط عليه الأسد ويمزقه, وكم من مرة يركب على هذا الأسد ويضربه بالكرباج ويعمل فيه، فإذا به يفعل بصاحبه ما فعله به ويمزقه. ورجل آخر يمسك التمساح ويلعب به، ويصل به غروره إلى أن يضع رأسه داخل فم التمساح، فإذا بالتمساح يطبق على رأسه. فالإنسان حين يغتر ويرى نفسه أقوى ما في الكون، يسلط عليه هذا الذي يتقوى عليه، فلا تغتر وقل: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وقس على ذلك حين تركب السيارة، ولا تقل: هذه سيارة اشتريتها الآن وتنسى الله سبحانه وتعالى، فقد تسرع شمالاً ويميناً فإذا بها تدمر وتنقلب بصاحبها ويهلك ويهلك معه من خلق الله ما يعلمه الله سبحانه وتعالى، إياك والغرور, فالسيارة تسير برحمة الله سبحانه وتعالى فلا تغتر، وقل ذكر الله سبحانه وتعالى: فإن الذي خلق لها هذه القوانين التي تسير بها هو ربها سبحانه، والقادر على أن يسيرها بغير قوانينها هو الله سبحانه وتعالى, فلابد للسائق أن يقول: {وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} [الزخرف:13 - 14]. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الزخرف [12 - 18]

تفسير سورة الزخرف [12 - 18] امتن الله تعالى على عباده بخلق جميع الأصناف والأنواع، وجعل من تلك الأصناف الفلك التي تحمل الإنسان للسفر والتجارة، والأنعام التي يركب عليها ليبلغ حاجته، ومن تمام شكر نعمة الله تعالى أنه إذا استوى الإنسان على ظهر مركوبه تذكر تلك النعمة ونزه الله تعالى عن النقص والاحتياج إلى خلقه، لكونه هو الذي سخر تلك الدواب ولو لم يسخرها لما ستطاع الإنسان إمساكها وتذليلها.

تفسير قوله تعالى: (والذي خلق الأزواج كلها وما كنا له مقرنين)

تفسير قوله تعالى: (والذي خلق الأزواج كلها وما كنا له مقرنين) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل: {وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ * وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ * أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:12 - 18]. يخبر الله تعالى أن من آياته الدالة على قدرته أنه خلق للعباد الأصناف التي يحتاجون إليها وسخر لهم الفلك، وسخر لهم الأنعام: منها ما يأكلون، ومنها ما يركبون، ومنها ما يستفيدون من أصوافها وأوبارها، وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين، ويخلق لهم ما يعلمون وما لا يعلمون. ويذكرهم أن إذا ركبتم هذه الأنعام التي خلقها الله سبحانه، وعلمتم أنكم وحدكم لا تقدرون عليها إنما يقدركم الله عز وجل على ذلك. وقد أراكم كيف ذلل لكم الخيل والحمير، وكيف ذلل لكم الأنعام من الإبل والبقر والأغنام، وكيف صعب عليكم سياسة الأسود، والنمور وغير ذلك مما خلق الله عز وجل، وأراكم آياته في ذلك، ولو شاء الله لجعل المسخرة المذللة نافرة وحشية كما جعل غيرها كذلك، ولكن الله شاء بفضله ورحمته أن يسهل عليكم حتى تذكروا نعمة الله سبحانه، وتشكروه ولا تكفروه، ولا تغفلوا عنه سبحانه وتعالى وتقولوا: {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا} [الزخرف:13] أي: سبحان الله الذي جعل لنا هذه الأشياء تحت أيدينا مع قوتها العظيمة فنسوقها ونسوسها، ونركب عليها. قال تعالى: {وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف:13] أي: نتبرأ من الحول والقوة، فنحن لا نقدر عليها ولا نطيق هذه الأشياء إلا أن يقدرنا الله عز وجل. {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} [الزخرف:14] فيتذكر العبد أنه راجع إلى الله، وأن الله سائله عن هذه النعم ما الذي صنع فيها؟ فمن شكر الله سبحانه زاده قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7] ولذلك علم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الذكر الذي يقولونه حين يركبون الدواب وهو: (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون الحمد لله الحمد لله، الحمد لله، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر). وكذلك علمنا دعاء السفر وهو: (اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هون علينا سفرنا هذا، واطو عنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل والمال، اللهم إنا نعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في الأهل والمال والولد). وإذا رجع من السفر قال: (آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون). كذلك كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في سفره: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) ويخبر أن الذي ينزل منزلاً ويقول ذلك: (لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله هذا) وهذا الذكر العظيم يقوله المؤمن بالليل وبالنهار، ويقوله إذا نزل منزلاً، ويقوله إذا خاف من إنسان أو من أي شيء. فإذا قال ذلك لا يضره شيء بإذن رب العالمين سبحانه. وكذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا كان في سفر وجاء وقت السحر قال: (سمع سامع بحمد ربنا وحسن بلائه علينا، ربنا صاحبنا وأفضل علينا عائذاً بالله من النار) فتذكر الله عز وجل حين تركب الدابة، وحين تنزل عنها، وحين تسير أو تقف، وحين تنام فيكون المؤمن في كل أحواله ذاكراً ولا يغفل عن ربه سبحانه وتعالى. تذكر الله تعالى؛ لأنه الذي أعطاك القوة والقدرة والصحة، والعافية. فإذا نمت فتذكر أن الله عز وجل هو الذي قدرك على أن تضع رأسك على الوسادة وتنام، وغيرك يضع رأسه عليها ولا ينام، فهذه نعمة من الله أنعمها عليك، وإذا أردت أن تعرف نعمة الله عز وجل عليك، فانظر إلى أهل الابتلاء. وانظر لإنسان أصيب بالشلل في رجله كيف يمشي وقد أمسك العكاز في يده ويعد الخطوات، ونحن نذهب إلى المسجد وإلى السوق، لكن غيرنا ممن سلب الله عز وجل منه شيئاً، وجعله آية لغيره يفكر مائة مرة أين سيضع رجله فوق الرصيف ومن أين سينزل؟! فهذه من نعم الله سبحانه التي أمرنا أن نحمده عز وجل ونشكره عليها، فإذا سرت ذكرت أن الله هو الذي أقدرك على المسير. وإذا أنفذت أمراً تفكر أن الله هو الذي قدرك على التنفيذ. وإذ قمت من النوم ووجدت أعضاءك سليمة وغيرك محتاج إلى من يقيمه عرفت نعمة الله تعالى عليك. ومعنى الذكر الذي كان يقوله النبي صلى الله عليه وسلم في سفره وقت السحر اسمعوا كلكم نحن نثني على ربنا ونحمد ربنا ولا نكفره سبحانه وتعالى، وهو قد ابتلانا وأحسن فيما ابتلانا به. قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35] فأعطاك النعم، وابتلاك بها لينظر أتشكره أم لا؟ وابتلاك بالمصائب لتصبر أم لا؟ فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: الله أحسن بلاءه علينا، واختبرنا فأحسن الاختبار، وأعطانا وأفضل علينا سبحانه. ثم دعا ربه: (ربنا صاحبنا) أي: كن معنا دائماً. والله مع جميع خلقه سبحانه تبارك وتعالى، ولكن فرق بين معية ومعية، فالله يقول: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] فهو معهم برحمته وبتأييده، ومعهم بنصره، وفضله وتوفيقه. والله مع الكافر رقيب عليه وشهيد ويحفظ أعماله. فلذلك هنا يقول: ربنا صاحبنا أي: كن معنا بتوفيقك وفضلك ورحمتك وأعطنا من فضلك وبركاتك وبرك ورزقك ونعوذ بك من النار. كذلك جاء في القرآن أن يقولوا عند ركوبهم: {وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} [الزخرف:13 - 14] وسواء كان الركوب للدابة أو السفينة أو ما كان مثلها. وكذلك تقول: {وَقُلْ رَبِّ أَنزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} [المؤمنون:29] وإذا تحركت قل: {بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [هود:41]. فاذكر الله تعالى في كل الأحوال: إذا صعد بك المركب أو السفينة أو الطائرة أو السيارة، وإذا كنت على مكان مرتفع واستشعرت فوقيتك فتذكر أن الله أكبر منك، وأكبر من كل شيء. وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم (أنه إذا صعد ثنية أو شرفاً قال: الله أكبر، وإذا كان في نزول قال: سبحان الله)، وهذا ذكر عظيم ومناسب للحال التي هو فيها. فالله سبحانه وتعالى لا ينقصه ولا يعيبه شيء فتنزهه بقول: سبحان الله أما الإنسان فيعيبه أشياء كثيرة فيصعد، ويأبى الله أن يرفع أحداً إلا ووضعه بعد ذلك، فلا يزال في الصعود والنزول في الدنيا إلى أن يدفن في التراب. فإذا قال حين ينزل: سبحان الله أي: سبحان الذي شأنه كله عال وعظيم، ولا يحط من قدره شيء فلذلك ناسب في النزول أن تقول: سبحانه الله، ولذلك كان ذكر الركوع والسجود سبحان الله لكونهما هيئتي تواضع وذل. أما أشرف الذكر في القيام فهو قراءة القرآن.

تفسير قوله تعالى: (وجعلوا له من عباده جزءا)

تفسير قوله تعالى: (وجعلوا له من عباده جزءاً) ثم قال الله سبحانه: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ} [الزخرف:15] جعل: لها معاني كثيرة في اللغة: منهم من ذكر عشرة معاني. ومنهم من جعلها ثمانية عشر معنى. فمن تلك المعاني: خلق، وصير، وحول، وسمى ووصف، وهذا معناها في هذه الآية. فيكون معنى: (وجعلوا له) سموا لله تعالى من عباده جزءاً، فقالوا: الملائكة بنات الله. قال تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} [الزخرف:15] ويعنون بـ (جزءاً) أن الإنسان حين يملك الولد أو البنت يقول: هذا جزئي، هذا بعضي؛ لأنه من مني الرجل ومن بويضة المرأة. فالابن جزء من أبيه وأمه وكسب لهما كذلك. ولكي يبقى جنس الإنسان في هذه الدنيا جعل الله عز وجل له التناسل؛ لأن الإنسان ضعيف، ويأتي عليه الموت. لكن الله القوي العظيم العزيز الدائم الحي القيوم سبحانه لا يحتاج إلى ذلك. فإذا بالمشركين يدعون أن لله جزءاً أي: ولداً فيفترون عليه الكذب. ومع ذلك ينسبون إليه ما تأنف مثله أنفسهم، وهن البنات. فقال سبحانه وتعالى يكذبهم: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} [الزخرف:19] لما قالوا: الملائكة بنات الله، كيف عرفوا ذلك؟ ولماذا اختاروا لهم صفة الأنوثة دون صفة الذكورة؟! ولماذا زعموا أن البنات لله عز وجل واختاروا لأنفسهم البنين؟! قال تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ} [الزخرف:15] أي: عظيم الكفر والجحود، وكأن ذلك طبع جنس الإنسان إلا من رحم الله، ففي طبيعة كل إنسان شيء من الكفر، والكفر قد يكون كفر النعمة بأن ينسى المنعم العظيم سبحانه وتعالى، وينسب الفضل إلى غير الله. وقد قال الله تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ} [الزخرف:15]. وقال: {إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34] فكل إنسان فيه شيء من كفر النعمة وجحودها، فإذا زاد وصل إلى الكفر بالله عز وجل.

القراءات في قوله تعالى (وجعلوا له من عباده جزءا)

القراءات في قوله تعالى (وجعلوا له من عباده جزءاً) في قوله تعالى: (وجعلوا له من عبادة جُزْءاً) أربع قراءات: هذه قراءة الجمهور. ويقرؤها شعبة عن عاصم: (وجعلوا له من عباده جُزُءاً). ويقرؤها أبو جعفر: (وجعلوا له من عباده جُزَّا) بحذف الهمزة. وإذا وقف عليها حمزة قرأ: (وجعلوا له من عباده جُزَا) قال تعالى: ((إِنَّ الإِنسَانَ)) أي: جنس الإنسان فيه جحود بنعم الله عز وجل إلا من رحم الله سبحانه، ومن عصم من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، ومن عباده الصالحين. قال سبحانه: {لَكَفُورٌ مُبِينٌ} [الزخرف:15] يعني: وهذا كفر واضح بين في كل إنسان، ففي وقت المصيبة ينقم على القضاء والقدر، وفي وقت النعمة يغفل عن حمد الله وشكره سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين)

تفسير قوله تعالى: (أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين) {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ} [الزخرف:16] أم هنا الإضرابية المنقطعة المقدرة ببل والهمزة والتقدير: بل أاتخذ، أي: هل فعل ذلك الله سبحانه وتعالى؟! ومن أين عرفتم؟! هل شهدتموه أم أخبركم من تثقون به؟! وهذا الذي يقول ذلك على الله إذا جاءته أنثى وأدها ودفنها حية ثم يقول: هي من بنات الله. ثم يزعم أن له البنين، فيشرف نفسه ويجعل لله ما يأنفه. قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ} [الزخرف:16] يعني: هل اختار لكم البنين؟ وإذا كان لكم البنون فمن أين يأتي النسل بعد ذلك إذا رفضتم الإناث؟!

تفسير قوله تعالى: (وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا)

تفسير قوله تعالى: (وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلاً) قال تعالى واصفاً حالهم: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [النحل:58] وقال: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا} [الزخرف:17] ففي الآية الأولى التصريح بالأنثى. أي: إذا أخبر أحدهم أنه قد ولد له بنت اسود وجهه وتجهم وغضب، ثم يسكت ويكظم الغيظ وينوي الشر بقتلها.

تفسير قوله تعالى: (أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين)

تفسير قوله تعالى: (أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين) قال تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18] كأن الإنسان إذا كان فيه نقص يحتاج إلى إن يكمله بشيء، فالرجل لا يحتاج إلى الحلية فيخرج للكسب والجهاد والعمل؛ لكونه كاملاً. أما المرأة ففيها نقصان، ويعوض ذلك بالحلية والزينة والجلوس في البيت لتتزوج بعد ذلك. قال الله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18] في وقت الاحتجاج ووقت الجدل ووقت الاحتياج إلى الرأي قال النبي صلى الله عليه وسلم في النساء: (ناقصات عقل ودين) فذكر من نقصان الدين: (أن تمكث إحداهن شطر دهرها لا تصلي) يعني: في وقت حيضها ونفاسها وهي في هذا الوقت المطلوب منها شرعاً ترك الصلاة. أما نقصان عقلها ففسره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (فجعل شهادة الرجل بشهادة امرأتين). فهنا يقول: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18] يعني: أن نشأتها نشأة ترفه لا نشأة خشونة ودفاع وقتال، فهي مخلوقة لبيتها؛ ولتربية أولادها. إذاً: هنا جعل الله عز وجل لها وظيفة، وجعل للرجل وظيفة أخرى، والعرب يريدون من يقاتل معهم، ومن ينهب الأموال، ومن يدافع عنهم؛ لذلك لا يريدون الإناث.

القراءات في قوله تعالى (أومن ينشأ)

القراءات في قوله تعالى (أومن ينشأ) وفي قوله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} [الزخرف:18] قراءتان: قراءة حفص عن عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} [الزخرف:18]. وقراءة باقي القراء: (أَوَمَنْ يَنْشأ فِي الْحِلْيَةِ)) ومعنى القراءة الأولى: ينشئها غيرها، والثانية تنشأ هي أي: تتزين. وفي هذه الآية دليل على أن الرجل ليس له التحلي والتزين، إنما الذي يفعل ذلك المرأة فلها أن تتزين بالذهب وبالفضة، وتلبس الحرير ووتتجمل. أما الرجل ليس له ذلك إلا بالمقدار الشرعي الذي حدد له، فيلبس خاتم الفضة، أما أن يلبس أسورة أو أقراطاً في أذنه ونحو ذلك فهذا يحرم عليه. وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، وإذا فعل ذلك صار مخنثاً ملعوناً شؤماً على نفسه، وعلى من حوله، وعلى بلده. فالرجل خلقه عز وجل قوياً وجعل فيه عقلاً كاملاً، والمرأة خلقت ضعيفة، وفيها نقص جبر بالزينة. وللرجل أن يمتشط وأن يظهر أثر النعمة عليه إن كان له نعمة، أما أنه يتحلى ويتشبه بالنساء فهذا ملعون. والعكس كذلك فالمرأة التي تتشبه بالرجال في خشونتهم وكلامهم ومشيتهم ولباسهم فهذه ملعونة (وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال). وللحديث بقية إن شاء الله. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الزخرف [15 - 23]

تفسير سورة الزخرف [15 - 23] ادعى الكفار أن الملائكة بنات الله، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً! وليس لهم أثارة من علم، فقد كانوا يأنفون إذا رزق الواحد منهم أنثى ووصلت بهم الجاهلية إلى أن يدفنوها حية! وما ذاك إلا لنقص عقولهم وبعدهم عن خالقهم ومولاهم سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين على آثارهم مهتدون)

تفسير قوله تعالى: (أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين على آثارهم مهتدون) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الزخرف: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ * وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ * وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ * أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ * بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:16 - 22]. يذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات وما قبلها أمر الكفار، وكيف أنهم جعلوا وسموا لله عز وجل من عباده جزءا، فقالوا: لنا البنون، وله البنات. وادعوا أن الملائكة بنات الله، وافتروا عليه الكذب، وليس معهم أثارة من علم، على ما يدعونه، فوبخهم جل في علاه وحاشا له أن يتخذ الصاحبة أو الولد. قال: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ} [الزخرف:15] أي: جحود لنعم الله عز وجل عليه، فإذا تكلم عن ربه، تكلم بالكذب والافتراء مثل الذي يخرج من هؤلاء الكفار.

تفسير قوله تعالى: (أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين)

تفسير قوله تعالى: (أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين) {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ} [الزخرف:16] أي: هل فعل الله عز وجل ذلك؟ ومن أين لكم هذا العلم؟ وهل رأيتم الله سبحانه حين خلق الذكر والأنثى اصطفى لنفسه البنات وجعل لكم البنين؟

تفسير قوله تعالى: (وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا)

تفسير قوله تعالى: (وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلاً) {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [الزخرف:17] أي: هذا حالهم، فقد كانوا لا يحبون أن ينجبوا البنات، فإذا جاءت البنت لأحدهم، أمر الداية التي ولدتها أن تذهب فتئدها وهي حية، وهذا الفعل يصوره الله عز وجل هنا، وقد صوره في سورة النحل، وذكر كيف يصنعون، فقال: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} [النحل:58] أي: اربد وجهه، وعبس، وتغير. {وَهُوَ كَظِيمٌ} [الزخرف:17] أي: كاظم للغيظ، ساكت عليه، وعلى نية سوء بهذه الفتاة. {يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل:59] أي: ساء حكماً هذا الحكم الذي يحكمون به، أن يأخذوا البنين ويفرحوا بهم، ويكون مصير البنات القتل، والوأد، ويدعون على ذلك أشياء هم فيها كاذبون، فقد يكون حدث من امرأة شيء مكروه لكن لا تعمم جناية امرأة على جميع النساء.

أول من وأد البنات من العرب وسبب ذلك

أول من وأد البنات من العرب وسبب ذلك أول رجل عربي وأد البنات هو قيس بن عاصم التميمي والسبب: أن ناساً أغاروا عليه وأخذوا حريمه، وماله، ثم إن الذي أغار عليه، أخذ بنته لنفسه، فلما تصالحوا أراد قيس أن يأخذ ابنته، فخيرها الذي أخذها، بين أن ترجع إلى أبيها أو تكون زوجة له، فاختارت أن تكون زوجة له، فأقسم أبوها أنه لن ينجب بنتاً بعد ذلك إلا ووأدها، بسبب هذا الذي حدث، وليس من حقه أن يصنع ذلك، ولا ينبغي أن نجعل جريمة امرأة جريمة جميع النساء. ولذلك الكفار أخذوا هذه الحجة وتلقفوها منه، وصاروا يقولون ويزعمون أن البنات مصدر شر لهم، فهن لا عمل لهن، ولا يدافعن عن القبيلة، وإنما يكن عاراً على القبيلة، إذاً: فلا داعي للبنات. {يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ} [النحل:59] أي: يختفي من الناس؛ كأنما صنع عملاً منكراً حتى لا يسألوه ماذا أنجبت {مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ} [النحل:59] بزعمه، {أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ} [النحل:59] أي: على هوان عظيم وذل جسيم، أم يدسها إما هو بنفسه، وإما أن يأمر غيره أن يصنع ذلك. يصور الله عز وجل في هذه الآيات حالة الجاهلية الجهلاء، كيف يصنعون ببناتهم، هذه البنت التي كانت لا قيمة لها عند أهل الجاهلية، وعند أهل الأديان الأخرى، فقد كانوا لا ينظرون إليها إلا أردأ النظرات، ثم جاء الإسلام فعززها، وكرمها، وجعل لها وظيفة كبيرة، هي تربية أبنائها، بحيث يخرج وهو يعرف كيف يتعامل مع الناس، ومع العمل، ومع الآلات، وكما قيل: الأم مدرسة إذا أعددتها أعدد شعباً طيب الأعراق فالأم مدرسة تعلم أبناءها، في بيتها الرجولة والأدب، فإذا بالناس يتركون ما جعل الإسلام للمرأة من مكانة عظيمة في بيتها، ويخرجونها إلى الطريق سافرة، حاسرة عن حجابها، متبرجة تبرج الجاهلية الأولى، بل أشد من تبرج الجاهلية الأولى، فتنسى ربها سبحانه، وتنسى ما أمرها به في كتابه، وما أمرها به النبي صلى الله عليه وسلم في سنته، لقد نسيت نفسها، فتركها الله عز وجل منسية لا قيمة لها، مهما علت في الدنيا؛ لأنها في النهاية سترجع إلى ربها سبحانه فيسألها، لما فرطت؟ لما ضيعت؟ كنت راعية على أهلك، وعلى مال زوجك، وعلى بيتك، ثم ضيعت هذا كله لتخرجي للناس في الطرقات متبرجة، سافرة، تتركين الدين وتفعلين المعصية. لقد عاب الله سبحانه على أهل الجاهلية، ووبخهم على ما كانوا فيه من وأد بناتهم، وهم في أنفسهم كانوا يعرفون أن هذا الفعل لا يجوز لهم أن يفعلوه، ولكنه الطمع في الدنيا فقد فضحهم الله عز وجل فقال: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام:151] أي: لئن كانوا يقتلون بناتهم خشية العار كما زعموا، فإن أكثرهم يقتلونهن خشية الفقر، ففضحهم الله عز وجل بهذه الآية. فكان الإنسان يقتل ابنته إما لأنه فقير، أو لأنه يخاف من الفقر، فالله عز وجل يقول لهم: {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء:31] أي: ثقوا فإن الرزق من عند الله، وليس من عندكم أنتم. وقد روي أن رجلاً من هؤلاء كانت امرأته تلد الإناث، فولدت أنثى فهجر البيت، وكانت أحكم منه وأعلم فقالت في أبيات شعر لزوجها الذي اعتزل البيت غضباناً منها؛ لأنها ولدت أنثى: ما لأبي حمزة لا يأتينا يبيت في البيت الذي يلينا غضبان أن لا نلد البنين وهل سنأخذ غير ما أعطينا أي: أن الله سبحانه هو الذي يعطي ابنا أو بنتاً وسنأخذ ما أعطينا، فلماذا تصنع هذا الشيء؟ والأمر بيد الله سبحانه، {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} [الشورى:49 - 50] فالله عز وجل جعل لإنسان الذكور، وجعل لآخر الإناث، وجعل لثالث الذكور والإناث، وجعل الرابع عقيماً لا يلد والله عليم حكيم سبحانه وتعالى، وهذه هبة من الله، فإذا أعطاك الله شيئاً فاحمده سبحانه وتعالى، وافرح بقضائه وقدره.

تفسير قوله تعالى: (أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين)

تفسير قوله تعالى: (أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين) يقول سبحانه: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18]. {يُنَشَّأُ} [الزخرف:18] أي: يربى في الحلية، فهم يقولون: لا نريد البنت؛ لأننا سنعطيها ونحليها، فإذا أتى وقت الجد لن تقف تخاصم وتجادل عنا، إذاً: لا تصلح هذه.

قول الكفار أن الملائكة إناث قول بلا علم

قول الكفار أن الملائكة إناث قول بلا علم قال سبحانه: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} [الزخرف:19] ت أي: هم يأنفون أن تكون لهم بنات، لكنهم لا يأنفون أن ينسبوا لله البنات سبحانه وتعالى عما يصفون. فقد قسموا بينهم وبين ربهم في الأموال وفي الأولاد، قال الله عنهم: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} [الأنعام:136]. أي: عندما يريدون أن يتصدقوا، يقولون: هذا لله أي: صدقة لله، وهذه لآلهتهم أي: لأصنامهم، ثم يأخذون التي جعلوها لله خالصة ويجعلونها لأصنامهم، ويقولون: الله غني عن ذلك، فهو لا يحتاج، لكن الأصنام محتاجة إليها، فهم يعرفون أن الأصنام فقيرة، لا تأكل ولا تشرب، لا تنفع ولا تضر، والله سبحانه أغنى الشركاء عن الشرك. وفي الأولاد. نظروا إلى البنات نظرة نقص فقالوا: البنات لله، ولنا الذكور، الذي يأنفون منه يجعلونه لربهم سبحانه فالملائكة الذين هم عباد، ولم يقل عابدات، فذكرهم بصيغة الذكور، هؤلاء يؤنثونهم ويقولون: الملائكة إناث، فالذي خلقهم هو أعلم بهم وليس هؤلاء الجهال الضلال. قال: {وَجَعَلُوا} [الزخرف:19] أي: ادعوا، وزعموا، ووصفوا، وسموا، ((الملائكة الذين هم عباد الرحمن)) هذه قراءة الجمهور، أبو عمرو والكوفيون: عاصم وحمزة والكسائي وخلف، وقراءة الباقين: ((الذين هم عند الرحمن)) فالملائكة عند الرحمن، وليسوا عندكم أنتم، ولا ترونهم، إنما الذي يراهم هو الله سبحانه وتعالى، وشرفهم بالعندية، وأخبر أن هذا غيب، {الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ} [الزخرف:19] يفعلون ما يأمرهم الله سبحانه وتعالى، ويجتنبون ما ينهى عنه، ولا يعصون الله أبداً. {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف:19] أي: يقول مبكتاً لهم هل حضروا خلق الملائكة حتى يقولوا ذلك؟! أم أنهم يفترون على الله الكذب؟ وهذه قراءة الجمهور. وقرأها المدنيان: نافع وأبو جعفر، ((أأشهدوا خلقهم)) أي: هل أشهدهم الله عز وجل خلق الملائكة؟ فإذا قالوا: شهدنا، كتب عليهم ذلك، ويسألهم يوم القيامة، والسؤال هنا للتبكيت، وللتعذيب؛ لأنهم لم يشهدوا شيئاً، ولم يشاهدوا شيئاً، فإذا افتروا وقالوا: نعم رأينا الملائكة، إذاً سنكتب هذه الشهادة، ونعذبكم عليها يوم القيامة.

تفسير قوله تعالى: (وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم)

تفسير قوله تعالى: (وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم) وقالوا أي: هؤلاء الكفار: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف:20] يحتجون بالقضاء والقدر، على وجه التهكم، والسخرية، يقول هؤلاء الكفار: نحن عبدنا الأصنام، وربنا يريد ذلك، من أجل ذلك تركنا، {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف:20] فأرجعوا الأمر لمشيئة الله عز وجل، وهذا كلام حق، أريد به باطل، فالإنسان قد يتكلم بالباطل، وهو يعرف أنه باطل، وقد يتكلم بالحق في غير موطنه وغير موضعه. مثل الإنسان الذي يسرق، ثم يقول: لو شاء الله ما سرقت، نعم لو شاء الله لمنعك من ذلك، ولكن الله سبحانه وتعالى قدر أشياء في الغيب عنده سبحانه وتعالى، ومما قدره أن تكون لك مشيئة، واختيار، قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30] فأنت في الوقت الذي تمد يدك على مال الغير، أنت مريد لذلك، وأنت الذي اكتسبت ذلك، والله يحاسبك على كسبك، وعلى اختيارك، فلا تحتج بالقدر، ولا تقل: قدر الله على ذلك، لكن أعد السرقة لصاحبها، وانظر هل سيمنعك الله من ردها أو لن يمنعك؟ فأنت حين تمد يدك على كوب الماء لترفعه، تعرف أنك أنت الذي تفعل ذلك، وتعلم أن الله قدرك عليه، وحين تضعه تعلم أنك أنت الذي تفعل، وأن الله قدرك عليه، لماذا احتججت عندما وضعته على فمك أن الله هو الذي فعل وعندما تركته أنك أنت الذي فعلت، لماذا احتججت في واحد احتجاجين. والله شاء أن تكون لك مشيئة، فبمشيئتك واختيارك تكسب الخير، والشر، وهذا الذي يجزيك الله عز وجل عليه، فالكفار عندما يقولون: لو شاء الله ما عبدناهم، هذا كلام صحيح فالله عز وجل: {خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن:2] ولكن حين تعبد الأصنام، ألست مختاراً لذلك، وحين تترك ذلك، ألست مختاراً لذلك، هذا الاختيار الذي عندك هو من مشيئة الله عز وجل، وأن تكون مختاراً، شاء أن تكون مريداً، فالله عز وجل هو الذي مكنك من أن تفكر، وأن تعقل، وأن تمشي شمالاً أو يميناً، فعلى ذلك لا تحتج بالقضاء والقدر على المصيبة وعلى الذنب الذي تفعله. فالإنسان متى يحتج بالقضاء والقدر؟ حين يتوب إلى الله عز وجل، يقول: قدر الله وما شاء فعل، ولكن وهو يفعل المعصية، يمد يده إلى الشر، ويقول الله يريد هذا الشيء، اترك الشر وابتعد عنه، وانظر هل تمنع أو لا تمنع؟ فأنت الذي اخترت، وأنت الذي فعلت، وأنت الذي تجزى على فعلك وكسبك. فكأنهم يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم عبادة الأصنام صحيحة، ولو لم تكن صحيحة لما تركنا الله، ولأنزل علينا عذاباً من السماء، قال الله عز وجل: {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} [الزخرف:20] أي: هؤلاء جهلة، {إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الزخرف:20] أي: هم يكذبون على الله سبحانه وتعالى، فإذا فعلوا الشر قالوا: ربنا الذي أمرنا بهذا، وإذا فعلوا الخير، قالوا: نحن الذي فعلنا هذا الشيء. فالله سبحانه وتعالى يقدر الأقدار، ويدل العباد على الخير، والشر، وأنت باختيارك تختار وتكسب فيجزيك الله عز وجل على اختيارك، وعلى ما اكتسبته لنفسك.

تفسير قوله تعالى: (أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون)

تفسير قوله تعالى: (أم آتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون) قال الله سبحانه: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ} [الزخرف:21] بل، أي: هل أتيناهم كتاباً من قبله، {فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} [الزخرف:21] أي: هل عندهم أثارة من علم، فليخرجوا هذا الكتاب الذي عندهم، الذي يدعون أنهم يشرعون لأنفسهم بناء عليه، إنهم، ليس لديهم كتاب، ولا متمسكين بشيء، {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ * وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:22 - 23] أي: قالوا: سنتبع الآباء ونسير على هديهم؛ لأنهم أفضل منا. والدين الإسلامي العظيم يقول للإنسان، اعمل عقلك الذي خلقه الله عز وجل فيك، وانظر فيما ينفعك وما يضرك، فهل هذا الصنم الذي عبدته وإن كان كل آبائك قد عبدوه، هل ينفعك أو يضرك، فإذا قال: لا ينفعني ولا يضرني، قيل له: إذاً لماذا تعبده؟ فيقول: من أجل أنه يقربني إلى الله عز وجل، فقيل له: إن الله سبحانه يقول لك: لا تعبده، لا تشرك بي، فلماذا تصنع ذلك؟ فيقول: لأن أبي كان كذلك. ولذلك ذكر الله عز وجل قصة إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [الزخرف:26] لماذا ذكر هذه القصة؟ لهذا السبب؛ لأنهم يقولون وجدنا آباءنا إذاً: أعظم آبائهم إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وإسماعيل الذي يفتخرون به، ويحجون البيت كل عام، ويقولون: ملة أبينا إبراهيم، فلماذا اتبعتم آباءكم الأقربين، وتركتم من تتشرفون به الذي وحد الله سبحانه، ولم يشرك به شيئاً. فأبوكم إبراهيم الخليل على نبينا وعليه الصلاة والسلام، تبرأ من هذه الآلهة والأنداد إلا الله سبحانه وتعالى.

تفسير سورة الزخرف [20 - 25]

تفسير سورة الزخرف [20 - 25] في هذه الآيات الكريمات من سورة الزخرف يذكر الله عز وجل أموراً فيها: شبهة احتجاج الكفار بالقدر، وذم التقليد للآباء والأجداد الذي يدعو إلى إلغاء العقل والنظر في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أيضاً: يذكر الله عز وجل لنا هلاك الأمم السابقة المكذبة بأنواع من العذاب كما فصله تبارك وتعالى في قصصهم.

شبهة الاحتجاج بالقدر والرد عليها

شبهة الاحتجاج بالقدر والرد عليها أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الزخرف: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ * أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ * بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الزخرف:20 - 25]. يخبر سبحانه وتعالى في هذه الآيات من سورة الزخرف عن احتجاج الكفار بالأقدار. قال تعالى على لسانهم: (لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ) أي: لو أراد الله لحال بيننا وبين عبادة الأحجار والملائكة والأصنام، وهذا كلام حق أريد به باطل، فالله عز وجل ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، والله عز وجل خلق العباد فمنهم كافر ومنهم مؤمن، فالإنسان لا يحتج بالقضاء والقدر على ما هو فيه من المعصية، ولكن يقال له: ما يدريك أنك من أهل الجنة أو من أهل النار؟! ما يدريك أنه يختم لك بالسعادة أو بالشقاوة؟! أنت الآن تقدر أن تفعل وأن تترك؛ فما يمنعك أن تترك هذا الباطل الذي أنت فيه وتفعل الخير؟! وما الذي يأمرك أن تحتج بالقدر على المعصية، وهلا تركت هذه المعصية وفعلت الخير واحتججت بالقدر على الخير الذي تفعله؟! لكن الإنسان يقول كلاماً يهرب به من حقيقة الأمر، فإذا وقع في المعصية يقول: الله أمرنا بها! والله عز وجل يقول: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:28]، فهل أمركم الله عز وجل أن تعبدوا غيره؟! وهل أمركم الله سبحانه أن تقعوا في المعاصي؟! افعلوا الخير وقولوا: الله أمرنا به، أما أن تفعل الشر وتقع في المعاصي ثم تحتج بالقدر فليس لك ذلك؛ لأن لك اختياراً، والله سيحاسبك على اختيارك للخير أو اختيارك للشر. قال الله تعالى: (مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ) أي: بصحة ما قالوه واحتجوا به. ثم قال تعالى: (إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) أي: يكذبون ويتقولون ويفترون على الله سبحانه وتعالى.

إنكار الله على المشركين في عبادتهم غيره بلا برهان ولا حجة ولا دليل

إنكار الله على المشركين في عبادتهم غيره بلا برهان ولا حجة ولا دليل قال تعالى: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} [الزخرف:21]، أي: هل آتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون؟ مثلما يقول النصارى: عندنا كتاب، ويقول اليهود: عندنا كتاب، فهل هؤلاء المشركون عندهم كتاب من عند الله عز وجل؛ حتى يقولوا: وأمرنا بعبادة الملائكة، أو بعبادة الأوثان.

ذم التقليد الأعمى

ذم التقليد الأعمى قال تعالى: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف:22]، أي: ليس لهم فيما هم فيه من الشرك سوى تقليد الآباء والأجداد بأنهم كانوا على أمة، والمراد بها الدين هاهنا، وهذا هو التقليد الأعمى. قال تعالى: {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22]، أي: أنهم رأوا أن فعل الآباء هو الهدى، فهم يسيرون وراءهم قد أعموا أبصارهم وعيونهم، فلا ينظرون إلا إلى ما نظر إليه الآباء، فألغوا عقولهم، وما استخدموا دليلاً ولا نظراً ولا فكراً، وإنما قلدوا الآباء والأجداد، هذا التقليد هو الذي نهينا عنه، من أن الإنسان يمشي وراء غيره من غير أن يتفكر ويتدبر. وقد أنكر الله على المشركين رفضهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فقد كان لهم عقول يتفكرون ويتدبرون في هذا النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه، من هو؟! وهل كان يطلب ملكاً قبل أن يقول: إنني رسول الله إليكم؟! وهل كان هذا في يوم من الأيام أحد آبائه ملكاً من الملوك، فهو الآن يطلب ملك أبيه هذا؟! وهل كان يكذب قبل ذلك، أم كنتم تلقبونه بالصادق الأمين صلوات الله وسلامه عليه؟! تنظرون في حاله صلوات الله وسلامه عليه أنه نبي أمي لا يقرأ ولا يكتب، ومع ذلك يأتي بهذا القرآن العظيم، المعجز من عند رب العالمين سبحانه، فجاءكم وقال: أنا رسول من رب العالمين، فقلتم: إعطنا الآية التي تدل على أنك رسول؟! فأتاكم بهذا القرآن العظيم الذي تحداكم به، جاءكم بمعجزة من عند رب العالمين، وتحداكم بها، فهاتوا مثل هذا إن كنتم تقدرون؟! هلا أعملتم عقولكم في هذا الرجل الذي عاش بينكم، أربعين سنة لم يكذب قط صلوات الله وسلامه عليه، والجميع سواء الموافق والمخالف يشهدون له بذلك عليه الصلاة والسلام، فقد كانوا يلقبونه بالصادق الأمين، فهنا مجال إعمال الفكر، وإعمال العقل بأن هذا الرجل لم يكذب قط، ولم يطلب ملكاً، وإنما هو رسول من عند الله عز وجل، أيده بالقرآن العظيم، ولم يقل هذا كلامي، وإنما قال: هذا كلام الله، وقد أمرني أن آمركم بالصلاة، وبالزكاة، وآمركم بعبادة الله وحده لا شريك له، فهو لا يقول ذلك من عند نفسه، وإنما يأمره ربه سبحانه تبارك وتعالى. جاءكم بآيات بينات، وبشريعة عظيمة، وأخبركم بأشياء فكانت على ما أخبر صلوات الله وسلامه عليه، فلم لم تجدوا في كلامه كذباً قط، فإذا وعد صدق الوعد الذي يقوله صلوات الله وسلامه عليه. ومن الأمور التي أخبر بها صلوات الله وسلامه عليه فكانت على ما أخبر صلى الله عليه وسلم: هزيمة الفرس في بضع سنين، قال تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم:2 - 4]، فتحقق هذا الذي قاله ربنا سبحانه تبارك وتعالى على لسان نبينا صلوات الله وسلامه عليه، فما أخبر بشيء أنه سيحدث إلا وكان كما يقول صلى الله عليه وسلم. أتاهم بالآيات البينات والمعجزات التي تؤيده على ما يقول، فصدقه وآمن به من آمن، ودخل معه في دينه صلوات الله وسلامه عليه. قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران:31]، أي: اتبعوا النبي صلوات الله وسلامه عليه مع النور الذي جاءه من عند رب العالمين، فأمرنا بالاتباع ولم نؤمر بالتقليد، والتقليد: هو أن تلغي عقلك وتسير وراء من تسير بدون دليل ولا حجة. أما الاتباع فأنت تنظر في الذي جاء به، وتعمل عقلك في هذا الشيء، هل هذا فعلاً من عند الله، أم ليس من عند الله؟! فإذا عرفت أن هذا من عند الله، وأن هذا رسول الله لزمك أن تصدقه، وأن تتبعه صلوات الله وسلامه عليه فيما يأمرك به، فإذا قال: اعبد الله سبحانه ولا تشرك به؛ لزمك أن تنفذ ذلك، وإذا قال: انتهي عن المعاصي طاعة لله. لزمك أن تنفذ ذلك. أما هؤلاء المشركون فقد قالوا: إنا مقلدون، وسنسير على ما سار عليه آباؤنا، فهل كان مع آبائهم دليل وحجة على ما يقولون؟! وهل كانوا بشراً غير البشر، أو من نور، مخلوقين من غير ما خلقتم أنتم منه؟! لا، فآباؤهم مثلهم، فقد كانوا أهل ظلم وأهل عدوان وباطل، وكذلك هؤلاء وراء آبائهم فيما يفعلون. إن كل إنسان يقول كما يقول هؤلاء ففيه جاهلية من جاهلية هؤلاء، وكذلك من يقول: أنتم أتيتم لنا بدين جديد؟! نحن نعمل هذا الشيء منذ زمن طويل، لذا فإن الكثيرين من الناس يقعون في البدع، ويقعون في أشياء ينسبونها للدين، والدين بريء منها، وحجتهم: (وجدنا آباءنا على أمة) أي: أن أهلنا كانوا يعملون هذا الشيء، فنحن نعمل مثلما يعمل الآباء والأجداد. فالإنسان المؤمن لا يقلد الآباء إلا فيما كان معهم دليل من كتاب الله عز وجل أو من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والاتباع اسمه: (اتباع) وليس تقليداً، وإنما التقليد الذي يكون بغير دليل، فلا أفكر، وإنما أمشي وراء هذا الشيء، لكن الاتباع معرفة الدليل الذي نسير وراءه؛ وأنه على الحق.

موقف المترفين من دعوة الرسل

موقف المترفين من دعوة الرسل قال تعالى: {وكذلك مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]، أي: أن التقليد ليس شيئاً جديداً، ولكنها عادة السابقين، وعادة أهل الباطل، فهو لا يريد أن يترك الباطل؛ لأنه مترف ومنعم وكبير بين قومه، فكيف يترك هذا الشيء لكي يكون وراءك؟ وبعد أن كان هو متبوعاً يصير متبعاً! قوله: (فِي قَرْيَةٍ) المراد بالقرية: البلد، والقرية من القري، والقري الجمع، وكأنه المكان الذي يجتمع فيه الناس، وكلمة (قرية) وإن كنا نطلقها على الريف، لكنها لغة تطلق على المدينة، وعلى البلد العظيم، والنبي صلى الله عليه وسلم كان من أهل القرى أي: مكة. والمقصود: أن الله يخبر عن الرسل، وأنه ما من رسول يرسله الله عز وجل إلا ويكون من أهل القرى، يعني: من أهل البلدان، ومن أهل المدن، ليس من الريف أو البادية، وطباع أهل المدينة غالباً مع كثرة الناس والاحتكاك، تكون فيهم ذوقيات، وفيهم رجوع لرأي الأغلب، أما أهل البادية ففيهم الغلظة، وفيهم الشدة، وبعدهم عن المدينة، وبعدهم عن الناس يجعل كل إنسان يحس أنه لوحده ملك، وأنه لا شأن ولا أمر لأحد عليه، وهذا بعكس الاجتماع مع الغير، فإنه يهذب الأفكار، وينقي الآراء، وعندما تكون في مجموعة من الناس تتكلم، والثاني يرد عليك، والثالث يصوب الرأي، وهذا هو الحاصل في المدينة، أما في الريف: فيعيش الإنسان وحده في مزرعته، وفي حقله، بين غنمه وإبله، فيكون أغلب وقته مع هذه البهائم، فيحتاج لمن ينقي له عقله وتفكيره، ويتناقش معه ويصوب له آراءه؛ لأن المنفرد دائماً يظن أن رأيه الصواب؛ فلذلك قال تعالى: {(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف:109]، وأهل القرى يكون الناس كلهم يعرفونه ويرونه، أما إذا أتى لهم من البادية فسيقولون: لا أحد يعرفك، فمن أنت؟ من الذي كان معك؟ من يشهد لك؟ ولذلك من ضمن الأحكام التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنها لا تقبل شهادة بدوي على حضري)، لأن البدوي مقيم في البدو، وفجأة جاء يشهد ويقول: أنا رأيت فلاناً يقتل فلاناً. أين رأيته؟ فأنت الآن أتيت من البادية، فالكلام الذي يقوله محل نظر، أما إذا ثبت أنه عاش بيننا فترة، فنقول: شاهد، لكن أتى من هناك وجاء ليشهد، فهنا الشهادة لا تكون إلا من إنسان قد شاهد فعلاً، وإنسان موجود وسط الناس، بحيث نصدق ما يقول هذا الإنسان ونجد من يزكيه، فهذا الرسول الذي يكون من أهل القرى يجد من يزكيه من الناس، ويقولون: هو طول عمره مقيماً بيننا، فنرى منه الصواب، ونجد منه الرأي السديد، والنصح لنا، هو أمين بيننا، فهنا أهل القرى باجتماعهم يعرفون هذا الإنسان، ويمحصون ما يقول، فيشهدون له بصواب ما يقول، أو يخطئون ما يقول. فقال الله عز وجل: (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ) ينذرهم بعقوبة الله عز وجل، إذا أصروا على معصيته، وعلى الشرك به سبحانه وتعالى. قوله: (إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا) الغالب في الذين يصدون عن الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام والدعاة إلى الله: هم المترفون، أي: الرؤساء والوزراء والكبراء من القوم؛ لأنهم وصلوا إلى ما هم فيه من الملك والسيادة، فلا يريدون أن يتزحزحوا عنه، ولا يريدون أن يتركوه، وإنما يريدون أن يبقوا فيه دائماً، فإذا جاءهم نبي أو رسول يدعوهم إلى الله، فإن أحدهم ينظر إلى نفسه ويقول: بعدما كنت أنا الرئيس وأنا الوزير وأنا الكبير، تأتي أنت فتقول لي: اعمل واعمل، وأكون تابعاً لك! فيرفضون الانقياد لدعوة الإسلام، وكأن تنعم الإنسان في النعم يدفعه إلى الغرور، وإلى الكبر، وإلى البعد عن طاعة غيره، فهو لا يريد أن يسمع لغيره، فقد صار كبيراً في نظر نفسه، وقد عرف ذلك هرقل عندما سأل أبا سفيان عندما كان عنده: أضعفاء الناس يتبعونه أم أغنياؤهم؟ فقال: بل ضعفاؤهم وأبو سفيان فرح بهذه الإجابة، وكأنه يقول لـ هرقل: إنه لا يتبعه إلا حثالة الناس، والضعفاء منهم. فقال هرقل: وكذلك أتباع الرسل. وهو صادق فيما يقول، فقد كان رجلاً واعياً عاقلاً، وإن كان مات كافراً لأنه ضن برئاسته وبملكه من أن يدخل في الإسلام، ويترك هذا الذي هو فيه، لكن العشرة الأسئلة التي سألها لـ أبي سفيان تدل على ذكاء خارق وفهم واع لهذا الرجل، فهو قد أعمل عقله ونظره، فكان يسأل وأبو سفيان يجيب ويريد أن يشوه سمعة وشخصية النبي صلى الله عليه وسلم في أي إجابة يقولها، ولذلك قال: ما وجدت شيئاً أقوله عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا كلمة واحدة، ولكن الرجل لم يلتفت إلى كلامه. ثم سأله هرقل فقال: هل وجدتم وعهدتم منه كذباً قبل ذلك؟ قال: لا، فهو لم يكذب قبل ذلك. ثم سأله فقال: هل كان من آبائه ملكاً؟ قال: لا. وسأله فقال: هل يغدر؟ قال: لا، ونحن معه في مدة لا ندري ما يصنع فيها -وكان ذلك في الحديبية- أي: أن بيننا وبينه الآن عهد، ويمكن أن يغدر في يوم من الأيام، فلم يأبه له هرقل، ولم يلتفت إلى كلامه، وإنما كان سؤاله عن الماضي، عن أربعين سنة عاشها النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، ولا يحكم بما سيأتي، لأن هذا مستقبل لا يعلمه إلا الله عز وجل. قال أبو سفيان: ما وسعني أن أدخل شيئاً إلا هذه الكلمة، وبعد أن أسلم أبو سفيان أخبر عن هذا الذي جرى بينه وبين هرقل. فالغرض: أن الله تبارك وتعالى جعل للإنسان عقلاً يفكر به في هذا الذي يكلمه، هل هذا الإنسان يتكلم بصدق، وبأمانة، وبإخلاص؟ أم أن هذا الإنسان يريد منصباً، ومكانة، ومالاً؟ والله عز وجل يرسل الرسل عليهم الصلاة والسلام يدعون الخلق إلى عبادته، فيتبع الرسل الضعفاء، ويبتدئ الدين بقلة، ثم يزيد قليلاً قليلاً كما قال النبي صلوات الله وسلامه عليه: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء) بدأ الإسلام غريباً برجل واحد وهو النبي صلى الله عليه وسلم، وزاد الإسلام فدخل فيه أبو بكر، ودخل علي، ودخلت خديجة، وزاد وزاد حتى ملأ نوره الآفاق، وسيرجع مرة أخرى قبل قيام الساعة إلى الغربة، فيصير المسلم غريباً في قومه، فإذا جاءهم بسنة قالوا: أنت مبتدع، وإذا جاءهم بدين الله سبحانه تبارك وتعالى قالوا: إنا وجدنا آباءنا على غير ذلك، فيرجعون للجاهلية مرة ثانية، وانظر في عادات وتقاليد بعض الناس، فإنك إذا قلت: هذا خطأ. فإنه يقول لك: نحن نعمل هكذا منذ زمن طويل، فهل ستأتي لنا بدين جديد؟! لأنهم لم ينظروا في كتاب الله ولا في سنة النبي صلوات الله وسلامه عليه، وإنما قلدوا كما قلد أهل الجاهلية، قالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ} [الزخرف:22]، وكأنهم يقولون: الهدى والحق مع الآباء والأجداد، وليس لنا دخل بغيرهم.

إتيان الرسل بما هو أهدى مما عليه الآباء والأجداد

إتيان الرسل بما هو أهدى مما عليه الآباء والأجداد ثم قال الله عز وجل مخاطباً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف:24]. قوله: (قال) فيها قراءتان: الأولى: (قال) وهي قراءة ابن عامر وحفص عن عاصم. الثانية: (قل) وهي قراءة باقي القراء. قوله: (أولو جئتكم) فيها قراءات: الأولى: قرأ الجمهور: (أولو جئتكم). الثانية: قرأ أبو عمرو: (أولو جيتكم) الثالثة: قرأ أبو جعفر: (أولو جئناكم)، بالنون. قال تعالى: (بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ) أي: أولو جئتكم بالهدى من عند الله عز وجل بدلاً من هذه الضلالات التي وجدتم عليها آبائكم، ولكن دائماً الرؤساء والكبراء وليست عندهم حجة أصلاً حتى يردوا ذلك، فهم لا يريدون أن يتعبوا عقولهم في هذا الشيء، ولا يريدون أن يظهروا أمام الناس أنهم قليلوا الحيلة وضعفاء التفكير، فلذلك يقولون: (إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ)، أي: لا نريد أن نسمع هذا الذي تقوله لنا، فنحن كافرون بما تدعو إليه.

إهلاك الله للأمم المكذبة

إهلاك الله للأمم المكذبة وعندما وصل الأمر إلى ذلك قال الله عز وجل: {فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف:25]، أي: استحقوا الانتقام والعذاب من الله عز وجل، {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} [العنكبوت:40]، ومنهم من أرسل الله عز وجل عليهم {الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} [الأعراف:133]، ومنهم من أهلكهم الله عز وجل بالقتل والسبي والقحط ونقصان المطر والماء، يفعل الله عز وجل ما يشاء. قال: {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الزخرف:25]، أي: انظر كيف كانت النهاية والعاقبة لهؤلاء المكذبين، وكيف أن الله أهلكهم وآباءهم، وكيف نجى المؤمنين، فلا تفرح حين تنظر إلى إنسان ظالم قد أعطاه الله عز وجل الدنيا، وإنما انظر إلى العاقبة والنهاية لهذا الإنسان الظالم، وكيف يصنع الله عز وجل به، وكيف يهلكه سبحانه تبارك وتعالى. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الزخرف [23 - 32]

تفسير سورة الزخرف [23 - 32] ذكر المولى سبحانه قصة إمام الموحدين إبراهيم عليه السلام حين تبرأ من عبادة غير الله تعالى، وأعلن براءته أمام أبيه وقومه دون خوف أو خجل، وذكر لهم أنه لن يعبد إلا من فطر خلقه وابتدأه على غير مثال سابق، فهو الذي سيهديه ويرشده، ومن تمام نعمة الله تعالى عليه أن جعل هذه الكلمة والبراءة في عقبه وأهل بيته فكثر منهم الأنبياء والصالحون، أما مشركو قريش فقد متعهم الله وأنعم عليهم، فبدلاً من أن يصدقوا رسوله تعنتوا وتكبروا واقترحوا أن يكون غيره هو الرسول، وذلك هو الجحود والطغيان.

تفسير قوله تعالى: (وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون)

تفسير قوله تعالى: (وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الزخرف: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ * وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:26 - 32]. لما أخبر الله سبحانه تبارك وتعالى في الآيات السابقة عن حال الكفار وأنهم مقلدون لآبائهم الذين ضلوا وعبدوا غير الله سبحانه وتعالى قالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22]. قال الله سبحانه: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]. أي: أن عادة الكفار في كل زمان إذا أرسل الله عز وجل إليهم من يدعوهم إلى توحيد الله، ويأمرهم بأن يطيعوا الله وينهاهم عن الشرك بالله كانت المقالة التي قالها الأولون، وتبعهم عليها الآخرون: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]. ثم يقول: كل نبي وكل رسول لقومه: {أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [الزخرف:24]. أو قال الله عز وجل آمراً نبيه صلى الله عليه وسلم: {قل أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [الزخرف:24]. فسيجيبون: {إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف:24]. كأنهم يقولون: مثلما أنت على دين نحن كذلك على دين. فإن سئلوا من أين هذا الدين الذي عندكم؟ يقولون: وجدنا آباءنا على أمة. فإن قيل: ما الدليل على أن آباءكم كانوا على هدى وكانوا على أمة؟ هل عندكم كتاب من عند الله؟ هل عندكم أثارة من علم بما تقولون؟ فيبهتون ولا يستطيعون الرد ويكون جوابهم التقليد {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]. ويقولون لرسولهم عليه الصلاة والسلام: {إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف:24]. قال الله عز وجل: {فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الأعراف:136] إذاً استحق هؤلاء أن ينتقم الله عز وجل منهم وأن ينتصر لدينه ولرسله عليهم الصلاة والسلام فانظر كيف كان عاقبة المكذبين؟ إن عاقبتهم في الدنيا الهلاك، وفي الآخرة النار. ولكن من هؤلاء الآباء الذين قلدوهم؟ الكفار من قريش كانوا يفتخرون بأن أباهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأنهم من ذرية إسماعيل عليه السلام. فيقال: ما الذي كان يفعله إبراهيم؟ وكيف كان يعبد الله سبحانه؟ وهل أشرك بالله سبحانه أم أنه جاء بالتوحيد الخالص؟ فإذا أردتم التقليد فليكن اتباعكم لإبراهيم عليه الصلاة والسلام، فلذلك ذكره سبحانه وتعالى بعدما ذكر قولهم السابق، وكأنه يقول: هذا إبراهيم عليه السلام من آبائكم لم تركتم اتباعه واتبعتم غيره؟! قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [الزخرف:26] وإذ هنا ظرفية زمانية بمعنى: حين، فكأنه قال: واذكر حين قال إبراهيم ذلك وتبرأ عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام من قومه بقوله: إنني براء، أي: أنا بريء، وبراء مصدر، والمصدر إذا وصف به لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث ولكن يكون على صيغة المصدر. فالواحد يقول: براء وكذلك الإثنان، والجمع وإنما يتغير الضمير فيقول الواحد: أنا والجمع: إننا. وبراء بمعنى: أتبرأ أعظم البراءة إلى الله سبحانه وتعالى مما تقعون فيه من الشرك بالله سبحانه. وقد قال إبراهيم عليه السلام البراءة لأبيه ولم يجامله ولقومه ولم يخش أحداً إلا الله. ثم قال: {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف:27] وهذا استثناء قد يكون متصلاً وقد يكون منقطعاً، وعلى كلتا الحالتين فالمعنى صحيح. فإذا جعلنا الاستثناء متصلاً صار المعنى: أنتم تعبدون الله وتشركون به فأنا بريء من كل هذه الآلهة إلا الله. وإذا جعلناه منقطعاً فيكون المعنى أو التقدير: أنا بريء من كل ما تعبدونه، ولكن أعبد الله وحده لا شريك له، فتضمن (إلا) معنى (لكن). وعلى كلا الحالين فإبراهيم عليه السلام يقول: أنا أعبد الله فقط، سواء عبدتم الله وغيره، أو عبدتم غير الله فأنا متبرئ مما تفعلون، فالله لا يقبل أن يعبد مع غيره وإنما يعبد وحده ويقول: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه). ولا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً له وحده لا شريك له.

تفسير قوله تعالى: (إلا الذي فطرني فإنه سيهدين)

تفسير قوله تعالى: (إلا الذي فطرني فإنه سيهدين) قال تعالى: {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف:27] أي: أنشأني وخلقني وابتدعني، ويقال: فطر الشيء إذا أنشأه لأول مرة، فالله عز وجل خلق الإنسان ليس على مثال سابق، ولكن أوجد الله سبحانه آدم عليه السلام على هذه الخلقة التي كانت من تراب ثم سواه بعد ذلك، وقد خلق السماوات، والأرض، وفطر ذلك كله وخلقه على نحوٍ بديع ولم يكن قبل ذلك إلا عدماً. قال: {فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف:27] أي: أن الذي يهديه هو الله وحده لا شريك له.

تفسير قوله تعالى: (وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون)

تفسير قوله تعالى: (وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون) قال تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:28] اختلف هنا في الجاعل هل هو إبراهيم عليه الصلاة والسلام؟ فيكون المعنى: أنه سنها لذريته من بعده. أم أن الله سبحانه وتعالى هو الذي جعلها ماضية في ذرية إبراهيم عليه السلام. والصواب أن يقال: إنما قالها إبراهيم عليه السلام مرة ثم جعلها الله عز وجل في عقبه ومن خلفه بعد ذلك إكراماً لإبراهيم عليه السلام، فأدام الله بذلك دينه. قال تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً} [الزخرف:28] هذه الكلمة هي كلمة التوحيد، والبراءة من الشرك بالله سبحانه. فكل إنسان مؤمن يوحد الله سبحانه، لا بد أن يتبرأ من الشرك والكفر؛ ولذلك يقول الله سبحانه: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا} [البقرة:256]. ولا يصح أن يكون الإنسان مؤمناً بالله وبغير الله بل لا بد أن يكفر بالطاغوت وكل ما عبد من دون الله سبحانه، ويكفر بالأصنام، وبعبادة البشر، والملائكة، والجن، ولا يعبد إلا الله وحده لا شريك له. وقوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا} [البقرة:256] هو معنى قول لا إله إلا الله، ومعنى قوله سبحانه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]. قال تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف:28] العقب: النسل والذرية. قال سبحانه: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:28] أي: لعل الناس يرجعون إلى ما قاله إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهو لا إله إلا الله، ويرجعون إلى الله تائبين إليه، ويرجعون إلى دين الإسلام فيعبدون الله ولا يشركون به شيئاً.

تفسير قوله تعالى: (بل متعت هؤلاء وآباءهم)

تفسير قوله تعالى: (بل متعت هؤلاء وآباءهم) قال تعالى: {بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ} [الزخرف:29] الله سبحانه وتعالى متع هؤلاء، فأعطاهم المال، والبنين، وأعطاهم من الدنيا ومن قبلهم متع آباءهم. فالله عز وجل يعطي العبد المؤمن إكراماً منه، ويعطي الكافر إمهالاً له، قال: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183]. فليس العطاء من الله عز وجل للإنسان دليلاً على أنه يحبه، ولكن يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الآخرة إلا من أحب سبحانه وتعالى. قال: {مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ} [الزخرف:29] أي: أعطيتهم ما يستمتعون به، ويعيشون، ويتنعمون به، وكذلك أعطيت آباءهم من قبل. قال تعالى: {حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ} [الزخرف:29] أي: إلى أن جاءهم من عند الله سبحانه وتعالى الحق وهو هذا القرآن العظيم، مع رسول مبين صلوات الله وسلامه عليه. فوصف القرآن بأنه الحق، ووصف الرسول بأنه مبين عليه الصلاة والسلام، ورسول يعني: صاحب رسالة فقد آتاه الله عز وجل هذا القرآن رسالة منه؛ ليبلغها إلى الخلق جميعهم. وقوله تعالى: {مُبِينٌ} [الزخرف:29] إما أن يكون، من بان، أو من أبان. فبان بمعنى: ظهر، فهو رسول ظاهر جلي من نظر إليه عرف أنه الرسول؛ لأنه لم يكذب قبل ذلك قط، فمن المستحيل أن يترك الكذب على البشر ثم يكذب على رب البشر. وكذلك قد جاء بمعجزات وبينات تدل على رسالته. وإذا قلنا: من أبان، فالمعنى: أنه أفصح وبين، فهو مبين لنا هذه الشريعة وقد آتاه الله عز وجل جوامع الكلم، فينطق بالحق، وينطق بالكلام الذي يفهم والذي لا إشكال فيه، فهو مبين عن الله سبحانه، وموضح لكلام رب العالمين، ولذلك جاءت سنة النبي صلى الله عليه وسلم تفصل القرآن العظيم وتبينه، فنحتاج إلى القرآن ومعه سنة النبي صلى الله عليه وسلم التي تقيد ما يطلق فيه، وتبين ما أجمل، وتخصص ما عمم فيه.

تفسير قوله تعالى: (ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون)

تفسير قوله تعالى: (ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون) قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف:30] قال كفار قريش ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، وهم مستيقنون أنه لم يتعلم سحراً أبداً، وأن هذا القرآن مستحيل أن يكون سحراً، ولكن لما لم يجدوا رداً على النبي صلى الله عليه وسلم، اجتمعوا وتشاوروا هل يقولون عنه كاهن؟ لكن الكاهن يعرف فلن يصدقوا. أم يقولون: عراف؟ والعراف كذلك معلوم. أم يقولون: كذاب؟ وقد علم الناس صدقه. أم يقولون: مجنون؟ ولكنه أعقل الخلق. فلما لم يجدوا شيئاً قالوا: إنه ساحر؛ لأنه يفرق بين الرجل وابنه، والمرأة وزوجها، فالمرأة تدخل في الإسلام وزوجها كافر ويفرق بينهما، ويعادي الابن أباه، لأن أحدهما مسلم والآخر كافر. فقالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه ساحر، كما قال قبل ذلك الكفار عن موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وجعلوا ما جاء به من القرآن سحراً فكفروا به. وقال الذين كفروا بعضهم لبعض: {لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [سبأ:31]. وقالوا: {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26] فلو كان معهم حجة تقال لقالوها ولما أخذوا في هذا الكلام الباطل الذي لا يكون دليلاً ولا حجة على عدم أيمانهم فليس لهم حجة إلا العناد وتقليد آبائهم قال تعالى عنهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22] فرفضوا ما أتى به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأعرضوا عنهم وكذبوهم ورموهم بالسحر والكذب.

علة كفار قريش في عدم إيمانهم

علة كفار قريش في عدم إيمانهم لقد تعللوا بكلام بارد، وسخيف وقالوا: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] لماذا أنت نزل عليك القرآن؟ أما وجد غيرك حتى يرسله؟! فهم نظروا للرجل الذي نزل عليه القرآن ولم ينظروا لهذا القرآن نفسه، كمن يأتيه ساعي البريد برسالة فبدلاً من أن يفتحها ليطلع على مضمونها يقول: أما وجد غيرك حتى يرسلها معه؟ فهذا الكلام في غاية السفاهة وصاحبه خفيف العقل. ثم على فرض أنه نزل القرآن على رجل من القريتين عظيم، يعني: ذا مال وذا جاه وبنين فغناه لنفسه، وليس لك أنت، وماذا تعمل بغنى غيرك؟! إنما الذي يغنيك هو الله سبحانه وتعالى، إذا أخذت رسالته أنزل عليك البركات من السماء، وأخرج لك البركات من الأرض، ولكن لجهلهم وحماقتهم وتفاهة تفكيرهم قالوا ذلك. ويقصدون بالقريتين مكة والطائف، وبالرجلين الوليد بن المغيرة صاحب المال وعم أبي جهل الذي كان من أكفر خلق الله. والذي من الطائف، عروة بن مسعود الثقفي. و Q هل إذا نزل القرآن على أحد هذين الرجلين كانوا سيؤمنون؟ و A لا، وإنما سيتعللون بأشياء تافهة لا معنى لها.

تفسير قوله تعالى: (أهم يقسمون رحمة ربك)

تفسير قوله تعالى: (أهم يقسمون رحمة ربك) قال تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:32] يعني هل هم يتحكمون فيها؟ فانظر لجهلهم وتعجب من حماقتهم وغبائهم. قال تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:32] فالمعيشة نحن الذين قسمناها بينهم، وقسمنا الأرزاق. وانظر لإنسان تجده يتكلم كلاماً جميلاً وفيه قوة وصحة وهو فقير بينما تجد آخر بطيء الكلام قليل الحيلة قد فتح الله له في التجارة وفي الرزق شيئاً كبيراً، فالله الذي قسم هذه المعيشة في الدنيا. فإذا كان اللبق في الدنيا لا يقدر أن يغني نفسه فكذلك في الآخرة لا يستطيع أن ينفع نفسه إلا أن تداركه رحمة من ربه تعالى. قال تعالى: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف:32] أي: ليسخر بعضهم بعضاً فيعمل من لا مال له عند صاحب المال؛ ليعطيه منه. فالله تعالى هو الذي جعل فلاناً يعمل عند فلان، وجعل الناس يحتاج بعضهم لبعض، ولا يوجد أحد يقدر أن يعمل كل شيء، بل كل في تخصصه؛ ليحتاج الجميع بعضهم لبعض. فكأن الله تعالى يقول: فإذا كنا نحن الذي فعلنا بكم ذلك وقسمنا بينكم معيشتكم في الحياة الدنيا فهل ستقسمون أنتم رحمتنا؟! قال تعالى: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف:32] يعني: في الدنيا، جعل هذا وزيراً، وهذا رئيساً وهكذا. قال تعالى: {وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:32] فالرحمة التي عند الله سبحانه من إنزال الكتب، وإرسال الرسل والجنة خير من حطام الدنيا الذي يزول، فاسألوها من الله تعالى؛ فإنه لا يملكها إلا هو. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الزخرف [29 - 38]

تفسير سورة الزخرف [29 - 38] مما يدل على هوان الدنيا على الله أنه يعطيها من كفر به، فإن الدنيا مهما بلغت من العظم في عيون الخلق حقيرة دنيئة، ويكفي في حقارتها أنها زائلة، أما الآخرة الباقية فهي منحة الله لعباده المتقين، والمتقين فحسب، أما الغافلون فليس لهم في الدنيا إلا قرناء السوء، وفي الآخرة إلا العذاب المهين.

تفسير قوله تعالى: (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة بعد المشرقين فبئس القرين)

تفسير قوله تعالى: (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة بعد المشرقين فبئس القرين) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الزخرف: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ * وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف:33 - 38].

النبوة رحمة الله يمنحها من يشاء

النبوة رحمة الله يمنحها من يشاء يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات وما قبلها كيف أنه سبحانه متع الكفار في الحياة الدنيا، وأعطاهم فيها المال، والبنين، وإن كان لم يعط جميعهم، بل فتح على البعض وضيق على الآخرين، ولله سبحانه وتعالى الحكمة العظيمة في أن يعطي هذا ويمنع هذا سبحانه وتعالى. فالكافر يريد الحياة الدنيا للدنيا، ولا ينظر إلى حساب ولا عذاب ولا آخرة، ولا ينظر إلا إلى ما يشتهيه فيها، والله عز وجل يقول: {بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ} [الزخرف:29]، أي: جاءهم القرآن من عند الله، وجاءهم الرسول المبين الذي يبين لهم ما جاء من عند الله سبحانه وتعالى، {وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ} [الزخرف:30]، من عند الله {قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف:30]. لقد غرتهم الدنيا، وما هم فيه من نعيم، وغرهم الأمل، وغرتهم المناصب التي كانوا فيها فأنفوا أن يكونوا أتباعاً للنبي صلى الله عليه وسلم، ولغرورهم وزعمهم بأنهم أصحاب رئاسة، فكيف يكونون أتباعاً للنبي صلى الله عليه وسلم؟ فكفروا برفض فكرة مجيء رسالة من السماء، وأخذوا يتشككون كيف جاءت على النبي صلى الله عليه وسلم؟ ولماذا لم تأت على أحد آخر؟ فاعترضوا بغبائهم، قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31]، فهم لغبائهم يريدون أن يختاروا من ينزل عليه القرآن! ويتساءلون لم لم ينزل على الوليد بن المغيرة؟ أو على ابن أخيه أبي جهل أو على رجل من الطائف كـ عروة بن مسعود أو غيره؟ لماذا نزل على النبي صلى الله عليه وسلم؟ فاعترضوا على ربهم سبحانه وتعالى، وكذبوا نبيهم صلوات الله وسلامه عليه، قال الله موبخاً لهؤلاء: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} [الزخرف:32]، أي: ليسوا هم الذين يوزعون النبوة على من يشاءون، بل النبوة رحمة من الله عز وجل، وكذا الدين رحمة من الله سبحانه، وكذا الجنة رحمة الله سبحانه، أفبعد ذلك يعترضون؟ فليس لهم أن يقسموا الدين والنبوة والجنة على من يشاءون، بل الله هو الذي يقدر معيشتهم قال تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:32]، فإذا كانوا لا يملكون أن يقسموا حياتهم، ومعيشتهم، وأرزاقهم، أفيملكون أن يقسموا رحمة الله سبحانه وتعالى؟ بل نحن نتصرف في كل شئونهم {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف:32]، أي: جعلنا بعضهم رئيساً، وجعلنا بعضهم مرءوساً، ورفع بعضهم على بعض درجات؛ ليسخر بعضهم لبعض في الخدمة والعمل والصناعة وغير ذلك. وهذا كله في الحياة الدنيا، لكن رحمة الله سبحانه خير مما يجمع الإنسان، ومن رحمة الله التمسك بدين الله، وهدى الله، وجنة الله، وكل ذلك خير من حطام الدنيا وما يجمع لها، إن الدنيا حقيرة كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: (لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة؛ ما سقى كافراً منها شربة ماء)، وقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى بهذا المعنى العظيم فقال: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف:33].

تقدير الأرزاق على العباد رحمة بهم

تقدير الأرزاق على العباد رحمة بهم قال تعالى: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الزخرف:33]، أي: على الكفر، والمعنى: لولا أن يصير الناس كلهم كفاراً لأعطى الله الكافر كل شيء في هذه الدنيا، وهذا لبيان حقارة الدنيا، فإنه إذا أعطاها لمن لا وزن له ولا قيمة له عنده، فهي لا وزن لها أيضاً فمن رحمة الله سبحانه وتعالى، أنه لم يفتن عباده بذلك فيعذبهم، إذ أن الله إذا أراد أن يعذب الجميع؛ فتح عليهم الدنيا، حتى إذا أخذوها وظن أهلها أنهم قادرون عليها، {أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} [يونس:24]، ولكن رحمة الله عظيمة واسعة، فقد أراد أن يكون من العباد مؤمنون فيدخلهم الجنة سبحانه وتعالى، وأراد أن يكون فيهم الكفار الذين يستحقون عدل الله وعذاب الله سبحانه وتعالى. قوله: {لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ} [الزخرف:33]، أي: لأعطيناهم غنىً عظيماً، حتى يجعلون سقوف بيوتهم من فضة وفي قوله تعالى: {لِبُيُوتِهِمْ} [الزخرف:33]، قراءتان: فتقرأ البيوت بالضمة وبالكسر فيقرؤها أبو عمرو، وحفص عن عاصم، وأبو جعفر، ويعقوب بالضم: {لِبُيُوتِهِمْ} [الزخرف:33]، وباقي القراء كـ ابن كثير، وشعبة عن عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وخلف يقرءونها بالكسر {لِبيوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ} [الزخرف:33]. وكذا قوله تعالى: {سُقُفًا} [الزخرف:33] فيه قراءتان: الأولى: قراءة نافع، وابن عامر، والكوفيين، على الجمع: {سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ} [الزخرف:33]، والثانية: لباقي القراء {سَقفًا مِنْ فَضَّةٍ} [الزخرف:33]، على الإفراد، والمعنى: سقفاً واحداً على جميع البيوت، وعلى قراءة الجمع سُقُفاً أي: لكل بيت سقفاً من فضة. قوله: {وَمَعَارِجَ} [الزخرف:33]، المعارج الدرجات والمعنى: درجات يرقون ويصعدون عليها، ويشمل المعنى كذلك أن نجعلهم أصحاب مبانٍ عالية ومنابر مرتفعة. قوله: {عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف:33]، أي: يرتفعون إلى سطوحها مستمتعين بما يملكون من ذهب وفضة. قوله: {وَلِبُيُوتِهِمْ} [الزخرف:34]، أي: ولجعلنا أيضاً: {لِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ} [الزخرف:34]، أي: أبواباً من هذه الزخارف من الفضة ومن الذهب، ولجعلنا الأسرة التي يتكئون عليها من ذهب ومن فضة أيضاً. ويدل إعطاء الله الكافر هذه المتع على أن هذه المتع حقيرة، ولولا أنها حقيرة لما أعطاها للكافر وحرم المؤمن، أما جزاء المؤمن فقد وصفه الله فقال: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [محمد:15]، وزد على ذلك أن لهم المغفرة والفضل والرضوان من الله، قال تعالى: {وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد:15] فهم ليسوا كمن متعه الله عز وجل متاع الحياة الدنيا ثم يكون يوم القيامة من المحضرين إلى عذاب الجحيم، فلا يستوي الإيمان مع الكفر. قوله تعالى: {وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ} [الزخرف:34]، أي: يجلسون متكئين على الأسرة، وسرير الإنسان ما يجلس عليه، أو ما ينام عليه، وكأن هؤلاء غاية في الترفيه، فالله يرفعهم ويعطيهم أسرة عليها يجلسون ويتكئون، ويفتخرون وهم جالسون عليها. وفي قوله تعالى: {وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ} [الزخرف:34]، قراءتان: الأولى قراءة الجمهور ((يَتَّكِئُونَ))، والثانية: قراءة أبي جعفر (يتكون). قوله تعالى: {وَزُخْرُفًا} [الزخرف:35]، الزخرف: الذهب، والمعنى يعطيهم الله ذهباً وزينة وزخارف ونقوشاً يستمتعون بها في الدنيا. قوله: {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ} [الزخرف:35]، أي: كل هذا الذي نعطيه {مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:35]، والحياة الدنيا لا قيمة لها، إذ هي أشياء حقيرة زائلة وهم كذلك زائلون، فلولا أن يفتن المؤمنون، ويقتدوا بهؤلاء الكافرين لجعلنا ذلك لهؤلاء. قوله تعالى: {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:35]، هذه قراءة عاصم، وقراءة هشام عن ابن عامر، وقراءة حمزة أيضاً، وقراءة ابن وردان عن أبي جعفر، وقراءة باقي القراء: {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:35]، والمعنى: ما هذا إلا متاع في الحياة الدنيا، أسلوب قصر معناه: مهما استمتعوا فهو في الدنيا فقط، ثم يصيرون إلى العذاب بعد ذلك. قوله تعالى: {وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ} [الزخرف:35]، العندية هنا ليست عند الناس، بل عند الله، فالعاقبة للمتقين، أي: لأهل التقوى، ولأهل الإيمان، والإحسان، والآخرة يحتفظ بها سبحانه ويعدها لهم سبحانه وتعالى، {وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:35]، أي: أن الجزاء الحسن والعاقبة الجميلة لمن اتقوا ربهم سبحانه وتعالى وخافوا من عذابه. ولأن الدنيا ليس لها قيمة، فقد وبخ الله عز وجل من يحرص عليها، ومن يطمع فيها، وبمعنى ما ذكره الله سبحانه وتعالى في ذم الدنيا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر).

الغفلة سبب لتسلط أقران السوء على المرء

الغفلة سبب لتسلط أقران السوء على المرء قال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36]، قوله: العشى: ضعف البصر، والمعنى: أنه لا يستطيع الرؤية بالليل، فينظر في النهار ولا يرى بالليل، والذي يعشوا عن ذكر الرحمن، كأنه يتعامى ويتغافل عن ذكر الله تعالى ويغمض عينيه عن نور رب العالمين سبحانه وتعالى؛ لأنه لا يريد أن ينظر في كتاب الله عز وجل، ولا أن يسمع لما يذكره به النبي صلوات الله وسلامه عليه، ولا يريد أن يستجيب، فغشى تغافل وتعامى عن ربه سبحانه وتعالى. ومن يفعل ذلك يسلط الله عز وجل عليه الشياطين قال سبحانه: {نُقَيِّضْ} [الزخرف:36]، أي: نسلط عليه وهذه قراءة الجمهور، وقراءة شعبة بخلفه، وقرءها أيضاً يعقوب يقيض بالياء، أي: الله عز وجل يقيض له، {نُقَيِّضْ لَهُ} [الزخرف:36]، بنون الجمع التي تدل على العظمة والمعنى: الله عز وجل يفعل به ذلك، قال: {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36]، أي: يسلط عليه، ويجمع عليه الشياطين، ويجعلهم مسلطين على هذا الإنسان الذي يريد الحياة الدنيا ويتعامى ويتغافل عن ذكر الله سبحانه، قوله تعالى: {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36]، أي: صاحب له مقترن به لا يفارقه أبداً، فكل من يتغافل عن الله، ويترك ربه سبحانه وتعالى، يتركه الله عز وجل ويسلط عليه هواه، ويسلط عليه الشياطين لأنه غافل عن الله عز وجل. وقوله: {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ} [الزخرف:37] أي: يصدون أولياءهم من المشركين والكفار والفجار، قوله: {عَنِ السَّبِيلِ} [الزخرف:37]، أي: عن سبيل الحق، وعن طريق الله رب العالمين، قوله: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:37]، إن أعظم عقوبة من الله للإنسان في الدنيا، أن يسلط عليه نفسه وشيطانه، فيجعلانه يحسب أنه على الحق. لأن الإنسان إذا فعل المعصية وهو يعرف أنها معصية، قد يتوب منها لشعوره بالذنب والإثم، أما الذي يفعل المعصية، وقد يقع في الكفر بالله، وهو يظن أنه على خير، وعلى الحق والصواب، فإنه قد عوقب بأعظم العقوبة ويبعد أن ينتهي عما هو فيه، ولذلك كان المشركون أيام النبي صلى الله عليه وسلم يقولون عن النبي صلوات الله وسلامه عليه، وعن هذا الذي نزل عليه من السماء ما قاله تعالى مخبراً عنهم أنهم قالوا: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32]، أي: أنهم كانوا في غاية الغفلة عما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أنهم يظنون أنهم على الصواب، بل لشدة اعتقادهم بذلك يدعون على أنفسهم: يا رب أسقط علينا حجارة من السماء، إذا كنا نحن الكاذبين، مع أنهم لو تدبروا وتفكروا وأعملوا عقولهم؛ لعرفوا أنهم هم الكاذبون، وأنهم هم الكافرون، وأنهم مستكبرون عن دين الله رب العالمين، ومثل ذلك قولهم عن النبي صلى الله عليه وسلم: لو كان ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم خيرا لأعطينا نحن إياه، قال تعالى مخبراً بقولهم: {لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف:11]، أي: طالما أننا لم نسبق إليه غيرنا، فهو ليس بخير، وهذا منطق مغلوط!؛ لأن صاحبه لا ينظر فيما جاء من عند رب العالمين، ولا ما هو عليه من باطل؛ ولو تأمل في ذلك لما وجد غضاضة في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: {يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:37]، قرئت يحسبون: بفتح السين، وهي قراءة عاصم وابن عامر، وحمزة، وأبي جعفر، وباقي القراء يقرءونها بكسر السين، {وَيَحْسِبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:37]. قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا} [الزخرف:38]، أي: هذا الذي عشى عن ذكر الرحمن، والعاشي هو الغافل المتعامي عن ذكر الله سبحانه، التارك لكتاب الله ولسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي قوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا} [الزخرف:38]، قرأتان: الأولى قراءة الجمهور وقراءة المدنيين نافع، وأبي جعفر، وابن كثير حيث يقرؤنها بالإفراد {جَاءَنَا} [الزخرف:38]، والثانية قراءة ابن عامر، وشعبة عن عاصم، بالتثنية: {حَتَّى إِذَا جَاءَانَا} [الزخرف:38]، والمعنى: العاشي والشيطان القرين، قوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ} [الزخرف:38]، القائل هو العاشي الذي غفل عن ذكر الله: {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ} [الزخرف:38]، بعد أن جيء به موثقاً مغلاً مع شيطانه، ووضعا على النار، يظهر الحسرة والندامة ويتساءل: ما الذي قربني منك في الدنيا؟ ليتني بعدت عنك، قال تعالى: {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ} [الزخرف:38]، أي: كما بين المشرق والمغرب، وهذا من باب التغليب، فإنهما إذا انفردا قيل: هنا المشرق وهنا المغرب، فإذا جمع الاثنين قيل: المشرقان، وقيل: المغربان أيضاً، على جهة التغليب كما يقال: العمران، على أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما، قوله: {فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف:38]، أي: بئس من يقترن بالإنسان الشيطان في الدنيا؛ لأنه يغويه وفي النار يرديه يوم القيامة، لذلك المؤمن يحرص على ذكر الله عز وجل، ويحرص على أن ينتقي أصدقاء الخير، وإخوة الطاعة، وأن يجتنب رفقاء السوء، ويجتنب ما يدفعه إليه الشيطان من عمل.

تفسير سورة الزخرف [36 - 42]

تفسير سورة الزخرف [36 - 42] من يعرض عن ذكر الله وعن هدايته يقيظ له الله شيطاناً فيكون ملازماً له لا يفارقه، بل يتبعه في جميع أموره، ويطيعه في كل ما يوسوس به إليه، وهؤلاء الشياطين يحولون بين هؤلاء الذين أعرضوا عن ذكر الله وبين سبل الحق، ويوسوسون لهم أنهم على الهدى، لكنهم يوم القيامة يتمنون أن بينهم وبين الشياطين كما بين المشرق والمغرب، ويندمون على اتباعهم الشياطين، لكن لا ينفعهم الندم ذلك اليوم.

تفسير قوله تعالى: (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا)

تفسير قوله تعالى: (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الزخرف: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ * وَلَنْ يَنفَعَكُمْ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:36 - 39]. قوله تعالى: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) في هذه الآية يخبر الله سبحانه وتعالى عمن يتعامى عما جاءه من الذكر من الله عز وجل، ومن يعرض ويتغافل عن كتاب الله وهدي نبيه صلوات الله وسلامه عليه. قوله: ((وَمَنْ يَعْشُ))، والعشى: هو ما يصيب البصر من ضعف، فيضعف بصر الإنسان بحيث لا يرى في الليل ويرى في النهار، فالإنسان الأعشى من به ضعف في بصره، فالذي يعشو عن ذكر الرحمن ويتغافل ويغمض عينيه، فلا يريد أن ينظر إلى كتاب الله ولا إلى هدي النبي صلى الله عليه وسلم، يسلط الله عز وجل عليه الشياطين، فيتلاعبون به، حتى يوصلوه في الجحيم. قوله: ((نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا)) أي: يقيض له الله عز وجل شيطاناً، ((فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ)) أي: مقترن به في الدنيا، وفي الآخرة موثق معه؛ ليدخل النار مع قرينه والعياذ بالله.

تفسير قوله تعالى: (وإنهم ليصدونهم عن السبيل)

تفسير قوله تعالى: (وإنهم ليصدونهم عن السبيل) قال الله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:37] أي: الشياطين، {لَيَصُدُّونَهُمْ} [الزخرف:37] أي: يصدون أولياءهم، {عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:37] أي: الإنسان الذي يعصي ويظن نفسه محسناً فهذه مصيبة، أما الذي يعرف أنه عاص فلعله يتوب. فالشياطين يزينون لهم الشرك الذي هم فيه، ويزينون لهم سوء أعمالهم؛ ولذلك يفعلون الأفعال القبيحة وهم يعتقدون أنهم يتقربون بها إلى الله، فكانوا في ملة إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام يلبي الملبي: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. فجاء المشركون وغيروا في هذه الصيغة، فقالوا: لا شريك لك لبيك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك. هذا الشرك والكفر يقوله من يقوله ولا يتفكر فيه. فقولهم: لبيك لا شريك لك لبيك، إلا شريكاً هو لك، أي: إلا هذا الذي يكون شريكاً للرب سبحانه وتعالى عما يقولونه علواً كبيراً، وهم يعترفون بقولهم: تملكه وما ملك، أي: لك شريك واحد وهذا الشريك الذي هو لك أنت تملكه، وما يملك هو ملك لك أيضاً، وهذا الشريك لا يملك شيئاً، نقول: إذا كان هذا الشريك لا يملك شيئاً وهو ملك لله عز وجل فكيف يكون شركاً؟! وكيف يأنف الإنسان من أن يكون عبده شريكاً له فيما يملكه؟! قال تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ} [الروم:28] أي: أنت لا ترضى لنفسك أن يكون من تملكه من العبيد شريكاً لك؛ لأنك ستقول: أنا اشتريتك بمالي فكيف تكون شريكاً لي فيه؟! هذا لا يعقل، فكيف لا ترضاه لنفسك وترضاه لله سبحانه وتعالى؟! فهذا المثل الذي ضربه الله لكم من أنفسكم، ومع ذلك الكفار يتغاضون عن ذلك، ويقولون: لك شريك تملكه وما ملك، ويذهبون ليطوفوا حول الكعبة عراة رجالاً ونساء، فهذا دليل على أن الشيطان زين لهم سوء أعمالهم، وإلا فإنه يقبح في النظر أن يكون الإنسان متجرداً عارياً، فما الذي جعله قبيحاً في غير الكعبة وصار حسناً عند الكعبة؟ إلا أن الشيطان زين لهم ذلك، فإذا بهم يقولون: لا نطوف بالبيت في ثياب عصينا الله فيها، وما ذنب الثياب؟ أنت الذي عصيت وليست الثياب التي عصت الله سبحانه وتعالى، أي عقل يفكر بهذه الطريقة وبهذا الغباء! هؤلاء الكفار يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، يسيء الواحد منهم ويفعل الفعل القبيح الرديء وهو يزعم أنه على خير وأنه يحسن صنعاً، فيقول الله سبحانه وتعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:37] أي: يظن المشرك أنه على هدى في هذا الذي يفعله بشركه لله وبمعصيته له.

تفسير قوله تعالى: (حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين)

تفسير قوله تعالى: (حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين) قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف:38] هنا قراءتان في قوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا} [الزخرف:38] وهذه قراءة الجمهور، أما نافع وأبو جعفر وابن كثير وابن عامر وشعبة عن عاصم فقرءوا: (حتى إذا جاءانا) الاثنان: الشيطان والمعرض عن ذكر الله سبحانه وتعالى سيأتيان يوم القيامة قد وثق أحدهما في الآخر للحساب والجزاء، فيقول هذا الإنسان لهذا الشيطان: {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ} [الزخرف:38] أي: يا ليتني ما عرفتك، يا ليتك كنت في المشرق وأنا في المغرب أو العكس من ذلك، {فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف:38] أي: أنت بئس القرين، وبئس من كان معي في الدنيا في الآخرة؛ لأنك أغويتني في الدنيا، والآن أنا محشور معك في النار.

تفسير قوله تعالى: (ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم)

تفسير قوله تعالى: (ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم) قال الله تعالى: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39]. قوله: ((وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ)) أي: حين ظلمتم في الدنيا فسنجزيكم اليوم عذاب الجحيم؛ بسبب ظلمكم وشرككم وكفركم، وبسبب معاصيكم. (ولن ينفعكم اليوم) أي: يوم القيامة وهم في النار لن ينفعهم أنهم في العذاب مشتركون. فالإنسان الذي تنزل به المصيبة يواسيه ويسليه ويخفف عنه الألم الذي هو فيه أن يرى غيره مشتركاً معه في ذلك، ولذلك قالوا: إن الحزين يسعد الحزين، أي: يواسي بعضهم بعضاً، وبذلك يخفف عنهم ألم المصيبة التي هم فيها، لكن يوم القيامة لا يسلي بعضهم بعضاً، ولا ينفع بعضهم بعضاً، ولا يخفف عنهم العذاب يوم القيامة. قوله: ((أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ)) أي: العذاب على الجميع، ولا يواسي بعضهم بعضاً، بل يتبرأ بعضهم من بعض، ويشتم بعضهم بعضاً، ولا ينتفعون لا بتوبة إلى الله عز وجل، ولا برجوع إلى الدنيا، ولكن يقال لأهل النار: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108].

تفسير قوله تعالى: (أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي)

تفسير قوله تعالى: (أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي) قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزخرف:40]. هنا تقرير مسألة القضاء والقدر ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، يهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضلاً، ويضل من يشاء، ويخذل ويبتلي عدلاً، وكلهم يتقلبون بين فضله وعدله، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا غالب لأمره، آمنا بذلك كله، وأيقنا أن كلاً من عنده سبحانه وتعالى. عقيدة المؤمن في الإيمان بالقضاء والقدر، {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن:2]، فالله كتب عنده في اللوح المحفوظ: من عبادي من هو كافر، ومن عبادي من هو مؤمن، يقدر ما يشاء سبحانه، ويحكم بما يشاء، ويفعل ما يريد، وليس لأحد أن يعترض على مشيئة رب العالمين. فالمؤمن آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء خيره وشره حلوه ومره، هذه عقيدة المؤمن أن يؤمن بقضاء الله، قال سبحانه: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]. والنبي صلوات الله وسلامه عليه يهدي، كما قال الله عز وجل: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]. إذاً: هو يدل صلوات الله وسلامه عليه ويبين، ولكن لا يقدر أن يغير القلوب؛ لأن تغيير القلوب بيد رب العالمين سبحانه؛ ولذلك قال الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] أنت تهدي بمعنى: تدل وتبين، {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [النور:54]، أما أن تغير القلوب، فلا تملك ذلك؛ إنما القلوب بيد الله سبحانه وتعالى، وكم كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل ربه سبحانه: (يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا إلى دينك، يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك، فسأله أصحابه: ما أكثر ما تقول ذلك يا رسول الله؟ قال: إن القلوب بيد الله بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء). فالله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ويقرر لنا هذه العقيدة أن كل شيء بيده سبحانه، فإذا هداك الله فاحمد الله، وإذا أضلك الله فاسأل الله عز وجل أن يهديك؛ لأن بيده الخير سبحانه وتعالى. قال: ((أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ)) أي: لو كان الإنسان قد طبع الله عز وجل على قلبه، وأعمى بصره، وجعل وقراً على أذنيه، هل أنت تسمعه بعدما أضله الله؟ فالله يعلم ما في قلب هذا الإنسان من شر وما يستحق هذا الإنسان من جزاء، فيختم على قلب هذا الإنسان، فإذا ختم الله على قلبه بسبب ما يستحق من كفر ومن عناد ومن استكبار فهل تقدر أنت أن تهدي هذا؟ ((أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ))؟ أي: هل تسمع إنساناً أصم لا يريد أن يسمع؟ لا تقدر أن تفعل ذلك، أو تهدي إنساناً أعمى قد أغمض عينيه فهو لا يرى؟ لا تقدر على ذلك، إنما الذي يقدر على ذلك الله سبحانه. ثم قال: {وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزخرف:40] أي: في ضلال بين، في ضلال مفصح عن حال هذا الإنسان، فأفعاله تبين كفر قلب هذا الإنسان، فهو في ضلال مبين واضح جلي.

تفسير قوله تعالى: (فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون فإنا عليهم مقتدرون)

تفسير قوله تعالى: (فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون فإنا عليهم مقتدرون) قال الله تعالى: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ} [الزخرف:41]. قوله: (فإما نذهبن بك) يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} [الزخرف:45] قال المفسرون: نزلت هذه الآية قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الإسراء والمعراج، فقيل له: اسأل الأنبياء: {أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45]؟ قال: لا أسأل أحداً؛ لأنه واثق في كلام رب العالمين، لا يحتاج أن يسأل الأنبياء لا آدم ولا غيره صلوات الله وسلامه عليه وعلى الجميع. فهذه السورة الكريمة نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم قبل هجرته وقد عانى من الآلام وعانى من مشاغبات قريش له صلوات الله وسلامه عليه، ومن تعذيبهم لأصحابه، ومن تنفيرهم الناس عن دينه عليه الصلاة والسلام؛ لذلك يقول ربنا سبحانه له: الأمر واحد من اثنين: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ} [الزخرف:41] ولن نتركهم {فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ} [الزخرف:41] أو نتركك تعيش {أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ} [الزخرف:42] والله على كل شيء قدير. فيقول للنبي عليه الصلاة والسلام: ((فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ)) وهذه لها معنيان: الذهاب إلى الموت، أو الذهاب من مكة إلى المدينة؛ لأنه بعد مدة قليلة من نزول هذه الآيات هاجر صلوات الله وسلامه عليه إلى المدينة، وعلى هذين المعنيين فيكون الانتقام إما بالعذاب في الدنيا بالقتل والأسر ونحو ذلك، وإما بالعقوبة في قبورهم ويوم القيامة. قال تعالى: {أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ} [الزخرف:42] أو نريك الآن وأنت بينهم عذابنا لهم، أو بعد أن تهاجر إلى المدينة نريك ما نصنع بهؤلاء، فكان من رحمة رب العالمين سبحانه أن هدى من شاء من خلقه فدخلوا في دين الله، ولم ينزل على مكة عذاباً من عنده سبحانه وتعالى، إلا ما كان من قتل الكفار الكبراء منهم في يوم بدر وغيرها من الأيام. وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عز وجل إذا أراد رحمة أمة من عباده قبض نبيها قبلها، فجعله لهم فرطاً وسلفاً) أي: إذا أراد رحمة أمة قبض نبيها قبلها، وتعيش الأمة بعده فيكون هو الفرط ويكون هو السابق قبلهم، ويكون هو الشفيع لهذه الأمة، قال: (وإذا أراد هلاك أمة عذبها ونبيها حي فأهلكها وهو ينظر فأقر عينه بذلك؛ لأنهم كذبوه وعصوا أمره). فبين لنا النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث أن هذه الأمة أمة مرحومة، أراد الله عز وجل رحمتها، وأخبر صلوات الله وسلامه عليه بأنه ميت، كما أخبره ربه سبحانه: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] صلوات الله وسلامه عليه، فكان من رحمة ربنا سبحانه أن قبض النبي صلوات الله وسلامه عليه، وانتشر دين الله سبحانه، ورحم الله عز وجل هذه الأمة ببقاء هذا الدين. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تفسير سورة الزخرف [40 - 44]

تفسير سورة الزخرف [40 - 44] لقد أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتمسك بالشريعة، والأمة مأمورة مثله بالتبع، وأخبره أنه على الصراط المستقيم والدين القويم، وأن هذا الدين فخر له ولقومه.

تفسير قوله تعالى: (أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين)

تفسير قوله تعالى: (أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين) أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الزخرف: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ * أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ * فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف:40 - 44]. يقول الله سبحانه تبارك وتعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزخرف:40]، أي: هل أنت تقدر على ذلك؟ إذا كان قد طبع الله عز وجل على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم فهم لا يريدون أن يسمعوا فإن أسماعهم وقلوبهم مختوم عليهما، فلا يسمعون إلا ما يريدون ويأبون أن يسمعوا ما تدعوهم إليه من كتاب الله عز وجل، وإذا رأوا النبي صلى الله عليه وسلم استغشوا ثيابهم ووضعوا أصابعهم في آذانهم ولم يريدوا أن يسمعوا ولا أن ينتبهوا لما يقول صلوات الله وسلامه عليه. قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26]، وكان هذا حال هؤلاء أنهم لا يسمعون ولا يريدون أن يسمعوا وإذا كلمهم النبي صلى الله عليه وسلم استغشوا ثيابهم وغطوا على أعينهم ووضعوا أصابعهم في آذانهم وحلفوا ألا يسمعوا منه صلوات الله وسلامه عليه. وهؤلاء رفضوا أن يسمعوا فختم الله عز وجل عليهم فهم لا يفهمون، وعلم الله من قلوبهم الشر الذي فيها فطبع وختم عليها فهم لا يفهمون ولا يعقلون، قال تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6]، أي: ستهلك نفسك على آثار هؤلاء فهم لا يستحقون لأنهم مجرمون، ولأنهم عرفوا الحق الذي جاء من عند الله، وعرفوا الآيات البينات وعرفوا الإعجاز الذي في هذا القرآن ومع ذلك لا يريدون أن يسمعوا القرآن ولا أن يتبعوه غروراً وكبراً وعصبية وجاهلية وكل منهم يريد أن يكون هو الذي نزل عليه القرآن، فيحسدون النبي صلى الله عليه وسلم على ما آتاه الله سبحانه تبارك وتعالى، فطبع الله على قلوبهم، والجزاء من جنس العمل فهم يغطون على أعينهم حتى لا ينظروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم والله يختم على قلوبهم فلا يفهمون ولا يعقلون فيستحقون أن يموتوا على الكفر وعلى الضلال حتى يكونوا من أهل النار. فقوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزخرف:40]، أي: أفأنت تفعل ذلك؟ وهل تقدر على ذلك؟ وإذا كانوا قد ضلوا الضلال المبين وابتعدوا كل البعد عن كتاب ربهم وعن هداه المستبين، فأنت لا تقدر أن تهديهم وقد أضلهم الله سبحانه، فالأمر بيد الله سبحانه يضل من يشاء ويهدي من يشاء، قال تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف:76].

تفسير قوله تعالى: (فإما نذهبن بك فإذا منهم منتقمون فإنا عليهم مقتدرون)

تفسير قوله تعالى: (فإما نذهبن بك فإذا منهم منتقمون فإنا عليهم مقتدرون) قال الله تعالى: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ} [الزخرف:41]، أي: إذا قبضناك أو أخرجناك من مكة إلى المدينة فسننتقم من هؤلاء الكفار الذين يرفضون أن يدخلوا في دين الله سبحانه. وقد توعدناهم بالعذاب، وقد أنذرناهم بطشنا الشديد، فواحد من اثنين: إما أن نذهب بك ونخرجك من عند هؤلاء فننتقم منهم انتقاماً عظيماً، {أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ} [الزخرف:42]، وأنت موجود فيهم فإنا عليهم مقتدرون، ولذلك لما شدوا على النبي صلى الله عليه وسلم مرة من المرات وآذوه الأذى الشديد وآذوا أصحابه دعا ربه سبحانه عليهم فقال: (اللهم أعني عليهم بسنين كسنين يوسف)، فأعانه الله سبحانه تبارك وتعالى عليهم، وضيق عليهم أشد الضيق ومنع عنهم المطر فلا يوجد ماء ولا زروع لهم ولمواشيهم، حتى نفقت المواشي التي عندهم فذهبوا يستجيرون ويطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله أن يكشف عنهم ما هم فيه وهم سيؤمنون بالله ويتبعونه، وناشدوه بالله وبالرحم التي بينه وبينهم، وهو الذي يقول: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23]، أي: لا أريد منكم أجراً ولا مالاً، ولكن أطلب منكم أن تراعوا ما بيني وبينكم من القرابة والرحم. ولما دعا عليهم إذا بالله يضيق عليهم وعانوا من القحط والضيق حتى أكلوا الجلود والميتة وأوراق الأشجار وأكلوا ما وجدوه في الأرض، وذهبوا للنبي صلى الله عليه وسلم يستنجدون {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} [الزخرف:49]، أن يكشف عنا هذا، فإذا به بحنانه وطيبة قلبه صلوات الله وسلامه عليه يدعو لهم. كان النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا عليهم بسنين كسني يوسف وهي سبع سنين، فعانوا أياماً قلائل وإذا به يدعو لهم أن يفرج الله عز وجل عنهم ففرج الله عز وجل عنهم، فإذا بهؤلاء يرجعون إلى ما كانوا ولم يؤمنوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ففعلهم هذا كفعل فرعون وقومه مع موسى النبي صلوات الله وسلامه عليه، والحال من الحال والنتيجة هي النتيجة فلذلك ربنا سبحانه عقب ذلك بذكر فرعون مع موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام.

تفسير قوله تعالى: (فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم)

تفسير قوله تعالى: (فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم) قال سبحانه: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ} [الزخرف:43]، أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتمسك بالوحي، وقد تمسك صلوات الله وسلامه عليه، وهنا الخطاب له وللأمة بالاتباع والتمسك وخذوا ما أتيناكم بقوة {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الزخرف:43]، أي: أنت على هدى وعلى طريق قويم معتدل وعلى دين عظيم دين رب العالمين دين الإسلام الذي ارتضاه الله عز وجل لخلقه.

القراءات في قوله (صراط)

القراءات في قوله (صراط) قوله تعالى: {إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الزخرف:43]، (صراط) فيها ثلاث قراءات: (سراط) لـ قنبل ولـ رويس، و (صراط) لجمهور القراء، و (زراط) لـ خلف عن حمزة. والصراط على الثلاث القراءات: بمعنى الطريق. ومعنى قوله تعالى: {صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الزخرف:43]، أي: طريق قويم معتدل، فأنت على دين وهم على باطل، فليسوا على شيء وإن جادلوا بكل شيء.

تفسير قوله تعالى: (وإنه لذكر لك ولقومك)

تفسير قوله تعالى: (وإنه لذكر لك ولقومك) قال الله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:44]، هذا القرآن وهذا الدين العظيم الذي جاءك من رب العالمين ذكر من الله سبحانه تبارك وتعالى جاء إليك، وذكر لكم بمعنى: تذكرة من الله وبمعنى: شرف لك ولقومك أن ينزل هذا القرآن باللغة العربية وبلسان قريش، والأعاجم يدخلون في هذا الدين فيتعلمون لغتكم ويحتاجون إليكم ليفهموا ما جاء من كلام رب العالمين، أليس هذا الفخر وهذا الشرف لهؤلاء الجهلة المجرمين الذين يكذبون ويعرضون، قال تعالى: {جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف:63]. وشرف لكم أن تعبدوا ربكم وحده لا شريك له وأن يذكركم الله عز وجل بهذا القرآن وأن يجعله بلسان عربي مبين ونزل على أشرف المرسلين صلوات الله وسلامه عليه في أشرف البقاع بهذه اللغة الكريمة اللغة العربية.

شرف قريش

شرف قريش قال سبحانه في سورة الأنبياء: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء:10]، أي: فيه شرفكم وفخركم، فتفتخرون ليس بالأنساب ولا بالقبائل التي أنتم فيها، وليس بأعمالكم، ولكن فخركم بأن نزل الله عز وجل عليكم كتاباً ليهديكم بلغتكم العربية. فهذا القرآن فخر وشرف لك ولقومك وتذكرة لكم وللناس، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري ومسلم أنه قال: (الناس تبع لقريش مسلمهم لمسلمهم وكافرهم لكافرهم). والنبي صلى الله عليه وسلم يبين أن الناس تبع لقريش، فلو أن قريشاً أسلموا أسلم الناس معهم ودخلوا في دين الله وكانت القبائل من حولهم ينظرون ماذا استعمل قريش فهم أهل النبي صلى الله عليه وسلم وقومه فإن يسلموا أسلمت القبائل معهم فيتحينون ويتربصون ماذا يصنع قريش مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الناس تبع لقريش)، فلو أسلم هؤلاء أسلم الناس فيكون لهؤلاء الفضل والشرف؛ لأن الناس تابعون لهم (مسلمهم لمسلمهم وكافرهم لكافرهم). وقال صلى الله عليه وسلم: (والناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا)، أي: الناس مثل المعادن أصناف وأنواع فيهم خيار وفيهم شرار، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام، فمن كان خيّراً في الجاهلية يصل الرحم ويفعل الخير ويعطي الفقراء ويراعي الأرامل والأيتام ولا يئد الصغيرة، فله شرف وفضل وقدر وله أعمال صالحة وهو في الجاهلية، فإذا أسلم كانت له أعمال خير ويجزى على ما فعله في الجاهلية من أعمال الخير.

معنى قوله صلى الله عليه وسلم (إذا فقهوا)

معنى قوله صلى الله عليه وسلم (إذا فقهوا) إذا فقهوا)، أي: تعلموا دين رب العالمين سبحانه الذي يهذب الأخلاق ويعلم الإنسان كيف يكون عمله لله سبحانه تبارك وتعالى؟ وكيف يحسن ويفعل معالي الأمور وخيارها ويترك سفاسف الأمور وشرارها؟

فضائل عمر بن الخطاب

فضائل عمر بن الخطاب وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (تجدون من خير الناس أشد الناس كراهية في هذا الشأن حتى يقع فيه)، وكان المؤمنون يتغيظون من الكفار أنهم يفعلون بهم كذا وكذا، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لعلهم يسلمون وستجدون من خير الناس من كان أشدهم كراهية لهذا الدين، وهذا إخبار الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه، فإنه لا يقنط، فإن ربنا يهدي من يشاء من هؤلاء، وكان يدعو لـ أبي جهل ولـ عمر بن الخطاب، ولما قتل أبو جهل قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا فرعون هذه الأمة)، ومع ذلك كان يدعو له أن يهديه الله سبحانه، قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم أيد الإسلام بأحد العمرين)، وهما: أبو جهل أو عمر بن الخطاب رضي الله تبارك عنه، وكان الاثنان أشد الناس كراهية لهذا الدين وللنبي صلى الله عليه وسلم وللمسلمين حتى هدى الله عز وجل عمر بن الخطاب، فصار الذي يضرب به المثل في العدالة، وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (لو رآه الشيطان سالكاً فجاً لسلك فجاً آخر). فهذا كان رضي الله عنه من أشد الناس كراهية لهذا الدين فصار أحب الناس لرسول الله صلوات الله وسلامه عليه. وكذلك هند بنت عتبة التي قتل أبوها وعمها وأخوها فتغيضت من حمزة رضي الله تبارك وتعالى عنه، وطلبت من وحشي أن يقتله فقتله وذهبت لتأخذ كبده لتلوكه بأسنانها من غيضها منه، لأنه قتل أباها وأخاها، فكانت من أشد الناس حنقاً وتغيظاً على الإسلام، ومن أشد الناس كفراً وتمرداً إلى أن فتح الله عز وجل مكة للنبي صلوات الله وسلامه عليه. وكان أبو سفيان قبيل هذا الحين كافراً إلى أن أسلم في فتح مكة، ودخل أبو سفيان بيته ورأته امرأته وهي كافرة فأمسكت به وقالت للكفار: اقتلوا هذا الشيخ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن). فآمن أبو سفيان وحسن إسلامه وإيمانه، وأسلمت زوجته هند بعد ذلك وذهبت للنبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (ما كان على وجه الأرض بيت أبغض إلي من بيتكم، والآن ما على وجه الأرض بيت أحب إلي من بيتكم، قال: وأيضاً)، يعني: أنك ستزدادين حباً فوق حب؛ بما عرفت من دين الله سبحانه تبارك وتعالى. هذه المرأة الذي كان الحقد يملأ قلبها سنين طويلة على الإسلام والمسلمين ويشاء الله عز وجل أن يهديها قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين فأسلمت وحسن إسلامها، وغيرها كثير كانوا من أشد الناس في الجاهلية كفراً وحنقاً على الإسلام والمسلمين، ولما دخلوا في دين الله ندموا على ما فعلوا قبل ذلك فالحمد لله الذي جعلنا مسلمين ولم يجعلنا في يوم من الأيام نكره هذا الدين ثم هدانا إليه، والحمد لله الذي هدانا لهذا الدين. والإنسان الذي يرى نفسه على هدى وعلى طريق الله عز وجل يفرح بذلك، ولا ييئس غيره ولا نفسه من رحمة رب العالمين سبحانه، ولعل الله أن يهدي غيره من الناس الذين هم من أشد الناس كراهية للدين، كما هدى أولئك السابقين.

معنى قوله تعالى (وسوف تسألون)

معنى قوله تعالى (وسوف تسألون) وقوله تعالى: {وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف:44]، أي: يسأل الله النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة ويسأل الخلق عن الإيمان والعمل الصالح. وشرف المؤمن بدين الله عز وجل وبتمسكه به وبقيامه الليل بين يدي الله عز وجل وبعبوديته لله وبتواضعه لله، فهذا الشرف الحقيقي. ولذلك كان بعض الزهاد والعباد يقولون: إنا في متعة لو عرفها الملوك لقاتلونا عليها، وهي: متعة العبادة ومتعة الانفراد مع الله سبحانه تبارك وتعالى والتضرع إليه والشوق إليه والحب له سبحانه تبارك وتعالى، وهذه المتعة يعرفها المؤمن الصادق. أما الكفار فافتخارهم بالأنساب والأحساب وبالقوة وبالناس، قال النبي صلوات الله وسلامه عليه: (لينتهين أقوام يفتخرون بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم أو يكونون أهون عند الله من الجعلان التي تدفع النتن بأنفها)، أي: لينتهين أقوام عن فخرهم بالآباء، وآباؤهم فحم من فحم جهنم، فآباؤهم كفار وعصاة فهم في النار، ويفتخر الأبناء بهؤلاء الآباء فإما أن يترك هؤلاء الأبناء أن يفتخروا بآبائهم وإما تكون نهايتهم نهاية آبائهم وأجدادهم في النار، ويجعلهم الله عز وجل أنتن وأحقر من الجعلان ومن الصراصير. والناس كلهم بنو آدم وآدم من تراب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء)، وعبية الجاهلية: نخوتها وعصبيتها وكبرها، فقد أذهبها الله بالإسلام الذي جعل المسلمين كأسنان المشط، لا فضل لأبيض على أحمر، ولا لأبيض على أسود إلا بتقوى الله، والإنسان إما مؤمن على إيمان وعلى تقوى، أو إما فاجر على شقاء وعلى كفر وعصيان فـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43]. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الزخرف [45 - 50]

تفسير سورة الزخرف [45 - 50] دعوة الأنبياء والمرسلين هي إفراد الله سبحانه بالعبادة، ومن هؤلاء الأنبياء والمرسلين موسى عليه السلام؛ فإنه دعا فرعون وملأه إلى ذلك، فسخر منه فرعون واستهزأ به وبما يدعو إليه، واستهزأ بالمعجزات التي جاء بها ومنها معجزة اليد والعصا، فأنزل الله عليهم العذاب لعلهم يرجعون إلى الله، وفعلاً طلبوا من موسى أن يدعو الله تعالى أن يكشف عنهم ما أنزل الله عليهم من العذاب، فلما كشف الله عنهم ذلك استكبروا وعتوا عتواً كبيراً.

تفسير قوله تعالى: (فاستمسك بالذي أوحي إليك)

تفسير قوله تعالى: (فاستمسك بالذي أوحي إليك) أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الزخرف: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ * وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ * وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:45 - 52]. أمر الله عز وجل نبيه صلوات الله وسلامه عليه بأن يستمسك بوحي الله سبحانه الذي أوحاه إليه، وأخبره أنه صلوات الله وسلامه عليه على هذا الدين العظيم وعلى صراط مستقيم، وأن هذا الدين فخر وشرف له ولقومه، وتذكرة وموعظة من رب العالمين سبحانه تبارك وتعالى، قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف:44]، ويوم القيامة يسأل الله نبيه عن هذا الدين العظيم، هل بلغه؟ وهل استجاب الناس له وأطاعوا الله سبحانه؟

تفسير قوله تعالى: (واسأل من أرسلنا قبل من رسلنا)

تفسير قوله تعالى: (واسأل من أرسلنا قبل من رسلنا) قال تعالى بعد ذلك: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45]، قال البعض من المفسرين: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ} [الزخرف:45]، أي: اسأل أتباع الرسل الذين دخلوا في دينك، والذين عرفوا أنك على الحق صلوات الله وسلامه عليه، هذا قول. وقيل: بل اسأل حقيقة الرسل وقد أسري به صلوات الله وسلامه عليه إلى بيت المقدس، قال الله سبحانه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء:1]. ولما وصل بيت المقدس صلى بالأنبياء فأمهم النبي صلوات الله وسلامه عليه، وقيل له: اسأل هؤلاء الأنبياء والرسل هل جعلنا قبلك من إله يعبد غير الله سبحانه تبارك وتعالى؟ وحاشا للنبي صلى الله عليه وسلم أن يسأل عن ذلك، فقد علم أن الله سبحانه وحده الذي يعبد لا شريك له، وعلم من القرآن أن كل الأنبياء كانت دعوتهم واحدة أن يعبدوا الله: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]. فلذلك قيل له ذلك على وجه المبالغة في تأكيد توحيد الله سبحانه تبارك وتعالى في قلب النبي صلى الله عليه وسلم وعند المؤمنين، والجواب في كتاب الله عز وجل أن كل الرسل دعوا إلى توحيد الله سبحانه، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون:23]، وقال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [الأعراف:65]، وقال تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:73].

دعوة إبراهيم قومه أن يعبدوا الله وحده وموقف قومه منه

دعوة إبراهيم قومه أن يعبدوا الله وحده وموقف قومه منه فالقرآن مليء بالآيات التي فيها أن الأنبياء يدعون أقوامهم إلى توحيد الله سبحانه تبارك وتعالى، ويحذرونهم من كفرهم وشركهم بالله، وسورة الأنبياء مليئة بذكر أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام الذين دعوا قومهم إلى توحيد الله. فنبي الله إبراهيم عليه وعلى نبيا الصلاة والسلام، دعا قومه إلى توحيد الله سبحانه فقال: {أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:66 - 67]. وجاهد في الله حق جهاده، حتى أرادوا إحراقه، قال تعالى: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:68 - 69]. وقال تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132]، ودين التوحيد هو: دين آدم ونوح وإبراهيم ودين ذريته بما فيهم محمد صلوات الله وسلامه عليه، فكل الأنبياء دعوا إلى توحيد الله سبحانه، وما دعا أحد منهم إلى الشرك بالله سبحانه، وحاشا لهم أن يدعوا إلى ذلك.

القراءات في قوله تعالى (واسأل من أرسلنا قبلك من رسلنا)

القراءات في قوله تعالى (واسأل من أرسلنا قبلك من رسلنا) وقوله تعالى: {وَاسْأَلْ} [الزخرف:45]، هذه قراءة الجمهور، وقرأها ابن كثير والكسائي وخلف: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} [الزخرف:45]، وإذا وقف عليها حمزة يقرأ ((وسل)) ثم يقرأ: {مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ} [الزخرف:45]، وهم الرسل الذين من قبلك، بعثناهم إلى قومهم، واخترناهم وأعطيناهم رسالة وأمرناهم بتبليغها. وقوله تعالى: {مِنْ رُسُلِنَا} [الزخرف:45]، بضم السين قراءة الجمهور، و ((مِنْ رُسْلِنَا))، بتسكينها قراءة أبي عمرو. وقوله تعالى: {أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45] هل أمرنا أحداً أن يشرك بالله أو يدعو إلى غير الله سبحانه تبارك وتعالى؟ و A لم يحدث ذلك.

تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه)

تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه) قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزخرف:46]. ذكر الله عز وجل عناد المشركين من قريش، فقد جاءهم القرآن ذكراً لهم، فهو تذكرة وموعظة، وشرف، وفخر لهم، ونزل بلغتهم ووعدهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يسودوا الخلق بهذا الدين العظيم، وأن يجعلهم الله عز وجل الحكام المتبوعين وغيرهم يكونون أتباعاً لهم، لو أنهم اتبعوا دين رب العالمين سبحانه، فرفضوا: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31]. فنظروا للنبي صلى الله عليه وسلم نظرة ازدراء واستهزاء واحتقار بسبب نزول القرآن عليه ولم ينزل على رجل أعظم منه مالاً أو جاهاً، والعظمة التي يعنونها ليست في الشرف والنسب، فهو صلى الله عليه وسلم أفضلهم وأشرفهم صلوات الله وسلامه عليه، وأعدلهم عليه الصلاة والسلام، وأصدقهم وأعظمهم أمانة. والله له الحكمة العظيمة، فهو يجعل نبيه صلى الله عليه وسلم واحداً من الناس، ولم يكن ملكاً، ولم يكن من آبائه من ملك عليه الصلاة والسلام، حتى لا يساء فيه الظن فيقال: يريد ملك آبائه. فلذلك الكفار قالوا: إن القرآن نزل على رجل من الناس ولم ينزل على رجل من عظمائهم، فاحتقروا النبي صلوات الله وسلامه عليه وازدروه في الظاهر، أما الحقيقة في الباطن فالغيرة والحسد مما أتى به صلوات الله وسلامه عليه. فربنا يطمئن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس أول من قيل له ذلك، فنبي الله موسى عليه الصلاة والسلام قيل له أشد من ذلك، لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يتأسى به فيصبر إذا أوذي، ويقول: (رحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من ذلك فصبر). فيتسلى صلوات الله وسلامه عليه بذلك، فإن في موسى أسوة حسنة، فموسى أوذي فصبر، والنبي صلى الله عليه وسلم أوذي فيصبر كما صبر موسى، فربنا يذكر النبي صلى الله عليه وسلم بقصة موسى القصة العظيمة التي هي من إعجاز القرآن العظيم، فقد تكررت القصة في القرآن عشرات المرات، وفي كل مرة فيها تفنن وتنوع بذكر شيء غير موجود في المرة الأخرى وبسياق يلائم الآيات التي هي فيها.

قصة موسى عليه السلام مع قومه

قصة موسى عليه السلام مع قومه فهنا يذكر له أن هؤلاء إن كانوا قد احتقروك بأنك لست عظيماً، أو بأنك مجنون، فائتس بموسى من قبلك، وهذه قصة مختصرة لموسى عليه الصلاة والسلام: فقد أرسله الله بتسع آيات بينات مبصرة من رب العالمين سبحانه تبارك وتعالى، والتسع الآيات التي جاء بها موسى أخبرنا الله عز وجل عنها في كتابه، فقال: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف:130]، {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} [الأعراف:133]، وأرسله الله بآيتي اليد والعصا والمجموع تسع آيات أرسل الله عز وجل موسى بها إلى قومه. ونزلت عليه التوراة من عند رب العالمين سبحانه فيها هدى ونور وبينات لهؤلاء الخلق، وجاءهم بالرسالة فرفضوا أن يتبعوا دين موسى عليه الصلاة والسلام، فجاءهم بالآيات البينات التي أجبرتهم أن يعترفوا بها وقت ما تأتيهم الآية ثم بعد ذلك يرجعون عن ذلك. والتسع الآيات هي: أخذهم بالسنين ونقص من الثمرات، فأصابهم الله بالقحط، فكانوا في شدة فلا يجدون ما يطعمون به البهائم وضيق الله عليهم في الثمرات، ثم أرسل عليهم الطوفان، ففاض نهر النيل وأغرق بيوتهم، فيجأرون إلى موسى: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} [الأعراف:134]، فيدعو ربه فيكشف عنهم ذلك، ويكفرون أشد من كفرهم السابق، فتنمو الثمار وهم على كفرهم فيرسل الله عليهم الجراد فتأكل كل الثمار، فيطلبون من موسى: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} [الأعراف:134]، فيدعو ربه سبحانه فيكشف عنهم، فيصرون على ما هم فيه، ويجمعون ثمارهم وحبوبهم في أماكنها فيرسل الله عز وجل عليها ما يأكلها، فيجأرون إلى موسى: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} [الأعراف:134]. وفي كل آية من الآيات يطلبون من موسى أن يدعو ربه، فربنا يقول للنبي صلى الله عليه وسلم أنه من ختم الله على قلبه لن يؤمن وإن رأى الآيات. ولا تحزن على أبي جهل وأمثاله، وليس كل أمر يطلبه الكفار تطلبه لهم، وإذا كان الله عز وجل أراد لهم الإيمان سيؤمنون، وإذا لم يرد ذلك فلن تقدر على أن تحولهم من كفرهم إلى الإيمان. وموسى وحده ذهب إلى فرعون الذي نصب نفسه إلهاً: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، واستخف قومه، فقال له موسى: {إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزخرف:46]، أي: رسول رب الخلق ورب العالم العلوي والعالم السفلي، وكل ما خلق الله سبحانه تبارك وتعالى، فالله خالق كل شيء، وهو رب كل شيء ومليكه سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون)

تفسير قوله تعالى: (فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون) قال الله سبحانه تبارك وتعالى، {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ} [الزخرف:47]، والقصة مطولة، كما في سورة الأعراف، وفي سورة طه، وفي سورة القصص، واختصرها في مواضع من القرآن. ولما جاءهم موسى بآيات الله، سأل فرعون موسى عليه الصلاة والسلام: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23] {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء:26 - 27]، {قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء:24]. فموسى يجيب فرعون بالعقل، بأنه إنسان مخلوق لا يقدر على شيء، وربنا هو الذي خلقه وأوجده، فسيتهزئ فرعون بموسى أمام الناس، ويظهر لهم أنه كذاب في دعواه أن الله رب العالمين، فينتقل من المناقشة بالعقل إلى أسلوب القهر والقوة والسلطان، فقال: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء:29]. وكل الفراعنة على هذا الشيء، ومن اقتدى بهم، أو تشبه بهم، فإنهم يستخدمون أسلوب القهر، وهذه عادة في هؤلاء الفراعنة من الماضي، أما المناقشة بالعقل فلا يوجد عندهم عقل أصلاً، ولا يعرفون دين الله سبحانه، ولا يأبهون لذلك، ولا يتركون ما هم فيه من الكفر، ويضحكون على الآيات التي أبكتهم، والتي جعلتهم يسألون موسى أن يدعو الله أن يكشفها عنهم. والإنسان الظالم أو المتكبر المتجبر عندما تأتي إليه آية ولا يعرف ردها فإنه يضحك منها ويستهزئ بها. وحين أراهم موسى آية اليد فأدخلها جيبه ثم أخرجها فإذا هي بيضاء كالشمس، إذا بفرعون يسخر من موسى ويضحك ويقول: هذا ساحر. ولما ألقى أمامه العصا فتحولت إلى ثعبان فزع فرعون ثم تمالك نفسه وضحك وسخر من موسى وأحضر له السحرة من أقصى الأرض ومن أدناها.

تفسير قوله تعالى: (وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها)

تفسير قوله تعالى: (وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها) قال الله عز وجل: {وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:48] كل آية أشد من الآية التي قبلها، فأرسل الله عليهم {الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ} [الأعراف:133]، وهذه الآيات التي أرسلها الله عليهم كانوا لا يسخرون منها ولا يضحكون، فعندما أرسل الله عليهم الدم، فكانوا يشربون الماء فيتحول إلى دم وكذلك الأكل وأرسل عليهم الجراد وغيرها من الآيات كانوا لا يضحكون وإنما يبكون ويطلبون من موسى أن يدعو الله أن يكشف عنهم ذلك. قال الله سبحانه: {وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:48]، أي: بهذه الآيات التي سبق ذكرها، ومن العذاب إرسال الضفادع تخيفهم، والدم يبتليهم به ويخيفهم ويفزعهم، والقمل والطوفان.

تفسير قوله تعالى: (وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك)

تفسير قوله تعالى: (وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك) وكل آية من هذه الآيات يدعون موسى ويقولون: {يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} [الزخرف:49]، كانوا يزعمون أنه ساحر، وكأنهم ينادونه على وجه التعظيم، لأن معنى الساحر في زمانهم الرجل العالم العظيم. فيقولون له: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} [الزخرف:49]، الذي علمك ذلك أن يكشف عنا ما نحن فيه.

القراءات في قوله تعالى (يا أيها الساحر)

القراءات في قوله تعالى (يا أيها الساحر) وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ} [الزخرف:49]، هذه قراءة الجمهور، وقراءة ابن عامر: ((يَا أَيُّهُ السَّاحِرُ))، إذا وصلها، فإذا وقف: (يا أيهْ) والجمهور إذا وقفوا عليها يقفون بالهاء الساكنة: (يا أيه) وإذا وقف عليها أبو عمرو والكسائي ويعقوب يقرءون: {يَا أَيُّهَا} [الزخرف:49]، بالألف في آخرها. فموسى بلغهم رسالة رب العالمين، أن من آمن هداه الله وأمنه، فقالوا لموسى: ادع الله بما عهد عندك أن يكشف عنا ما نحن فيه ونحن سنؤمن بالله تعالى ونتبعك ونكون من المهتدين.

تفسير قوله تعالى: (فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون)

تفسير قوله تعالى: (فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون) قال الله تعالى: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ} [الزخرف:50]، وذكر الله تعالى في سورة الأعراف: {إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ} [الأعراف:135] يعني: أن إنزال العذاب عليهم ليس مباشرة، ولكن إلى أجل أي إلى أن يقيم عليهم الحجة. وقوله تعالى: {إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} [الزخرف:50]، إذا هم يغدرون ويرجعون، وينقضون، ولا يوفون بما عاهدوا عليه موسى عليه الصلاة والسلام. بل تمادى فرعون فنادى قومه فقال: {يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51]. كأنه يناقشهم بالعقل مثلما موسى يناقشهم ويكلمهم بالعقل، كيف يكون فرعون رباً؟ وكيف يكون كذا وكذا؟ وفرعون أيضاً يريد أن يقنع من حوله بما يقوله من كلام فارغ. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الزخرف [46 - 56]

تفسير سورة الزخرف [46 - 56] ذكر الله تعالى في هذه الآيات أنه أرسل موسى بالآيات والمعجزات الدالة على صدق رسالته، فلما رأى فرعون ذلك إذا به وقومه يضحكون من هذه البينات، ويتهمون موسى بأنه ساحر، وقد تكبر فرعون وادعى أنه الذي أجرى الماء من تحتهم فأجراه الله من فوقه، وأنه خير من موسى عليه السلام فانتقم الله منه وأغرقه وجنوده في البحر، وجعلهم الله تعالى عبرة ومثلاً لمن أتى بعدهم.

تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه)

تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه) أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الزخرف: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ * فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ * فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلآخِرِينَ} [الزخرف:51 - 56]. يذكر الله عز وجل لنا في هذه الآيات وما قبلها أنه قد أرسل موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بالآيات إلى فرعون وملئه، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} [الزخرف:46]، وذكر في آية غيرها {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود:96 - 97] فأرسله الله عز وجل إليهم ليدعوهم إلى عبادة الله عز وجل وحده وأن يتركوا ما هم فيه، وقد طلب موسى من ربه سبحانه أن يجعل معه أخاه هارون وزيراً ليعينه على ذلك، وكان موسى في لسانه لكنة من إصابة أصابته وهو صغير في بيت فرعون لما أراد أن يقتله ودافعت عنه امرأة فرعون وقالت له إنه صغير لا يفهم ولا يعقل، فقرب إليه جمرة من نار فلمسها بلسانه لأمر يريده الله سبحانه فأصابته لكنة من ذلك الوقت، ولذلك كان فرعون يعيره بأنه لا يكاد يبين، أي: ما يستطيع أن يتكلم وهذا كان قبل أن يوحى إليه بالرسالة، فلما جعله الله عز وجل نبياً قال تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:43] فدعا ربه، فاستجاب له ربه سبحانه تبارك وتعالى فيما سأله، {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يونس:89] أي: دعوة موسى وهارون، فدعا موسى ربه سبحانه {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه:25 - 36]. فكل ما سأل موسى ربه قد أجابه الله، فكشف عنه ما كان فيه من كرب بسبب خوفه من فرعون ومن معه وبسبب اللكنة أو الثقل الذي كان في لسانه فالله رفع عنه هذا فصار قوياً بإيمانه بعصمة الله عز وجل له وأيضاً جعل له أخاه معه وزيراً يعينه على دعوته إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، وأرسله ربه بتسع آيات بينات إلى فرعون وملئه.

ألقاب بعض ملوك الأرض

ألقاب بعض ملوك الأرض وفرعون لقب لكل من يملك مصر ويسمى بأي اسم من الأسماء، كما يقال لمن يملك الروم الـ قيصر، ومن يملك الفرس فهو كسرى، ومن يملك الحبشة فهو النجاشي.

تعريف الملأ

تعريف الملأ وأرسل الله عز وجل موسى ومعه هارون إلى فرعون وملئه، والملأ: الكبراء والسادة من القوم، فذهب موسى ليدعو هؤلاء إلى دين الله عز وجل، فكان الجواب من فرعون لموسى {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52] أي: أنا خير أم هذا الرجل الذي لا يبين الكلام؟ فلم ينظر إلى الآيات وإلى ما آتاه الله عز وجل من حجة قوية بالغة تثبت أنه رسول رب العالمين، وفرعون قال لقومه أنه ربهم الأعلى، فلما قال له موسى: أنا رسول رب العالمين، طلب منه فرعون الآيات، فلما رأى اليد والعصا بهت، فجادل بالباطل واتهم موسى بأنه ساحر، فقال: {فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى} [طه:58] فرد عليه موسى {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه:59]. والذي يريد أن يهرب حقيقة هو فرعون وليس موسى، وفرعون يقول لموسى: لا تخلف هذا الموعد، واحضر من أجل أن نهزمك في هذا الشيء الذي لا تقدر على صنعه وهو السحر. فاغتر فرعون بهؤلاء السحرة، ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، ليظهر كذب فرعون ويؤمن من شاء الله عز وجل له أن يؤمن من هؤلاء السحرة الذين جاؤوا لنصرة فرعون من كل مكان، فاعتزوا عليه، {قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الشعراء:41 - 42] لو أنكم انتصرتم على موسى.

تفسير قوله تعالى: (فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون)

تفسير قوله تعالى: (فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون) يقول الله عز وجل {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ} [الزخرف:47] أي: ضحك فرعون وملؤه من الآيات التي جاء بها موسى، وقالوا إنها سحر.

تفسير قوله تعالى: (وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها)

تفسير قوله تعالى: (وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها) قال تعالى: {وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:48] فأخذهم الله عز وجل بالسنين ونقص من الثمرات، قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} [الأعراف:133].

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الساحر ادع لنا ربك)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الساحر ادع لنا ربك) وذكر اليد والعصا أنهما من التسعة الآيات البينات، ثم قالوا لموسى {يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} [الزخرف:49] ولما رأوا آيتين من آيات العذاب وهما: اليد والعصا أحضروا لذلك السحرة، لكن لما أخذهم الله عز وجل بشيء من العذاب وهو إرسال الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم قالوا: ((يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ)) أي: إذا كشفت عنا العذاب سندخل في الإيمان ونتابعك كعادة كل إنسان جبار أصابه الله عز وجل بعذاب في الدنيا فإنه يقول سأتبعك بشرط أن ترفع عني هذا العذاب فيقوله بلسانه، ويريد الله عز وجل أن يقيم عليه الحجة فهم الذين قالوا إننا لمهتدون، والمعنى سنهتدي وندخل في دينك بشرط أن تكشف عنا العذاب.

تفسير قوله تعالى: (فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون)

تفسير قوله تعالى: (فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون) قال تعالى: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} [الزخرف:50] أي: يغدرون وينقضون ولا يوفون بما وعدوا فيه.

تفسير قوله تعالى: (ونادى فرعون في قومه أفلا تبصرون)

تفسير قوله تعالى: (ونادى فرعون في قومه أفلا تبصرون) قال تعالى: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51] هذا منطق فرعون فهو يتكلم بالعجرفة وبالقوة وبالاستكبار وبالتحقير لغيره فهو يحقر كل من حوله من الوزراء والكبراء والأمراء، وينظر إليهم أنهم جهلة أغبياء. وقوله تعالى: ((أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ)) هذه الحجة التي يزعمها أنه يملك مصر وهو الملك عليها، وأن نهر النيل يجري في أرضه، فهذا الملعون يزعم أنه هو الذي أجرى هذا النهر وهو الذي خلق هذه البلاد وهو صاحب كل شيء كعادة المتكبرين والمجرمين حين ينسبون الفضل إلى أنفسهم، ويمنون على شعوبهم بأنهم هم الذين عملوا لهم كذا ورقوهم وحرروهم فهم يزعمون ذلك، وهذا فرعون يتكبر كعادة هؤلاء المتكبرين فيقول: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51] وكأنه الذي خلقها وقد قال لقومه قبل ذلك {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] ولما قال لهم ذلك قال أفلا تبصرون أي: من أجل أن تعرفوا من الذي يستحق أن يعبد أنا أو إله موسى.

تفسير قوله تعالى: (أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين)

تفسير قوله تعالى: (أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين) قال الله تعالى: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52] فحقر قومه فقال: ((أَفَلا تُبْصِرُونَ)) أي: ألستم تعرفون أني أستحق هذا كله؟ لأن ((لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي)). وحقر موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام فقال مخبراً: بل أنا خير من هذا، أو كأنه استفهام أم أنا خير من هذا الحقير الذي ربيته في قصري ولا يكاد يبين؟ أي: يتكلم وهو يتعتع، كأنه يزعم أنه ما زال على ذلك وقد شفاه ربه سبحانه تبارك وتعالى وما أرسله إلى فرعون إلا وكان ينطق فلا ثلغ ولا ثقل في لسانه فنطق وتكلم ومع ذلك فرعون ما زال يعيره بالماضي بأنه لا يستطيع أن يتكلم ويزعم أنه رسول.

تفسير قوله تعالى: (فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب)

تفسير قوله تعالى: (فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب) قال الله تعالى: {فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} [الزخرف:53] كان عادة هؤلاء الملاعين أن الملك يلبس سوارين من ذهب في يديه، ويضع قلادة من ذهب في عنقه، فلجهله نظر إلى أن موسى يدعي أنه رسول من الرب وليس عنده دليل على ذلك كأن الدليل عنده ليس كل الآيات التي جاء بها موسى وإنما بأن يلبس أسورة من ذهب في يديه ليدل على أنه ملك من الملوك أو جاء من عند الملك.

القراءات في قوله تعالى (أسورة من ذهب)

القراءات في قوله تعالى (أسورة من ذهب) وقوله تعالى: ((فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ)) هذه قراءة حفص ويعقوب، وباقي القراء يقرءونها أساورة من ذهب على الجمع فيها، وكأن أسورة جمع سوار وأساورة جمع جمعه، أي: جمع أسورة. وقوله تعالى: ((أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ)) أي: من أجل أن نعرف أنه رسول من رب العالمين يأتي بالملائكة مربوطين بعضهم ببعض أو نصافح الملائكة أو يكونون معه ذهاباً وأياباً.

تفسير قوله تعالى: (فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين)

تفسير قوله تعالى: (فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوماً فاسقين) ولما قال ذلك قال الله سبحانه {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:54] استخفهم يعني: حملهم على الخفة كأنه هز المشاعر الباطلة التي فيهم فضيع أحلامهم وضيع صبرهم على الأمر. واستخف فلان فلانا: جعله طائشاً وأخرج الخفة التي فيه، والإنسان عنده صبر وحلم، ولما يأتي إنسان ينفذه أو يغيره أو يحمسه فإنه يخرج عن دائرة الصبر والحلم، فيخف عقله فتراه يهرج ويستخف بمن حوله فصاروا خفاف العقول بهذه الحالة وليس عندهم عقول يفكرون بها، فصدقوا فرعون فيما قاله لهم وأطاعوه فيما طلبه.

معنى الفسق

معنى الفسق قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:54] الفسق: الخروج من دين رب العالمين سبحانه، والفسق الأصغر: معصية رب العالمين، فهم خارجون عن طاعة رب العالمين سبحانه، والفسق الأكبر: الخروج من دين رب العالمين سبحانه، فلما آسفونا أخذناهم بالعذاب ونصرنا موسى على فرعون ومن معه من السحرة {فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ * فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} [الشعراء:44 - 46] فالسحرة الذين جاءوا لينصروا فرعون سجدوا لله وقالوا: آمنا برب العالمين، وفرعون لم يتعظ من هؤلاء الذين يعرفون السحر ويفرقون بين السحر وبين الحقيقة، فيلقون حبالهم وعصيهم وهم يعرفون أن الذي يصنعونه يخيل لأعين الناس أنه يسعى، لكن العصا التي ألقاها موسى تحولت حقيقة إلى ثعبان مبين فأكل ولقف كل ما ألقاه هؤلاء فعرفوا أنه رسول من رب العالمين فآمن السحرة وسجدوا لله رب العالمين، فكانوا في الصباح كفاراً فأمسوا مؤمنين أبراراً رضي الله تبارك وتعالى عنهم، وتمسكوا بدين رب العالمين حتى وإن قتلهم فرعون أو هددهم فقال: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ * قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه:71 - 72] فرعون هو الذي جمع السحرة من أقصى الأرض ثم بعد ذلك يقول: إن موسى هو الذي علمهم السحر، ومن حوله يعرفون كذب فرعون، فإن موسى لم يذهب إلى السحرة ويتعلم منهم السحر، ولكن فرعون لا يستحيي أن يكذب على هؤلاء الناس وهو ملك، وإن من أشد الناس عذاباً عند رب العالمين الملك الكذاب، ففرعون يكذب ويقول للسحرة: إن موسى هو كبيركم الذي علمكم السحر {فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الشعراء:49] {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى * قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:71 - 72].

تفسير قوله تعالى: (فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين)

تفسير قوله تعالى: (فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين) فلما وصل فرعون إلى قمة الطغيان والفساد قال الله عز وجل {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الزخرف:55] فجاءهم العذاب من عند رب العالمين سبحانه تبارك وتعالى، وذلك لما خرج فرعون وقومه إلى بني إسرائيل ليستحييهم ويعذبهم ويبقيهم في الخدمة، وكان هذا الغرور من فرعون سبب لهلاكه وهلاك جنوده، فلما وصل بهم إلى شاطئ البحر الأحمر وإذا بموسى هنالك عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وإذا بقومه لا يعرفون إلى أين يذهبون؟ فلما وقفوا مع موسى أمره الله عز وجل {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ} [الشعراء:63 - 64] وإذا برب العالمين سبحانه يفلق لموسى البحر بهذه العصا التي كانت ثعبان فيستجيب البحر ويصير فيه ممر لموسى ومن معه، فلما توسط موسى ومن معه البحر إذا بفرعون ومن معه ينظرون أمامهم آية عظيمة من آيات رب العالمين وهي انفلاق البحر، فلا يصدق فرعون أن هذا رسول بعد ما رأى ذلك، فيدخل فرعون ومن معه البحر ويخرج موسى من الناحية الأخرى، وينطبق البحر على فرعون ومن معه، فلما غرق وانتقم الله منه قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90] أي: أنا مسلم ومؤمن بالذي آمنت به بنو إسرائيل، قال له ربه {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:91 - 92] أي: نخرجك ببدنك عارياً من هذا البحر حتى يراك الناس مرمياً على شاطئ البحر مثل البهائم النافقة، قال جبريل للنبي صلوات الله وسلامه عليه فلو رأيتني وأنا أضع في فيه من وحل البحر خشية أن يتوب الله عز وجل عليه، لأنه قال: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل، فإن رحمة الله عظيمة واسعة. والله تعالى إذا أنزل العذاب على قوم ما كان لينجيهم منه، إلا ما كان من قوم موسى فقط فإنه كل ما أنجاهم من عذاب أتاهم بعذاب آخر في الدنيا ويكون نهايتهم إلى النار والعياذ بالله.

تفسير قوله تعالى: (فجلعناهم سلفا ومثلا للآخرين)

تفسير قوله تعالى: (فجلعناهم سلفاً ومثلاً للآخرين) قال سبحانه وتعالى: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلآخِرِينَ} [الزخرف:56] فجعلناهم سلفاً بقراءة الجمهور، وقراءة حمزة والكسائي فجعلناهم سلفاً. والسلف القدوة المتقدمون، فصار فرعون متقدماً لقومه ويتبعونه في الباطل فهو يقودهم إلى طريق النار، وكل من يحب فرعون أو يفتخر به فإنه قدوته وإمامه إلى نار جهنم وبئس المصير، لعنة الله على فرعون وعلى أتباعه وعلى من افتخر به وعلى من تشبه به قال تعالى: ((فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلآخِرِينَ)) أي: تضرب بهم الأمثال، فمن تكبر مثل فرعون حصل له ما حصل لفرعون، فصاروا مثلاً وسلفاً لهؤلاء الظلمة المجرمين. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الزخرف [55 - 60]

تفسير سورة الزخرف [55 - 60] من عادات أهل الكفر السيئة التي جبلوا عليها أنهم يسعون نحو الجدل العقيم الذي لا فائدة من ورائه، وقد سلك هذا الطريق كثير من المشركين فجادلوا رسول الهدى بأمور لا يصح أن يجادل فيها إنسان.

تفسير قوله تعالى: (ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون)

تفسير قوله تعالى: (ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون) الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الزخرف: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ * إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ * وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ * وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الزخرف:57 - 62]. لما ذكر الله سبحانه تبارك وتعالى قبل هذه الآيات قصة موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام مع فرعون، وكيف أن فرعون استخف قومه فأطاعوه فيما كان يقوله لهم وأراد أن يهلك موسى ومن معه فإذا بالله عز وجل يغضب عليه وينتقم منه وممن معه قال تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الزخرف:55] أي: فرعون وجيشه وجنوده فأغرقناهم أجمعين، {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلآخِرِينَ} [الزخرف:56]، أي: مقدمة يتقدمون القوم الآخرين، فجعلناهم مقدمة لمن أتوا من بعدهم واتبعوا طريقهم الباطل وضلالهم، فهم شر سلف لشر خلف من بعدهم فيكون الخلف مثلهم أشراراً يقتدون بهم فيستحقون النار. فلا تتكبر مثلما تكبر فرعون وإلا نالك ما نال فرعون، فيضرب به المثل في الشر وفي الكبر وفي الغرور وفي عبادة غير الله سبحانه وفي زعمه أنه أكبر من غيره، وأنه لا يوجد شيء أكبر منه وفي كذبه حين يقول للناس: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، وحين يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] وحين يكذب فيصدقه قومه، فالله عز وجل جعله مثال شر لمن يأتي بعده. ثم ذكر {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا} [الزخرف:57] إذاً: ذلك مثل شر وهو فرعون، وهذا مثل خير وهو المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام. {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف:57]، الكفار ذكروا المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام وأرادوا أن يضربوه مثلاً للنبي صلى الله عليه وسلم فهذا المسيح الذي تزعم أنه نبي وقد عبدته النصارى فأنت تقول: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98] فالمسيح عُبد من دون الله سبحانه إذاً: فهو في النار. أرادوا أن يقولوا ذلك وأن يضربوا للنبي صلى الله عليه وسلم الأمثال، وتجاهلوا لغتهم العربية التي يتكلمون بها، وأعجبهم ما يقولون. فقريش قالت: إن محمداً يريد أن نعبده كما عبد المسيح ابن مريم، وهذا من ضمن إفكهم وكذبهم عليه فهو يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وهم يزعمون أنه يريد أن يعبدوه مثلما النصارى عبدوا المسيح ابن مريم على نبينا وعليه الصلاة والسلام. وبعض هؤلاء الكفار لما تكلموا مع النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: إن آلهتنا فيها خير نزل القرآن يقول: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98] وما يعبدونه من دون الله سبحانه تبارك وتعالى من أصنام. و (ما) يراد بها غير العاقل وإذا أراد العاقل قال: ومن تعبدون فهذه هي لغتهم، فقال لهم: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98] فسكتوا وما قدروا أن يردوا على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رجعوا إلى قومهم فإذا برجل منهم اسمه ابن الزبعرى وكان شاعراً من شعرائهم وجاهلاً من جهلائهم فسمع ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أما إني لو كنت معه لخاصمته، أي: جادلته وكنت سأقول: إنك تقول: (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون) فالنصارى عبدوا المسيح ابن مريم وحسب قولك: فالمسيح ابن مريم خالد في جهنم؛ لأنه معبود من دون الله، وكأنه تجاهل وتغافل عن قوله: (وما تعبدون) وخلطها بـ (من تعبدون) ولو فرض أن وما تعبدون كانت تعم الجميع العاقل وغيره، فيقال وما تعبدونه إن رضي بعبادتكم وأما المسيح ابن مريم فتبرأ من عبادتهم له عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وأمرهم أن يعبدوا الله، وأخبر الله عز وجل أنه عبد من عباد الله سبحانه تبارك وتعالى، فلما أعجبهم ذلك وأرادوا أن يقولوا للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك ذكر الله سبحانه: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف:57] وقوله: (يصدون) قرئت بكسر الصاد وبضمها، فـ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة وكذلك يعقوب يقرءون: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف:57] وباقي القراء يقرءونها: (إذا قومك منه يصُدون). يصدون: بمعنى يضجون، ويفرحون؛ بأنهم وجدوا شيئاً يخاصمون فيه النبي صلى الله عليه وسلم ففرحوا بهذا الشيء الذي يقولونه، ورفعوا أصواتهم مستحسنين بجهلهم ما قاله، (إذا قومك منه يصدون) وهذا معنى القراءة الأخرى. أما القراءة الأولى التي هي بكسر الصاد يعني: يعرضون عن سبيل الله وأعرض أي: منع غيره أن يدخل فيه فكأنهم يصدون عن دين رب العالمين بكلامهم الذي يقولونه ويعرضون عن النبي صلوات الله وسلامه عليه.

تفسير قوله تعالى: (وقالوا أألهتنا خير أم هو)

تفسير قوله تعالى: (وقالوا أألهتنا خير أم هو) {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} [الزخرف:58] أي: أآلهتنا خير أم عيسى بن مريم؟ فأنت تقول: أن المسيح عيسى بن مريم خير ولا شك في ذلك، فإذا كان هو خير فهو في النار على حسب قولك، قال الله عز وجل: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا} [الزخرف:58]، أي: يجادلون بالباطل ويتعامون عما يفهمونه ويعرفونه والمسيح لم يرض بأن يعبد من دون الله، وكذلك اليهود فقد زعموا أن عزيراً ابن الله وهو لم يرض بذلك قالت اليهود: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30] فاليهود كذبوا على عزير والنصارى كذبوا على عيسى، قال سبحانه: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا} [الزخرف:58] أي: للجدل فقط، وهم يعرفون الفرق بين: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} [الأنبياء:98] (وإنكم ومن تعبدون) يعرفون ذلك ولكن يجادلون بالباطل، ويعرفون الفرق بين من رضي بأن يكون إله وطلب ذلك مثل فرعون، وبين من لم يرض بذلك وقال أنا عبد لله كالمسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فهم ما ضربوه لك إلا جدلاً. {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:58]، والإنسان الخصم: هو المخاصم الشديد الخصومة المجادل الكثير الجدل بالباطل، وهذا بغيض إلى الله عز وجل، والله عز وجل يبغض من الرجال الألد الخصم، الألد هو اللدود شديد العداوة والخصومة، والذي يحب أن يجادل كثيراً، ويحب أن يظهر أنه يجيد الكلام، وأنه على ثقافة عالية، وأنه يجيد القول، فهذا بغيض إلى الله بغيض إلى الناس، فكان الكفار مع النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الحال ولذلك قال النبي صلوات الله وسلامه عليه في الحديث الذي رواه الترمذي عن أبي أمامه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل) ثم تلا هذه الآية: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:58] فالإنسان وهو على الهدى يعبد ربه سبحانه تبارك وتعالى ويريد أن يرضي ربه فلا يوجد لديه وقت فهو يريد أن يرضي ربه سبحانه بحسن خلقه وبحسن عبادته، وكلما ابتعد الإنسان عن ربه كلما وجد نفسه فارغاً فالذي لا يعبد ربه يعبد الشيطان ويتقرب إلى الشيطان بما يرضيه فإذا به يجادل بالحق أو بالباطل والمهم أن يظهر أمام الناس أنه يجيد الكلام، (فما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل)، فإذا وجدت إنساناً كثير الجدل يريد أن يناقش، ويريد أن يجادل ويتكلم ويرفع صوته اعرف أن هذا الإنسان بعيد عن الهدى، فلم يكن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم كثرة الجدل ولا كثرة الكلام صلوات الله وسلامه عليه، وقد أوتي جوامع الكلم فكان يتكلم بالكلام البسيط الذي يحفظ عنه صلوات الله وسلامه عليه، وما كان يجلس ليناقش ويجادل مع القوم بل كان العرب يأتون النبي صلى الله عليه وسلم وفوداً ومع كل وفد يأتي شعراء القبيلة وخطباؤها ويقفون بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ويتكلم الخطيب بخطبة طويلة ويقول الشاعر شعره فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يرد على مثل ذلك وكان يأمر من أصحابه من يرد، فمن طبعه عليه الصلاة والسلام أنه معرض عن الجدل، وما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يدخل في ذلك من باب المباهاة التي كانت عند العرب فكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر ثابت بن قيس بن شماس أن يجيب خطيبهم فكان يجيبه ويفحمه رضي الله تبارك وتعالى عنه وكان يأمر حسان بن ثابت أو غيره من الشعراء أن يرد على شاعرهم فكان يرد فيغلبهم بذلك أما هو صلى الله عليه وسلم ما كان يدخل في ذلك صلوات الله وسلامه عليه. وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال) قيل وقال: أي: كثرة الكلام فالإنسان الذي يتكلم كثيراً ليظهر نفسه أنه يجيد الكلام كرهه الله، فلو أن الإنسان وزن ما يقوله هل بكلامه هذا يرضي ربه؟ أم أنه يرضي نفسه بذلك؟ فالمجادل يرضي نفسه؛ لأن عنده حب شهوة الكلام فيرضي نفسه ويطمئن قلبه بذلك، أما الإنسان المؤمن فيرضي ربه بكلامه ويرضي ربه بسكوته فإذا تكلم تكلم بذكر الله سبحانه تبارك وتعالى وإذا سكت كان ذاكراً لله في لسانه وفي قلبه، ويعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن الله عز وجل يخبر عن عبده: (إذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه)، فالمؤمن هذه حاله. قال الله سبحانه تبارك وتعالى عن هؤلاء المشركين: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:58] أي: مجادلون بالباطل محبون لهذا الجدل.

تفسير قوله تعالى: (إن هو إلا عبد أنعمنا عليه)

تفسير قوله تعالى: (إن هو إلا عبد أنعمنا عليه) أما المسيح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فقد قال الله عز وجل عنه: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ} [الزخرف:59] ما هو إلا عبد عليه الصلاة والسلام، {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف:59]، فذكر الله عز وجل المثل ثلاث مرات: في المرة الأولى عن فرعون ومن معه: ((فجعلناهم سلفاً ومثلاً للآخرين)) وهذا مثل شر وموعظة لمن يتق الله عز وجل ولمن يتعظ بمثل هذه القصة، والمثل الآخر الذي ضربه الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم وهم يكذبون ويفترون ويتغافلون عما يقولونه فذكر الله عز وجل هذا المثل {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف:57] المثل الثالث: يقول نحن جعلناه مثلاً أي: جعلنا المسيح آية فالمثل في هذه الآية معناه المعجزة وجعلناه آية من آياتنا. {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ} [الزخرف:59]، عبد خلقه الله عز وجل وليس بأعجب من آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام الذي أوجده الله عز وجل من لا شيء فكان من ماء ثم من تراب ثم جسداً حياً بعد ذلك وليس عجباً أن يخلق الله عز وجل آدم من تراب، وليس عجباً من العجب أن يخلق المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام من أم فقط من غير أب وهذه آية من آيات الله عز وجل، وكل خلق الله عز وجل عظيم فإذا قيل خلق المسيح من أم فقط قلنا: ليس هذا بأعجب من حواء التي خلقت من ضلع من آدم فهل عبدتم المسيح؛ لأنه خلق من أنثى؟ فاعبدوا حواء لأنها خلقت من ذكر فهي أولى، وحاشا لبشر أن يعبد من دون الله عز وجل، وهذا آدم خلقه أعجب من خلق الجميع فقد خُلق من لا شيء، فجعل الله المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام آية قال سبحانه: {وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف:59] ليروا آية من آيات الله عز وجل أمامهم فيصدقون أنه نبي الله عليه الصلاة والسلام، ولم يؤمن به الكثيرون من بني إسرائيل وإنما آمن به البعض وأما الكافرون فقد أرادوا قتله ووشوا به إلى ملكهم ملك الكفار ليقتله وقد جعل الله له آيات يحيي الموتى بإذن الله سبحانه، ويبرئ الأكمه والأبرص ويخبرهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم، وهذه كلها آيات من آيات الله سبحانه تبارك وتعالى لم ينسبها لنفسه وإنما نسبها لله سبحانه تبارك وتعالى وأنه يفعل ذلك بإذن الله فقال الله سبحانه: {وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف:59] حتى يؤمنوا ويصدقوا ويتبعوا أنه نبي ورسول أرسله الله عز وجل إليهم.

تفسير قوله تعالى: (ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة)

تفسير قوله تعالى: (ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة) قال عز وجل: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ} [الزخرف:60] لو شئنا لأنزلنا ملائكة من عندنا وجعلناهم يمشون في الأرض، ولكن لو نزلنا ملكاً من السماء فإن الناس لن يؤمنوا طوعاً حين يرون هذا الملك وإنما سيؤمنون قهراً، والله لا يريد ذلك، فلو أنه نزل ملكاً فمن سيجرؤ أن يقول: للملك: لا لن نؤمن فإذا كان ملك من ملائكة الله سبحانه تبارك وتعالى أخذ قرية ورفعها وقلبها على أهلها من الناس فلو نزلنا ملكاً من السماء لجعلنا هذا الملك بشراً أي: في صورة بشر {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام:9] أي: لخلطنا عليهم فلا يعرفون أهذا ملك أم بشر يدعي أنه ملك على صورة بشر؟ كما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: أنا رسول من رب العالمين ولم يصدقوه فما الذي يجعلهم يصدقوا أنه ملك، فإما أن نجعله على صورة الملك فلا يطيقون أن ينظروا إليه ولا أن يسمعوا منه وسيخافون منه، أو نجعله على هيئة البشر فلبسنا عليهم ما يلبسون ويختلط عليهم الأمر ويقولون لن نصدقك فلا ينفع مع هؤلاء إلا بشر من البشر. قال الله سبحانه: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ} [الزخرف:60] لجعلناهم يخلف بعضهم بعضاً فهذا ملك رسول وبعده ملك آخر رسول وبعده ملك آخر رسول، ولكن مشيئة الله عز وجل أبت إلا أن يكون الرسول من البشر وأن يدعو الخلق فيكون منهم المؤمن ومنهم الكافر لحكمة من الله سبحانه. وللحديث بقية إن شاء الله. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الزخرف [57 - 61]

تفسير سورة الزخرف [57 - 61] يخبر سبحانه عن حال كفار قريش حين ضرب ابن مريم مثلاً، وكيف أنهم فرحوا وظنوا أنهم قد وجدوا التناقض من رسول الله حيث إنهم قد سمعوا منه أن الكفار ومعبوداتهم سيدخلهم الله نار جهنم، فقالوا: هذا عيسى رسول الله عبد من دون الله فهل سيدخل النار؟ وما فعلوا ذلك إلا ليصدوا عن سبيل الله وليجادلوا بالباطل؛ لأنهم يعلمون أن عيسى آية لبني إسرائيل، وقد أعطاه الله من الآيات والمعجزات ما يدل على أنه رسول من عند الله، ولو شاء الله لأرسل إلى الناس ملائكة لكن حكمته اقتضت أن يرسل إليهم رسلاً من أنفسهم.

تفسير قوله تعالى: (ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون)

تفسير قوله تعالى: (ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون) الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الزخرف: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ * إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ * وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ * وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [الزخرف:57 - 61].

تفسير قوله تعالى: (ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون)

تفسير قوله تعالى: (ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون) ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات أن المشركين من قريش لما ضرب ابن مريم مثلاً وقد كانوا سمعوا قول الله سبحانه وتعالى {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأنبياء:98 - 99] رفعوا أصواتهم وضجوا وقالوا: ابن مريم عبد من دون الله سبحانه وتعالى، فأخذوا يعرضون عن النبي صلوات الله وسلامه عليه ويصدون الناس عن دينه بهذا الهراء الذي يقولونه، ويصدون بمعنى يردون، ويرفعون أصواتهم فرحين بما قادهم إليه بعضهم من قوله إن عيسى النبي عليه الصلاة والسلام قد عبد من دون الله ونحن نعبد هذه الآلهة من دون الله، فإذا كان كل ما يعبد من دون الله في النار فقد رضينا أن تكون آلهتنا مع المسيح في النار، فلما قالوا ذلك ظنوا أنهم قد غلبوا النبي صلى الله عليه وسلم وأنه قد تناقض في قوله، فهو يقول: كل ما يعبد من دون الله فهو في النار، والمسيح عيسى ابن مريم رسول الله وقد عبد من دون الله فسيكون في النار، وقد رضينا أن تكون آلهتنا معه في النار. وقد قالوا ذلك ليصدوا عن سبيل الله عز جل ويصدوا عن دين الله سبحانه وتعالى، فأنزل الله سبحانه ((وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ)) وأنزل في سورة الأنبياء على النبي عليه الصلاة والسلام {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:101 - 103]. فالله عز وجل جعل للمسيح عليه الصلاة والسلام سابقة حسنى عنده، فهو عبده ونبيه ورسوله وأحد أولي العزم من الرسل وهؤلاء سبقت لهم من الله الحسنى، وهو لم يرض عما فعله هؤلاء وقد رفعه الله سبحانه إليه وسينزله مرة ثانية ليتوفى على الأرض كما توفي غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

تفسير قوله تعالى: (وقالوا أآلهتنا خير أم هو)

تفسير قوله تعالى: (وقالوا أآلهتنا خير أم هو) قال سبحانه: {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:58] أي: هل الآلهة التي نعبدها خير أم هو؟ أي: أنت تقول أن كل من عبد من دون الله سيدخل النار والمسيح على ذلك سيدخل النار، وقد رضينا أن تكون آلهتنا مع المسيح، وغرضهم من هذا التكذيب، وهم يفهمون أن ما يقولونه باطل، ولكن يصدون عن سبيل الله بهذا الكلام ويفرحون في أنفسهم بأنهم قالوا شيئاً وردوا على النبي صلى الله عليه وسلم. وهذه قراءة بعض القراء والبعض الآخر يقرؤها بالتسهيل وممن قرأها بالتسهيل المدني نافع وابن جعفر والمكي ابن كثير وكذلك أبو عمرو ورويس عن يعقوب، وابن عامر يقرءونها بتسهيل الهمزة الثانية، ((مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا)) أي: يعني هم يجادلونك فقط بهذا الجدال الباطل وهم يعرفون كذب أنفسهم ((بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ)) أي: شديدوا المخاصمة والجدال والتمحل بالباطل.

تفسير قوله تعالى: (إن هو إلا عبد أنعمنا عليه)

تفسير قوله تعالى: (إن هو إلا عبد أنعمنا عليه) {إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف:59] أي: فهو عبد من عباد الله سبحانه وتعالى، ورسول أرسله الله عز وجل إلى بني إسرائيل يدعوهم إلى عبادة الله وليس إلى عبادة نفسه، ولذلك يقول في المشهد يوم القيامة ما يخبر الله عز وجل عنه في سورة المائدة {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ} [المائدة:116 - 117] فالأمر الذي أمر به المسيح عليه الصلاة والسلام قومه هو أن اعبدوا الله وحده لا شريك له، ولم يقل لهم اعبدوني من دون الله سبحانه. وهو شهيد كغيره من الرسل على قومه قال: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [المائدة:117] أي: لما قبضتني كنت أنت الذي تشاهدهم، وتحكم عليهم وتحفظ عليهم ما يقولون وما يفعلون، فالمسيح ما هو إلا عبد من عباد الله سبحانه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (من شهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وأن المسيح عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)، فالذي يشهد بأن النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله وأنه رسول الله عليه الصلاة والسلام، وكذلك يشهد أن المسيح عليه الصلاة والسلام عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه ويشهد أن الجنة حق وأن النار حق يدخله الله عز وجل الجنة على ما كان من عمله. وهو أي المسيح معجزة من معجزات الله سبحانه وتعالى، فقد جعله الله يحيي الموتى، ويبرئ الأكمة والأبرص والأكمة هو الأعمى خلقة ولعل الإنسان إذا عمي بسبب مرض من الأمراض يعالج، أما الذي ولد أعمى فلا سبيل إلى علاجه، فالمسيح عليه الصلاة والسلام كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى ويخبر أن ذلك بإذن الله وليس من عند نفسه هو، {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} [آل عمران:49] وهذا من أعماله العظيمة التي جعلها الله عز وجل آيات لقومه ليؤمنوا به عليه الصلاة والسلام {وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف:59].

تفسير قوله تعالى: (ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة)

تفسير قوله تعالى: (ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة) {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ} [الزخرف:60] أي: لو شاء الله عز وجل لجعل الرسول ملكاً من ملائكته، والرسول الذي بين السماء والأرض هو ملك من الملائكة، ولكن لا يراه إلا الرسول عليه الصلاة والسلام، أما غيره من الخلق فلا يطيقون ذلك، وقد عود النبي صلوات الله وسلامه عليه حتى طاق ذلك فقد قال له ربه {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:5] فكان القرآن ينزل من السماء على النبي صلى الله عليه وسلم فإذا نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي تغشاه ما شاء الله أن يتغشاه حتى إنه يفيض عرقاً في الليلة الشديدة البرد من شدة ما ينزل عليه من السماء، ثم يفيق صلوات الله وسلامه عليه وقد حفظ ما قاله له جبريل فيبلغ عليه الصلاة والسلام ما جاءه من ربه. ولقد ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى غار حراء يتعبد لله سبحانه وتعالى، ليالي كثيرة العدد يتحنث فيها ولمثلها يتزود صلوات الله وسلامه عليه حتى فجأه جبريل فرآه بين السماء والأرض، ففزع النبي صلوات الله وسلامه عليه وهرب من هذا المكان، ثم مرة أخرى يراه يعوده ربه سبحانه حتى يطيق ذلك، ثم يأتيه جبريل وهو في الغار فيأخذ النبي صلى الله عليه وسلم ويحتضنه ويضمه ضماً شديداً حتى أصاب النبي صلوات الله وسلامه عليه الجهد والمشقة، ثم يترك النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: (اقرأ، فيقول: ما أنا بقارئ) عليه الصلاة والسلام، فيأخذه الثانية والثالثة ثم نبئ صلى الله عليه وسلم بسورة اقرأ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1 - 5]. وحين أوحي إليه بذلك كان في رعب شديد صلوات الله وسلامه عليه، فأخذ ما قيل له ورجع إلى بيته يقول: (زملوني زملوني دثروني دثروني) أما لو نزل هذا الملك وقال أنا رسول من عند رب العالمين هل يستطيع أحد أن يكذبه كما كذبوا النبي صلوات الله وسلامه عليه؟ لن يستطيعوا ولن يطيقوا بل سيؤمنون قهراً وقسراً، ولذلك لم ينزل الله سبحانه ملكاً من الملائكة يمشي بين الناس كهيئته؛ لأن الناس لا تطيق ذلك بل لن يستطيعوا أن ينظروا إليه. فالنبي ما طاق ذلك حتى طوقه الله سبحانه، فإما أن ينزل الملك على ذلك فيؤمن الناس قهراً وإما أن يكون الملك على هيئة بشرية فإذا كذبوه كذبوا بشراً فاختار الله الطريقة العظيمة الحكيمة وهي أن يكون الرسول إلى الخلق بشراً من البشر فيكون من جنسهم ومثلهم مشفق عليهم، ومهتم لأمرهم فيدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى ليطيعوه ويوحدوه. وعدم جعل الرسل ملائكة ليس بسبب العجز ولكن رحمة بكم، ومعنى: يخلفون أي: يخلف بعضهم بعضاً في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها)

تفسير قوله تعالى: (وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها) {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [الزخرف:61] رجع في الكلام إلى المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام فقد أنعم الله عز وجل عليه وسيذكره بنعمته عليه، {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا} [المائدة:110] فهذه نعم من الله عز وجل أنعم بها على المسيح عليه الصلاة والسلام وعلى والدته، فقد جعله يكلم الناس وهو صبي صغير، لماذا؟ ليدعوهم إلى الله عز وجل ويمنعهم من أن يسيئوا الظن بأمه؛ لأنها ولدت طفلاً من غير أن تتزوج؟ فإما أن يقولوا عنها أنها بغي، وإما أن يجعل الله عز وجل لها آية من الآيات تصدقها، فكانت الآية أن يتكلم وهو في المهد صبيا، فهذه نعم من الله عز وجل على المسيح وعلى أمه عليهما السلام. {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} [الزخرف:61] أي: علم من الله عز وجل لكم يعلمكم به أن خروجه دلالة وإشارة وعلامة على قرب القيامة، فمن أشراط الساعة نزول المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام. فقد رفعه الله عز وجل {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} [آل عمران:55] أي قابضك وافياً، {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:55] فمن يتبع المسيح عليه الصلاة والسلام على توحيد الله عز وجل فوق الذين كفروا فإذا نزل المسيح يوم القيامة كان أتباعه هم المؤمنون أهل دين النبي صلوات الله وسلامه عليه، وهؤلاء هم الذين يتبعونه فيكونون فوق الكفار إلى أن تقوم الساعة. إذاً: نزول المسيح من السماء من أشراط الساعة ومن علامات الساعة الكبرى. {فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا} [الزخرف:61] أي: فلا تشكن في هذه الأشراط فإذا جاء أشراط الساعة انفرطت هذه الأشراط كعقد انفرطت جواهره يتوالى ظهورها علامة وراء علامة. وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث في هذا المعنى منها ما رواه ابن ماجة ورواه الإمام أحمد أيضاً بإسناد رجاله ثقات وفيه رجل وهو جبلة بن سحيم يروي عن مؤثر بن عفازة ومؤثر بن عفازة وثقه ابن حبان وقال الذهبي: وثق، في الحديث عن ابن مسعود (لما كان ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم لقي إبراهيم وموسى وعيسى فتذاكروا الساعة فبدأوا بإبراهيم عليه الصلاة والسلام)، فالنبي صلى الله عليه وسلم أسري به إلى بيت المقدس فلقي الأنبياء وذكرنا في هذه السورة أن الله عز وجل أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45]. فالنبي صلى الله عليه وسلم لقي الأنبياء في بيت المقدس، وصلى بهم صلوات الله وسلامه عليه وتكلم معهم هنالك ثم لقيهم بعد ذلك في السماوات في السماء الأولى وفي الثانية والثالثة على ما ذكرنا قبل ذلك في الحديث. والغرض أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أسري به لقي إبراهيم وموسى وعيسى فتذاكروا الساعة (فبدأوا بإبراهيم فسألوه عنها فلم يكن عنده منها علماً، ثم سألوا موسى فلم يكن عنده منها علماً، فرد الحديث إلى عيسى ابن مريم فقال: قد عهد إلي فيما دون وقتها، فأما وقتها فلا يعلمه إلا الله) أي: الوقت الذي تقوم فيه الساعة وقت النفخ في الصور الذي سيهلك الله عز وجل به جميع من في الأرض هذا الوقت لا يعلمه إلا الله، لكن أشراطها قد أعلم الله عز وجل المسيح لأنه أحد أشراط هذه الساعة. قال عليه الصلاة والسلام: (وذكر خروج الدجال قال: فأنزل فأقتله) فسيخرج المسيح الدجال ويزعم للناس أنه إله، ويطلب منهم أن يعبدوه، فمن تبعه وأكثر أتباعه هم اليهود والمنافقون، أعطاهم من الأموال وسيفتح الله عز وجل عليه من كنوز الأرض فتنة لهم، ومن كفر به وكذبه سيضيق عليه هذا في الظاهر حتى ينزل المسيح على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، (قال: فأنزل فأقتله، فيرجع الناس إلى بلادهم فيستقبلهم يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون). والدجال وعيسى كل واحد منهم اسمه المسيح والفرق بين الاثنين، أن المسيح عيسى ابن مريم على نبينا وعليه الصلاة والسلام طهره الله سبحانه وتعالى وذاك المسيح الدجال الذي جعل الله عز وجل عينه كالعنبة الطافئة فهو أعور العين، وقد جعله الله عز وجل آية من الآيات، وجعل قبحه علامة على ما يفعله وما يقوله وعلامة للناس ليحذروه، وكتب على جبينه ثلاثة أحرف كفر، هذه الأحرف الثلاثة يقرأها كل إنسان مؤمن يعبد الله سبحانه وتعالى حتى وإن كان لا يقرأ ولا يكتب. وبعد أن يقتل المسيح ابن مريم المسيح الدجال قال: (يرجع الناس إلى بلادهم فيستقبلهم يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون فلا يمرون بماء إلا شربوه) ويأجوج ومأجوج قبيلتان عظيمتان، من أسوأ خلق الله عز وجل، يخرجون على الناس قد حبسهم الله سبحانه وتعالى لما طلب من ذي القرنين أن يبعدهم عن الناس فأعانه الله عز وجل فجعل بين الناس وبينهم سداً وسيخرجون عند قيام الساعة. قال: (فلا يمرون بماء إلا شربوه ولا بشيء إلا أفسدوه فيجأرون) أي: يصيح الناس بالدعاء إلى الله، قال المسيح عليه الصلاة والسلام (فادعو الله أن يميتهم قال: فتنتن الأرض من ريحهم)، ومعناه أن عددهم ضخم جداً مما سيجعل رائحة الأرض كلها منتنة، قال: (فيجأرون) يعني الناس إلى الله قال المسيح: (فأدعو الله فيرسل السماء بالماء فيحملهم فيلقيهم في البحر ثم تنسف الجبال وتمد الأرض مد الأديم فعهد إلي، متى كان ذلك كانت الساعة من الناس كالحامل التي لا يدري أهلها متى تفجأهم بولادتها)، أي: أنه بعدما يزيل الله عز وجل آثار يأجوج ومأجوج، ينزل من السماء مطراً فيذهب بهؤلاء، ويلقي بهم في البحر، وتصير الأرض نظيفة طاهرة، وإذا بالله عز وجل يأمر فتفتت الجبال وبعد أن كانت الأرض منها الأمت ومنها العوج تصير الأرض قطعة واحدة، وتمد الأرض مد الأديم، أي: أنها تصير كالسجادة مستوية جميعها، قال (فعهد إلي) يعني المسيح عليه الصلاة والسلام (متى كان ذلك كانت الساعة من الناس كالحامل التي لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولادتها). أي: فإذا جاء هذا الأمر انتظر الناس قيام الساعة كأهل الحامل الذين ينتظرون متى تولد وفي رواية الإمام أحمد قال: (لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولادتها ليلاً أو نهاراً). وفي حديث آخر رواه أبو داود بإسناد صحيح ورواه الإمام أحمد أيضاً وهذا لفظ أحمد عن أبي هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الأنبياء إخوة لعلات دينهم واحد وأمهاتهم شتى)، إخوة علات أي: ضرائر فالأنبياء إخوة لأب وليس هذا هو المقصود ولكن المقصود أن الدين واحد، أي: أن دين الأنبياء كلهم وإن اختلفت أحكام شرائعهم في تحليل أشياء، والتشديد على الناس بأشياء، ولكن الدين في النهاية الذي يدعون إليه هو توحيد الله سبحانه. قال صلى الله عليه وسلم: (وأنا أولى الناس بعيسى ابن مريم لإنه لم يكن بيني وبينه نبي وإنه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض، سبط كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل) فهيئة المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام أنه رجل ربعه من الرجال، أي: وسط من الرجال، لا طويل بائن، ولا قصير شائن، إلى الحمرة والبياض: يعني منظره أبيض مشرب بحمرة، سبط: يعني شعره ناعم وهو غزير العرق كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل، قال (بين ممصرتين)، وذكر في حديث آخر (بين ممشقتين وبين مهروجتين) معناه: أنه لابس ثوبين مصبوغين أقرب إلى الحمرة، قال: (فيكسر الصليب) هذا فعل المسيح عليه الصلاة والسلام. (فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية)، أي: أنه لا يقبل الجزية من أحد بل لا يقبل إلا الإسلام، قال: (ويعطل الملل حتى يهلك الله في زمانه الملل كلها)، فلا يكون هناك نصرانية ولا يهودية ولا مجوسية ولا بوذية ولا يبقى إلا الإسلام فقط؛ لأنه الدين الذي ارتضاه الله عز وجل لعباده، قال: (غير الإسلام) ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال الكذاب. وتقع الأمنة في الأرض، أي: الأمان في الأرض (حتى ترتع الإبل مع الأسد) أي: أن الجمال ترتعي مع الأسود، قال: (جميعاً والنمور مع البقر والذئاب مع الغنم ويلعب الصبيان والغلمان بالحيات لا يضر بعضهم بعضاً فيمكث ما شاء الله أن يمكث ثم يتوفى)، أي: يموت الموتة التي كتبها الله عز وجل عليه، قال: (فيصلي عليه المسلمون ويدفنونه). إذاً: سينزل المسيح؛ لأنه رفع ولم يمت عليه الصلاة والسلام، فينزل ليموت على الأرض ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه، هذه بعض الآثار الواردة في هذا المعنى. نكتفي بهذا القدر، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد.

تفسير سورة الزخرف [57 - 67]

تفسير سورة الزخرف [57 - 67] يخبر الله تعالى عن تعنت قريش في كفرهم وتعمدهم العناد والجدل، فقد جادلوا الرسول صلى الله عليه وسلم في شأن المسيح وأن النصارى عبدته، وبذلك يكون معهم في النار، فرد الله عليهم بأن المسيح ومن كان مثله ممن عبد من دون الله دون رضاه مبعدون عن النار؛ لأنهم لم يرضوا بتلك العبادة ولم يأمروا بها، بل كان عيسى عليه السلام يدعو قومه إلى عبادة الله وحده، وكان يؤكد لهم أنه عبد الله لا غيره.

تفسير قوله تعالى: (ولما ضرب ابن مريم مثلا وجعلناه مثلا لبني إسرائيل)

تفسير قوله تعالى: (ولما ضرب ابن مريم مثلاً وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل) الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الزخرف: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ * إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف:57 - 59]. يخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن شأن عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وأنه عبد من عباد الله جعله الله نبياً ورسولاً، وأرسله إلى بني إسرائيل وجعل معه معجزات، فجعله مثلاً لهؤلاء، ((وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ)) أي: أن قريشاً جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم لبعض: ما يريده محمد إلا أن نجعله كالمسيح بن مريم، يريد منا أن نعبده، فافتروا عليه صلوات الله وسلامه عليه حسداً له؛ لما آتاه الله عز وجل من نبوة وحكمة وآتاه هذا القرآن العظيم. وحسدوه ونفسوا عليه ما هو فيه، وقال بعضهم لبعض: زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم، فقال ابن الزبعري: لو كنت عنده لناظرته ولخصمته في ذلك، قالوا: ما كنت تقول؟ قال: كنت أقول: إننا نعبد هذه الآلهة والنصارى تعبد المسيح عليه الصلاة والسلام، فإذا كنا نحن وما نعبد من دون الله حصب جهنم فالمسيح في نار جهنم فلما قال لهم ذلك فرحوا وهللوا وظنوا أنهم قد غلبوا النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الكلام الباطل الذي يقولونه، فإذا بالله سبحانه وتعالى يجيب هؤلاء ويقول: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101] أي: ليس المسيح عليه الصلاة والسلام ممن ارتضى أن يعبد من دون الله سبحانه وتعالى، ولا ذنب له في ذلك، بل الذين عبدوه هم الذين يستحقون هذا العذاب، أما هو فهو بريء من ذلك. فأخبر الله سبحانه وتعالى هنا عن المسيح عليه الصلاة والسلام بقوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف:59] يعني: شهد الله عز وجل له بهذا المقام العظيم، مقام العبودية لرب العالمين، أي: ما هو إلا عبد، كما قال عن النبي صلى الله عليه وسلم: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء:1] وقال تعالى عنه صلى الله عليه وسلم: {لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:19] فالنبي صلى الله عليه وسلم عبد ورسول لرب العالمين سبحانه وتعالى، والمسيح كذلك عبد ورسول لرب العالمين سبحانه. قال هنا: ((إِنْ هُوَ)) أي: ما المسيح ((إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ)) أي: أنعم الله عز وجل عليه بهذا المقام أنه عبد آتاه الله الكتاب وآتاه الله الحكمة، وجعله رسولاً من أولي العزم من الرسل، ((وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ)) أي: جعله الله عز وجل لهم آية من الآيات، فقد كان يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى، ويخلق من الطين كهيئة الطير بإذن الله فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله، وينبئهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم، وببعض الغيوب التي لا يعرفونها، فالله عز وجل جعله عبداً وجعله آية وعبرة لبني إسرائيل، هذا معنى المثل في هذه الآية.

تفسير قوله تعالى: (ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة إنه لكم عدو مبين)

تفسير قوله تعالى: (ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة إنه لكم عدو مبين) قال الله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ} [الزخرف:60] لما قال مشركوا قريش عن النبي صلوات الله وسلامه عليه: هذا رجل من البشر مثلنا فلم بعثه الله رسولاً؟ قال الله عز وجل: لو نشاء لجعلنا ملكاً رسولاً، ولكن شئنا أن يكون بشراً من البشر، وليس لأحد أن يعترض على مشيئة الله. ثم قال تعالى: ((وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ)) [الزخرف:61] قوله: (وإنه) أي: المسيح عليه الصلاة والسلام، ((لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ)) يعني: أن به تُعْلَمُ الساعة وقرب قيامها، وذكرنا قبل ذلك: أن من العلامات الكبرى للساعة أن يخرج المسيح الدجال وينزل المسيح عيسى بن مريم فيقتل الدجال، ثم تتابع علامات الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، وتقوم القيامة بإذن رب العالمين. قال سبحانه: ((وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ)) أي: لا تشكن في قيام الساعة، ((وَاتَّبِعُونِ)) أي: واتبعوا كلام رب العالمين، واتبعوا صراط الله المستقيم، واتبعوا دين الله سبحانه، {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} أي: هذا الدين الذي جاء من عند رب العالمين هو صراط قويم مستقيم من عند رب العالمين، يدل الناس على طريق الله، التي بها يصل العبد إلى جنة الله سبحانه. ثم قال تعالى بعد ذلك: {وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الزخرف:62] أي: أن ربنا سبحانه يحذرنا من الضلال عن طريق الله، الذي دعا إليه المسيح ومن قبله من الرسل، ودعا إليه النبي صلوات الله وسلامه عليه، فهو الصراط المستقيم والدين القويم. فقوله: ((وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ)) أي: احذروا من الشيطان أن يصدكم عن اتباع الحق، ((إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)) أي: هو مفصح ومظهر للعداوة لكم، وقد سمعتم ما في كتاب الله عز وجل من آيات يخبركم الله كيف تسبب الشيطان في إخراج أبيكم آدم من الجنة، فهو عدو عداوته ظاهرة، وهو قد أبان لكم وأظهر ووضحت عداوته لكم حين أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما، فلا تغتر بوساوس الشيطان وبشبهاته، وبجدال المجادلين في كلام رب العالمين.

تفسير قوله تعالى: (ولما جاء عيسى بالبينات)

تفسير قوله تعالى: (ولما جاء عيسى بالبينات) قال الله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الزخرف:63] أعاد سبحانه ذكر المسيح عليه الصلاة والسلام، وقد ذكر أن المسيح عبد، وأنه من أشراط الساعة، وهنا ذكر أن المسيح جاء إلى بني إسرائيل يدعوهم إلى رب العالمين سبحانه، وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، فالمسيح من ضمن الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام الذين لم يرسلوا إلى جميع الخلق، لكن نبينا صلى الله عليه وسلم ميز على جميع الرسل بأن دعوته للعالمين للإنس وللجن، قال تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الجن:1 - 2] وذكر الله سبحانه وتعالى الجن حين سمعوا للنبي صلى الله عليه وسلم فرجعوا إلى قومهم منذرين: {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأحقاف:30] {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [الأحقاف:31] فأخذوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رجعوا إلى قومهم ليدعوهم إلى أن يستجيبوا لرب العالمين سبحانه. أما باقي الأنبياء فكانوا يرسلون إلى قومهم خاصة، فالمسيح أرسل إلى بني إسرائيل، فقد قال: أرسلت إلى خراف بني إسرائيل الضالة، فهنا قال تعالى: ((وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ)) أي: جئتكم بالنبوة وجئتكم بالشريعة وبالكلام الفصل ليس بالهزل، ((وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ)) جاء المسيح عليه الصلاة والسلام وبنو إسرائيل مختلفون في أمور دينهم مختلفون في التوراة، ومختلفون في أمور دنياهم أيضاً، فقال: ((وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ)) أي: لم آت لأبين كل ما تختلفون فيه، فأمر دنياكم لا دخل لي به، ولكن جئت لأبين لكم أمر دينكم، هذا بعض الذي تختلفون فيه، فكان اختلافهم في أمر الدنيا واختلافهم في أمر الدين، فقال: أنا أبين لكم أمر الدين هذا الذي أرسلت به، فقال: (بعض) ولم يقل: كل الذي تختلفون فيه، ((وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ)) أي: اتقوا الله ولا تغضبوه سبحانه وتعالى، واجعلوا بينكم وبين غضبه وقاية من طاعته سبحانه وحسن عبادته والإخلاص له. وكذا كل الخلق يلزمهم أن يتقوا الله سبحانه، وأن يطيعوا المرسلين، قال: (وأطيعون) لم يقل المسيح: واتقوني أنا، لا؛ لأنه ليس إلهاً ولكنه عبد من عباد الله أنعم الله عز وجل عليه بالنبوة، فقال: اتقوا الله واعبدوه ووحده واحذروا غضبه بشرككم وأطيعوني فيما جئتكم به من عند رب العالمين.

تفسير قوله تعالى: (إن الله هو ربي وربكم)

تفسير قوله تعالى: (إن الله هو ربي وربكم) قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [الزخرف:64] أكد هنا أن الله هو وحده لا شريك له، وأنا عبد مثلي مثلكم، جئتكم أدعوكم إلى الله سبحانه، فالله هو وحده الرب الذي يخلق والذي يرزق، ويؤكد لهم هذا المعنى؛ لأن المسيح جاء بآيات نظر إليها من أتاهم بها فقال بعضهم: إنه ساحر، وقال بعضهم: إنه عبد نبي، وبعد ذلك بعضهم اختلفوا وقالوا: إنه إله؛ لأنه أحيا الموتى وفعل كذا، فجاء ليبين لهم دين رب العالمين، وأنه الصراط المستقيم، قال: إن الله وحده لا شريك له هو ربي وربكم، وهو الذي خلقني وخلقكم، (فاعبدوه) أي: اعبدوه وحده لا شريك له، إذا عرفت أنه ربك خالقك ورازقك فهو وحده الذي يستحق أن يعبد، وهذا الذي جئتكم به صراط مستقيم، ((هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ)) أي: طريق قويم وطريق معتدل إلى رب العالمين وإلى جنته وإلى طاعته. وكلمة (صراط) فيها ثلاث قراءات، تقرأ بالصاد وتقرأ بالسين وتقرأ بإشمام الصاد مشوبة بالزاي، فقراءة الجمهور ((هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ)) [الزخرف:64] وقراءة قنبل عن ابن كثير وقراءة رويس عن يعقوب. ((هَذَا سِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ)) بالسين، ويشمها صاداً مشوبة بالزاي خلف عن حمزة ((هَذَا زراط مُسْتَقِيمٌ)).

تفسير قوله تعالى: (فاختلف الأحزاب من بينهم)

تفسير قوله تعالى: (فاختلف الأحزاب من بينهم) قال الله تعالى: {فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [الزخرف:65] أي: الذين تحزبوا وصاروا فرقاً منهم من يردون ما جاء به المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام وهم اليهود، ومنهم من دخل في دينه فأسلموا ثم بعد ذلك حدث بينهم خلاف بعد أن دخل الشيطان فوسوس لهم وقال لبعضهم: إن المسيح عليه الصلاة والسلام ما جاء بهذه الآيات إلا لكونه إلهاً فعبدوه من دون الله وهم النصارى، فاختلفت النصارى على فرق، فمنهم من عرفوا أنه عبد ورسول، ومنهم من أنكروا ذلك وزعموا أنه إله، فاختلفوا إلى نسطورية وملكية ويعقوبية وغير ذلك من فرق كثيرة جداً، وكل هذه الفرق يدعون في المسيح الألوهية، ويدعون فيه أشياء ما أنزل الله بها من سلطان. قال سبحانه: ((فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ)) ويل عذاب شديد، وهو واد في قعر جهنم للذين ظلموا أنفسهم؛ لأنهم عبدوا غير الله سبحانه، وظلموا نبيهم حيث أعطوه ما لم يأذن به الله سبحانه وتعالى، فبدلاً من أن يتابعوه فيفرح بهم يوم القيامة ويفتخر بهم؛ لأنهم آمنوا بالله، إذا بهم يسودون وجوههم بما صنعوا حيث عبدوه من دون الله سبحانه وتعالى، ((فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ)) أي: من عذاب يوم القيامة العذاب الموجع عذاب النار. وقوله: (فويل للذين ظلموا) عام لكل من ظلم نفسه وظلم غيره، ظلم نفسه بالكفر بالله عز وجل والشرك به، ومن هؤلاء الذين ألهوا المسيح عليه الصلاة والسلام، ومن هؤلاء أهل مكة الذين عبدوا الأصنام من دون الله، فكأنه يقول: قل للظلمة: ويل لهم من عذاب يوم القيامة.

تفسير قوله تعالى: (هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم)

تفسير قوله تعالى: (هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم) قال الله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [الزخرف:66] أي: إذا جاءت الساعة فإنها لا تأتي إلا بغتة وفجأة ليس لها وقت يعلمه الإنسان، فالساعة ستقوم والناس يكونون في آمالهم وفي أحلامهم، في بيوعهم وشرائهم، الرجل يمد الثوب للآخر وهذا يقيس بالمتر، وهذا يدفع المال، ويأتي عليهم النفخ في الصور فإذا بهم يسقطون موتى، هذا يموت وذاك يموت قبل أن يطوي البائع أو المشتري الثوب، والرجل يلوط حوض إبله لأجل أن يسقي الإبل منه، فتأتيه الساعة قبل أن يصلح الحوض ويخر ميتاً. والإنسان يستمع صوتاً يأتي من بعيد يصيخ ليتاً ويرفع ليتاً، يميل بجانب ويرفع جانب لكي يسمع ما الذي سيأتي، وهو لا يدري أنها النفخة في البوق، فإذا بهذا الإنسان يخر ميتاً. تأتي الساعة فجأة على الجميع فلا يتمكن أحدهم أن يذكر الشهادة أو أن يتوب إلى الله عز وجل، وحين تأتي الساعة يموت الخلق. قال: ((هَلْ يَنظُرُونَ)) أي: هل ينتظرون إلا أن تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون إلا وقد فجأتهم، فمات الجميع وبعثوا للعذاب والحساب يوم القيامة.

تفسير قوله تعالى: (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين)

تفسير قوله تعالى: (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) قال الله تعالى: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] أي: إذا قامت القيامة صار الناس بعضهم لبعض أعداءً، يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، فالإنسان الذي كان حبيباً للآخر في الدنيا فإنه في الآخرة يفر من خليله الذي كان في الدنيا، ولا ينتفع إلا المتقون حين يؤذن لهم في أن يشفع بعضهم لبعض. فالأخلاء الذين كانوا متحابين على أمر الدنيا لا تنفعهم هذه المحبة يوم القيامة، بل يصيرون أعداء؛ لأنهم كانوا في الدنيا أخلاء وأصدقاء وأصحاباً على السوء وعلى الفتن وعلى الشرك بالله، فإذا قامت القيامة عادى بعضهم بعضاً، وكل إنسان يتبرأ من الآخر ويقول: أنت السبب أنت السبب، إلا أهل التقوى فهم في نعيم وهم في نعمه عظيمة. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من المتقين. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الزخرف [65 - 71]

تفسير سورة الزخرف [65 - 71] يوم القيامة هو يوم الفصل بين أهل الجنة والنار، إذ يتبرأ كل إنسان من قريبه وصديقه، وكل منهم يقول: نفسي نفسي، إلا المتحابين في الله فيشفع بعضهم لبعض، ويكرمهم الله عز وجل بالارتقاء مع إخوانهم إلى أعلى الدرجات في الجنة.

تفسير قوله تعالى: (فاختلف الأحزاب من بينهم وأنتم فيها خالدون)

تفسير قوله تعالى: (فاختلف الأحزاب من بينهم وأنتم فيها خالدون) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الزخرف: {فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ * يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف:65 - 71]. لما ذكر الله عز وجل مناقشة المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم وجدالهم بالباطل معه في شأن المسيح عيسى بن مريم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ثم أخبر الله عز وجل أن المسيح: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف:59]. ثم ذكر الله عز وجل أنه دعا قومه إلى عبادة الله سبحانه وتعالى، وقال: قد جئتكم بالبينات وجئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه، فأمرهم بطاعة الله قال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [آل عمران:50] أي: اتقوا الله وأطيعون فيما جئتكم به من عبادة الله سبحانه، فاعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئاً.

تفسير قوله تعالى (فاختلف الأحزاب من بينهم)

تفسير قوله تعالى (فاختلف الأحزاب من بينهم) قال الله تعالى: {فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} [الزخرف:65] أي: اختلفوا على فرق، منهم من يصدقه ومنهم من يكذبه، والذين يصدقونه اختلفوا فيما بينهم، منهم من قال: هو بشر، ومنهم من قال: هو الإله، ومنهم من قال: هو ابن الله، وغير ذلك من افتراءاتهم وأكاذيبهم فقال الله سبحانه: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} [الزخرف:65] أي: أشركوا بالله عز وجل، قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]. وقال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [الزخرف:66] هؤلاء الظلمة، هؤلاء المشركون، هؤلاء الكافرون ماذا ينتظرون؟ هل ينتظرون إلا الساعة؟ الساعة أدهى وأمر، الساعة إذا جاءت جاءت بغتة، ولا إنذار قبلها، ستأتي الساعة بغتة وهم لا يشعرون إلا والموت قد انقض عليهم فسقطوا موتى.

تفسير قوله تعالى (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين)

تفسير قوله تعالى (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) وقال تعالى: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] أي: إذا جاء الموت وقامت القيامة وحشروا للحساب والجزاء فإذا بالأخلاء يهرب بعضهم من بعض، بل من أقرب الأقربين، الابن يهرب من أبيه، والزوج يهرب من زوجته، والأم تهرب من ابنها وابنتها وهكذا، وكل إنسان مشغول بنفسه، وكلٌ يهرب لا يريد إلا نفسه، يقول: نفسي نفسي. قال: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] فإذا أذن لهم، فشفع بعضهم في بعض، فالله عز وجل استثنى من هؤلاء من ينتفع بعضهم ببعض، فالمؤمن يحب أخاه فيجمع الله عز وجل بينهما يوم القيامة في جنته وفي رحمته. فقوله: {الأَخِلَّاءُ} [الزخرف:67] أي: المتحابون في هذه الحياة الدنيا، إما تحابوا للدنيا وإما تحابوا للآخرة. فإذا كانت محبتهم من أجل الدنيا يهرب بعضهم من بعض يوم القيامة، وإذا كانت في الله عز وجل أذن الله بالشفاعة فانتفع بعضهم ببعض يوم القيامة.

سبب نزول قوله تعالى (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين)

سبب نزول قوله تعالى (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) ذكروا أن هذه الآية نزلت في أمر رجلين من الكفار وإن كان العبرة بعموم اللفظ ولكن من ضمن هؤلاء كان رجلان من المشركين أمية بن خلف الجمحي وعقبة بن أبي معيط خليلين، وكانا متصادقين متصاحبين متحابين على كفرهما، وكان عقبة بن أبي معيط يذهب ويستمع إلى النبي صلوات الله وسلامه عليه، يسمع منه وهو يتلو القرآن ويأمر وينهى صلوات الله وسلامه عليه ويأمرهم بطاعة الله، وينهاهم عن الشرك بالله. فلما ذهب الرجل مرة واثنتين وثلاثة يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم إذا بصديقه أمية بن خلف لعنة الله عليهما يقول: وجهي من وجهك حرام إن لم تقطع مجلسك. يعني: إذا كنت أنت تحبني اقطع مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، بل وأمره أن يذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأن يتفل في وجهه عليه الصلاة والسلام. فإذا بالآخر يفعل ما أمره به صديقه، ونذر النبي صلى الله عليه وسلم قتل عقبة بن أبي معيط، ولما فتح مكة أمر بقتله حتى وإن كان متعلقاً بأستار الكعبة فقتل قبل ذلك، وأما أمية بن خلف قتله النبي صلوات الله وسلامه عليه، وأما الآخر هو عقبة بن أبي معيط قتله المسلمون، ونزلت فيهما هذه الآية: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]. إذاً: هذا كان خليلاً لهذا وأمره بهذا المنكر فإذا بالله عز وجل يقتل الاثنين في الدنيا ويجعلهما أعداءً يوم القيامة، قال تعالى: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]. إذاً: الخليل مع خليله إذا كانا مؤمنين، إنسان يحب الآخر في الله ينتفع به يوم القيامة، وكل من الاثنين يجعل الله عز وجل له درجة في الجنة ويجمعهما، ولعل أحدهما يكون أقل من الآخر في العمل، ولكن بالتحاب في الله يجعل الله عز وجل من هو أدنى مع من هو أعلى. أما من كانت التواد والمودة بينهم في الدنيا لأمر الدنيا فهؤلاء يتعادون يوم القيامة، وبعضهم لبعض عدو إلا من اتقى الله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى (يا عباد لا خوف عليكم اليوم وكانوا مسلمين)

تفسير قوله تعالى (يا عباد لا خوف عليكم اليوم وكانوا مسلمين) قال الله تعالى: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الزخرف:68] هذا نداء من رب العالمين يوم القيامة هذا المشهد سيكون أمامك. فيوم القيامة الأخلاء بعضهم لبعض عدو، وترى الناس يهرب بعضهم من بعض ويقول: نفسي نفسي، وكل منهم يتهم الآخر بأنه السبب في هذا الشيء، والآخر يقول: أنت، ولو أن لي كرة فأراجع أمر ربي مرة ثانية، لكن المؤمنين يوم القيامة يناديهم الله عز وجل: يا عبادي، والجميع ينصتون، يقولون: كنا عباد الله، فينصت الجميع، فيقول الله عز وجل: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} [الزخرف:68 - 69]. إذاً: هنا عباد الله هم الذين اختصهم الله عز وجل بفضله وبرحمته، والجميع يشرئب لذلك يوم القيامة ونحن نعلم أن كل الخلق عباد الله، ولكن الله يقول: {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} [الزخرف:69] فلا يرفع رأسه إلا من كان مؤمناً مسلماً لرب العالمين سبحانه. إن هذه الآية: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الزخرف:68] قرأها بكسر الدال ابن كثير وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف، وكذلك روح عن يعقوب قرأها: (يا عبادِ لا خوف) بكسر الدال عند الوصل، وعند الوقف يقرأ: (يا عبادْ) بسكون الدال. وقرأها باقي القراء بالياء في آخرها: (يا عبادي) عند الوقف، وقرأها نافع وأبو جعفر وأبو عمرو وابن عامر وكذلك رويس عن يعقوب: (يا عبادي لا خوف) عند الوصل. ويقرأها شعبة ورويس عن خلف: (يا عباديَ لا خوف) عند الوصل، وكل القراء يقرءون: {لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ} [الزخرف:68] ما عدا يعقوب يقرأ: (لا خوفَ عليكم). فقوله تعالى: {لا خَوْفٌ} [الزخرف:68] يعني: لا تخافون، ولا أحد من المؤمنين يخاف عليكم. فقوله تعالى: {لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الزخرف:68] معلوم أن الإنسان يخاف دائماً، إذاً: الخوف دائماً من المستقبل، حتى لو كان بجريرة ماضية يخاف من جزاء هذه الجريرة بعد ذلك، والحزن دائماً على الماضي، والإنسان يتذكر مأساة حصلت يحزن عليها، وأهل الجنة لا يحزنون على ماض ولا يخافون من مستقبل، فالله عز وجل قد أمنهم، وهذا أعظم ما يكون من الجزاء أن الإنسان يقال له: أنت في الجنة، وهو خالد فيها لا يموت فيفرح بذلك، فلا حزن ولا شيء يكدر عليه ما هو فيه، ولا خوف من مستقبل يؤذيه، هذه جنة الله، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها. إن الله عز وجل ينادي المؤمنين: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [الزخرف:68] فعلى قراءة: (لا خوفَ) لا: نافية للجنس، فإن للتبرئة، أي: إن مستحيل أن تخافون وأنتم في الجنة أو تحزنون وأنتم فيها. وقوله: {لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [الزخرف:68] أي: من ساعة ما يدخلون الجنة يؤمنهم الله عز وجل، دخلتم الجنة، فلن تخرجوا أبداً من هذه الجنة ولن تموتوا أبداً، ولن تشقوا أبداً، ولا يكدر عليكم صفوكم شيء أبداً، ولا أنتم تحزنون. وقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} [الزخرف:69] تأكيد أمر الإيمان والإسلام. فقوله: {آمَنُوا بِآيَاتِنَا} [الزخرف:69] وإن كان المؤمن هو المسلم والمسلم هو المؤمن، ولكن بينهما عموم وخصوص، فالإسلام يعم والإيمان يخص، من ضمن هؤلاء أنهما ي أعلى درجة واحدة إذا كان متحابين في الله. والمعنى اللغوي لهذه الآية: {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا} [الزخرف:69] آمنوا صدقوا بآيات الله عز وجل، فاتبعوا الرسول صلوات الله وسلامه عليه. {وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} [الزخرف:69] على المعنى اللغوي فيها: مستسلمين، منقادين، مطيعين، خاشعين لله عز وجل، مخلصين له. إذاً: هنا: {وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} [الزخرف:69] أي: أسلموا قلوبهم، وأسلموا وجوههم، ووجهوا وجوههم لله رب العالمين سبحانه وتعالى. فإذا جمعوا هذه الصفات كانوا مصدقين بما جاء من عند الله، وكانوا متابعين عاملين منقادين لأمر الله سبحانه، ومجتنبين ما نهى الله عز وجل عنه، وهؤلاء هم عباد الله الذين يناديهم الله يوم القيامة.

تفسير قوله تعالى (ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون)

تفسير قوله تعالى (ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون) قال الله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف:70] فهؤلاء آمنوا بالآيات أنها من عند الله، وأنها في كتاب الله، وآمنوا بمعجزات الله أنها من عند الله ولم ينسبوها إلى رسل الله عليهم الصلاة والسلام كما نسبت النصارى معجزات المسيح إليه، وهو الذي يقول أنها من عند الله سبحانه وتعالى، وأن الذي يحيي الموتى هو الله سبحانه وتعالى، فيبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله، ويحيي الموتى بإذن الله، وينبئهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم أيضاً بعلم من الله سبحانه وتعالى وليس من عند نفسه. فهؤلاء المؤمنون المسلمون يقال لهم: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف:70] أي: يدخل الرجل الجنة وأيضاً زوجه معه إذا كانت مؤمنة تقية، ولعلها لا تكون قد وصلت إلى درجته التي يصل إليها، ولكن كانت زوجته في الدنيا فلا يحرمها الله عز وجل الفضل يوم القيامة. فيكون هو في أعلى ما يكون وتكون هي من أهل الجنة وأدنى من ذلك، ولكن لكونها كانت معه في الدنيا، كانت مطيعة لله سبحانه، فالله عز وجل يقول: ادخل وزوجتك معك، ولعل العكس أن المرأة تكون أفضل من الرجل وتدخل الجنة في مرتبة عالية في الجنة، والرجل زوجها يكون من أهل الجنة ولكن لم يصل إلى منزلتها، فالله عز وجل يلحقه بها ويقول: {أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ} [الزخرف:70] فلن يجعل هذا في مكان وهذه في مكان، ولكن: {أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف:70] أي: تنعمون وتكرمون وتسرون، فالله عز وجل يفرحكم بهذه الجنة، فهم مسرورون فرحون بما هم فيه، منعمون يتلذذون بما آتاهم الله عز وجل من فضله.

تفسير قوله تعالى (يطاف عليهم بصحاف من ذهب)

تفسير قوله تعالى (يطاف عليهم بصحاف من ذهب) ويذكر الله عز وجل شيئاً من ذلك، يقول سبحانه: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ} [الزخرف:71] أي: يدخلون الجنة ويطاف عليهم بصحاف، والصحاف: جمع صحفة، والصحفة: القصعة الكبيرة الواسعة، أو الإناء الكبير، ومن الصحاف في الدنيا ما يكفي عشرة يأكلون فيها، ومنها ما يكفي دون ذلك وأكثر من ذلك. فهنا يطاف على أهل الجنة بصحاف كبيرة. فقوله: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ} [الزخرف:71] يمتعون في الجنة بذلك، والصحاف هذه من ذهب، ولذلك حرم علينا الذهب في الدنيا، فإذا أكلت أو شربت في ذهب حرمت من الذهب يوم القيامة. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها). أي: لا تشرب في كوب من ذهب ولا من فضة، (ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا) أي: للكفار يستمتعون بها في الدنيا. (ولكم الآخرة) فلا تشبهوا دنياكم بآخرتكم، فالإنسان المؤمن يزهد في الدنيا لينال ما عند الله عز وجل في الآخرة. وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه من شرب في صحاف أو أكل أو شرب في صحاف الذهب في الدنيا فهو محروم منها يوم القيامة، كأنه لا يدخل هذه الجنة. كذلك الذي يلبس الحرير في الدنيا يحرم منه يوم القيامة، كأنه لا يدخل الجنة. وقوله تعالى: {وَأَكْوَابٍ} [الزخرف:71] مفرد الأكواب: كوب وفرق بين الكوب والإبريق، فالإبريق الذي له يد يمسك بها، لكن الكوب مستدير، تشرب من كل نواحيه. وقوله تعالى: {وَأَكْوَابٍ} [الزخرف:71] أيضاً من ذهب ولكن لا يكرر فالمعنى مفهوم منها، وهي كقوله تعالى: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} [الإنسان:15 - 16] إذاً: الكوب مقدر على قدر ما يحتاج إليه صاحبه، إذاً: يشرب من الكوب الذي يهواه. فقوله: {قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} [الإنسان:16] أي: مقدر لك ما تريده وما يعجبك، واشرب ما يروق لك. وقوله: {وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ} [الإنسان:15] أي: من الزجاج، وفي الجنة ذهب، وبيوت من ذهب ترى ما في داخلها. وذهب الدنيا كثيف غليظ مستحيل أ، تخترقه ببصرك، ولكن ذهب الجنة تخترقه ببصرك، وهذا شيء عظيم جداً. فقال تعالى: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} [الإنسان:15 - 16] وهنا يذكر لنا الذهب، فلهم هذا ولهم ذاك، قال: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ} [الزخرف:71] أي: في الجنة ما تشتهيه الأنفس، قرأها بالهاء في آخرها نافع وأبو جعفر وابن عامر وحفص عن عاصم: {مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ} [الزخرف:71]. وباقي القراء يقرءون: (وفيها ما تشتهي الأنفس) بغير هاء في آخرها. فقوله: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ} [الزخرف:71] أي: كلما تشتهيه نفسك تجده في الجنة. وقوله: {وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ} [الزخرف:71] وفي الدنيا قد تجد الطعام الذي تشتهي أن تأكله ولا تحب النظر إليه، ولكن أهل الجنة في الجنة إذا رأوا بأعينهم الشيء تلذ الأعين بذلك، وتشتهي الأنفس ذلك، فالمنظر طيب وجميل، والمطعم جميل وحلو. وقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف:71] أي: وأنتم في هذه الجنة خالدون لا تخرجوا منها أبداً. وجاء في الحديث في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون، ولا يبولون، ولا يتغوطون، ولا يمختطون، قالوا: فما بال الطعام؟ جشاء ورشح كرشح المسك). وهذا نعمة من الله عز وجل، إذ يطوف عليهم خدم الجنة يأتونهم بما يشاءون من طعام وشراب ويخرج منهم رشح له رائحة طيبة جميلة كالمسك. قال: (يلهمون التسبيح) وهم في الجنة والتحميد والتكبير. وقال: (كما يلهمون النفس) والإنسان في الدنيا يستمتع بذكر الله سبحانه وتعالى، وفي الجنة أشد من ذلك كما تستمتع بنفسك في الدنيا، فأهل الجنة يلهمون التسبيح والتكبير والتحميد كما يلهم الإنسان في الدنيا النفس. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، وأن يجعلنا من أهل جنته، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الزخرف [68 - 77]

تفسير سورة الزخرف [68 - 77] ذكر الله عز وجل حال أهل الجنة وما هم فيها من نعيم وحبور وسرور جزاء صبرهم في الدنيا على العمل الصالح والإيمان والتقوى، ثم أتبع ذلك بذكر أهل الشقاوة والتعاسة، أهل النار الذين يعذبون وينالون سوء العذاب والمهانة، فيتمنون الموت والعدم، ولكن لا ينالون ذلك فلا محيص ولا مهرب من عذاب الله والعياذ بالله!

تفسير قوله تعالى: (يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون)

تفسير قوله تعالى: (يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الزخرف: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ * إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ * وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:72 - 77]. يخبر الله عز وجل في هذه الآيات وما قبلها عن مصير المؤمنين يوم القيامة، ومصير الكافرين الجاحدين. أما المؤمنون فيقول الله سبحانه: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الزخرف:68]، ويوم القيامة يوم الجزاء، ويوم الحكم بالعدل، والحكم: هو الله سبحانه تبارك وتعالى، يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون، فينادي يوم القيامة على المؤمنين: يا عبادي! أي: عباد الله الصالحين، الذين آمنوا بآيات الله عز وجل وكانوا مسلمين، وصدقوا رسل الله عليهم الصلاة والسلام، واتبعوا دين الله، وكانوا مسلمين أنفسهم وموجهين وجوههم وقلوبهم لرب العالمين سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين)

تفسير قوله تعالى: (الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين) قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} [الزخرف:69]، فهؤلاء هم الذين يعدهم الله عز وجل بالجنة؛ وأنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فيدخلون الجنة ينعمون فيها، ويأخذون ما يشاءون من فضل الله ورحمته سبحانه تبارك وتعالى، فلا يخاف أحدهم من مستقبل يضايقه، ولا يحزن على ماضِ فات، ولكن الجنة دار النعيم المقيم للذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين. فهم جمعوا بين التصديق القلبي، وبين الأفعال الظاهرة بالجوارح، والإيمان: هو تصديق بالقلب، وقول باللسان؛ وعمل بالجوارح والأركان، (آمنوا وكانوا مسلمين) صدقوا بالقلوب، وصدقوا بالألسنة، وصدقوا بالفعال، فجمعوا بين الأمرين، وهنا الإيمان: بمعنى التصديق. والإسلام: هو الاستسلام لله سبحانه، والإذعان والخضوع له، والطاعة والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

تفسير قوله تعالى: (ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون)

تفسير قوله تعالى: (ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون) يقال لهم: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف:70]، فهنا يطمئنهم ربنا سبحانه تبارك وتعالى ويقول: ادخلوا الجنة ومعكم نساؤكم المؤمنات، كذلك يقال للمرأة: ادخلي الجنة ومعك زوجك المؤمن {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف:70] أي: تفرحون في الجنة، وتنعمون فيها وتسرون، وتكرمون فيها، فهذا هو معنى (تحبرون) فيكرمكم الله سبحانه تبارك وتعالى بكل ما تتلذذون به، وبكل ما يسركم من طعام وشراب، وسماع غناء، ولعب، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.

تفسير قوله تعالى: (يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب)

تفسير قوله تعالى: (يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب) من ذلك ما يذكر الله عز وجل هنا حيث قال: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف:71]، (يطاف عليهم) وفي سورة (يطوف عليهم) من الذين يطوفون عليهم؟ قال: {وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [الواقعة:17]، أي: غلمان مخلدون. ويخلق الله عز وجل أطفالاً لأهل الجنة خدماً يطوفون عليهم، قال: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ} [الزخرف:71]، وكذلك الملائكة تأتيهم بأنواع من الأطعمة والأشربة، (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، قال تعالى: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:25]، تأتيهم الملائكة بثمار الجنة، فيقول أهل الجنة! هذا الذي أكلناه من قبل، فيقولون: لا، هذا شيء جديد، هذا شيء آخر، فهو ((مشتبهاً وغير متشابه)) يشبه بعضه بعضاً في الجمال والكمال والحسن، وقد يشبهه في اللون ولكن الطعوم مختلفة، فأهل الجنة يأتيهم الملك أو الملائكة أو الغلمان بهذا الطعام فيقولون: هذا أكلنا مثله من قبل، فيقولون لهم: الذي أكلتموه من قبل، شيء آخر فيأكلون ويجعل الله عز وجل لهم مقدرة على أن يأكلوا من كل ما يشتهون. والإنسان في الدنيا إذا وضع له طعام مهما كان الطعام فاخراً فإنه يأكل منه ما يكفيه، وقد يملأ معدته بما يتخمه ولكن لا يقدر على أكثر من ذلك، فإذا أوتي بشيء أفضل منه لا يقدر على أن يأكل منه لأنه امتلأت معدته. أما أهل الجنة فإن الله عز وجل يجعلهم يأكلون مما يشاءون، ومما تشتهيه أنفسهم ولا يتخمون أبداً، وإنما يخرج منهم هذا الذي دخل فيهم عرقاً على هيئة رائحة طيبة أفضل وأحسن من المسك. قال تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ} [الزخرف:71]، وذكرنا أن الصحاف: جمع صحف، والصحفة: الطبق الكبير الواسع الذي يكفي العدد من الناس، وقد يكفي عشرة فما فوقهم وما دونهم أيضاً، قال تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ} [الزخرف:71] والأكواب: الكيزان التي قدرت تقديراً، {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف:71]، أهل الجنة يخلدون في الجنة، والإنسان حين يرى شيئاً جميلاً طيباً يحب أن يطيل المكث فيه خوفاً من أن يضيع منه، ولكن أهل الجنة يقال لهم: هذا الشيء لن يضيع منكم ولن تخرجوا منه، فتنعموا في الجنة بما شئتم من طعام وشراب ولهو وذكر لله سبحانه تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون)

تفسير قوله تعالى: (وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون) يقول الله سبحانه تبارك وتعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ} [الزخرف:72]، إذا دخل أهل الجنة الجنة يقال لهم: تلك الجنة، و (تلك) اسم إشارة للبعيد، والجنة عظيمة يشار إليها باسم الإشارة البعيد للدلالة على عظمتها، وإن كانت هي قريبة وأهلها فيها. قال تعالى: (وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعلمون) ورثهم الله عز وجل الجنة، وكانوا في الدنيا يعملون لها، فلما عملوا استحقوا الجزاء، فورثوا هذه الجنة فكأنهم هم الذين يرثون غيرهم ممن ضاعت منهم هذه الجنة بكفرهم وجحودهم لربهم سبحانه تبارك وتعالى. وكل إنسان كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم له موضعان: موضع في الجنة، وموضع في النار، فإذا أنعم الله عز وجل عليه بالجنة، يقال له: انظر هذا موضعك من النار لو كنت عصيت الله، ادخل موضعك في الجنة، فيدخل الجنة ويفرح أشد الفرح حين يرى مكان العذاب وأنه أفلت منه! وأهل النار يقال لهم: هذا موضعكم في الجنة لو كنتم أطعتم الله سبحانه، ادخلوا النار، فيدخلون النار. وأماكن أهل الجنة التي كانت في النار يأخذها الكفار الذين دخلوا النار والعياذ بالله، والعكس، أماكن هؤلاء لو كانوا أطاعوا ودخلوا الجنة حرموا منها بكفرهم، فيأخذها ويرثها المؤمنون، فيقال لهم: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72]، هذه قراءة الجمهور، وقرأها بالإدغام أبو عمرو وابن عامر وخلف وابن ذكوان ((أورثتّموها)) وكذلك حمزة والكسائي يقرءونها بإدغام الثاء في التاء ((أورثتّموها بما كنتم تعملون)).

تفسير قوله تعالى: (لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون)

تفسير قوله تعالى: (لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون) يقول تعالى: {لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ} [الزخرف:73] (لَكُمْ) أي: يا أهل الجنة! {فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ}، الإنسان في الدنيا عندما يأكل ويعرف أن هناك فاكهة بعد الطعام يفرح، فالفاكهة تفكه الإنسان وتفرحه، والإنسان الفكه: هو الذي يفرح ويضحك، فكأن الفاكهة تدخل السرور على قلب الإنسان، وقوت الإنسان ضروري لحياته، وأهل الجنة يعيشون في الجنة فيعطيهم الله عز وجل ما يشاءون، وتأكل في الدنيا حتى لا تمرض، وحتى تقدر على العمل، أما أهل الجنة فقد أعطاهم الله عز وجل الصحة والعافية والخلود، فلا يحتاجون إلى قوت، وإنما هم يريدون الفرح والسرور، فيقال لهم: هذه الجنة التي أورثتموها، وهذه الفاكهة التي تتفكهون بها في الجنة وتأكلون وتشربون، فإذا أعطوا الفاكهة فلا شك أنهم يعطون ما هو غير ذلك من طعام ولحم ونحوه. {لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ} [الزخرف:73] فلا تعد أصناف الفاكهة وأجناسها وأنواعها، وقوله: (منها تأكلون)، فهي لكثرتها لا تستطيعون أن تنفدوها، فهي لا تنتهي، فمن بعضها (تأكلون) تأكل ما تشتهي ولا تنفد هذه الفاكهة التي في الجنة. فهذا حال أهل الجنة يأكلون وينعمون ويفرحون ويكرمون.

تفسير قوله تعالى: (إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون)

تفسير قوله تعالى: (إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون) والقسم الآخر: أهل النار والعياذ بالله نسأل الله العفو والعافية، قال تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [الزخرف:74]، وهذه عادة القرآن العظيم، إذا ذكر أهل الجنة ذكر أهل النار، حتى يكون الإنسان بين الرغبة والرهبة، بين الخوف مما عند الله وبين الأمل والرجاء فيما عند الله سبحانه تبارك وتعالى، وهكذا المؤمن دائماً يسير بين الخوف والرجاء، وبين الرغبة والرهبة، وبين الطمع وبين الخوف والخشية. أما المجرمون الذين أجرموا وأساءوا إلى أنفسهم وإلى دينهم وإلى رسل الله عليهم الصلاة والسلام فيقول الله عنهم: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [الزخرف:74]، وهي نار الآخرة والعياذ بالله، نار مستعرة، أسماؤها في القرآن أسماء شديدة تدل على قبح ما فيها، وعلى شدتها وسعيرها، وجنهم بمعنى: البعيدة الغور، والبعيدة القاع، فيقال: بئر جِهنّام، بمعنى: بئر عظيمة القعر، ونار جهنم التي يلقى فيها صخرة من فوقها فلا تصل إلى قاعها إلا بعد سبعين عاماً، هذه هي النار الفظيعة العظيمة قال تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [الزخرف:74]، أي: لا يخرجون منها، فهؤلاء هم الكفار والعياذ بالله الذين أجرموا.

تفسير قوله تعالى: (لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون)

تفسير قوله تعالى: (لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون) يقول تعالى: {لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف:75] (لا يُفَتَّرُ) أي: لا يخفف عنهم، والفتور: شيء يستشعره الإنسان من الخذلان والتعب وفتر بمعنى: سكن قليلاً، كأن العذاب هنا مستعر عليهم فيتمنون لو أنه خفف قليلاً، (لا يفتر عنهم) أي: هو عذاب مستعر عليهم والعياذ بالله، {لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف:75]، أبلس بمعنى: قنط وأيس، أي: انقطع طمعه ورجاؤه، فهم فيها منقطع رجاؤهم وطمعهم، وقد كانوا يطمعون في الجنة فضاعت الجنة عليهم، ويقال لهم: هذه النار التي كنتم توعدون أنتم فيها خالدون، ويذبح الموت بين الجنة والنار فييأسون من الخروج منها، ((لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ)) أي: في هذا العذاب {مُبْلِسُونَ} [الزخرف:75].

تفسير قوله تعالى: (وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين)

تفسير قوله تعالى: (وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين) يقول تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف:76]، أي: هم الذين ظلموا أنفسهم، قال تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]، وحاشا لله سبحانه تبارك وتعالى، وقوله: {وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف:76]، يؤكد الله عز وجل بذلك أنهم هم الذين ظلموا أنفسهم بشركهم بالله، وبإيذائهم رسل الله، وتكذيبهم وبابتعادهم عن دين الله سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون)

تفسير قوله تعالى: (ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون) قال تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] أخبر الله عز وجل أنهم في العذاب مبلسون يائسون من الخروج، وكأنهم قبل أن ييئسوا من الخروج من النار (نادوا يا مالك)، ومالك خازن جهنم والعياذ بالله، خلقه الله عز وجل لها يوقدها ويزجرها، فإذا زجرها اشتعلت والتهبت وأكل بعضها بعضاً، فيزجر النار لتزداد قسوة على ما فيها، فينادي هؤلاء مالكاً، وليس مالك هو وحده الذي في النار، ولكن معه خزنة جهنم، فهم ملائكة كثيرون على جسور جهنم، وفيها أبواب مؤصدة على أهلها، والملائكة موكلون بتعذيب أهل النار والعياذ بالله. قال تعالى: {عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] ورئيس خزنة جهنم هو مالك، فيجأر أهل النار إلى مالك يقولون: (يا مالك ليقض علينا ربك) طالما أنه لا يوجد خروج من هذه النار فليجعلنا تراباً وليقض علينا ربك، أي: ليمتنا ربك، {قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77]، فهذه آية قصيرة وفيها كلمات يسيرة، ولكن الفرق بين النداء وبين الجواب أعوام كثيرة جداً، ينادون مالكاً، قيل مدة أربعين سنة، ومالك ساكت عنهم، فينادونه وهم يجأرون ويصرخون ويستغيثون: (يا مالك ليقض علينا ربك) ليمتنا ربنا، لما رأوا البهائم صارت تراباً قال: {الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40] فنادوا: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] فسكت عنهم مالك ما شاء الله عز وجل أن يسكت، وفي النهاية جاءهم A { قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77]، {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ} [الحج:47] فيسكت عنهم مالك أربعين سنة وهم يصرخون، وحين يلتفت إليهم يظنون أنه أتاهم بشيء فيقول: أنتم ماكثون. وجاء عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: ذكر لي أن أهل النار استغاثوا بالخزنة، فقال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ} [غافر:49]. واليوم كثير على أهل النار، فهو بألف سنة مما نعد، فقالوا: (ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب) سألوا أن يخفف الله عنهم يوماً واحداً، فأجابت الملائكة: {أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى} [غافر:50] اعترفوا، {قَالُوا فَادْعُوا} [غافر:50]، أي: قالت لهم الملائكة: ادعوا ما شئتم، {فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:50]، فدعاؤهم في تيه لا يُسمع ولا يستجاب لهؤلاء، فلما يئسوا من الخزنة نادوا مالكاً وهو رئيس الخزنة، وله مجلس في وسط النار فهو يرى أقصاها كما يرى أدناها، فقالوا: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] سألوا الموت وطلبوه، قيل: فسكت عنهم لا يجيبهم ثمانين سنة، قال محمد بن كعب: والسنة ستون وثلاثمائة يوم، والشهر ثلاثون يوماً، يعني: يريد أن يقول: واليوم بألف سنة مما تعدون، فإذا مكث هؤلاء ثمانين سنة ستكون كم من سنين هذه الدنيا؟ قال: واليوم كألف سنة مما تعدون، ثم لحظ إليهم مالك -خازن النار- بشيء من الضيق مما يفعلونه، ومعنى أن يلحظ الإنسان الآخر: أي: أن يبصره بطرف عينه، فلا ينظر نظرة المقبل عليه المحب له، وهكذا يضع خزنة النار مع أهل النار، والعياذ بالله. قال: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77]، بعدما طال سكوته عنهم، فلم ييئسوا وسألوا الله عز وجل: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:107]، {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون:106] أي: نحن نعتذر إنما هو القضاء والقدر {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:107]، وسكت عنهم ربهم ثم أجابهم فقال: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]، و (اخسئوا) كلمة تقال للكلب حين يزجر، فقيل لأهل النار ذلك والعياذ بالله {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} [المؤمنون:108 - 110]، نسيتم في الدنيا عندما كان الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، والأولياء والدعاة إلى الله يدعونكم إلى الله فكنتم تسخرون منهم، وتضحكون، وتستهزئون، وهم يدعون: {رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون:109]، قال الله: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون:111]. فيقال لأهل النار: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} [المؤمنون:112]، لما رأوا يوم القيامة ومدته وهوله، وأيام النار التي هم فيها اليوم يعد بألف سنة قالوا: {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون:113]، أي: اسأل الذين يعدون ويعرفون العدد فنحن عشنا في الدنيا يوماً أو بعض يوم. فالإنسان المؤمن يتفكر في أن عمره كله إذا قارنه بيوم القيامة، لا يأتي إلا بعض يوم، فلو عشت مائة سنة، وأيام القيامة اليوم بألف سنة، فتكون عشت عُشر يوم من أيام القيامة ألا تصبر في هذه السنين التي أنت فيها في الدنيا حتى تنعم النعيم الأبدي يوم القيامة، أم أنك تشقي نفسك وترديها بعمل المعاصي والكفر بالله حتى تقع في النار أبد الآبدين؟! نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الزخرف [72 - 80]

تفسير سورة الزخرف [72 - 80] أكثر الكفار يكرهون الحق عناداً واستكباراً وحسداً، ومنهم من لا يكره الحق، لكن يتابع الأقوياء والأغنياء ليرضيهم بذلك، أو ليصيب من عرض الحياة الدنيا، فهؤلاء كلهم في النار، والله يسمع ما يسرون في أنفسهم، وما يتناجون به فيما بينهم، وإن كادوا للإسلام والمسلمين فإن الله يكيد بهم.

ظلم الكافرين لأنفسهم وندامتهم في الآخرة

ظلم الكافرين لأنفسهم وندامتهم في الآخرة الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الزخرف: {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ * أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:78 - 80]. في هذه الآيات وما قبلها يخبر الله سبحانه وتعالى عن حال أهل الجنة، وعن حال أهل النار، فذكر أهل الجنة فقال: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ} [الزخرف:72 - 73]، وذكر أهل النار فقال: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف:75 - 76]. فأهل الجنة ينعمون في الجنة بما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، ويقال لهم: أنتم فيها خالدون، وأهل النار المجرمون الفجار في عذاب جهنم خالدون، لا يخفف عنهم وهم فيه مبلسون، آيسون منقطع أملهم عن الخروج من هذه النار، قال الله: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف:76]، فالإنسان يظلم نفسه فيستحق ما جنت عليه يداه، ولذلك في الحديث أن الله عز وجل يقول: (يا عبادي! إنما هي أعمالكم، أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)، فالإنسان الذي يجد في صحيفة عمله خيراً، فليحمد الله أن وفقه لذلك، ومن وجد غير ذلك من آثام فلا يلومن إلا نفسه، فهو الذي ظلم نفسه في الدنيا، بأن كفر بالله وجحد نعم الله، وعمل السيئات فاستحق العقوبات، {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف:76]. وأهل النار لما يئسوا من رحمة رب العالمين، ومن الخروج من النار، دعوا على أنفسهم بالهلاك، {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ} [الزخرف:77] يعني خازن النار، {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77]، فكان جوابه بعد أن سكت عنهم: {قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77] أي: ماكثون في العذاب لا تخرجون منه ولا يخفف عنكم.

تفسير قوله تعالى: (لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون)

تفسير قوله تعالى: (لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون) {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:78]، جاء الحق من عند رب العالمين، وجاءت رسل الله عليهم الصلاة والسلام، وجاء النبي بالنور المبين من عند رب العالمين، قال: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:78] فأكثر هؤلاء الكفار كرهوا هذا الحق الذي جاء من عند رب العالمين سبحانه. قال بعض المفسرين: أكثر هنا بمعنى كل، يعني كلكم للحق كارهون، وقيل: الأكثرية هم كبراء القوم، فهم كرهوا ذلك، والصغار تابعوا الكبار فيما كرهوا وما قالوا، فالكبار أعرضوا عن الدين غيظاً من النبي صلى الله عليه وسلم وحسداً له على ما آتاه الله عز وجل من نعمة ومن نور ومن رسالة، واستضعفوا صغارهم فأخذوهم معهم، والصغار منهم من كره ومنهم من لم يكره، ولكن تابعوا الكفار الكبار فيما هم فيه، فالأكثرية من هؤلاء المشركين كرهوا ما آتى الله النبي صلى الله عليه وسلم، وعرفوا أنه سيكون معه الأمر والنهي من رب العالمين، وقد اعتاد هؤلاء الكبراء أنهم هم الذين يأمرون، وهم الذين ينهون، ولا أحد يأمرهم، ويظن كل منهم أنه يصلح أن يكون ملكاً، فكيف يأتي النبي صلى الله عليه وسلم يأمر وينهى، فكرهوا منه ذلك. فالأكثر من الكفار يكرهون الحق، والأقل منهم لا يكرهون الحق، ومع عدم كراهتهم لم يتابعوا النبي صلى الله عليه وسلم فاستحقوا النار، مثل أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يكره ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، بل ربى النبي صلى الله عليه وسلم، وأحب ما جاء به صلوات الله وسلامه عليه، وقال وهو يموت: والله يا ابن أخي! لوددت أن أقر بها عينك، أي: أنا أحب ذلك، فهو لم يكره ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن خاف أن يقول الكفار عنه بعد أن يموت: إنه جبن من الموت وخاف من الموت فقال: لا إله إلا الله، وماذا يضيره لو قالوا عنه ما قالوا؟ وما الذي سيحصل له بعد أن يموت؟ وكما قالت أسماء لابنها رضي الله تبارك وتعالى عنهما: وهل يضير الشاة سلخها بعد ذبحها؟ فابنها ابن الزبير لما حاربه الحجاج وبنو أمية قال لأمه: إنهم يتوعدوني لو قتلت أن يمثلوا بي، وكان هو من الشجعان رضي الله عنه، فقالت له: هل يضير الشاة سلخها بعد ذبحها؟ فهذا لم يستحضر هذا المعنى أو تغافل عنه، وعادة أهل الجاهلية حب الذكر في الحياة وبعد الموت، ولذلك كانوا يحبون الشعراء، ويقربونهم؛ لأنهم بزعمهم سيخلدون أسماءهم بعد وفاتهم؛ لذلك كانوا يغدون على الشعراء، فإذا قال الشاعر أبياتاً من الشعر يمدحه فيها أعطاه مالاً كثيراً على هذا الذي يقول، لأنه سيبقى خالداً بعدما يموت بهذه الأشعار، فهذا ظن أهل الجاهلية، وكان الكثيرون منهم يكرهون ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم حسداً له صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه أتى بالحق من ربه، وسيكون له الأمر عليهم، وقليل منهم لم يكرهوا ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، بل منهم من كانوا يحبون النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن يستحيون من قومهم أن يتابعوا النبي صلى الله عليه وسلم، والجميع لم يدخلوا الإسلام، فاستحقوا جميعاً النار، ويقال لهم وهم في النار: {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:78]، كرهوا الحق فوقفوا مدافعين عما هم فيه من باطل. ولذلك إذا غزا جيش من الكفار المسلمين يقاتل الجميع، حتى ولو قال بعضهم: أنا لم أخرج لقتال، فالمعاملة بالظاهر، ولذلك لما أسر العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم في يوم بدر، وكان مع الكفار، والعباس كان مسلماً، قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أنا مسلم، فإذا كنت مسلماً فما الذي جعلك تأتي مع الكفار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ولكن ظاهرك كان علينا)، أي: أنت أسرت وأنت مع هؤلاء، فالظاهر أنك كنت علينا، فنعاملك بالظاهر، وسريرتك إلى الله عز وجل. فهؤلاء الذين كرهوا ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم تابعهم الضعفاء؛ أملاً في أن ينالوا من هؤلاء الأقوياء والجبارين أموالاً أو مناصب في الدنيا أو يكونوا أتباعاً لهم، فالله عز وجل أدخل الجميع النار، وقال: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:78].

تفسير قوله تعالى: (أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون)

تفسير قوله تعالى: (أم أبرموا أمراً فإنا مبرمون) قال الله تعالى: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} [الزخرف:79] (أم) الإضرابية المنقطعة المقدرة ببل والهمزة، أي بل أأبرموا كيداً؟ أيدبرون تدبيراً ويكيدون للنبي صلى الله عليه وسلم؟ ومن أفحش ومن أشنع ما صنع هؤلاء أنهم اتبعوا أبا جهل لعنة الله عليه وعلى أمثاله، ووقفوا يتشاورن ما الذي يصنعونه بالنبي صلى الله عليه وسلم، فكانت نصيحة هذا الملعون لعنة الله عليه أن قال: لنأخذ من كل قبيلة رجلاً، حتى نوزع دم النبي صلى الله عليه وسلم بين أربعين قبيلة، فنأخذ من كل قبيلة رجلاً، فيضربونه ضربة رجل واحد، فيتوزع دمه في القبائل، فبنو هاشم لن يستطيعوا قتال أربعين قبيلة، فسيرضون بالدية، ويضيع دمه صلى الله عليه وسلم. وجمعوا فعلاً أربعين رجلاً قوياً من أربعين قبيلة، واجتمعوا ليلة هجرته صلوات الله وسلامه عليه عند بابه يريدون قتله، والنبي صلى الله عليه وسلم يؤيده ربه، فأمره أن يهاجر إلى المدينة صلوات الله وسلامه عليه، يقول سبحانه: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا} [الزخرف:79]، فهم فعلاً أبرموا وكادوا، واجتمعوا حول بيت النبي صلى الله عليه وسلم. قال الله: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا} [الزخرف:79] بنون العظمة، أي: مبرمون {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق:15 - 17]، ويخرج النبي صلى الله عليه وسلم من بيته أمامهم، ويأخذ حفنة من التراب، ويضع على رأس كل منهم شيئاً من التراب، ويعمي الله عز وجل أبصارهم فلا يشعرون، وناموا وهم ينتظرونه صلى الله عليه وسلم، ويخرج صلى الله عليه وسلم مهاجراً، والله عز وجل يدبر لنبيه صلوات الله وسلامه عليه حتى لا يستطيعوا إدراكه، فيخرج إلى الغار صلوات الله وسلامه عليه ويختبئ في الغار ثلاثة أيام، وهم يبحثون في كل مكان عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى ذهبوا إلى الغار الذي فيه النبي صلوات الله وسلامه عليه يبحثون عنه، وأبو بكر الصديق يخاف من ذلك، ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: (لو نظر أحدهم أسفل منه لرآنا، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟)، فاطمأن أبو بكر رضي الله عنه. ويأتي الكفار ويقف أحدهم فوق الغار، ولا ينظر داخل الغار، ويعمي الله عز وجل أبصارهم، ويرجعون، ويخرج النبي صلى الله عليه وسلم بعد ثلاث ليال من هذا الغار متوجهاً إلى المدينة، وإذا برجل من الكفار يسمع قومه يقولون: أنهم رأوا سواداً في المكان الفلاني، فيقول القائل: أظنه محمداً وصحبه، صلوات الله وسلامه عليه، فيقول سراقة بن مالك بن جعشم: لا، أنا أرسلت فلاناً إلى المكان الفلاني، وهو لم يرسل أحداً، ولكن أحب أن يفوز بالدية التي جعلها الكفار لمن سيأتي بمحمد أو يقتله، وهي مائة جمل، فهو يريد أن يفوز بذلك، ويذهب إلى بيته، ويأمر جاريته أن تجهز له فرسه من خلف داره حتى لا يراه الكفار، ويركب فرسه، ويسرع في الطريق الذي علم أن النبي صلى الله عليه وسلم توجه إليه، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي عليه الصلاة والسلام من عادته أنه لا يلتفت أبداً وراءه ولا يخاف؛ لأن الله معه سبحانه وتعالى، فقال أبو بكر وقد رأى ما وراءه: يا رسول الله! هناك من يتبعنا! فالنبي صلى الله عليه وسلم يطمئن أبا بكر، وأبو بكر يلتفت ويخاف أن يأتي هذا الكافر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما اقترب من النبي صلى الله عليه وسلم إذا بقدمي الفرس تغوص في رمال الأرض، فتساءل سراقة: لماذا تغوص أقدام الفرس؟! فأخرج خريطة من جيبه، واستقسم بالأزلام، قال: فخرج الذي أكره ثلاث مرات، قال: فعصيت، فغاصت قدما الفرس، فنادى النبي صلى الله عليه وسلم: ادع لي ولا أؤذيك، فدعا له، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه طعام وشراب، وقال: خذ هذا وتزود به، فلم يأخذ منه شيئاً صلوات الله وسلامه عليه، فقال: سأرجع وأعمي عنكم، ولن أقول لأحد أنكم في هذا الطريق، وبعدما كان هذا الرجل حرباً على النبي صلى الله عليه وسلم في أول النهار إذا به يعمي على الكفار في آخر النهار، فيرجع ويقول: كفيتكم هذا المكان، لا يوجد أحد في هذا المكان! والله تبارك وتعالى يسخر لنبيه ما يشاء حتى يصل إلى المدينة آمناً صلوات الله وسلامه عليه. وأول من رآه بالمدينة عليه الصلاة والسلام رجل يهودي، فصاح فإذا بالناس يجتمعون ويخرجون يستقبلون النبي صلوات الله وسلامه عليه، فالله يسخر لنبيه من يشاء من جماد كالغار، فيحميه الله سبحانه وتعالى به من الكفار، ومن رجل من الكفار يلحقه فإذا بالله عز وجل يجعله سلماً له ودفاعاً عنه، ويصل إلى المدينة فإذا بيهودي ينادي أن النبي صلى الله عليه وسلم قد وصل إلى المدينة! قال سبحانه: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} [الزخرف:79] أبو جهل كان يريد أن يقتلك قبل هجرتك، وفي السنة الثانية من الهجرة يقتل أبو جهل ومن معه من الذين كادوا للنبي صلوات الله وسلامه عليه، فقد هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة في السنة الأولى من الهجرة في شهر ربيع أول، وفي السنة التي تليها كانت غزوة بدر في رمضان، وإذا بهذا الكافر أبي جهل يقتل ومن معه، ويساق ملعوناً إلى نار الجحيم، {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} [الزخرف:79]، أنت كنت تكيد قبل سنة ونصف في مكة، وتجمع أربعين رجلاً ليقتلوا النبي صلى الله عليه وسلم، والآن يقتلك أصغر الشباب الذين مع النبي صلى الله عليه وسلم، شابان صغيران، يقتلان هذا الرجل المعلون أبا جهل، ويلقى جيفة نتنة في قليب بدر! قال الله: {فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} [الزخرف:79] فإذا دبر الله وقضى أمراً فلا بد أن يكون.

تفسير قوله تعالى: (أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم)

تفسير قوله تعالى: (أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم) قال الله: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} [الزخرف:80]، بل أيظنون ذلك: ((يَحْسَبُونَ)) بفتح السين قراءة ابن عامر وعاصم وحمزة وأبي جعفر، وباقي القراء: (أم يحسِبون) بكسر السين فيها. {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} [الزخرف:80] أي حديث سرهم، والسر ما أخفاه الإنسان في نفسه، والنجوى سر ولكن يظهره لزميله، فيسر الإنسان شيئاً في نفسه، ولا يطلع عليه غيره، والنجوى حديث السر بين اثنين أو عشرة أو عشرين، فيسرون هذه المناجاة والمكالمة والمحادثة مع بعضهم بعضاً، فهل يظنون إذا أسر أحدهم في نفسه شيئاً أننا لا نطلع عليه؟ هل يظنون إذا كلم أحدهم الآخر وهمس له أننا لا نطلع على ذلك؟ بل نحن نعلم ذلك، وملائكتنا يكتبون ويحصون عليهم ذلك. وفي الصحيح عن ابن مسعود أنه كان مختبئاً خلف الكعبة، فإذا بثلاثة نفر يأتون إلى الكعبة، ثقفيان وقرشي، أو ثقفي وقرشيان، قال: كثيرة شحوم بطونهم، قليل فقه قلوبهم، أي عندهم غباء لا يفهمون، جاءوا إلى الكعبة وابن مسعود مستخف، بعد أن أسلم رضي الله عنه، كانوا يريدون تعذيبه فتخفى وراء الكعبة، فقال أحدهم للآخرين: أترون الله يسمع ما نقول؟ فقال الآخر: أحسب أنه يسمع ما نجهر به، أما ما أخفيناه فلا يعلمه! فقال الثالث: إذا علم جهرنا سيعلم تهامسنا، فكان أعقلهم هذا الثالث وهو الأخنس بن شريق أو صفوان بن أمية فسمع ابن مسعود هذا الذي قالوه، فأخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:80]، فهل يظنون أننا لا نعلم نجواهم ولا سرهم؟ بلى نعلم هذا كله، ونكتب عليهم ونحصي عليهم ذلك، (ورسلنا لديهم يكتبون)، وإذا كتبت رسل الله ذلك، فمعناه أنهم سيحاسبون على هذا يوم القيامة، وتأتي الصحيفة شاهداً على ما يقولون، كما قال الله: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:14]. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الزخرف [78 - 84]

تفسير سورة الزخرف [78 - 84] أخبر سبحانه أنه جاء للناس بالحق من عنده، وبينه ووضحه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنهم من آمن به ومنهم من كفر، والمشركون كرهوا هذا الحق، وكرهوا من نزل عليه الحق، وسبب كراهتهم لهذا الحق أنه يخالف أهواءهم وشهواتهم، أما سبب كراهتهم للرسول صلى الله عليه وسلم فهم حسدهم له، وقد تمنوا أن ينزل القرآن على رجل من القريتين عظيم، مع أنهم يعلمون صدقه وأمانته وأخلاقه.

تفسير قوله تعالى: (لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون)

تفسير قوله تعالى: (لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في آخر سورة الزخرف: {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ * أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ * قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ * سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمْ الَّذِي يُوعَدُونَ * وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:78 - 84] في هذه الآية يخبر الله سبحانه وتعالى أنه جاءنا بالحق من عنده، وأن أكثر هؤلاء الكفار المشركين لا يؤمنون، بل يكرهون هذا الذي جاء به النبي صلوات الله وسلامه عليه من عند ربه، وسبب كراهتهم لذلك أنهم نفسوا على النبي صلى الله عليه وسلم ما جاء به وحسدوه، وتغيظوا عليه كيف يكون رجلاً منهم وليس هو بأكبرهم سناً، وليس بأغناهم وليس هو الزعيم فيهم، ومع ذلك ينزل عليه هذا القرآن دون غيره؟! قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31]. يقول الله عز وجل: ((لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ)) يعني: الذي أنزل عليه هو هذا القرآن وهو الحق الذي جاء من عند رب العالمين، فاعمل به وانظر فيه، وانظر إلى المعجزة التي جاءت من عند رب العالمين، ولا تنظر على من نزلت هذه المعجزة، ولو نظروا نظرة صحيحة لعرفوا أن هذا هو أحق من ينزل عليه القرآن؛ فهو الأمين وهو الصادق صلى الله عليه وسلم بقولهم وبشهادتهم، فهم الذين استأمنوه، وهم الذين لقبوه بالصادق الأمين صلوات الله وسلامه عليه، وعلموا أنه أفضلهم وأكرمهم وأشرفهم حسباً ونسباً عليه الصلاة والسلام، فكونهم يبغضون ما جاء من عند رب العالمين فالله علم منهم ذلك، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم وقد كذبوه: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33] يعني: لا تحزن، إذا كانوا يقولون: أنت كاذب، فإنهم في الحقيقة لا يكذبونك أنت، فهم يقولون: إنك أنت الصادق الأمين، ولكنهم يجحدون، يعني: يتكلمون بما يعرفون في أنفسهم أنهم كاذبون فيه، فالذي يأتي للنبي صلى الله عليه وسلم ويقول: أنت كاذب هذا جاحد؛ لأنه يكذب الحق الذي علم أنه حق، وفرق بين الإنكار والجحود، فإنكار الشيء: أن تنكر ما لا علم لك به، فتنكر ما لا تعلمه، أما الجحود فأنت تعلم هذا الشيء ومع ذلك تنفيه وتنكره، فلذلك ربنا سبحانه يصف هؤلاء بأنهم جاحدون، يجحدون ما جاء من عند الله، فهم مقرون في أنفسهم أن هذا لا يمكن أن يكون كلام البشر وإنما هو كلام رب العالمين؛ ولكن لحسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم يجحدون ما جاء به، فيظهرون الإنكار مع وجود الإقرار في قلوبهم والاعتراف بأن هذا حق وأن هذا من عند رب العالمين سبحانه، فقال لهم سبحانه: {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:78]، فكرهوه؛ لأنه يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحرم عليهم أشياء كانوا يستحلونها من خبائث وخمر وأكل ميتة وغير ذلك، فحرم عليهم أشياء كانت في أموالهم، فلذلك كرهوا هذا الحق، والإنسان في الغالب حين تقول له: لا تفعل كذا لشيء يشتهيه ويريد فعله فإنه يتغيظ ويقول لك: ولماذا لا أعمل هذا الشيء؟ وكيف تأمرني وتنهاني وأنا أفعل هذا الأمر طيلة حياتي الماضية؟ هو لا ينظر إلى المصلحة التي تتعلق به في أمر الدين، وإنما ينظر إلى أنه اعتاد هذا الأمر وأنه يهواه، ولذلك قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23] أي: مثل ما عمل آباؤنا نعمل نحن، فكرهوا الحق ليس لكونه حقاً أو لأنهم أنكروه في قلوبهم لا، ولكنهم خشوا أن تضيع منهم رئاستهم، وخشوا أن يتحكم فيهم النبي صلى الله عليه وسلم فيأمر وينهى، فرفضوا ذلك وردوه وكرهوه لهذا المعنى.

تفسير قوله تعالى: (أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون)

تفسير قوله تعالى: (أم أبرموا أمراً فإنا مبرمون) قال الله تعالى: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} [الزخرف:79]. أي: بل أيكيدون لك كيداً؟ نحن نكيد لهؤلاء، فكاد لهم حتى أهلك أشقياء هؤلاء في يوم بدر وفي غيره.

تفسير قوله تعالى: (أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم)

تفسير قوله تعالى: (أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم) قال تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} [الزخرف:80]، أي: هؤلاء يتكلمون ويسر بعضهم إلى بعض حديث السر ويناجي بعضهم بعضاً، هل يحسبون أنا لم نطلع على ذلك، ولم نحص عليهم ذلك؟ {بَلَى} [الزخرف:80] قد علمنا ذلك وأحصيناه، {وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:80] أي: الحفظة الكرام الكاتبون يكتبون عليهم ما يقولونه وما يفعلونه مع النبي صلوات الله وسلامه عليه، وما يكذبونه به.

تفسير قوله تعالى: (قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين)

تفسير قوله تعالى: (قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين) قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف:81]. يقول تعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: قل لهؤلاء: ((إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ)) والولد اسم جنس بمعنى الواحد وبمعنى المجموعة، ولذلك قول الله عز وجل: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ} [النساء:11] بمعنى واحد أو جمع، والمعنى إن كان للرحمن ولد أو كان للرحمن أولاد {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ}. وقراءة الجمهور: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ}، وقرأها حمزة والكسائي: ((قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وُلْدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ))، والولد بمعنى: جمع الأولاد يعني، {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف:81] أنا قرأها الجمهور بالفتحة في حال الوصل: {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف:81]، وفي حال الوصل يقرؤها نافع وأبو جعفر: ((فَأَنَآ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ))، ونافع يمد على تفصيل، وورش وقالون وأبو جعفر يقرؤها بالقصر ولكن على أنها ألف ((فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ)).

أقوال العلماء في توجيه قوله تعالى (قل إن كان للرحمن ولد)

أقوال العلماء في توجيه قوله تعالى (قل إن كان للرحمن ولد) قوله تعالى: {إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف:81] للمفسرين فيها معنيان: المعنى الأول وهو الذي عليه الأكثر: أن هذا في مقام المناظرة، وفي مقام المناظرة يتنزل الخصم مع خصمه في المناظرة، فإذا ناظرك إنسان في شيء تقول: فرضنا ما تقوله صواباً فينبني عليه كذا وكذا، ويكون فيه كذا وكذا، فهذا هو الفرض الجدلي وليس الحقيقي، أي: ليس معنى أن هذا شيء صحيح، لا، بل هذا شيء لا يكون أبداً، ولكن سنفترض المستحيل، مثل ما يقول بعضهم: قال المنجم والطبيب كلاهما لا تبعث الأجساد قلت إليكما إن صح قولكما فلست بخاسر أو صح قولي فالخسار عليكما فهو هنا في مقام التنزل في المناظرة، فيقول: الملحدون والمنكرون لوجود الإله: الأجساد تموت وتفنى ولا تبعث، وهذا يقول: إن صح قولكم فلست بخاسر؛ لأني عبدت الله، ولكن إن صح قولي بأن كان هناك بعث يوم القيامة فالخسارة عليكم أنتم. إذاً: هنا في مقام التنزل في المناظرة يجوز أن تفترض المستحيل، وهذا المعنى عليه أكثر المفسرين، يعني: لو كان للرحمن ولد وحاشا لله أن يكون له ولد فأنا أول من يعبده، ولكن لم أفعل؛ لأنه لا يوجد للرحمن ولد وحاشا له أن يتخذ صاحبة أو ولداً. والمعنى الآخر أو التفسير الآخر لقوله تعالى: ((قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ)) قالوا: (إن) هنا بمعنى (ما) أي: ما كان للرحمن ولد، فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ للرحمن، وهذه الآية على هذا المعنى لها معنيان: الأول: أن (إن) هنا نافية بمعنى (ما). قل ما كان للرحمن ولد، ((فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ)) [الزخرف:81] للرحمن هذا معنى. المعنى الثاني: ((فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ)) أي: أنا أول المنكرين بأن يكون للرحمن ولد. إذاً: في قوله تعالى: ((قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ)) [الزخرف:81] ثلاث معان: الأول: على وجه التنزل في المناظرة وعليه أكثر المفسرين: سأكون أول من يعبد هذا الولد، ولكن هذا لا يكون، لذلك لا أعبد إلا الله وحده لا شريك له. الثاني: أن معنى: ((قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ)) أي: قل: ما كان للرحمن ولد، ((فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ)) للرحمن، المثبتين لربوبيته وألوهيته سبحانه، فأعبده وحده لا شريك له. المعنى الثالث: (قل إن كان للرحمن ولد) فأنا أول من يأنف أن يعبد غير الله، أو يزعم أن لله الولد سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون)

تفسير قوله تعالى: (سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون) قال تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الزخرف:82]. قوله: ((سُبْحَانَ)) هذه الكلمة تقوم مقام جملة، وهي مصدر كأنك تقول: أسبح الله تسبيحاً، والمعنى هنا: أسبح ربي وأنزه ربي تنزيهاً عظيماً سبحانه، فهو يتعالى عن أن يدعى عليه مثل ذلك. وقوله: ((سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) أي: خالق السماوات والأرض ومدبر أمرهما سبحانه. وقوله: ((رَبِّ الْعَرْشِ))، السماوات عظيمة في نظر الناس، والأرض كبيرة وضخمة في نظر الناس، لكن العرش أفضل وأعظم وأضخم وأكبر من ذلك بكثير، فالسماوات كلها والأرضون لو جمعت وقورنت بكرسي الله عز وجل لكانت النسبة كنسبة حلقة في صحراء عظيمة في فلاة، ولو أن الكرسي قورن بعرش الرحمن سبحانه وتعالى لكانت النسبة كنسبة حلقة في فلاة، فكيف بالعرش الذي هو أعظم من السماوات وأعظم من الأرض وأعظم من الكرسي؟! هذا العرش يصفه ربنا سبحانه وتعالى ويذكره لنا في كتابه ويقول: إنه رب العرش، هذا العرش الضخم العظيم الذي فيه مظاهر العظمة التي خلقها الله سبحانه وتعالى فيه، فهذا العرش مع عظمته هو مخلوق من مخلوقات الله، والله ربه والله فوقه، وهو لا يحتاج إليه سبحانه وتعالى، وهو مستوٍ على العرش محيط بكل شيء، مستغن عن كل شيء. قوله: ((عَمَّا يَصِفُونَ)) أي: أنزه الله عما يصفه به هؤلاء المشركون من أنه اتخذ صاحبة أو اتخذ ولداً.

تفسير قوله تعالى: (فذرهم يخوضوا ويلعبوا)

تفسير قوله تعالى: (فذرهم يخوضوا ويلعبوا) قال الله تعالى: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} [الزخرف:83]. قوله: ((فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا)) أي: دع هؤلاء في خوضهم ولعبهم، وليس المعنى أنه ينهاه أن يدعوهم لا، ولكن ادع هؤلاء فإذا أبوا إلا ما هم فيه فاتركهم، وهو تهديد لهؤلاء، كقوله: (اعملوا ما شئتم) وهذا ليس أمراً بالمنكر أو الإذن بفعله، بل هو للتهديد، أي: اعمل الذي تقدر عليه، ستنظر النتيجة ماذا تكون، فكذلك هنا: ((فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا)) أي: حتى يأتي يوم القيامة الذي يلاقون فيه ما كانوا ينكرونه من عذاب الله سبحانه. وقرأ ابن القعقاع: (حتى يلقوا يومهم الذي يوعدون). إن وعد الله حق، وقد وعدهم الله عز وجل أن يوم القيامة يوم حساب ويوم جزاء، يوم يرى كل إنسان فيه صحيفته، يوم يرى ما عمل محضراً، عملت كذا وعملت كذا وعملت كذا ويحاسب عليه، فإما إلى الجنة وإما إلى النار، فذر هؤلاء في خوضهم وفي كلامهم الباطل الذي يقولونه، وفي أفعالهم القبيحة، فإذا جاءوا يوم القيامة عرفوا أنهم ضيعوا أوقاتهم وأعمارهم، في لعب ولهو وغفلة، فابتعدوا عن الله وكادوا لدين الله، فسيلقون يومهم الذي يوعدون.

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله)

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:84]. يخبر الله العظيم سبحانه وتعالى عن نفسه أنه في السماء إله، وفي الأرض إله، فهو المعبود يعبده أهل السماوات وأهل الأرض، فهو إله معبود في السماء ومعبود في الأرض، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [الحج:18]. أي: أن كثيراً من المخلوقات يؤمنون بالله سبحانه وتعالى، وهذا الإنسان لو قورن بمخلوقات الله عز وجل التي تعبده فإن عدده قليل جداً، ولذلك قال الله سبحانه: ((أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ)) أي: يسبح له ويعبده ويذعن ويطيع لله سبحانه وتعالى، ((مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ)) أي: طوعاً وكرهاً، فكل من يعقل في السماوات وفي الأرض يسجدون لله ويطيعون ويخضعون، حتى الكافر يسجد لله كرهاً، يعني: يذعن ويخشع ويفعل ما أمر به كوناً وقدراً، إذا قيل له: امرض يمرض، وإذا قيل له: مت يمت، احيا يحيا، افعل كذا من الأفعال الكونية القدرية التي تأتي للإنسان ولا حيلة له فيها، كالرزق والمرض والتعب والنصب والمشقة، فلا يقدر الإنسان أن يعصي في ذلك، وإنما يعصي الإنسان في الشيء الذي ترك له فيه الاختيار. ((وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ)) أي: هؤلاء الذين حق عليهم العذاب أطاعوا لما أمر الله عز وجل أمراً كونياً قدرياً، ولم يقدروا على الامتناع فيه، لكن لما أمر أمراً شرعياً وجعل لهم الخيرة، فإذا بهم يأبون ويعصون، فقال الله: ((وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ)) أي: من يطيعون طوعاً لله سبحانه ومحبة لدين الله سبحانه وتعالى. فقوله: ((وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ)) أي: معبود يعبده أهل السماوات، ((وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ)). فهنا نقول: الله فوق السماوات، كما في حديث الجارية التي سألها النبي صلى الله عليه وسلم: (من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: أين الله؟ قالت: في السماء) وقال تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك:16 - 17]. فالله سبحانه وتعالى في السماء فوق السماوات، مستو على عرشه سبحانه، بائن من خلقه، محيط بكل شيء، وفوق كل شيء سبحانه، ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)) أي: هو معكم بسمعه وبصره وعلمه وإرادته سبحانه وأفعاله وحكمته، ولكن أين الله عز وجل؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم مصدقاً للمرأة: إنه في السماء سبحانه وتعالى، فقال هنا: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84]، فمقولة: الله في كل مكان هذه فيها حق وفيها باطل، الحق الذي فيها أن الله في كل مكان بسمعه وبصره وعلمه سبحانه، ولكن الله قال لنا في القرآن: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وكررها في سبعة مواضع في كتابه سبحانه وتعالى، وأخبرنا عن العلو في آيات كثيرة في كتاب الله عز وجل، وأنه سبحانه فوق العباد، وأنه سبحانه وتعالى ينزل الملائكة وينزل الكتاب سبحانه، وينزل الأمر من السماء إلى الأرض، وأنه في السماء {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16]، فالله عز وجل فوق سماواته وهو مع الخلق بعلمه. إذاً: نقول: الله معنا بعلمه وسمعه وبصره، وبتأييده وقدرته وقوته سبحانه تبارك وتعالى، ونقول: الله بذاته فوق السماء سبحانه تبارك وتعالى. {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84] أي: هو الذي في السماء معبود، وفي الأرض معبود، {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:84] سبحانه له الحكمة العظيمة البالغة، فهو الحكيم والحكم والحاكم والمحكم وذو الحكمة سبحانه وتعالى، وهو الذي يحكم بين عباده فهو الحاكم، وهو الذي يشرع لعباده سبحانه وتعالى فهو الحكم، وهو المحكم لخلقه ولصنعته، أحكم كل شيء وأتقن كل شيء خلقه سبحانه وتعالى، وهو ذو الحكمة العظيمة البالغة، ما من شيء في كون الله إلا وله حكمة من الله عز وجل يعلمها، وإن لم يعلمها خلقه، وهو المحكم لكل أمر كونه، فلا تجد فيه زللاً، ولا تجد فيه خللاً، ولا تجد فيه شيء ينتقد. نكتفي بهذا القدر، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الزخرف [84 - 89]

تفسير سورة الزخرف [84 - 89] الله سبحانه هو الإله الحق، له ملك السماوات والأرض وما بينهما، له الأسماء الحسنى والصفات العلى، وكل ما يعبد من دونه فهو باطل، وقد كان كفار قريش يقرون بأن آلهتهم لم تخلقهم، ومع ذلك لا يؤمنون بربهم، وقد أمر الله رسوله أن يصفح عنهم وهددهم بما سيلاقونه جزاء كفرهم في الدنيا والآخرة.

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله)

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في آخر سورة الزخرف: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ * وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ * وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ * فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:84 - 89]. يذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات أنه وحده لا شريك له، الإله الحق الذي يعبد في السماوات في الأرض، فهو الإله المعبود في السماوات وهو المعبود في الأرض، وإن كره المشركون، وإن كفر الجاحدون، فهو الإله الحق وما دونه فباطل. والإله هو المعبود، وقد اتخذوا من دون الله آلهة كلها باطلة، {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ} [يس:74]، أي: لعلهم يتعززون بهذه الآلهة، وقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، والله سبحانه وتعالى يخبرنا بأن هذا الذي يقولونه باطل، فذرهم يخوضوا ويلعبوا، أي: يخوضون في باطلهم، ويلعبون في دنياهم، حتى يلاقوا الذي يوعدون، وذرهم في خوضهم، مثل إنسان يخوض ويمشي في الماء، والذي يمشي في الماء لا يدري ما الذي يكون تحته من حفرة أو شيء يؤذيه، وكأنها استعيرت هذه الكلمة للباطل الذي لا يدري صاحبه ما يوصله إليه أمر لبسه وإبطاله، وكيف تكون نهاية خوضه، يقال: خاض فلان في الكلام إذا تكلم كثيراً في أشياء يلبس بها. ويأتي الخوض بمعنى: المفاوضة والمقاولة، هذا يقول، وهذا يرد عليه، وكأنهم يريدون الإبطال بقولهم لدين رب العالمين سبحانه، فـ {ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ} [الأنعام:91] أي: في مخاضتهم، وفي لعبهم الذي يقولونه ويصنعونه، حتى يلقوا يومهم الذي يوعدون. {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84] فهو إله الحق، وإن كفر هؤلاء واتخذوا من دونه آلهة، فهو وحده الذي يستحق العبادة في السماوات وفي الأرض {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:84].

تفسير قوله تعالى: (وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض)

تفسير قوله تعالى: (وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض) قال الله تعالى: {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزخرف:85]. (تبارك) تفاعل من البركة، فبركته كثيرة، وتبارك بمعنى: تمجد وتعالى، فهو يستحق التسبيح وحده لا شريك له، قال سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك:1]، وقال سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1]، وهنا قال: {َتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الزخرف:85] أي: تعالى وتمجد سبحانه، وكثر خيره، وكثرت بركته سبحانه وتعالى، {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الزخرف:85]، فهو الإله وهو الرب سبحانه، والرب هو الذي يملك، ويخلق ويرزق ويربي، فذكر ربوبيته بقوله: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الزخرف:85]، وذكر ألوهيته بأنه إله في السماوات وفي الأرض سبحانه وتعالى. والملك الملكوت، فهو ملك له، هو ملكه سبحانه والمالك له، وهو الملك سبحانه وتعالى. قوله سبحانه: {وما بينهما} [الزخرف:85]، أي: ما بين الأرض والسماوات، والمعنى: الذي يملك كل شيء سبحانه وتعالى. قوله سبحانه: {وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [الزخرف:85]، هو كما قال: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:34]، فعنده وحده علم الساعة، ومتى تقوم، وإن كان أعطى لأنبيائه شيئاً من علم هذه الساعة كعرفة علاماتها، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها تكون في يوم جمعة، لكن في أي جمعة؟ لا يدري أحد، ولكن قبلها أمارات، مثل طلوع الشمس من مغربها، والدخان، وخروج المسيح الدجال، ونزول المسيح عيسى بن مريم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وخروج يأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف في المشرق وخسف في المغرب وخسف بجزيرة العرب، فهذه أمارات وعلامات، أما متى تقوم الساعة، فهذا علمه عند الله وحده لا شريك له، فمن ادعى أنه يعلم متى تقوم الساعة فهو كاذب؛ لأن الله لم يجعل علمها لأحد من خلقه دونه. قوله سبحانه: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزخرف:85] أي: إليه المرجع، وهذه قراءة الجمهور: أي: بالبناء للمجهول، وقرأها بالبناء للفاعل يعقوب على وجهين: (وإليه يَرجِعون) من رواية رويس ومن رواية روح: (وإليه تَرجِعون) والمعنى: تَرجعون أنتم أيها الناس إلى الله عز وجل، وتُرجعون أي: يعيدكم إليه سبحانه وتعالى، كما بدأكم أول مرة يعيدكم مرة ثانية لترجعوا إليه وتلاقوا جزاءكم وحسابكم.

تفسير قوله تعالى: (ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة)

تفسير قوله تعالى: (ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة) قال سبحانه وتعالى: {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86]. الله في السماء إله، وفي الأرض إله، وهو الرب الذي يملك ويحكم في السموات وفي الأرض، أما ما يدعون من دونه فليسوا بشيء، لا يملكون شيئاً، والكفار يشهدون أن هؤلاء الذين يدعون من دون الله لا يملكون شيئاً، وهم يعلمون أن هذه الآلهة التي يعبدونها لا تملك شيئاً، لكن يزعمون أنها تملك الشفاعة، فيعبدون الأحجار ويقال لأحدهم: هل هذا الحجر ينفعك؟ يقول: لا، لا ينفع ولا يضر، فيقال: لماذا تعبده؟! قال: من أجل أن يقربني إلى الله زلفى، فهذا هو الذي أثبته الكافر، فهو يعرف أن الصنم لا يملك شيئاً، فلا ينفع ولا يضر، ولكن يزعم أنه ينفعه عند الله يوم القيامة، ويشفع له فالله عز وجل ينفي هذا الذي زعموه فيقول: {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} [الزخرف:86]، فهم لا يملكون شيئاً، ولا يملكون هذه الشفاعة المزعومة، فالشياطين تدلس على الإنسان، تجعله يفتري على الله سبحانه وتعالى، فهذا الكافر الذي عبد الأحجار يزعم في نفسه أنه متواضع، وأنه لذلك لا يتقرب إلى لله عز وجل مباشرة، فهو أحقر من ذلك، لكن يعبد هذا الصنم، وهذا الوثن، وهذا الحجر، مع أنه يعرف أن الحجر حقير، فهو يدوس عليه، وهو الذي صنعه بيده، فيعبده ويزعم أنه متواضع، وأنه يعبد الحجر لأنه أذل من هذا الحجر، فيعبد الحجر حتى ينفعه الحجر عند الله! فالشيطان يزين له هذا الباطل والكذب، مثلما زين لهؤلاء المشركين أن يطوفوا بالبيت عراة نساءً ورجالاً، والمرأة كانت تطوف بالبيت عارية، تنتظر الليل من أجل أن تطوف بالكعبة، وتقول: كيف أطوف بالبيت في ثياب عصيت الله فيها؟! والرجل يقول: لا أطوف بالبيت في ثوب عصيت الله فيه، وما ذنب الثياب؟! فالشيطان كان يضحك عليهم، ويلبس عليهم بذلك. فالإنسان أحياناً يتظاهر بأنه متواضع وأنه خاشع ومخبت، وهو كاذب في هذه الدعاوى كلها، مثلما يجيء جاهل إلى إنسان ويقول: يا سيدي فلان اعمل لي كذا، وأعطني كذا، واجعل ربي ييسر لي كذا، وأنت لماذا لا تدعو الله مباشرة؟ لماذا تدعو سيدك فلان؟ وماذا يملك هو لنفسه حتى يملك لك أنت؟! وهذا نبينا صلوات الله وسلامه عليه يدعو ربه: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد)، يدعو الله عز وجل أن يحفظ التوحيد في حياته وبعد مماته صلوات الله وسلامه عليه، ويبرأ إلى الله عز وجل من قوم يدعونه في قبره صلى الله عليه وسلم، فالذي يدعى هو الله سبحانه وتعالى وحده، فلا يدعى أحد معه سبحانه، فالشيطان يوسوس للإنسان ويزين له الباطل الذي هو فيه، ويقول له: أنت حقير، وعاص، وأنت كذا وكذا، فكيف تعبد ربنا؟! لا، اذهب اعبد الصنم وهو يوصلك إلى الله عز وجل، ادع سيدك فلان وسيدك فلان فهو الذي يوصلك إلى الله، اجعل واسطة بينك وبينه! والله عز وجل يقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186]، فأجاب الله عن نفسه سبحانه وتعالى، وكأنه يقول: أنا قريب من عبادي، فلا تدعوا شيئاً مع الله سبحانه، ولا تتخذوا وسيلة بينكم وبين الله إلا ما شرعه سبحانه، فاتخذوا إليه الوسيلة بأن تعبدوه وحده سبحانه، فوسيلتكم إليه توحيدكم ربكم سبحانه، وحبكم وطاعتكم له، وتنفيذكم أوامره، وحفظكم لكتابه، ومحافظتكم عليه، وحفظكم لسنة النبي صلى الله عليه وسلم واتباعكم له، فهذه هي الوسيلة، أي: أن تتبع النبي صلى الله عليه وسلم، وتدعو ربك سبحانه متوسلاً إليه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، فهذا هو التوسل إلى الله عز وجل الذي ينفعك، وهذا التوسل مبني على عمل منك أنت، وليس من غيرك، فتتوسل إليه لأنك حفظت أسماءه الحسنى وعرفت صفاته، وهذا عمل منك أنت تعمله، فحفظك لذلك ودعاؤك له سبحانه وتعالى، وتوسلك إليه باتباعك للنبي صلى الله عليه وسلم؛ هذا عمل أنت تتوسل به إلى أن يعفو الله عز وجل عنك، وأن يستجيب لك، وأن يغفر لك سبحانه وتعالى. أما هؤلاء المشركون فقد زعموا التواضع المكذوب فقالوا: نحن أحقر من أن نعبد الله، فنعبد هذه الأصنام من أجل أن تقربنا إلى الله سبحانه؛ لأنها تملك الشفاعة، فقال الله عز وجل: {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} [الزخرف:86]، وإلا هنا استثناء، إما أن يكون استثناءً متصلاً بما قبله، أي أثبت شيئاً وأخرج منه آخر، وهذا استثناء متصل، أو أنه نفى شيئاً ولم يخرج منه شيئاً فهذا استثناء منقطع بمعنى: لكن. وهؤلاء الذين يعبدون من دون الله هم: الملائكة، والجن، والأصنام، وعزير، والمسيح، وكل هؤلاء لا يملكون الشفاعة إلا من استثنى الله سبحانه وتعالى أن يأذن لهم، فيأذن لمن أطاع، ويأذن للمسيح أن يشفع للمؤمنين الموحدين الذين لم يعبدوه من دون الله سبحانه، فالمعنى: إلا من شهد بالحق، أي: شهد شهادة التوحيد أن لا إله إلا الله، ولا يستحق العبادة إلا الله سبحانه وتعالى، وشهد بالحق لله سبحانه وتعالى، وهم يعلمون. فقوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86] أي: بتوحيد الله سبحانه، موقنون أنهم رسل الله عليهم الصلاة والسلام، وأنهم عبيده سبحانه، فالله يأذن لهم في الشفاعة بإذنه سبحانه وتعالى. فالذين يشهدون بالحق من هؤلاء كرسل الله عليهم الصلاة والسلام، وهم يعلمون أن الله يأذن لهم يوم القيامة في الشفاعة بالحق، فهؤلاء فقط هم الذين يشفعون بعد إذن الله عز وجل لهم في ذلك.

تفسير قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله)

تفسير قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله) قال الله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87]، أي: ولئن سألت هؤلاء المشركين الذين اتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزاً: من خلقكم أيها المشركون؟ ومن خلق هذه الآلهة التي تزعمون؟ {لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف:87]، واللام لام القسم، يعني: والله ليقولون ذلك، واللام المؤكدة قبل الفعل المضارع والنون المثقلة في آخره دليل أن هذا واقع في جواب قسم، أي: والله ليقولون ذلك، تأكيداً أنهم يوم القيامة سيعترفون، والآن هم مقرون أن الخالق الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف:87] أي: كيف يصرفون عن توحيده، فالمشرك انصرف عن توحيد الله، يقال: انصرف عن الشيء، والمعنى: فكيف ينصرفون عن توحيد الله إلى عبادة غير سبحانه!!

تفسير قوله تعالى: (وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون)

تفسير قوله تعالى: (وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون) قال الله: {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ} [الزخرف:88] يذكر الله سبحانه وتعالى هنا قول النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو ربه سبحانه، {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ} [الزخرف:88]، وهذه قراءة الجمهور، وكأن هذا معطوف على شيء سبق قبل ذلك وهو قوله: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} [الزخرف:80]، {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ} [الزخرف:88]، أي: هل يحسبون أنا لا نسمع ما يسرون مع بعضهم بعضاً، وما يكيدون للنبي صلى الله عليه وسلم في السر والخفاء؟ وهل يحسبون أنا لا نسمع ذلك، وأنا لا نسمع دعاء النبي صلى الله عليه وسلم متضرعاً لربه؟ {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ} [الزخرف:88]، والقيل بمعنى القول، القيل والقال كله بمعنى القول، فهل يحسبون أنا لا نسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم متضرعاً إلى ربه: {يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ} [الزخرف:88]. وقيل: {وَقِيلِهِ} [الزخرف:88]، معطوف على قوله: {وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [الزخرف:85]، أي: وعنده علم {قِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ} [الزخرف:88]، فالله عز وجل عنده علم الساعة، وعند الله علم قول النبي صلى الله عليه وسلم: {يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ} [الزخرف:88]، فهو يشكو إلى ربه سبحانه أن هؤلاء لا يؤمنون ولا يتابعونه صلى الله عليه وسلم.

تفسير قوله تعالى: (فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون)

تفسير قوله تعالى: (فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون) قال الله عز وجل: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:89]، معنى: اصفح عنهم، أي: أعرض عنهم، أعرض عن المشركين الآن لغاية ما ربنا سبحانه يحكم بعد ذلك في أمرهم، قال كثير من المفسرين: هذه الآية منسوخة بآية السيف، يعني: الآن وأنت في مكة أعرض عن هؤلاء الذين يؤذونك، حتى يقضي الله أمراً، فقضى بعد ذلك فقال: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة:5]، وقيل: هي باقية على معنى من المعاني، أي: اصفح عن هؤلاء لتدعوهم، فأعرض عما يقولون، وداوم على دعائهم إلى الله سبحانه وتعالى، لعل منهم من يؤمن بعد ذلك. وقوله: (وقل سلام) (سلام) هنا بمعنى: المتاركة، وليس المعنى سلم على المشركين وقل لهم: السلام عليكم، لا، بل كما قال ربنا سبحانه في عباد الرحمن: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63] يعني: قالوا قولاً فيه مسالمة ومتاركة، يعني: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6]، ابتعدوا عنا لا نريد منكم شيئاً إلا أن تستجيبوا لدعوة الله عز وجل، فمعنى قل سلام، أي: المتاركة بيننا وبينكم، تسلمون منا ونسلم منكم إن لم تستجيبوا، فدعونا ندعو إلى الله سبحانه وتعالى، وكان هذا في مكة، وقد أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصبر، وأن يجاهدهم بهذا القرآن العظيم، ويجاهدهم بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فلما كان في المدينة أمر بالجهاد بالقول وأمر بالجهاد صلوات الله وسلامه عليه، وهذه سورة مكية، ولم يكن قد أمر بجهاد السيف، وإنما أمر بأن يعرض عن هؤلاء وأن يصفح عنهم حتى يأمره الله عز وجل فيه بما يشاء. قال الله: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:89] هذه قراءة الجمهور، وقراءة نافع وأبو جعفر وابن عامر: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الزخرف:89]، بالخطاب لهؤلاء الكفار، أي: سوف تعلمون حين يأتيكم العذاب في الدنيا، وحين يأتي نصر الله عز وجل فينصر المؤمنين عليكم، وحين تأتيكم ساعتكم، وحين تأتيكم القيامة؛ سوف تعلمون من الذي معه الحق ومن الذي يملك أن يعذب هؤلاء، ومن الذي يقضي بينهم، كنتم في الدنيا تنكرون العودة إلى الله، وتزعمون أنكم حتى ولو رجعتم فالأصنام تنفعكم، فسوف تعلمون أنه لا ينفع {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:89]. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي وهذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدخان

تفسير سورة الدخان [1 - 8] إن أشرف كتاب في الدنيا هو القرآن الكريم، وقد أنزله الله في أفضل ليلة، وجعله معجزاً بآياته وحروفه ومعانيه، وتحدى الكفار أن يأتوا ولو بآية من مثله، فلم يقدروا على ذلك، ونزول القرآن في ليلة القدر فيه تشريف لهذا الليلة المباركة، ودليل على فضيلتها على جميع الليالي والأيام.

مقدمة بين يدي سورة الدخان

مقدمة بين يدي سورة الدخان الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الدخان: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ * لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} [الدخان:1 - 8]. هذه هي السورة الرابعة والأربعون من كتاب الله عز وجل وهي سورة الدخان، وهي من السور المكية، وإحدى الحواميم السبع التي تبدأ بغافر وتنتهي بسورة الأحقاف، وترتيب نزول هذه السور على ترتيب وجودها في القرآن العظيم: سورة غافر، ثم سورة فصلت، ثم سورة الشورى، ثم سورة الزخرف، ثم سورة الجاثية، ثم سورة الدخان، ثم سورة الأحقاف. وهذه السور مكية تميزت بأن الله عز وجل افتتح جميعها بهذين الحرفين: الحاء والميم، وهذه السورة فيها خصائص السور المكية، والعهد المكي كان عهد إقرار العقيدة في قلوب الناس، وتعليمهم توحيد الله سبحانه، وتذكيرهم بالجنة والنار، وإخبارهم بما حل بالأمم السابقة وما صنع الله عز وجل بهم، كما عرف الله سبحانه الناس في هذا العهد بأسمائه الحسنى وصفاته العلى. هذه السورة آياتها تسع وخمسون آية على خلاف بين العلماء، فالبعض عدها ستاً وخمسين آية، وهم الحجازيون والشاميون، والبعض عدها سبعاً وخمسين آية وهم البصريون، والبعض عدها تسعة وخمسين آية وهم الكوفيون، والخلاف كما ذكرنا قبل ذلك ليس في كلمات كتاب الله عز وجل، وإنما في موضع الوقف الذي بعد رأس الآية، فمن وقف على {حم} [الدخان:1] عدها آية، ومن لم يقف عليها عدها وما بعدها آية، وعلى ذلك فالخلاف في كلمة {حم} [الدخان:1]، فالبعض يعدونها آية ويقفون عندها ثم الآية التي تليها {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الدخان:2]، وهؤلاء هم الكوفيون والبعض وهم باقي القراء يعدون {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الدخان:1 - 2] آية واحدة. وكذلك قول الله عز وجل: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ} [الدخان:43 - 44]، فالبعض وقف عند {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ} [الدخان:43] وعدها آية، و {طَعَامُ الأَثِيمِ} [الدخان:44] عدها آية أخرى، والبعض وصل {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ} [الدخان:43 - 44] وعدها آية واحدة. والبعض وقف عند آية {كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ} [الدخان:45] وعدها آية، {كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان:46] وعدها آية أخرى، والبعض وصل {كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان:45 - 46].

تفسير قوله تعالى: (حم والكتاب المبين)

تفسير قوله تعالى: (حم والكتاب المبين) هذه السورة بدأها الله سبحانه بقوله: {حم} [الدخان:1]، وهذان الحرفان كما قدمنا قبل ذلك في السور الماضية: سورة غافر وفصلت والشورى والزخرف، كذلك في هذه السورة {حم} [الدخان:1] أن فيهما إشارة إلى إعجاز هذا القرآن العظيم، ولذلك عند ذكر الحروف المقطعة في أوائل السور يعقبها ما يشير إلى هذا القرآن، وكأنه سبحانه وتعالى يتحداهم {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23]، {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [هود:13] {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:23]، وتحداهم بالقرآن كله أن يأتوا بمثله ولن يقدروا، وهذا التحدي بلغ ذروته حينما أخبر سبحانه أن الإنس والجن لا يقدرون على ذلك فقال: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88]. فلم يقبلوا هذا التحدي من ربهم سبحانه كما ذكر ذلك في سورة الإسراء، فتحداهم بعشر سور مثله مفتريات كما في سورة هود فلم يقدروا، ثم تحداهم بسورة من مثله كما في سورة يونس، وأخبرهم أن ((َادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ))، وفي البقرة {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [البقرة:23] فلم يقدروا على ذلك، والذين أرادوا أن يقبلوا التحدي قالوا كلاماً فارغاً سخر منهم الناس بسببه، فقال أحد الذين أسلموا بعد ذلك لأحد هؤلاء الكذابين: والله إنك لتعلم إني لأعلم أنك كاذب، أي: أنت تعرف أني مكذبك فيما تقول، ولكنهم كانوا يتبعونه كنوع من العصبية على ما اعتادوه في الجاهلية. {حم} [الدخان:1] هما حرفان: الحاء والميم، وقراءة أبي جعفر توضح أن هذين الحرفين ليسا كلمة، فيقرأ {حم} [الدخان:1] ويقف: حا، ميم، وكذلك في كل فواتح السور حين يقرأها يبين أنها حروف، كقوله تعالى: {الم} [البقرة:1] يقرؤها: ألف، لام، ميم، {طه} [طه:1]، طا، ها {يس} [يس:1]، يا، سين، فهذه حروف مقطعة يفتتح الله عز وجل بها هذه السور، ويتحدى الكفار بمثلها أن يجمعوا منها كلمات ويصيغوا منها قرآناً مثل هذا القرآن إن استطاعوا هم وشركاؤهم من الجن والإنس، فلم يستطيعوا إلى ذلك سبيلاً. وقوله تعالى: {حم} [الدخان:1] فيها ثلاث قراءات: (حم) بالفتح، وهي قراءة قالون وأبي جعفر وابن كثير وحفص عن عاصم وهشام عن ابن عامر، والأزرق عن ورش يقرأ بالتقليل، ويقرأ أبو عمرو أيضاً بالفتح والتقليل للحاء أي: لا يفتحها ولا يكسرها، وباقي القراء وهم: ابن ذكوان عن ابن عامر وشعبة عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف يقرؤونها بالإمالة، والكل يمد الميم مداً طويلاً ست حركات، وأما الحاء فتمد مداً طبيعياً بحركتين فقط. قال الله تعالى: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الدخان:1 - 2]، وكأنه يقول: هذا القرآن من جنس هذين الحرفين وغيرها من الحروف، فأتوا بمثل هذا القرآن، والغالب أنه إذا ذكرت الحروف المقطعة فإنه يأتي بعدها إشارة إلى القرآن، كقوله تعالى هنا بعد أن افتتح السورة بهذين الحرفين: {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الدخان:2]، والكتاب: هو القرآن، وهو الكتاب المعهود الذي عرفتموه وجاء من عند رب العالمين، المبين: من أبان بمعنى أظهر ووضح وجلى، فكأن المعنى: إن هذا الكتاب يوضح ويبين لكم ما كان غائباً عنكم وما لم تعرفوه، كما وضح لكم ربكم فيه ما أشكل وما اشتبه عليكم وما وقعتكم في شك فيه، وبين لكم ما تحتاجون إليه في أمر دينكم ودنياكم وأخراكم.

تفسير قوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنه هو السميع العليم)

تفسير قوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلةٍ مباركة إنه هو السميع العليم) عبر هنا بنون العظمة عن عظمته سبحانه في إنزال القرآن، وأنه نزل من السماء إلى الأرض بأحكام عظيمة، فقال سبحانه: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ} [الدخان:3] أي: أنزله الله عز وجل مع جبريل على النبي صلوات الله وسلامه عليه، {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان:3] الليلة المباركة هي ليلة القدر، ومعلوم أن القرآن نزل على النبي صلى الله عليه وسلم خلال ثلاث وعشرين سنة، ولم ينزل مرة واحدة على النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن المعنى هنا كما جاء عن ابن عباس بإسناد صحيح: أن القرآن نزل من السماء من عند الله إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ثم نزل بعد ذلك مع جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم خلال ثلاث وعشرين سنة، فأول ما نزل إلى السماء الدنيا من عند رب العالمين سبحانه في هذه الليلة وهي ليلة القدر، ثم أنزل على النبي صلوات الله وسلامه عليه: فكان أول ما نزل عليه صلى الله عليه وسلم ونبئ به هو: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]، وأول ما أرسل به صلوات الله وسلامه عليه {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1 - 2]، فنبئ باقرأ، وأرسل بالمدثر صلوات الله وسلامه عليه. والليلة المباركة هي الليلة العظيمة البركة، وهي ليلة القدر كما بين الله سبحانه في سورة القدر بقوله: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1]، وبهذا يتبين أن القول بأن هذه الليلة هي ليلة النصف من شعبان ليس صحيحاً وإن ذكره كثير من المفسرين، ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها كذلك، فالليلة المذكورة هنا هي الليلة المذكورة في سورة القدر، قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان:3]، وقال: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1]، وهي ليلة من ليالي العشر الأخيرة من رمضان. ومن بركتها أنه أنزل فيها القرآن ليكون لها شرف عظيم بذلك، وفيها يقضي الله ما يكون خلال هذه السنة، فيفعل ما يشاء ويحكم بما يشاء ويعلم الملائكة ما يشاء من أقداره سبحانه. ثم إن عظمته سبحانه وحكمته تأبى إلا أن ينذر قبل أن يحاسب ويعاقب ويعذب، فقال: {إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} [الدخان:3]، فقد أنذر الله سبحانه وتعالى وبشر في كتابه، فإذا أنذر فقد بين لهذا الإنسان ما يبعده عن النار ويهديه إلى الجنة، ففي القرآن العظيم نذارة من الله عز وجل لعباده، قال تعالى: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة:41]، وقال: {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]، فأنذرهم الله سبحانه وقال: {إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} [الدخان:3]، وبهذا يكون قد أعذرهم حتى لا يكون لهم على الله حجة يوم القيامة، وأصل النذارة: الإخبار بالشيء الذي سيكون فيه إخافة للناس، كأن يقول: إن تفعل كذا أو إذا لم تفعل كذا تدخل النار فهذا هو الإنذار من الله سبحانه. وهذه الليلة المباركة قال الله عنها: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:4]، يفرق ويفرق بمعنى يفصل، فالقرآن هو الفرقان الذي فرق بين الحق والباطل، والذي فصل الله عز وجل فيه الأحكام. فالله عز وجل يحكم بما يريد سبحانه، ويخبر أنه سيقع كذا وسيكون كذا، فيخبر الملائكة بما يقع في خلال هذه السنة من أمور، {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:4]، والأمر الحكيم أمر الله وقضاؤه وقدره المحكم المبرم الذي لا بد وأن يكون على وفق ما قضاه الله سبحانه، وهو كل أمر يكون فيه حكمه. فيقضي الله في هذه الليلة ما يكون خلال العام من الأحداث، ومن يموت فيها ومن سيولد وغير ذلك مما يشاءه الله، فيفصل من عند الله عز وجل إلى ما في أيدي الملائكة من صحف، فيعلمون ما يكون خلال هذا العام من الوظائف والأعمال التي كلفهم الله بها. ولذلك فإن المؤمن يقوم هذه الليلة لشرفها وفضلها، ولما يحدثه الله عز وجل فيها من أمور ينزلها على الملائكة وعلى عباده. جاء عن الحسن البصري أن رجلاً سأله فقال: يا أبا سعيد! أرأيت ليلة القدر أفي كل رمضان هي؟ فقال: إي والله الذي لا إله إلا هو إنها في كل رمضان، إنها الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم، فيها يقضي الله كل خلق وأجل ورزق وعمل إلى مثل هذا. قال ابن عباس رضي الله عنهما: يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من موت وحياة ورزق ومطر حتى الحج يقال: يحج فلان ويحج فلان. أي: يفصل من اللوح المحفوظ عند الله عز وجل الذي كتب فيه مقادير الخلائق، وقدر فيه مقادير كل شيء قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، إلى ما في أيدي الملائكة من صحف، وعلم الله لا يغير ولا يبدل، ولكن ما يكون في أيدي الملائكة من صحف فيها: فلان يفعل كذا، فإذا فعل كذا افعلوا به كذا، أو فلان يموت في اليوم الفلاني، وإذا وصل رحمه مد في عمره ويكون كذا، أو فلان يحدث له كذا ويولد له كذا فإذا كان منه كذا يكون كذا، وعلم الله أن هذا لن يحسن ولن يبر والديه ولن يصل رحمه فسيموت في الوقت الذي قدره الله سبحانه وتعالى، فيطلع الملائكة بما يفصله له من اللوح المحفوظ إلى كتبهم التي في أيديهم {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:4]. يقول ابن عباس في هذه الآية: إنك لترى الرجل يمشي في الأسواق واسمه في الموتى. أي: يمشي في السوق ويضحك ويعمل وقد كتب في هذه الليلة في صحف الملائكة أنه سيقبض في هذا الوقت. وقوله سبحانه: {كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:4] أي: كل أمر فيه حكمة من الله سبحانه. قال سبحانه: {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [الدخان:5] أي: أن الأمر الذي يفرق ويفصل أمر عظيم يليق بعظمته سبحانه، وإنما قال: {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا} [الدخان:5] لإنه إذا كان من عند الله فلا تغيير له ولا تبديل، فالله عز وجل فرق وفصل وأمر وأحكم وأبرم سبحانه، ولا بد أن يكون ما أبرمه وما قضاه سبحانه، ولذلك عظم هذا الأمر بنسبته إليه فقال: {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا} [الدخان:5] أي: أمراً عظيماً من عندنا. {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الدخان:6]، فأرسل رسوله صلوات الله وسلامه عليه، وأنزل ملائكة من السماء على النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا كله رحمة من عنده بعباده، ولذلك فإن البعض ينصبون رحمة؛ لأن اسم الفاعل في قوله: {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [الدخان:5] ينصب ما بعده على أنه مفعول به، أي: نرسل رحمتنا لعبادنا، فأنزلنا هذا القرآن، وأرسلنا النبي صلى الله عليه وسلم، وأنزلنا الملائكة كل ذلك رحمة من عندنا، وأرسلنا الرياح لواقح رحمة من عندنا، أو أن المعنى: قضينا بأن نرسل ما نشاء من رسل الله سبحانه وتعالى، وهذا الإرسال رحمة، وهو منصوب على أنه مفعول مطلق لفعل محذوف تقديره: رحمناكم رحمة. {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الدخان:6] فرحمة الله عظيمة واسعة تليق به سبحانه، إنه هو السميع: يسمع ما يقوله خلقه، العليم: يعلم ما في قلوبهم وما يفعلونه.

تفسير قوله تعالى: (رب السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين)

تفسير قوله تعالى: (رب السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين) قال الله تعالى: {رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [الدخان:7]. قراءة الكوفيين {رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الدخان:7] بالكسر على أنه بدل مما قبله، أي: {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الدخان:6] وربك هذا {رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الدخان:7] فيكون بدلاً من {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الدخان:6]، وقراءة الجمهور: المدنيين والحجازيين والبصريين: {رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [الدخان:7]، برفع رب، أي: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الدخان:6] {رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [الدخان:7]. والرب هو الخالق سبحانه، وهذا لم يشك فيه الكفار فهم مقرون أن الله هو خالق السماوات والأرض، وإنما كان شكهم وإعراضهم عن توحيده في العبادة والألوهية، ولذلك قال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87]، فما اختلفوا فيه؛ لأنه هو الرب وهذه صفته سبحانه، وهو الفعال لما يريد، وأما الألوهية والعبادة فقد عبدوا من دونه آلهة كثيرة. وقوله: {رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [الدخان:7] أي أنه الخالق والمالك لما في السماوات والأرض وما بينهما. وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [الدخان:7] في الحال أو في الاستقبال، والمعنى: إن كنتم تريدون أن توقنوا فتعلموا من كتاب الله عز وجل ما يدفعكم إلى اليقين وما يمنع عنكم الشك، أو إن كنتم موقنين أنه الرب فاعبدوه، وإن علمتم أن الله هو الذي يملك ويخلق ويرزق فكيف تعبدون ما لا ينفعكم ولا يضركم؟ وهذا مثل أن يقول الإنسان لآخر: يا فلان! أعطني، وهو يعلم أنه لا يعطي، فإذا كان الإنسان موقناً أن الله هو الرب فليعبده وليسأله وحده.

تفسير قوله تعالى: (لا إله إلا هو يحيي ويميت ربكم ورب آبائكم الأولين)

تفسير قوله تعالى: (لا إله إلا هو يحيي ويميت ربكم ورب آبائكم الأولين) قال الله تعالى: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [الدخان:8]، بعد أن ذكر الربوبية عقب بذكر الإلهية كعادته في كتابه سبحانه، فتوحيد الربوبية: هو الإقرار بأنه الرب الخالق، وتوحيد الألوهية: هو التوجه إليه بالعبادة وحده وعدم الإشراك به، وقوله: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ} [الدخان:8]، {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [فاطر:3]، فإذا كان يخلق ويحيي ويميت فلم تؤلهون وتعبدون غيره؟ و (لا) في الآية نافية لجنس الألوهية عن أحد غير الله، ولا بد من تقدير شيء هنا؛ لأنهم قد عبدوا آلهة من دون الله سبحانه، فيكون التقدير: لا إله حق إلا هو، ولا نقول كما يقول النحويون في لا النافية للجنس: إن تقدير الخبر موجود، فيقولون: لا إله موجود، وهذا غير صحيح؛ لأن هناك آلهة موجودة غير الله عز وجل، كما قال الله سبحانه: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية:23] فاتخذ إلهً من دون الله وهو الهوى، وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} [مريم:81] أي: أنهم اتخذوا آلهة غير الله سبحانه وعبدوها من دون الله، فالإله كل ما عبد من دون الله سبحانه، والله هو الذي يستحق وحده العبادة. إذاً: فتقدير خبر (لا) النافية للجنس هو: حق، وإذا قيل: موجود فلا بد أن يوصف بأنه موجود حق، فيكون المعنى: لا إله حق إلا الله وحده وما سواه آلهة باطلة، {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} [الدخان:8]. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الدخان [9 - 16]

تفسير سورة الدخان [9 - 16] لقد جاءت آية الدخان في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، وهي غير الآية التي تكون قبل قيام الساعة على الراجح من أقوال أهل العلم، بدليل أن الله ذكر أنه سيكشف عنهم العذاب بعد هذا الدخان، ثم يعودون للكفر كما هو عادة الكافرين، ثم ينتقم الله منهم ويبطش بهم البطشة الكبرى يوم القيامة.

تفسير قوله تعالى: (بل هو في شك يلعبون)

تفسير قوله تعالى: (بل هو في شك يلعبون) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الدخان: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ * فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ * أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ * إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ * يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ} [الدخان:9 - 16]. قبل هذه الآيات من سورة الدخان قال الله سبحانه: {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ * لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} [الدخان:5 - 8]، فكأن قوله هنا (بل هم) استدراك على ما قبل ذلك، فهم يقولون: إن الرب هو الذي خلقهم، ويعرفون ذلك، ولكنهم {فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ} [الدخان:9]، فهم يعرفون أن الله خلقهم، ولكن هذه المعرفة لم تدفعهم لعبادته سبحانه، ولم تمنعهم من الشرك بالله سبحانه، فهم في شك هل الآلهة متعددة أم الإله الذي يستحق العبادة واحد؟ فهم في شك من ذلك، فمهما قالوا من كلام يقنعون أنفسهم به أنهم على الحق، ومهما تعجبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمرهم أن يعبد إلهاً واحداً لا إله إلا هو، فهم يخوضون في لهو وفي لعب، وإن زعموا أنهم على يقين مما يقولون، فالله عز وجل أعلم بما في قلوبهم، {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ} [الدخان:9]، فهم يعرفون أن هذه الآلهة التي يعبدونها لا تنفع ولا تضر، لكن يقولون {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، وهل هم مستيقنون أنها تقربهم إلى الله زلفاً؟ هم لا يعرفون، ومن أين لهم أن يعرفوا أن هذه الآلهة تقربهم إلى الله؟! هل معهم أثاره من علم؟ هل معهم كتاب؟ هل قال لهم رسول ذلك؟ {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ} [الدخان:9]، من هذا كله، {يَلْعَبُونَ} [الدخان:9]، فيما يقولون وإن أظهروا الجد في كلامهم، وإن قاتلوا على هذا الذي يقولونه، ولكن الحقيقة أنهم يلعبون، وكلامهم فارغ ليسوا على يقين منه، ولا فيما يظهرونه من الإيمان بربوبية الرب سبحانه تبارك وتعالى؛ لأنهم لم يعبدوه سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين)

تفسير قوله تعالى: (فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين) قال الله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان:10]، هذا تحذير لهؤلاء الكفار، وهذه سورة مكية، فيهدد الله عز وجل هؤلاء الكفار ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: ارتقب واصبر على هذا الذي يقولونه، وانتظر حتى ترى كيف نجازي هؤلاء بما يقولون، فسيأتيهم العذاب من عند الله عز وجل، وهو الدخان، فيظهر لهم ما كانوا يفعلونه بالنبي صلوات الله وسلامه عليه، ويبين لهم شيئاً من عذابه. وقد جاء حديث عن ابن مسعود رضي الله عنهما يبين أن هذا الدخان في الدنيا، وفي حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري أن هذا الدخان يوم القيامة، وكلاهما صحيح، ولكن المقصود منهما في هذه الآية أحدهما، فالحديث الأول عن ابن مسعود رضي الله عنهما أنه سئل عن قوله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان:10] وأن فلاناً يقول: يكون دخان يوم القيامة، فغضب ابن مسعود رضي الله عنهم وقال: لم يتكلم أحدكم بما ليس له به علم؟ من علم فليقل بعلمه، ومن كان لا يعلم فليقل: الله أعلم، ثم قال رضي الله تبارك وتعالى عنه: إنما كان هذا لأن قريشاً لما استعصت على النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسني يوسف؛ فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام، فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد، فأنزل الله عز وجل: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الدخان:10 - 11]. وهذا الحديث في البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم لما شددوا على النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم أعني عليهم بسنين كسني يوسف)، فكان هذا الدخان من شدة الجوع ومن قلة المياه، فلم يجدوا ما يأكلونه فأكلوا لحوم الكلاب، وأكلوا عظام الميتة وكل شيء وجدوه أمامهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم دعا واستجاب له ربه، فكانوا من شدة جوعهم يرون ما بينهم وبين السماء كالدخان، والجائع يغشى على بصره، فشدة الحر والعطش وقلة الطعام جعلتهم ينظرون إلى ما بينهم وبين السماء كالدخان من شدة ما هم فيه من قحط ومحل وجدب. فذهب أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال للنبي صلوات الله وسلامه عليه: إنك جئت تدعو إلى صلة الرحم فكيف تدعو علينا؟! فقد عرف أن الله قد استجاب للنبي صلى الله عليه وسلم، فذهب إليه ليدعو لهم كما فعل فرعون مع موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام لما ابتلاهم الله عز وجل، قال الله: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} [الأعراف:130 - 131]، وبعد ذلك يذهبون إلى موسى ويقولون: {يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف:134]، وكلما يأتيهم عذاب من عند الله يقولون: سنؤمن لك، فيكشف الله عز وجل عنهم العذاب فيرجعون، فهذه سنة الكفار السابقين، فالله عز وجل إذا أخذهم جأروا إليه بالدعاء ورجعوا إليه ليكشف عنهم البلاء، فإذا كشف عنهم البلاء رجعوا إلى كفرهم مرة ثانية، وكذلك هؤلاء المشركون قال رجل منهم: يا رسول الله استسق لمضر، وهذه القبيلة أبوهم الأكبر مضر، فيقول له: استسق الله لمضر، أي: لقريش التي عدوت عليها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إنك لجرئ) يعني: إنك لجريء في هذا الذي تطلبه، فبدلاً ما تقول لهم: آمنوا بسبب ما أنزل الله عز وجل عليكم من عذاب بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، قلت: استسق! ولكن حنان النبي صلى الله عليه وسلم جعله يستسقي لهم، ودعا لهم أن يكشف الله عز وجل عنهم ما هم فيه، وقد وعدوه أنهم يؤمنون فقالوا: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} [الدخان:12]، فقال الله: {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان:15]، أي: ستعودون إلى كفركم مرة ثانية. يقول ابن مسعود رضي الله عنه: فاستسقى -يعني: طلب النبي صلى الله عليه وسلم من ربه أن يسقي هؤلاء- فسقوا فنزلت الآية الأخرى: {إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان:15]، فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم حين أصابتهم الرفاهية، فأنزل الله عز وجل: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ} [الدخان:16]، قال ابن مسعود: هي يوم بدر، أي: إن رجعتم إلى الكفر فسنبطش بكم بطشة كبرى، وكان ذلك في يوم بدر، حيث أهلك الله عز وجل شيوخ المشركين كـ أبي جهل، وشيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة وغيرهم. وجاء في حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري كما في صحيح مسلم قال: (طلع النبي صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر فقال: ما تذكرون؟ قالوا: نذكر الساعة) يعني: يوم القيامة وما يكون فيه، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات) يعني: العلامات الكبرى لهذه الساعة، قال صلى الله عليه وسلم: (الدخان والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى ابن مريم، وخروج يأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم). فهذه هي العلامات الكبرى للساعة، وهي عشر علامات إذا خرجت كانت متوالية بعضها وراء بعض كما قال النبي صلوات الله وسلامه عليه: (كعقد انفرط) أي: مثل السبحة إذا انقطع منها الحبل تذهب منها الخرزات واحدة تل الأخرى. وآخر العلامات نار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر، وهي نار عظيمة تجعل الناس كلهم يهربون ويذهبون إلى الشام، وهي أرض المحشر. قال: (تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا، وتصبح معهم إذا أصبحوا، وتمسي معهم إذا أمسوا، قلت: يا نبي الله! وما الدخان؟ فذكر هذه الآية). وابن مسعود رضي الله عنه لا ينكر هذا الحديث، ولكن يقول: إن الدخان المقصود في هذه الآية قد حصل وانتهى؛ لأن ربنا يقول: {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا} [الدخان:15]، وعندما تقوم الساعة لن يكشف الله العذاب. ولذلك فالراجح قول ابن مسعود رضي الله عنه، والصحيح أن الدخان أيضاً من علامات الساعة، ولكنه ليس متعلقاً بهذه الآية، والله أعلم. قال سبحانه: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان:10] أي: بدخان واضح جلي أو مبين.

تفسير قوله تعالى: (يغشى الناس هذا عذاب أليم وقد جاءهم رسول مبين)

تفسير قوله تعالى: (يغشى الناس هذا عذاب أليم وقد جاءهم رسول مبين) قال الله تعالى: {يَغْشَى النَّاسَ} [الدخان:11] أي: يغطي هؤلاء، {هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الدخان:11] أي: هذا من عذاب الله عز وجل لهؤلاء حيث منع الله عز وجل عنهم المطر، فقالوا: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} [الدخان:12] أي: أنهم يدعون الله عز وجل حين يرون هذا العذاب فيقولون: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} [الدخان:12] أي: نحن مصدقون أنك ربنا وخالقنا، وسنؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم إذا كشفت عنا هذا العذاب، كما قال قوم فرعون لموسى عليه الصلاة والسلام. قال سبحانه: {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ} [الدخان:13] أي: من أين لهم التذكر؟ فهؤلاء مثل الذين إذا ركبوا في البحر وأصابهم الضر {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65]. وهذه عادة المشركين، فإنهم إذا أصابتهم البلية والمصيبة قالوا: يا رب! ورجعوا إليه، فإذا كشف عنهم البلاء نسوا الله سبحانه، ورجعوا إلى شركهم وعبادة غيره سبحانه، قال: {أَنَّى لَهُمُ} [الدخان:13] أي: من أين لهم التذكر وعادتهم أنهم يكذبون ويعرضون في وقت الرفاهية والرخاء؟! {وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ} [الدخان:13]، (مبين) لها معنيان: الأول من بان بمعنى: ظهر، فهو مبين ظاهر واضح جلي صلى الله عليه وسلم، ومعه الآيات والمعجزات من ربه التي تدل على صدقه عليه الصلاة والسلام. والثاني بمعنى: مفصح صلوات الله وسلامه عليه، من أبانه بمعنى أظهره وبينه وفسره وشرحه، فهو مبين بلسان عربي مبين، وليس كلامه أعجمياً فيدعون أنهم لا يفهمون ما يقوله.

تفسير قوله تعالى: (ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون)

تفسير قوله تعالى: (ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون) {ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ} [الدخان:14] أي: تولوا وأعرضوا عن النبي صلوات الله وسلامه عليه، فهذت الاستفهام لإنكار أنهم سيتذكرون الآن لما جاءهم العذاب، فإذا كشفنا عنهم العذاب رجعوا إلى الكفر مرة أخرى، قال سبحانه: {قَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ} [الدخان:13 - 14] أي: أعرضوا عنه، {وَقَالُوا مُعَلَّمٌ} [الدخان:14] كما في الآية الأخرى: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل:103] يعني: لا يعلمه الله بل يعلمه رجل في اليمامة اسمه رحمان اليمامة، وقال: بعضهم: يعلمه غلام فلان الأعجمي الذي يقرأ ويكتب، وهذا لسانه أعجمي وليس عربياً، فكيف يعلم النبي صلى الله عليه وسلم وهو أفصح الناس وأبلغهم صلوات الله وسلامه عليه، والذي أوتي لجوامع الكلم؟! فهم يكذبون ولا يستحيون من تخريفهم ويصدقون ما يقولون! وقالوا عنه أيضاً (مجنون) وافتروا عليه الكذب وحاشا له من الجنون، قال الله سبحانه: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم:2] يعني: بفضل الله وبرحمة الله أنك لست كما يقولون -ولعنة الله على الكذابين-: {مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ} [الدخان:14].

تفسير قوله تعالى: (إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون)

تفسير قوله تعالى: (إنا كاشفوا العذاب قليلاً إنكم عائدون) قال الله سبحانه: {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا} [الدخان:15]، وهذا هو ما احتج به ابن مسعود رضي الله عنه في أن هذا العذاب كان في الدنيا وليس قبل الساعة، وإن كان لا ينفي أن يكون من ضمن علامات القيامة الدخان، ولكن هذا المذكور في الآية قد حدث؛ لذلك قال ربنا: {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان:15]، أي: سترجعون إلى كفركم وتكذيبكم كعادة الكفار من قبلكم.

تفسير قوله تعالى: (يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون)

تفسير قوله تعالى: (يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون) قال الله: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} [الدخان:16]، (يوم) هنا الظرفية تتعلق بشيء محذوف تقديره: انتظر يوم القيامة، وتذكر: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} [الدخان:16] أي: يوم القيامة، فهذه بطشة أكبر من بطشة الدنيا التي كانت في يوم بدر، حيث بطش الله عز وجل بهم وأهلكهم. وقوله: {يَوْمَ نَبْطِشُ} [الدخان:16] بكسر الطاء على قراءة الجمهور، وبضمها (نبطُش) قراءة أبي جعفر {إِنَّا مُنتَقِمُونَ} [الدخان:16] يعني: من هؤلاء، فنجازيهم على ما صنعوا، وهذا يكون يوم القيامة، فيعاقبهم الله عز وجل على ما صنعوه، وقد يكون العذاب عاماً على الجميع من عصى ومن لم يعص، ويبعثون على نياتهم، فالله عز وجل قد ينزل العذاب على من يشاء من عباده فيهلك الجميع صغاراً وكباراً، ثم يوم القيامة يبعثهم ليحاسبهم كل على نيته. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الدخان [17 - 24]

تفسير سورة الدخان [17 - 24] إن أكثر قصة كررت في القرآن الكريم هي قصة موسى عليه السلام مع فرعون وقومه، ولم يأت هذا التكرار عبثاً، وإنما لحكمة يريدها الله عز وجل، ذلك أن هذه القصة اشتملت على الكثير من الفوائد والعبر والدروس التي تظهر فيها قدرة الله عز وجل في إهلاك الظالمين، وحفظه سبحانه لأنبيائه وعباده الصالحين، وغير ذلك من الفوائد العظيمة التي لا حصر لها؛ ولذلك أكثر الله عز وجل من تكرار هذه القصة للاعتبار بها.

خصائص السور المكية

خصائص السور المكية الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. سورة الدخان من السورة المكية، ومن خصائص السور المكية: إقرار أمر العقيدة، وبيان الحكم والمواعظ من قصص الأنبياء مع أقوامهم. فقد جاء أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام إلى أقوامهم فدعوهم إلى الإيمان بالله، فكفروا وكذبوا وأعرضوا، فجاءهم العذاب من عند الله. وقصة موسى مع فرعون تكررت في القرآن على صور شتى، وفي كل موضع يذكر الله عز وجل العظة والحكمة المراد بها، وفي كل موضع تجد السياق متفقاً مع باقي السورة، وموافقاً لها في فواصلها، وفي طولها وقصرها. وذكر قصة موسى عليه السلام في مواضع كثيرة من كتابه سبحانه وتعالى من بلاغة القرآن وفصاحته، وحسن سياقه، وحسن إيراده لهذه القصص العظيمة، متوخياً العبرة في كل موطن منها، فإذا ساقها بطولها في سورة طويلة كسورة الأعراف فإنه يسوق القصة ويذكر ما وراء ذلك من عبر فيها، وإذا ساقها باختصار فإنه يشير إليها إشارة، كسورة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] أو غيرها من السور التي يشير فيها إشارة إلى موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وفي كل موضع يذكر فيها العبرة، وهذا من تفنن القرآن العظيم في ذكر هذه القصة، ففي كل موضع تأخذ منه عبرة من العبر، وتجدها متسقة مع السياق الذي تدل عليه، أو الذي تساق فيه. وذكر سبحانه وتعالى هنا أن الأقوام السابقين كذبوا، ومن هؤلاء قوم فرعون، وقد قال سبحانه للمشركين: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [الدخان:37]. فهذه صورة من صور إجرام السابقين مع أنبياء الله المرسلين عليهم الصلاة والسلام.

تفسير قوله تعالى: (ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون)

تفسير قوله تعالى: (ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون) قال الله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} [الدخان:17] أي: قبل هؤلاء المشركين الذين كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا عنه: ساحر، وزعموا وافتروا عليه أنه يعلمه بشر، فقد كُذِّب الرسل الأولون قبل النبي صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: ((وَلَقَدْ فَتَنَّا)) أي: ابتلينا وامتحنا واختبرنا السابقين بما أرسلنا إليهم من رسل، وأنزلنا من كتب، وامتحناهم بالأوامر والنواهي. ((وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ))، والفتنة: هي الابتلاء والامتحان من الله عز وجل، فقد أعطى الله فرعون الملك، ثم أرسل إليه موسى عليه الصلاة والسلام ليدعوه إلى الله سبحانه، فتكبر فرعون حتى إنه جعل الناس يعبدونه من دون الله، وزعم أنه إله وأنه هو ابن الآلهة، حتى قال للناس في النهاية: أنا ربكم الأعلى، فكأنه كان أمام الناس يعلي نفسه شيئاً فشيئاً إلى أن جعل نفسه إلهاً ورباً، فعبده الناس من دون الله، وأنكر الرب سبحانه وتعالى، وقال: أنا هذا الرب {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:54] ففتنه الله عز وجل بالملك، وفتن قومه بما آتاهم من مال ورئاسة وغيرها، وابتلاهم بأن أرسل إليهم موسى عليه الصلاة والسلام.

إكرام الله عز وجل لموسى عليه السلام

إكرام الله عز وجل لموسى عليه السلام قال تعالى: ((وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ)) وهذا الرسول الكريم هو موسى عليه الصلاة والسلام، فقد كان كريماً على الله سبحانه وتعالى، فقد أحبه الله وجعله واحداً من الخمسة أولي العزم من الرسل عليهم الصلاة والسلام، فهو كريم على ربه سبحانه وتعالى، وكان كذلك كريماً في قومه، ومن أوسطهم نسباً، وكان من أشرف قومه عليه الصلاة والسلام، فأكرمه الله عز وجل بالنبوة والرسالة، وأكرمه وهو صغير بمعجزات، فنجاه من اليم، ورباه في بيت فرعون، فكان معززاً مكرماً من صغره صلوات الله وسلامه عليه، ولم يقدر أحد أن يصل إليه بشيء. وأيضاً من كرمه على الله أن كلمه الله سبحانه وتعالى، ومن كرمه على الله أن أعطاه الله عز وجل الأخلاق الحسنة: من التجاوز والصفح عمن يظلمه، ومن كرمه على الله أنه كان في لسانه لثغة فدعا ربه أن يزيلها فاستجاب له ربه سبحانه وتعالى، قال تعالى حاكياً دعاء موسى له: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي} [طه:25 - 30]. فأخبر الله عز وجل أنه استجاب له ذلك كله فقال له: يا موسى لقد استجبنا لك هذا الذي سألته كله، ونخبرك أنا قد مننا عليك من قبل إذ نجيناك وقد كنت في اليم، وذكر الله عز وجل ما أكرم به موسى عليه الصلاة والسلام من صغره إلى أن صار رسولاً عليه الصلاة والسلام.

تفسير قوله تعالى: (أن أدوا إلي عباد الله)

تفسير قوله تعالى: (أن أدوا إلي عباد الله) لقد أرسل الله موسى إلى فرعون وقومه، قال: {أَنْ أَدُّوا} [الدخان:18] يعني: بأن أدوا إلي عباد الله، فهو مرسل إلى بني إسرائيل ومرسل إلى فرعون لينهاه عما هو فيه من كبر، وعما هو فيه من دعوة أنه الإله والرب. قال تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:45 - 44]. يعني: أن فرعون طغى وتكبر، ومع ذلك فإن الله عز وجل يأمرهما أن يقولا له القول اللين، لعله يستجيب، وهذه عظة لنا أن تكون الدعوة بالقول اللين، كما قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه). فأمر موسى عليه الصلاة والسلام وهو كليم الرحمن وهو الكريم على الله أن يذهب إلى هذا الحقير فرعون الملعون، ويكلمه كلاماً ليناً؛ لعله يستجيب لدين الله عز وجل، ولعله يطيع، والله يعلم أنه لن يستجيب إلا حين يأتيه العذاب، فلا يستجاب له في دعائه. فقوله تعالى: ((أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ)) أي: أن أدوا إلي بني إسرائيل، وقد كان بنو إسرائيل في مصر مستضعفين مستذلين، يسخرهم فرعون وقومه في الأعمال الشاقة، وكان يقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم، أي: يستبقيهن خادمات في بيوته، وبيوت جنوده، {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4]. ثم قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:5 - 6]. ولا يغني حذر من قدر، فقد قدر الله عز وجل على فرعون الهلاك، فأتاه الهلاك من حيث يظن أنه آمن، فقد قال لقومه: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:54 - 56] يعني: نحن قوم كثيرون، وهؤلاء حفنة قليلون، ((وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ))، فنريد أن نخرج إليهم لنقتلهم، أو نرجعهم للخدمة عندنا مرة ثانية.

الآيات التي ابتلي بها فرعون وقومه

الآيات التي ابتلي بها فرعون وقومه لقد طلب موسى عليه الصلاة والسلام من فرعون أن يترك بني إسرائيل ليخرجوا معه، ويذهب بهم إلى ديار الشام، فأبى فرعون، فابتلاه الله وقومه بالسنين ونقص من الثمرات؛ لعلهم يذكرون، قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} [الأعراف:133]، فابتلاهم الله بآية وراء آية، فكانوا يجأرون إلى موسى ويطلبون منه أن يدعو ربه، ويقولون له: لئن كشفت عنا الرجز -أي: العذاب- إننا لمؤمنون، وإننا لمهتدون، فيدعو لهم موسى فلا يستجيبون، حتى أتتهم تسع آيات معجزات على يد موسى عليه الصلاة والسلام فلم يستجيبوا له، وفي النهاية قال موسى: ((أدوا إلي عباد الله)) وكفاكم هذه الابتلاءات التي ابتليتم بها، فأداهم إليه فرعون من البلاء الذي يأتيهم، فقال له فرعون: خذ بني إسرائيل واخرج، ثم ندم فرعون على ذلك؛ لأنه لا يوجد من يخدم القوم، فغدر فيما وعد به، وأخلف ما وعد به موسى، فقال له موسى عليه الصلاة والسلام: ((أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ)) أي: أد إلي بني إسرائيل فإنهم كانوا وديعة عندك، فهات هذه الوديعة وأرجعها إلي، فأنا أمين عليهم، ومن أحق بهذه الصفة من موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.

تفسير قوله تعالى: (وأن لا تعلوا على الله)

تفسير قوله تعالى: (وأن لا تعلوا على الله) قال الله تعالى: {وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [الدخان:19] أي: لا تتكبروا على الله، ((إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ)) أي: بحجة، وهذا من جمال التعبير؛ للمناسبة بين العلو وبين السلطان، أي: إن معي حجة عالية تغلبكم، فأنتم تريدون أن تتكبروا وتستكبروا فأنا معي السلطان من الله، وهي الحجة القاهرة الغالبة التي يغلبك الله عز وجل بها. فقوله تعالى: ((وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ)) أي: لا تردوا أمر الله سبحانه، ولا تقتلوا عباد الله ظلماً وبغياً، ولا تفسدوا في الأرض، ((إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ)) أي: بحجج من الله سبحانه وتعالى بينة واضحة لديكم.

تفسير قوله تعالى: (وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون)

تفسير قوله تعالى: (وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون) قال الله تعالى: ((وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ))، ((وإني عذت)) أي: استجرت واعتصمت بالله ولجأت إليه سبحانه، ثم قال: ((وَرَبِّكُمْ)) أي: أن فرعون كان يقول: أنا ربكم، فقال: ربي وربك، ورب هؤلاء جميعهم هو الله، وهذا من شجاعة موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام بتثبيت الله عز وجل له، فقد كان موسى خائفاً، وطلب من ربه سبحانه أن يثبته، {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه:45] أي: أنا وأخي نخاف من فرعون، وهذا خوف جبلي طبعي، فكل إنسان يخاف حتى الرسل عليهم الصلاة والسلام. فقال تعالى: {لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]، فطمأن الله موسى وهارون، ولذلك ذهب موسى عليه الصلاة والسلام بمنتهى الشجاعة بتثبيت الله عز وجل له إلى فرعون وقال له ما أمره الله عز وجل به، قال الله عز وجل: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى} [طه:68]، فأتى التثبيت من الله عز وجل؛ لأن هذا الموقف من المواقف المرعبة التي ترعب الإنسان وتخيفه وتخيف أيضاً الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، ولكن الله يثبتهم فيثبتون، فكأن الله سبحانه يقول لعباده: لا تخافوا، فكما ثبت موسى وثبت غيره فكذلك أثبتكم إذا التجأتم إلي واعتصمتم بي. قال تعالى: ((وَإِنِّي عُذْتُ))، ((عذت)) تقرأ بالإدغام وبعدمه، الإدغام قراءة أبي عمرو وقراءة هشام عن ابن عامر وقراءة حمزة والكسائي وخلف وأبي جعفر إني عذت بربي وربكم أن ترجمون، وباقي القراء يقرءونها بعدم الإدغام: ((إني عذت))، وكذلك هنا ((أن ترجمون)) في حال الوصل يقرؤها ورش: ((أن ترجموني)) بالياء في آخرها، ويعقوب يقرؤها وصلاً ووقفاً بالياء، فيقول: ((وإني عذت بربي وربكم أن ترجموني))، وكذلك قوله تعالى: ((وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِي))، وباقي القراء يقرءونها في الوصل بالكسرة، وفي الوقف بالسكون: ((أن ترجمونْ)). قوله تعالى: ((وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ)) الرجم هنا له معنيان: إما الشتم والأخذ باللسان، وإما الضرب والرمي بالحجر والإيذاء للجسد بالقتل ونحوه، فكأن موسى يقول لهم وهم يهددونه بأنهم سيسبونه ويشتمونه ويرمونه بالحجارة ويقتلونه: ((إني عذت بربي)) أي: أنا لست خائفاً منكم؛ لأني ملتجئ إلى ربي سبحانه، وهو يعصمني ويحميني سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون إنهم جند مغرقون)

تفسير قوله تعالى: (وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون إنهم جند مغرقون) قال الله تعالى: {وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ} [الدخان:21] أي: وإن لم تؤمنوا فابعدوا عني وذروني أدعو إلى ربي، واتركوني آخذ قومي وأخرج من هنا، ((وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ))، وهذه الآية يقرؤها ورش عن نافع: ((وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلوني)) مثل: ((ترجموني))، هذا في حالة الوصل، وأما في الوقف فيقرؤها بالسكون على النون، ويعقوب يقرؤها بالياء: ((فاعتزلوني)) وصلاً ووقفاً. فقوله: ((وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي)) أي: إن لم تصدقوني ولم تؤمنوا بالله وقد أتيتكم بالبراهين فاعتزلون، أي: دعوني ولا تؤذوني، وذروني أخرج من هنا، فلما استيئس موسى من فرعون وقومه أن يؤمنوا بعد كل هذه الآيات دعا ربه سبحانه، {فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ} [الدخان:22] أي: إن هؤلاء قوم أجرموا في حق الله عز وجل، وفي حق موسى النبي عليه الصلاة والسلام، وفي حق بني إسرائيل. فهؤلاء قوم مجرمون؛ لأنهم أجرموا وأفسدوا وكفروا، فجاء الجواب من الله: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [الدخان:23]، والسرى: المشي والسفر بالليل، فقال هنا سبحانه: ((فأسر)) من أسرى، وأيضاً من سرى، فهي ثلاثية ورباعية، وفيها قراءتان أيضاً: قراءة الجمهور: ((فأسرِ)) بهمزة قطع من الرباعي من ((أسرى))، وقرأها من الثلاثي ((فاسر)) نافع وأبو جعفر وابن كثير. فقوله: ((فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ)) يقول الله عز وجل لموسى: أسر، أي: اخرج بالليل أنت وقومك، وهذا لما أذن لهم فرعون، وأخبر الله موسى بأن فرعون سينكث ما وعدكم به، وسيخلف وعده معكم، فاخرجوا. فأمره الله أن يتجه إلى البحر الأحمر، فلما وصل موسى وقومه إلى ساحل البحر، لحقهم فرعون وجنوده، فأصاب بني إسرائيل الرعب الشديد، وقالوا له: البحر من أمامنا وفرعون من خلفنا يوشك أن يصل إلينا ويدركنا، وهنا يأتي أمر الله سبحانه: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ * وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ} [الدخان:23 - 24]، وقال لقومه عندما أدركهم فرعون: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] أي: لا تخافوا إن ربي سيهدين، وهو معي سبحانه وتعالى، هو وربي الذي أمرني أن أمشي إلى هذا المكان. وجأر بنو إسرائيل بالدعاء إلى الله، وهنا جاء أمر الله سبحانه، قال تعالى: {اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ} [الشعراء:63 - 64] أي: حتى يروا هذه المعجزة وهذه الآية التي حدثت، لعلهم يعتبرون بها، وكانت آية أخرى من الآيات التي يرونها أمامهم، فإن موسى لما ضرب بعصاه البحر انفلق البحر وقد كانت عصا موسى آية من الآيات، فإذا ألقاها كانت حية تسعى، وألقاها أمام السحرة فإذا هي تلقف ما يأفكون، وضرب بها الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عيناً، وضرب بها البحر فيبس البحر، وقد قال له الله: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:17 - 18] يعني: أمشي عليها، وأهش بها وأضرب بها الشجر حتى يسقط الورق فتكأله الغنم، {وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:18] أي: أستخدمها في أشياء أخرى، فأمره الله بإلقائها، فألقاها فإذا هي حية تسعى {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه:67]، وهذا أمر الله: {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [مريم:35]. ثم قال لموسى عليه الصلاة والسلام: هذه عصاك فخذها، وهي على الأرض قد صارت ثعباناً، فأمسك موسى هذا الثعبان فرجع عصاً مرة ثانية، وكأن الله عز وجل يمرن موسى حتى لا يفزع أمام فرعون حين يلقيها فتصير ثعباناً، فلما كان أمام فرعون ألقاها وهو رابط الجأش ثابت، وهنا أمره الله بأن يضرب بالعصا البحر، فكانت آية عجيبة جداً، فقد ضرب بهذه العصا البحر العظيم العميق فانفلق البحر قسمين، ووقف الموج كأنه الثلج، وصارت الأرض أمامه يابسة، فنزل موسى وقومه في هذه اليابسة، ومروا منها، وأراد الله عز وجل أن يرى فرعون هذا الذي حدث من أن الأرض أمامه صارت يابسة، لعله يؤمن ويرجع عما هو فيه. قال تعالى: {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ} [الشعراء:64] أي: قربنا هؤلاء الآخرين، وبدأ موسى يدخل في هذا البحر الذي صار طريقاً يابساً، وكان قوم موسى في غاية الرعب ينظرون وراءهم، وموسى في غاية الاطمئنان بربه سبحانه وتعالى، فلما كان موسى وقومه في وسط البحر وصل فرعون ومن معه إلى أول البحر، فرأوا آية من الآيات ولكن فرعون بطغيانه ظن نفسه آمناً، وكم أُخذ آمن من مأمنه، وقد أخذه تعالى من قصره من وسط جنوده حتى يغرقه في هذا المكان، وهو يرى الآيات البينات أمامه، قال تعالى: {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ} [الشعراء:64 - 65]، فلما خرج موسى وقومه من الناحية الأخرى وصار فرعون وجنوده في وسط البحر جاء أمر الله عز وجل، فانطبق البحر عليهم، وأغرق الله عز وجل فرعون وجنوده، ومضى مثل الأولين، فجأر فرعون وصاح وصرخ ودعا: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90] يعني: الآن صدقت وآمنت، ولم يقل: آمنت بالله، وإنما قال: (آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل)، وكأنه يقول: نجني كما نجيتهم، فإيماني مثلهم، وبعد ذلك يرجع إلى كفره لعنة الله عليه، فقال له الله عز وجل: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:92] أي: سننجي بدنك فقط؛ حتى يرى الناس أن هذا هو فرعون الذي زعم أنه رب الناس. وهنا قال الله سبحانه: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} [الدخان:24] أي: واترك البحر ساكناً على ما أمر الله سبحانه وتعالى، فإن العصا ليست هي التي فلقت البحر، ولكنه أمر الله سبحانه، وهذا إنما هي سبب من الأسباب. قال تعالى: ((وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ)) (ورهواً) أي: يابساً وساكناً كالجوبة، أي: كالحفرة، فإن الموج انحسر شمالاً حتى صار البحر كالحفرة في الأمام ومر موسى ومن معه، وأطبق البحر على فرعون وجنوده، فكان هذا آية من الآيات العجيبة جداً. وعندما يتفكر الإنسان في قدرة الله سبحانه وتعالى يعلم أن هذه العقوبة ليست خاصة بفرعون وجنوده، والدليل على ذلك هو ما حدث في تسونامي في بلاد المسلمين من بلاد أندونيسيا، فقد كان الصيادون على شاطئ البحر يصطادون، وكان في هذه الشواطئ النساء العرايا، وكان فيها بلاء، فإذا بأمواج البحر تنحسر على بعد اثنين كيلو، فوجدوا أمامهم السمك على الأرض اليابسة، فجروا وراء السمك، ودخلوا اثنين كيلو في البحر وراء السمك حتى يأخذوها، ونسوا ما حصل لفرعون، فلما وصلوا إلى السمك جاءهم الطوفان العجيب، فأخذهم وارتفع بهم وأهلكهم ودمرهم، وجاءهم أمر الله سبحانه وتعالى، وقد ظنوا أنهم في أمان؛ لأن البحر صار يابساً، فنزلوا ليأخذوا ما فيه، فإذا بالأمواج تأتي عليهم، وكما صنع بفرعون وجنوده صنع بهؤلاء، ولا حول ولا قوة إلا بالله. فليعتبر الإنسان من القصص القرآنية، وليعلم أن قصة فرعون ليست للتسلية، وإنما ليعتبر أولو الألباب، أي: إذا صنعتم صنيعهم أصابكم البلاء من الله كما أصابهم، فلا تعلوا على الله، ولا تبتعدوا عن دين الله، واحذروا من الفساد، ومن العلو والاستكبار، فإن الله عز وجل لما أخذ فرعون وقومه جعلهم عبرة، كما قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:8 - 9]. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الدخان [17 - 29]

تفسير سورة الدخان [17 - 29] لقد هيأ الله عز وجل لفرعون وقومه من أسباب الرزق ما جعلهم يتكبرون به في الأرض بغير الحق، فلما جحدوا حق الله في أنفسهم وأموالهم أخزاهم الله وأغرقهم، وجعل ملكهم وجناتهم وزروعهم شاهدة على ما كانوا فيه من السرف والترف، وأورثها الله قوماً آخرين، فما بكت عليهم السماء والأرض، بل لا يذكرون إلا ويلعنون، وقد حذر الله مشركي العرب من المشي على طرائق هؤلاء الكفار؛ لكيلا يصيبهم مثل ما أصابهم.

استجابة الله تعالى لدعاء النبي على قريش ثم رفعه العذاب عنهم مع علمه بأنهم سيرجعون إلى ما كانوا عليه

استجابة الله تعالى لدعاء النبي على قريش ثم رفعه العذاب عنهم مع علمه بأنهم سيرجعون إلى ما كانوا عليه الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الدخان: {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ * أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ * وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ * فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ * فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ * وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ * كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} [الدخان:17 - 29]. في هذه الآيات بيان قصة فرعون مع موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وأن فرعون علا في الأرض واستكبر على طاعة الله وعبادته، واستكبر على رسول الله موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فأهلكه الله تعالى شر هلاك. وقد ذكر الله تعالى في الآيات قبلها قريشاً وما يصنعون مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف أنهم منعوه من الدعوة إلى الله سبحانه، بل وآذوه على ذلك، فدعا عليهم عليه الصلاة والسلام أن يجعل الله عليهم سنين كسني يوسف، فلما رأوا هذه الآية وأن الله استجاب للنبي صلى الله عليه وسلم ناشدوه بالله وبالرحم الذي بينهم وبينه، فقالوا: والرحم التي بيننا وبينك ادع ربك أن يكشف عنا ما نحن فيه، وسنؤمن لك إذا كشفت عنا العذاب. قالوا: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} [الدخان:12]، فقال لهم ربهم: {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ} [الدخان:13 - 14]، ومع ذلك استجاب الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم وكشف عنهم العذاب الذي كانوا فيه، وكان قد منع عنهم المطر، واشتد عليهم الحر، وجاعوا جوعاً شديداً حتى أكلوا كل شيء بما فيها أوراق الشجر، وأكلوا لحوم الكلاب وعظامها، وجلود الميتة وغير ذلك مما وجدوه، فلما كشف الله عز وجل عنهم العذاب رجعوا كما أخبر أنهم عائدون إلى التكذيب والضلال والكفر بالله عز وجل، قال: {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان:15]، فانتظر هؤلاء واذكر: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} [الدخان:16]، وهذه البطشة إما أنها كانت في يوم بدر، أو في وقت موتهم، أو يوم القيامة، قال تعالى: {إِنَّا مُنتَقِمُونَ} [الدخان:16].

سياق قصة موسى مع فرعون المذكورة في سورة الدخان

سياق قصة موسى مع فرعون المذكورة في سورة الدخان ثم قص علينا قصة فرعون باختصار، وهذه القصة تقدمت قبل ذلك في عديد من سور القرآن، فقد أشار إليها في سورة البقرة، وأطال في سورة الأعراف في قصة موسى مع فرعون ومع بني إسرائيل، وفي سورة طه كذلك، وفي سورة القصص، وفي سورة الشعراء وغيرها من سور كتاب الله عز وجل. وموسى هو النبي الذي ابتلي قبل النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أرسله الله إلى بني إسرائيل خاصة، وأنزل عليه التوراة كشريعة له، فلذلك يكثر الله عز وجل ذكر القرآن مقترناً بالتوراة، كما قال تعالى: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً} [هود:17]؛ لكونه كتاب شريعة فيه أوامر ونواهٍ، وفيه بيان الحلال والحرام، وأما كتاب المسيح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فكان كتاب مواعظ، فالذي يشبه القرآن العظيم هو كتاب موسى، قال تعالى: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً} [هود:17] أي: يأتمون بما فيه، ويكون قدوة لبني إسرائيل فيتبعوا ما فيه. والقرآن العظيم هنا يذكرنا بهذا الذي كان من قبل، فقد فتن قوم فرعون، وجاءهم موسى رسول كريم عليه الصلاة والسلام يطلب منهم أن يتركوا بني إسرائيل ليخرجوا معه إلى بيت المقدس أو إلى أرض الشام، فرفض فرعون ذلك، فأراه الله عز وجل آيات على يد موسى صلوات الله وسلامه عليه، حتى إن فرعون استجاب في النهاية لموسى وقال: خذهم وانصرف من هنا، فلما أخذهم وخرج ببني إسرائيل من مصر إذا بفرعون يتغير ويتذكر أن هؤلاء كانوا خداماً له، فأراد أن يرجعهم مرة ثانية، فأخلف وعده، ونكث عهده، وأراد إرجاعهم مرة ثانية. فدعا عليهم موسى عليه الصلاة والسلام: {أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ} [الدخان:22]، فقد أجرموا في حق الله عز وجل فأشركوا وكفروا وعلوا على الله، وأجرموا في حق بني إسرائيل وفي حق البشر، فاستعبدوا العباد وجعلوهم يعبدونهم من دون الله سبحانه.

صور من إعراض اليهود وتكبرهم على أنبيائهم وأفعالهم القبيحة

صور من إعراض اليهود وتكبرهم على أنبيائهم وأفعالهم القبيحة قال الله سبحانه وتعالى لموسى: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [الدخان:23]، طمأنه الله عز وجل أنه ناصره وأنه معه، وحتى لا يخاف حين يرى فرعون من ورائه قال: {إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [الدخان:23]، فلا تخف من فرعون، فسيخرج من ورائكم ليعيدكم مرة ثانية، قال: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ} [الدخان:24]. فلما وصل موسى إلى البحر الأحمر أمر بأن يمشي في هذا الاتجاه، وبنو إسرائيل لا يتخيلون المشي وهذا البحر يمنعهم، أين أمرت يا موسى؟! قال: هنا في هذا البحر، ثم في النهاية يأمر الله عز وجل موسى أن يضرب بعصاه البحر، وفيه الاختبار والابتلاء لبني إسرائيل حتى يروا المعجزة أمامهم؛ لأنهم لن يستشعروا نعمة الله عز وجل إذا وجدوا البحر مفتوحاً، فإن عادتهم دائماً مع موسى التكذيب والإعراض، فكانوا في حاجة دائمة إلى من يذكرهم ويخوفهم بالله عز وجل، حتى إنهم كانوا إذا قيل لهم: اسجدوا لله عز وجل لا يطيعون موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، حتى رفع الله عز وجل فوقهم جبلاً كما قال: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ} [الأعراف:171]، فيخرون عند ذلك ساجدين لله على صفحة وجوههم؛ لأن جزءاً من الجبل كان على الأرض والجزء الثاني في السماء، وسيسقط الجبل فوقهم، فهم قوم عجيبون جداً في نفورهم وإعراضهم عن الله عز وجل، لذلك استحقوا أن يدعو عليهم موسى، وأن يدعو عليهم داود، وأن يدعو عليهم غيرهم من أنبياء الله، قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79]، فلذلك كان من حكمة الله سبحانه أن يشعرهم بالرعب عند لحاق فرعون بهم فيدفعهم ذلك إلى اللجوء إليه سبحانه؛ لأنهم لو وجدوا البحر مفتوحاً أمامهم لما اعتبروا ولما علموا أن ذلك من فعل الله عز وجل، فإن نزلت: {اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} [الشعراء:63]، أحسوا بهذه الآية، وأن الله عز وجل هو القادر سبحانه على ذلك وحده، والكثيرون من الناس اليوم عندما يرون آيات الله سبحانه ومعجزاته وانتقامه من العباد يقولون: هذه آيات طبيعية، حتى لو جاء بركان أو إعصار فهم يردونه إلى قوى الطبيعة لا إليه سبحانه وتعالى، فعادة الناس أنهم لا يفكرون بأن هذه الزلازل والبراكين والإعصارات تحدث نتيجة لعصيانهم الله عز وجل، فهم ينسون ذلك ليستكملوا ما هم فيه من اللهو واللعب، وهذه عادة الأولين كما أخبر الله سبحانه وتعالى عن ذلك بقوله: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} [الأحزاب:62].

إنهم جند مغرقون

إنهم جند مغرقون فلما وصل بنو إسرائيل وجدوا البحر أمامهم، والبحر الأحمر عميق جداً كما هو معروف عنه، وهو بحر مليء بأسماك القرش وغيرها من الأشياء المفزعة، فهم يخافون العبور في هذا البحر، وعندها يأمر الله سبحانه موسى أن يضرب البحر بعصاه، قال تعالى: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} [الدخان:24]، فلما ضرب بعصاه البحر انفلق أمامهم فشاهدوا آية من آيات الله، فمروا في هذا البحر إلى منتصفة فإذا بفرعون يتساءل: أيكمل أم يرجع؟ ثم يأخذه غروره وعتوه وأشره وبطره فيعبر وقومه وراء موسى عليه الصلاة والسلام، ولم يتنبه إلى المصيبة التي تنتظره في هذا المكان، فهم يريدون إرجاع موسى ومن معه إلى مصر، والله عز وجل يريد لهم الهلاك في هذا المكان، فلما عبر فرعون وقومه البحر وانتصفوا فيه وخرج موسى وقومه من الناحية الأخرى أتى أمر الله عز وجل، فقال لموسى: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} [الدخان:24]، فكأن موسى لما خرج من البحر أراد يضرب البحر مرة ثانية، فقد ضرب بداية البحر بعصاه فانفلق: {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:63] أي: أن كل شطر من أشطار البحر كالجبل العظيم، وكأن حاجزاً زجاجياً قد صنع للماء من هنا وهناك، فلما عبر موسى أراد أن يضرب البحر مرة ثانية لكي يهلك فرعون وقومه، فقال الله له: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} [الدخان:24] أي: اترك البحر وراءك ساكناً كما هو، فلما اكتمل قوم فرعون وجنوده جاء أمر الله، ولم يقل لموسى: اضرب مرة ثانية، فالآن انتقام الله وليس انتقام موسى، وحتى لا ينسب إلى موسى عليه الصلاة والسلام أنه هو الذي أهلك فرعون، فخرج موسى من البحر ومن معه فإذا بالله سبحانه يأمر البحر أن ينطبق مرة أخرى، فانغلق على فرعون ومن معه فأهلكهم الله وأغرقهم ودمرهم سبحانه وتعالى، قال تعالى: {إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ} [الدخان:24].

عظم الخيرات الموجودة في أرض مصر

عظم الخيرات الموجودة في أرض مصر ثم يقول سبحانه: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الدخان:25]، فقوله: (كم تركوا) منصوبة بالفعل الذي بعدها، يعني: تركوا كثيراً، و (كم) هنا بمعنى: كثيراً، فالذي تركوه كثير جداً، فقد تركوا أرض مصر وفيها الخيرات العظيمة: جنات وبساتين وعيون، فهي أرض مليئة بنعم الله سبحانه وتعالى، وانظروا إلى سيدنا يوسف عندما كان يقول للملك في مصر: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ} [يوسف:55]، فقد كان الناس يذهبون إلى مصر عند حصول المجاعات في الشام والبلاد حولها فيأخذون منها طعامهم، وقد كان يعقوب يرسل بنيه إلى مصر ليأخذوا منها الطعام ويرجعوا، وقصة يوسف معروفة، فيوسف يقول لملك مصر هنا: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ} [يوسف:55]، وكأن مصر هي خزانة الأرض كلها، هذه البلاد العظيمة التي ضيع الناس فيها عبادة الله عز وجل فاستحقوا من الله أن يشدد عليهم، وأن يذيقهم البلاء، وما زالت مصر تنهب من آلاف السنين، فما من حاكم جاء على مصر إلا وأخذ، ومع ذلك فما زال في هذه البلاد خير، ولكن الله سبحانه وتعالى يبتلي العباد لما في قلوبهم من كبر على الله سبحانه، ومن ظلم بعضهم لبعض، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96]. فالله عز وجل يقول عن فرعون ومن معه: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الدخان:25]، وفي مصر نهر النيل وأصله من الجنة كما أخبر النبي صلوات الله وسلامه عليه، فتركوا هذه الجنات والبساتين والحدائق التي تسقى من هذا النهر العظيم، وتركوا هذه الأرض الخصبة، فهي أرض خيرها كثير بفضل الله سبحانه، {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الدخان:25]، وكلمة: (عيون) تقرأ بضم العين كقراءة الجمهور، وتقرأ بكسرها كقراءة ابن كثير وابن ذكوان وشعبة عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف. قال: {وَزُرُوعٍ} [الدخان:26] أي: الحقول والبساتين، قال: {وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الدخان:26]، (ومقام): هو مكان الإقامة، (كريم): أي: يكرم الله من يقيم فيها، ويرزقه من الخير العظيم الموجود فيها، وهذا يدل على أن الناس كانوا مرفهين منعمين في هذا البلد. ويقول ربنا سبحانه: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:5 - 6]، فقد أراد فرعون أن يهلك بني إسرائيل حتى لا يهلك هو، فإذا بالله يهلكه ويتم أمره كما يريده سبحانه وتعالى. قال تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} [الدخان:25 - 27]. فقوله: (نعمة) بمعنى: تنعم، فقد كانوا مرفهين في هذه البلاد، فكانت عندهم من الخيرات العظيمة كالماء والزرع والفاكهة والنعم العظيمة من الله، فعتوا وعلوا على أمر الله سبحانه فأذلهم الله سبحانه وتعالى، قال: {وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} [الدخان:27]، ويقال لها: نِعمة ونعمة، والفرق بين الاثنين: أنك تقول في اليد والجميل والصنائع: نِعمة بالكسر، وتقول في الرفاهية والرغد في العيش والترف: نَعمة بفتحها من التنعم. قال سبحانه مخبراً عن حالهم: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} [الدخان:26 - 27]، وكلمة (فاكهين) فيها قراءتان: قراءة أبي جعفر: (فكهين) وقراءة الجمهور: (فاكهين)، وكأنها مأخوذة من الفاكهة، أي: الشيء الزائد عن قوت الإنسان، والإنسان يحتاج للقوت الضروري فقط، بحيث لو نقصت الفاكهة لما توفي، فهي من الأشياء الزائدة عن قوت الإنسان، فهؤلاء كانوا فاكهين، أي: منعمين، فعندهم الضروريات وفوق الضروريات التي تجعلهم يضحكون ويلهون ويلعبون، بل وعندهم الفراغ الذي يجعلهم يعرضون عن الله سبحانه، ففاكهين: بمعنى: مازحين لاهين لاعبين فرحين، وهو الفرح الذي يوصل إلى الأشر والبطر على الله وعلى نعمه سبحانه وتعالى. قال سبحانه: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الدخان:28]. فقال: {كَمْ تَرَكُوا} [الدخان:25]، وقال: {كَذَلِكَ} [الدخان:28] أي: كذلك فأهلكناهم ونجينا منهم بني إسرائيل، قال: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الدخان:28] أي: كذلك نصنع بغيرهم من إهلاك أقوام وإحياء أقوام آخرين، فننعم على أقوام ونبتلي أقواماً آخرين. قال: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الدخان:28] أي: أنه أورث أرض مصر لقوم آخرين غير هؤلاء السابقين، وقد قيل: إن هؤلاء القوم هم بنو إسرائيل، وهو بعيد جداً؛ لأن التاريخ ينفي رجوع بني إسرائيل إلى مصر مرة ثانية فضلاً عن أن يهلكوا فيها، فالظاهر: أنه أورثها قوماً آخرين غير هؤلاء، ومكن لبني إسرائيل في مكان آخر، ولذلك أُمر بنو إسرائيل بعد ذلك أن يدخلوا بيت المقدس، قال تعالى: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [الأعراف:161]، فرفضوا أن يصنعوا ذلك، وعبدوا العجل من دون الله عز وجل، فابتلاهم الله سبحانه وتعالى بالتيه، فكأنهم ذهبوا بعد إغراق وإهلاك فرعون وقومه إلى بلاد الشام، وأما مصر فإن الله عز وجل أورثها قوماً آخرين غير هؤلاء الأقوام الذين سبقوا، قال: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الدخان:28].

تفسير قوله تعالى: (فما بكت عليهم السماء)

تفسير قوله تعالى: (فما بكت عليهم السماء) قال سبحانه: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} [الدخان:29]، وكأن السماء والأرض تبكيان على الإنسان الصالح، والله عز وجل قد خلق الخلق وجعل لمن يشاء من خلقه أفهاماً سبحانه وتعالى. فالسماء تمطر بأمر الله، والأرض تخرج كنوزها وزرعها بأمر الله، فكل شيء مسخر بأمر الله سبحانه وتعالى، والله عز وجل قادر على جعل الإحساس فيمن يشاء، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي)، صلوات الله وسلامه عليه، (ويوم أن جاء الجمل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ يبكي بين يديه صلى الله عليه وسلم، فأمر صلى الله عليه وسلم بصاحب الجمل فجيء به إليه، فقال له: إن جملك يشكو إلي أنك تجيعه وتدئبه). وهذا جمل آخر تذرف عيناه أمام النبي صلى الله عليه وسلم فيجيء أصحاب هذا الجمل فيقول: (ماذا تصنعون معه فإنه يشكوكم إلي؟ فقالوا: إنهم كانوا يعملون على هذا الجمل سنين فلما كبر الجمل اجتمعوا على أن ينحروه، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يتركوه وشأنه)، فالله يجعل فيمن يشاء من خلقه الشعور والإحساس في السماء والأرض. (وهذا الإنسان المؤمن يصعد عمله الصالح إلى السماء، فإذا مات خرجت روحه فصعد بها إلى السماء، فلا تمر على جسد فيما بين السماء والأرض إلا شموا منها الرائحة الطيبة، فقالوا: ما هذه الروح الطيبة؟ فيقال: فلان، بأحسن أسمائه إلى أن يصل إلى السماء، ثم ينزل إلى الأرض) كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. فالمقصود هنا: هو قوله سبحانه: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ} [الدخان:29]، ففيها: إخبار ونص، وفيها إشارة، فالنص: أن هؤلاء لا يستحقون أن تبكي عليهم السماء والأرض، ولماذا تبكي عليهم وقد كانوا يسجدون على الأرض ويعبدون غير الله سبحانه؟ وما دفعهم لذلك إلا الخوف والرعب من المخلوقين، وقد كانت أعمالهم السيئة الخبيثة تصعد إلى السماء، فتدعو السماوات والأرض عليهم، ((فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ)) حين أخذهم الله عز وجل، فهنا إشارة بالمفهوم المخالف لهذا أن الله إذا أخذ المؤمنين فإن السماء والأرض تبكيان عليهم. والأرض تبكي على الإنسان المؤمن لأنه كان يسجد عليها، ويذكر الله عز وجل عليها، وكان يجاهد عليها، وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، والسماء تبكي على الإنسان المؤمن لأنه انقطع عمله، فقد كان يصعد العمل الصالح كل يوم إلى السماء، فهناك خمس صلوات في اليوم والليلة، وصوم، وأعمال صالحة أخرى، فالسماء تفتقد عمل المؤمن حين يموت، فقد كان يصعد إليها كل يوم وكل لحظة عمله الصالح، والأرض تفتقد ما كان يفعله من سجود وعمل صالح وغيره، وأما هؤلاء الأنجاس الملاعين الذين عبدوا الخلق من دون الله عز وجل، فإن الله قال فيهم: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} [الدخان:29]، فلم ينظرهم الله عز وجل ولم يمهلهم سبحانه، بل أخذهم بالعذاب والعقوبة الشديدة يوم أن أعرضوا عن ذكر الله.

بعض أقوال السلف الصالح في بكاء السماوات والأرض على فقد المؤمن

بعض أقوال السلف الصالح في بكاء السماوات والأرض على فقد المؤمن يقول عبد الله بن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما: إنه يبكي على المؤمن مصلاه من الأرض، ومصعد عمله من السماء. وكأنهم أخذوا ذلك من الإشارة التي في هذه الآية، وقد جاءت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى ولكنها ضعيفة، ومفهوم هذه الآية والإشارة التي فيها تغني عن هذه الأحاديث، فكون السماء والأرض لا تبكيان على هؤلاء المفسدين فيه إشارة إلى بكائهما على الإنسان المؤمن حين يتوفاه الله عز وجل؛ لكون العمل قد انقطع صعوده إليها، وكذلك الأرض. وجاء عن مجاهد قوله: إن السماء والأرض يبكيان على المؤمن. وجاءت آثار أخرى في هذا المعنى. نسأل الله عز وجل أن يجعل لنا أعمالاً صالحة خالصة، وأن يتقبلها، وأن يغفر لنا بعفوه وكرمه وهو أرحم الراحمين. أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الدخان [30 - 37]

تفسير سورة الدخان [30 - 37] لقد امتن الله عز وجل في سورة الدخان على بني إسرائيل بأن أنجاهم من فرعون وقومه، وفضلهم على سائر أهل زمنهم، وأعطاهم من الحجج والبراهين والآيات الدالة على وحدانيته عز وجل، وأنه المستحق للعبادة، فكان ذلك امتحاناً واختباراً لهم، فآمن منهم من آمن، وكفر منهم من كفر، وقد ذكر الله تعالى زعم المشركين وإنكارهم للبعث، فرد الله عز وجل عليهم هذا الزعم الباطل.

تفسير قوله تعالى: (ولقد نجينا بني إسرائيل إنه كان عاليا من المسرفين)

تفسير قوله تعالى: (ولقد نجينا بني إسرائيل إنه كان عالياً من المسرفين) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: فقال الله عز وجل في سورة الدخان: {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ * مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ * وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ * إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ * فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [الدخان:30 - 37].

إنجاء الله لبني إسرائيل

إنجاء الله لبني إسرائيل لما ذكر الله عز وجل قصة فرعون مع موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وكيف أنجى الله موسى ومن معه من المؤمنين، وأهلك فرعون وجنوده، وجعله عبرة وآية للخلق، مَنَّ على بني إسرائيل بأن نجاهم من العذاب المهين، فقد كانوا رجالهم خداماً وعمالاً مسخرين عند فرعون وجنوده وقومه، وكذلك النساء كن مسخرات في العمل، فكان الكل في مهانة وفي ذلة، فإذا بالله عز وجل منجيهم من ذلك. ففرعون زعم للناس أنه ربهم الأعلى، وهؤلاء كانوا يعبدون الله سبحانه وتعالى، فنجى الله عز وجل من عبدوه، وأهلك من كفروا به سبحانه وتعالى. قوله: {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [الدخان:30] إسرائيل هو يعقوب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وهؤلاء بنو إسرائيل، أي: بنو يعقوب، ومعنى الآية: أن الله أنجى بني إسرائيل من العذاب الفظيع الذي أهانهم به فرعون، فقد سخرهم في الأعمال المهينة الشاقة، وكانوا لا يملكون لأنفسهم شيئاً. قوله: {مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ} [الدخان:31] أي: من فرعون الذي كان يعذبهم، إنه كان عالياً كافراً جباراً مسرفاً على نفسه، مفسداً في الأرض بغير الحق، فترفع أن يعبد الله سبحانه، وعلا على قومه، فقال: أنا إلهكم، بل قال: أنا ربكم الأعلى.

تفسير قوله تعالى: (ولقد اخترناهم على علم على العالمين)

تفسير قوله تعالى: (ولقد اخترناهم على علم على العالمين) قال سبحانه: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان:32] أي: لقد فضلناهم على كل عالمَ زمانهم، فما كان أحد منهم يعبد الله سبحانه وتعالى إلا موسى عليه الصلاة والسلام ومن معه من بني إسرائيل، فقربهم الله عز وجل واختارهم في هذا الزمان، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله اطلع على أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب)، فالله عز وجل يبغض المشرك الذي يكفر بالله سبحانه، بينما الذي يوحد الله سبحانه يحبه، فقبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن على التوحيد إلا القليل من بقايا أهل الكتاب؛ فقد كان أهل الكتاب منتشرين في كل مكان، فكان منهم من هو على دين موسى عيه الصلاة والسلام، ومنهم من هو على دين عيسى عليه الصلاة والسلام، فوحدوا الله عز وجل ولم يشركوا به شيئاً، فلم يقولوا: عزير ابن الله، ولم يقولوا: المسيح ابن الله، وإنما عبدوا الله سبحانه وتعالى. فهؤلاء هم الذين كان سلمان يدور بينهم رضي الله عنه، فقد كان أبوه صاحب بيت النيران لملوك الفرس، وكانوا يعبدون النار من دون الله عز وجل، فهرب سلمان من بيت أبيه واتبع أهل الكتاب، وأخذ يبحث عن الدين الحق، حتى أظله زمان النبي صلوات الله وسلامه عليه، فعبد الله سبحانه قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وبعد ما جاء النبي صلوات الله وسلامه عليه. فهؤلاء كانوا بقايا من أهل الكتاب، فكان سلمان يذهب إلى واحد منهم فيقول له: علمني، فيعلمه ويقول له: كن معي، فيمكث معه سنين يعبد الله عز وجل على التوحيد الخالص، ثم إذا دنا الأجل من هذا الراهب يقول سلمان: بمن توصيني؟ أي: أن اذهب إليه فاعبد الله معه، والبلد كلها فيها نصارى، لكن الراهب يعلم أنهم على الباطل، ولذلك يقول له: اذهب إلى المكان الفلاني فإن فيه راهباً يعبد الله سبحانه، يعني: على التوحيد الذي أنا عليه، فيذهب للمكان الفلاني، والمكان مليء بالنصارى، ولكن هذا الراهب موحد لله عز وجل، فيذهب إليه سلمان الفارسي رضي الله عنه ويمكث معه فترة من الزمن، فهو رضي الله عنه قد مكث مع رهبان كانوا موحدين الله سبحانه، وبعضهم كان منافقاً مجرماً يأخذ أموال الناس بالباطل، فعندما يموت إذا بـ سلمان يفضحه ويقول للناس: هذا كان يأخذ أموالكم، ويجعله في المكان الفلاني، فيذهبون إلى المكان فيجدون أموالهم، فهو لم يكن يعبد الله حق العبادة، فيأخذونه ويحرقونه بعد موته. وفي النهاية: مكث عند راهب من الرهبان، وعند دنو الأجل منه قال: لا أعلم أحداً على الأرض يعبد الله سبحانه وتعالى، ولكن قد أضلك زمان نبي يبعث في بلاد العرب. فإذا بـ سلمان يسافر إلى بلاد العرب مع مجموعة من العرب في قصة طويلة، وفي النهاية يسترقّونه بعد ما كان له شأن رضي الله عنه، فصار عبداً رقيقاً، وباعوه من يهودي في المدينة، وصار عبداً عند يهودي في المدينة، حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكان الرهبان قد أخبروا سلمان بصفات النبي صلوات الله وسلامه عليه، فمن صفاته أن بين كتفيه خاتم النبوة صلوات الله وسلامه عليه مثل بيضة الحمامة، ومن صفاته عليه السلام أنه يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، فإذا بـ سلمان يختبر وينظر هل هذا رسول الله أم لا؟ فيذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويأخذ معه تمراً فيقول: هذه صدقة. فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يرفع يده ويعطيها لأصحابه يأكلون، وسلمان شاهد ينظر ذلك، ثم يأتي له مرة أخرى بطبق فيه تمر ويقول: هذه هدية، فيأكل منها النبي صلى الله عليه وسلم ويعطي من معه فيأكلون، ثم إذا بـ سلمان يدور حول النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن ينظر إلى خاتم النبوة بين كتفيه، فانتبه النبي صلى الله عليه وسلم لذلك فأسقط ردائه صلى الله عليه وسلم، فنظر لخاتم النبوة بين كتفيه، فأسلم سلمان رضي الله عنه واتبع النبي صلى الله عليه وسلم، وأراد أن يخرج من الرق لكن لا يقدر أن يخرج من ذلك، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يكاتب صاحبه، فإذا باليهودي يتعنت ويقول: ازرع لي ثلاثمائة شجرة وأنا أتركك، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يطلب من أصحابه أن يعينوه، فأعانه أهل المدينة بثلاثمائة فسيلة، فكان كل منهم يعطيه شيئاً، والعادة أننا عندما نغرس غرساً فليس كل غرس يخرج، فمنها ما يموت، ومنها ما يخرج، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يدعوا بالبركة، ويذهب مع سلمان رضي الله عنه فتخرج جميعها وتنبت، وكلها كانت صالحة، فيعتق سلمان رضي الله عنه ليجاهد في سبيل الله سبحانه وتعالى. والغرض من ذلك كله: بيان أن أهل الكتاب كان القليل منهم قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم على الحق، فهؤلاء الذين يحبهم الله عز وجل، ففي عهد موسى عليه الصلاة والسلام كان أهل الأرض جميعهم منه من يعبد الأصنام، ومن يعبد الأحجار، ومن يعبد الخلق، ومن يعبد الجان، فكل منهم يعبد شيئاً، إلا من كان مع موسى فإنهم كانوا يعبدون الله عز وجل، فهؤلاء اصطفاهم واختارهم الله على علم منه بما في قلوبهم من توحيده سبحانه. فليس المعنى: أن بني إسرائيل جميعهم قد فضلوا على الخلق، لا، وإنما الموحدون منهم فضلهم الله عز وجل على كل من كان في زمانهم، ففضلهم الله عز وجل على العالَمين، وجعل فيهم أنبياء، وجعل رسولهم موسى عليه الصلاة والسلام، وفضّل هذا الرسول بأن كلمه الله سبحانه وتعالى، فهذا اصطفاء من الله عز وجل لمن يشاء من خلقه سبحانه. قوله تعالى: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان:32] أي: اختيروا على أهل زمانهم، ولما جاء زماننا قال الله عز وجل للمؤمنين: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] أي: كنتم أخير، وأخير هنا على وزن أفعل تفضيل، بمعنى: أخير الأمم، فإذا كان بنو إسرائيل اختارهم الله عز وجل على من كان في زمانهم، فقد انتهى هذا الأمر بمجيء النبي صلى الله عليه وسلم وإيمان المؤمنين به، فأنزل الله عز وجل {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران:110]، ولم يقل: أنتم خير أمة، ولكن {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران:110]، وكأن: (كان) تفيد الماضي، أي: جعلكم الله أنتم الخيار منذ الأزل، وإن جاء زمان بني إسرائيل فاختارهم ولكن كنتم أنتم الأخير، فكنتم خير أمة عند الله سبحانه وتعالى من قبل أن تخلقوا، ومن قبل أن تأتوا، كنتم أنتم الأخير من الجميع. {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]؛ لكونكم {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [آل عمران:110]، ولو آمن آهل الكتاب كما آمنتم أنتم وكما تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر لكان خيراً لهم.

تفسير قوله تعالى: (وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين)

تفسير قوله تعالى: (وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين) قال سبحانه: {وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ} [الدخان:33] أي: آتينا بني إسرائيل من الآيات والحجج والبراهين الكثيرة، وذلك عندما أرسل الله عز وجل إليهم موسى فقال: أنا رسول من رب العالمين، فآتاه الله آيات كثيرة تدل على أنه رسول من عند الله عز وجل، آتاه آيات حسية؛ لأن بني إسرائيل لا يؤمنون إلا بما يرونه أمامهم، وأما الإيمان بالغيب فإنهم يؤمنون به تارة ويكفرون تارات كثيرة، ولذلك رأينا كيف أنهم لما أمروا أن يسجدوا لله سبحانه لم يسجدوا ولم يطيعوا، وإذا بالله عز وجل يرفع الجبل فوق رءوسهم كأنه ظلة، وظنوا أنه واقع بهم، وعند ذلك سجدوا لله عز وجل، ويقال لهم: ادخلوا الباب سجداً، فيدخلون وهم يستهزءون بما قيل لهم، {وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} [البقرة:58]، فدخلوا وبدلاً من أن يسجدوا على رءوسهم أخذوا يزحفون على إستاتهم وعلى مقاعدهم استهزاء بما قاله الله عز وجل. ثم قال لهم: قولوا حطة، أي: يا رب! حط عنا خطايانا، فقالوا: حنطة، يحرفون ويستهزءون بكلام رب العالمين، فهؤلاء هم بنو إسرائيل لعنة الله عليهم وعلى أمثالهم فيما يصنعون، فليس هؤلاء الذين هم اختارهم الله عز وجل، وإنما اختار الموحدين المؤمنين الذين اتبعوا موسى النبي صلوات الله وسلامه عليه، فآمنوا به وكانوا معه، فاجتباه واصطفاهم الله واختارهم على العالمين. وآتينا الجميع من الآيات التي تدل على أن موسى رسول من رب العالمين، كاليد، والعصا، وما أرسله الله على فرعون وقومه: {فأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} [الأعراف:133]، وقوله: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف:130]، فهذه تسع آيات بينات ليعلموا وليوقنوا أن هذا رسول من رب العالمين، وأن الله ناصر عباده المستضعفين. قال تعالى: {وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ} [الدخان:33]، كذلك آيات النعم على بني إسرائيل، فأنعم الله عز وجل عليهم بالآيات وأنزل المن والسلوى عليهم، وإن كانوا في التيه لكن الله عز وجل يمن وينزل ما يشاء سبحانه وتعالى، وقد أخبر الله عز وجل أنه ابتلاهم، والله عز وجل يبتلي عباده بالخير ويبتليهم بالشر، كما قال سبحانه: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35]، {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ} [الأنبياء:35]، فالشر في نظركم وإلا فكل ما يأتي من عند الله عز وجل فهو خير، ولكن العبد حين يبتلى بالمصيبة يستشعر الشر من ورائها، وإن كان الله له حكمة عظيمة في كل ما يصنعه. وقال: هنا: {وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ} [الدخان:33] أي: امتحان واختبار، {مُبِينٌ} [الدخان:33]، أي: بيّن واضح، فامتحنهم الله عز وجل لينظر هل يثبتون على الإيمان أم يكفرون، فكانوا يتقلبون: فيؤمنون حيناً ويكفرون أحياناً. فنبلوهم بالخير ونبلوهم بالشر، نبلوهم بالخير فأنزلنا عليهم المن والسلوى، ونهاهم نبيهم أن يدخروا شيئاً، فكلوا من طائر السلوى ما شئتم، ولا تدخروا شيئاً، وكذلك المن الذي ينزل من الأشجار، فكلوا من العسل ولا تدخروا شيئاً، فابتلاهم الله بالخير، وأعطاهم من الخير الكثير، فإذا بهم يطلبون: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا} [البقرة:61]، فيريدون فولاً وعدساً وثوماً، فقد ملوا اللحم والعسل، فابتلاهم الله بالخير فلم يصبروا، وقيل لهم: لا تدخروا، فادخروا اللحم، فخالفوا أمر الله عند ذلك، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن بني إسرائيل ادخروا اللحم ففسد؛ لأنهم إنما أمروا أن يأكلوا ولا يدخروا شيئاً، فكان الله يبتليهم ويمتحنهم، فلم يثبت منهم على الحق إلا القليل.

تفسير قوله تعالى: (إن هؤلاء ليقولون إن كنتم صادقين)

تفسير قوله تعالى: (إن هؤلاء ليقولون إن كنتم صادقين) قال تعالى: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ} [الدخان:34]، ذكرنا في أول السورة كيف أن قريشاً طغت على النبي صلى الله عليه وسلم، وأنهم أفسدوا في الأرض، وأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم ثم دعا لهم، فقال تعالى: {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ * يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} [الدخان:15 - 16]. ثم ذكر لهم فرعون وهو أشد منهم قوة، وكيف أن الله أهلكه، وكيف أن الله أنجى بني إسرائيل من فرعون وجنوده، فالله ضرب لنا هذا المثال حتى نعرف قدرة الله العظيمة سبحانه وتعالى، ثم رجع يتكلم عن قريش فقال: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ} [الدخان:34 - 35]، فهؤلاء الكفار من أهل مكة يقولون للنبي صلوات الله وسلامه عليه: {إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ} [الدخان:35]، وهذه هي عادة الكفار، فهم يقولون: {نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24] {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [الأنعام:29] أي: لن نبعث مرة أخرى، ثم يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ويقولون: لو بعثنا مرة أخرى فسيكون لنا أفضل مما في هذه الدنيا، فربنا قد أعطانا الكثير في الدنيا لفضلنا، ولأننا نستحق ذلك، فإذا بعثنا يوم القيامة سيؤتينا أيضاً، فهم لا يؤمنون بالبعث، ولكن كأنهم يتنزلون، أي: على فرض أن هناك بعثاً كما تقول: فسيؤتينا أكثر مما أعطانا في الدنيا؛ لأننا نستحق ذلك. {إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ} [الدخان:34] و (إن) هنا بمعنى: ما، و (إن) و (إلا) بمعنى: ما، من أسلوب القصر، أي: ما هو الأمر إلا موتة واحدة فقط، فسنموت وينتهي الأمر على ذلك، فهذه العقيدة التي كانت في قلوبهم وعقولهم هي التي كانت تدفعهم إلى الظلم، فيظلم الإنسان غيره ما استطاع؛ لأنه يعتقد ألا بعث بعد الموت. والإيمان بالبعث يهذب أخلاق الإنسان المؤمن، ويجعل المؤمن في خوف عظيم؛ لأنه يعلم أن هناك بعثاً، وأن الله عز وجل سيسأله في ذلك اليوم، فيندفع المؤمن إلى الخير، وأما الكافر فيندفع إلى عمل الشر؛ لأنه لا يتوقع بعثاً، فهو يريد كل شيء في الدنيا. قال الله سبحانه: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ} [الدخان:34] {إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ} [الدخان:35] أي: بمبعوثين، والإنسان إذا نام على الأرض فسينشر مرة أخرى، أي: يحيا مرة ثانية، {وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ * فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الدخان:35 - 36] أي: إذا كنت تزعم أننا سنرجع مرة أخرى فأدنا آبائنا الذين ماتوا من أجل أن نصدق ذلك، وكأن هؤلاء لا يريدون الإيمان بالغيب، وإنما يريدون المشاهدة، فيريدون أن يشاهدوا واحداً من الموتى يبعث أمامهم، وهذا كما قاله أبو جهل اللعين للنبي صلى الله عليه وسلم: (ابعث لنا قصي بن كلاب) أي: إذا كنت تريد ذلك فابعث لنا جدك قصياً، وكان رجل صدق، فإذا قال هذا الشيء صدقناك، فيا ترى لو حدث ذلك هل كانوا سيؤمنون؟ لا، فالله سبحانه يعلم بأن هؤلاء لن يؤمنوا، ولذلك لما تعنتوا مع النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا} [الإسراء:91 - 92]. فكل هذه الأشياء ويقول له قائلهم: ولو فعلت ذلك فلن نؤمن بك، أي: حتى لو عملت لنا كل الذي طلبناه منك فلن نؤمن لك، فكان كفرهم عناداً واستكباراً وحسداً للنبي صلى الله عليه وسلم على ما آتاه الله سبحانه من البنيات والهدى، فقالوا: {فأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الدخان:36]، فهم يكذبون البعث ولكن يقولون ذلك على وجه التعنت.

تفسير قوله تعالى: (أهم خير أم قوم تبع)

تفسير قوله تعالى: (أهم خير أم قوم تبع) قال الله عز وجل: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ؟} [الدخان:37]، أي: أن هؤلاء المغرورين، وهؤلاء القلة الحقيرون، هؤلاء القرشيون الذين هم ذنب الدنيا كلها، فبجوارهم فارس والروم، فلا الفرس يحسبون لهم قيمة، ولا الروم كذلك يحسبون لهم قيمة، وإنما هم قاعدون في حماية هؤلاء وهؤلاء، ويتشدقون بأنهم الملوك، فيخرج منهم الوفد لزيارة الروم أو الفرس، فيفدون عليهم ضيوفاً ويتعززون بذلك، وأما هم فلا قيمة لهم مع وجود البيت الحرام في بلدهم، فهم قد أدخلوا الأصنام في بيت الله الحرام، وعبدوا غير الله وأشركوا معه غيره، فأبغضهم الله سبحانه وتعالى، فجعل في قلوبهم الحسد والغل والبغض لبعضهم البعض، فلا يكون أحدهم مع الآخر إلا لأهداف دنيوية، ويغير بعضهم على بعض، ويأخذ بعضهم مال بعض، ويسبي بعضهم نساء بعض، فهذه كانت عادة هؤلاء الناس، فالله عز وجل يقول لهؤلاء الجهلة الذين يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم: أأنتم خير؟ أأنتم أقوى عدداً؟! أأنتم أكثر عدداً؟! أأنتم فيكم الخيرية أم قوم تبع الذين فتحوا الدنيا بأجمعها؟ و (تبع) لقب لمن يكون ملكاً على اليمن، وكذلك كل ملك يملك مصر يقال له: فرعون، وكل ملك يملك الحبشة يقال له: النجاشي، وكل ملك يملك الفرس يقال له: كسرى، ومن يملك الروم يقال له: قيصر، فـ (تبع) لقب لكل من ملك حمير، وسمو: (تبعاً)؛ لأنه يتبع بعضهم بعضاً، فهذا الملك ويتبعه غيره. وكان أشهرهم هو: أسعد الحميري أبو كريب، فهذا كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم ألف سنة، وقد جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أدري أتبع لعين أم لا؟)، أي: أنا لا أعرف، أتبع ملعون كافر أم لا؟ (وما أدري أعزير نبي أم لا؟)، فكان عليه الصلاة والسلام لا يدري في وقت من الأوقات، ثم أخبره الله سبحانه وتعالى بإسلام هذا الرجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا تبعاً فإنه كان قد أسلم)، فكان مسلماً رضي الله عنه، لكن ما الذي جعله يسلم مع أن قومه أهلكهم الله عز وجل؟ فقول الله عز وجل: أهؤلاء المشركون خير أم قوم تبع، ليس المراد ذات تبع؛ لأنه كان قد أسلم، وإنما المراد قومه، فقال الله عز وجل: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الدخان:37]، والذين من قبلهم من القرون، كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم، أهلكناهم جميعاً، وقد كانوا كثيرين جداً. وتبع هذا الذي فتح البلاد قالوا: إنه وصل إلى سمرقند فدمرها، ثم أعاد بناءها مرة أخرى، وكأن الله يقول لقريش: إن هذا الرجل من عندكم، وكان هو أول من كسا الكعبة، والكفار من قريش عندما أرادوا أن يبنوا الكعبة لم يجدوا أموالاً من الحلال، ولذلك لم تبن الكعبة على قواعد إبراهيم، فالجزء الذي من الحجر يكون ستة أذرع أو سبعة أذرع، فكان من المفروض أن يكون بداخل الكعبة، لكنهم أخرجوه، لقلة المال، فأين الخير في قريش؟! أأنتم أكثر مالاً وعدداً وقوة أم قوم تبع الذين فتح بهم تبع البلاد كلها؟! فدار بهم في الدنيا حتى وصل إلى المدينة، فقاتل أهلها، وقوم تبع كانوا أقوياء في العتاد والعدة، ولما كان هنالك أخبره بعض أهل الكتاب فقال له: إن هذه المدينة مهاجر نبي في يوم من الأيام، أي: النبي محمد صلوات الله وسلامه عليه فأسلم الرجل، وصدق بالنبي صلوات الله وسلامه عليه، وترك المدينة وذهب إلى الكعبة فكساها، وكان أول من كسا الكعبة هو تبع رحمه الله، وأما قومه فقد كانوا أشراراً. فالغرض: أن الله عز وجل أخبر عن قوم تبع، ولم يقل الله: تبع، كما ذكر فرعون، ولكن ذكر قومه، ولذلك أبي بن كعب يقول: إن الله عز وجل ذكر قوم تبع بأنهم كانوا أشراراً، وأما تبع فكان رجلاً مسلماً، {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [الدخان:37]، أي: أجرموا في حق خالقهم سبحانه، وأجرموا في حق الخلق فاستحقوا العقوبة، فإذا كنا قد أهلكنا قوم نوح وعاد وثمود، وأهلكنا أصحاب الأيكة، وأهلكنا قوم تبع، فهل أنتم القلة القليلة لا نقدر عليكم؟ وأنتم الذين تعنتم وكأن لكم قدراً كبيراً، وكأن لكم قيمة، كلا لكم شيء، ولا تستحقون أن يرد عليكم، قال: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنتَظِرُونَ} [السجدة:30]، حتى أهلك الله عز وجل من شاء منهم في يوم بدر، وآمن من شاء الله عز وجل منهم بعد ذلك واتبع النبي صلى الله عليه وسلم، وحسن إسلامه، وجاهد في سبيل الله عز وجل. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الدخان [37 - 50]

تفسير سورة الدخان [37 - 50] ما خلق الله الخلق إلا ليعبدوه، ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً وعبثاً، وأكثر الناس عن هذا غافلون أو جاهلون، وقد جعل الله لهم ميقات يوم معلوم؛ ليريهم فيه أعمالهم، فيرحم من يستحق الرحمة، ويعذب من يستحق العذاب، وهو العزيز الحكيم.

تفسير قوله تعالى: (أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم)

تفسير قوله تعالى: (أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الدخان: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ * يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلا هُمْ يُنصَرُونَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ * خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ * ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ * إِنَّ هَذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} [الدخان:37 - 50]. يقول الله سبحانه في هذه الآيات عن هؤلاء المشركين الذين تعنتوا مع النبي صلوات الله وسلامه عليه وآذوه وآذوا أصحابه: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} [الدخان:37]، فهؤلاء المشركون يظنون أنهم أكثر عدداً، وأقوى أبداناً، وأكثر سلاحاً من قوم تبع الذين كانوا من قبلهم، وتبع لقب لملوك اليمن، فكلما جاء منهم ملك لقب بذلك وإن اختلفت أسماؤهم، فمن هؤلاء الحارث الرائش، وأبرهة الذي أراد هدم الكعبة، ومنهم عمرو ذو الأذعار، ومنهم شمر بن مالك الذي تنسب إليه سمرقند، ومنهم أفريقيس بن قيس الذي سميت إفريقيا باسمه، قيل: إنه ساق السود إلى أفريقيا، فسميت إفريقيا باسم هذا الرجل. فالتبابعة كثيرون، وكانوا أقوياء جداً، وكان لهم عَدد وعُدد ولهم أتباع، فكان يتبع بعضهم بعضاً، فيموت منهم ملك ويأتي بعده ملك بمثل تلك القوة، وكان أكثرهم كفاراً، ولم يكن منهم على الإسلام إلا واحد فقط يسمى أسعد بن ملكي كرب، فهذا الملك اتبعه قومه وخرج مقاتلاً وفتح بلداناً كثيرة إلى أن جاء إلى المدينة وأراد فتحها، وقاتله أهل المدينة، وكان أهل المدينة غاية في الكرم، وكانوا يقاتلونه في النهار، ويطعمونه بالليل! فتعجب لحالهم، وكان معه قوم من اليهود، فسألهم عن هؤلاء وقال: ما وجدنا أكرم من هؤلاء، يقاتلوننا بالنهار ويقروننا بالليل، فقالوا: هذه بلد يهاجر إليها نبي في يوم من الأيام، فكف الرجل عن هذه البلدة، وقال فيها شعراً كان يتوارثه أهل المدينة. ثم أراد بعض الناس أن يمكر بهذا الملك فقالوا له: هل ندلك على مكان به اللؤلؤ وبه الذهب؟! اذهب إلى هذا البيت الذي بمكة، فإن هدمته وجدت فيه اللؤلؤ والذهب، وأرادوا أن يهلكه الله، وعلموا أن هذا البيت يحميه الله عز وجل، وأنه ما أراده أحد بسوء إلا أهلكه الله، فأشار عليه رجلان من خزاعة بذلك، وكان معه من اليهود من أتباع موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فقالوا له: احذر من ذلك، إن هذا البيت ما جاءه أحد يريده بشر إلا أهلكه الله، فقتل الرجلين وصلبهما، وكسا الكعبة، وأطعم أهلها، ونحر عندها، فكان أول من كسا الكعبة وأسلم، لكن قومه كانوا كفاراً. فالله عز وجل يذكر التبابعة غير هذا الرجل فيقول: {أَهُمْ خَيْرٌ} [الدخان:37] أي: هل هؤلاء المشركون خير في القوة وفي العدد وفي القتال من التبابعة ملوك أهل اليمن الذين فتحوا بلداناً عظيمة وقاتلوا أقواماً كثيرة وانتصروا عليهم؟ فإذا كنا أهلكنا السابقين أفلا نقدر على هؤلاء القلة الحقراء القليلين؟! {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الدخان:37] من القرون كقوم عاد وثمود وغيرهم، قال: {أَهْلَكْنَاهُمْ} [الدخان:37]، أي: أهلكنا السابقين {إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [الدخان:37]، أي: كانوا كفاراً خارجين عن طاعة الله عز وجل، فأجرموا في حق الدين، وأجرموا في حق الخلق، فاستحقوا أن نهلكهم، وكذلك كل مجرم يملي له ربه سبحانه حتى إذا أخذه لم يفلته.

تفسير قوله تعالى: (وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين)

تفسير قوله تعالى: (وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين) قال الله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الدخان:38] أي: هل خلقنا السموات عبثاً؟ وهل أوجدنا فيها النجوم والكواكب، وخلقنا فيها الشموس والأقمار، وجعلنا فيها ما فيها من ملائكة وخلق لا يعلمهم إلا الله عز وجل عبثاً أم خلقنا ذلك حقاً؟ لقد خلقها الله بالحق، وليعلم من هو الله سبحانه، ولتعرف قدرة الله سبحانه، فيذل العباد لله عز وجل، ويخضعون له ويخشونه، ويعبدونه الله ويطيعونه. قال الله: {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الدخان:39] أي: بالأمر الحق من الله عز وجل: كن فيكون، فقد خلقها بالحق، وخلقها ليقضي بين العباد بالحق، وخلقها لتكون سبباً للحق، فتوجد الشريعة على هذه الأرض ليعبدوا الله عز وجل بالحق. قال الله: {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الدخان:39] أي: أن أكثر الناس يجهلون هذا؛ لأنهم لا يتفكرون، ولو أنهم نظروا نظر المتفكرين المعتبرين المتعظين لعلموا أن الله سبحانه لم يخلق خلقاً عبثاً ولعباً، وإنما خلق الله عز وجل كل شيء لحكمة، قال الله: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ * فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية:17 - 21]، أي: ذكر بهذه الأشياء، وذكر بهذه الشريعة، وذكر بربك سبحانه، وذكر بالحق الذي جاء من عند الله، ولكن أكثرهم لا يعلمون.

تفسير قوله تعالى: (إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين)

تفسير قوله تعالى: (إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين) قال الله: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} [الدخان:40]، الفصل هو الحكم والقضاء؛ لكونه يفصل فيه بين الخصوم، ويفصل فيه بين الحق والباطل، وبين المحق والمبطل، وبين المؤمن والكافر، وبين البار والفاجر، فيفصل الله سبحانه فيه بين الخلق، فيدخل الرجل الجنة وقد تدخل زوجته النار، ويدخل الابن الجنة وقد يدخل أبوه النار، فيفصل الله عز وجل بين العباد بالقضاء الحق سبحانه. {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ} [الدخان:40] أي: موعدهم، {أَجْمَعِينَ} [الدخان:40]، كما قال سبحانه: {لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة:3]، أي: يفصل بين العباد، فهذا يذهب إلى هنا وهذا يذهب إلى هنا.

تفسير قوله تعالى: (يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا)

تفسير قوله تعالى: (يوم لا يغني مولى عن مولى شيئاً) قال الله سبحانه: {يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [الدخان:41]، المولى من الولي، والولي القرب، فكأن الإنسان الولي قريب، فالحميم قريبك مثل أبيك وابنك وأخيك وابن عمك وصاحبك ومن يلي أمرك، فهذا هو الولي، فلا يغني هناك مولى عن مولى، وفي الدنيا الأب قد يغني عن ابنه، والابن قد يغني عن أبيه، والمولى السيد الناصر قد يغني عن مولاه الذي ينصره ويتولاه، وأما يوم القيامة فكما قال الله: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37]. (يَوْمَ لا يُغْنِي) أي: لا يدفع ولا يدافع مولى عن مولى شيئاً، (ولا هم ينصرون)، أي: لا ناصر ينصره، ولا يغني أحدهم عن الآخر شيئاً، ولا يجدون من ينصرهم.

تفسير قوله تعالى: (إلا من رحم الله إنه هو العزيز الرحيم)

تفسير قوله تعالى: (إلا من رحم الله إنه هو العزيز الرحيم) {إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ} [الدخان:42]، استثنى الله سبحانه من رحمه عز وجل، فالله ناصره، والله معه، والله مؤيده، والله يرحمه ويدخله الجنة، نسأل الله عز وجل أن ينصرنا وأن يجعلنا من أهل جنته! {إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الدخان:42]، عبر الله بهذين الاسمين، وأحدهما يدل على القوة والمنعة لله سبحانه، والآخر يدل على الرحمة، ويوم القيامة يجمع هاتين الصفتين، فهو غزيز سبحانه حيث يدخل أعداءه جهنم، ورحيم حيث يرحم أولياءه سبحانه، فهو العزيز الذي لا يرام جنابه سبحانه، المنيع الجناب القوي الذي تعزز على خلقه سبحانه، ولا يقدر أحد أن يوصل إليه مكروهاً، ولا يعجزه شيء {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، وهو الرحيم {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43].

تفسير قوله تعالى: (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم)

تفسير قوله تعالى: (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم) قال الله تعالى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ} [الدخان:3]، فبعد أن ذكر الله أن مصير الكفار إلى النار ذكر شجرة الزقوم، وهي الشجرة الملعونة في القرآن، وهي شجرة ملعونة لا يوجد فيها رحمة، ولا هي في مكان رحمة، واللعن الطرد من الرحمة، فليست في محل رحمته سبحانه، وليست في جنته ولكنها في ناره، فهي شجرة مطرودة من رحمة الله وموضوعة في النار؛ لتكون عذاباً لأهلها والعياذ بالله، والزقوم مأخوذ من الزقم، وهو اللقم للشيء، أي: وضع الشيء في الفم ودفعه فيه، فيتزقمونها في النار ويأكلونها كرهاً، ولا أحد يأكلها طوعاً، وفيها الشوك الذي يقف في الحلوق، فلا يأكلونها إلا زقماً ولقماً ودفعاً في أفواههم. قال الله: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ} [الدخان:43 - 44]، والأثيم هو الآثم الفاجر اللئيم، الذي أعرض عن الله سبحانه، وكفر بالله سبحانه، فاستحق أن يكون من أهل النار والعياذ بالله. والأثيم جنس فيعم كل إنسان أثيم كفور، وكل إنسان عنيد متكبر على الله سبحانه ومتكبر على خلق الله سبحانه، وكل إنسان خارج من طاعة الله، فهذا طعام الأثيم، وليس لهم طعام غيره، فطعامهم شوك يقف في الحلوق، وطعامهم الزقوم، ولو أن قطرة من الزقوم نزلت إلى الدنيا، لأفسدت على العباد مياههم وبحارهم وأنهارهم وطعامهم، فكيف بمن تكون طعامه؟!

تفسير قوله تعالى: (كالمهل يغلي في البطون)

تفسير قوله تعالى: (كالمهل يغلي في البطون) قال الله: {كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان:45 - 46]، فيأكلون من هذه الشجرة فتنزل إلى بطونهم فتغلي في بطونهم، وكأنهم أوقدوا ناراً للقدور في بطونهم! والمهل هو النحاس المذاب، فالماء يغلي في مائة درجة مئوية، وأما النحاس والحديد فمن أجل أن يكون ذائباً فإنه يحتاج إلى أكثر من ألف ومائتين وخمسين درجة مئوية حتى يذوب، فإذا وضع في بطون هؤلاء فكيف يكون حالهم؟! قال الله: {يَغْلِي فِي الْبُطُونِ} [الدخان:45] أي: في بطون هؤلاء الكفار الذين سخروا من النبي صلى الله عليه وسلم فاستحقوا النار، وعلى رأسهم أبو جهل لعنة الله عليه، فقد سمع هذه الآية عن شجرة الزقوم فقال: شجرة في النار! فإذا به يستهزئ ويستهين بما يسمعه، وقال للكفار: تعالوا نتزقم، إنه يكلمنا عن شجرة الزقوم، فهذا هو الزقوم، فأعطاهم تمراً وزبدة، وقال: هو تمر يثرب بالزبد، فهذا الذي يخوفنا منه، اجلسوا وكلوا من هذا الزقوم الذي يخوفنا به محمد صلى الله عليه وسلم! فالله يقول له: هذا الزقوم ستراه وستأكله في جهنم، ونزقمك به في نار جهنم والعياذ بالله، فهو طعام الأثيم كهذا الكافر أبي جهل وأمثاله، (كالمهل) أي كالنحاس المذاب. {يَغْلِي فِي الْبُطُونِ} [الدخان:45] هذه قراءة ابن كثير وحفص عن عاصم ورويس عن يعقوب، وباقي القراء يقرءونها بالتاء: (تغلي في البطون). قال الله: {كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان:46] وهو السائل الذي بلغ النهاية في درجة الحرارة، ومنه سمي الحمام حماماً، لكونه فيه الماء الحار، ومنه الحمى التي يصاب بها الإنسان، فالحميم المذكور هنا هو السائل الذي بلغ النهاية في درجة الحرارة والعياذ بالله. وهذه الشجرة بشعة في طعمها، بشعة في منظرها، قال الله عز وجل عن هذه الشجرة: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات:65]، فهي كالشيطان، وأنت لم تر الشيطان، ولكن عادة الإنسان حين يتكلم عن شيء جميل جداً يقول: مثل الملاك، وعندما يتكلم عن شيء قبيح وبشع جداً يقول: مثل الشيطان، فهي غاية في البشاعة، فمنظرها مخيف، في نار مظلمة، فكيف بطعمها؟! وكيف بحرارتها في بطون هؤلاء؟!

تفسير قوله تعالى: (خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم)

تفسير قوله تعالى: (خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم) قال الله: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الدخان:47]، ((فَاعْتِلُوهُ)) بكسر التاء قراءة أبي عمرو والكوفيين وأبي جعفر، وقرأ باقي القراء بالضم: (فاعتُلوه). والعتل هو الدفع بقوة، يقال: عتلت الشيء إذا أمسكت بتلابيبه، وكأن المعنى: خذوه وارموه في نار جهنم، فزبانية النار لا يقولون له: تفضل ادخل إلى جهنم، ولكن يرمى إليها رمياً، قال الله: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور:13]، فيساقون ويدفعون في أقفائهم حتى يدخلوا النار والعياذ بالله. فيقال: خذوا أبا جهل اللعين ومن كان مثله من الكفار، فاعتلوهم واحداً واحداً وليس جميعاً، بل واحداً واحداً حتى يذوقوا العذاب، فيلقى في نار جهنم ولا يجد له ملجئاً يهرب إليه. قال: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الدخان:47] أي: يرمونه حتى ينزل في وسط جهنم والعياذ بالله، فكم تكون قوة هذه الدفعة؟! يحمل الكفار من خارج النار، ويلقى في نار جهنم حتى يصل إلى وسط النار فيرتطم بقعر جهنم والعياذ بالله! وليس هناك موت يريح هذا الإنسان، وعندما يسقط إنسان من الدور العاشر أو من الدور العشرين أحياناً يموت قبل أن يصل إلى الأرض؛ من شدة الرعب، فعندما ينزل إلى الأرض لا يشعر بشيء، لكن في نار جهنم لا يوجد موت، لا يموتون فيها فيستريحون ولا يحيون فيها حياة كريمة، وإنما يحس دائماً بقدر العذاب في النار والعياذ بالله.

تفسير قوله تعالى: (ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم)

تفسير قوله تعالى: (ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم) قال الله: {ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ} [الدخان:48] بعد أن يطعم من النار يقال: صبوا فوق رأسه من عذاب النار، {ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ} [الدخان:48]، فيضرب على رأسه فينفلق رأسه، ويصب بداخله على مخ هذا الإنسان من الحميم من سوائل النار البالغة أقصى درجات الحرارة والعياذ بالله! ثم يقال له: (ذُقْ) ذق الآن الذي كنت تسخر منه في الدنيا، قال الله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49]، فقد كان هذا الكافر يتعنت ويقول: أنا أعز رجل في قومي، ولا أحد يستطيع علي بشيء، فيا من كنت تتعزز في الدنيا ذق أيها العزيز! وهذا من باب الاستخفاف والإهانة والسخرية والاستهزاء به، أي: أرنا عزتك أين هي؟ فيصب فوق رأسه من عذاب الحميم، ويقال له: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49]، فقد كنت مكرماً في الدنيا، وكان الناس يكرمونك ويقفون لك، فهذا إكرامنا لك في نار جهنم والعياذ بالله! وقوله: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49] هذه قراءة الجمهور، وقراءة الكسائي: (ذق أنك أنت العزيز الكريم)؛ أي: لأنك كنت تصف نفسك بذلك، وهذا هو أبو جهل، فحين كان يخوفه النبي صلى الله عليه وسلم بالله سبحانه ويقول له: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} [القيامة:34]، قد قاربك ما يهلكك، قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أتخوفني بربك؟! قد علمت قريش أني أعزها، فهذا جاهل بالله سبحانه، فهذا المجرم أبو جهل يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: لا أحد يستطيع علي بشيء، ويتكبر على الخلق فيسبهم، ثم يسب الخالق سبحانه، فهذا حاله في نار جهنم، فانظر إلى أبي جهل الذي كان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: بأي شيء تهددني؟! والله لن تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئاً، إني لمن أعز هذا الوادي وأكرمه على قومه! فقتله الله عز وجل في يوم بدر، وترك أياماً على الأرض حتى صار جيفة منتنة، وألقي بعد ذلك هو ومن معه قليب بدر، وهي بئر من آبار بدر.

تفسير قوله تعالى: (إن هذا ما كنتم به تمترون)

تفسير قوله تعالى: (إن هذا ما كنتم به تمترون) قال الله عز وجل: {إِنَّ هَذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} [الدخان:50] أي: إن هذا ما كنتم به تكذبون وتتشككون فيه، وأصل الامتراء أن الإنسان يجادل في الشيء الذي يتشكك في أمره، فتقول الملائكة للكفار: هذا الشيء الذي كنتم تشكون فيه، وتجادلون فيه بالباطل، فذوقوا عذاب رب العالمين. فهذا شيء من العذاب ذكره الله عز وجل، وفي ذلك عبرة لمن اعتبر، وعظة لمن اتعظ، فالإنسان المؤمن حين يسمع ذكر النار يخاف على نفسه أن يكون من أهلها، فيتعوذ بالله عز وجل من النار، ويسأل الله جنته. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا في جنته، وأن يجيرنا من عذابه وناره. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الدخان [51 - 59]

تفسير سورة الدخان [51 - 59] ذكر الله في كتابه ما أعده لعباده المتقين في جنات النعيم، من أنواع الملذات والمسرات: من المآكل والمشارب والزوجات، ومن الأمن من جميع المنغصات والمحزنات، فمن نجاه الله من النار وأدخله الجنة فقد فاز الفوز العظيم.

تفسير قوله تعالى: (إن المتقين في مقام أمين)

تفسير قوله تعالى: (إن المتقين في مقام أمين) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الدخان: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ * كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ * يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ * لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ} [الدخان:51 - 59]. هذه الآيات الأخيرة من سورة الدخان يذكر الله عز وجل فيها حال أهل النعيم وأهل الجنة، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم، وهذا بعد أن ذكر حال أهل النار، وأنهم يدعون فيها، وطعامهم فيها الزقوم، وشرابهم فيها الحميم، ويقال لكل واحد منهم: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ * ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:47 - 49]، أي: كنت متعززاً في الدنيا، مكرماً لنفسك لا تهينها، وتتطاول على الخلق، وتظن أن هذا ينفعك يوم القيامة، فيا من كنت عزيزاً كريماً في الدنيا ذق عذاب الحميم وعذاب الجحيم والهوان والعذاب الأليم في النار، {إِنَّ هَذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} [الدخان:50] أي: هذا الذي كنتم تتشككون فيه وتجادلون فيه بالباطل. وأما المتقون الذي جعل الله عز وجل هذا القرآن هدى لهم، والذين اتقوا غضب الله سبحانه، والذي جعلوا بينهم وبين معاصي الله وقاية وحاجزاً، فامتثلوا الطاعات، وامتنعوا عن الوقوع في المعاصي، وخافوا الله سبحانه، فأمنهم الله يوم القيامة: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} [الدخان:51]، وأمين صيغة مبالغة من الأمن، فهم في مكان غاية في الأمن، مأمون عليهم فيه، وأمنهم الله سبحانه يوم الفزع الأكبر، ويوم العيلة، ويوم الذلة، ويوم القيامة، فأمن الله عز وجل عباده المتقين الذين كانوا يخافونه في الدنيا، وكانوا من عذاب ربهم مشفقين. وقراءة الجمهور: ((مَقَامٍ)) من الفعل الثلاثي قام، وقرأها نافع وأبو جعفر وابن عامر: ((فِي مُقَامٍ)) من الفعل الرباعي أقام، يقال: أقام مقاماً، فكأن المقام الذي يقومون فيه المكان الذي يشرفون به أمين، والإقامة التي ينزلون فيها أمينة، فهي مكان أمين عند الله سبحانه، والجنة إذا دخلوها لا يخرجون منها أبداً؛ لأن الله جعل لهم الخلود فيها فلا أحد يقدر أن يخرجهم بعد ما قضى الله عز وجل لهم بالخلود في جنته. قال الله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} [الدخان:51] أي: في أمن وأمان، وفي شرف، وفي رفعة.

تفسير قوله تعالى: (في جنات وعيون)

تفسير قوله تعالى: (في جنات وعيون) قال الله: {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الدخان:52]، فقد دخلوا جنة الله سبحانه، فوجد كل واحد لنفسه جنات في جنة الله سبحانه، وهي بساتين وحدائق عظيمة، (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر). قال الله: {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الدخان:52]، فالإنسان الذي عنده بستان أكثر شيء يخاف منه هو ألا يوجد ماء لهذا البستان، فطمأنهم الله بأن عندهم العيون جارية لا يكدرها شيء، فلا تفنى ولا تقل؛ لأن الله عز وجل قضى هنالك بالخلود. (وعيون) تقرأ بضم العين، وتقرأ بكسرها، فقرأ بالكسر ابن كثير وابن ذكوان وحمزة والكسائي وشعبة عن عاصم، وباقي القراء يقرءونها بالضم.

تفسير قوله تعالى: (يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين)

تفسير قوله تعالى: (يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين) قال الله تعالى: {يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ} [الدخان:53]، ففضل الله عز وجل عظيم، والجنة ليست كالدنيا، الجنة فيها أشياء غيبية يحدثنا الله عز وجل عنها، فأهل الجنة متقابلون، فمهما كثر العدد فلا أحد ينظر في قفا الآخر، ولا أحد يعطي للآخر ظهره، وإذا أراد أحدهم أن يكلم صاحبه يدور به مقعده حيث شاء، وينظر إلى من يشاء، ولا يوجد غرور في الجنة، ولا تنافر، ولا تدابر، ولا تخاصم، فيقبل بعضهم على بعض كما يقول الله سبحانه: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:50]. وأهل الجنة في نعيم يحبرون ويسرون، ويتفكهون، ويتكلمون بالكلام الطيب، ويلهمون التسبيح وذكر الله سبحانه، ويذكرون ما كان في الدنيا، فيقولون: {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:26 - 28]. فأهل الجنة يتذكرون نعمة الله عز وجل عليهم، فالله البر دلهم على فعل البر فدخلوا الجنة، والله الرحيم رحمهم فجعلهم من أهل جنته، فالفضل منه سبحانه، فهو صاحب الفضل العظيم الذي هدانا، وهو الذي علمنا، وهو الذي أخذ بأيدينا حتى أدخلنا جنته سبحانه؛ لأننا كنا قبل ذلك مشفقين، وكنا خائفين من رب العالمين، فأمننا ربنا سبحانه. قال الله: {يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} [الدخان:53] هذه ثيابهم، والسندس هو الرقيق من الحرير، والإستبرق الغليظ من الحرير، والإنسان يلبس ما يشتهي، فهذا يريد أن يلبس حريراً رقيقاً، وهذا يريد أن يلبس حريراً غليظاً، والحرير لا يجوز لبسه للرجال في الدنيا، ومن لبسه في الدنيا يحرم منه في الآخرة، فلا يدخل الجنة، وأما من دخل الجنة فإنه يلبسه، ولا يحرم من شيء في الجنة، فالمؤمنون يلبسون من رقيق الحرير ومن غليظ الديباج. وقال الله: {مُتَقَابِلِينَ} [الدخان:53] أي: يقبل بعضهم على بعض كما شاء الله سبحانه، فيواجه بعضهم بعضاً، وتدور بهم مجالسهم حيث داروا.

تفسير قوله تعالى: (كذلك وزوجناهم بحور عين)

تفسير قوله تعالى: (كذلك وزوجناهم بحور عين) قال: {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} [الدخان:54] (كذلك) أي هذا الذي ذكرناه لكم لكل إنسان مؤمن مثله، وأيضاً نزوجهم بالحور العين، والحوراء المرأة الجميلة التي خلقها الله عز وجل للجنة، فما نزلت إلى الدنيا ولا تدنست بها، وقد خلقها الله في الجنة وجعلها لأهل الجنة ينعمون بها، والعين المرأة العيناء الواسعة العين، يقال: هذا الرجل أعين، يعني: عينه واسعة، وهذه المرأة عيناء، أي: واسعة العين، والجمع عين، فيذكر الله فيهن صفتين: صفة الحور وصفة العين، فهن واسعات الأعين، وهن حوراوات، بمعنى: أن العين غاية في الجمال، فبياضها شديد البياض، وسوادها شديد السواد، والإنسان في الدنيا كلما يتقادم في السن وترهق عيناه بالقراءة والكتابة، وبالعمل؛ عينه تحمر ولون العين يتغير، لكن الحوراء ليست مكلفة بشيء، فهي لا تتعب نفسها بشيء، بل هي مرفهة منعمة في الجنة، فعينها غاية في الجمال، فبياض عينها بياض عظيم، وسواد عينها سواد في غاية الجمال. فأهل الجنة زوجهم الله عز وجل بحور عين، وفي الدنيا الإنسان له أن يتزوج بأربع، وأما في الجنة فيزوج الشهيد باثنتين وسبعين من الحور العين، ولهم فيها ما يشاءون، ومن كظم غيظه يخيره الله من الحور العين ما يشاء على رءوس الخلائق، فيختار من الحور العين ما شاء، فمن مهر الحور العين الصبر في الدنيا على الأذى، وكظم الغيظ، وكتم الغضب إلا أن يكون غضباً لله سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (يدعون فيها بكل فاكهة آمنين)

تفسير قوله تعالى: (يدعون فيها بكل فاكهة آمنين) قال الله سبحانه: {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ} [الدخان:55]، ذكر الأمان هنا مرة ثانية، والأمان نعمة عظيمة من نعم الله عز وجل، ويعرف الإنسان هذه النعمة حين يخاف من عدو أو من وال أو سلطان أو حاكم أو رئيس؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من بات آمناً في سربه، معافىً في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها)، وكثير من الناس لا يعرف قدر هذه النعمة، (بات آمناً في سربه) سرب الإنسان هو المكان الذي يسير فيه، فهو المكان الظاهر، فيمشي وهو غير مختف، بل يمشي في مكان ظاهر وهو آمن، (معافىً في بدنه) يعني: ليس مريضاً. (عنده قوت يومه)، ولم يقل: قوت سنته، أو قوت شهره، أو قوت أسبوعه، عنده قوت يومه، فهو آمن في مكانه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فهذه هي الدنيا كلها، والإنسان مهما جمع من خيرات الدنيا كلها فلن يأكل في أكثر من بطن واحدة، وإذا امتلأت فمهما كان هناك من الطعام فلن يأكله، والعافية نعمة من الله سبحانه عظيمة، والله عز وجل يمن على أهل الجنة بالأمن والأمان، كما قال الله: {لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62]، لا يخافون من مستقبل أمامهم، ولا يحزنون على ماض فاتهم، فالله عز وجل قد أمنهم وأعطاهم هذا النعيم، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم ومعهم. قال الله: {يَدْعُونَ فِيهَا} [الدخان:55] أي: يطلبون وينادون: هاتوا لنا كذا، ونريد كذا، فمن في الجنة يعطى أي شيء يطلبه، فيشير إلى الأشجار وإلى الثمار فتنزل إليه، ويشير إلى الطير فينزل إليه كما يريده مشوياً أو مقلياً، وغلمان أهل الجنة يأتونهم بما يشاءون، والملائكة يأتونهم بما يشاءون، فهذا نعيم عظيم من فضل رب العالمين سبحانه، فنسأله سبحانه ألا يحرمنا منه. وعندما أدخل الله آدم الجنة حظر الله عز وجل عليه صنفاً واحداً، فقال: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة:35]، وأما أهل الجنة إذا دخلوها فلا يوجد تكليف، ولا شيء عنهم محظور مما في الجنة، فيأكلون ما يشاءون منها، والله امتحن آدم لحكمة حتى ينزل إلى الأرض، وأما أهل الجنة فلا نزول إلى الأرض مرة ثانية. قال الله: {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ} [الدخان:55]، فذكر الله دعاءهم بالفاكهة، ولم يتعرض لأقواتهم؛ لأنهم لا يجوعون أصلاً، فيأكل ما يشاء، ويشرب ما يشاء، ويتفكه بما يشاء.

تفسير قوله تعالى: (لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى)

تفسير قوله تعالى: (لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى) قال الله تعالى: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان:56] لا موت في الجنة، فقد انتهى أمر الموت، فهو كان الموت في الدنيا، وأما في الجنة فخلود. قال: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان:56] أي: الموتة التي ذاقوها في الدنيا، فالإنسان يذوق موتتين ويحيا حياتين، الموتة الأولى: هي العدم الذي كان فيه، ثم بعد ذلك صار في الدنيا، فهذا العدم ينساه الإنسان، ولا يتذكر شيئاً منه، ولا يذكر إلا وهو في الدنيا، بل لا يذكر كيف ولد، وكيف كان وهو صغير، ينسى هذا كله، لكن الموتة التي يحس بها هي في خروجه من الدنيا، ثم بعد ذلك يحيا الحياة الأخرى في جنة الخلود إن كان مؤمناً، فهذه الحياة العظيمة الكريمة لا يذوقون فيها موتاً بعد ذلك {إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان:56] يعني: ولكن ما كان قبل ذلك من الموت في الدنيا. قال الله: {وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [الدخان:56] وقاهم الله سبحانه عذاب الجحيم، والجحيم هي النار المشتعلة المتوقدة، وهي مأخوذة من الجحم، يقال: في عين الأسد جحمة، يعني: عينه ملتهبة حمراء، فكذلك نار جهنم والعياذ بالله حمراء مشتعلة ملتهبة، وتكون سوداء على أقوام، ويكون فيها ما شاء، نسأل الله العفو والعافية.

تفسير قوله تعالى: (فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم)

تفسير قوله تعالى: (فضلاً من ربك ذلك هو الفوز العظيم) قال الله: {فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ} [الدخان:57] أي: هذا الذي أعطاه لأهل الجنة هو تفضل منه عليهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته)، فهذه رحمة الله عز وجل، فالله أدخلهم الجنة بفضله وبرحمته سبحانه. {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الدخان:57] (ذلك) أي: جنة الله والنعيم المقيم، (هو الفوز العظيم)، فالفوز في الدنيا أن يفوز الإنسان بالمال، أو بالجائزة، أو بالمنصب، ولكن كل هذا الفوز تفوز به إلى حين، وبعد ذلك لا تنعم بهذا الشيء، فالإنسان يفرح إذا أخذ الشهادة وتخرج من الجامعة، فهذا فوز، لكن قد يبحث عن عمل فلا يجد، فيرجع إلى البيت كأنه ما أخذ شيئاً، فلم ينعم بهذا الشيء، ولعله يجد وظيفة، فيفوز بها، ويصرف له مرتباً كبيراً، ثم يصرف هذا المرتب وينتهي، فكل فوز في الدنيا بعده أشياء تنغصه، لكن الفوز الحقيقي هو النجاة من غضب الله، ومن عذاب الله سبحانه، الفوز العظيم هو دخول جنة الخلد، قال ربنا سبحانه: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185]، فكأن النار تشده، ورحمة الله سبحانه تخرجه، فيفوز وينجو من النار ويدخل الجنة، فكيف بمن يدخل الجنة مع السابقين، فهذا أعظم الفوز عند رب العالمين.

تفسير قوله تعالى: (فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون)

تفسير قوله تعالى: (فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون) ختم الله السورة بقوله سبحانه: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الدخان:58]، وقد أشار إلى القرآن في أول هذه السورة فقال: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان:1 - 3]، فبدأ السورة بذكر هذا القرآن العظيم، وقال: {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الدخان:6]، وختم السورة بالإشارة إلى هذا القرآن العظيم فقال: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} [الدخان:58]، كما قال: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195] أي: بلسان النبي الفصيح صلوات الله وسلامه عليه، وكما قال: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]، فجعله سهلاً في حفظه، والكتاب الوحيد الذي يسهل على الناس أن يحفظوه هو هذا القرآن العظيم، فيحفظه العربي، ويحفظه الأعجمي، ومن أراد أن يحفظ هذا القرآن ييسر الله عز وجل له حفظه. {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الدخان:58] أي: يتعظون ويعتبرون. ثم قال الله: {فَارْتَقِبْ} [الدخان:59] أي: ارتقب يوم القيامة، وارتقب يوم يأتي أمر الله سبحانه، {إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ} [الدخان:59] أي: هم ينتظرون لك الدائرة في الدنيا، وانتظر بهم أنت، فعليهم الدائرة، وسيأتيهم أمر الله سبحانه. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الجاثية

تفسير سورة الجاثية [1 - 6] يرشد الله سبحانه وتعالى خلقه إلى التفكر في آلائه ونعمه وقدرته العظيمة التي خلق بها السماوات والأرض وما فيهما من المخلوقات المختلفة الأجناس والأنواع، من الملائكة والجن والإنس والدواب والطيور والوحوش والسباع والحشرات، وما في البحر من الأصناف المتنوعة، واختلاف الليل والنهار، وتصريف الرياح، والسحاب المسخر بين السماء والأرض، وكل هذه تدل على عظمة الخالق سبحانه، وأنه المستحق للعبودية وحده لا شريك له.

مقدمة بين يدي تفسير سورة الجاثية

مقدمة بين يدي تفسير سورة الجاثية الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الجاثية: {حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية:1 - 6]. هذه السورة الخامسة والأربعون من كتاب الله عز وجل وهي سورة الجاثية، وهي السورة السادسة من آل حم، وأول سور الحواميم غافر، يليها فصلت، يليها الشورى، يليها الزخرف، يليها الدخان، يليها الجاثية، يليها الأحقاف، سبع سور بدأها الله عز وجل بـ (حم)، وترتيب نزولها على ترتيب ورودها في المصحف العظيم، فهذه السورة هي السادسة في نزولها من الحواميم. وتسمى بسورة الجاثية، لأن فيها ذكر يوم القيامة، قال الله عز وجل: ((وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً)) والجثو: هو النزول على الركب، يكون الإنسان قد نصب قدميه واتكأ على ركبتيه كهيئة الذي يكاد أن يقع ساجداً، هذا هو الجاثي، جثا على ركبتيه، يعني: جلس جلسة الخاشع الذليل، فكذلك الأمم يوم القيامة تجثو على الركب تنتظر ما الذي يصنع بها، وتسمى أيضاً بسورة الشريعة؛ لأن الله عز وجل ذكر فيها: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية:18]. سورة الجاثية هي سورة مكية، وفيها خصائص السور المكية من ذكر آيات الله سبحانه وتعالى، من خلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار، وتصريف الرياح، وما أنزل الله عز وجل من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها، وبث فيها من كل دابة، وكل هذا يدعو الخلق إلى أن يتفكروا في آيات الله سبحانه وتعالى؛ ليؤمنوا وليوقنوا وليعقلوا بما ذكر الله سبحانه وتعالى، وهذه السورة فيها ذكر ما كان من تكذيب السابقين، ومن تكذيب القرشيين وأهل مكة للنبي صلوات الله وسلامه عليه، وأيضاً فيها ذكر شيء من اعتقاد هؤلاء الجهلاء من الكفار من أنهم في هذه الحياة الدنيا يموتون ويحيون وما يهلكهم إلا الدهر، ولا بعث في ظنهم، فيخبر تعالى أن هذا كذب وسترون يوم القيامة: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:28]. ثم يذكر الله سبحانه وتعالى الجنة وأهل الجنة وما يصيرون إليه من نعيم مقيم، ويذكر النار وأهل النار وما يصيرون إليه من عذاب أليم. آيات هذه السورة سبعة وثلاثون في العدد الكوفي، وستة وثلاثون آية عند باقي القراء، وسبب الخلاف (حم)، فعدها الكوفيون آية مستقلة، وعند غيرهم (حم) وما بعدها آية واحدة: (حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم) هذه الآية الأولى في غير المصحف الكوفي. وكلمة (حم) الحاء تمد حركتين مداً طبيعياً، والميم تمد مداً طويلاً. والحاء فيها الفتح وفيها الإمالة وفيها التقليل، الفتح قراءة الجمهور، والإمالة قراءة ابن ذكوان وشعبة عن عاصم وحمزة والكسائي وابن خلف، والتقليل قراءة الأزرق عن ورش وأيضاً هي قراءة أبي عمرو بخلفه.

تفسير قوله تعالى: (حم، تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم)

تفسير قوله تعالى: (حم، تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم) قال الله تعالى: {حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الجاثية:1 - 2] دائماً تجد بعد ذكر فواتح السور الإشارة إلى القرآن، وفواتح السور فيها التحدي بأن هذا القرآن العظيم مكون من حروف أنتم تنطقون بها وأنتم تحفظونها، فائتوا بمثل هذا القرآن، إن كنتم تقدرون فافعلوا، ثم قال: هاتوا عشر سور مثله مفتريات، ثم قال لهم: هاتوا سورة واحدة إن كنتم تقدرون على ذلك. وهنا قال تعالى: ((تَنزِيلُ الْكِتَابِ)) أي: هذا تنزيل الكتاب، على أن قوله: ((تنزيل)) خبر، أو أن قوله: ((تَنزِيلُ)) مبتدأ، وجملة: ((مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)) الخبر. فقوله: ((تَنزِيلُ الْكِتَابِ)) فيه إشارة إلى صفة من صفات الله عز وجل وهي صفة العلو؛ لأن الكتاب نزل من عنده سبحانه وتعالى، جاء من عند الله العزيز الحكيم الذي هو في السماء سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك:16 - 17] فله العلو سبحانه وتعالى، علو الشأن وعلو القهر وعلو الذات، فهو فوق سماواته مستو على عرشه، بائن من خلقه سبحانه وتعالى. فالكتاب نزل من عند رب العالمين، نزل بواسطة روح القدس جبريل الأمين عليه السلام على النبي صلوات الله وسلامه عليه. قال تعالى: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} ذكر هنا ثلاثة من أسمائه سبحانه: (الله) وهو اسمه الأعظم سبحانه وتعالى، لفظ الجلالة (الله) المعبود سبحانه وتعالى. ثم (العزيز) أي: الذي له العزة وله الكمال سبحانه وتعالى، وهو العزيز الغالب الذي لا يغالب، الذي إذا أمر بشيء لابد وأن يكون على ما أمر به سبحانه، الذي لا يمانع، وإذا نهى عن شيء سبحانه وتعالى وأراد شيئاً لابد وأن يكون كما يريد سبحانه وتعالى. (الحكيم) أي: أنزل الكتاب بحكمته سبحانه وتعالى، وجعله منجماً، وكانت الكتب قبل ذلك تنزل على الرسل مرة واحدة، والقرآن نزل إلى بيت العزة في السماء الدنيا في ليلة القدر، ونزل بعد ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاث وعشرين سنة، من الله الحكيم سبحانه الذي له الحكمة البالغة، بأن جعل هذا القرآن العظيم على هذا النحو الذي نقرؤه ونحفظه ونتلوه، وجعل فيه هذه الأحكام العظيمة، وأنزله على النبي الكريم، واختاره من بين الخلق أجمعين عليه الصلاة والسلام، وجعل هذه الأحكام التي في القرآن أحكاماً في العهد المكي وأحكاماً في العهد المدني، ونسخ ما شاء من الأحكام بحكمته سبحانه، فهو الذي يحكم كل شيء سبحانه وتعالى، ويحكم في كل شيء سبحانه، فهو الحكيم الذي له الحكمة، والحكيم الذي له الحكم، والحكيم الذي يخلق سبحانه وتعالى ويقضي، ألا له الخلق وله الأمر سبحانه وتعالى، فهو الحكيم الذي لا تجد في صنعته خللاً ولا تقصيراً سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين)

تفسير قوله تعالى: (إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين) قال الله تعالى: {إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الجاثية:3] كأنه يقول لخلقه: انظروا إلى السماوات والأرض، وهذه الدعوة تكررت في كتاب الله عز وجل، أي: الدعوة إلى النظر في ملكوت السماوات والأرض، قال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الأنعام:11] أي: سيروا في الأرض وانظروا عاقبة الأمم السابقة، كيف صنع الله عز وجل بهم، وقال سبحانه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة:164] ذكرها في سورة البقرة، وكرر مثل ذلك في سورة آل عمران: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران:190]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم حين نزلت عليه هذه الآية مع عشر آيات من آخر سورة آل عمران: (لقد أنزل علي الليلة آيات ويل لمن قرأها ثم لم يتفكر فيها) فالمؤمن حين يقول له ربه: انظر، فلينظر إلى ما أمر الله عز وجل أن ينظر فيه، وإذا أمره أن يتفكر وأن يتذكر فليتعظ وليعتبر وليتفكر كما أمره الله سبحانه وتعالى. وهنا يكرر هذا الشيء وهذا المعنى: {إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} أي: الكل ينظر إلى السموات وإلى الأرض، والكل يعرف بديع هذا الخلق العظيم الذي حارت العقول في ذلك، ولكن المؤمن هو الذي يستدل أن هذا ما خلق عبثاً ولا سدى، وإنما له خالق أوجده وخلقه وأحسنه وأتقنه وأبدعه، ألا وهو الله سبحانه، وهو يصدق بما جاء من عند رب العالمين، ويصدق رسل الله عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين، فالمؤمن هو الذي ينتفع بهذه الآيات. فأنت عندما تنظر إلى السماء لن تخترق السماء الدنيا بنظرك، وإنما ترى ما تحت هذه السماء الدنيا، ومع ذلك لا تدرك جميع ما تحت هذه السماء من مليارات النجوم والمجرات، وغيرها من آيات الله عز وجل، وكلما نظر الإنسان تحير وتعجب من قدرة الخالق العظيم سبحانه وتعالى، فازداد إيماناً فوق إيمانه. إذاً: هذه الآيات ينتفع بها من صدق الرسل عليهم الصلاة والسلام ومن تابعهم ومن آمن بكتب الله سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (وفي خلقكم وما يبث من دابة)

تفسير قوله تعالى: (وفي خلقكم وما يبث من دابة) قال الله تعالى: {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية:4]. قوله: ((وَفِي خَلْقِكُمْ)) أي: على الإنسان أن ينظر إلى نفسه، كيف خلقه الله سبحانه وتعالى، كيف كان شيئاً صغيراً جنيناً في بطن أمه، وكان قبل ذلك نطفة وعلقة وصار هذا الإنسان هذا الخلق العظيم البديع الذي خلقه الله سبحانه وتعالى. كلما نظر الإنسان تعجب في خلقه، خلقة الإنسان وهو في بطن أمه كيف تكونت هذه النطفة فصارت هذا الإنسان؟! كيف تجمعت العروق في الإنسان وعملت شبكة الأوعية الدموية؟! كيف تجمعت خلايا الإنسان وتكون منها مخ هذا الإنسان؟ فأنت حين ترى الصور للجنين وهو في بطن أمه، وهو يتكون خلقاً من بعد خلق تتعجب من هذا المنظر، ثم بعد ذلك يصير هذا الإنسان الجميل على هذه الخلقة العظيمة، كل هذا يتم عن طريق التصوير للجنين في بطن أمه (بالميكروسكوبات الإلكترونية)، فتنظر إلى صورة هذا الإنسان وهو يتخلق شيئاً فشيئاً في بطن أمه، عروقه تكون عبارة عن ذرات وخلايا متناثرة تتجمع وتتجمع إلى أن تكون شبكة عجيبة جداً في جسم هذا الإنسان، وطول هذه الشبكة تزيد على أربعين كيلو، والكيلو الواحد يعتبر كثيراً جداً، كيف تجمعت هذه الخلايا داخل هذا الإنسان حتى صارت على هذا الطول؟! والإنسان عندما ينظر إلى طول جسمه كيف يكون بداخله هذه المئات والألوف من الكيلومترات من الخلايا التي لو رصت بعضها بجوار بعض رصاً لبلغت هذا الطول العظيم! كل هذه خلقها الله سبحانه وتعالى. خلايا كلها متشابهة كلها صورة واحدة، وتنقسم هذه الخلايا إلى أقسام، فمنها: ما يتكون منها العروق، ومنها: ما يتكون منها المخ، ومنها: ما يتكون منها القلب، ومنها: ما يتكون منها الجلد. فالمؤمن هو الذي يصدق ويؤمن ويعلم أن الذي كونه وقال له: كن فكان على هذا النسق وهذا النظام البديع الذي خلقه هو الله سبحانه وتعالى. قوله: ((وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثّ)) أي: أنت في خلقك نشرت فيك هذه الخلايا فصرت هذا الإنسان، وجعل هذا أبيض وهذا أحمر وهذا أسود وهذا كذا وهذا كذا، لكن هذا الإنسان الذي في أقصى الشمال مثل ذلك الإنسان الذي في أقصى الجنوب، والإنسان الذي في المكان الحار جداً، هو نفس الإنسان الذي في المكان البارد جداً، فهو سبحانه الذي خلق هؤلاء جميعهم. كذلك تعددت الألسن وتعددت اللغات وتعددت الألوان ولكن الخلقة واحدة فلا تتعجب فإنه خلق الله سبحانه وتعالى. قال: ((وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ)) بث بمعنى نشر ونثر وأذاع، فهو سبحانه بث في كل مكان وأوجد خلقاً من الخلق منها ما نعرفه ومنها ما لا نعرفه. قال: ((آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)) أي: آيات للذي عنده يقين وعنده إيمان واعتقاد ثابت بالله سبحانه وتعالى. فالإيمان هو التصديق، واليقين أشد هذا التصديق، كأنه يرى هذا الغيب ماثلاً أمامه. فقوله: ((آيات)) قراءة الجمهور بالضم فيها، وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب: ((آياتٍ)) بالكسر، كأنها على العطف على ما قبلها. {إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ} [الجاثية:3] كذلك هنا: ((وما يبث من دابة آياتٍ لقوم يوقنون)).

تفسير قوله تعالى: (واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق)

تفسير قوله تعالى: (واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق) قال الله تعالى: {وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الجاثية:5] كذلك قوله: ((آيات)) قراءة الجمهور بالضم، وقرأها حمزة والكسائي ويعقوب: ((آياتٍ)) بالكسر. أي: اختلاف الليل والنهار من آيات الله، فالليل يأتي في وقته والنهار يأتي في وقته، يزيد هذا وينقص هذا، واليوم أربعة وعشرون ساعة، يزيد الله عز وجل في الليل ما يشاء وينقص من النهار بقدره، ويزيد في النهار ما يشاء، وينقص من الليل بقدره، تتعاقب عليكم فصول العام هذا شتاء وهذا صيف وهذا خريف وهذا ربيع، في كل سنة أربعة فصول تتكرر على العباد، الليل هو الليل والنهار هو النهار يزيد الله ما يشاء ويقلل وينقص فيما يشاء، ويجعل لنا ذلك آية من الآيات. إذاً: الإنسان يتفكر كيف أن هذا الليل يطول ويقصر وهذا النهار كذلك، وهذا الليل أسود بهيم وهذا النهار مشرق مضيء، وهذا الليل يكون بارداً وهذا النهار يكون حاراً، وهذا فيه كذا وهذا فيه كذا، آيات من آيات الله عز وجل، فمن آياته أن جعل لكم الليل نوماً وسباتاً وسكناً، وجعل النهار لكم معاشاً وحياة ورحمة ورزقاً، كل هذا من آيات الله سبحانه وتعالى. قوله: ((وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ)) أي: ما أنزله لكم من المطر من السماء فيكون سبباً لأرزاقكم، يحيي به الأرض بعد موتها، ويغيثكم الله عز وجل ويحييكم به سبحانه وتعالى. وخلق كل دابة من ماء، فأنزل الماء من السماء ليحيي به العباد. قوله: ((فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا)) أي: كانت يابسة جامدة فنزل عليها الماء و {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج:5] ثم قال: ((وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)) أي: أن الله تعالى صرف الرياح وأرسل هذه شمالاً وهذه جنوباً وهذه شرقاً وهذه غرباً، ويسوق بها السحاب، ويحمل بها ما يشاء ويلقح بها الأشجار، ويخرج لكم ما يشاء سبحانه من خلقه، وهذه الرياح يجعلها عقيماً على قوم ويجعلها مرسلة بالرحمة على قوم آخرين، ويجعلها عذاباً على قوم ويجعلها رحمة لآخرين. قوله: ((الرِّيَاحِ)) قرأها الجمهور بالجمع، وقرأ حمزة والكسائي وخلف بالإفراد: ((الريح)). إذاً: الله سبحانه وتعالى يصرف الرياح ويرسلها بما يشاء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا هاجت الريح ورأى في السماء سحابات سوداء فزع صلى الله عليه وسلم، تقول السيدة عائشة: (كان يدخل ويخرج ويتغير وجهه صلى الله عليه وسلم فإذا أمطرت السماء سري عنه صلوات الله وسلامه عليه، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك: أنه إذا رأى الرياح هاجت وإذا رأى سحابات السماء سوداء يتغير صلوات الله وسلامه عليه، فقال: وما يؤمنني يا عائشة؟ قد رأى قوم الريح فقالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف:24] فكانت عذاباً من الله عز وجل عليهم)، وهم قوم عاد. فلذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أمطرت السماء سري عنه عليه الصلاة والسلام. وكان صلى الله عليه وسلم إذا هاجت الريح يسأل الله من خيرها ويتعوذ بالله من شرها. قال سبحانه في هذه الآيات: ((آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)) أي: يفهمون ويتدبرون ويعقلون عن الله عز وجل ما يقوله لهم.

تفسير قوله تعالى: (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق)

تفسير قوله تعالى: (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق) قال الله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [البقرة:252] أي: هذا القرآن العظيم يشتمل على آيات. قوله: ((نَتْلُوهَا عَلَيْكَ)) أي: نقصها عليك ويقرؤها عليك جبريل تلاوة ليعلمك، ((بالحق)) أي: هذه الآيات متلبسة بالحق. إذاً: نزل هذا الكتاب من السماء متلبساً بالحق، ويتلوه عليك جبريل بالحق، ويشتمل هذا القرآن على الحق. قوله: ((فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ)) أي: إذا لم يصدقوا كلام رب العالمين فماذا سيصدقون قوله: ((فبأي حديث)) وهذه قراءة الجمهور بالهمزة. وقرأ الأصبهاني عن ورش وقرأ حمزة وقفاً: ((فبيي)). وقوله: ((يؤمنون)) قراءة الجمهور بالياء، وقرأها ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف ورويس عن يعقوب: (تؤمنون) بالتاء على الخطاب. فالله عز وجل يقول لهؤلاء الكفار: إذا لم تؤمنوا ولم تتفكروا ولم تعقلوا ولم تستيقنوا بهذه الآيات التي جاءت من عند الله بالحق، فبأي شيء ستؤمنون؟! فهذا خطاب لهؤلاء الذين يعقلون والذين يتفكرون: انظروا هل هذه الآيات التي جاءت من عند الله عز وجل تدلكم على الله سبحانه أو هذه الأصنام التي تعبدونها؟! وأنتم تعرفون أن هذه الأصنام التي تدعونها من دون الله، لا تنفع ولا تضر، فكيف تعبدونها من دون الله؟! أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الجاثية [6 - 13]

تفسير سورة الجاثية [6 - 13] يذكر الله بعض آياته ونعمه على عباده، ونعم الله كثيرة لا تحصى، ومن العجيب أن يكفر الإنسان بالله ويجحد نعمه سبحانه، وقد توعد الله هؤلاء الكافرين بشتى أنواع العذاب، ولن تغني عنهم معبوداتهم شيئاً من الله تعالى إن أراد أن يهلكهم أو يعذبهم جزاء ما فعلوا وما اقترفوا من آثام.

تفسير قوله تعالى: (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق)

تفسير قوله تعالى: (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الجاثية: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ * وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} [الجاثية:6 - 11]. يخبر الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات وما قبلها عن هذا القرآن العظيم الذي نزله من عنده سبحانه وقال: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الجاثية:2]. ثم يخبر عن آيات الله سبحانه في السموات وفي الأرض: {إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الجاثية:3 - 5]. هذا الذي ذكر الله عز وجل من آيات الله العظيمة هي بعضٌ من آيات الله في الكون التي أمرنا أن نتفكر فيها وأن نعقلها وأن نتدبرها وأن نستدل بها على قدرته سبحانه، وأنه وحده الذي يستحق العبادة دون غيره. فقوله تعالى: ((تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ)) أي: هذه الآيات العظيمة التي أشرنا إليها. وقوله تعالى: ((نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ)) أي: التلاوة حق، والتلاوة مشتملة على الحق، والتلاوة متلبسة بالحق. ((فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ)) فبأي حديث إذا لم تؤمنوا بهذا الكلام الحق المعجز من عند رب العالمين تؤمنون؟ أي كلام وأي حديث بعد هذا الكلام العظيم يجعلكم تؤمنون؟! والمعنى: أن من لم يؤمن بهذا فلا ينتظر منه أن يؤمن بشيء آخر.

تفسير قوله تعالى: (ويل لكل أفاك أثيم أولئك لهم عذاب مهين)

تفسير قوله تعالى: (ويل لكل أفاك أثيم أولئك لهم عذاب مهين) قال سبحانه: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الجاثية:7] ويل عذاب أليم، أو واد في قعر جهنم لكل أفاك، والأفاك من الإفك، والإفك: أعظم وأشنع الكذب والافتراء، وذلك حين يتحدث الإنسان فيكذب ثم يفتري على غيره فيأفك، فهذا الأفاك يبهت غيره ويفتري عليه بما يجعل هذا الذي يسمع يتعجب مما يقوله؛ لأنه كذب عظيم جداً؛ ولذلك ربنا سبحانه يقول: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور:11] والإفك: أعظم الكذب، كذبوا وافتروا على السيدة عائشة كذباً عظيماً شنيعاً بشعاً يجعل من يسمعه لا يتخيل أنه يوجد إنسان يقول مثل هذا الكلام الكذب والكلام الإفك. فويل لهذا الأفاك، وأعظم ما يكون الافتراء على الله عز وجل، وذلك حين يقول الإنسان: الله قال: كذا، والله لم يقل ذلك أصلاً فيفتري على الله سبحانه هذا الإفك، فالأفاك يعني: الكذاب العظيم من الكذب والافتراء، وإن كان الناس غيروا هذه الكلمة إلى أفاق، وهذا خطأ في اللغة، فالأفاق من الآفاق، يقال: آفاقي يعني أتى من الآفاق من بعيد، لكن الأفاك: الكذاب المفتري الأثيم الذي يختلق الشيء وهو غير موجود. قال سبحانه: ((وَيْلٌ)) أي: عذاب أليم لكل إنسان عظيم الكذب يكذب على الخلق ويكذب على الخالق سبحانه. وقوله تعالى: ((أَفَّاكٍ أَثِيمٍ)) أي: مكتسب للإثم بما يصنع وبما يقول. هذا الأفاك الأثيم من صفاته: {يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الجاثية:8]. فقوله تعالى: ((يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ)) أي: يقرأ النبي صلى الله عليه وسلم عليه القرآن ويدعوه إلى الله عز وجل. قال: ((ثُمَّ يُصِرُّ)) أي: يعاند وكأنه لم يسمع شيئاً. يقال له: ما الذي سمعت؟ يقول: لم أسمع شيئاً. ما الذي فهمت؟ يقول: لم أفهم شيئاً، يقول: هذا مجنون. فيفترون على النبي صلى الله عليه وسلم ويفترون على الله سبحانه تبارك وتعالى، ويكذبون، فويل لهذا الكذاب، الذي يجعل نفسه كأنه لم يسمع شيئاً ولم يعلم شيئاً، فإذا سمع آيات الله عز وجل وهي تتلى عليه يصر ويعاند ويبقى على ما هو فيه من كفر متعظماً في نفسه. فقوله تعالى: ((يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا)) يعني: كأنه في نفسه أعظم من أن يقبل هذا الكلام أو يدخل في هذا الدين العظيم. فقوله: ((كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا)) كأنه لم يسمع هذه الآيات. فقال الله تعالى: ((فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)) والأصل في البشارة: الإخبار بشيء مغيب قد يسر وقد يسوء، لكن الغالب في اللغة: أنه لا تطلق البشارة إلا على الخبر الذي يسعد ويسر، إلا أن تأتي مقيدة بشيء بعدها فتدل على العكس في ذلك. فهنا يتنزل هذا المعنى على وجهين: فبشر هذا الإنسان الذي تهكم واستهزأ بمصيبة سوداء ستحل به؛ لأنه مكذب بآيات الله. فالله سبحانه يسخر من هذا الإنسان؛ لأنه يسخر من آيات الله، أو على أصل معنى البشارة، بمعنى: الإخبار بما غاب عنك بما يغير بشرتك، فالتبشير: إخبار بالشيء الذي يغير بشرة جلد الإنسان، فالإنسان حين يخبر بالشيء الذي يسره يضحك وتتغير بشرته، ويحمر وجهه، ويتورد وتظهر عليه آثار الانبساط والسرور، فبشرة الإنسان تتغير بالشيء الذي يسر الإنسان. والعكس كذلك إذا أخبر بما يسوءه {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [النحل:58]. إذا أخبر الإنسان بمصيبة ستحدث له يخاف ويتضايق وينزعج ويظهر على تباشير وجهه هذا الأثر، كأن البشارة الإخبار بما يغير هيئة بشرة الإنسان ووجهه، فكأن الله يقول له: انتظر ما يسوءك من عذاب أليم. فقوله تعالى: ((فَبَشِّرْهُ)) أي: أخبره بما سيسوءه بعد ذلك من عذاب مؤلم موجع. ومن صفات الأفاك: ((وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا)) أي: إذا علم وعرف أن كلام رب العالمين حقيقي اتخذه هزوا. فقوله تعالى: ((اتَّخَذَهَا هُزُوًا)) تقرأ بالواو، يقرأها حفص فقط عن عاصم. وباقي القراء كلهم يقرءونها بالهمزة على أصلها (هزءاً) ما عدا حمزة فيسكن الهمز إذا وقف عليها ويقول: (هزء). فالقراءة الأخرى: (إذا علم من آياتنا شيئاً اتخذها هزءا) أي: يستهزئ بكلام رب العالمين سبحانه. قال تعالى: ((أُوْلَئِكَ)) المكذبون الأفاكون ((لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ)). إذاً: له عذاب أليم مؤلم موجع، وله عذاب يهينه؛ لأنه أهان كلام الله، وأهان رسل الله عليهم الصلاة والسلام، فاستحق الهوان واستحق الإهانة يوم القيامة، وأن يحقره الله عز وجل. ولذلك يرى الكافر يوم القيامة في نار جهنم وهو أحقر من الذر مثل أصغر من النمل، والكفار ينادون ربهم سبحانه كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ} [فصلت:29] أي: ندوس عليهم بأقدامنا الذين أضلونا في الدنيا، هذا تحقير لهم وإهانة لهم في نار جهنم والعياذ بالله، فهم اتخذوا آيات الله هزواً فاستحقوا أن يهينهم الله عز وجل في الدنيا وفي الآخرة.

تفسير قوله تعالى: (من ورائهم جهنم)

تفسير قوله تعالى: (من ورائهم جهنم) قال الله تعالى: ((مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ)) الوراء: الغيب، يعني: الذي يغيب عن الإنسان حتى وإن كان أمامه ((مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ)) فتأتي كلمة وراء بمعنى: خلف، وبمعنى: ما غاب عنك وهو أمامك، فهنا المعنى: من قدامهم، يعني: سيقدمون على جهنم؛ ولكونها غيباً لا يرونها فهي من وراء الغيوب، ومن وراء ما لا يرونه، فجهنم من ورائهم. ومنه: قول الله عز وجل في سورة الكهف عن أصحاب السفينة: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف:79] فهو لا يجري وراءهم، بل هو أمامهم، يعني: سيقدمون على الشط في الجهة الثانية فإذا وصلوا فإنهم سيجدون ملكاً يأخذ منهم هذه السفينة، فلما كانوا لا يرون هذا الملك ولم يعرفوا ما الذي ينتظرهم، فكأن وراءهم شيء مغيب عنهم. فقوله تعالى: ((وَكَانَ وَرَاءَهُمْ)) [الكهف:79] أي: قدامهم، ولكن لا يرون ولا يعرفون، فأرسل الله عز وجل الخضر حتى يأخذ لوحاً من السفينة فتظهر أنها فاسدة معطلة، فإذا وصلوا يكون قد دخلها قليلاً من الماء، فيتركها الملك؛ لأنها لا تصلح أن تكون من أسطوله، وبقيت لهؤلاء المساكين. فكلمة وراء تأتي بمعنى: خلف لما غاب عنك وهو وراؤك، وتأتي بمعنى ما هو أمامك، ولكنك لا تراه، فهو غيب مغيب عنك، فكذلك: ((مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ)) أي: سيقدمون عليها أمامهم بعد أن يموتوا، وسيرون هذا العذاب في نار جهنم المستعرة. وقال تعالى: ((وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ)) أي: ولا يغني عنهم ما كسبوا من الله شيئاً، ولا يوجد يوم القيامة فداء ولا دفع إلا الحسنات والسيئات، والجزاء بما عمل الإنسان يوم القيامة، ولا يغني عنهم كل ما كسبوه في الدنيا. هذا لو فرض أنه معهم، ولكن يوم القيامة ليس مع الإنسان شيء، فهذا الذي كسبوه لو قدموه كله وهو معهم لا يغني عنهم ولو شيئاً يسيراً من عذاب الله سبحانه. وقوله تعالى: ((وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ)) أي: ولا يغني عنهم شيئاً هؤلاء الذين اتخذوهم من دون الله أولياء، والولي: القريب والحميم والناصر والمدافع، فكل من اتخذوهم في الدنيا أحزاباً تدافع عنهم وتناصرهم لا تغني عنهم يوم القيامة، وكل من عبدوه من دون الله سبحانه تبارك وتعالى لا يغني عنهم من دون الله شيئاً. وقوله تعالى: ((مِنْ دُونِ اللَّهِ)) أي: كل ما هو غير الله من أوثان وأصنام وتماثيل، فكل ما عبد من دون الله لا يغني عن أصحابه شيئاً من الله. قال تعالى: ((وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)) أي: لهم أشد العذاب، وانظر للتنوع، (لهم عذاب أليم)، (لهم عذاب مهين)، (لهم عذاب عظيم) بسبب شناعة الذي صنعوه، فاستحقوا كل هذه الأنواع من العذاب.

تفسير قوله تعالى: (هذا هدى والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم)

تفسير قوله تعالى: (هذا هدى والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم) قال تعالى: {هَذَا هُدى} [الجاثية:11] أي: هذا القرآن وهذا الذي جاء من عند رب العالمين هدى هداية ودلالة وحجة من الله عز وجل يدل بها المؤمن على الطريق الصحيح، فيهتدي بها الإنسان، فيستحق من الله عز وجل الإعانة في الدنيا وفي الآخرة. وقوله تعالى: ((هَذَا هُدًى)) يعني: من الله. وقال الله تعالى: ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ)) هذا وصف رابع لعذاب هؤلاء الذي ذكره الله عز وجل: (عذاب أليم)، (عذاب مهين)، (عذاب عظيم)، (عذاب من رجز أليم). فقوله تعالى: ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ)) أي: بحجج الله سبحانه، وبما نزل من عنده. وقوله تعالى: ((لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ)) أي: لهم عذاب من أشد أنواع العذاب وهو الرجز، لهم عذاب من أشد ما يسوءهم من عذاب من عند الله عز وجل. قراءة الجمهور: ((مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ)) وصف للعذاب، يعني عذابُ أليمٌ من رجز من أشد أنواع العذاب. وقراءة ابن كثير وحفص عن عاصم ويعقوب: ((لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ)) وباقي القراء: (من رجز أليمٍ).

تفسير قوله تعالى: (الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك بأمره)

تفسير قوله تعالى: (الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك بأمره) قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الجاثية:12] ذكر لنا في أول السورة بعضاً من نعم الله ومن آياته سبحانه وتعالى، فأخبرنا أنه سخر الشمس والقمر، وخلق الليل والنهار، وسخر الرياح، وصرف الرياح، وأرسل السحاب سبحانه، وأنزل الرزق من السماء، كل هذه آيات من آيات الله سبحانه. وفي خلقكم آية من آيات الله سبحانه، كذلك من آياته: ((اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ)). الله الذي يستحق العبادة وحده، فهو الذي سخر، وهو الرب الذي يفعل ذلك، فهو الرب الفاعل الذي يفعل، والصانع الذي يصنع، والمألوه المعبود الذي يستحق العبادة، فيجمع بين الاثنين: بين توحيد ألوهيته أنه مستحق لأن يؤله ويعبد، وتوحيد ربوبيته أنه الفاعل وحده لا أحد معه يصنع ذلك. وسخر الشيء بمعنى: ذلله ويسره، وسيره، وكلفه بأن يفعل كذا، فالله سخر لكم البحر، وجعله تحت تصرفاتكم، فتتصرفون فيه، وتركبون عليه، وتسبحون فيه، وتغوصون بداخله، وتأخذون من خيراته. وقوله تعالى: ((لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ)) أي: لتجري السفن في البحر بأمره ليس بأمركم أنتم، فالإنسان حين يتطاول على ربه سبحانه يريه الله عز وجل آياته. هذا مركب غرق وعليه ألف وأربعمائة شخص، لم ينج منهم إلا القليل، فالذي سخر البحر الله، وعندما يتطاول العبد على الله يريه الله عز وجل آياته، وانظر إلى أعجب سفينة كانوا قد صنعوها (تايتنك) وقصتها معروفة لدى الجميع، وقد صنعوا لها مسلسلات أو روايات تلفزيونية وغيرها، ومعنى (تايتنك): الخارقة، والمعجزة، والجبارة، يعني السفينة القاهرة التي لا تقهر، فقد تحدوا الله عز وجل، وأغنى أغنياء العالم ركبوا في هذه السفينة، ومن غرور صاحب هذه السفينة أنه لم يضع فيها قوارب نجاة، وأمر ربان السفينة أن يجري بها على أقصى سرعة ليرى الناس عظمة هذه السفينة، وضخامة حجمها، وكل من عليها من أصحاب الملايين، جرت اصطدمت بجبل وانقسمت نصفين وغرقت بمن عليها! قالوا: كان من الممكن نجاة من عليها لو كان عليها قوارب نجاة، واستمرت خمس ساعات وهي تغرق، فلو كان هناك قوارب نجاة لنزل الناس منها ونجا من عليها، ولكن غرور أهلها جعهلم يقولون: هذه السفينة لا تقهر، فقهرها الله أول ما نزلت في البحر، واصطدمت وانشطرت وغرق كل من فيها، وربان هذه السفينة كان بإمكانه أن يعوم، ولكنه فضل أن يغرق مع السفينة لئلا يفضح عندما ينجو. فقوله تعالى: ((اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ)) أي: بأمر الله تجري وتسير وتقف، ولا يحدث فيها شيء إلا بأمر الله سبحانه وتعالى. وقوله تعالى: ((الْفُلْكُ)) أي: السفن في البحر بأمر الله، وقوله: ((وَلِتَبْتَغُوا)) أي: لتطلبوا من فضل الله سبحانه. فقوله: ((مِنْ فَضْلِهِ)) أي: بالأخذ من هذا الماء، وبالتجارة في البلاد، وبالغوص وإخراج اللؤلؤ والمرجان والمعادن داخل البحار والبترول وغيرها، وفضل الله عظيم سبحانه. قال تعالى: ((وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)) أي: حين تجدون نعم الله ورزقه سبحانه، فيمكن أن تشكروا الله وتتفكروا في آياته وترجعوا إليه فتعبدوه سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض)

تفسير قوله تعالى: (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض) قال الله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:13] أي: منه سبحانه وتعالى ليس منكم أنتم، فلستم أنتم الذين أنزلتم المطر من السماء، ولا أنتم الذين أرسلتم الرياح يسخر بها السحاب، ولا أنتم الذين زرعتم هذه الأشجار فخرجت منها الثمار، إنما الصانع الله سبحانه وتعالى. هذا خلق الله سبحانه وآيات من آياته في البر، وآيات في البحر، وآيات في السماء، وآيات في الأرض، فالله سبحانه سخر وذلل ويسر لكم ما في السموات وما في الأرض. وسخر الله نجوماً في السماء وسخر الشمس والقمر لتعرفوا بها الليل من النهار، وتأخذوا الدفء في النهار، وتستريحوا تناموا في ظلمة الليل، وسخر الشمس والقمر، وسخر النجوم لتهتدوا بها وجعلها زينة للسماء، قال تعالى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16] فقوله تعالى: ((وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ)) من أشياء ((جَمِيعًا)) أي: كلها نعم من الله سبحانه. وقال سبحانه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}. الذي يتفكر في هذه الآيات يعلم أنها من الله عز وجل، وأنه وحده الذي يستحق أن يعبد ولا يكفر، أن يشكر ولا يجحد سبحانه وتعالى، وأن يذكر ولا ينسى. فاذكروا الله يذكركم، واشكروه يغفر لكم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الجاثية الآية [14]

تفسير سورة الجاثية الآية [14] مؤامرة أهل الكفر والإلحاد على المسلمين مستمرة حتى قيام الساعة، والمسلمون إن تمسكوا بدينهم وطبقوا شرع الله في خلقه عزوا وسادوا، وإن خالفوا دينهم ورجعوا إلى حكم الديمقراطية وغيرها من القوانين الوضعية، أذلهم الله، وسلط عليهم من يستبيح بيضتهم ويذيقهم أنواع النكال، حتى يرجعوا إلى دينهم.

تفسير قوله تعالى: (قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله)

تفسير قوله تعالى: (قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الجاثية: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ * وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الجاثية:14 - 17]. لما ذكر الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة في هذه السورة شيئاً من قدرته سبحانه وبديع خلقه، في السموات وفي الأرض وفي الرياح وفي الرزق الذي يعطيه العباد، وفي أنفسهم وفي البر وفي البحر، وغير ذلك من الآيات في السموات وفي الأرض، أخبر أنه سخر ذلك كله جميعاً منه سبحانه وتعالى، وذلك فيه آيات لقوم يتفكرون في هذه المخلوقات فيعرفون قدرة الخالق سبحانه وتعالى. ذكر الله ذلك ليبين قدرته أنه على كل شيء قدير، ومع قدرته العظيمة جعل عباده منهم المؤمن ومنهم الكافر، ومع قدرته على الجميع سبحانه ابتلى هؤلاء بهؤلاء، ابتلى المؤمنين بالكفار، وأمر المؤمنين أن يدعو إلى الله سبحانه وتعالى، والكافرون يعرضون ويجحدون ويكذبون، بل ويتسافهون بالقول على المؤمنين.

سبب نزول قول الله تعالى (قل للذين آمنوا يغفروا الآية)

سبب نزول قول الله تعالى (قل للذين آمنوا يغفروا الآية) وهذه السورة كما ذكرنا سورة مكية، قيل: إلا هذه الآية: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الجاثية:14]. قيل في سبب نزولها: إنها نزلت في عمر رضي الله عنه في المدينة، وقيل: بل في مكة، حيث إن عمر رضي الله عنه سمع رجلاً من قريش يشتم النبي صلى الله عليه وسلم فهم أن يبطش به رضي الله عنه، فنزل قول الله عز وجل: ((قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ)). وقيل: بل في المدينة في غزوة بني المصطلق، إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم في مكان، وعبد الله بن أبي بن سلول المنافق كان في المكان نفسه وأرسل غلاماً له يستقي له من الماء، فلما وصل إلى مكان الماء تأخر على سيده عبد الله بن أبي بن سلول، فسأله عبد الله بن أبي عن سبب تأخره، فقال: كان هناك على الماء غلام عمر رضي الله عنه أبى أن نسقي حتى يملأ للنبي صلى الله عليه وسلم ويملأ لـ عمر رضي الله عنه، فتغيظ هذا الرجل المنافق وقال: ما هذا إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك، يشتم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، يعني: جاءوا لنا فقراء من مكة لا يجدون شيئاً، والآن في المدينة يسابقوننا ويسقون قبلنا ويأخذون أشياءنا! فلما قال ذلك ووصل الخبر إلى عمر رضي الله عنه أراد أن يقتل عبد الله بن أبي بن سلول؛ لكونه يشتم النبي صلوات الله وسلامه عليه وكاد يفعل، فأنزل الله عز وجل: ((قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ)) وعلى كونها مكية قيل: هي منسوخة، وعلى كونها مدنية قيل: أيضاً إنها منسوخة، نسختها آية السيف، وذلك حين أمر الله عز وجل بالجهاد، قال تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة:5] فأمر الله المؤمنين بجهاد الكافرين، فقالوا: هذه الآية نسخت كل ما كان فيه من موادعة مع الكفار ومن متاركة وتفويت لهم، فقوله تعالى: ((قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا)) يعني: يتركونهم كأنهم لم يسمعوا ما قالوه، وقيل: بل إذا كان يرجى من هؤلاء الإسلام فيتجاوز عنهم ليدعوا إلى الله عز وجل، وهذا المعنى صحيح، ولا ينافيه أن يكون الأمر بعموم ما نزل بعد ذلك، وهو أمر الله عز وجل المبين بأن يقاتلوا المشركين وأن يجاهدوهم في كل مكان. فقال الله تعالى: ((قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا)) فالإنسان إذا دعا إنساناً قد يكون هذا المدعو يجادل بحق ويجادل بباطل، ولكن يرجى منه خير، فيجادل ويفوت عليه شيء، ويتنزل معه في مقام المناظرة. كما فعل إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام لما كان يدعو عباد الكواكب إلى الله سبحانه وتعالى وقال: هذا ربي، ومستحيل أن إبراهيم يشرك بالله ويقول: الكوكب ربي، ولكن مقام المناظرة مع هؤلاء يجعله يقول لهم: هذا ربي بزعمكم أنتم؛ لأنكم تعبدون الكواكب، قال تعالى: {هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام:76] أي: لا يصلح أن يكون رباً. إذاً: هذا المقام مقام مناظرة وليس مقام نظر، فمقام النظر: هو أن الإنسان يتحير ويفكر هل هذا هو الرب أم لا؟ فهو متشكك، هذا مقام النظر، ومستحيل أن يكون إبراهيم في هذا المجال أو هذا المقام، إنما المقام مقام مناظرة، وإبراهيم مستيقن ما يقول، ولكن يجادل الخصم ويقول له: فرضنا جدلاً أن الذي تقوله أنت صحيح، فإبراهيم يقول: هذا ربي بزعمهم {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام:76 - 77]. فلما غاب القمر وظهرت لهم الشمس {قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} [الأنعام:78] هذا أكبر شيء تزعمون أنه رب {فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:78] أي: الذي تقولونه هذا كله هجس، وكله عبادة فارغة وليست عبادة حقيقية، وأنا بريء من هذا الشرك الذي أنتم تشركونه، فظهرت حقيقة مناظرة إبراهيم لهؤلاء، أنه ما كان يناظر ليصل هو إلى شيء، ولكن يريد أن يوصلهم إلى ما هو فيه من عبادة الله عز وجل. فإذا كان هناك مؤمن يدعو إلى الله ويدعو إنساناً كافراً لا يتوقع أنه مجرد ما يقول له: قل: لا إله إلا الله، سيقول: لا إله إلا الله، ويدخل في الدين؛ لأن الكفار كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] فقيل للمؤمنين: اصبروا على هؤلاء واتركوهم، واسمعوا منهم وادعوهم إلى الله عز وجل، بل وقال للمؤمنين: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108] إذاً: المؤمن يتأدب في دعوته، فإذا جادل ودعا إلى الله لا يصل الأمر إلى أن يشتم آلهة هؤلاء، فقد يشتمونه ويشتمون دينه، إذاً: تأدب أنت حتى يعاملك هو أيضاً بهذه الصورة، فإذا كنت ترجو من إنسان خيراً لتدعوه إلى الله سبحانه وتعالى فاصبر في وقت الدعوة إليه.

ذكر ما جاء من دعوة إبراهيم لقومه إلى ترك عبادة الكواكب

ذكر ما جاء من دعوة إبراهيم لقومه إلى ترك عبادة الكواكب كما فعل إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام لما كان يدعو عباد الكواكب إلى الله سبحانه وتعالى وقال: هذا ربي، ومستحيل أن إبراهيم يشرك بالله ويقول: الكوكب ربي، ولكن مقام المناظرة مع هؤلاء يجعله يقول لهم: هذا ربي بزعمكم أنتم؛ لأنكم تعبدون الكواكب، قال تعالى: {هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام:76] أي: لا يصلح يكون رباً. إذاً: هنا المقام كما يقولون مقام مناظرة وليس مقام نظر، فمقام النظر: هو أن الإنسان يتحير ويفكر هل هذا هو الرب أم لا؟ فهو متشكك، هذا مقام النظر، ومستحيل أن يكون إبراهيم في هذا المجال أو هذا المقام، إنما المقام مقام مناظرة، وإبراهيم مستيقن ما يقول، ولكن يجادل الخصم ويقول له: فرضنا جدلاً الذي تقوله أنت صحيح، فإبراهيم يقول: هذا ربي بزعمهم {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام:76 - 77]. فلما غاب القمر وظهرت لهم الشمس {قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} [الأنعام:78] هذا أكبر شيء تزعمون أنه رب {فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:78] أي: الذي تقولونه هذا كله هجس، وكله عبادة فارغة وليست عبادة حقيقية، وأنا بريء من هذا الشرك الذي أنتم تشركونه، فظهرت حقيقة مناظرة إبراهيم لهؤلاء، أنه ما كان يناظر ليصل هو إلى شيء ولكن يريد أن يوصلهم إلى ما هو فيه من عبادة الله عز وجل. فهذه المناظرة كما ذكرنا، فإذا كان إنسان مؤمن يدعو إلى الله ويدعو إنساناً كافراً لا يتوقع أنه مجرد ما يقول له: قل: لا إله إلا الله سيقول: له لا إله إلا الله ويدخل في الدين؛ لأن الكفار كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] فقيل: للمؤمنين اصبروا على هؤلاء واتركوهم، واسمعوا منهم وادعوهم إلى الله عز وجل، بل وقال للمؤمنين: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108] إذاً: هنا المؤمن يتأدب في دعوته، فإذا جادل ودعا إلى الله لا يصل الأمر إلى أن يشتم آلهة هؤلاء، فقد يشتمونه ويشتمون دينه، إذاً: هنا تأدب أنت حتى يعاملك هو أيضاً بهذه الصورة. فإذا كنت ترجو من إنسان خيراً لتدعوه إلى الله سبحانه وتعالى فاصبر في وقت الدعوة إليه.

حكم من يسب النبي صلى الله عليه وسلم

حكم من يسب النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان الكافر لا يرجى منه خير، وبدأ بالسفاهة والشتم والبذاءة فحكمه حكم المرأة الكافرة، تزوجها رجل أعمى ضرير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت تسب النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ الفأس وضربها في بطنها فقتلها وأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمها، فهذه لا قيمة لها؛ لأنها تسب النبي صلى الله عليه وسلم وتشتمه بغير حق، ولم يفعل بها شيئاً صلوات الله وسلامه عليه حتى تشتمه، فقتلها زوجها فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمها. إذاً: الإنسان الذي يتطاول على النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان مسلماً فقد ارتد بذلك ويستحق أن يقتل، فإذا كان كافراً حربياً فحكمه الشرعي أنه يستحق القتل بما فعل مع النبي صلوات الله وسلامه عليه، هذا حكم من يسب النبي صلى الله عليه وسلم. وأمر الله عز وجل بجهاد المشركين جهاد ابتداء بدعوتهم إلى الله عز وجل، فإذا قاتلوكم فقاتلوا هؤلاء في سبيل الله سبحانه وجهاداً في سبيله، ولا نحكم عليهم بقول الله تعالى: ((يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ))؛ لأنهم يتطاولون على الله سبحانه، ويتطاولون على دين الإسلام، ويتطاولون على النبي صلى الله عليه وسلم، فهل من اللائق أن نعاملهم بالحكمة والموعظة الحسنة، أي: حكمة هذه وهم يسبون الله ويسبون رسول الله بدعوى الحرية والكذب الذي يقولونه، فهؤلاء لا يستحقون إلا السيف، ولو كان في المسلمين أمة تعرف ربها سبحانه وتجاهد في سبيل الله عز وجل، لما سكتوا لأحد أبداً يسب الله أو يسب دين الإسلام أو يسب النبي صلوات الله وسلامه عليه، ولخاف العالم كله من المسلمين حين يقومون وحين يثأرون لله عز وجل ولرسول الله صلى الله عليه وسلم. وليس من اللائق أن يقال من باب الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم: لماذا تشتمون النبي صلى الله عليه وسلم؟ هذا رجل ميت! فإن هذا لا يقال في سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه، بل هو إجرام في الكلام على النبي صلوات الله وسلامه عليه، فلا يقال عنه صلى الله عليه وسلم ذلك؛ لأنه إذا كان الشهداء أحياء عند ربهم، فكيف بسيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه النبي عليه الصلاة والسلام؟ فهو سيد خلق الله عز وجل، وسيد الأنبياء، قال: (أنا سيد ولد آدم) صلوات الله وسلامه عليه. وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي فأرد عليه) وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الأرض تأكل أجساد الخلق، فقالوا: كيف وقد أرمت؟ يعني: أنت مت كيف سترد السلام؟ قال: (إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء). إذاً: جسده في الأرض باق صلوات الله وسلامه عليه، وروحه يردها الله عز وجل إليه في الحياة البرزخية بما يشاء سبحانه وتعالى وكيف شاء، ليس على هيئة ما يكون في الدنيا، ولكن على شيء يعلمه الله سبحانه وتعالى، ويبلغه السلام لمن يسلم عليه وممن يصلي عليه، وخاصة في يوم الجمعة، إذ يبلغه صلاة الناس وتسليمهم عليه صلوات الله وسلامه عليه. هذا النبي صلى الله عليه وسلم هل يدافع عنه بهذا الكلام الفارغ فيقال: هذا رجل ميت؟ ويقول: (اذكروا محاسن موتاكم) ألا لعنة الله على الكاذبين وعلى المجرمين الذين يدافعون عن أولياء القبور وعن الأضرحة دفاعاً كبيراً، وإذا تكلموا عن النبي صلى الله عليه وسلم تكلموا بكلام خائب لا معنى له، ثم يرجعون ويعتذرون ويقولون: لم نقل هذا الشيء كعادتهم، يقولون كلاماً سيئاً في دين الله عز وجل وبعد ذلك يتنصلون ويقولون: لم نقل شيئاً من ذلك؛ خوفاً من أن ينتشر عنهم، وتقوم قائمة الناس عليهم بسبب هذا الكلام السيء الذي يقال. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الخلق، وقد جعل الله عز وجل دينه الدين الخاتم، وأمره أن يدعو الخلق بالحكمة والموعظة الحسنة، فإذا استجابوا للنبي صلى الله عليه وسلم فبها ونعمت، وإذا لم يستجيبوا ولم يقاتلوا تركهم صلوات الله وسلامه عليه ودفعوا الجزية وسكت عن ذلك، أما إذا حاربوه صلوات الله وسلامه عليه فلابد من مقاتلتهم كما أمر الله سبحانه وتعالى.

مؤامرة الكفرة على المسلمين في نشر الديمقراطية

مؤامرة الكفرة على المسلمين في نشر الديمقراطية اليوم أصحاب الحريات وأصحاب الديمقراطيات يريدون أن ينشروا دينهم (الديمقراطية) التي يدعون إليها بالسيف، وبالسلاح، وبالدبابات والطائرات، وحجتهم أن الإسلام انتشر بالسيف، فيريدون نشر الديمقراطية في العراق بالسفن والطائرات والصواريخ والقنابل الذرية، فيرتكبون الجرائم في أفغانستان والعراق وفي بلاد المسلمين، ثم يحتجون بأن الإسلام، أن فيه جهاد. فأهل الإسلام لم يعرفوا دينهم الحق؛ لأنهم لو عرفوا الحق لما قالوا: لا جهاد في الإسلام، والجهاد يكون فقط عندما يداهمنا العدو فنجاهده جهاد دفع فقط وليس جهاد ابتداء، ونحن لا ننشر ديننا بالسيف، وبالتالي يقومون بتعبئة الأفكار تعبئة خاطئة حتى كادوا يلغون آيات الجهاد في كتاب الله، وهذا الذي طلبه المجرمون الأمريكان من المسلمين العرب، طلبوا منهم أن يلغوا من المصاحف آيات الجهاد، وأن يدرسوا الطلاب في المدارس الأخلاق! حتى في الأزهر يكادون يفعلون ذلك، فقد صاروا أذناباً وأذيالاً للمنافقين، يدافعون عن أنفسهم بغير دين الله عز وجل، ويطلبون من الكفرة أن يدافعوا عنهم وأن يحموهم، فلذلك تجردوا من دينهم فإذا بهؤلاء يسبونهم ويسخرون منهم، فلا أحد من هؤلاء الكفار يجرؤ أن يشتم اليهود أو يشتم السامية أو يتكلم عن المذابح التي عملها هتلر فيهم، ولو أن أحداً تجرأ أن يقول ذلك لثارت وقامت عليه الدنيا، ولعله يسجن في بلاد الكفار؛ لأنه شتم اليهود، ويضيقون عليهم في أرزاقهم، ويفصل أساتذة من الجامعة لكونهم فقط قالوا: إن هتلر لم يقتل ستة مليون من اليهود ولا غيرهم، ولا يبلغ اليهود هذا العدد حتى يقتل منهم هذا العدد الهائل. وهذا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يسب لولا أن عوام المسلمين ثاروا لم يتكلم أحد، فكل مسلم ثارت فيه الحمية وثار فيه الغضب لله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، وما استطاع المشايخ أن يتكلموا قبل ذلك، ولكن تكلم المشايخ لما وجدوا الناس ثارت في نفوسهم حمية الحق، وتكلموا وغضبوا لله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنهم من تكلم فأحسن، ومنهم من خاب وخسر وقال: قاطعوا هذه الجريدة التي أساءت لنا فقط، ولماذا لا نقاطع الدولة التي سمحت بذلك، والدول التي دافعت عن ذلك، والجرائد التي في الدول الأخرى التي فعلت هذا الشيء؟! هذا شيء عجيب جداً في الردود الخائبة الضعيفة التي يقولونها ويزعمون أنهم يدافعون عن دين الله سبحانه وتعالى. تجارب تراها في حياتك تعلمك أنه يستحيل أن يدافع عن الإسلام إلا أهل الإسلام، المتمسكون بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما أن تنتظر من علمانيين أو منافقين أو ديمقراطيين أو غيرهم أن يدافعوا عن هذا الدين، فهم لا يطلبون الدين أصلاً؛ لأن الدين منظر فقط أمام الناس، كوننا نحن من العرب ومن المسلمين. وإذا جاءهم وقت من الأوقات يفتخرون فيه بالقومية العربية قالوا: نحن قوميون، نحن عرب، ويتكلمون عن الإسلام على حياء، ويجعلونه إسلاماً ديمقراطياً لكي نظهر بإسلام بثوب جديد، غير الإسلام الذي عرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم! والديمقراطية عند الغرب تعني: حكم الشعب نفسه بنفسه، إن الحكم إلا للشعب، وعندما ينزل إليهم رسول من السماء يقولون: سنحكم فيك الشعب! والله سبحانه وتعالى يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف:40] فالدولة الدينية التي يحكمها شرع الله سبحانه وتعالى، من المؤسف جداً أن نقول: سنحكم الأغلبية من الشعب ونقول: تعالوا هل تريدون إسلاماً أم لا تريدونه؟ فإذا قالوا: نريد إسلاماً، أخذنا الإسلام ليس إرضاء لله، وإنما لأن الناس يريدونه، وإذا كان هذا حال المسلمين اليوم فلا يرجى منهم أن يدافعوا عن دين الله ولا عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الدعوة إلى العودة إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم

الدعوة إلى العودة إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لابد من التربية على حب الله، وعلى حب كتابه، وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والدعوة إلى دين الله الدعوة الحق، ليست الدعوة للديمقراطية، ولا للافتخار بما تأتي به أوروبا، وترك ما جاء به كتاب الله عز وجل وراء الظهور، بأنه رجعية وأنه أشياء قديمة لا تصلح لهذا الزمان، فالإسلام هو الدين الذي جعله الله عز وجل يبقى إلى قيام الساعة، وينزل المسيح عيسى بن مريم على نبينا وعليه الصلاة والسلام ليحكم بهذا الدين ولا يسعه أن يحكم بغيره، وكان قبل ذلك لما أرسل إلى بني إسرائيل أراد أن يحكمهم بالتوارة، فلما رفع عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وأخبرنا الله سبحانه بقوله: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النساء:159]. أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن المسيح سينزل قبل قيام الساعة ويكون من علاماتها، ويؤم المسلمين رجل منهم، يكون إماماً للمسلمين حين ينزل المسيح، والمسلمون يريدون الصلاة، ويتقدم إمام المسلمين ليصلي بالناس والمسيح وراءه، ثم يقتل الخنزير ويكسر الصليب ولا يقبل الجزية، ويقتل المسيح الدجال ويحكم الخلق بكتاب الله العظيم. فالقرآن العظيم فيه نبأ من قبلكم، وحكم ما بينكم، وفصل ما بينكم، وخبر ما يكون بعدكم، هذا القرآن العظيم الذي نزل من عند رب العالمين أمرنا الله بتحكيمه، قال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:49]. فأمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن لا يحكم بهواه ولا برأيه، وإنما بكتاب رب العالمين سبحانه وتعالى، فلابد أن يعرف المسلمون أن هذا القرآن العظيم نزل من السماء ليحفظ في الصدور، وليعمل به، وليحكم به بين الناس، فيستيقظون بذلك ويحكمون شرع الله، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96]، ولخاف الخلق كلهم من المسلمين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نصرت بالرعب مسيرة شهر)، فمن جنود الله عز وجل الرعب يلقيه الله في قلوب الأعداء. فلو أن المسلمين تمسكوا بكتاب الله عز وجل لألقى الله عز وجل الرعب في قلوب أعدائهم، ولكن لما تركوا دينهم وراءهم، بل بدءوا هم بالسخرية من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وتركوا القرآن وراءهم وقالوا: رجعية، وقالوا: نريد أن نأخذ بالأشياء الحديثة الآن، ولا يوجد شيء في كتاب الله يأمر المرأة بالحجاب، ولا يوجد شيء في كتاب الله يأمر المرأة بالنقاب، فبدءوا يلغون دين الله؛ استحقوا تسلط الكفار عليهم، وتركهم الله عز وجل، وبلغ الأمر إلى أن يسخر منهم الكفار، ويصورون رسولهم صلوات الله وسلامه عليه بصور بذيئة، والمسلمون أقصى ما يملكون أن يسكتوا ولا يقدرون على شيء، وينظرون إلى أسلحة الكفار فيخافون منهم، يقولون: سنقاطع تجارة الكفار، ويقولون لهم: سنسلط عليكم مركز التجارة العالمي، وسنسلط عليكم كذا وكذا، فيخافون من هؤلاء، ومنهم من يقول: نشجب ونقاطع هذه الجريدة التي فعلت هذا الشيء، نقول: والدولة التي وراء هذه الجريدة أيضاً، والكفار الذين يدافعون عن ذلك، لكن تراهم يخافون من هؤلاء. نسأل الله عز وجل أن يثبت الإسلام في قلوب المسلمين، وأن يعيد المسلمين إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، وأن يلعن الكفرة والمجرمين، ويسلط عليهم من ينتقم منهم ويثأر لرسول الله صلوات الله وسلامه عليه. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الجاثية [14 - 17]

تفسير سورة الجاثية [14 - 17] أمر الله تعالى المؤمنين بالعفو والإعراض عن الكافرين، وذلك في وقت استضعاف المؤمنين، فالله سيجازي الكافرين بما كانوا يكسبون، ومن أشد الناس كفراً اليهود الذين اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم، وأعرضوا عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم المبشر به في التوراة، واتبعوا أهواءهم بغير هدى من الله.

تفسير قوله تعالى: (قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجعون أيام الله)

تفسير قوله تعالى: (قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجعون أيام الله) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الجاثية: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ * وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الجاثية:14 - 17]. في هذه الآيات يأمر الله عز وجل نبيه صلوات الله وسلامه عليه أن يقول للمؤمنين الذين يدعون إلى الله عز وجل: ((قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ)) والمعنى: أن يتحملوا الأذى في سبيل الله عز وجل، فالداعي إلى الله لا بد أن يمتحن ويبتلى، فأمرهم الله أن يصبروا حين يبلغون دين الله عز وجل ورسالته، وأن يتحملوا الأذى في سبيل ذلك، وقد تحمل النبي صلى الله عليه وسلم في مكة الأذى الشديد، حتى أذن الله عز وجل له بأن يهاجر إلى المدينة. وفي المدينة كذلك تحمل أذىً شديداً من الكفار حتى أسلم الكثيرون منهم، وتحمل الأذى الشديد من المنافقين ومن أنصارهم من اليهود، فكان يصبر صلوات الله وسلامه عليه حتى أمره الله عز وجل بأن يجاهد في سبيله سبحانه، فجاهد صلوات الله وسلامه عليه، فنصر الله عز وجل دينه بجهاد نبيه وجهاد المؤمنين. فالداعي حين يدعو إلى الله عز وجل عليه أن يتسم بالحلم وبالصبر، يقول الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125] فإذا استجاب المدعو فلله الحمد، وإذا لم يستجب فإما أن هذا المدعو يرجى من ورائه الخير، أو لا يرجى من ورائه الخير، بل يتسبب في أذى، فالأول يصبر عليه لعله يدخل في دين الله عز وجل، والثاني الذي يؤذي الإسلام والمسلمين، ويتعرض لدين الله عز وجل بالمنع والأذى؛ فهذا يجاهد بالسيف والسنان وبالقوة واللسان، بحسب ما يقدر عليه. فالمؤمن الذي يدعو إلى الله عز وجل ينبغي عليه ألا يؤاخذ الكافرين أو المدعوين على كل خطأ يصدر منهم، وإنما عليه أن يتغافل عنهم لعلهم يستجيبون إلى دين الله عز وجل، ويدخلون فيه. ولو أن كل إنسان حوسب على كل ما يقوله لأخذ الله عز وجل الناس جميعاً بذنوبهم، ولكن الله عز وجل يعفو عن كثير {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]. فهذه معاملة الله عز وجل للعباد، وكم من كفار كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم ويؤذون المسلمين سواء في مكة أو في المدينة، ثم من الله عز وجل عليهم بعد ذلك فأسلموا لله رب العالمين سبحانه وحسن إسلامهم. فالغرض: أن الذي يدعو إلى الله عليه أن يتحمل في سبيل الدعوة إلا أن تنتهك حرمات الله فلا صبر ولا حلم ولا انتظار، فالله قد شرع دفع المضرة من الكفار بالجهاد في سبيله سبحانه، فيكون الصبر على الشيء الذي مثله يصبر عليه، أما إذا كان شيئاً قد أوجب الدين الجهاد في سبيل الله بسببه، فإنه يجب على المسلمين أن يجاهدوا كما أمرهم الله سبحانه، وقد أمرهم أن يعدوا، فقال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال:60]. إن أعداء المسلمين كثيرون، وقد يكونون معروفين وقد لا يكونون كذلك، والمعروفون قد يكونون أصدقاءً للمسلمين، أو معهم في ديارهم، ويظهرون لهم المحبة، ولكن الله أعلم بما في قلوبهم، وأنها ليست مع المسلمين، وأنهم يتربصون بهم الدوائر، ولذلك حذر الله عز وجل نبيه وحذر المؤمنين من المنافقين، الذين يتربصون بالمؤمنين الدوائر، وذكر أوصافهم في سورة براءة، وفي سورة المنافقين، وفي سورة البقرة. وقول الله عز وجل: ((قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ)) فيه أن هذا الكافر لا يرجو حساباً، ولا بعثاً، فإذا دعي أن يدخل في الدين يقول: لا، {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24] هي الدنيا ولا حياة أخرى، فيجادل بالباطل، فالله يدعو الدعاة إلى الصبر إزاء هؤلاء وإلى الجدال بالحكمة والموعظة الحسنة. وليس ذلك لمن ينكر أشياء من الدين، أو يتعرض لسب الدين، إنما الجدال للكفار الذي يقول مثلاً: إن الآلهة متعددة وليس هناك إله واحد، كقول الكفار من قبل: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]. فيجادل بالتي هي أحسن كما جادل إبراهيم وموسى عليهما الصلاة والسلام، وكما جادل النبي صلوات الله وسلامه عليه. وقوله: ((يَغْفِرُوا)) أي: يتجاوزوا عن هذا الذي يقوله الكفار، ويستمرون في دعوتهم، لعل هؤلاء يستجيبون إلى الله عز وجل. وقوله: ((لِيَجْزِيَ قَوْمًا)) كأن اللام للعاقبة والمعنى لأجل أن يجزي الله قوماً بما كانوا يكسبون. وقوله: ((لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)) هذه قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو ويعقوب وعاصم، وقرأ أبو جعفر: (ليُجزَى قوماً بما كانوا يكسبون) والتقدير: ليُجزَى الخير قوماً، أو ليجزي الله عز وجل بالخير قوماً وبالشر قوماً، وكأنها بمعنى يعطي على قراءة أبي جعفر، فتنصب مفعولين والتقدير: ليجزي الله الخير قوماً، أو: ليجزي الله الشر قوماً. وباقي القراء منهم حمزة والكسائي وخلف وابن عامر يقرءونها: (لنجزي قوماً بما كانوا يكسبون) والنون نون العظمة فالله عز وجل يقول: نحن نجزي هؤلاء القوم بما اكتسبوا في الدنيا من حسنات ومن سيئات. وتنكير (قوماً) للتعظيم هذا إذا كان القوم من المؤمنين، أما إذا كانوا من الكافرين فيكون التنكير تحقيراً لهم، وهذا من أهداف التنكير فقد يكون للتعظيم، وقد يكون للتحقير، فهنا الله عز وجل يقول: ليجزي قوماً، فإذا كانوا مؤمنين فهم أعظم وأفضل الأقوام، فنكر قوماً لتعظيمهم، وإن كانوا من الكافرين فهم أحقر الأقوام، وأي قوم هم في البعد عن الله عز وجل فالله يجزيهم بما كانوا يكسبون من سيئات، فكأن قوماً هنا عائدة على المؤمنين وعلى الكافرين، كل بما كسب.

تفسير قوله تعالى: (من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها)

تفسير قوله تعالى: (من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها) يقول الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [الجاثية:15] الله عز وجل خلق السماوات والأرض حقاً، خلقهن بالحق، خلقهن ليحق الحق، فهو الحق سبحانه، وقوله الحق، ووعده حق، ولقاؤه حق، والساعة حق، والجنة حق، والنار حق. فلم يخلق الله سبحانه وتعالى هذا كله عبثاً، وإنما خلقه ليحق الحق، فالسماوات قد أقامها الله عز وجل بميزان العدل وبميزان القسط، والأرض كذلك أقامها الله عز وجل بميزان الحق والقسط. فيخبرنا سبحانه أنه لا بد من الرجوع إلى الله عز وجل حتى يحق الحق، فكم من إنسان كان في الدنيا من أهل الباطل هل يعقل أن يعيش في الباطل ويموت على الباطل وينتهي الأمر على ذلك؟ فلماذا خلق هذا الإنسان إن الله عز وجل خلقه لحكمة وهي أن يعبد ربه سبحانه، فإن لم يعبده استحق الجزاء من الله سبحانه وتعالى. فمن عمل صالحاً فعمله لنفسه {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، فلا يعمل الإنسان عملاً صالحاً ويكون الثواب لغيره، بل هو الذي يؤجر عند الله. ((وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا)) إذا جر على نفسه الوبال بالإساءة، وجر على نفسه عذاب الله سبحانه وتعالى فسوف يجزى بإساءتهٍ، والمرجع إلى الله عز وجل ليجازي المحسن على إحسانه، والمسيء على إساءته. ((مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ)) أي: له ثواب عمله ((وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا)) أي: أن نقمة الله وعذابه وعقابه على هذا العبد بسبب سيئاته. ((ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)) أي: أن المرجع إلى الله سبحانه تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة)

تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة) قال الله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الجاثية:16] كثيراً ما يذكر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ببني إسرائيل، وهم القوم الذين أوتوا كتاب التوراة من قبلنا وهو كتاب شريعة كما أوتينا هذا القرآن العظيم. فالله عز وجل يذكر النبي صلى الله عليه وسلم هنا ببني إسرائيل، وإسرائيل لقب ليعقوب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، والمعنى واذكر أبناء يعقوب الذين آتيناهم الكتاب الحكم النبوة. قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الجاثية:16] هذه نعم الله عز وجل على بني إسرائيل، فقد آتاهم الله كل هذه النعم، فاجتباهم وجعل منهم أنبياء وفضلهم على الخلق سبحانه، كما قال: ((وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ))، ولكن مع ذلك استوجب أكثرهم نقمة الله وعذابه؛ لأن الإنسان الذي يسيء لا ينفعه أن الله قد أنعم عليه وأعطاه في الدنيا ما أعطاه، بل لا بد أن يجازيه على إساءته. ولذلك يخبر الله عز وجل عن النعم التي أنعم بها عليهم، وكأنه يقول: قيسوا أنفسكم عليهم فقد آتاكم الله عز وجل نعماً كثيرة، فإذا ظننتم أن هذه النعم لفضلكم، وأنكم أهل الخير الذين تستحقون الجنة ولو بغير عمل فهذا هو الغرور، الذي تستحقون به العقوبة كما استحقها بنو إسرائيل، وإذا أخذتم ما آتاكم الله عز وجل بقوة كما أخذ الصالحون من قبلكم فسوف تستحقون ثواب الله عز وجل وجنته. فالله عز وجل آتى بني إسرائيل الكتاب الذي هو التوراة، والحكم بها، وقد يكون الحكم بمعنى الفصل ومعرفة القضاء بين الخلق، وقد يكون بمعنى الفقه في الدين، وقد يكون بمعنى الحكمة، وهذه هبة من الله عز وجل، فأعطى من يشاء منهم ذلك. وقوله تعالى: ((وَالنُّبُوَّةَ)) أي: جعلنا فيهم أنبياء، وبهذه الصفة فضل الله عز جل بني إسرائيل على العالمين لا لكونهم أهلاً لذلك، بل إن تفضيلهم هو أنه جعل لهم أنبياء تسوسهم، وتدعوهم إلى الهداية، وفي الآية إشارة إلى خبثهم؛ لأنهم كذبوا الأنبياء فكان يرسل إليهم نبي بين الفينة والأخرى. فالله عز وجل من عليهم برئيس يحكمهم الحكم المدني، ونبي يحكمهم بشرع الله سبحانه وتعالى، فالرئيس تكون له الجيوش والحكم بين الناس، والنبي يقوم بالتوجيه والإرشاد، كان ذلك من الله عز وجل رعاية لهم؛ لأنه يعلم ما في نفوسهم من الخبث، والشر والارتداد عن الدين، فلم يعرفوا الله سبحانه، وقد دعاهم موسى إلى ربهم، وعرفهم به وبين لهم الطريق المستقيم، وبعد أن أنعم عليهم وأنجاهم من فرعون وخرجوا من البحر وجدوا قوماً يعبدون أصناماً فقالوا لموسى: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138]، فقال لهم موسى عليه السلام: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:138 - 139] فالله عز وجل أنجاهم من الإهلاك ومن فرعون وقومه، وهم يريدون أن يهلكوا كما أهلك الله عز وجل هؤلاء، فأبوا إلا أن يعبدوا العجل من دون الله، فإذا بالله ينتصر لنفسه وينتقم منهم، ويأمر موسى أن يأمرهم بأن يقوم بعضهم بقتل البعض الآخر بالسيوف، فقتل في غداة واحدة سبعون ألفاً من هؤلاء المجرمين الذين عبدوا غير الله سبحانه وتعالى. فكان الانتقام حالاً، وهؤلاء لا يصلح معهم إلا ذلك، ويوم القيامة سوف يحاسبهم الله على ما قدموا، وسوف ينظروا بأعينهم العذاب، وكأن الله عز وجل يشير للمؤمنين بأن هؤلاء اليهود لا يصلح معهم إلا السيف، فلا تنفع معهم المعاهدات حتى يسمعوا كلام الله ويطيعوه. فلما عبدوا العجل من دون الله أخبرهم الله سبحانه بأنهم إذا أرادوا أن يتوبوا فعليهم أن يقتل بعضهم بعضاً، فقال الله تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} [البقرة:54] أي: هو هذا الأخير لكم والأفضل، فقام بعضهم إلى بعض، وألقى الله عليهم ظلمة، وكل منهم يضرب الآخر بالسيف ولا يدري من يضرب، حتى قتل منهم سبعون ألفاً، فجأر موسى إلى ربه: يا رب أهلكت عبادك، فإذا بالله يعفو عنهم بعد هذه المقتلة. فبنو إسرائيل لا يصلح معهم الكلام، وإلا لنفع كلام موسى معهم عليه الصلاة والسلام، ولما قال لهم: ادخلوا الباب سجداً امتنعوا عن ذلك، فقيل لهم: خذوا ما آتيناكم بقوة، فقالوا: لا نريد ذلك، ولما رفع فوقهم الجبل بادروا إلى التوبة، ثم لما كشفه عنهم عادوا إلى ظلمهم! فأخبر الله سبحانه أنه فضلهم على العالمين، وأرسل إليهم الأنبياء فكان جوابهم أن كفروا بالله سبحانه، وكذبوا أنبياءهم. وهذا تفضيل من الله عز وجل ورعاية لشأن هؤلاء لعلهم يتوبون، فلم يستجب منهم ويتبع الأنبياء إلا القليل. فذكر الله المؤمنين بحالهم وقال: ((وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ)) أي: جعلنا فيهم أنبياء، ((وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ)) أي: أعطيناهم من كل الطيبات، وأنزلنا عليهم المن والسلوى، وفتحنا لهم من بركات من السماء، وجعلناهم يذهبون إلى ديار الشام أرض البركة، فجعلنا لهم فيها معايش، وجعلنا لهم فيها ملكاً وفضلاً عظيماً. قال تعالى: ((وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ)) إما على عالمي زمانهم، أو على العالمين بأن جعل فيهم أنبياء كثيرين، فالأمة الوحيدة التي فيها أنبياء كثيرون هم بنو إسرائيل، وهذا تفضيل من الله عز وجل حتى يظلوا على الطريق المستقيم وهو فضل يستحق بسببه أن يشكر سبحانه، كيف وباقي النعم منه سبحانه وتعالى عليهم، فما استوجبوا إلا مقت الله بسبب ارتدادهم وبعدهم عن الدين!

تفسير قوله تعالى: (وآتيناهم بينات من الأمر)

تفسير قوله تعالى: (وآتيناهم بينات من الأمر) قال الله تعالى: {وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الجاثية:17]، الإنسان كما قال الله عز وجل عنه: {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات:6] فالإنسان جحود، يبتعد عن ربه سبحانه، والله يمن عليه بالنعم وهو يستجلب لنفسه النقم، فبنو إسرائيل آتاهم الله الكتاب حتى يهتدوا، ويعرفوا أحكام الله عز جل، وآتاهم الحكم، وجعل فيهم من يحكمهم بهذا الكتاب ويبين لهم الحق، وآتاهم النبوة، وجعل فيهم أنبياء، ورزقهم من فضله وفضلهم على العالمين، وآتاهم الحجج والمعجزات والآيات على يد موسى عليه الصلاة والسلام والأنبياء من بني إسرائيل. فآتاهم بينات من الأمر، لعلهم يتمسكون بالدين ويستجيبون للرسل، فلما أعطاهم كل ذلك قال الله تعالى: ((فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ)) أي: أن الله فضلهم مع أنهم لا يستحقون هذا التفضيل، ولذلك ليس كل من يؤتى نعمة من الله عز وجل يستحقها، فلا ينبغي أن تحسد أحداً على ما آتاه الله عز وجل من فضله، فقد يؤتي الله عز وجل الغنى أقواماً وهم لا يستحقون إلا النار، فليس كل من يؤتى نعمة من الله عز وجل يستحق جنة الله، فاليهود أعطاهم الله كل هذه النعم وكل هذا التفضيل وفي النهاية يستحقون نار جهنم. يقول الله تعالى: ((فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ)) فجاءهم العلم وعرفوا الحق، ومع ذلك جحدوا، واختلفوا فيما جاءهم من العلم، وأنكروا ما هو معلوم من دين الله عز وجل، ففضلوا الطمع في الدنيا على الزهد فيها وطلب الآخرة، بعد أن عرفوا التوراة، وعرفوا نبيهم، وحسد بعضهم البعض الآخر على ما آتاهم الله مما في التوراة من العلم. وكان من أعظم الحاسدين فيهم قارون، قال الله تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ} [القصص:76] فكان ابن عم لموسى عليه الصلاة والسلام، فحسد موسى أن آتاه الله عز وجل التوراة، وقد آتاه الله مالاً ما إن مفاتيح خزائنه لتنوء بالعصبة أولي القوة، فـ قارون كان من قوم موسى، ولم يكن من قوم فرعون، فتكبر على موسى وعلى قومه ومشى مع فرعون وجنوده، وترك قومه؛ تكبراً وحسداً أن آتاه الله المال ولم يعطه التوراة، فاستحق أن يخسف الله عز وجل به الأرض. فبنو إسرائيل لم يكفروا بالله إلا وهم يعرفون الله سبحانه وتعالى، ويعرفون نعم الله عز وجل، ويعرفون قدرة الله، ومع ذلك كفروا واختلفوا؛ بسبب حسد بعضهم بعضاً على الدنيا. قال سبحانه: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الجاثية:17]، فليس كل من أوتي علماً يكون قلبه تقياً، فالقلوب لا يعلم حقيقتها إلا الله سبحانه وتعالى، والعلم الذي يظهر من إنسان ليس دليلاً على ما في قلبه، فبنو إسرائيل آتاهم الله عز جل علماً وفضلهم على العالمين، فإذا بهذا العلم ينقلب في قلوبهم حسداً وبغضاً لبعضهم بعضاً حتى أهلكهم الله عز وجل ولعنهم، قال الله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79]. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الجاثية [17 - 20]

تفسير سورة الجاثية [17 - 20] لقد أنعم الله سبحانه وتعالى علينا بنعم عظيمة، أجلها وأعظمها: أن هدانا لهذا الدين القويم، فليتمسك به المسلم وليعض عليه بنواجذه، وليحذر من التفريط فيه طرفة عين، ولا يلقي بالاً لخزعبلات الذين لا يعلمون، وإن أبى فإنهم لن يدفعوا عنه مثقال ذرة من سخط الله إن حق عليه، فلابد من التمسك بحبل الله المتين، وولاية عباد الله الصالحين، ومعاداة وبغض القوم الظالمين من الكافرين والمنافقين.

تفسير قوله تعالى: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر)

تفسير قوله تعالى: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الجاثية: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ * هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية:18 - 20]. لما أخبر الله سبحانه تبارك وتعالى أنه آتى بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة، وأنه رزقهم من الطيبات، وامتن عليهم بأن فضلهم على العالمين، وآتاهم بينات من الأمر، وعرفوا الحق من الله عز وجل، فاختلفوا فيما بينهم، وحسد بعضهم بعضاً على ما آتاهم الله عز وجل من نعم، قال: {فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [الجاثية:17] أي: أنهم اختلفوا وهم على علم، وهم يعرفون الكتاب الذي أنزل عليهم، ويعرفون الحق الذي أراده الله سبحانه، فاختلافهم كان بعد أن عرفوا ذلك وعلموه من نبيهم عليه الصلاة والسلام، فأخبر سبحانه: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الجاثية:17] أي: وإن تركهم في الدنيا فهو يملي لهم سبحانه، وكيده متين، ثم يوم القيامة يحاسبهم ويعذبهم على ما صنعوا، وقد استحقوا أن يلعنهم الأنبياء من بني إسرائيل على تكذيبهم وعلى إعراضهم وبغيهم وحسدهم بعضهم بعضاً، فالله سبحانه وتعالى حين يذكر هذا عن بني إسرائيل فكأنه يحذر أمة النبي صلى الله عليه وسلم من أن يقعوا فيما وقع فيه هؤلاء، فقد جاءنا من الله عز وجل نور وكتاب مبين، جاءتنا شريعة كاملة من رب العالمين، فيحذرنا الله عز وجل من أن نختلف كما اختلف بنو إسرائيل فيكون مصيرنا كمصيرهم، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: ((ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا))، والشريعة: هي الملة، أي: جعلناك على ملة، جعلناك على طريقة مرضية، يرضى الله عز وجل عنها، فقد رضي لكم الإسلام العظيم ديناً، كما قال سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، فالإسلام هو شريعة رب العالمين سبحانه، فهو منهج وملة وطريق ومذهب يذهبون إليه، وتشرعون فيه، فهو الشريعة العظمى، والشريعة بمعنى المقصد، تطلق على مورد الماء الذي يرده الجميع، والشارع: الطريق الأعظم الذي يسير فيه الجميع، فهذه شريعة رب العالمين، وهي طريق الله الأعظم، وملة رب العالمين، ودين الله الذي ارتضاه لعباده، وجعله لنبيه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: ((ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ)) أي: شريعة من أمر الله، فنحن الذين أمرنا بها، ونحن الذين هديناكم إليها ووجهناكم لها، فالشريعة من أمر الله سبحانه ليست من أمر غيره. ((فَاتَّبِعْهَا)) يقال هذا للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو قد اتبع هذه الشريعة، وقد بلغها صلى الله عليه وسلم، فكأنه من باب: إياك أعني واسمعي يا جارة، فيقال للنبي صلى الله عليه وسلم: افعل كذا واحذر من كذا، وهو قد فعل كذا وقد حذر من كذا، ولكن المقصود أن يقال للأمة: إذا كان نبيكم صلى الله عليه وسلم يخاطب بذلك فأنتم المقصودون والمعنيون بذلك، وأنتم أولى بهذا الخطاب: ((فَاتَّبِعْهَا))، فهو يتبع والأمة تتبع وتتأسى به، كما قال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]، صلوات الله وسلامه عليه. قال: ((فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)) أي: لا تتبع أهواء هؤلاء الكفار الذين علموا ظواهر من الأمر ولم يستيقنوا بذلك، علموا أن هناك جنة وأن هناك ناراً، وأن الله عز وجل سيحاسبهم يوم القيامة، علموا بالنبي صلى الله عليه وسلم ولكن ليس علم يقين عندهم، فشكوا، وكان علمهم مجرد معرفة، فقد عرفوا النبي صلى الله عليه وسلم، لكنهم لم يتبعوه أنفة وحمية وعصبية، ورأوا أنهم أولى منه بالرسالة، فرفضوا دين رب العالمين، وشككوا حتى صار الأمر في قلوبهم الشك فيما جاء به النبي صلوات الله وسلامه عليه، فعلمهم بما جاءهم به النبي صلى الله عليه وسلم كلا علم. كذلك عرفوا القرآن ولكنهم لم ينتفعوا به، إلا أنهم وجدوا له حلاوة، وعليه طلاوة، وأنه كلام جميل، أما أنهم يتبعونه فقد رفضوا ذلك، وطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم، -إذا أراد أن يتبعوه- أن يبعد عنه الضعفاء وعن الصغار، وأن يبعد عن هؤلاء العبيد؛ لأنهم هم السادة الكبار، ولا يجلسون مع أمثال هؤلاء، وهذا هوى في قلوبهم، فالدين يذلل العباد لرب العباد سبحانه تبارك وتعالى، يخرجهم من الظلمات إلى النور، يخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله الواحد القهار، اسمعوا إلى كلام ربعي بن عامر حين كلم عظيم الفرس وقال له: إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله الواحد القهار، فالله عز وجل ابتعث النبي صلى الله عليه وسلم فأمر المؤمنين، فخرجوا مبعوثين من قبل رب العالمين يدعون الخلق ويخرجونهم بإذنه سبحانه من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده لا شريك له. قال تعالى: ((فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ))، فقد قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: اذكر آلهتنا بخير ونحن نتبعك، يعني: يريدونه أن يقول: إن الأصنام هذه على خير، أي: أنها تنفع وتضر، فإذا قلت ذلك فإننا سوف نتبعك وهل ترى أن هؤلاء سيتبعون النبي صلى الله عليه وسلم حقاً أم أنهم يريدون شيئاً آخر؟ هم يريدون أن يوقعوا النبي صلى الله عليه وسلم في كلام يأخذونه عليه، فيقولون له: اجعل لنا يوماً ولهؤلاء يوماً، فنحن لا نجلس مع هؤلاء، فإذا فعل ذلك صلى الله عليه وسلم قالوا: انظروا إلى هذا الذي يدعو للمساواة، ويدعي أن الناس سواسية كأسنان المشط، وقد ميزنا على هؤلاء، إذاً دعوته هذه دعوة باطلة!

تفسير قوله تعالى: (إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا)

تفسير قوله تعالى: (إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً) كان الكفار يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: اذكر اللات والعزى بخير ونحن سوف نتبعك فيما أنت عليه، فربنا يحذر النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [الجاثية:18 - 19]، فهم لن يغنوا عن أنفسهم فضلاً عن أن يغنوا عن غيرهم، {إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية:19]. فالكفار -بل الخلق جميعهم- لا يغني أحد عن نفسه ولا عن غيره أمام رب العالمين، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت:46]، فلا يقدر أحد أن يغير شيئاً مما كتب عليه عند الله سبحانه يوم يحاسب، والمنافقون يوم القيامة يحلفون لله عز وجل، ويكذبون على الله، {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [المجادلة:18]، فيفضحهم الله عز وجل، ويجعل أفواههم مكتومة، وتنطق عليهم جوارحهم فتكذبهم بما كانوا يقولون ويفترون. فقوله سبحانه: ((إِنَّهُمْ)) أي: إن الكفار، وإن الناس جميعهم: ((لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ))، هذا في الدنيا، أي: في الدنيا الظالمون بعضهم أولياء بعض، والظالمون يدخل تحتها كل من ظلم نفسه وظلم غيره، يدخل تحتها الكفار المشركون الذين ظلموا أنفسهم بعبادة غير الله، يدخل تحتها اليهود والنصارى الذين قالوا على الله سبحانه قولاً عظيماً، كما قال عنهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30]، يدخل تحتها المنافقون الذين ظلموا أنفسهم، وظلموا النبي صلوات الله وسلامه عليه، وكادوا للإسلام والمسلمين، وأرادوا إدخال الخلل والفساد في قلوب المسلمين. وهنا الله عز وجل نكر (شيئاً) فقال: ((إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا))، والنكرة في مقام النفي تدل على أقل القليل، أي: إنهم لن يغنوا عنك من الله ولو شيئاً يسيراً.

التحذير من ولاية الظالمين

التحذير من ولاية الظالمين ثم قال سبحانه: {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ} [الجاثية:19] أي: في الدنيا، {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الجاثية:19] يحذر الله عز وجل المؤمنين من الظلمة ومن الكفرة، وكأنه يقول لهم: إن الذي يتولى أمركم هو من كان على دينكم، وهو من يحبكم لله عز وجل، أما الذين يكرهونكم في الله، والذين يكيدون لكم، حتى وإن أظهروا أمامكم التسامح والمساواة والحرية والديمقراطية، فهؤلاء كاذبون، مجرمون، اخترعوا هذه الأشياء ليضيعوا عليكم دينكم، قال: {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الجاثية:19] أي: أن الظلمة الكفرة من اليهود والنصارى والمنافقين والمشركين ينصر بعضهم بعضاً، فإن الولاية تأتي بمعنى الدفاع وبمعنى الدفع والنصر، فهؤلاء الكفار أعداء لكم، يتولى بعضهم بعضاً عليكم أنتم -أيها المسلمون- وينصر بعضهم بعضاً عليكم، يأتون ويجمعون أنفسهم ليقاتلوكم وليخرجوكم عن دينكم، قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، والذي قال ذلك وشهد به ليس نحن، هذا رب العالمين سبحانه، الذي يعلم خلقه، {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، علم ما في القلوب، فمهما تبسم لك الكافر، فالله أعلم بما في نفسه، والأيام تظهر للمسلمين غباء ما كان في عقولهم حين صدقوا هؤلاء، وتركوا ما قاله الله سبحانه تبارك وتعالى، قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51]، وما قاله سبحانه: ((وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض)). قد أخبر عن حقيقتهم بقوله: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، أخبر الله بذلك وإذا بالمسلمين تأخذهم أمور الدنيا ويقولون: هؤلاء متقدمون، هؤلاء يحبون الدنيا كلها، هؤلاء يعملون كذا، هؤلاء يعملون كذا، هذه العداوة وهذا التحذير في اليهود والنصارى الذين كانوا أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وربنا يحذر المؤمنين في كل زمان، احذروا من هؤلاء، فإن عدوك هو عدو دينك، فمن عادى دينك فهو يعاديك حتى وإن أظهر لك المسالمة، وإن أظهر لك أنك حبيب له، فإنه يظهر ذلك حين تكون قوياً، أما حين تكون ضعيفاً، فإنه يظهر هذه العداوة، فهم يقولون مثلاً: إن السخرية من الأديان ممنوعة، وهم ماذا يعملون اليوم؟ هؤلاء يسبون الإسلام، ويسبون المسلمين، وكل يوم يأتون بشيء جديد، فهذه الدنمارك شتمت النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرجت الصور السافلة التي تدل على حقارتهم ودناءتهم، وأنهم كلاب مجرمون خنازير، ثم تبعتها فرنسا، وبعدها النمسا، ثم بعد ذلك يظهر الرؤساء من فرنسا وأمريكا ويقولون: لا، هذا الشيء عيب، ثم تأتي صحفهم وتنشر هذا الشيء، وبعد هذا يقولون للمسلمين: اتركوا الإرهاب الذي أنتم فيه، وحاولوا تتعودوا على المسامحة الدينية، أي: نحن نضربكم وأنتم تسامحوننا! نحن نقتلكم وأنتم تسامحوننا! نحن نحتل دياركم وأنتم تسامحوننا! لكن العكس لا، فهم غير ممكن أن يقبلوا من المسلمين ذلك، فمجرد أن إيران قالت: إنها ستصنع قنبلة ذرية، أو إنها ستقوم بتخصيب اليورانيوم لأغراض سلمية، فقالوا لها: لن نسمح لكم بهذا الشيء، حتى فرنسا التي أصبحت الآن لا يؤبه بها تريد أن ترجع الآن لأيام نابليون، فتقول: عندنا الخيارات مفتوحة، ونحن سوف نتصرف معها، يعني: تريد تقول: نحن كذلك ما زلنا من أيام نابليون نحكم العالم، ولنا كلمة الآن، وممكن نتصرف مع إيران مثلما نريد، ونبعث لها الذي نريد، ولنا الخيارات التقليدية والغير تقليدية، يعني: نحن ممكن نرسل قنبلة ذرية من عندنا على إيران، لنا الخيار، من الذي أعطاهم هذا الخيار؟ إنه خيبة المسلمين، وخيبة العرب، بعدهم عن دينهم، تكذيبهم لربهم سبحانه، فربنا قال لنا: احذروا من هؤلاء، فقال بعض المسلمين: هؤلاء تغيروا، وهم لم يتغيروا، فإن في قلوبهم الغل، وفي قلوبهم البغض للإسلام والمسلمين، وفي فرنسا لما قتلوا واحداً من المسلمين هنالك، وخرج العرب بمظاهرات، قالوا: هؤلاء حثالة المجتمع، هؤلاء المشردون من المجتمع، هؤلاء المفروض أن يرجعوا لبلادهم، هؤلاء كذا، وشتموا العرب، وشتموا الإسلام والمسلمين، وظهر هؤلاء أمام العالم كله يتكلمون بأن هؤلاء مجموعة من المتظاهرين، ولم يقولوا: إنهم مسلمون، وهذه حقيقة الأمر، أنهم عرب وأنهم مسلمون، فأظهروا للعالم أن هؤلاء السفلة والأوباش، وأنهم لم يتعلموا شيئاً، وأن المفروض أن يرجعوا إلى بلادهم؛ لأنهم جهلة. وهكذا أصبح المسلمون لا يتعلمون إلا حين تحتل ديارهم، ويظهر المنافقون فيهم ليأتي الأمريكان وغيرهم يسلطونهم على المسلمين في ديارهم، فقد سلطوا المنافقين في العراق على أهل العراق، حتى جأر أهل العراق وقالوا: سجون الأمريكان أرحم من سجون المسلمين، قالوا هذا الشيء؛ لأن هؤلاء الذين يتسلطون على المسلمين ليسوا مسلمين، الذين يقومون بسجن وتعذيب المسلمين ليسوا مسلمين، فالكافر يأتي إلى بلاد المسلمين ولا يريد أن يجلس فيها، بل يريد أن يأكل خيراتها، وأن يولي عليها منافقين يطيعونه فيما يقول، ولذلك انظروا ماذا عملوا في العراق، أول ما دخلوه استولوا على منابع البترول على الأراضي المحيطة بالفرات؛ لأن هدفهم أخذ خيرات العراق، وإقامة دولتهم الصليبية، وذلك أن الكنيست الإسرائيلي معلق فيه: دولة إسرائيل من النيل إلى الفرات، وستظل إسرائيل تعمل إلى أن يتم ذلك، فتحتل الدول العربية، وتأخذ ما تريد منهم تحت ضغط الحرية والديمقراطية والحداثة، وكأنهم يقولون: دعوا الجهل الذي أنتم فيه إلى غاية أن نحتل بلادكم، ثم يجد المسلمون في النهاية أنفسهم لا يملكون شيئاً، فضاع منهم دينهم، وضاعت منهم ديارهم وأموالهم، وأخذ الغرب ذلك، إلا أن يفيق المسلمون لأمر الله عز وجل، ويرجعوا إلى دينه. قال الله تعالى: ((َإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)) أي: لن يكونوا أولياء لكم أيها المسلمون، وإنما هم يوالي بعضهم بعضاً، وينصر بعضهم بعضاً، وسيكونون عليكم في يوم من الأيام. ثم قال تعالى: ((وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ))، فلم يقل: ولي المسلمين؛ لأن الكل يقول: أنا مسلم، وإنما قال: ((وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ)) أي: الذين اتقوا الله سبحانه وآمنوا به، فما قالوا: نحن مسلمون نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجعلون القرآن معلقاً في السيارة أو في البيوت ولا يعرفون عنه شيئاً، ولا قاولا: نحكم بالشرائع المدنية، والقرآن هذا كان في الزمان الأول، فهو كتاب رجعي، دعنا في الشرائع المدنية الآن! فليس هؤلاء الذين يقولون الإسلام بألسنتهم هم أولياء الله، وإنما أولياؤه الذين اتقت قلوبهم ربهم سبحانه، دخل الإيمان فعمر قلوبهم، ونورها، خافوا من ربهم سبحانه، فعملوا ليوم الحساب، وعملوا لتحصيل تقوى الله سبحانه فحصلوها، واتقوا غضبه سبحانه، فهؤلاء هم الذين يتولى الله عز وجل أمرهم ويدافع عنهم، فقال سبحانه: ((وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ)) أي: نصير ومدافع.

تفسير قوله تعالى: (هذا بصائر للناس)

تفسير قوله تعالى: (هذا بصائر للناس) قال تعالى: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ} [الجاثية:20]، يعني: جعلنا لكم المحجة البيضاء أمامكم بصائر، أي: كأن الجميع يبصر ما في الدين؛ لشدة وضوحه، وبيانه. فقوله: ((هَذَا بَصَائِرُ)) أي: قد بصرناكم وقد أعذر من أنذر، وما قصر من بصر. قوله: {وَهُدًى} [الجاثية:20] أي: هدى للناس، فيهدي الله عز وجل الخلق بهذا الدين، فمن استجاب فقد هداه الله عز وجل ورحمه، كما قال سبحانه: {وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية:20] أي: يهدي الله المؤمنين ويرحمهم عز وجل، ويرفع عنهم مقته وغضبه وعذابه في الدنيا والآخرة. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عباده المؤمنين، المتقين، وأن ينصر الإسلام والمسلمين، وأن يذل الشرك والمشركين. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الجاثية [18 - 22]

تفسير سورة الجاثية [18 - 22] لقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم بشريعة مستقلة تامة مبينة لجميع الأحكام، مستوعبة لقضايا الزمان، من يوم نزولها إلى يوم القيامة، ففيها الهدى والنور؛ لأنها من عند رب العباد، العليم بما يحتاج إليه الخلق، وإذا كانت قد جاءت الشريعة هكذا فالواجب على المؤمن الإذعان والاستسلام لها والتجرد لاتباعها، والحذر من الأهواء الباطلة، والفرق المخالفة، والأديان الكافرة، والأمم الجاهلة، فـ (إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً).

تفسير قوله تعالى: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر)

تفسير قوله تعالى: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الجاثية: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ * هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الجاثية:18 - 22]. يقول الله عز وجل لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية:18]، لما ذكر الله موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وذكر أنه آتى بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقهم من الطيبات وفضلهم على العالمين، كما قال تعالى: {وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأَمْرِ} [الجاثية:17]، ذكر أنه جعل رسوله صلى الله عليه وسلم نبياً للناس، ورسولاً للخلق جميعهم صلوات الله وسلامه عليه، وأنه جعله على شريعة، أي: على ملة كاملة، وعلى طريق مستقيم قويم، وهو هذه الشريعة.

معنى الشريعة

معنى الشريعة الشريعة والشرع هو: ما جعله الله عز وجل للعباد منهجاً يسيرون عليه. وهما مأخوذان من الشارع بمعنى: الطريق الأعظم الذي يمشي فيه الناس. ومن مشرعة الماء بمعنى: مكان المياه ومجتمعها الذي يرد عليه الناس فيشربون منه. فشريعة الله عز وجل التي جاءت من عنده سبحانه وتعالى هي مورد ومنهل الأحكام التي تتلقى من الله عز وجل، وقد جعل الله نبيه على شريعة، وعلى ملة، وهي دين الإسلام الذي ارتضاه الله عز وجل لخلقه، فجعله منهجاً كاملاً في العقائد التي يريد الله عز وجل من العباد أن يكونوا عليها في العبادات، وفي الأحكام الفقهية التي يلتزمون بها، ويعبدون الله سبحانه تبارك وتعالى بها، وفي الأخلاق، وفي العمل ليوم الدين، وفي الإخلاص، وغير ذلك مما أراده الله سبحانه تبارك وتعالى وبينه ووضحه في هذه الشريعة، وجعل الناس على بصيرة من ذلك.

جهل من لم يدخل في الإسلام ونقص علمه

جهل من لم يدخل في الإسلام ونقص علمه قال تعالى: ((فَاتَّبِعْهَا)) أي: فاتبع هذه الشريعة، واحذر أن تتبع ((أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ))، من اليهود، والنصارى، والمشركين، فإن هؤلاء علموا ظاهراً من الحياة الدنيا، ولم يعلموا علم اليقين بما عند الله سبحانه تبارك وتعالى، ولذلك علموا أن النبي صلى الله عليه وسلم رسول رب العالمين، ومع ذلك لم يدخل الكثيرون منهم في دينه صلوات الله وسلامه عليه، وأبوا إلا الشرك والبعد عن النبي صلى الله عليه وسلم، فوصفهم الله عز وجل بالجهل، وبأنهم لا يعملون، ولو علموا علم اليقين لدخلوا في شريعة سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه، بدلاً من أن يلحون ويتعنتون ويطلبون منك أن تفجر لهم من الأرض ينبوعاً أو أن تجعل لهم الصفا ذهباً أو أن تنزل عليهم من السماء ما يشهد أمامهم بأنك رسول من رب العالمين، فهم جهلة لا يعلمون، والله على كل شيء قدير، ولكنه لن يجعل ما يتمناه هؤلاء القوم بأهوائهم حقيقة لهم، ولن يحقق لهم تعنتهم وطلبهم.

تفسير قوله تعالى: (إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا)

تفسير قوله تعالى: (إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً) قال تعالى: {إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [الجاثية:19]، ولن يغنوا كذلك عن أنفسهم من الله شيئاً، فلو اتبعت أهواء هؤلاء لضللت، وحاشا صلى الله عليه وسلم أن يتبع أهواءهم، ولكن الله يخاطب نبيه هنا والخطاب لجميع الأمة، فإذا كان الله يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: لو اتبعت هؤلاء اليهود والنصارى والمشركين لضللت، فكيف يكون أتباع النبي صلى الله عليه وسلم لو اتبعوهم؟ وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أمته ستتبعهم: (حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه وراءهم، قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟)، وقد فعل المسلمون ذلك، حتى صاروا كأنهم منهم، والآخرون لا يقبلونهم أن يكونوا منهم، بل إنهم يستكبرون عليهم، وهم ينظرون إليهم نظرة استعلاء واحتقار لهم، ولما مشى المسلمون خلفهم صدق فيهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم)، وصدق فيهم أيضاً ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من أنهم يجتمعون عليكم، ولما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن سبب ذلك قال: (يشد الله قلوبهم)، يعني: يقويهم ويجرئهم عليكم. فيجرئهم علينا عندما نتنازل عن شرع الله عز وجل، ونبتعد عن دينه، فيشد الله قلوب أهل الذمة، فأول ما يصنعون أنهم يمنعون الجزية ولا يدفعونها، ولا يزالون يتقوون إلى أن يدفعها المسلمون لهم، وليس هم الذين يدفعونها، وهذا عندما يترك المسلمون الجهاد في سبيل الله سبحانه، ويتركون شرع الله وراء ظهورهم. فإذا فعل المسلمون ذلك -وهذا ما حصل- فإن الكفار يفرضون عليهم الإتاوات، ويأخذونها منهم، ويمنعونهم من الجهاد في سبيل الله سبحانه، وإعلاء كلمته، وحتى ولو قالوا بألسنتهم بأنهم يحكمون بشرع الله، ويعلون دينه، فإن الحقيقة خلاف ذلك، ولا توجد دولة مسلمة تقيم شرع الله سبحانه، إلا ما كان في المملكة العربية السعودية من إقامة الحدود، أما باقي دول الإسلام فكلها تزعم أنها تقيم شرع الله، وأن دساتيرها لا تخالف شرع الله بزعمهم وكذبهم، والناس يصدقونهم في ذلك، في حين أن هذه الدول تلهث وراء الغرب الكافر، وتأخذ تشريعاته، فهذه الدولة تتبع القانون الفرنسي، وهذه تتبع القانون الإنجليزي، وكل دولة تتبع هواها في ذلك.

فضل إقامة الحدود

فضل إقامة الحدود وأما أحكام شرع الله عز وجل، وحدود كتاب الله، وما جاء في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يطبق شيء من ذلك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لحد واحد يقام في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحاً)، فلأن يقيموا حداً واحداً من حدود كتاب الله عز وجل، خير لهم؛ لأنهم بإقامتهم لحدود الله سبحانه وتعالى، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر يفتح عليهم البركات من السماء والأرض، ولكنهم اتبعوا أهواء الكفار. فمثلاً يقول الكفار: تحرير النساء، وهؤلاء يقولون كذباً وزوراً كما يقول هؤلاء المجرمون: نحرر النساء! ولا يدرون بأن النساء كن عند هؤلاء الكفار مجرد إماء، وكانت المرأة عندهم شيطاناً ورجساً، وقد كان اليهود إذا حاضت المرأة يهجرون البيت كله الذي فيه هذه المرأة؛ لأنها عندهم نجسة. فقالوا: نحرر المرأة مما كانوا فيه من رق للمرأة، ومن وصفها بأنها شيطان، ومن كونها عندهم لا تعقل ولا تفهم، فقالوا: نحرر المرأة، فإذا بالمسلمين يقولون: نحرر المرأة، ومن أي شيء يحرر المسلمون المرأة؟! لم يبق عندهم إلا أن يحرروها بزعمهم من شرع ربنا سبحانه فيقولون: هي حرة تلبس ما تشاء، وتفعل ما تشاء، وتخرج مثل الذكور، وليس لأحد سلطان عليها، حتى إن بعض الكافرات ممن تكتب في صحف المسلمين تقول: لا بد من تحرير المرأة، ولا مانع من قوامة المرأة على الرجل، وهي أستاذة في الفلسفة، ومع ذلك تتكلم بهذا الشيء! فقد أصبح كل من هب ودب يتكلم في دين الله عز وجل، حتى هذه المرأة الفاجرة المتبرجة الكافرة تقول ذلك، ولا تستحي أن تقول: لا مانع من قوامة المرأة على الرجل! والله عز وجل يقول: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء:34]، فضل الله عز وجل الرجل على المرأة في الخلقة، وجعل له عليها القوامة عليها، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة). فقال المشايخ بجواز ذلك، وأنه ليس هناك مانع من أن تتولى المرأة أمر الناس، وهذا الكلام هو في بنت كسرى فقط، وأما باقي الناس فكلهم مفلحون، وكل من يولي أمره امرأة فهو مفلح، ولكن يختلف الفرس! فهؤلاء الكذابون الأفاكون الذين يكذبون على النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤولون ما يقوله صلوات الله وسلامه عليه هم الذين جرءوا أمثال هؤلاء الفاجرات على ذلك، وجرءوهن على دين الله سبحانه بفتواهم: أنه لا مانع أن تكون المرأة قوامة على الرجل، ولا مانع أن تكون المرأة رئيسة أو تكون ملكة أو تكون ما تكون، لا مانع من ذلك، مجاملة للغرب الكافر؛ لأنهم في ميثاق الأمم المتحدة أول ما ذكروا في ذلك تحرير المرأة، وأن المرأة تكون كالرجل في كل شيء، ولا بد من موافقة الكل على ذلك، فإذا بحكومات الدول توافق على ذلك، وإذا بالمشايخ يهرعون وراءهم، ويقولون هذا الشيء، فتجترئ هذه المرأة الفاجرة وتقول: ما المانع أن تكون المرأة نصيبها في الميراث كالرجل؟ وأنا شخصياً أوصي بهذا الشيء، وأن يكون ابني كبنتي، ولا تكون البنت أقل من الابن، وتجترئ على كتاب الله، والذي جرأها على ذلك خيبة المشايخ، وخيبة المسلمين. فإنهم تركوا الدين وراءهم فاجترأت الفاجرات والكافرات والعاهرات بالكلام، وحتى الممثلة الفاجرة المجرمة تتكلم في دين الله سبحانه تبارك وتعالى، وتقول: أنا أرى كذا وكذا!!! فإذا تكلم أهل الدين قالوا: رجعيون، وقالوا: أصوليون، وقالوا: إرهابيون، وقالوا: متزمتون، فتركوا الدين وراءهم، وأصبح الذين يتكلمون في دين الله الصحفي المأجور العميل، والمرأة الفاجرة المجرمة، والمرأة العاهرة الممثلة، والمغنية، والرقاصة. وإذا تكلم أهل الدين قالوا لهم: ما لكم ولهذا؟! فنحن ما تأخرنا إلا بهذا الشيء! ألا لعنة الله على الكافرين، فإن شرع الله عز وجل من تمسك به وجعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن ألقاه وراء ظهره قاده إلى نار جهنم والعياذ بالله، فكتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، من أخذ به عصم، ففيه العصمة، ولا تغتر بكثرة الهلكى والفسقة والمجرمين، قال بعض السلف: الزم طريق الهدى ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين، فالهلكى كثيرون، ولكن الزم دين الله عز وجل وشرعه، قال تعالى: ((َلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)). فلا تتبع أهواء هؤلاء، ((إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا))، فكل إنسان مسئول عن نفسه يوم القيامة، أما من يفتي للناس ويقول: أنا أحملها يوم القيامة، فقد قال الله عز وجل: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21]، فمن يحلل للناس الربا ويقول: أنا أحملها يوم القيامة، فليحمل مصيبته، وكل إنسان قد عرف حكم الربا في دين الله عز وجل، وعرف الحلال من الحرم. والذي يحلل بيع الخمر للكفار ويقول: أنا أحملها عند الله يوم القيامة، أيحمل خبثاً من الخبائث في الدنيا وفي الآخرة؟ ولا حول ولا قوة إلا بالله. فيوم القيامة لا يغني أحد عن أحد شيئاً، كما قال الله: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21]. وقال: {ولا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة، (لعن عاصرها ومعتصرها وبائعها ومشتريها، وساقيها ومسقيها، وحاملها والمحمولة إليه، وآكل ثمنها). ثم بعد ذلك يجوز بعضهم بيعها للكفار! ويجيز للمسلم أن يبيعها للكافر في الفنادق في بلاد المسلمين، فطالما الكفار يشربونها فالمسلمون يبيعونها لهم!

سبب تسلط الأعداء علينا

سبب تسلط الأعداء علينا لما تنازل المسلمون عن دين الله سلط الله عز وجل عليهم أعداءه سبحانه، فأصبحوا لا يملكون إلا الشجب والصراخ واللجوء إلى الأمم المتحدة أن يعملوا لهم شيئاً حتى لا يشتم ديننا، ولا يفعل كذا! فرضوا بالذل، فسلط الله عز وجل عليهم من يذلهم ويتحكم فيهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم بأذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله، ورضيتم بالزرع سلط الله عليكم ذلاً، لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم). فإذا رضيتم بالدنيا، وطلبتموها، وتركتم الآخرة وراء ظهوركم، و (إذا تبايعتم بالعينة)، أي: الربا، وإذا حلل لكم الربا، وأفتاكم المفتون بأنه لا يوجد مانع في الصورة الفلانية فاعملوها، وهي من الربا، والعينة صورة من صور الربا المغطى، وفيها التدليس، والضحك على الناس والخديعة، وهي مثل أن يبيع الإنسان الثوب ولا يريد أن يبيعه، وإنما يريد أن يأخذ مائة درهم ويدفع مكانها مائتان، فهذه من الربا، فهو يقول لك: اشتر مني هذا الثوب بمائة جنيه، وعندما يقبضها، يقول: بعه لي بالتقسيط بمائة وخمسين، فكأنه في الحقيقة أخذ مائة ليردها مائة وخمسين، فهذه هي العينة، أخذ مالاً ليرده أكثر منه، فتحايلوا على الربا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة) يعني: تحايلتم على تحليل ما حرم الله سبحانه. (إذا تبايعتم بالعينة، واتبعتم أذناب البقر) أي: إذا رضي الله عنه كل إنسان بهذا الشيء، ولم يفكر في غيره، وإنما كل تفكيره في ماله. (ورضيتم بالزرع) أي: رضيتم بالزراعة والعمل فيها، ولم يهتم بغيرها، (وتركتم الجهاد في سبيل الله)، ولغيتم آياته وأحاديثه من المناهج، فإذا فعلتم ذلك (سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم)، أي: حتى يرجع كل إنسان إلى دينه، ويعرف الحق الذي جاءه من عند الله، ويتمسك بكتاب الله سبحانه وسنة نبيه صلوات الله وسلامه عليه، وهذا حال المسلمين الآن فكل منهم قد رضي بما هو فيه، فهذا راض بماله، وهذا راض بعمله، وكل إنسان مشغول بنفسه، يريد أن يأكل لقمة عيشه، ويتعلل بما وراءه، وإذا قيل له: أد زكاة مالك، قال: لا أحد محتاج أو أن الناس لا يستحقونها. وأحد المسلمين يسأل بأنه تزوج امرأة تملك من المال مائتين ألفاً، وأنها لا تؤدي الزكاة، ولما سألها عن الحج استهزأت، ولا تصلي، فيسأل ماذا يعمل؟ لا يحل له أن يعيش معها وهي كافرة، ولما سئل: لماذا تزوجتها؟ قال: بسبب مالها! فلما اتبع المسلمون الغرب الكافر قلدوهم في كل شيء، فلم يبق لهم من الإسلام إلا الأسماء، اسم هذا مسلم وهذه مسلمة، ولم يدخل فيهم حقيقة الإسلام، فتجد الكثيرين منهم لا يعرفون شيئاً عن دين ربهم سبحانه، وتجد الكثيرين يحاربون دينهم وهم يعرفون أو لا يعرفون قبل أعدائهم، ولذلك سلط الله عز وجل بعضهم على بعض، وجعل بأسهم بينهم كما جعل اليهود والنصارى من قبل. قال الله عز وجل: {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [الجاثية:18 - 19]، وقال: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21]. وقد قال هذا للنبي صلى الله عليه وسلم، فكيف بغيره؟ أي: أن الكفار واليهود والنصارى لن ينفعوك يا محمد يوم القيامة. فهم ((لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا)). وشيئاً هنا: نكرة في سياق النفي فتفيد العموم، أي: لن يغنوا عنك ولو بأقل شيء، ولو شيئاً يسيراً جداً، فلن يغنوا عنك ولن ينفعوك عند الله عز وجل.

ولاية الله لعباده المتقين

ولاية الله لعباده المتقين قال الله تعالى: {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الجاثية:19] أي: الذين ظلموا أنفسهم بشركهم وبكفرهم، فالظلمة بعضهم أعوان بعض، فيعين بعضهم بعضاً على الإسلام، وعلى أهل الإسلام، {إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية:19]، ولم يقل: المسلمين؛ لأن الكثير يزعمون أنهم على الإسلام، فكل أحد يقول: أنا مسلم. فهذا يشرب الخمر ويقول: أنا مسلم، وهذا يفعل الفواحش ويقول: أنا مسلم، وهذا يفعل كذا ويقول: أنا مسلم، فلذلك قال الله: (وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) الذين يتقون الله، ويخافونه، ويقدمون له سبحانه وتعالى، فهؤلاء هم الذين يتولاهم وينصرهم ويدفع عنهم سبحانه، ويدافع عنهم الله سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (هذا بصائر للناس)

تفسير قوله تعالى: (هذا بصائر للناس) قال الله تعالى: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية:20] أي: هذا الذي ذكرناه، وجاءك من عند الله، فيه دلائل بينة واضحة على وحدانية الله سبحانه وتعالى، وقد أخبركم الله فيه عما يريده منكم. ففيه براهين، ودلائل ومعالم للناس، وفيه حدود الله عز وجل وأحكامه، فقد وضح لكم شرعه، فجعله كالشيء المبصر تراه أمامك واضحاً، فلا إشكال في شرع الله عز وجل، فقد وضح كل شيء في كتابه وعلى لسان نبيه صلوات الله وسلامه عليه وبفعله. ((هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى)) أي: هذا القرآن العظيم هدى من الله، يبصر الخلق، ويهديهم الله عز وجل رحمة بهم. فالحجة تقام على الجميع بهذا القرآن، وأما الهداية والرحمة فهي لمن اختصه الله عز وجل، فيحول من يشاء إلى دينه سبحانه وتعالى، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بفضله وبكرمه. وأما الرسول فإنما عليه أن يبين، وأن يبلغ صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة:99]، وقال: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:54]. فالرسول يبين عليه الصلاة والسلام، {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:213]، فيرحم عباده الذين يصدقون ويؤمنون ويتابعون الرسول صلوات الله وسلامه عليه.

تفسير قوله تعالى: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات)

تفسير قوله تعالى: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات) قال الله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21] أي: اضرب عن هؤلاء الكفار، وعما يقولونه لك، وانظر في حالهم، بل أحسبوا، أي: أحس وظن وزعم هؤلاء وقد اجترحوا السيئات، أي: اكتسبوها واقترفوها من الجارحة، والجارحة الكاسبة هي: جوارح الإنسان كاليدين ونحوها، التي يجترح بها، أي: يمسك ويأخذ ويكسب، فاجترح بمعنى: اكتسب واقترف. فهؤلاء الكفار الذين اكتسبوا السيئات فوقعوا في الشرك بالله سبحانه، وظلموا العباد، هل حسبوا وظنوا وزعموا: ((أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ))؟ أي: أن نجعلهم كالذين صدقوا بكتابنا وبرسولنا عليه الصلاة والسلام، وعملوا بكلام رب العالمين متبعين له سبحانه، فهل نجعل هؤلاء كهؤلاء؟ ((سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ)) أي: نجعلهم سواء، فهي منصوبة على ذلك؛ لأن المفعول الثاني لنجعل (أن نجعلهم) سواء، وهذه قراءة حفص عن عاصم وحمزة، والكسائي، وخلف وقرأ باقي القراء أن نجعلهم: ((سَوَاءٌ مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ)) على الابتداء والخبر يعني: ((مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ)) سواء فنجعلهم كذلك، أي: هل ظنوا أن نجعلهم مثل ما كانوا في الحياة الدنيا ثم يموتون ولا بعث؟ هل يظنون ذلك؟ وهل يظلمون في الدنيا، ولا ينصرون يوم القيامة؟ كلا {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] أي: لا نفعل ذلك أبداً. بل لا بد من بعث، ولا بد من جزاء وحساب، ولا بد من عقاب لهؤلاء الكفرة والمجرمين والظلمة. قال تعالى: {ألا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21] أي: ساء ما يزعمون، وساء ما يقضون به، من أنهم يحكمون ويقولون: إننا نحيا ونموت وانتهى الأمر على ذلك، فساء قولهم قولاً وساء حكمهم حكماً، ((سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)). بل إن الله عز وجل الذي خلق السموات والأرض بالحق قادر على أن يحيي هذه العظام بعد موتها، وأن يجازي أهلها، ولذلك قال: ((وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ))، فإذا كان خلق السموات بالحق، وخلق الأرض بالحق، فهل يخلق العباد باطلاً، ويجعلهم عبثاً وسدىً لا يبعثون؟ قال: ((وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ))، فلا بد من ذلك، فكل امرئ يجزئ يوم القيامة بما كسب، ((وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ))، كما قال تعالى: {لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.

تفسير سورة الجاثية [18 - 23]

تفسير سورة الجاثية [18 - 23] يخبر الله تعالى عن خلقه للسماوات والأرض وما فيهما من الكواكب والنجوم والمجرات والجبال والبحار والهضاب، وقد خلق كل هذه الأشياء بالحق، وكلها تعبد الله عز وجل، فعجباً لمن اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم، فترك عبادة مولاه الذي خلقه، وصار يعبد مخلوقات مثله لا تملك لنفسها ضراً ولا نفعاً.

تفسير قوله تعالى: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها)

تفسير قوله تعالى: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الجاثية: {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية:22 - 23]. لما ذكر الله سبحانه تبارك وتعالى أمر هذه الشريعة العظيمة، التي جعل عليها النبي صلى الله عليه وسلم مبلغاً لها ومعلماً إياها، أمره أن يتبعها، وأمر المؤمنين أن يقتدوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية:18]، والنبي صلى الله عليه وسلم مأمور بأن يتبع هذه الشريعة التي جاء بها من عند رب العالمين، والمؤمنون مأمورون بذلك، أما المشركون واليهود والنصارى وغيرهم الذين لا يعلمون بأس الله، ولا يعلمون شرعه، والذين يحاربون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم أهل جهل وحماقة، لأنهم لا يعرفون الحق ويعادونه، مع أنهم لا يحاولون أن يتعرفوا عليه، ولا أن يكونوا مع النبي صلوات الله وسلامه عليه ليفهموا منه ما يبلغهم صلوات الله وسلامه عليه. فهؤلاء وصفهم الله عز وجل بأنهم لا يعلمون، قال تعالى في سورة الروم: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] إذاً فهم ليسوا على علم ينفع، وإن كانوا يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، فهم يعرفون ظواهر من العلوم الدنيوية، كالعلوم الطبيعية، كعلم الصيدلة والطب وغيرهما من العلوم. أما العلوم التي توصلهم لليقين بالله سبحانه، والإيمان بالغيب واتباع شريعة رب العالمين، فهم لا يحاولون أن يفكروا في ذلك، ولا يريدون إلا الدنيا وصرحوا بذلك، وقال الله عز وجل عنهم: ((وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ)). فهؤلاء الذين علموا ظاهراً من الدنيا ولم يعرفوا ما عند الله سبحانه تبارك وتعالى، فهم لا يعلمون، لأنهم علموا علوماً بسيرة، أما ما أعده الله عز وجل للأبرار، وما أعده للفجار، فهم لا يعرفون من ذلك شيئاً، ولا يريدون أن يعرفوا ذلك، ولا يريدون أن يعرفوا لماذا خلقوا في هذه الدنيا؟ قال الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات:56 - 57]. فالغاية والهدف الذي خلق من أجلها العبد في هذه الدنيا، هو ليعبد الله سبحانه، والكفار لا يريدون أن يعبدوا الله سبحانه تبارك وتعالى، فهم يعبدون أهواءهم كما ذكر الله سبحانه في آيات عديدة. وقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية:19] أي: الله ولي المؤمن التقي الذي يتولى ربه، فيدافع عن دين الله سبحانه، ويدفع عن نفسه غضب الله بطاعة الله وتقواه، فهذا ولي الله سبحانه تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات)

تفسير قوله تعالى: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات) قال سبحانه: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21] أي: أحسب الذين اكتسبوا السيئات ووقعوا في الآثام والشرور، أن نسوي بينهم وبين المؤمنين الذين عملوا الصالحات في المحيا والممات؟ أيحسبون أننا نخلقهم في الدنيا، ليأخذوا منها ما يشاءون، والبعض الآخر لا يجدون فيها شيئاً، وقد عبدوا الله سبحانه، وأحسنوا وصدقوا الرسل، ثم يموت الجميع، ولا يوجد بعث بعد ذلك؟! فهذا ظلم، وقد قال تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46].

تفسير قوله تعالى: (وخلق الله السماوات والأرض بالحق)

تفسير قوله تعالى: (وخلق الله السماوات والأرض بالحق) قال الله تعالى: {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الجاثية:22] فالسموات مخلوقة بالحق، والأرض مخلوقة بالحق، والكواكب والنجوم وما في هذا الكون كله مخلوق بالحق، ومخلوق بميزان العدل، لا شيء ينحرف عن مساره، أو يقصر فيما أمره الله عز وجل به. وإذا كان كل ما أوجده الله بالحق وبالعدل، أفيخلق الإنسان، وبعد ذلك يجعله يموت ولا يوجد حساب ولا عقاب؟! فأي ظلم هذا؟! حاشا لله أن يظلم عباده: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]، وقوله تعالى: ((وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ))، الواو واو الفصيحة التي سبقها معاني، فخلق الله السموات والأرض بالحق ليبين لكم قدرته وعدالته فيما يفعله في هذه المخلوقات التي خلقها. وقوله تعالى: ((وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ)) أي: لتعتبروا بذلك، ولتعلموا أنكم تجزون يوم القيامة عند الله سبحانه، فكل واحد يجزى ويسأل عن نفسه، وكل نفس يسألها الله ويجازيها على كسبها. ((وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)) أي: حاشا لله عز وجل أن يظلم أحداً من عباده.

تفسير قوله تعالى: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواء)

تفسير قوله تعالى: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواء) قال سبحانه: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية:23]. ((أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ)) [الجاثية:23] قوله تعالى: ((أَفَرَأَيْتَ)) هذه قراءة الجمهور، ويقرؤها نافع وأبو جعفر والأزرق بالمد الطويل، ((أفرآيت من اتخذ إلهه هواه))، ويقرؤها الكسائي: ((أفريت من اتخذ إلهه هواه))، والمعنى واحد، أي: اعجب لهؤلاء الذين عبدوا الهوى من دون الله سبحانه تبارك وتعالى! وإعراب كلمة لا إله إلا الله، على النحو التالي: لا نافية للجنس، وإله اسمها، والخبر دائماً محذوف، فمثلاً: لا تلميذ في الفصل، ولا مصل في المسجد، خبرهما محذوفان تقديرهما موجود. ولكن خبر لا النافية في كلمة: لا إله إلا الله ليس تقديره: موجود؛ لأن هناك آلهة غير الله عز وجل تعبد من دون الله، فلا يقال: لا إله موجود غير الله، بل في الوجود آلهة تعبد، منها: الهوى والشيطان وغير ذلك، ولكن التقدير للخبر فيها هو كلمة حق، أي: لا إله حق إلا الله، وكل الآلهة باطل. فإذاً: هناك آلهة تعبد من دون الله، كالشيطان والأصنام والأوثان والهوى والشمس والقمر والنجوم والكواكب. وقوله تعالى: ((أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ)) يعني: اتخذ إلهاً بمزاجه، ويعبد ما يشاء بالهوى، فصار الهوى هو الذي يحكمه، ولذلك يقول سعيد بن جبير: كان أحدهم يعبد الحجر، فإذا رأى ما هو أحسن منه، رمى بالأول وعبد الآخر، أي: إذا رأى حجراً جميلاً، عبده بهواه وبمزاجه وهو يعلم أنه لا ينفع ولا يضر، ولكن الهوى يهوي به في الجحيم والعياذ بالله، فيعبد غير الله ويعرض نفسه للعذاب الأليم.

سبب نزول قوله تعالى: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه)

سبب نزول قوله تعالى: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) قال مقاتل: نزلت في الحارث بن قيس السهمي أحد المستهزئين؛ لأنه كان يعبد ما تهواه نفسه، وقال سفيان بن عيينة: إنما عبدوا الحجارة؛ لأن البيت حجارة، يعني: البيت الذي أقامه إبراهيم حجارة، والمسلم حين يطوف بالكعبة المكرمة المشرفة لا يعبد الكعبة، إنما يعبد الله سبحانه، كما أنه حين يتوجه في الصلاة إلى القبلة، فيتوجه إلى هذا الجدار؛ لأنه سترة، فلا يعبد جداراً، إنما يعبد الله سبحانه تبارك وتعالى، ولا بد من وجهة للعبادة، إما شمال أو جنوب أو شرق أو غرب، فجعل الله القبلة في سرة الدنيا، وأمر كل الخلق أن يتوجهوا إلى هذا المكان بالصلاة ونحو ذلك. فإذاً الجهة ليست معبودة، وإنما يتوجهون إليها عندما يصفون صفوفاً، وحتى يكون الجميع على قلب واحد، وإلى جهة واحدة، يعبدون رباً واحداً سبحانه تبارك وتعالى. فهؤلاء الكفار لم ينظروا في ذلك، وإنما نظروا إلى أن البيت من حجر، فعبدوا الأحجار من دون الله. يقول الحسن وقتادة: ذلك الكافر اتخذ دينه هواه، فلا يهوى شيئاً إلا ركبه، فكانوا يستحسنون الأشياء فيعبدونها، يصنع أحدهم صنماً من العجوة، فإذا جاع أكل صنمه، وهو يعلم أنه لا ينفع ولا يضر، فالكافر يفعل هذا الشيء وبزعمه من أجل ألا يتحكم أحد فيه، فيعبد غير الله بهواه.

معنى قوله تعالى (وأضله الله على علم)

معنى قوله تعالى (وأضله الله على علم) قوله تعالى: ((وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ)) أي: أضله الله سبحانه وتعالى على علم، فالجار والمجرور متعلق إما بالله، وإما بالكافر، فالكافر لا يستحق سوى النار، والله أضله بعدما أعذر إليه وأنذره سبحانه تبارك وتعالى، فأنزل الكتاب وأرسل رسوله صلوات الله وسلامه عليه ليبين له الصواب، فأعذر للخلق بإقامة الحجة لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، فيكونون على علم من الله ما الذي يستحقه هذا الإنسان الكافر؟

المهلكات التي تهلك الإنسان والمنجيات التي تنجيه

المهلكات التي تهلك الإنسان والمنجيات التي تنجيه جاء في أمر الهوى حديث صحيح أو حسن، رواه الطبراني في الأوسط عن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث مهلكات وثلاث منجيات، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم المهلكات فقال: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه)، فالمهلكات التي تهلك الإنسان: شح مطاع، فالإنسان في باطنه شح، وأُمِرَ أن يواري ذلك ويقاوم ذلك، ولا يستجيب لشح نفسه، فإذا الإنسان أطاع نفسه في الشح والبخل، ولم يعط الحقوق لأصحابها، فإن ذلك شح مطاع يهلك الإنسان. وهوى متبع: فالإنسان يتبع هواه فيؤثر دنياه على الآخرة، وكلما أراد في الدنيا شيئاً أخذه، وحاول فيه وسعى له، ولم ينل منها إلا ما قسمه الله عز وجل له. وإعجاب المرء بنفسه: أي: أن يكون معجباً بنفسه وبرأيه، لا يلتفت إلى غيره، ويظن نفسه أفضل من الناس وأعلى منهم، ولا يريد أن ينتصح بنصيحة، لا من كتاب الله ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا الإنسان المعجب بنفسه يهلك نفسه في ذلك، فهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه). والمنجيات التي تنجي الإنسان، ذكر منها النبي صلى الله عليه وسلم الخشية لله، فقال: (خشية الله في السر والعلانية) أي: خوف الله عز وجل، وإرضاؤه سبحانه تبارك وتعالى، سراً وعلانية، فالإنسان حين يرضي ربه سبحانه، يرضي الله عز وجل عنه خلقه، فالإنسان يجعل أمام عينيه أن يرضي الله، أما إرضاء الناس فصعب ومستحيل، فإن كل إنسان له هوى معين، وله مزاج وطريقة، فرب الناس سبحانه تبارك وتعالى الذي خلقهم، هو القادر على أن يحول قلوبهم، وأن يجعلهم يحبونك أو يبغضونك. فمن توجه في حب الله عز وجل، والعمل لله سبحانه، فإن الله يرضي عنه سبحانه تبارك وتعالى، ويرضي عنه الناس، فرضا الناس غاية لا تدرك، ولو أشعلت للناس أصابعك كلها كالشمعة، فلا يرضى عنك الناس أبداً، فكل إنسان سينقدك، وسيقول لك: اعمل كذا وكذا، ومفروض عليك كذا، ولن تخلص منهم أبداً، وكم تسمع من النصائح كل يوم! ومهما تذكر للناس أعذارك أنها كذا وكذا، فلا أحد يقبل، ولو تمكنوا أن يبقوك تخدمهم الليل والنهار ولا تنام لفعلوا فيك هذا الشيء! فتوجه إلى الله عز وجل بالعبادة، وبالإحسان إلى خلقه بما تقدر عليه، ويستحيل على الإنسان أن يفعل كل خير، ولذلك جاء في الحديث، (ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه)، فلو حاول المسلم أن يحفظ القرآن كله، بكل قراءاته وبوجوهه وفقهه وأصوله وأحاديثه المتعلقة به وغير ذلك ما استطاع ذلك، فأين العمر لذلك؟ وأين العقل الذي يحصل هذا كله؟ وربنا يقول: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85]. فلو حاول الإنسان وأجهد نفسه في ذلك، قصر في أمور أخرى، قصر في حاله وفي عياله وفي بيته وفي عمله، فلذلك يكون الإنسان متوازناً، فقد يقول لك إنسان: لماذا تركت كذا؟ وأنت لا تستطيع هذا الشيء، فيقول لك: المفروض عليك أن تحاول، فالناس يتعبون جداً جداً. فالمؤمن الذي يخاف من الله، يؤدي حقوق الله سبحانه، وحقوق العباد بحسب القدرة والاستطاعة. ومن المنجيات كذلك، القصد في الغنى والفقر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والقصد في الغنى والفقر) فتقتصد وأنت غني أو فقير، وتعود نفسك على ذلك، ولا تعودها على التبذير قال تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء:27]، ولا تعودها على الإمساك والشح فتضيع نفسك، فالمطلوب الوسط. ومن المنجيات أيضاً، العدل في الرضا والغضب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والعدل في الرضا والغضب) أي: أن تعدل في وقت رضاك وفي وقت غضبك، فإذا غضبت فاحلم، وبعد ذلك افعل الشيء الذي يمليه عليك الشرع الحكيم، فالمسلم في وقت غضبه يمسك نفسه، وبعد أن يذهب غضبه، يتكلم بعد ذلك، حتى لا يقع في الخطأ في وقت الغضب. فالنبي صلى الله عليه وسلم حذرنا من الهوى ومن الغضب ومن الشح. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الجاثية [23 - 26]

تفسير سورة الجاثية [23 - 26] كل من يعبد شيئاً من دون الله فهو عابد لهواه، ومن عبد هواه أضلَّه الله وإن أتاه من ينذره، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الهوى المتبع، وقد أضلَّ الله المشركين فأنكروا البعث، وجعلوا غايتهم هي الدنيا، وحجتهم في ذلك أنهم يموتون ويحيون وما يهلكهم إلا الدهر، كما يزعمون.

تفسير قوله تعالى: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه)

تفسير قوله تعالى: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الجاثية: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية:23 - 24]. يذكر الله عز وجل أمر الذين عبدوا الهوى من دونه سبحانه وتعالى، وكل من يعبد شيئاً من دون الله فهو عابد لهواه؛ لأنه يعبد ذلك معرضاً عن الحق، معرضاً عن الله سبحانه، معرضاً عما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، متبعاً بزعمه ما يهواه وما يحبه، متبعاً ما يراه أنه هو الذي يصلح، وإن كان حقيقة الأمر أنه لا أحد ممن يعبد مخلوقاً من دون الله سبحانه وتعالى يقتنع بذلك، فالذين عبدوا الأصنام وعبدوا الأحجار وعبدوا الشمس وعبدوا القمر علموا أن هذه الأشياء لا تنفع ولا تضر، ولكن كل منهم أراد أن يجعل لنفسه شيئاً يختص به كنوع من الهوى ونوع من المزاج، هذا يعبد الصنم الفلاني، وهذا يعبد الصنم الفلاني، وهذا الصنم صنم القبيلة، وإذا كان الإنسان سيداً في قومه فله صنم لوحده، وكل إنسان بمزاجه يعبد ما يريد، فهنا ربنا سبحانه وتعالى عجب من هؤلاء، يعني: أمر الدنيا صارت بالأهواء، وكذلك العبادة يعبدون بأهوائهم، ولا يعبدون الله سبحانه، وقد علموا أنه خالقهم، وأنه رازقهم، وأنه محييهم، وأنه مميتهم سبحانه، فعجباً لأمر هؤلاء الذين اتخذوا الهوى إلهاً من دون الله سبحانه. وذكرنا أن الإنسان الذي يتبع غير سبيل الله سبحانه، ويتبع غير سبيل المؤمنين متبع للهوى، سواء كان في العبادة أو في المعاملة أو في العادة أو غير ذلك، وسبيل الله عز وجل كما قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]. فصراط الله واحد، وهو طريق واحد جاءنا من عند الله سبحانه وتعالى على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، هذا طريق الله، وغير هذا الطريق على رأس كل منها شيطان يدعو إليها ويهوي بصاحبها إلى النار.

ثلاث يخاف النبي صلى الله عليه وسلم على الأمة من الانزلاق فيها

ثلاث يخاف النبي صلى الله عليه وسلم على الأمة من الانزلاق فيها جاء في حديث النبي صلوات الله وسلامه عليه الذي رواه الطبراني ورواه أبو نعيم في الحلية من حديث أبي الأعور السلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما أخاف على أمتي ثلاثاً: شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، وإماماً ضالاً)، يخاف النبي صلى الله عليه وسلم على أمته ثلاثاً: أولها: الشح، والإنسان شحيح بطبعه كما قال الله عز وجل: {وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ} [النساء:128] يعني: خلقت النفس ومن طبيعتها الشح، والله عز وجل جعل ذلك في طبيعة الإنسان وأمره أن يقاوم هذه الطبيعة، كما ركب في نفس الإنسان الشهوة وأمره أن يهذب هذه الشهوة، ولو كان الإنسان ليس فيه شهوة أصلاً لما نهاه الله عز وجل عن الزنا؛ لأنه ليس فيه شهوة أصلاً حتى يزني، ولو كان الإنسان ليس فيه شح لما نهاه عن السرقة؛ لأنه ليس طماعاً أصلاً، ولكن جعل الله عز وجل في نفس الإنسان ما يدعوه إلى الخير وفي نفسه ما يدعوه إلى الشر، وأنزل القرآن وأنزل على النبي صلى الله عليه وسلم الحكمة والسنة حتى يهذب نفس الإنسان، ويعين ما فيه من خير على فعل الخير، فجاء الكتاب من عند الله عز وجل ليعدل نفس هذا الإنسان، وليقوي جانب الخير فيه، ويوضح له أن احذر من هذا وامش في هذا، ولو لم يكن في داخل الإنسان ما يدعوه إلى الشر ما احتاج إلى كتاب وما احتاج إلى سنة، وما احتاج إلى رسول، وما كان الله ليخلق هؤلاء الخلق لو كان الأمر على ذلك، فعنده ملائكة سبحانه وتعالى يعبدون الله {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، ولكن لحكمته العظيمة سبحانه أراد أن يخلق مخلوقاً فيه الخير وفيه الشر، وأن يمتحن هذا المخلوق، وأن يبتليه، وأن يعينه على الخير، فينزل الكتاب، ويرسل الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ ليدعو الخلق إلى الخير، فشح الإنسان في نفسه، وجاء الكتاب والسنة يهذبانه أن احذر من هذا الشح، فإن نفسك تدعوك إلى أن تجمع الدنيا، واجمع ما تنتفع به لدنياك ولأخراك، واحذر أن تجمع من الحرام أو أن تجمع ما لا تنتفع به بل تحاسب عليه، فقال: (إنما أخاف على أمتي ثلاثاً: شحاً مطاعاً) فيطيع الإنسان شحه، ويدعوه الشح إلى أن يأخذ الحرام فيفعل، ويدعوه الشح إلى أن يقتل فيقتل، وإلى أن يسرق فيسرق، وإلى أن يغصب فيغصب. وقال صلى الله عليه وسلم: (وهوى متبعاً) فالإنسان كلما هوى شيئاً اتبع هواه في ذلك، إذا هوى شيئاً من الشهوات اتبعها، فانزلق ووقع في الحرام، وإذا هوى شيئاً من الباطل اتبعه فوقع في الحرام، وإذا هوى شيئاً من الهوى ومن الشرك وقع في الشرك بالله فكان من أهل النار، فخاف النبي صلى الله عليه وسلم على الأمة الهوى المتبع، الذي يجعل الإنسان ليس له قيد يحكمه، وليس عنده شيء يرسم له طريقه، ترك الكتاب وترك السنة ومشى في هواه فاتبع الهوى فوقع في النار. قال: (وإماماً ضالاً)، والإمام بمعنى: من يكون إمام الناس، والذي يكون قدوة للناس، فإذا كان على الحق اتبعه الناس على الحق، وإمام المؤمنين وإمام المتقين هو رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، قال تعالى: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء:71] والإمام: الكتاب، والإمام: من يقتدى به، فيكون هؤلاء الأمة خلف إمامهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، معهم كتبهم فيها أعمالهم الصالحة يأخذونها بأيمانهم. والإمام الضال قد يكون إنساناً كبيراً في قومه، شيخاً أو غير ذلك، والناس يجعلونه قدوة، وإذا به يدعوهم إلى الهوى فيسيرون وراءه في الهوى، يفتيهم بالباطل فيسيرون وراءه بالباطل، فخاف النبي صلى الله عليه وسلم على الأمة من ذلك، ولذلك جاء عن معاذ رضي الله عنه أنه في كل درس من دروسه كان يقول للناس: إني أخاف عليكم زيغة العالم، قالوا: كيف يزيغ؟ قال: اتقوا ما يقوله، فيقع في صدوركم ويفزع منه الناس، أي: أن الناس كانوا على خير، يعرفون أن هذا في كتاب الله حرام، وفجأة يقول لهم العالم: هذا حلال ليس فيه شيء! فيحدث في نفوس الناس شك وريب، والله عز وجل يجعل في نفوس المؤمنين ما يدلهم على الحق وأن هذا صواب، والكلام الصواب له نور يجعله الله عز وجل في الأذن فينزل إلى القلب، والكلام الباطل يدخل الأذن لا يتجاوزها إلى القلب، والمؤمن يستشعر بقلبه أن هذا العالم بعيد عن الصواب فيما قاله، وإن كان عالماً وإن كان حكيماً، ولكنه زاغ في هذه المسألة فاحذر أن تتبع الزيغ، فهنا النبي صلى الله عليه وسلم يحذرنا من اتباع الهوى ومن اتباع الأئمة الضلال، فالإمام هنا: إمام عامة الناس، وأميرهم أو رئيسهم أو حاكمهم، وأما الإمام الخاص للناس: من يتبعونه ويقتدون به في دينهم أو في دنياهم، فحذر من ذلك صلى الله عليه وسلم وأخبرنا في حديث آخر في إسناده ضعف ولكن يشهد له هذا الحديث وأحاديث أخر في هذا المعنى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإذا رأيت هوى متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك). الإنسان يلزمه أن يأمر بالمعروف، وأن ينهى عن المنكر، حتى إذا وصل إلى درجة لا يستجيب له فيها أحد، ويصاب بالضرر من وراء ذلك، ولا يتغير هذا المنكر، فعند ذلك عليه بخاصة نفسه، ويترك أمر هؤلاء. فالإنسان المؤمن يلزمه أن يدعو إلى الله عز وجل كما قال الله سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125]. وأمر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن بقوله: (بلغوا عني ولو آية)، فالقرآن يأمر بالدعوة إلى الله عز وجل، والحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بالتبليغ، حتى إذا أصاب الإنسان الضرر جراء ذلك فإن الله عز وجل يقول: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105]. فقوله تعالى: ((عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ)) المعنى: مُرْ بالمعروف، وانه عن المنكر، ولست مسئولاً عند الله إلا عن نفسك. إذاً: عليك بنفسك فأصلحها، ومن إصلاح النفس: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن نفس الإنسان تصاب بالمرض إذا لم يأمر صاحب هذه النفس بالمعروف وينهى عن المنكر، ويضعف إيمانه شيئاً فشيئاً، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يستشعر أنه يقيم شرع الله عز وجل، وأنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فيكون في قلبه حرارة الإيمان، فقوله تعالى: ((عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ)) أي: نفسك هذبها، ومن تهذيب نفسك: أن يفيض ما في القلب من إيمان على الجوارح فيخرج منه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فإن لم تستطع ذلك وأصابك من إيذائهم ما أصابك، وخفت من تأثيرهم فيك وفي دينك، فلا تضرَّنَّ نفسك في أن تخالط أهل السوء طالما أنك لا تقدر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

معنى قوله تعالى: (وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه)

معنى قوله تعالى: (وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه) قوله تعالى: ((وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ)) (على علم): جار مجرور، يتعلق بلفظ الجلالة الله سبحانه، أو بالضمير العائد إلى هذا الإنسان الذي يتكلم عنه (وأضله الله). فلفظ الجلالة يعود على علم يعني: الله علم أن هذا لا يستحق إلا ذلك، فقوله: ((وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ)) أي: أنه لا يستحق إلا ذلك، فالجار والمجرور يتعلق بهذا الإنسان بمعنى: أضله الله بعد أن أنذره، وبعد أن أخبره، وبعد أن بصره، وبعد أن أقام عليه الحجة، فلا أمل في هذا الإنسان أن ينجو، فأضله الله بعدما علمه سبحانه وتعالى الحق، ولكنه أصر على الباطل. إذاً: الإنسان حين يبتعد عن دين الله عز وجل يبتعد عن الهدى فاستحق الغشاوة، واستحق الضلالة فأضله الله، وهذا قضاء الله وقدر الله الذي نؤمن به، أن الله عز وجل يهدي بفضله، ويضل بعدله، فمن يهديه الله عز وجل {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [الجمعة:4]، ومن يضله الله ذاك عبد الله، يفعل به ما يشاء سبحانه وتعالى، والعباد يتقلبون بين فضله وعدله سبحانه وتعالى، فقال لنا هنا: ((وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ))؛ لأنه لا يستحق إلا ذلك. وقال تعالى: ((وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ)) الختم: الطبع على السمع فإذا به يسمع كمن لا يسمع، ويسمع ولا ينتفع، ويسمع ولا يصل هذا الذي يسمعه إلى قلبه، قال تعالى: ((وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً)). جعل بصره لا يرى الحق، فكأنه يسير في ضلال، وفي مكان قد أغمض عينيه فيه ولا يعرف كيف يسير، والله سبحانه يقول: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد:17]، الذين آمنوا زادهم إيماناً، لكنَّ أهل الضلال طبع الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم، قال سبحانه: ((وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً)) (غشاوة): ما يغشي الشيء ويغطيه، فهنا ((وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً)) أي: لا يرى ببصيرته، ولا يرى بقلبه، فجعله كالأعمى الذي لا يرى أمامه شيئاً. ((وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً)) هذه قراءة الجمهور، وقرأ حمزة والكسائي وخلف: (وجعل على بصره غشوة) بمعنى: غطاء تغطية، على عينيه غشوة. قال تعالى: ((فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ)) إذا أضل الله إنساناً لا يقدر أحدٌ أن يهديه؛ ولذلك قال لسيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]. إذاً: كل إنسان يدعو إلى الله عز وجل عليه بالأخذ بالأسباب، والنتيجة ليست له، وإنما السبب فقط، وكم من نبي دعا قومه فلم يؤمن معه إلا القليل، هذا نوح قال الله عز وجل عنه: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40]، قلة من الناس آمنوا به بعدما دعاهم إلى الله سبحانه ألف سنة إلا خمسين عاماً! وقوله تعالى: ((أَفَلا تَذَكَّرُونَ)) هذه قراءة حفص عن عاصم، وحمزة والكسائي وخلف وباقي القراء يقرءون: (أفلا تذَّكَّرون) أصلها: تتذكرون، فخففت (تَذَكَّرون) وثقلت (تَذَّكرون) وأدغمت، فالمعنى فيها: يذكر فلا ينسى، أي: اذكر هذا الشيء الذي تعرفه، واذكر بمعنى: اعتبر واتعظ، أفلا تعتبرون؟ أفلا تتعظون؟ أفلا تحمدون الله سبحانه أن هداكم ودلكم على الطريق الصواب؟ وهذا هدى الله يهدي به من يشاء، هو أعلم من يستحق الهدى ومن يستحق الضلال، فاحمد ربك على ما أعطاك، وأمر بالمعروف وانه عن المنكر كما أمرك الله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا)

تفسير قوله تعالى: (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا) قال الله تعالى عن هؤلاء الكفار: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية:24] وتقدم قبل ذلك قولهم: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا} [المؤمنون:37]، (إن هي) بمعنى: ما هي، إن بمعنى: ما، وهنا قالوا: (ما هي إلا حياتنا الدنيا)، ولذلك كان يأمر بعضهم بعضاً أن يأخذوا من الدنيا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، ويعللون ذلك بقولهم: إن هي إلا حياتنا الدنيا، هي حياة واحدة فقط وسنموت ونصير تراباً، فنحن نأخذ الذي نريده ونفعل ما نشاء، فيقولون: ((مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ))، يقولون: (نموت ونحيا) ولا يقصدون أنهم يبعثون، ولكنهم يقصدون أن أناساً يموتون وأناساً يحيون، هذا يموت وهذا يُولد، يعني: نموت ويحيا من يخلفنا بعد ذلك، فلماذا نضيع حظنا من الدنيا طالما نحن ميتون؟ ثم ينسبون الإهلاك إلى الدهر: ((وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ)) والدهر: الزمن، يعني: نحن نعيش وبعد عمر طويل نموت، إذاً: كر الليالي والأيام علينا هي التي تهلكنا، ومع ذلك لو سألتهم من خلقهم ليقولن: الله! وقوله تعالى: ((وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ)) أي: هي حياة في الدنيا نعيش حتى نعجز ثم بعد ذلك نموت، والدهر الأيام والليالي التي تأخذنا بعد ذلك. قال الله عز وجل: ((وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ)) والعلم بمعنى: اليقين، أي: ما عندهم علم بما يقولونه، هل عندهم أثاره من ذلك الذي يقولونه، من تكلمهم عن الغيب، وإنكارهم للبعث، وهذا النبي صلوات الله وسلامه عليه جاء بكتاب من عند الله عز وجل، يقول الله لهم فيه: ((وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ)) بل علمهم هذا مجرد ظن وخرص، قال تعالى: ((إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ))، هذه ظنون وهذه شكوك يتكلمون بها.

تفسير قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا)

تفسير قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا) قال الله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الجاثية:25]. فقوله تعالى: ((وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ)) أي: يتلو عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، ويقرأ عليهم ويرشدهم ويهديهم ويعلمهم القرآن البين، وقوله: ((آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ)) أي: واضحات جليات ليس فيها إشكال، وبلسان عربي وأهل اللغة العربية هم الذين يفهمون ذلك، والقرآن نزل واضحاً ليس مشكلاً. وقال تعالى: ((مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ)) وهل عندهم حجة حقيقية؟ فقد أخبرنا الله بقوله: ((إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ)) فقوله تعالى: ((مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ)) أي: هاتوا آباءنا إذا كنتم صادقين، فحجتهم أنَّ قصي بن كلاب كان جدهم، ونريد إحياء قصي بن كلاب؛ لأنه كان رجلاً صادقاً يتكلم بالحق، وهم يعرفون الصادق المصدوق ويعترفون به صلوات الله وسلامه عليه ويسمونه الصادق الأمين الذي يستشيرونه ويأخذون رأيه ويصدقونه في كل ما يقول، وكان فخرهم صلوات الله وسلامه عليه، فيريدون قصي بن كلاب وعندهم رسول الله الذي جاءهم بالكتاب من عند الله، فلو جاءهم قصي بن كلاب وقال لهم: محمد صلى الله عليه وسلم صادق، فهل هم معترفون بصدقه صلى الله عليه وسلم؟ من المشركين من طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يحول لهم الصفا ذهباً، وبعضهم طلب منه أنه يفجر في هذه الأرض ينبوعاً، والبعض طلب منه شق القمر، ولما أشار إلى القمر، ودعا وانشق القمر لم يؤمن هؤلاء الذين طلبوا ذلك، بل قالوا: سحرنا! فالله أعلم بعباده، يعلم أنهم لن يستجيبوا حين يأتيهم النبي صلى الله عليه وسلم بالآيات، وقد عرفنا ربنا سبحانه أنهم إذا رأوا الآيات سيأتيهم العذاب بعد هذه الآيات، ولذلك أصحاب المائدة لما طلبوا من المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام أن ينزل عليهم المائدة من السماء {قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:112] فقالوا: {نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة:113] فدعا عيسى عليه السلام ربه فقال: {أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ} [المائدة:114]. واستجاب الله عز وجل لعيسى وقال لهم: {إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة:115]، أي: ستنزل المائدة من السماء، وستأكلون من هذه المائدة، والذي سيكفر بعد ذلك له أشد العذاب من الله رب العالمين، فالآيات الحسية التي تنزل لابد من الإيمان بها، فإن لم تؤمن استحققت العذاب الشديد الأليم، فكان من رحمة رب العالمين بعباده أنه لم ينزل عليهم آية حسية عامة للجميع، ولما انشق القمر انشق للبعض ممن استيقظ في تلك الليلة وتحدى النبي صلى الله عليه وسلم، فدعا ربه فانشق القمر ثم التأم مرة ثانية، فلو كانت آية عامة للخلق كلهم لكان العذاب من بعد ذلك حين لم يؤمنوا. قال الله عز وجل هنا: ((وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ)) بينات: واضحات جليات، ((مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا))، (ما كان) اسم كان هنا: (أن قالوا) وخبرها مقدم: (حجتهم) ((مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا)) ليس فيها قراءة أخرى، كل القراء يقرءونها على الخبر المقدم: ((مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ)) وإن كان في غيرها قد يأتي الضم والفتح. فهم طلبوا ذلك والحجة في زعمهم: ((ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ)).

تفسير قوله تعالى: (قل الله يحييكم ثم يميتكم)

تفسير قوله تعالى: (قل الله يحييكم ثم يميتكم) قال الله تعالى: {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية:26] ليس الدهر الذي يحييكم ويميتكم، ولكن الله عز وجل هو الذي يفعل ذلك، فلما ذكر قولهم: (الدهر) أخبر الله أنه هو الذي يفعل ذلك، فهو يبين أن الدهر شيءٌ والله شيء آخر، فقول الله في الحديث القدسي: (أنا الدهر) ليس معنى ذلك: أن من أسمائه الدهر، ولكن معناه: أن هذا الدهر الذي تسبونه ما هو إلا أنكم تسبون ربكم سبحانه، قال تعالى: {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} [الجاثية:26]. فقوله تعالى: ((اللَّهُ يُحْيِيكُمْ)) أي: يوجدكم وينشئكم في هذه الدنيا، كنتم عدماً، كنتم لا شيء، كنتم نطفة لا حياة فيها فصرتم أحياء، ثم بعد الحياة تموتون، قال تعالى: ((ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ)) وذلك رداً على قولهم: ((مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ)) أي: ليس هناك بعث بعد ذلك، فالله عز وجل ردَّ عليهم بقوله سبحانه: ((ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ)) والجمع: فيه ما فيه من معنى السوق والحشر، تقول: جمعت الغنم إلى مكان كذا، أي: سقتهم بالعصا يميناً وشمالاً، فلا يستطيع أحد أن يفر أو يزيغ أو يهرب في يوم القيامة، بل يساقون إلى المحشر، ويساقون ((إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ)) أي: لا شك في هذا اليوم، فكلمة (لا) يمدها حمزة -وإن كان ليس هناك همزة بعدها-؛ لتأكيد النفي، فيمدها أربع حركات فقط للتفرقة بينها وبين غيرها، ولتأكيد النفي في ذلك. يقول تعالى: {لا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} أي: ولكن أكثر الناس لا يوقنون، علمهم علم ظاهر، علموا فلم يدخل العلم في قلوبهم ليدعوهم إلى العمل؛ فلذلك ((أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)) فليحذر الإنسان من العمل الخبيث في الدنيا، ومن الشرك بالله، ومن اتباع الهوى، فهو مجموع مع غيره إلى الله عز وجل ليسأله وليحاسبه الله سبحانه على ما قدم وعلى ما أخر. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصلِّ اللهم وسلم على محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.

تفسير سورة الجاثية [27 - 37]

تفسير سورة الجاثية [27 - 37] من مشاهد يوم القيامة عرض الله الكتب على الأمم، وفيها ما عملت من خير أو شر، فأما المؤمنون الصالحون فيجازون بالحسنى ويكافئون بالرضا، وأما البعيدون اللاهون الذين انشغلوا بالدنيا وعاندوا وعارضوا أهل الإيمان، فيجازون بالعذاب الأليم على كفرهم وعنادهم وإنكارهم للساعة والبعث والنشور.

تفسير قوله تعالى: (ولله ملك السماوات والأرض ويوم تقوم الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين)

تفسير قوله تعالى: (ولله ملك السماوات والأرض ويوم تقوم الساعة إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: فقد قال الله عز وجل في سورة الجاثية {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ * وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ * وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية:27 - 32]. في هذه الآيات من سورة الجاثية يذكر الله سبحانه تبارك وتعالى أمراً يعرفه كل خلق الله عز وجل، وهو أن الله سبحانه يملك السماوات والأرض، ويملك كل شيء سبحانه، فهو الخالق، والناس أقروا بذلك على أنفسهم، فأقروا بقلوبهم، وإن أنكر بعضهم بألسنتهم، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87]، فالله شهد على ما في قلوبهم، فالقلوب تعلم أن الخالق هو الله سبحانه تبارك وتعالى، وأن الرازق هو الله سبحانه، وأن الرب هو الله سبحانه، ومع معرفتهم بذلك فإنهم يتوجهون بالعبادة لغيره غروراً ونفوراً واستكباراً وبعداً عن الحق، فقال: ((وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ))، وقال سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك:1]، فالملك بيده سبحانه، فهو الذي أوجد كل شيء، وهو الخالق لكل شيء، وهو المالك والملك سبحانه تبارك وتعالى، فكم من إنسان يملك وليس بملك، وكم من ملك ليس بمالك إلا الشيء القليل، لكن الله عز وجل هو المالك لكل شيء، وهو الحاكم على كل شيء، وهو الملك سبحانه، ملك الملوك سبحانه تبارك وتعالى، ومالك كل شيء، ((وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ))، خلقاً وملكاً. قوله تعالى: ((وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ)) أي: يوم تقوم الساعة، يوم تحق الحاقة، يوم تأتي القارعة، يوم تأتي القيامة، والصاخة، والحاقة، ((يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ))، في هذا اليوم يخسر كل مبطل، والمبطل هو المتكلم بالباطل، المريد للباطل، الذي كان يرفض الحق، فهذا هو المبطل، من أبطل الشيء بمعنى: نفاه ولغاه. فهو يخسر ويعلم يوم القيامة أنه لم يكسب شيئاً بكثرة جدله، وبكثرة كلامه، وبكثرة خوضه في الباطل، وبكفره وإعراضه عن الحق خسر كل شيء، فخسر نفسه، وخسر ماله، وخسر أهله، وخسر مكانه في الجنة واستقبل النار فكان من أهلها، ((يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ)).

تفسير قوله تعالى: (وترى كل أمة جاثية)

تفسير قوله تعالى: (وترى كل أمة جاثية) قال تعالى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:28]، أي: يوم القيامة يقفون بين يدي الله عز وجل، وتأتي عليهم ساعة يتضرعون، فيجثون على الركب، كهيئة الذليل، يقال: جثا على ركبتيه، بمعنى: برك كما يبرك الجمل، وكأن الذي منه على الأرض أطراف أصابع رجليه وأصابع يديه، وهو على الأرض على هذه الهيئة، فهو قاعد قعدة ليست مريحة، ولكن قعدة فيها الذل، وفيها الاستعداد للقيام، وفيها استعداد للنهوض، وكأنه جالس يتوسل، جالس يستغيث في هذا الوقت، يقول سلمان رضي الله عنه: إن في يوم القيامة لساعة هي بمقدار عشر سنين من الدنيا، يخر الناس فيها جثياً على ركبهم، حتى إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ليقول في ذلك اليوم: لا أسألك اليوم إلا نفسي. ففي هذا الوقت يستغيث الخلق بالله عز وجل، في موقف رهيب وعظيم، والناس وقوف في وقت قدره خمسون ألف سنة، خمسون ألف سنة قدر يوم القيامة! الإنسان عندما يعد اليوم، ويعد الشهر، ويعد السنة، ويعد العمر، سيحس أن عمره طويل، وهذا العمر الطويل الذي عاشه لا يساوى شيئاً من يوم القيامة، خمسون ألف سنة والناس على أقدامهم في أرض المحشر، فتمر على الإنسان فيه صور كثيرة جداً، كيف أنه قصر في الدنيا والآن يحاسبه ربه سبحانه، والناس أمامه يعذبون في الموقف، فالمانع للزكاة الذي منع زكاة إبله، أو زكاة بقره، أو زكاة غنمه، تمر عليه وتطؤه بأقدامها وأظفارها، فيعذب بها، فيرى الإنسان هذه المشاهد أمامه، ويا ترى! ماذا عمل كل واحد منا؟! خمسون ألف سنة حتى إن البعض من الناس ليقولون لله عز وجل: يا رب! اصرفنا ولو إلى النار! يظنون أنهم إذا صرفوا إلى النار استراحوا. وفي هذا الموقف العظيم يؤتى بالنار لها سبعون ألف زمام، على كل زمام سبعون ألف ملك -نسأل الله العفو والعافية- والجميع يخافون ويرعبون مما يرون، ويستغيثون بالله سبحانه تبارك وتعالى. قال تعالى: ((وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا))، فالآن هذا رسولكم الذي جاءكم، وهذا كتابكم، وهذه صحف أعمالكم ستلقى عليكم فخذوها فتتطاير الصحف، وكل يأخذ كتابه، فآخذ بيمينه فناج، وآخذ بشماله فهالك والعياذ بالله، {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ} [الجاثية:28] أي: يوم القيامة: {تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، فما فات من الدنيا فاليوم عليه الحساب، والجزاء على ما تصنعون.

تفسير قوله تعالى: (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق)

تفسير قوله تعالى: (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق) قال الله تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29]، كنت في الدنيا تدلس، كنت في الدنيا تكتم وتخفي، كنت في الدنيا تسعى لأخذ حقوق الناس، كنت وكنت، فهذا كتابكم لا مبدل لما كتب عند الله سبحانه تبارك وتعالى، {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ}. فصحيفة الأعمال تتلى أمامه، ولذلك ينطقون ويقولون: {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:49]، فكل شيء يفعله الإنسان من صغائر الذنوب، أو من كبائر الذنوب يراها أمامه، ما كان يظن أن شريط التسجيل على هذه الهيئة، فالإنسان وهو في الدنيا لو سُجلت عليه كل أعماله التي يعملها، فإنه يستحي من ذلك، ولو قيل له: سنسجل عليك كل أعمالك في هذا اليوم، لخاف وخجل من أي فعل قبيح يقدم عليه، فكيف بيوم القيامة وقد سجلت عليه كل صغيرة وكل كبيرة! لذلك الإنسان المؤمن يعتصم بالله سبحانه، فلا ملجأ ولا منجأ من الله إلا إليه، والإنسان مهما يحاول وحده لا يقدر على شيء إلا أن يعينه الله، فيتضرع إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، ويتوسل إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، ويكثر من ذكر الله، ويكثر من الاستغفار، فإن كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون، قال تعالى: {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [المؤمنون:62]. قوله تعالى: ((إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)) (نستنسخ) إذا كان الإنسان قد وصل في النسخ إلى درجة من الدقة يستطيع أن ينسخ كتاباً من كتاب آخر تماماً، وإذا كان وصل بالكمبيوتر والإسكانر والنسخ واللصق إلى أنه ينسخ الكتاب بمثله تماماً، فكيف بملائكة الله سبحانه تبارك وتعالى وهي تسجل على الإنسان كل صغيرة وكبيرة؟! وكيف بالله سبحانه إذا كتب عليك ما تعمله وما تصنعه، وما تريده، قال سبحانه، ((إِنَّا))، بنون العظمة، وتخيل عندما يعبر ربنا بذلك: ((إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ))، فليس هناك شيء يفوت على الله سبحانه، ولا من صحف العباد يوم القيامة: ((إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ))، فالملائكة تكتبه وتصعد به إلى ربها سبحانه، ويقولون: فعلوا كذا، وفعلوا كذا، والله أعلم بذلك من ملائكته ومن خلقه.

تفسير قوله تعالى: (فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات)

تفسير قوله تعالى: (فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات) وعند ذلك ينقسم الناس إلى فريقين: أهل السعادة نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم، وأهل الشقاء ونستعيذ بالله أن نكون منهم، قال الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} [الجاثية:30]، أي: آمنت قلوبهم وعملت جوارحهم الأعمال الصالحة، والإيمان هو التصديق واليقين، فيستيقن الإنسان بربه أنه الرب، وأنه الإله، فعمل الصالحات وتوجه له بالعبادة. فالأجر والثواب لا يأتي ولا يجيء إلا على إيمان مع عمل صالح قال: ((فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ))، رحمة الله عز وجل عظيمة واسعة، فيدخل فيها من يشاء، {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ} [الأعراف:156 - 157]، صلوات الله وسلامه عليه. {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ}، وكم عبر ربنا سبحانه في كتابه عن هذا الفوز العظيم في يوم القيامة، بقوله: {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [المائدة:119]، {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:72]، {وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} [الأنعام:16]. فهذا الفوز هو أعظم الفوز، وهو أعظم الفلاح، وهو النجاح الحقيقي، وهو الفوز البين، وهو الفوز الواضح الجلي، ((ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ)) الذي لا خسران بعده. ((وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا)) فيقال لهم: ((أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ)) أي: أما قرئت عليكم آيات الله، أما كنتم تسمعون كتاب الله وهدي النبي صلى الله عليه وسلم، ((فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ)) فاستكبرتم عن الحق، وابتعدتم عن الحق، وجادلتم بالباطل. ((وَكُنتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ)) فالإنسان المجرم هو: الذي يكتسب السيئات، ويكتسب المعاصي والكفر، فقيل لهم ذلك يوم القيامة، فهذا الجرم، وهذا اكتساب الذنب بالكفر، فيقولون: فلان جريمة أهله، يعني: كاسب أهله، فكأن معنى أجرم: كسب، أي: كسب كفراً وسيئات ومعاصي، فهؤلاء مجرمون أي: الذين اكتسبوا الكفر والسيئات والمعاصي: ((وَكُنتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ)).

تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل إن وعد الله حق)

تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل إن وعد الله حق) قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية:32]. فهؤلاء المجرمون إذا ذكروا بالله سبحانه، ((وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ)) أي: إذا قال لكم رسولكم، وهذا على البناء للمجهول، وفيها قراءتان: ((وَإِذَا قِيلَ)) الأولى: البناء للمجهول، وهي قراءة الجمهور ((وَإِذَا قِيلَ))، الثانية: (قُيل) يعني: للدلالة على أنه مبني للمجهول، فكأنه أتى بإشمام الضمة في أولها لبيان أن الفعل مبني للمجهول، وقرأ بهذه هشام والكسائي ورويس عن يعقوب. ((وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا)) أي: إذا قال لكم المؤمنون، إذا قال لكم الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام: ((وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ)) أي: ما وعدكم، وما ذكر لكم إن أنتم آمنتم دخلتم الجنة، وإن كفرتم دخلتم النار. ((وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا)) هذه فيها قراءتان: ((وَالسَّاعَةُ)) بالضم، وهي قراءة الجمهور، وكأنه معطوف على ما قبلها: ((إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ))، إذا قيل: الساعة لا ريب فيها، فيكون عطف جملة على جملة، أو عطف على الحق الذي قبله، والقراءة الثانية: ((وَالسَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا))، كأنه عطف على اسم إن السابقة، وهذه قراءة حمزة. ((وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ)) وهذا الاستفهام منهم هو للإنكار، والبعد والنفور عما يدعوهم إليه الرسول عليه الصلاة والسلام. ((مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ)) أي: لا نعرفها، فرد الكافر رد فاحش: ((قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ)) أي: إن نتوهم وقوعها إلا توهماً مرجوحاً، فنحن لا نعتقد فيما تقول، وإنما نتشكك في الكلام الذي تقوله: ((وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ)) أي: بمتحققين.

تفسير قوله تعالى: (وبدا لهم سيئات ما عملوا)

تفسير قوله تعالى: (وبدا لهم سيئات ما عملوا) قال الله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا} [الجاثية:33]، فهذه سيئات أعمالكم، وهذا كفركم، وهذه قبائح أعمالكم بدت الآن في صحفكم حتى تجزوا عليها: {وَحَاقَ بِهِمْ} [الجاثية:33] أي: نزل نزول إحاطة وإهلاك، أي: أحاط بهم العذاب والنكال بما كانوا به يستهزئون، فهم قد استهزئوا بعذاب الله، فقد كانوا إذا قيل لهم: (شجرة الزقوم طعام الأثيم)، قالوا: الزقوم: التمر والزبد، فتعالوا نأكل ونتزقم!

تفسير قوله تعالى: (وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا)

تفسير قوله تعالى: (وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا) قال تعالى: {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [الجاثية:34]، فالناسي معذور كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (رفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه)، لكن هؤلاء تعاملوا مع كتاب الله معاملة الناسي، فهم قد عرفوا النبي صلى الله عليه وسلم، وعرفوا الحق، لكن تغافلوا وتعاملوا معاملة كأنهم لا يعرفون، وجحدوا يوم الدين، وجحدوا يوم القيامة، فمشاكلة لما صنعتم تعاملون هذه المعاملة، أي: معاملة المنسيين، ولا ينسى ربك أحداً، ولكن يرميهم في نار جهنم مهملين كالمنسيين، فالله عز وجل لا يرد عليهم، ولا يكلمهم، وإنما يرميهم في نار جهنم ويعاملهم معاملة المنسي، والجزاء من جنس العمل، ففي الدنيا تناسيتم والآن نترككم منسيين في نار جهنم. ((وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ)) أي: منزلكم، ومثواكم، والمكان الذي تأوون إليه النار. ((وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ))، أي: لا أحد يدفع عنكم عذاب الله، ولا أحد ينصركم في هذا اليوم.

تفسير قوله تعالى: (ذلك بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا)

تفسير قوله تعالى: (ذلك بأنكم اتخذتم آيات الله هزواً) قال تعالى: {ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [الجاثية:35] أي: إنما جازيتكم هذا الجزاء الصعب الشديد لأنكم اتخذتم آيات الله هزواً، واستهزأتم بكتاب الله، واستهزأتم برسول الله، فقد تكلمتم عنه بالكلام الفاحش البذيء، ورسمتم الصور عنه كذباً وزرواً، {ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الجاثية:35]. و (هزواً) فيها قراءتان: الأولى قراءة حفص عن عاصم. الثانية: القراءة بالهمزة ويقرأ بها بقية القراء (هزؤا) ما عدا حمزة فيسكن الهمزة (هزءاً) إذا وقف عليها. قوله: ((وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا)) أي: غركم الباطل الذين كنتم تتعالون به في الدنيا، غركم ما كنتم تقولون من حرية التعبير، فالحرية عند هؤلاء الكفرة المجرمين أن يقولوا: حكم الشعب بالشعب، وليس حكم الله للخلق، فالله يحكم لا معقب لحكمه، فلما نسوا الله أنساهم أنفسهم. ((وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا))، فأخذوا ملاذها، وفتحت لهم أبوابها، حتى إذا جاءت كانت هذه نتيجتهم، وكانت هذه عقوبتهم، ((وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا)). {فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا} أي: لا يخرجون من النار، فلا يخرجهم أحد، ومن ذا الذي يقدر أن يخرج من أدخله الله عز وجل النار؟! وهذه قراءة الجمهور: ((لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا))، وقرأها حمزة والكسائي وخلف، (فاليوم لا يَخْرُجون منها) لا يستطيعون أن يخرجوا، ولا يقدر أحد أن يخرجهم منها: (ولا هم يستعتبون) (يستعتب) أصله من العتب، يقال: عتبت على فلان. أي: غضبت على فلان، وصار في النفس شيء من هذا الإنسان، فلما أعتبه، أي: أطلب منه فأقول: أزل هذا العتب. فهم في ذلك اليوم العظيم لا يطلب منهم إزالة العتب، ولا يطلب منهم إرضاء ربهم، بل يعذبون بغير حساب ولا عتاب، {لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}، لا يطلب منهم أن يرضوا ربهم سبحانه في هذا اليوم. ثم قال: (فلله الحمد)، الله مالك السماوات والأرض، خلق السماوات والأرض بالحق سبحانه، يحكم بين العباد بالحق، ينصف المظلوم من ظالمه، وينصر المستضعف من القوي الذي ظلمه، فلله الحمد أن قضى بين العباد، وأن فصل بين خصوماتهم، وأن أدخل المؤمنين الجنة، وأن انتصر من الكفار الذين استهزءوا بكتاب الله وبرسل الله عليهم الصلاة والسلام، فأدخلهم النار فلله الحمد على ذلك كله، {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الجاثية:36]. رب كل شيء سبحانه، فهو الخالق لكل شيء سبحانه، ((رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ))، وما في ذلك كله، فهو رب كل عالم، ((رَبِّ الْعَالَمِينَ)) و (العالمين) جمع عالم، فالله رب كل شيء.

تفسير قوله تعالى: (وله الكبرياء في السماوات والأرض)

تفسير قوله تعالى: (وله الكبرياء في السماوات والأرض) قال الله تعالى: {وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجاثية:37] له الكبرياء سبحانه، يذكر الكبرياء والعز، يقول: العز إزاري، والكبرياء رداءي، فمن نازعني فيهما أدخلته النار، فالله وحده الذي له الكبرياء، والله وحده الذي له العزة، والله يحكم فلا أحد يقدر أن يرفض ما يحكم به الله عز وجل، وإن أظهروا بألسنتهم، فإذا حكم وقدر الله عز وجل فلا بد أن يكون ويمضي على ما أراده الله عز وجل، فلا يقدر إنسان أن يقول: أنا لا أريد المرض! {فَالله يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد:41]، وليس المراد هنا أمره بالشيء {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة:117]، وإنما جعل الله أموراً شرعية العمل بها عباده، فأمر بالصلاة شرعاً لا أمراً، ولو كان الأمر كذلك لكان كل الخلق مسلمين مصلين، لكن جعل لهم اختياراً ومشيئة، فمن شاء أن يسلم فليسلم، ومن شاء ألا يسلم فلا يسلم، ومن شاء أن يؤدي الفرائض فليفعل، ومن شاء ألا يؤديها فلا يفعل، فإذا جاء أمر الأقدار في الاختيار، جاء القدر من الله عز وجل الذي يكون ويمضي على خلقه، فهو العزيز الغالب الذي لا يمانع إذا قضى وقدر سبحانه تبارك وتعالى. وهو الحكيم الذي يحلم عن عباده لحكمة منه، ويعاجل بالعقوبة لحكمة منه، ويصبر عن عباده ويؤخر العقوبة لحكمه منه، ينزل الكتاب لحكمة منه، يختار من خلقه من يشاء بحكمه منه، فله الحكمة العظيمة البالغة. ((وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ)). أي: له العظمة، وله الجلالة، وله البقاء، وله السلطان الدائم، وله الحكم سبحانه تبارك وتعالى، وله القدرة والكمال، {وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجاثية:37]، نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن ينجينا من ناره، وأن يجعلنا من أهل جنته. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأحقاف

تفسير سورة الأحقاف [1 - 5] يخبر الله تعالى أنه أنزل الكتاب على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ووصف نفسه بالعزة التي لا ترام، والحكمة في الأقوال والأفعال، فهو سبحانه لم يخلق السماوات والأرض على وجه العبث والباطل وإنما خلقهما لحكمة بالغة، فإذا كان كذلك فهو المستحق لأن يعبد وحده لا شريك له، وأن من يعبد غيره ممن لا يملك لهم نفعاً ولا ضراً فذلك دليل على الغباء الذي استولى على أفكارهم وعقولهم.

مقدمة بين يدي تفسير سورة الأحقاف

مقدمة بين يدي تفسير سورة الأحقاف الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الأحقاف: {حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف:1 - 5]. سورة الأحقاف هي السورة السادسة والأربعون من كتاب الله عز وجل، وهي السورة السابعة في عداد الحواميم بحسب ترتيب نزلوهن، وهن سبع سور من آل حاميم، أولهن غافر، ثم فصلت، ثم الشورى، ثم الزخرف، فالدخان فالجاثية، وهذه السورة سورة الأحقاف. فهذه سبع سور كلهن بدأهن الله عز وجل بالحرفين: ((حم))، وهذه السورة في ترتيب نزولها في القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم السورة الخامسة والستون، وقد نزلت بعد الجاثية، ونزل بعدها الذاريات، هذا في ترتيب النزول، وأما في ترتيب المصحف فهي السادسة والأربعون. وهي سورة مكية إلا آيتين منها، والآيتان هما قول الله عز وجل: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأحقاف:10]، هذا الشاهد هو عبد الله بن سلام، وقد كان في المدينة، وكذلك قول الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} [الأحقاف:35]، قالوا: أيضاً نزلت في المدينة. وبما أن هذه السورة كما ذكرنا سورة مكية، ففيها إذاً خصائص السور المكية، ففيها التحدي للكفار بهذا القرآن العظيم، حيث بدأها عز وجل بقوله: ((حم)) [الأحقاف: 1]، ولذلك عقب بعدها: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الأحقاف:2]، وهذه السورة في ترتيبها بعد السورة التي سبقتها -وهي سورة الجاثية- مناسبة، فهناك مناسبة بين ختم سورة الجاثية وبداية هذه السورة، فختمت الجاثية بقول الله عز وجل: {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجاثية:36 - 37]، وبدأ هذه السورة بقوله: {حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الأحقاف:1 - 2]، فهو رب السماوات ورب الأرض، وهو الذي أنزل الكتاب من السماء إلى الأرض رحمة بعباده سبحانه وتعالى، وإقامة للحجة عليهم، فناسب آخر هذه السورة بدء هذه السورة. إن الحروف المقطعة في أوائل السور هي من جنس الحروف العربية التي يتكلم بها العرب، والله عز وجل يتحداهم، ولذلك دائماً ما تجد في السورة التي يبدؤها بذكر الحروف المقطعة، مثل: {الم} [البقرة:1]، {الر} [يونس:1]، {كهيعص} [مريم:1]، وغير ذلك من السور تجد فيها إشارة بعد ذلك إلى هذا القرآن، سواء إشارة مباشرة بعدها، أو بعدها بآيات، فيذكر الإشارة إلى هذا القرآن، ففي سورة البقرة قال تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:1 - 2]، وقال في آل عمران: {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [آل عمران:1 - 3]، وهنا يقول: {حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الأحقاف:1 - 2]، وقبلها في الحواميم كذلك: {حم * تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [فصلت:1 - 3]، إلى غير ذلك مما يذكره الله عز وجل. فالله عز وجل كأنه يقول: هذا القرآن من جنس الحروف التي تتكلمون بها فائتوا بمثله، {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ} [هود:13]، {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23]، فما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.

بعض خصائص سورة الأحقاف

بعض خصائص سورة الأحقاف من خصائص هذه السورة أنه سبحانه يشير فيها إلى إعجاز هذا القرآن العظيم، وأنه منزل على النبي صلى الله عليه وسلم من عند الله وليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك فيها الاستدلال بخلق السماوات والأرض على قدرة الله سبحانه، وأنه وحده هو الذي يستحق أن يعبد، فالذين يدعون من دون الله يعرفون أنهم جماد، وأنهم لا ينفعون ولا يضرون، وأنهم لا يملكون لأنفسهم شيئاً، فمن الذي يستحق أن يعبد؟! هل يعبدون هذه الآلهة الباطلة وهي لا تملك لنفسها شيئاً، أم يعبدون الله الذي خلق السماوات والأرض، وأنزل على عبده الكتاب بالحق؟! إذاً: فهنا استدل بإتقان خلق السماوات والأرض على التفرد بالألوهية، وأنه الخالق الرب الذي يخلق ويفعل ويصنع ويقدر سبحانه، فهو وحده الذي يستحق أن يعبد. وكذلك فيها إثبات جزاء الأعمال، فالله عز وجل خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق وأجل مسمى، وبعد هذا الأجل يحاسب الناس على ما صنعوا وعلى ما قدموا في هذه الدنيا. وكذلك فيها الإشارة إلى البعث بعد الموت. إن هذه السورة سورة مكية نزلت على قوم كلهم مشركون يعبدون غير الله سبحانه وتعالى، فنزل القرآن يدعوهم إلى عبادة الله، وإلى أن يتفكروا ويعقلوا، وكأنه يقول لهم: انظروا ماذا في السماوات والأرض، {وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس:101]. وفيها إثبات رسالة النبي صلوات الله وسلامه عليه، قال تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} [الأحقاف:10] أي: فشهد عبد الله بن سلام للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه نبي، وأن هؤلاء اليهود يكذبونه مع معرفتهم له عليه الصلاة والسلام. وفيها أيضاً الثناء على المؤمنين الذين آمنوا بالله سبحانه، وذكر خصالهم الحميدة، وكيف أن الإنسان المؤمن يدعو ربه، فيعلمه الله عز وجل أن يقول: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف:15]. وفيها أيضاً بيان الأخلاق الحميدة وخاصة في رعاية جانب الوالدين، ووصية الله عز وجل بالوالدين والإحسان إليهما قال: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا حَتَّى} [الأحقاف:15]، فذكر الله عز وجل ما يرقق به قلب الإنسان على والديه. وكذلك في هذه السورة العظيمة يذكر بما حدث من الأمم السابقة من كفر بالله سبحانه وتعالى، وخاصة قوم عاد، وهم أصحاب الأحقاف، وكيف أهلكهم الله عز وجل بالريح العقيم التي أرسلها عليهم. وكذلك هذا القرآن إن لم تؤمنوا به فغيركم يؤمن به، وقد استمع الجن إلى النبي صلى الله عليه وسلم وجاءوا إليه مسرعين، فاستمعوا إلى هذا القرآن وولوا إلى قومهم منذرين، قال تعالى حاكياً عنهم: {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:30 - 31]، فالجن بلغت وعملت ما عليها. فالجن حين سمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم من سورة الرحمن مدحهم صلى الله عليه وسلم، فقال للصحابة وقد تلاها عليهم فسكتوا: (مالي أراكم سكوتاً! للجن كانوا أحسن منكم رداً، ما قرأت عليهم هذه الآية من مرة: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:16]، إلا قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب، فلك الحمد)، فحمدوا ربهم، وأثبتوا أن الله عز وجل وحده الذي يفعل كل شيء وخير، وفضل، فهو الفعال لما يريد، ولا يكذبون بشيء من نعم الله سبحانه وتعالى. وقد بدأ ربنا هذه السورة بقوله سبحانه: ((حم))، وكما ذكرنا قبل ذلك في الست السورة السابقة أن (الحاء) حرف، و (الميم) حرف، وكذلك كل ما كان في فواتح السور، ولذلك كان أبو جعفر إذا قرأها يقرأ (ح) ويسكت، (م) ويسكت، لبيان أن هذه ليست كلمة، وإنما ذا حرف وذا حرف، وكذلك إذا قرأ: {الم} [آل عمران:1]، {كهيعص} [مريم:1]، {حم} [الأحقاف:1]، {عسق} [الشورى:2]، {طه} [طه:1]، {يس} [يس:1]، لبيان أن هذه ليست أسماء وإنما هي حروف مقطعة، وذكرنا قبل ذلك أن الحاء تمد مداً طبيعياً حركتين، وأن الميم تمد مداً طويلاً ست حركات، والحاء أيضاً فيها قراءات كما ذكرنا قبل ذلك: فيها الإمالة، يقرؤها ابن ذكوان ويقرؤها شعبة عن عاصم، وحمزة والكسائي وخلف فيقرءون (حِ) بالإمالة ويقرؤها ورش وأبو عمرو بخلفه بالتقليل، يعني: بين الفتح وبين الإمالة، ويقرؤها باقي القراء (ح) بالفتح، ففيها ثلاث قراءات.

تفسير قوله تعالى: (حم، تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم)

تفسير قوله تعالى: (حم، تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم) قال الله تعالى: {حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الأحقاف:1 - 2]، التنزيل كما بدأ في السورة السابقة في الجاثية: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الجاثية:2]، فيه بيان أن هذا القرآن نزل من السماء من عند رب العالمين، قال سبحانه: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} [الدخان:3]، وقال: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1]، وقال هنا: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الأحقاف:2]. وقد تكررت كلمة التنزيل مع هذا القرآن، فقال سبحانه: {تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42]، وقال: {تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة:80]، وقال: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ} [السجدة:2]، وكونه نزل من السماء فيه إثبات العلو لله سبحانه وتعالى. قوله: ((تَنْزِيلُ الْكِتَابِ)) أي: الكتاب المعهود وهو هذا القرآن العظيم، ((مِنَ اللَّهِ)) يعني: ابتداء التنزيل من عنده سبحانه من فوق سماواته، فهو الله المألوه المعبود سبحانه وتعالى، وهو المستحق للعبادة وحده لا شريك له والله لفظ الجلالة. قوله: (العزيز)، وهو من أسمائه الحسنى وصفاته العلى، فهو الغالب القوي القادر الذي لا يمانع، فنقول هنا: إن العزيز هو القادر، ولكن نقول: هناك فرق بين الاسمين، فإن عزة الله عز وجل تمنع أن يمانعه أحد وأن يتحداه أحد، فإذا رفع إنسان رأسه بالتحدي أسقطه الله وأذله سبحانه وتعالى بقوله: {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة:117]، فالله عز وجل هو العزيز الغالب، فإذا قضى أمراً فلا بد وأن يكون ما قضاه وقدره سبحانه وتعالى. قوله: (الحكيم) أي: الذي له الحكمة العظيمة، فقد يفعل الإنسان من الشر ما يفعل، ويحلم عليه لحكمة؛ لأنه يعلم أنه يتوب في يوم من الأيام ويرجع إلى الله، أو يعلم سيزيد فيمهله ليأخذه وينتقم منه ويجعله عبرة للخلق، فله سبحانه الحكمة العظيمة البالغة، فهو الحكيم.

تفسير قوله تعالى: (ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق)

تفسير قوله تعالى: (ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق) قال الله تعالى: {مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف:3] أي: أن الله خلق السماوات وخلق جميع الخلق متلبساً بالحق، وخلقها ليحق الحق ويري عباده قدرته سبحانه، وأنه الإله الحق وحده لا شريك له. قوله: ((مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ)) أي: كذلك خلق الأرض بالحق سبحانه، وأنزل فيها الكتاب وأنزل الميزان، فعلم العباد كيف يصنعون بهذا الميزان، وأنزل الشريعة ليحكم بينهم بالعدل، وأرسل فيهم الرسل ليعلمهم ذلك، فعرف العباد العدل وعرفوا الحق، فما ضلوا وأضلوا إلا بعدما عرفهم الله سبحانه وتعالى الحق، فبغى بعضهم على بعض، وحسد بعضهم بعضاً، فالله ما خلق السماوات والأرض إلا بالحق سبحانه. قوله: ((وَأَجَلٍ مُسَمًّى)) أي: خلق السماوات وخلق الأرض لأجل مسمى، فإذا جاء الأجل الذي قدره الله سبحانه وتعالى، إذا بالكواكب والنجوم والشمس والقمر كل هذه الأشياء تهوي، وإذا بالسماء تنكشف وتزول، {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} [التكوير:11]، وكذلك إذا بهذه الأرض والجبال التي فيها {يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه:105 - 107] أي: أن كل شيء له قدر مقدور، وله وقت معلوم عند الله سبحانه، فإذا جاء ذلك الوقت إزاله وأفناه من مكانه سبحانه. قال: ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ)) أي: أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق بالحق، وعلم العباد ما هو الحق، وجعل لهم أجلاً محدوداً وعمراً معدوداً لن يتجاوزه أحد، وفي النهاية يرجعون إلى الله سبحانه، ولكن الكفار يكذبون، ومع ذلك هم لا يضرون الله شيئاً وإنما يضرون أنفسهم. فقوله: ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ)) يعني: عن الذي أنذروا به، فقد أنذرهم الله عز وجل بالساعة، وأنذرهم بالحساب وبالجزاء وبالعقاب بالنار، فهم معرضون عن هذا كله، متشاغلون بالدنيا، مستهزئون بما جاءهم من عند ربهم، مدبرون لاهون غير مستعدين ليوم الحساب.

تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني)

تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني) قال الله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف:4]. قوله: ((قُلْ أَرَأَيْتُمْ)) كلمة ((أَرَأَيْتُمْ)) في كل القرآن فيها أربع قراءات: ((قُلْ أَرَأَيْتُمْ))، وهي قراءة نافع وأبي جعفر ويقرؤها الأزرق بالمد الطويل: ((قُلْ أَرآيْتُمْ))، ويقرؤها الكسائي: ((قُلْ أَرَيْتُمْ)). وقوله: ((قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ))، أي: هذه الأصنام التي تدعونها وتزعمون أنها تستحق عبادتكم ما الذي خلقته؟ أروني ماذا تصنع هذه الأصنام؟ وماذا تخلق هذه الأصنام؟ فالمشركون قبل غيرهم يعرفون أنها لا تنفع ولا تضر. قوله: ((أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ)) أي: هل لهم شرك في السماوات؟ وهل أطلعتكم الأصنام أنها شاركت في خلق الشمس وفي خلق القمر وخلق السماوات؟ فالكافر سيجيب: لا، ما حصل هذا الشيء، إذاً: ((اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ))، وهنا إما أنك تقرأ: ((مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ اِْتُونِي بِكِتَابٍ))، فإذا وصلت قرأت الهمزة هنا إلا في قراءة ورش وخلف لـ أبي عمرو، وإذا وقف عليها حمزة فإنه يقرؤها بالياء، فهنا ورش يقرؤها: ((أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ)) يصلها هكذا، لكن باقي القراء إذا وصلوا: ((أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ اِئْتُونِي))، فيقرءون بالهمزة، وإذا وقفوا وبدءوا منها فجميع القراء يبدءونها بالألف التي بعدها ياء (ايتوني)، فالألف مكسورة بعدها ياء، فهذه ألف وصل. إذاً: فليس هناك أحد قرأها في الابتداء فيقول: ((اِئْتُونِي بِكِتَابٍ))، بل كل القراء إذا بدءوا في هذه وأمثالها فإنهم يقرءونها: {اِيْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف:4]. فهنا يعلم ربنا سبحانه المسلمين الاستدلال الصحيح، فالاستدلال إما أن يكون استدلالاً عقلياً، وإما أن يكون استدلالاً نقلياً، فالاستدلال العقلي أم تعمل قلبك وعقلك في هذا الكون لتستدل، وأما الاستدلال النقلي السمعي فهو الكتاب والسنة، فلذلك ربنا سبحانه وتعالى يذكر لهؤلاء خلق السماوات والأرض، وهذا هو الاستدلال العقلي، فكأنه يقول لهم: هل هذه الأصنام التي تعبدونها من دون هل لها شرك في هذه السماوات؟ وهل تخلق شيئاً؟ وهل هي تقدر أن تطلع في السماء وتخلق شيئاً من النجوم أو غيرها؟ فهذا دليل عقلي. ثم قال: ((اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ)) أي: هاتوا كتاباً سابقاً نزل على رسول من الرسل عليهم الصلاة والسلام، يكون قد أخبر بهذا الذي تقولونه، أو ائتوني بكلام صحيح لرسول من الرسل من قبلكم يقولون ذلك. إذاً: فقد جمع الاستدلال كله في ذلك، الاستدلال العقلي والاستدلال النقلي، فالاستدلال العقلي يكون بالتفكر في الأشياء العقلية التي يعمل فيها العقل، والاستدلال النقلي يكون بالكتاب وبالسنة. قوله: (إن كنتم صادقين) أي: لو كنتم صادقين فيما تدعون فائتوا بهذا الشيء الذي تقولونه، لكن لكونهم كاذبين فلا يقدرون أن يقولوا: إن هذه الأصنام تنفع وتضر مع الله سبحانه وتعالى. ولذلك لما كان صلى الله عليه وسلم يرسل سراياه لهدم الأصنام كان البعض من المشركين يتخيل أن الأصنام ستنتصر وستنتقم لنفسها؛ فلذلك كانوا يتفرجون على الصحابة الذين يهدمونها لعلها تنتصر لنفسها، فكان عندهم حلم بهذا الشيء، فيجدون الأصنام تتكسر أمامهم ولا تصنع شيئاً، فيضحك منهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لغبائهم واعتقادهم أن هذه الأصنام تنفع أو تضر، أو أنها ترد على من يكسرها.

تفسير قوله تعالى: (ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له)

تفسير قوله تعالى: (ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له) قال الله عز وجل: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف:5] أي: من أشد ضلالاً وأبعد في التيه وفي الغباء ((مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)) أي: لو بقي الشخص جالساً أمام الصنم إلى يوم القيامة فلن يرد عليه، فمن أغبى من هذا الإنسان الذي يدعو صنماً من دون الله: يا هبل! اعملي لي كذا، يا لات اعملي لي كذا، يا عزى اعملي لي كذا!، وهو يعلم أنها لا تنفع ولا تضر، وكم رأى هؤلاء المشركون من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أفعالاً بهذه الأصنام، ففي المدينة كان البعض منهم في وقت كفره يعبد صنماً من دون الله عز وجل، فيأتي إليه ابنه وقد أسلم مع النبي صلوات الله وسلامه عليه فيلطخ هذا الصنم بالعذرة، فيجيء الأب فيراه ويتعجب ويقول: من الذي عمل هذا في المعبود الذي أعبده؟ وينظف الصنم ويرجعه إلى مكانه مرة ثانية، فيأتي الابن ويصنع به مثل ما صنع به في المرة الأولى، إلى أن تكرر هذا الفعل أكثر من ثلاث مرات، فقام الأب المشرك فأعطى الصنم سيفه وقال: دافع عن نفسك! دافع عن نفسك! فيجيء الابن فيأخذ الصنم فيرميه منكساً في الخلاء بين العذرات، فيجيء الرجل فينظر إلى هذا الصنم ويعلم أنه لا ينفع ولا يضر فيقول له: إن العنزة لتدفع عن نفسها، وأنت لم تدفع عن نفسك شيئاً، لو كنت إلهاً لم تكن في هذا الذل الذي أنت فيه، فتركه وذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم، فهذا كان تفكيرهم، وهكذا كانت عقولهم، فقد وصلت بهم إلى أن يعطي للصنم سيفاً، فأين عقله الذي عنده؟! ولما دخل في الإسلام كان يضحك على نفسه، ويقول: أنا كنت أعطي السيف للصنم من أجل أن يدافع عن نفسه؛ ولذلك يذكر الله عز وجل هؤلاء المشركين بمثال يدل على غبائهم، وكيف أنهم يعبدون هذه الآلهة من دون الله! قال تعالى: {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} [الرعد:14]، فهل ذا فعل عاقل؟ لو قام واحد إلى النهر ووقف وقال له: تعال يا ماء أنا عطشان وظل يناديه إلى أن تقوم القيامة، فلن يستجيب له الماء، ولن يأتي إلى فمه، فليس عاقلاً من يصنع ذلك، وكذلك الذي يزعم أن الصنم ينفع من دون الله ويضر، ويعبد الصنم، ويدعوا الصنم ويذبح للصنم، ويتقرب إليه. وهذا ربنا سبحانه وتعالى يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، فكيف تدعو صنماً من دون الله عز وجل؟ وكذلك كل من دعا شيئاً من دون الله عز وجل، كأن يذهب إلى أموات قد ماتوا وذهبوا إلى ربهم سبحانه، سواء كانوا صالحين أو كانوا غير ذلك، ويدعوهم من دون الله: يا سيدي فلان! اعمل لي كذا، والله عز وجل يقول: ((أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ)) أي: تعبد أمواتاً غير أحياء، ((وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ))، فالميت في قبره سواء كان هذا الميت نبياً أو ولياً أو رسولاً، هذا الميت لا يعرف متى تقوم الساعة، فقد دخل قبره وانتهى أمر الدنيا وأمر التكليف، وهو الآن في انتظار الساعة وهو في قبره، فلما يخبر الله عز وجل عن الأصنام هذه، يقول: هي مثل هذه الأموات، {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النحل:21 - 22] أي: الله عز وجل لا إله إلا هو سبحانه. وقال سبحانه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الأحقاف [5 - 9]

تفسير سورة الأحقاف [5 - 9] إنَّ الذين يتخذون من دون الله أنداداً يعبدونها هم أشدُّ الناس ضلالاً؛ لأنهم يدعون من دون من لا يستجيب لهم إلى يوم القيامة، بل سوف يتبرأ كل معبودٍ ممن عبده يوم الحشر، ومع ظهور الآيات البينة والبراهين الساطعة على صدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وأن القرآن كلام الله، تجد الكافرين يتقولون على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى كتاب الله الأقاويل.

تفسير قوله تعالى: (ومن أضل ممن يدعو من دون الله)

تفسير قوله تعالى: (ومن أضل ممن يدعو من دون الله) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الأحقاف: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الأحقاف:5 - 9]. في هذه الآيات يتعجب الله تعالى ممَّن يعبدون غير الله سبحانه وتعالى وهم يعرفون أن هذه المعبودات لا تنفع ولا تضر، فقوله تعالى: ((وَمَنْ أَضَلُّ)) سؤال تعجبٍ من أمر هؤلاء، والجواب على ذلك أنه لا أحد أضل من هؤلاء. وقوله: ((يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ)) أي: يدعو آلهة غير الله سبحانه، وهذه الآلهة لا تستجيب له حتى ولو دعاهم من هذا الوقت إلى يوم القيامة، فلو أنه من الآن إلى يوم القيامة جلس أمام هذا الصنم أو أمام هذا الوثن أو أمام هذا الذي يدعوه من دون الله ظل يدعوه ويطلب منه فلن يستجيب له أبداً، فليس هناك أضل من الذي لا يفكر ولا يعقل ما يصنع. وقوله تعالى: ((وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ)) يعني: هذه الآلهة غافلة، فهي جمادات، فعبدوا أصناماً وأحجاراً وشمساً وقمراً وأشجاراً، وعبدوا غير ذلك من الأشياء وهي غافلة لا تعي ما يقول هؤلاء ولا ما يصنعون.

تفسير قوله تعالى: (وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء)

تفسير قوله تعالى: (وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء) قال الله عز وجل: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:6]، قوله: ((وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ)) أي: إذا جمع الناس ليوم الحشر كانت هذه الآلهة أعداء لهؤلاء، فيجعل الله فيها أفهاماً وعقولاً وألسنة تنطق وتكذب هؤلاء الذين كانوا يعبدونها من دون الله وتتبرأ منهم، وكذلك كل من عُبِد من دون الله سبحانه وتعالى، حتى وإن أراد هذه العبادة إنسان، وجعل نفسه على الناس ملكاً وزعم لهم أنه إله كما ادعى فرعون وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، فإذا جاء يوم القيامة هؤلاء مع أتباعهم، قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا} [البقرة:166 - 167]، إذاً: في يوم القيامة المتبوعون يتبرءون من أتباعهم، والكبراء يتبرءون من الصغار الذين مشوا وساروا وراءهم وطلبوا نوالهم في الدنيا، فإذا بهم يوم القيامة يتبرءون منهم ويقولون لهؤلاء: تبرأنا منكم، كذلك الشيطان، قال الله تعالى عنه: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم:22] أي: لا أريدكم ولا أغيثكم، ولا أنا أجيركم ولا أنتم تجيرونني {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم:22]، كنتم تعبدونني من دون الله وأنا كافر بهذه العبادة {إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم:22]. فهذا الشيطان الذي خدع الإنسان في الدنيا يتبرأ من الإنسان يوم القيامة، ويقول: أنا كافر بعبادتك لي، فالشيطان يقول ذلك للإنسان، والإنسان يعبد الشيطان في الدنيا مع تحذير الله عز وجل للعباد من الشيطان، قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6]، وقال الله سبحانه: ((وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا))، هذه الآلهة وهذه الشياطين ((لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ))، والشيطان يقول: ((إِنِّي كَفَرْتُ)) أي: بهذه العبادة. وكذلك كل الآلهة حين ينطقون يقولون: كفرنا بهذه العبادة التي عبدتمونا بها، أي: جحدنا وأنكرنا ذلك فلا نستحق نحن العبادة، فأنتم الذين عبدتمونا ونحن نبرأ من هذه العبادة.

تفسير قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات)

تفسير قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات) قال الله عز وجل عن هؤلاء الكفار: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الأحقاف:7] أي: أن الكافر يخلط ولا يعرف كيف يرد على النبي صلى الله عليه وسلم فيتكلم بالكلام الواهي فيقول: ((هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ)) يعني: هذا سحر بيَّن جلي واضح تماماً، وهو كاذب فيما يقول، ومن حوله يعرفون ذلك، فقد كان المشركون يجتمعون في دار ندوتهم ليتفقوا على شيءٍ يقولونه في النبي صلى الله عليه وسلم، فمنهم من يقول: مجنون، فيقولون: هو من أعقل الناس كيف نقول عنه مجنون؟! ومنهم من يقول عنه: كذاب، فيقولون: كيف ذلك ونحن الذين نسميه الصادق الأمين عليه الصلاة والسلام؟! وكيف ندعي عليه الكذب الآن؟ ويقولون: نقول عنه: ساحر، فيقولون: لقد نظرنا السحرة ونظرنا الكهنة فلم نجد فيه شيءٌ من ذلك، فكلٌ يدلي برأيه ويكذب بعضهم بعضاً، فيقولون عن القرآن: سحر مبين، وهم يعرفون في أنفسهم أنهم كذابون.

تفسير قوله تعالى: (أم يقولون افتراه)

تفسير قوله تعالى: (أم يقولون افتراه) قال الله عز وجل: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} [يونس:38] أم: إضرابية مقدرة ببل والهمزة، وتسمى المنقطعة، قال تعالى: ((أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا))، فكيف افترى هذا القرآن؟ ولو سألنا هؤلاء الكفار هل تقدرون أن تأتوا بمثله؟ لقالوا: لا، لا نقدر أن نأتي بمثله، إذاً: فهذا القرآن معجز؟ سيقولون: نعم هو معجز، ولا نقدر أن نأتي بمثله طالما أنه معجز، إذاً: فالذي أتى بهذا القرآن أتى بمعجزة، ولا يملك شيئاً من هذه المعجزة، إنما هذه المعجزة من الله، وإنما هو رسول من رب العالمين، وليس هو الذي أتى بهذا الشيء من عنده، ولكنه من عند رب العالمين سبحانه، فلم لا تصدقون ذلك؟ فقوله تعالى: ((قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا)) أي: لا تملكون لي شيئاً لو كنت أكذب على الله، وكانوا يريدون ذلك، كما قال تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} [الإسراء:73] أي: نريدك أن تفتري بأي شيء تقوله في هذا القرآن فتشكر آلهتنا، ولو اتبعتهم على هذا يقول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا} [الإسراء:73]، ولو تابعتهم على ما هم فيه: {لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء:75]. فلو أنت فعلت ذلك وأطعت هؤلاء في بعض ما يطلبونه منك لأذقناك العذاب في الدنيا ضعفين، وحاشا له صلوات الله وسلامه عليه، وفي الآخرة ضعف العذاب لو أنك اتبعتهم في شيء بسيط مما يريدونه. {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [يونس:38]، وإذا كان الله عز وجل في مقام التبليغ وفي مقام التوحيد، وفي مقام إبلاغ رسالته إلى العالمين سبحانه يهدد ويحذر النبي صلى الله عليه وسلم أن يميل إلى أهوائهم فإنه يقول: {وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ} [النساء:113] أي: لا يضرونك طالما أنت معتصم بالله عز وجل، ولا يضرون إلا أنفسهم، فاحذر أن تتبعهم وقد عصمناك منهم، وحفظناك ودافعنا عنك، وإلا فلن تملك لنفسك منا شيئاً، وهم لا يملكون لك من الله شيئاً. وقوله تعالى: {هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ} [يونس:38]، أي: الذي تخوضون وتندفعون فيه من كلام باطل. وقوله: {كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأحقاف:8]، يشهد علي ويشهد عليكم، قال تعالى: {كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الرعد:43] أي: لا أحتاج إلى أحد من البشر أن يشهد لي بأني بلغت، تكفيني شهادة رب العالمين سبحانه، فالشهيد يراقبني ويراقبكم، ثم يحكم بيني وبينكم يوم القيامة، قال تعالى: ((وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ))، ففضل الله عظيم سبحانه، فالمقام هنا مقام تهديد ووعيد ومع ذلك يختم سبحانه بآية الرحمة ويقول: ((وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)) أي: لو تبتم إلى الله ودخلتم في دينه لغفر لكم ورحمكم، والغفور مشتق من الغفر، والغفر: الستر، يعني: أن الله يستر ذنوبكم، ويمحوها ويغفرها بفضله وكرمه سبحانه، وهو الرحيم، قال تعالى: {وكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43]. فرحمته سبحانه لمن مات على التوحيد، ولمن دخل في دين الله عز وجل وأسلم نفسه ووجهه لله.

تفسير قوله تعالى: (قل ما كنت بدعا من الرسل)

تفسير قوله تعالى: (قل ما كنت بدعاً من الرسل) ثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء {مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:9] أي: لست أنا أول رسول، بل قبلي أنبياء ورسل كثيرون جاءوا إلى قومهم، فلست بالشيء الجديد. وقوله تعالى: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} [الأحقاف:9]، هذه السورة سورة مكية وفي هذا الوقت قال له ربه سبحانه: قل لهم ذلك: أنني لا أعلم أقدار الله سبحانه، ولا أعلم ما الذي يصنع بي أو بكم على التفصيل، ولكن الله عز وجل قد أرسلني لأبلغ رسالته، فلا أدري ما يفعل بي ولا بكم بعد ذلك. إذاً: ففي هذه الحياة الدنيا أنا لا أدري ما الذي يفعل بي ولا بكم على وجه التفصيل، وأما إجمالاً فقد بين له ربه سبحانه فقال: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح:2]، وبين ما يفعل بالمؤمنين فقال: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا} [الفتح:5]. وبين سورة الأحقاف وسورة الفتح سنون طويلة في نزولهما، فسورة الفتح نزلت في رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من الحديبية سنة ست للهجرة في ذي القعدة، وقال له سبحانه: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:1 - 2]، إذاً: فقد نزلت في الأعوام المدنية سنة ست وهو راجع من الحديبية، فنزل عليه هذا القرآن العظيم ليخبره بما يكون يوم القيامة، إذاً: فهو في هذه الحالة وهو في مكة كان يعرف يقيناً أن المؤمنين في الجنة، ويعرف أنه صلى الله عليه وسلم سيكون في الجنة، لكن التفصيل في ذلك قبل دخول الجنة: هل سيحاسب النبي صلى الله عليه وسلم حساباً شديداً؟ وكيف سيحاسب المؤمنون؟ من هو سابق، ومنهم من هو لاحق بعد ذلك، ومنهم من يستحق النار؛ فهذا كله لا يعرفه النبي صلى الله عليه وسلم، إنما يعرف إجمالاً أن المؤمنين في الجنة، ثم أخبره الله عز وجل عن بعض الناس: أن فلاناً في الجنة، وفلاناً في الجنة، فأخبر عن عشرة من أصحابه رضوان الله تبارك وتعالى عليهم وبشرهم بأنهم في الجنة. إذاً: فالمعرفة التفصيلية لم يكن يعرفها صلى الله عليه وسلم، ولكنه عرف الجنة ودعا إليها إجمالاً. وقال له ربه: قل {مَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} [الأحقاف:9] أي: أنا لا أعلم الغيب، قال تعالى: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف:188]، وهذه الآيات دفعت الكفار إلى العناد واليهود يعينونهم على ذلك، فالكفار واليهود يقولون: إن الرجل لا يعرف ما يصنع به ولا بكم، كيف تتبعونه إذا كان لا يعرف ما يفعل به ولا بكم؟! فلا تتبعوه، فهذا مما دفعهم إلى أن يبتعدوا عن النبي صلى الله عليه وسلم، والقرآن لا يجامل أحداً، حتى ولو كان الأمر في هؤلاء أنهم يبتعدون، فالله يهدي من يشاء ويضل من يشاء سبحانه وتعالى. والحقيقة أن محمداً صلى الله عليه وسلم بشر من البشر لا يعلم الغيب، إلا ما علمه الله سبحانه وتعالى. وفي صحيح البخاري حديث يتناسب مع هذه الآية وهو حديث أم العلاء الأنصارية رضي الله عنها تقول: (اقتسمنا المهاجرين فطار لنا عثمان بن مظعون في السكنى، فأنزلناه أبياتنا فتوفي). فالأنصار هم أهل الدار والإيمان رضي الله عن الجميع، فاقتسموا هؤلاء المهاجرين، فقالت: (طار لنا في السكنى)، أي: صار من نصيبهم الحسن هذا الرجل الفاضل العظيم عثمان بن مظعون رضي الله تعالى عنه، حيث نزل عندهم. تقول رضي الله عنها: (فتوفي)، وهذا الرجل كان رجلاً مؤمناً صادق الإيمان، صالحاً زاهداً رضي الله عنه، وقد صفه النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاح، وبأنه خير سلف، وذلك لما ماتت ابنته صلوات الله وسلامه عليه قال: (الحقي بخير سلف عثمان بن مظعون)، رضي الله تعالى عنه، ووضع حجراً عند قبره علامة، وقال: (أدفن إليه من مات من أهلي)، فالرجل له منزلة عظيمة. فقالت أم العلاء الأنصارية رضي الله عنها لما توفي: شهادتي عليك أبا السائب أن الله قد أكرمك، أي: أنا أشهد أن الله قد أكرمك، فأوقفها النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لو فتح هذا الباب فإن كل إنسان سيشهد لأي إنسان ميت ويدخل في أمور الغيب فقال لها النبي صلوات الله وسلامه عليه: (وما يدريك أن الله قد أكرمه؟) يعني: أنت لم تطلعي على الغيب حتى تعلمين أن الله أكرمه، فأسكتها النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا تفتح المجال للناس أن يتكلموا في الغيب. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك أن الله قد أكرمه، فقالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! فمن؟) تعني: إذا لم يكرمه الله تعالى فمن يكرم إذاً؟ فهي تقول على وجه الظن: إن هذا الرجل صالح، فلا بد أن يكرمه الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما هو فقد جاءه اليقين ومات على الإسلام، فنرجو له الخير، قال: وما رأينا إلا خيراً فوالله إني لأرجو له الجنة). إذاً: يعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم ألا نتكلم عن الغيب، ثم قال: (ووالله إني لرسول الله صلى الله عليه وسلم وما أدري ما يفعل بي ولا بكم) وفي هذا الأمر حصل إشكال عند العلماء، فمنهم من ضعف هذا الحديث وقال: هو معارض للمعنى الذي جاء في القرآن، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبره الله أنه في الجنة عليه الصلاة والسلام، ولكن الصواب: أن الحديث ثابتٌ في صحيح البخاري، فكيف يضعف وهو حديث صحيح الإسناده؟! فالصحيح أن معنى الحديث: (ما أدري ما يفعل بي ولا بكم) من تفاصيل أمور الدنيا: من قتال، أو انتصار على المشركين، أو ما يحصل له ولأصحابه، فأمور الغيب لا يدري بها النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك يقول الله له: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف:188]. ثم بين له ربه سبحانه وتعالى بعد ذلك ما يكون من أنه صاحب الشفاعة يوم القيامة، وصاحب الحوض المورود، وصاحب المقام المحمود صلوات الله وسلامه عليه، وهو في أعلى الجنة عليه الصلاة والسلام، وأخبر أن المؤمنين في الجنة على ما ذكر لنا في أحاديثه عليه الصلاة والسلام. إذاً: فقوله: (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم) نفي للعلم على التفصيل وإثبات للإجمال في ذلك؛ لذلك فإن الصحابة رضوان الله عليهم لما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يقول ذلك تخوفوا مما يكون بعد ذلك، فلم يزك أحد أحداً حتى سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدفن ابنته يقول: (الحقي بخير سلف)، فعرفوا أن هذا الرجل رجل صالح، وأن النبي صلى الله عليه وسلم عرف أن له منزلة عند الله سبحانه وتعالى. كذلك أم العلاء الأنصارية ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أنها رأت هذا الرجل في منامها وله عين جارية، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن هذا عمله، إذاً: فالرجل كان مجاهداً، وكان رجلاً صالحاً، وعمله مستديم بعدما مات، وعمله دائم الأجر عليه عند الله سبحانه وتعالى، فهذا مما جاء في قصة هذا الرجل الفاضل رضي الله عنه وقصة أم العلاء الأنصارية. ولا تعارض بينه وبين الغيب، إذاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أدري ما يفعل بي ولا بكم) أي: في هذا الوقت من أمور الدنيا ومن أمور الآخرة على التفصيل، حتى فصلها له ربه سبحانه وتعالى بعد ذلك بالوحي في الكتاب وفي السنن. وقال تعالى: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأحقاف:9]، إن هنا بمعنى: (ما) وهذا أسلوب قصر يعني: ما أتبع إلا ما يوحى إليه، ولا أجرؤ على شيء إلا بوحي من الله، فلا يتقدم ولا يتأخر إلا بما يأمره الله عز وجل به، قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3] أي: لا يتكلم من قبل نفسه، ولكن بوحي من عند الله سبحانه. وقوله تعالى: {وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الأحقاف:9]، وهذا قصر أيضاً، أي: وظيفتي في الدنيا هي النذارة والرسالة، فالنبي صلى الله عليه وسلم رسول رب العالمين ليبشر وينذر ويخبر بما يريد الله سبحانه وتعالى، ويدعو الخلق إليه سبحانه، فهذه وظيفته في الدنيا، ولم يأت في الدنيا ليقول: أنا أعلم الغيب، بل قال لهؤلاء: {مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:9]، لست بشيء جديد مخترع ولكني مثل غيري من الرسل، ووظيفتي هي البشارة للمؤمنين بالجنة، والنذارة للكافرين بعذاب رب العالمين، والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وإلى توحيده. ومعنى قوله تعالى: ((مُبِينٌ)) أي: مفصح عما يريده الله سبحانه، مبين لكم أحكام دينه سبحانه وتعالى. نسأل الله سبحانه أن يجعلنا متبعين للنبي صلى الله عليه وسلم، وأن يجنبنا البدع والحوادث، ونسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الأحقاف الآية [10]

تفسير سورة الأحقاف الآية [10] إن القرآن العظيم كتاب هداية للناس أجمعين، وهو موعظة وذكرى من الله لعباده، ولكن لا يتذكر إلا من وفقه الله جل وعلا، وقد شهد بصحته وبلاغته وإعجازه أرباب الفصاحة والبلاغة، وأذعنوا لعظمته، ولما جاء به صلى الله عليه وسلم كفر به من كفر من الجهال والكفار واليهود، وأما من عنده علم بالكتاب فقد شهد بصحته كعبد الله بن سلام رضي الله عنه.

سبب نزول قوله تعالى: (قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به)

سبب نزول قوله تعالى: (قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الأحقاف: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ * وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} [الأحقاف:10 - 12]. يقول الله سبحانه في هذه الآيات من سورة الأحقاف لهؤلاء الكفار: ((قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)) أي: إن كان هذا القرآن من عند الله سبحانه: ((وَكَفَرْتُمْ بِهِ)) أي: لم تصدقوا به، وجحدتم أنه من عند الله سبحانه، وافتريتم على النبي صلى الله عليه وسلم أنه جاء به من عنده، ((وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ))، قوله تعالى: ((وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ)) قالوا: هذه الآية من هذه السورة آية مدنية، وكانت في إسلام عبد الله بن سلام في المدينة في أول وصول النبي صلوات الله وسلامه عليه إلى المدينة، فقد شهد عبد الله بن سلام رضي الله عنه، وقد ذكر الله عز وجل شهادته في كتابه بأنه شهد أن هذا القرآن حق، وأن النبي صلى الله عليه وسلم حق، وشهد له النبي صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة رضي الله تبارك وتعالى عنه. فهذا الرجل العظيم عبد الله بن سلام رضي الله عنه كان حبراً من أحبار اليهود، وعالماً من علمائهم، وقد عرف صفة النبي صلوات الله وسلامه عليه، فذهب يختبر ويمتحن النبي صلى الله عليه وسلم فلما تأكد أسلم رضي الله تبارك وتعالى عنه.

عبد الله بن سلام يحاجج اليهود ويرد عليهم

عبد الله بن سلام يحاجج اليهود ويرد عليهم هذا هو عبد الله بن سلام الذي بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة رضي الله تبارك وتعالى عنه، وهو أول من رد على اليهود من اليهود رضي الله تبارك وتعالى عنه. روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة رجل وامرأة منهم قد زنيا)، وكانوا قد بدلوا حكم التوراة في أن الزاني يرجم، فلما وجدوا أن أشرافهم يزنون قالوا: نلغي حكم التوراة ونأتي بحكم جديد، فقالوا: الذي يزني نركبه على حمار منكوس ووجهه إلى الوراء، ونطوف به بين الناس. (فلما عرفوا أن النبي صلى الله عليه وسلم حق قالوا: نذهب إلى هذا الذي يقول إنه نبي، فإن حكم بذلك كان حجة لنا عند الله، فذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن فلاناً وفلانة قد زنيا فاحكم فيهما، قال: ما تجدون حكمهما عندكم في التوراة؟ قالوا: نسخم وجوههما، ونركبهما على حمار منكوسين، قال: كذبتم، أما تجدون الرجم عندكم؟ قالوا: لا ما نجده، قال: فائتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين، فأتوا بالتوراة وقرءوها، فلما أتوا على الموضع الذي فيه الرجم وضع القارئ يده عليها، فقرأ ما قبلها وما بعدها، -والنبي صلى الله عليه وسلم كان لا يقرأ لا عربياً ولا أعجمياً، فلا يقرأ التوراة بالسريانية ولا بالعربية- فقال عبد الله بن سلام رضي الله عنه: ارفع يدك واقرأ، فرفع يده فقرأها فإذا فيها الرجم). فهؤلاء يكذبون على الله وكتاب الله بين أيديهم، أفلا يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى غيره من البشر؟! فلما قرءوها قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم اشهد أني أول من أقمت حكم التوراة فيهم) أي: أنهم ألغوا حكم التوراة، وأنا أول من أقمت حكم التوراة فيهم. فكان عبد الله بن سلام رضي الله عنه هو الذي قال لهذا القارئ: (ارفع يدك، فقرأ فيها آية الرجم، فقالوا: صدق يا محمد! فيها آية الرجم). فالنبي صلى الله عليه وسلم بين أن حكم الله عز وجل في الزاني والزانية إذا وقعا في هذه الجريمة هو الرجم، وبين القرآن وبينت سنة النبي صلى الله عليه وسلم الحد في ذلك. إذاً: فقوله تعالى: ((قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ)) أي: على مثل ما جئتم به، فشهد على هذا القرآن أنه من عند الله سبحانه، ((فَآمَنَ)) يعني: عبد الله بن سلام، ((وَاسْتَكْبَرْتُمْ)) أي: يا معشر اليهود، ويا معشر الكفار، ((إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)) أي: الذين يظلمون أنفسهم بالشرك بالله عز وجل، فيستحقون من الله عز جل العقاب، {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:116]. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قصة إسلام عبد الله بن سلام رضي الله عنه

قصة إسلام عبد الله بن سلام رضي الله عنه في صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: (بلغ عبد الله بن سلام مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأتاه فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي)، وعلى هذا فإما أن يكون إسلامه كان مبكراً أول ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، أو أنه بلغه هذا الشيء متأخراً والله أعلم، لكن الأغلب يذكرون أن إسلامه كان قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بعامين أو بثلاثة أعوام والله أعلم. فهنا يذكر في هذه القصة أنه لما بلغه مقْدم النبي صلى الله عليه وسلم أتى فقال: (إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ ومن أي شيء ينزع الولد إلى أبيه؟). وهذه الأشياء عرفها عبد الله بن سلام من كتابهم، وجاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عنها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم، لقد أخبرني بهن آنفاًَ جبريل قال: ذاك عدو اليهود من الملائكة)، فقد كان عبد الله بن سلام رضي الله عنه على عقيدة اليهود، وقد كان اليهود يقولون: إن جبريل عدونا، ولكنه جلس يسمع النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم. فقال صلى الله عليه وسلم: (أول أشراط الساعة نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب) يعني: تخرج نار عظيمة تقود الناس كلهم من مكانهم إلى بلاد أخرى، فتحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وقال صلى الله عليه وسلم: (وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت)، وهذا شيء لا يعرفه إلا الله سبحانه وتعالى؛ لأن أمر الجنة أمر غيبي لا يطلع عليه إلا الله، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل الجنة، ومن أول داخليها. قال: (وأما الشبه في الولد فإن الرجل إذا غشي المرأة فسبقها ماؤه كان الشبه له، وإذا سبق ماؤها كان الشبه لها، قال: أشهد أنك رسول الله). ففرق بينه وبين اليهود الذين ذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: نسألك عن خمسة أشياء، فلما أجابهم وعرفوا أنه نبي قالوا: (من وليك من الملائكة، قال: جبريل، قالوا: لو قلت ميكائيل لاتبعناك، ولكن جبريل عدونا فلا نتبعك)، وهذا من كفرهم وجحودهم وبهتهم وبهتانهم لعنة الله عليهم، فتركوا الحق الذي عرفوه من النبي صلى الله عليه وسلم، وكأن النظرة ليست إلى الحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما النظرة إلى الذي جاء به وأنزله على محمد، فنسوا أن الله هو الذي أنزل هذا الكتاب، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رسول باعترافهم، ونظروا إلى السفير بين السماء والأرض، فهذا كفر اليهود لعنة الله عليهم! فـ عبد الله بن سلام رضي الله عنه لم يكن مثلهم، وإنما سمع ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أشهد أنك رسول الله، ثم قال: يا رسول الله! إن اليهود قوم بهت، إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني عندك، ولكن ادعهم قبل أن يعلموا بإسلامي، فاسألهم عني فدعاهم، فجاءت اليهود، ودخل عبد الله البيت) أي: اختبأ في البيت واليهود عند النبي صلى الله عليه وسلم، فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم: (أي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟: فقالوا: أعلمنا وابن أعلمنا، وأخيرنا وابن أخيرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفرأيتم إن أسلم عبد الله) أي: إن أسلم عبد الله أتسلمون مثله؟ (فقالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج عبد الله رضي الله عنه فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله؛ فقالوا: شرنا وابن شرنا)، فوصفوه بعكس ما قالوا أولاً، فهم قوم كذابون لا يستحيون أن يكذبوا في نفس الجلسة، فيقولون الشيء ويكذبونه بعد قليل. وكذلك جاء في مسند الإمام أحمد من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه قال: (انطلق النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وأنا معه حتى دخلنا كنيسة اليهود بالمدينة في يوم عيد لهم، فكرهوا دخولنا عليهم)، أي: أنه صلى الله عليه وسلم عليهم دخل عليهم يدعوهم إلى الله سبحانه، (فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معشر اليهود! أروني اثني عشر رجلاً يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله يحبط الله عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي غضب عليهم). ومعنى الحديث: أنه لو أسلم عشرة من اليهود لأسلم كل اليهود، ومع ذلك مات صلى الله عليه وسلم ولم يسلم عشرة من اليهود، وأسلم من النصارى الكثير وأما اليهود فلا، قال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82]، فاليهودي مجرم كذاب، يكذب ويجحد الحق الذي يعرفه، فإذا كانوا فعلوا ذلك مع موسى عليه الصلاة والسلام فسيفعلونه مع النبي صلى الله عليه وسلم، من باب أولى. فقال لهم: (أروني اثني عشر رجلاً) أي: بعدد الاثني عشر الذين بعثهم الله عز وجل في بني إسرائيل، {اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} [المائدة:12]، قال: (أروني اثني عشر رجلاً منكم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، يحبط الله عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي غضب عليهم)، فقد غضب الله على اليهود ولعنهم وأعد لهم عذاباً عظيماً، كما قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ} [المائدة:78 - 81] أي: وبما جاءهم من الحق، فلو كانوا يؤمنون بالله سبحانه، ويؤمنون بالنبي صلى الله عليه وسلم لفتح الله عز وجل عليهم بركات من السماء والأرض، ولأطعمهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولكنهم جحدوا برسالة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يؤمنوا به، فكان أن غضب الله سبحانه عليهم. قال: (فأسكتوا) أي: ما أجابه أحد، أو فسكتوا ولم يجبه أحد منهم، قال: (ثم رد عليهم فلم يجبه أحد) يعني: ردد الكلام مرة ثانية، ثم مرة ثالثة فلم يجبه أحد. فقال: (أبيتم؟) أي: أرفضتم أن تسلموا؟ (فوالله إني لأنا الحاشر) أي: آخر الأنبياء عليه الصلاة والسلام، الذي يحشر الناس على قدميه صلوات الله وسلامه عليه، فهو يسوق الناس ويدعوهم إلى دين الله عز وجل، قال: (إني لأنا الحاشر، وأنا العاقب، وأنا النبي المصطفى)، وكأن هذه الصفات كانت عندهم عن النبي صلوات الله وسلامه عليه، فقد عرفوا ذلك وجحدوا، فقال صلى الله عليه وسلم: (آمنتم أو كذبتم) يعني: أنا النبي صلى الله عليه وسلم سواء آمنتم أو كذبتم قال: (ثم انصرف وأنا معه حتى إذا كدنا نخرج نادى رجل من خلفنا: كما أنت يا محمد! -صلوات الله وسلامه عليه-، قال: فأقبل فقال ذلك الرجل: أي رجل تعلمونني فيكم يا معشر اليهود؟! قالوا: والله ما نعلم أنه كان فينا رجل أعلم بكتاب منك ولا أفقه منك)، وهذه شهادة من اليهود لـ عبد الله بن سلام، فهم يقولون: ما نعرف أحداً أفقه ولا أعلم منك في التوراة، ولا من أبيك قبلك، ولا من جدك قبل أبيك. فقال: (فإني أشهد له بالله أنه نبي الله الذي تجدونه في التوراة، قالوا: كذبت، ثم ردوا عليه قوله وقالوا فيه شراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كذبتم، لن يقبل قولكم، أما آنفاً فتثنون عليه من الخير ما أثنيتم، ولما آمن كذبتموه وقلتم فيه ما قلتم، فلن يقبل قولكم. قال: فخرجنا ونحن ثلاثة، رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا وعبد الله بن سلام -يعني: عوف بن مالك وعبد الله بن سلام -، وأنزل الله عز وجل: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأحقاف:10]). فيكون الخطاب هنا لهؤلاء اليهود، أي: كفرتم بذلك، أو لليهود وللمشركين الذين كفروا قبل ذلك، وآمن هذا الرجل، ((إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)).

البشارة لعبد الله بن سلام رضي الله عنه بالجنة

البشارة لعبد الله بن سلام رضي الله عنه بالجنة روى الإمام البخاري ومسلم من حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه سعد رضي الله عنه قال: (ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على الأرض: إنه من أهل الجنة إلا لـ عبد الله بن سلام)، مع أن سعد بن أبي وقاص أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، فكأنه يهضم نفسه ويذكر هذا الرجل رضي الله عنه، أو كأنه يذكر أنه ما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يفرد أحداً أنه من أهل الجنة إلا هذا، وإلا فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عشرة مبشرين بالجنة، فقال: (أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وسعد بن أبي وقاص في الجنة، وسعيد بن زيد في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح) الحديث، رضي الله تبارك وتعالى عن الجميع، فهؤلاء شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم في الجنة. وأما عبد الله بن سلام فكأنه ذكره وحده صلى الله عليه وسلم، وكان السبب في ذلك: أن عبد الله بن سلام رضي الله عنه رأى رؤيا في المنام وقصها على النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. ففي الصحيحين من حديث محمد بن سيرين عن قيس بن عبادة قال: كنا في حلقة فيها سعد بن مالك وابن عمر، فمر عبد الله بن سلام فقالوا: هذا رجل من أهل الجنة، قال: فتبعته فقلت له: إنهم قالوا: كذا وكذا أي: أنك من أهل الجنة، فقال: سبحان الله! ما ينبغي لهم أو ما كان ينبغي لهم أن يقولوا ما ليس لهم به علم. وهذا من تواضعه رضي الله عنه، وإلا فقد عرف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك، ولكن الإنسان المؤمن القوي الإيمان يخاف من مكر الله سبحانه، ويهضم نفسه حتى لو قيل له إنه في الجنة، فهو يقول لنفسه: ومتى يكون في الجنة؟ ألا يمكن أن يدخل النار أولاً ثم يخرج منها إلى الجنة؟ فالنهاية ستكون في الجنة، ولكن قبل ذلك لا يعرف ما الذي سيكون فهو يتهم نفسه دائماً. فهذا الرجل الصالح رضي الله عنه لما قيل فيه ذلك قال: (سبحان الله! ما كان ينبغي لهم أن يقولوا ما ليس لهم به علم، إنما رأيت كأنما عموداً وضع في روضة خضراء فنصب فيها، وفي رأسها عروة، وفي أسفلها منصف)، والمنصف: الوصيف، أي: أنه في المنام رأى روضة خضراء، -وهي: البستان العظيم- في أوسط هذه الروضة عمود، وفي أعلى العمود عروة، -والعروة هي الحلقة، أي: ما يتعلق بها، أو يشد بها الحبل- وفي أسفلهامنصف، (فقيل: ارق) أي: اصعد هذا العمود الذي في وسط هذه الروضة الخضراء، فقال: (فرقيته حتى أخذت بالعروة، فقصصتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يموت عبد الله وهو آخذ بالعروة الوثقى)، فهذا الذي بلغه رضي الله تبارك وتعالى عنه في ذلك: أنها رؤيا منام، وقصها للنبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره بهذا الشيء، فهو يقول: ما قال لي أنت في الجنة، وإنما قال: إنني سأموت على الإسلام، ومعلوم أن من يموت على الإسلام أنه متمسك بالعروة الوثقى، قال الله عز وجل: {لا انفِصَامَ لَهَا} [البقرة:256] أي: لا تنفصل أبداً عن طريق الله سبحانه، وما ينقطع عنها، بل تأخذه هذه العروة إلى جنة الله سبحانه. فهذا جاء في هذا الحديث، لكنه يتواضع ويهضم نفسه، ويقول عن نفسه: إن الذي فسره النبي صلى الله عليه وسلم لي أنني أستمسك بالإسلام إلى أن أموت، وأما أني سأكون في الجنة أو في النار فهذا أمر لا يعلمه إلا الله سبحانه. وقد جاء في حديث آخر رواه الإمام أحمد من حديث سعد بن أبي وقاص أيضاً: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بقصعة فأكل منها، ففضلت فضلة) أي: بقي في القصعة طعام، فقال صلى الله عليه وسلم: (يجيء رجل من هذا الفج من أهل الجنة يأكل هذه الفضلة)، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، ولكن الله عز وجل يطلعه على ما شاء من الغيب، وقد كان سعد بن أبي وقاص ترك أخاه عمير بن أبي وقاص يتوضأ ويلحق به، فتمنى سعد أن عميراً يأتي، قال: (فقلت: -يعني: في نفسه- وعمير! قال: فجاء عبد الله بن سلام فأكلها). فالإنسان قد يتمنى شيئاً ويكون الأمر على خلاف ما يتمناه ويريده، فـ سعد يتمنى أن يكون أخاه عمير ولكن الله أعلم من يستحق هذه البشارة التي قالها النبي صلى الله عليه وسلم، فيستحقها من لا يفتن بها، ويستحقها من لا يقول: أنا في الجنة. ولذلك فالله عز وجل ذكر عبد الله بن سلام هنا ومدحه، فقال تعالى: ((وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ)) أي: آمن هذا الرجل، فقوله: ((َشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ)) أي: على مثل ما جئتم به، فشهد موسى على التوراة، ومحمد صلى الله عليه وسلم على هذا القرآن العظيم، وقد شهد هذا الرجل على أن التوراة كتاب موسى، وعلى أن هذا القرآن كتاب محمد صلوات الله وسلامه عليه، فقد شهد على هذا القرآن أنه حق، وأنه كتاب رب العالمين، وأن النبي حق صلوات الله وسلامه عليه. ((َشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ)) هذا الرجل الفاضل، ((وَكَفَرْتُمْ)) أي: كفر الكفار واليهود، ولم يؤمنوا بالنبي صلوات الله وسلامه عليه.

تفسير سورة الأحقاف [10 - 11]

تفسير سورة الأحقاف [10 - 11] لقد شهد بعظمة هذا الدين وخيريته وعدالته وسماحته أهل الكتاب الذين أسلموا واستجابوا لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يدخل في الدين إلا من علم عظمته وخيره، أما المشركون المتكبرون المتغطرسون فقد شهدوا بالضد حيث قالوا: هذا دين يدخل فيه الفقراء، والمساكين، والسفلة من قطاع الطرق، واللصوص، فهو دين شر ليس فيه خير، ومن يضلل الله فلا هادي له من دونه أبداً.

الشهادة بأن القرآن حق وعاقبة الظالمين

الشهادة بأن القرآن حق وعاقبة الظالمين الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين: قال عز وجل في سورة الأحقاف: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ * وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} [الأحقاف:10 - 12]. في هذه الآيات يذكر الله سبحانه لهؤلاء المشركين أن هذا القرآن هو كتاب الله عز وجل وقد نزل من عنده سبحانه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ} [فصلت:52] أيها المشركون! وكفرتم به يا أهل الكتاب! وشهد شاهد منكم يا أهل الكتاب على أن هذا القرآن هو من عند الله، فكتاب موسى مثل هذا القرآن، فهذا كتاب شريعة وهذا كتاب شريعة، فآمن بالتوراة وبهذا القرآن الذي جاء من عند الله. ثم قال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ} [فصلت:52]، والخطاب هنا للمشركين, وقد نزلت هذه الآيات الآيات في إسلام عبد الله بن سلام رضي الله عنه، فهذه الآية الوحيدة مدنية، وباقي السورة كله مكي، كلها مكية، وقيل: آيتان من هذه السورة مدنيتان والباقي مكي. فالذي شهد أن هذا القرآن من عند الله عز وجل هو عبد الله بن سلام رضي الله عنه، وكان من أحبار اليهود كما قدمنا قبل ذلك، وقد شهد له اليهود بالعلم والتقدم، وشهدوا له ولأبيه ولجده من قبل ذلك، فلما علموا أنه أسلم كذبوا وجحدوا ما قالوه، وقالوا فيه وفي أبيه شراً، والله عز وجل يكذبهم ولا يقبل منهم، قال: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ} [الأحقاف:10] هذا الشاهد وهو عبد الله بن سلام - {وَاسْتَكْبَرْتُمْ} [الأحقاف:10] أيها اليهود، واستكبرتم أيها المشركون، بل بلغ الأمر أن المشركين كانوا يسألون اليهود عن النبي صلى الله عليه وسلم: أينا أهدى سبيلاً؟ فقال الذين كفروا من أهل الكتاب للمشركين: أنتم أهدى من الذين آمنوا سبيلاً. فاليهود يعرفون الله سبحانه، ويعرفون موسى عليه الصلاة والسلام، ويعرفون التوحيد، ويعرفون أن هؤلاء المشركين يعبدون أصناماً لا تنفع ولا تضر، ومع ذلك كان هذا جوابهم لما سألهم الكفار: أينا أهدى سبيلاً نحن الذين نعبد الأصنام أم النبي صلوات الله وسلامه عليه الذي يوحد الله ويعبده؟ فإذا باليهود الكلاب الخنازير لعنة الله عليهم يقولون لهم: أنتم أهدى من الذين آمنوا سبيلاً. فانظر إلى هذا الكذب! فهم يعرفون أن هؤلاء أهل باطل، ولكن الكفر والجحود والاستكبار على دين الله عز وجل، والغرور بما هم فيه من الدنيا دفعهم إلى أن يلغوا عقولهم، ويكذبوا على الله وعلى رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فقالوا: أنتم أهدى من الذين آمنوا سبيلاً. بل ويحتالون كل الحيل فيقول بعضهم لبعض: {آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران:72] أي: تعالوا وقولوا له في أول النهار: سنتبعك، وفي آخر النهار نرجع عن قولنا؛ لأجل أن يتزعزع المؤمنون في دينهم فيتركوه، فأخبر الله سبحانه عن هؤلاء أنهم مستكبرون قال: ((فَآمَنَ)) أي: عبد الله بن سلام ((وَاسْتَكْبَرْتُمْ))، والمستكبر: هو الذي يعرف الحق ومع ذلك يرفض أنه يتبع هذا الحق؛ عناداً وكبراً وغروراً وفرحاً بما هو فيه، وخوفاً من أن تضيع منه الرياسة والملك، فهؤلاء استكبروا عن أن يدخلوا في دين النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)). وأعظم الظلم الشرك بالله سبحانه، فإذا استكبر الإنسان على دين الله استحق أن يطبع الله ويختم على قلبه وسمعه وبصره، ويجعله لا يفهم ولا يعي ولا يتبع؛ حتى يكون من أهل النار في الآخرة والعياذ بالله! ((إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)) أي: إن الله لا يهدي الذي يظلم نفسه ويظلم غيره، الذي يكفر بدين الله سبحانه ويقع في الظلم الأكبر، وكأن الظالم عقوبته في الدنيا أن يضله الله عز وجل، فإذا ظلم نفسه وظلم غيره استحق ذلك، ولما قال: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)) عممهم، فكل ظالم يستحق أن يطبع الله عز وجل عليه، وكل حسب ظلمه، فاحذر أن تكون ظالماً، فإن من عقوبة الظلمة أن يختم الله عز وجل على قلوبهم فيضلهم ولا يهديهم، ويمنع عنهم نوره سبحانه بظلمهم. ولما عاقب الله الذين هادوا قال سبحانه: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء:160 - 161]. فهؤلاء بشركهم بالله سبحانه ظلموا أنفسهم وظلموا غيرهم، فاستحقوا عقوبة الله عز وجل، وكذلك كل ظالم يستحق من الله عز وجل أن يطمس على عينيه وبصيرته، وأن يطبع ويختم على قلبه، ويجعل عليه غشاوة إلا أن يرجع ويتوب إلى ربه سبحانه.

وقوع الكافرين في قياس إبليس الباطل

وقوع الكافرين في قياس إبليس الباطل قال سبحانه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [الأحقاف:11]. ((وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا)) يعني: عن الذين آمنوا، أو قالوا لهم مجادلين بالباطل، ((لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ))، إما أن الكفار يتكلم بعضهم لبعض، فيقولون عن الذين آمنوا: أهؤلاء يسلمون نحن لا؟ وكونه يسبق إلى ذلك فهو يسبق إلى الشر، فهذا لا يستحق خيراً لذلك دخل في هذا الدين، ولو كان هذا الدين خيراً لكنا نحن الأشراف قد دخلنا فيه، إذاً فهذا دين باطل، فهم قالوا هذا مغترين بما هم فيه، ((وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ))، فقاسوا قياساً باطلاً كقياس الشيطان، والشيطان هو أول من قاس قياساً باطلاً، فقد نظر إلى آدم فوجده مخلوقاً من طين، وهو مخلوق من نار، والنار عنده أحسن من الطين، إذاً: فأنا أحسن من آدم، وهذا قياس الشيطان، فقد قاس نفسه على أصله في زعمه أن النار أفضل من الطين، إذاً فطالما النار أفضل من الطين، وأنا مخلوق من نار، وهو مخلوق من طين إذا فأنا أفضل منه فلن أسجد له، فرفض أمر الله عز وجل، ورفض أن يسجد لآدم لعنة الله على الشيطان. وهؤلاء اتبعوه في ذلك، فقالوا بهذا الذي قاله فقالوا: نحن الأشرف والأفضل، وهؤلاء كونهم اتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم ففيه دليل على أن ما جاء به محمد باطل، ولذلك لما كان باطلاً اتبعه هؤلاء الفقراء والمحتاجون، وأما نحن الكبراء فلا نتبع هذا الشيء؛ لأن هؤلاء ليسوا مثلنا فلا نكون مثلهم في اتباع هذا القرآن أو في اتباع محمد صلوات الله وسلامه عليه. فالأمر ينعكس على هؤلاء كما ينعكس على الشيطان، فيقال لهذا الشيطان لعنة الله عليه: أنت قلت: أنا مخلوق من نار، والنار خير من الطين، فمن أين أتيت لنا بالخيرية هنا؟! ومن قال لك هذا الشيء؟ لا بد أن يكون معك دليل على هذا الذي تقوله، فأنت قلته بزعمك أن النار شيء شريف، مع أن النار تفور وتغلي، والنار فيها تهور واندفاع، وفيها شرر وحمق، فإذا جاءت على شيء أكلته كله، والطين فيه رزانة وهدوء، ولذلك رجع آدم لطبيعته، ورجع الشيطان لطبيعته. ولما غار الشيطان من آدم أصابه النفور والاستكبار حتى على ربه سبحانه، فرفض أن يطيع أمر الله، وآدم لما وقع في المعصية رجع إلى طبيعة الرزانة والهدوء، ورجع إلى الركون والتواضع وقال: أذنبت وأخطأت وعصيت الله سبحانه، رب اغفر لي! فطلب من ربه أن يتوب عليه، فنفع آدم أصله. ولو فرضنا أن النار خير من الطين فالله عز وجل قد كرم آدم، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70]، فهذا خلق الله وهذا خلق الله، والله تعلى يكرم من يشاء سبحانه، فرفع هذا ووضع هذا سبحانه. وكذلك هؤلاء المشركون ينقلب عليهم ما قالوه، فيقول المؤمن التقي: هؤلاء الذين سبقوا النبي صلى الله عليه وسلم كانوا هم السباقين والخيار، فأنا أتبع هؤلاء فيما فعلوه، والذين تأخروا وتقهقروا عنه كانوا أشراراً من الخلق، فأنا أحذر أن أكون معهم، فيعكسون على المشركين ما قالوا، فكل شر جرى وراءه المشركون، فتركوا الدين الحق وذهبوا إلى الشر وإلى الشرك والباطل، وكل خير سبق إليه أصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه، فلم يسبقهم أحد إلى خير أبداً، إذاً: فنجعلهم أئمتنا وقدوتنا فنقتدي بهم، ولا نحدث شيئاً خلاف ما فعلوه رضوان الله تبارك وتعالى عليهم. فيقول الإنسان المؤمن: هؤلاء الصحابة بشهادة القرآن هم السابقون إلى كل خير، والكفار قالوا كذباً: ((لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ))، إذاً: فقد أثبتوا أنهم سبقوا، ونقول نحن: هو الخير، فكل ما يسبق إليه الصحابة فهو الخير، ويلزمنا أن نتبعهم في ذلك، فإذا جاء صاحب بدعة قد ابتدعها قلنا له: لو كانت خيراً لسبقنا إليها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فهل فعلها الصحابة؟ فإذا قال: فعلوها، قلنا: هات الدليل على ذلك، فإذا قال: لم يفعلوها، قلنا: لست خيراً من الصحابة، فهم كانوا يسبقون -بشهادة القرآن- إلى كل خير. فكل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف فكل من خالف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فالشر فيما يبتدعه، ولذلك لما وجد بعض الأمراء أناساً يتكلمون في خلق القرآن العظيم، جاءه رجل من العلماء فقال له: دعني أناظر هذا الرجل، فالخليفة أتى بهذا الرجل المبتدع الذي يقول بخلق القرآن، وأتى بهذا الرجل الصالح العالم ليناظره، فالعالم قال: إما أن تسأل وإما أن أسأل، فقال هذا المخالف المستكبر: اسألني؟ فقال له: هذا القول الذي تقوله في خلق القرآن هل علمه النبي صلى الله عليه وسلم أم لم يعلمه؟ وكانت هذه الفتنة فتنة عظيمة يمتحنون بها العلماء والناس من أجل أن يقولوا بهذا الشيء، ومن لم يقل بذلك ضربوه وسجنوه بل وقتلوه، فجاء هذا العالم ليسأل هذا الذي يقول بهذه البدعة. فقال له: هذا الأمر الذي أنت تقوله وتدعو الناس إليه، هل علمه النبي صلى الله عليه وسلم أم لم يعلمه؟ فقال له: فقال له: لم يعلمه، إذا كان لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم فهل فضلك الله أنت عليه من أجل أن يعلمك هذا الذي قلته؟! فقال: لا، رجعت عن كلامي، قد علمه النبي صلى الله عليه وسلم. فقال له: هل علمه فتكلم به أم سكت عنه؟ فتحير؛ لأنه سيقول له: هات الدليل، هات الحديث الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم، فليس أمامه إلا أن يقول: بل سكت عنه، فقال: إذا وسع النبي صلى الله عليه وسلم أن يسكت عنه، أفلا يسعك أنت أن تسكت عنه؟! فبهت الرجل، فوقفت هذه البدعة بعد قول هذا الرجل، وسكت الأمراء عن امتحان الناس، وذلك بعدما ما امتحنوا العلماء ولم يثبت في هذه الفتنة سوى الإمام أحمد رحمه الله، وشاب من الشباب الذين كانوا معه رضي الله عن الجميع. فالغرض أنه يقال لصاحب البدعة الذي يبتدع في الدين: إن الصحابة كانوا سباقين إلى الخير، فهل هذا من الخير الذي سبق إليه الصحابة؟ فإذا قال: نعم، قلنا له: هاتوا الآثار التي تدل على هذا الشيء، فإذا لم يأت بدليل إذاً فكلامه كذب، فهو يكذب على هؤلاء، وإذا قال: لا، لم يعرف الصحابة هذه البدعة التي يقولها، نقول: الخير في اتباع هؤلاء الذين ما عرفوا هذه البدعة. وقد قام أحد الأمراء من بني أمية يخطب على المنبر للعيد قبل الصلاة، فإذا بـ أبي سعيد الخدري رضي الله عنه يجذبه بيده، ويقول: لم يكن هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان بعد صلاة العشاء، قال: لم يكن الناس ليقعدوا إلينا، ولا يسمعوا لنا بعد صلاة العيد، فقال: ولو كان هذا الشيء. والثاني يجذبه فقال: ذهب ما تعلم يا أبا سعيد، أي: الذي كنت تعرفه قد انتهى، فقال: والله ما أعلم خير مما لا أعلم، أي: ما أعلمه من سنة النبي صلى الله عليه وسلم خير مما لا أعلمه من بدع تحدثونها في الدين، فالإنسان الذي يريد الجنة هذه طريقه، وهي طريق النبي صلى الله عليه وسلم، وطريق الخير الذي سبق إليه أصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه، الذين قال الكفار فيهم: ((لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا))، فنقلب ما قالوا ونقول: بل كل خير قد سبق إليه أصحاب النبي رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، وصلوات الله وسلامه عليه.

سبب نزول قوله تعالى: (وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه)

سبب نزول قوله تعالى: (وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه) إن سبب نزول هذه الآية أن أبا ذر الغفاري رضي الله عنه دعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام بمكة، فأجاب، وذهب إلى قومه فدعاهم رضي الله تبارك وتعالى عنهم فاستجابوا ودخلوا مع أبي ذر رضي الله عنه، ولما بلغ ذلك الكفار قالوا: غفار الحلفاء دخلوا في الدين؟! هؤلاء قطاع الطريق واللصوص يدخلون في الدين ونحن لم ندخل فيه، فلو كان خيراً لما دخل فيه هؤلاء، فتركوا النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الزعم. وهذه امرأة اسمها زنيرة مولاة لـ أبي بكر رضي الله عنه، كانت فقيرة ومسكينة، وكان أبو بكر رضي الله عنه يدعوها إلى الإسلام، فدخلت في دين الله عز وجل فعذبها أهلها، فاشتراها أبو بكر رضي الله عنه، وهذه واحدة ممن اشتراهم أبو بكر رضي الله عنه وأعتقهم لله عز وجل، فلما أسلمت هذه المرأة اشتراها أبو بكر وأعتقها، وعندما أسلمت عميت، ففرح الكفار وهللوا، وقالوا: أصابتها اللاة والعزى، فإذا بها تدعو ربها فيشفيها الله عز وجل، فبهت الكفار، فكان قولهم أن قالوا: ((لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ))، وأثبت الله عز وجل عليهم ذلك، قالوا: لو كان ما جاء به محمد خيراً ما سبقتنا إليه زنيرة هذه. وكذلك هناك فريق آخر من الكفار وهم من بني عامر وغطفان وتميم وأسد وحنظلة وأشجع -وهؤلاء كانوا الكبراء من القبائل العالية من المشركين- وجدوا أقواماً كانوا يعتبرونهم سفلة من غفار وأسلم وجهينة ومزينة وخزاعة، فقالوا: إن هؤلاء الذين كانوا قطاع طريق، وكانوا لصوصاً أسلموا ونحن لم ندخل في هذا الدين، ((لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ))، فكأنهم يقيسون شرف هذا الدين وعظمته على هؤلاء الذين اتبعوه، فإذا كان الذين اتبعوه أشرافاً كان هذا الدين شريفاً، وإذا كانوا وضعاء كان هذا الدين لا يستحق أن ندخل فيه. فقالوا: ((لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ))، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دعا فقال: (أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها)، فدعا لهم النبي صلوات الله وسلامه عليه، وكانوا في الجاهلية أشراراً ولكن لما جاء الإسلام صاروا أخياراً رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، فدعا لهم النبي صلوات الله وسلامه عليه. والبعض الآخر من المشركين وجدوا أن بلالاً وصهيباً وعماراً وغيرهم قد دخلوا في دين الله عز وجل، فقالوا: أهؤلاء الفقراء يدخلون في الدين ونحن لا ندخل؟! إذاً فهذا الدين ليس فيه خير، فقالوا: ((لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ))، فهذه المعارضة من الكفار نقلبها نحن المسلمين على هؤلاء ونقول: كل خير قد سبق إليه الصحابة، فلنتبع كل ما فعلوه اقتداءً به صلوات الله وسلامه عليه، ويقال أيضاً: لو كان ما أنتم عليه خيراً أيها المشركون ما تركنا هذا الذي أنتم عليه وذهبنا للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن ما أنتم عليه فيه الشر كله، فلذلك لا نأتيه أبداً، إن الشرك لظلم عظيم. قال سبحانه: ((وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ))، وإذ لم يهتد بالدين هؤلاء الكفار فإنهم يرمون عليه كل الافتراءات ويقولون: هذا إفك قديم، وأساطير الأولين، وقصص قديمة كنا نسمعها من قبل، وهذه قصص أتى بها محمد صلوات الله وسلامه عليه، ((وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ)) وأضلهم الله عز وجل، خرج منهم هذا الكلام الخائب الذي لا يعقل: ((وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ)). قال الله عز وجل: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا} [يونس:39] أي: كذبوا بما جاءهم من عند الله عز وجل، وكما جاء في المثل: من جهل شيئاً عاداه، فالذي يجهل الشيء هو أول من يعاديه، فإذا علمه عرف أنه الحق، فالقرآن يقول: ((وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ)) أي: لما جهلوا هذا الدين إذا بهم يعادونه، كذلك قال سبحانه: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [يونس:39]، فهذا القرآن العظيم هو كتاب رب العالمين وإن جحده هؤلاء المشركون، فقد آمن بعد ذلك البعض منهم، وأولادهم، ونظروا إلى أنفسهم وإلى آبائهم أنهم كانوا في ضلال مبين، وأنهم كانوا يكذبون على النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال الله عز وجل: ((فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ))، بل هم الأفاكون الكذابون، نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الأحقاف [12 - 14]

تفسير سورة الأحقاف [12 - 14] يخبر الله عن كفار قريش أنهم من شدة عنادهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم يستدلون بدخول الضعفة في دينه على أنه ليس ديناً حقاً، فلو كان هذا الدين من عند الله لما سبق إليه الضعفاء والمساكين كما يزعمون، ولكن الله يخبر أن هذا هو دين الهداية والإيمان، ولا يناله إلا من أراد الله هدايته، وعلم استقامته، ورأى أنه أهل لذلك، وقد وعد الله المهتدين المستقيمين على الدين بالهداية والبشرى في الدنيا والآخرة.

تفسير قول الله عز وجل: (وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه)

تفسير قول الله عز وجل: (وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الأحقاف: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ * وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ * إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأحقاف:11 - 14]. ذكر الله سبحانه وتعالى قول الكافرين للمؤمنين بسبب اتباعهم لكتاب الله عز وجل: ((لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ)) أي: أن هذا الدين ليس خيراً، ولو كان خيراً لكنا نحن الذين سبقناهم إليه. فلما قالوا ذلك قال الله عز وجل عنهم: ((وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ)) أي: بهذا القرآن وبهذا الدين العظيم فسيفترون ويقولون: ((هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ))، فلأنهم لم يدخلوا في هذا الدين عادوه، وكما ذكرنا أن العادة في الإنسان أنه إذا جهل شيئاً عاداه، فكل من جهل شيئاً فلا يحب أن يوصف بأنه جاهل به فيعاديه. وهؤلاء لم يحاولوا الاطلاع على هذا الدين، ولم يحاولوا أن يفهموه بقلوبهم وعقولهم وبصائرهم، ولكنهم سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم ما قال، فإذا بهم يعادونه ويقولون: سيأخذ منا ملكنا ورئاستنا، ويريد أن يكون هو المتبوع فينا، إذاً: لا نريد منه ذلك، فقالوا عما جاء به صلى الله عليه وسلم: هذا إفك، أي: كذب مفترىً مختلق، ((هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ))، أتي به من كلام السابقين الماضيين.

تفسير قوله تعالى: (ومن قبله كتاب موسى إماما)

تفسير قوله تعالى: (ومن قبله كتاب موسى إماماً) قال الله عز وجل: ((وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً)) أي: من قبل هذا القرآن، فليس القرآن أول كتاب نزل من السماء، بل إن الكتب السماوية نزلت قبل ذلك، وليس النبي صلى الله عليه وسلم بدعاً من الرسل، ولا هذا الدين بدعاً من الدين، فالدين عند الله الإسلام الذي جاءت به الرسل جميعهم عليهم الصلاة والسلام. وكان قبل هذا القرآن كتاب موسى لبني إسرائيل أنزله الله على نبيهم موسى عليه السلام، والفرق بين موسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما أن موسى أرسل لبني إسرائيل خاصة، والنبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الخلق عامة، وهذا فرق بينه وبين جميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، ففضل صلى الله عليه وسلم على الجميع بأنه أرسل إلى الثقلين: الإنس والجن، وإلى الخلق جميعهم إلى قيام الساعة، ولا نبي بعده صلوات الله وسلامه عليه، حتى حين ينزل المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام ليقتل الدجال فإنه يحكم بشرع النبي صلوات الله وسلامه عليه، ويكون تابعاً للنبي صلى الله عليه وسلم، ((وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى))، وهو كتاب شريعة. وكثيراً ما يذكر الله سبحانه موسى وكتابه إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وكما ذكرنا أن بين موسى ومحمد عيسى عليه الصلاة والسلام، ولكن كتاب عيسى ليس كتاب تشريع، وكتاب موسى عليه الصلاة والسلام كتاب تشريع. ولذلك فإن المفترض أن يعمل النصارى بالكتابين: كتاب موسى وهو التوراة الذي يسمونه بالعهد القديم، فهو عندهم كتاب الشريعة، وكتاب عيسى وهو الإنجيل، وهو كتاب مواعظ وليس كتاب حكم. وفي الكتابين البشارة بالنبي صلوات الله وسلامه عليه، فقد قال المسيح عيسى فيما أثبت الله عز وجل في كتابه: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:6]، فجاء عيسى صلوات الله وسلامه عليه ليصدق التوراة كتاب موسى السابق، ويبشر بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي يأتي من بعده. وقوله تعالى: ((وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً)) أي: إماماً يقتدى به، فجعل الله لبني إسرائيل كتاب التوراة نوراً وإماماً يتبعونه ويعملون بما فيه حتى يصلوا إلى رحمة الله عز وجل، فمن رحمة الله عز وجل أن أنزل الكتب من السماء شريعة للعباد؛ ليعرفوا منهج الله سبحانه ويتبعوه، فـ ((كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً))، وهذا القرآن العظيم: ((كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ)). ((وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ))، إما مصدق للكتب السابقة أنها نزلت من عند رب العالمين، أو أنه (مصدق لساناً) أي: رسول ينطق باللسان العربي صلوات الله وسلامه عليه، فيصدقه فيما يقول أنه رسول ويثبت ذلك، فهو كتاب مصدق للكتب السابقة، ومصدق للنبي الأمي الذي يتكلم باللسان العربي صلوات الله وسلامه عليه، ((مُصَدِّقٌ لِسَانًا)) حال كونه لساناً عربياً، أو حال كون الرسول ينطق باللسان العربي صلوات الله وسلامه عليه. إن هذا القرآن ينذر الله عز وجل به الظلمة الكفرة الذين ظلموا أنفسهم وأشركوا بالله سبحانه، ويبشر الله عز وجل به المحسنين الذين عبدوا الله سبحانه وتعالى ابتغاء رضوانه ورحمته، واتقاء ناره وعذابه، ولهذا قال: ((وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ))، وهنا قرئت (لينذر) بالغيب وبالخطاب. فقرأها (لتنذر): نافع، وأبو جعفر، والبزي عن ابن كثير، وابن عامر، ويعقوب يقرءونها بتاء المخاطب، والمعنى: لتنذر يا محمد عليه الصلاة والسلام، وباقي القراء يقرءونها (لينذر)، والمعنى: أن هذا القرآن ينذر الله عز وجل به الظلمة الذين ظلموا، وأعظم الظلم: الشرك بالله سبحانه وتعالى، وأول الظلمة المشركون والكفار. ((وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ)) أي: بشارة يبشرهم الله عز وجل بها، ويخبرهم بما يسرهم ويفرحهم وبما يغبطون عليه في مستقبلهم عند رب العالمين سبحانه، فإذا أحسنوا فلهم جنة الله، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم) قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف:13]، تقدم في الشورى ذكر الله عز وجل نحو ذلك، وهنا يذكر أن الاستقامة هي الإيمان بالله والاستقامة على طريق الله سبحانه، فهؤلاء وحدوا الله سبحانه وتعالى، ((ثُمَّ اسْتَقَامُوا))، وكأن هذا هو ترتيب من الله سبحانه فلا يكون العمل إلا بعد الإيمان، فيعمل المؤمن بما آمن به وصدقه وأيقن أنه حق، وفي هذا بيان أنه لا يقبل عمل أصلاً إلا بهذا الإيمان، فأول ما يبدأ به هو الإيمان والتوحيد، ومهما عمل العبد من عمل فهو غير مقبول إلا أن يكون معه أصل الأصول وهو الإيمان بالله سبحانه. وقد جاءت (ثم) للتراخي، لتدل على أن هؤلاء آمنوا، فتعلموا، فعملوا واستقاموا على دين الله عز وجل، فكلما تعلموا شيئاً عملوا به، فكانوا مستقيمين على طريق الله سبحانه، ((إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ))، فهذا هو التوحيد والإيمان والتصديق. فالكفار يقولون: الله هو الخالق، وهو الرازق، والذي نعبده من الأصنام والأوثان إنما ذلك لتقربنا إلى هذا الخالق، سبحانه وتعالى عما يشركون وعن ما يقولون علواً كبيراً. والمؤمنون قالوا: إن الذي خلقنا والذي هدانا هو الذي يستحق أن نعبده سبحانه، ((قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا)) على طريق الله، عابدين ربهم سبحانه، ((فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ))، والخوف دائماً يتعلق بالمستقبل، فقد يخاف المؤمنون أن يحصل لهم ما يكرهونه فالله يطمئنهم بأنهم سيدخلون الجنة خالدين فيها ولن يدخلوا النار، فالخوف دائماً يحصل مما سيأتي في المستقبل، والحزن يكون على شيء يحبه الإنسان قد فاته وضاع منه ولم يستطع الوصول إليه، فقال الله لهم: لا حزن على ماض ولا خوف من مستقبل، وطمأنهم الله عز وجل بأن حياتهم كلها في أمن وأمان، وفي جنة الخلود في دار السلام، ((فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)) أي: ولا أي خوف. والآية يقرؤها يعقوب هنا: (فلا خوفَ عليهم ولا هم يحزنون)، ويقرؤها حمزة: (فلا خوفٌ عليهُم ولا هم يحزنون)، وباقي القراء يقرءونها: ((فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ))، والمعنى: لا تخافوا على ما سيحصل لكم فإنه لن يكون إلا كل خير، ولا تحزنوا على شيء يفوتكم أبداً. فالجنة دار من يدخلها ينعم ولا يبأس أبداً، ويحيا ولا يموت أبداً، وينعم في دار الخلود بما يعطيه الله عز وجل من فضله ومن كرمه. وكما ذكر الحث على الإيمان والاستقامة في كتاب الله سبحانه وتعالى، فإنه قد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً، فقد روى الإمام مسلم من حديث سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت: (يا رسول الله! قل لي في الإسلامي قولاً لا أسأل عنه أحداً من بعدك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قل آمنت بالله ثم استقم)، وهذا ما تضمنته هذه الآية، أي وحِّد ربك سبحانه وتعالى واعمل واستقم على طريق الله فلا تشرك به شيئاً، ولا تعصه، واعمل بما أمرك به، واستقم على شريعته فلا تزغ ولا تنحرف عنها. وعنه رضي الله عنه كما في الحديث الذي رواه الترمذي: قال: قلت: (يا رسول الله! حدثني بأمر أعتصم به -أي: أتمسك به-، قال: قل: ربي الله ثم استقم قلت: يا رسول الله! ما أخوف ما تخاف علي؟) والمعنى: إذا آمنت وأسلمت وسرت في طريق الله عز وجل فما الذي تخافه علي أثناء وجودي في هذه الدنيا؟ قال: (فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بلسانه وقال: هذا) يخاف عليه لسانه. إن الإنسان المسلم إذا استقام على طريق الله سبحانه فليحذر من لسانه؛ فإنها هي التي تنحرف به عن طريق الله سبحانه وتعالى، فيقع في الشرك والمعاصي وفي آفات اللسان من غيبة ونميمة وكذب وبهتان وإفكٍ وافتراء. وجاء أيضاً في حديث ثوبان عند ابن ماجة وهو حديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن)، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالاستقامة، (ولن تحصوا)، أي: اعملوا الخير الذي يمكن أن تعملوه ولا تقعدوا عن عمل الخير لأجل أن تبحثوا عن كل خير، فالذي تطيقونه قوموا به، وكلما قمتم بعمل جاء عمل خير آخر، ولن تقدروا على كل الأعمال الصالحة مرة واحدة، ولكن بحسب ما تطيقونه. قال: (واعلموا أن من أفضل أعمالكم الصلاة)، وهذا من رأفة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، عليه الصلاة والسلام، فأحكام الدين وتكاليفه كثيرة ولا يمكن أن يعمل الإنسان كل خير وليأخذ ما يأتيه من خير، وليعمل به، قال تعالى: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة:63]، وقال: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]، وقال: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وأفضل العمل الذي تتمسك به فيدلك على غيره هو الصلاة. قوله: (ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن) أي: الذي يحافظ على الوضوء لكي يحافظ على الصلاة، ولذلك جاء في الحديث: (الطهور شطر الإيمان). فإذا حافظ الإنسان على الوضوء والصلاة أزداد قرباً من الله، وكلما ازداد قرباً من الله دله الله عز وجل على الخير وفتح عليه أبوابه، وكان من المؤمنين الذين استقاموا على صراط الله، والذين {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التوبة:21 - 22].

تفسير قوله تعالى: (أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها)

تفسير قوله تعالى: (أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها) يقول الله تعالى: {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الأحقاف:14]، وهي دار السلام، ودار رب العالمين سبحانه، وقد خلقها الله عز وجل للمؤمنين، وكل شيء ملكه ولكنه أكرم هؤلاء فجعلهم كأنهم أصحاب الجنة الحقيقيون، وكأنهم ملكوها. ((أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ)) أي: لا يفنون أبداً، ولا يكتب عليهم الموت فيها، وذلك الجزاء من جنس عملهم الصالح، ((خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ))، فكل من يسمع مثل هذه الآيات ومثل هذه الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يعرف أن الجنة عظيمة، وأنها غالية عالية، قال صلى الله عليه وسلم: (الجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر). فعلى المؤمن أن يتصبر إذا خاض في الدنيا، ويمني نفسه بذلك اليوم الذي لا خوف بعده، فإذا فاته شيء في الدنيا أو أصابه قدر من الأقدار فعليه أن يمني نفسه بدخول الجنة غداً إن شاء الله، فهي لا خوف فيها ولا حزن، ولا كدر من أكدار الدنيا. وهذا هو الذي يجعل الإنسان المؤمن يتصبر على الدنيا؛ فالجنة قريبة مهما عشنا في هذه الدار، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين)، وهذه الستون أو السبعون سنة التي عاشها الإنسان لا تساوي شيء إذا قرنها بيوم من أيام يوم القيامة مقداره ألف سنة، قال الله تعالى: {إِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47]. فاليوم الواحد عند الله عز وجل كالعمر الذي تعيشه في الدنيا عشرون مرة، والجنة أعلى من ذلك وأعظم، فإذا منّى الإنسان نفسه بها فإنه سيتصبر على طاعة الله عز وجل، ويتصبر عن معصية الله عز وجل، ويصبر على قضاء الله وقدره، يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200]. والمعنى: اصبر فإذا لم تستطع أن تصبر فصابر، والمصابرة فيها مفاعلة بأن يضغط على نفسه ويجرها إلى الصبر، كقولك: قتل فلان أي: انتهى من عملية القتل، وأما قاتل فإنه ما زال يحاول أن يقضي على خصمه فهو يتقاتل معه، وكذلك اصبر، ومنّي نفسك بالجنة حتى تصابر، قال تعالى: ((وَرَابِطُوا)) أي: اربط نفسك في طريق الله عز وجل على طاعته، فكأن النفس شرهة تتمنى الأماني وتريد اللعب واللهو فتحتاج إلى أن تربطها على طاعة الله، وعلى الجهاد في سبيل الله سبحانه. قال الله تعالى: ((وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ)) أي: واتقوا عذاب الله سبحانه، وأخلصوا له العمل، واتقوا الشرك به، {لََعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200]. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عباده المفلحين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

(تفسير سورة الأحقاف الآية [15]) للشيخ: (أحمد حطيبة) (عدد القراء 28) عناصر الموضوع 1 تفسير قوله تعالى: (ووصينا

تفسير سورة الأحقاف تابع الآية [15]

تفسير سورة الأحقاف تابع الآية [15] لقد أمرنا الله في غير ما موطن من القرآن الكريم بطاعة الوالدين، وحثنا على الإحسان إليهما، ومما يعظم من شأنهما أن الله أمر بالإحسان إليهما بعدما أمر بعبادته وعدم الإشراك به، وقد حثنا تبارك وتعالى أيضاً على أن ندعو لهما بالرحمة والمغفرة؛ حتى نرد بذلك شيئاً مما قدماه لنا.

تفسير قوله تعالى: (ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه كرها)

تفسير قوله تعالى: (ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه كرهاً) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم! صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الأحقاف: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف:15]. ذكر الله سبحانه وتعالى هنا الوصية بالإحسان إلى الوالدين، وقد قدمنا ما فيها قبل ذلك، وأن الله سبحانه أمر بعبادته وثنىّ بشكر الوالدين، قال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:36]، وقال: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14]. فتعبد ربك سبحانه وتشكره، وتشكر لوالدين وتحسن إليهما؛ جزاء بما قدما لك. قوله سبحانه: ((حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً)) وهذا هو سن الكمال للإنسان الذي نشأ على الخير خلال هذه الفترة، ومن الصعب أن يتحول بعد ذلك إلا أن يشاء الله سبحانه، والذي نشأ على الشر حتى بلغ هذا العمر فإنه يظل على خصال الشر بعد ذلك إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى؛ لذلك بعض الناس وهو شاب صغير يكون فيه طيش، ولكنه بعد ذلك يعقل ويراجع نفسه ويرجع إلى الله سبحانه، لكن الذي يكون في طيش حتى هذا السن وحتى يجاوزه فصعب أن يرجع إلى صوابه، وإذا رجع فإنك تجد فيه نفوراً وشراً إلا أن يشاء الله سبحانه. ووصف الله عز وجل هذا السن بأنه سن الكمال الذي إذا بلغ الإنسان فيه على شيء فإنه يكمل على هذا الشيء الذي هو فيه، فالإنسان المؤمن التقي الذي نشأ على تقوى الله عز وجل، إذا وصل لهذا السن عليه أن يعد نفسه للموت. والأمر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يتجاوز ذلك)، فهو لم يقل: كل أمتي يبلغون إلى الستين أو السبعين، فمنهم من يموت وهو في بطن أمه، ومنهم من يموت وهو طفل صغير، ومنهم من يموت وهو شاب صغير، والله أعلم بما يبلغه عبده. فعلى الإنسان أن يجهز نفسه دائماً للقاء الله سبحانه، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند الصلاة: (صل صلاة مودع)، فعليك أن تقف في الصلاة وكأن هذه آخر صلاة تصليها، فإذا فعلت ذلك أحسنت في هذه الصلاة، وإذا نمت فتتوقع أنه من الممكن ألا تقوم من نومتك، والنوم هو الموتة الصغرى، كما ذكر لنا ذلك الله سبحانه، وذكره لنا النبي صلى الله عليه وسلم. فالإنسان حين ينام يقول: (باسمك اللهم وضعت جنبي، وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين)، فمن المتوقع أن ينام ولا يقوم، ولذلك يقول: إن أمسكت نفسي، فالله يتوفى الأنفس حين موتها، ويقبض هذه النفوس، فالقبضة الصغرى هي النوم. ففي هذه الآية يذكر الله سبحانه: ((حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً))، فهنا أصبحت قوة الإنسان مكتملة، وأصبح عقل الإنسان وتفكيره مكتملاً، فله خبرة ناضجة في الحياة في هذا السن، فيقوم بعد هذا كله يدعو ربه دعاء استعداد للرحيل، واستعداد للآخرة. فالذي مضى من العمر هو أربعون سنة، ولو عاش الباقي فسيعيش نصف الماضي ويصل عمره إلى ستين سنة، ولعله لا يبلغ ذلك، فيجهز نفسه للقاء الله سبحانه بالعمل الصالح. قال تعالى: ((قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ))، فقد عشت أربعين سنة، فأطعمني الله فيها وسقاني وكساني وآواني ورزقني وأعطاني ومنّ علي بكل خير سبحانه، فيقول: يا رب! أنعمت علي بنعم عظيمة، فأوزعني -أي: حثني وحرضني وادفعني وأعني- أن أشكرك، وكفني عن كل شيء إلا عن طاعتك وإلا عن شكرك. وكما ذكرنا قبل ذلك أن النعمة هنا جنس، ولذلك لا تثنى ولا تجمع، فـ (نعمتك) معناها هنا كل النعم التي أنعم الله عز وجل عليك، قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ} [إبراهيم:34] فأفردها؛ لأنها جنس، والمعنى نعم الله، وكذلك قوله: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56]، فرحمة الله هذه جنس أيضاً، والمعنى رحمات الله العظيمة لعباده. فيدعو العبد ربه: ((رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ)) يعني: ما أنعمت علي من نعم، وأعظم هذه النعم نعمة الإسلام الذي يشكر أهل الجنة ربهم سبحانه عليها، قال تعالى حاكياً عنهم أنهم يقولون: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف:43]. ويقول هنا: ((رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ))، فأنعمت على والديّ أنهما أنجباني، وأنعمت عليهما بالحنان وبالرحمة وبالرزق، فربياني ونشآني على طاعتك، وأحسنا إلي وعلماني وهذباني وفعلا بي كل معروف. قال: ((وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ)) أي: وأوزعني وحثني وادفعني وأعني على أن أعمل صالحاً ترضاه، فالإنسان مخلوق لعبادة الله، ولم يترك لك الخيار في أن تختار ما هو العمل الصالح الذي تريده أنت، فالعمل الصالح هو الذي يرضاه الله سبحانه، فتقول: ((وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ)). فليس كل ما يختلقه الإنسان يكون شيئاً صالحاً، ولكن الصلاح يعرف بالمقياس الذي وضعه لنا ربنا وهو الكتاب والسنة، والعمل الصالح عمل يرضي الله سبحانه، وشرطه أن يكون مخلَصاً فيه، قال تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [غافر:14]، وقال: {أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر:11]، فأمرنا الله عز وجل أن نخلص له في العبادة، وأن نتابع فيها النبي صلوات الله وسلامه عليه، فهذان شرطان لقبول الأعمال. فلم يقل: وأن أعمل صالحاً فقط، ولكن: ((وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ)) أي: تقبله، فأتقرب إليك بما تريده وبما تقبله. وحتى تعمل العمل الصالح الذي يرضاه الله عز وجل لا بد من العلم، فكيف ستعرف أن هذا العمل يرضاه الله أو لا يرضاه الله عز وجل؟ فلا بد من العلم، فنعرف من الكتاب والسنة ما الذي يرضي الله عز وجل، فيعيش المؤمن بهذا العمل الصالح الذي يرضي به ربه سبحانه.

صلاح الذرية خير للوالدين في الدنيا والآخرة

صلاح الذرية خير للوالدين في الدنيا والآخرة قال تعالى: ((وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي))، فهذه دعوة عظيمة جامعة، فقد دعا لنفسه، ودعا لوالديه، ودعا لذريته، وحمد الله وشكره على ما أنعم عليه. وهي دعوة عظيمة ينبغي على كل مسلم أن يدعو بها، فصلاح الذرية أمر عظيم ينفع صاحبها، وصلاح ذريتك تنتفع بها في الدنيا وفي الآخرة، والولد الصالح قرة عين للوالدين في حياته وبعد مماته، ففي حياته ينتفع بصلاحه فلعل الولد يدعو دعوة لوالديه فيستجاب له فيها، والولد الصالح دائماً يدعو لوالديه: {رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:24]، والولد الصالح دائماً يعمل الصالح، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الولد من كسب أبيه)، فكلما عمل شيئاً أنت علمته إياه، أو أنت دللته عليه، أو هو تعلم هذا الشيء فإنك تؤجر أنت على هذا الشيء، فكان الولد الصالح مكسباً عظيماً لوالديه، فكلما عمل شيئاً أُجر الوالدين عليه. وإذا مات هذا الولد واحتسبه الوالدان كان لهما الأجر العظيم عند الله، فيسبقهما إلى الجنة إذا كان صغيراً، ويأخذ بأيديهما إلى الجنة، ويجادل ويدافع عنهما أمام الله عز وجل يوم القيامة حتى يذهب بهما إلى الجنة، وإذا كان كبيراً شُفع في والديه، فشفع فيهما، فكان نفعاً عظيماً في الدنيا وفي الآخرة. والكثير من الناس همه أن يكون الأولاد في مراكز محترمة، وأن يكونوا شيئاً كبيراً، ولعل هذا الذي يتمناه لهما يكون شرا عليهما، فبعض الناس يتمنى أن يكون ابنه وزيراً كبيراً، فيكون سارياً في ركاب الأشرار، ويضيع في النهاية ويكون من أهل النار، ولم ينتفع بذلك، ولكن ادع لابنك بالصلاح سواءً كان وزيراً أو رئيساً أو عاملاً، فعليك أن تدعو له بالصلاح، وأن يهيئ له ربه من أمره رشداً، ولا تختر أنت ولكن اطلب من ربك أن يختار له الخير. وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم قصة امرأة وغلامها الرضيع، فبينما كانت المرأة تحمل ولدها وترضعه إذ مر بهما رجل عليه شارة، وله أتباع، فالمرأة نظرت إليه ثم رفعت يديها ودعت ربها: اللهم! اجعل ابني مثل هذا، تريد أن يكون مثله، فترك ثديها، وقال: اللهم! لا تجعلني مثله، اللهم! لا تجعلني مثله، فتعجبت المرأة. ومرت بهما فتاة يقولون: إنها سرقت، والناس يضربونها، فدعت الله وقالت: اللهم! لا تجعل ابني مثلها في المهانة التي هي فيها، فترك ثديها وقال: اللهم! اجعلني مثلها. ثم أخبرها أن هذا من الأشرار، وأنه وإن كان كبيراً في قومه، ومقدماً عند الناس لكنه عند الله في النار، وأما الفتاة فهي مظلومة، وهي عابدة لله عز وجل، فدعوت الله ألا يجعلني مثل هذا، وأن يجعلني مثل هذه. فالإنسان لا يعرف الغيب، ولا ما الذي يخبئه القدر، وكم من إنسان يتمنى الشيء حتى يناله، فإذا ناله أصابته التعاسة، وإذا به يتمنى لو أنه لم ينل هذا الشيء، وكم من إنسان كان وزيراً كبيراً، وبعد ذلك يرمى في السجن، والكل ينظر إليه ولا أحد يرحمه. وكم من إنسان كان قاضياً كبيراً، وقد وصل إلى هذه الدرجة إما بمال، وإما بجهد وتعب، وإما بوساطة، وإذا به ينفتح كرشه على الناس فيمد يده لهذا ولهذا، وإذا به يصير مسجوناً مثله مثل المساجين، ويتمنى لو أنه لم يكن في هذا المنصب، لذلك لا تقول أبداً: يا رب! أنا أريد ابني يكون كذا، ولكن سل ربك الخير. ولذلك علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا نزل بأحد البلاء فإنه لا يتخير على ربه سبحانه، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا يدعون أحدكم على نفسه بالموت، وإن كان لا بد فاعلاً فليقل: اللهم! أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خير لي)، فارجع الأمر إلى الله عز وجل، فكم من إنسان يدعو: يا رب! أنا أريد أن أكون مشهوراً، فتجلب شهرته وصحبته لهؤلاء الناس عليه الشر والتعاسة والبؤس والضياع، وكم من إنسان زاهد بعيد عن الفتن، والله عز وجل يعصمه ويعطيه، فكل إنسان مهيأ وميسر لما خلق له، فلا تتمنى ما عند غيرك، فقد أعطى غيرك المال فكان حسناً، وأجاد في إنفاق هذا المال، وحرم فلاناً من المال؛ لأن الله عز وجل حجب عنه الفتن، فهو لا يقدر على فتنة المال، فالله سبحانه أعلم بما يستحقه العباد. قامت السيدة عائشة رضي الله عنها مرة تدعو ربها سبحانه، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (عليك بالجوامع) يعني: لا تفصِّلي في الدعاء، فعلمها النبي صلى الله عليه وسلم جوامع الدعاء: (اللهم إني أسألك من الخير كله، عاجله وآجله، ما علمت منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله، عاجله وآجله، ما علمت منه وما لم أعلم، وأسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل، وأسألك من خير ما سألك عبدك ورسولك محمد صلى الله عليه وسلم، وأعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبدك ورسولك محمد صلى الله عليه وسلم، وما قضيت لي من قضاء أن تجعل عاقبته خيراً)، فيكون بذلك قد جمع كل دعاء جميل في ذلك؛ ولذلك لما جاء الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو إليه معاذاً رضي الله عنه وأنه أطال في الصلاة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم في آخر كلامه لهذا الرجل: (بم تدعو يا فلان؟! قال: أدعو وأقول: اللهم! إني أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار، وما أدري ما دندنتك وما دندنة معاذ) يعني الدعاء الكثير الذي تقوله أنت ومعاذ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (حولهما ندندن) أي: فأنت اختصرت حين قلت: اللهم إني أسألك الجنة، اللهم أجرني من النار. وعلى الإنسان المؤمن حين يدعو ربه سبحانه أن يكون فطناً، فيدعو لآخرته، ولا ينسى نصيبه من الدنيا، ولا ينسى حظه منها، ولكن لا تختر على ربك، ولا تحدد؛ فأنت لا تدري لعل الهلاك يكون في هذا الشيء، ولعلك لا تناله، ولعله يكون حسرة عليك، ولذلك اطلب من الله الخير، وإذا أردت شيئاً بعينه فاطلبه وقيده إن كان خيراً لك. ولك أن تستخير ربك سبحانه في الأمر، ولا تختار على الله، فالله هو الذي يختار، فهنا دعا وفي آخر دعاء الاستخارة يقول: (إني تبت إليك وإني من المسلمين)، إذاً فهو طالب من الله وتائب إلى الله. وأعظم ما يفتخر به العبد أن يقول: أنا مسلم، وهذه الكلمة سماك الله عز وجل بها، قال تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78]، فالله سبحانه سماكم المسلمين من قبل، وهذه التسمية هي ما كان عليها إبراهيم عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78]، فالله سبحانه يعلمنا دعاء الاستخارة، وزيادة على الدعاء الوارد في الآية ما ذكره الله في قصة سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فقد دعا بمثل ذلك وقال: {وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل:19]، فكان حسناً أن تجمع بين الدعاءين وأن تطلب من الله عز وجل أن يعينك وأن يوزعك أن تشكر نعمته التي أنعم عليك وعلى والديك، وأن تعمل صالحاً ترضاه، وتقول: (وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين)، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عباده الصالحين، وأن يدخلنا برحمته في عباده الصالحين أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الأحقاف [15 - 18]

تفسير سورة الأحقاف [15 - 18] لما أمر الله تعالى بطاعة الوالدين وقرنها بعبادته سبحانه ذكر حال الأبناء مع والديهم، فمنهم من هو طائع لهم محسن إليهم، يدعو الله تعالى لهم فهؤلاء هم الفائزون في الدنيا والآخرة، ومنه من هو عاق لوالديه عاص لهما، فهؤلاء هم الأشقياء الخاسرون في الدنيا والآخرة؛ بسبب عقوقهم لوالديهم، فليحذر المرء من العقوق فهو من أكبر الكبائر.

تابع تفسير قوله تعالى: (ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها)

تابع تفسير قوله تعالى: (ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً حملته أمه كرهاً)

فيما نزلت هذه الآية

فيما نزلت هذه الآية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الأحقاف: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:15 - 16]. ذكرنا في الحديث السابق ما يتعلق بهذه الآية، وهنا ذكر العلماء أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تبارك وتعالى عنه. وأبو بكر الصديق كان تابعاً صلوات الله وسلامه عليه، وكان محباً للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو أصغر من النبي صلى الله عليه وسلم بعامين، وقد تابعه وكان عمره ثمان عشرة سنة رضي الله عنه، وعمر النبي صلى الله عليه وسلم عشرون سنة، وكان يحب النبي صلى الله عليه وسلم.

ظهور بشارات النبوة على النبي صلى الله عليه وسلم في صغره

ظهور بشارات النبوة على النبي صلى الله عليه وسلم في صغره وقد سافر مرة مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الشام، وفي الطريق نزل النبي صلى الله عليه وسلم تحت شجرة فرآه راهب وهو تحت الشجرة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم له من العمر آنذاك عشرون سنة، وأبو بكر له ثمان عشرة سنة، فالراهب سأل أبا بكر رضي الله عنه: من هذا؟ فقال: هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، صلى الله عليه وسلم، قال: ما استظل بهذه الشجرة أحد إلا نبي، فعلم أبو بكر أن محمد بن عبد الله سيكون نبياً، فلم يزل مواظباً مع النبي صلى الله عليه وسلم في كل وقت وفي كل حين رضي الله تبارك وتعالى عنه، ولما بعثه الله سبحانه تابعه أبو بكر الصديق، وكان للنبي صلى الله عليه وسلم أربعون سنة، وكان لـ أبي بكر الصديق ثمان وثلاثون سنة رضي الله تبارك وتعالى عنه. فـ أبو بكر الصديق نزلت فيه هذه الآية، قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف:15].

من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه

من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال العلماء: لم يكن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أسلم هو وأبوه وأمه وأبناؤه إلا أبو بكر الصديق رضي الله تبارك وتعالى عنه، فلذلك ذكروا أنه هو الذي تتعلق به هذه الآية، وإن كانت العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. قال علي رضي الله عنه: هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فقد أسلم أبواه جميعاً، ولم يجتمع لأحد من المهاجرين أن أسلم أبواه غيره، فأوصاه الله بهما، ولزم ذلك من بعده. ووالده: أبو قحافة، واسمه: عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم، وأمه: أم الخير، واسمها سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد، وأم أبيه قيلة، وامرأته قتيلة رضي الله تبارك وتعالى عنه وعن أهله المسلمين الذين تابعوا النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر رضي الله عنه أكثر الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم عملاً صالحاً، فقد دعا ربه: أوزعني أن أعمل صالحاً ترضاه، فألهمه الله عز وجل ذلك، حتى شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بقوة الإيمان، وشهد له بالجنة صلوات الله وسلامه عليه، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لو وزن إيمان أبي بكر رضي الله عنه وإيمان الأمة ليس فيها النبي صلى الله عليه وسلم لرجح إيمان أبي بكر على إيمان الأمة رضي الله عنه، ويكفيه شرفاً وفخراً أن لقب بـ الصديق رضي الله عنه، فلا يكره ولا يبغض أبا بكر إلا منافق ومجرم وملعون. إن فضائل أبي بكر كثيرة، وقد شهد له بها علي رضي الله عنه، وشهد ابن عباس وهو من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن عباس رضي الله عنه: دعا أبو بكر ربه بقوله تعالى: ((وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ)) قال: فأجابه الله عز وجل، فأعتق تسعة من المؤمنين المعذبين في الله عز وجل، منهم: بلال، وعامر بن فهيرة رضي الله تبارك وتعالى عن الجميع. ولم يدع شيئاً من الخير إلا أعانه الله عز وجل عليه ببركة دعائه، واتباعه للنبي صلوات الله وسلامه عليه. ففي صحيح مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أصحابه فقال: (من أصبح منكم اليوم صائماً؟ قال أبو بكر: أنا، قال: فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا، قال: فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة)، ولم يحصل في ذلك اليوم هذا الفضل إلا لـ أبي بكر رضي الله تبارك وتعالى عنه، فشهد له النبي صلى الله عليه وسلم مراراً بأنه من أهل الجنة رضي الله عنه. وشهد له بالصديقية يوم أن وقف على جبل أحد ومعه عمر، فاهتز الجبل بمن عليه فوطأه النبي صلى الله عليه وسلم بقدمه، وقال: (اثبت أحد فإنه ليس عليك إلا نبي، أو صديق، أو شهيد)، فالصديق هو: أبو بكر الصديق، والشهيد هو عمر رضي الله تبارك وتعالى عن الجميع. ودعا أبو بكر ربه فقال: ((وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي))، فأصلح الله عز وجل له ذريته، فمنهم: ابنته عائشة رضي الله عنها، ومعلوم فضلها، ومنهم: أسماء رضي الله تبارك وتعالى عنها، ومنهم عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله تبارك وتعالى عنه، ومعلوم فضله وخاصة في جهاده في سبيل الله، وبلائه العظيم في يوم اليمامة، وبطولته المنقطعة النظير رضي الله تبارك وتعالى عنه، ومن فضل أبي بكر وآل أبي بكر رضي الله تبارك وتعالى عنه قوله: ((وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ))، فكانت سنة للمسلمين أن يقتدوا بـ أبي بكر في الدعاء، وأن يتبعوا هذه الآية العظيمة، وأن يدعوا باسم الله الذي يعين على العمل الصالح، والذي يصلح الذرية، والذي يؤدب ويربي ويرزق سبحانه، فأنت عليك الدعاء والله عليه الإجابة والتثبيت سبحانه. قال مالك بن مغول: شكا أبو معشر ابنه إلى طلحة بن مصرف رضي الله عن الجميع، وكأن ابنه يعصيه ويقع في شيء من المعاصي، فقال طلحة بن مصرف: إذا رأيت من ابنك نفوراً أو بعداً عن الطاعة فاستعن عليه بهذه الآية التي فيها الدعاء، قال الله تعالى: ((رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي)). فتدعو ربك بصلاح الذرية، وتستعين بالدعاء، والله عز وجل يرفع عنك وعن أولادك البلاء. والتوبة: هي الرجوع إلى الله عز وجل، والرجوع إلى أمره سبحانه الذي أمرك أن تكون عليه، قال تعالى: ((وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)) أي: من المخلصين الموحدين الله سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا)

تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا) فالذين يتصفون بهذه الصفات قال الله سبحانه فيهم: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ} [الأحقاف:16] أي: أولئك الأفاضل الصالحون الذين يدعون بمثل هذا الدعاء، ويكونون على هذا العمل الصالح من توحيد الله سبحانه، ومن الإحسان إلى الوالدين، ومن الاستجابة لدين الله سبحانه، فإن الله يتقبل عنهم أحسن ما عملوا، ويتجاوز عن سيئاتهم.

القراءات في قوله تعالى: (أولئك الذين نتقبل عنهم)

القراءات في قوله تعالى: (أولئك الذين نتقبل عنهم) قراءة حفص عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف، {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ} [الأحقاف:16] وأما باقي القراء فيقرءونها: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُتقبل عَنْهُمْ أَحْسَنُ مَا عَمِلُوا ويُتجاوز عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ)، فالله هو الذي يتقبل بفضله وعظمته وكرمه سبحانه.

معنى قوله تعالى: (أولئك الذين نتقبل عنهم)

معنى قوله تعالى: (أولئك الذين نتقبل عنهم) ومعنى هذه الآية: أن الله يتقبل منهم هذه الأعمال، ويجازيهم بها أفضل ما يجزى الإنسان. والإنسان قد يعمل عملاً حسناً، ويعمل أحسن منه، وقد يعمل عملاً ويراه حسناً، وقد لا يكون من الطاعة ولا من المعصية، كأن يستحسن شيئاً من المباح، والمباح لا أجر فيه ولا عقوبة، كالأكل والشرب، فإذا نوى نية صالحة أن يكون طاعة لله عز وجل، فهذا الذي يريده الله سبحانه، وهذا الذي يتقبله من المسلم. فالله يتقبل من المسلم ما كان طاعة أو عبادة، بشرط أن يكون بنية صالحة خالصة لله عز وجل، وليس المعنى أن العبادات منها حسن ومنها أحسن، وأن الحسن لا يقبل والأحسن يقبل، لا، فكل العبادات حسنى، وكل العبادات يقبلها الله سبحانه طالما استوفت شروطها من متابعة النبي صلى الله عليه وسلم، والإخلاص لله سبحانه. و (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، وكل إنسان له معاصي وله سيئات، فمن زادت حسناتهم حتى فاقت سيئاتهم وغلبت عليها، فالله يتجاوز عنهم ويعفو.

مكفرات الذنوب والمعاصي

مكفرات الذنوب والمعاصي والله جعل للعبد المكفرات الكثيرات بفضله وبرحمته، فمنها: الوضوء، والصلاة إلى الصلاة، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، والعمرة إلى العمرة، فهذه مكفرات لسيئات صاحبها، ومنها: التوبة، فإذا تاب العبد فإن الله عز وجل يكفر عنه سيئاته، ويتقبل منه حسناته، ويرفع له درجاته. قال سبحانه: ((وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ)) أي: نجعل هؤلاء أصحاب الجنة ومالكيها.

معنى قوله تعالى: (وعد الصدق)

معنى قوله تعالى: (وعد الصدق) وقوله تعالى: {وَعْدَ الصِّدْقِ} [الأحقاف:16] أي: أن الوعد الذي من الله عز وجل وعد صادق، ووعده هنا مفعول مطلق للتأكيد. فوعد الله كله صدق، وقوله كله حق سبحانه، {الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:16] أَيْ: يوعدون على ألسنة الرسل عليهم الصلاة والسلام، وفي كتب الله المنزلة من عنده سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (والذي قال لوالديه أف لكما)

تفسير قوله تعالى: (والذي قال لوالديه أفٍ لكما) أما الذين استوجبوا عقوبة الله سبحانه, واستوجبوا عذاب النار فقال تعالى عنهم: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [الأحقاف:17 - 18]. فقوله تعالى: ((وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ)) لم يصرح لنا سبحانه بالذي قال لوالديه: أف لكما، فهذا واحد ممن يعذبون يوم القيامة فلا نحتاج إلى معرفة اسمه، وفي هذه الآية عموم، فتعم كل من قال ذلك، وكل من عق والديه، وكل من كفر بالله سبحانه، واستهان بدين الله سبحانه وقال: إنَّ هذا الكتاب العظيم الذي جاء من عند رب العالمين ماهو إلا أساطير الأولين. فهذا الإنسان الكافر عرفته عائشة رضي الله عنها، فقالت: ولو شئت أن أسميه لسميته، ومع ذلك لم تسمه رضي الله تبارك وتعالى عنها، فلا حاجة لنا في تسميته فلذلك لم تذكره.

القراءات في قوله تعالى: (أف لكما)

القراءات في قوله تعالى: (أُفٍّ لكما) قال سبحانه: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} [الأحقاف:17]، وفي سورة الإسراء قال تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء:23]. فقوله تعالى: ((أُفٍ لكما)) فيها قراءتان: الأولى بالكسرتين، وهي قراءة نافع وجعفر وكذلك حفص عن عاصم، وقرأ أبو عمرو وشعبة عن عاصم، وحمزة والكسائي وخلف وباقي القراء: {أُفِّ لَكُمَا}، بكسرة واحدة مع التشديد.

معنى قوله تعالى: (أف لكما)

معنى قوله تعالى: (أفًّ لكما) وكلمة (أف) للتأفف، وهي أقل ما يقوله الإنسان من العقوبة، وهذه الكلمة محرمة، فكيف بمن يتطاول ويرفع صوته على الوالدين وينهرهما؟! وكيف بمن يضربهما أو يقتلهما؟!

القراءات في قوله تعالى: (أتعدانني)

القراءات في قوله تعالى: (أتعدانني) وقوله تعالى: {أَتَعِدَانِنِي} [الأحقاف:17]، هذه قراءة الجمهور، وقرأ باقي القراء، ومنهم نافع وأبو جعفر وابن كثير وابن عامر، بالمد الطويل وبالتشديد.

معنى قوله تعالى: (ويلك آمن إن وعد الله حق)

معنى قوله تعالى: (ويلك آمن إن وعد الله حق) وقوله تعالى: {أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [الأحقاف:17]، وظاهر من الآية أن الأبوين مؤمنان، وأن الابن كافر عاق، فالأبوان يدعوان الولد إلى طاعة الله، وإلى دينه، ويحثانه عليه، ويتوعدانه بالويل عند الله عز وجل إن لم يؤمن، وإن لم يدخل في دين الله عز وجل. وقوله تعالى: ((إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ)) أي: إن الله لا يخلف الميعاد، فيجيب هذا الابن العاق ويقول: ((مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ)) أي: أحاديث الزمان السالف التي لا يسمع منها شيء، فيتعالى ويستكبر أن يطيع الله عز وجل فيستحق عقوبة رب العالمين.

تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين حق عليهم القول)

تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين حق عليهم القول) قال الله تعالى متوعداً من كان لهذا الابن المتكبر العاق: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} [الأحقاف:18] أي: ووجبت عليهم عقوبة الله عز وجل، {فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} [الأحقاف:18]، ووعد الله سبحانه أن المؤمنين في الجنة، وأن هؤلاء الكافرين العصاة أمثال هذا العاق الكافر بالله عز وجل، والمكذب بالتوحيد، القائل: {ما هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}، في النار. وقوله تعالى: {فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ} [فصلت:25] أي: الذين سبقوا ومضوا من أهل التكذيب، وانتقلوا إلى لعنة الله، وإلى غضبه سبحانه، ((مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ)).

الرد على من قال: إن قوله تعالى: (والذي قال لوالديه أف لكما) نزل في آل أبي بكر

الرد على من قال: إن قوله تعالى: (والذي قال لوالديه أف لكما) نزل في آل أبي بكر ذكرنا أن هذا الذي قال لوالديه: {أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي} [الأحقاف:17]، وصفه الله عز وجل بأنه خاسر، وأنه حق عليه عذاب الله عز وجل، فلا يكون هذا الوصف في إنسان مسلم أبداً، وإنما يكون في إنسان كافر، فمن زعم أن هذه الآية نزلت في إنسان مسلم، فقد كذب بذلك. وقد افترى هذا القول مروان بن الحكم بن أبي العاص من بني أمية على ابن لـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فقال ذلك كذباً وزرواً، فكذبته عائشة رضي الله عنها، وأقسمت أن هذه الآية ليست فيهم، وأنها تعرف من الذي نزلت فيه هذه الآية، وقلنا ذلك لئلا يغتر بما ذكره الإمام القرطبي رحمه الله في تفسيره عندما قال: لا مانع من أن تكون نزلت فيه ثم أسلم بعد ذلك، فهذا قول خاطئ، ولذلك فشيخ المفسرين ابن جرير الطبري، وكذلك ابن كثير وغيرهم من المفسرين ينكرون أن يكون قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [الأحقاف:18]، في رجل مسلم قد أبلى بلاءً حسناً في الإسلام، وكان من أفضل الناس. والذي قال عليه ذلك كذب عليه؛ يريد أن يشوه صورته بين الناس، وكان سبب ذلك أن مروان كان أميراً لـ معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، فأراد معاوية أن يولي ابنه يزيد الخلافة، وأراد له البيعة في حياته، فقام مروان في المسجد وخطب في الناس، وقال: إن معاوية قد رأى رأياً حسناً في يزيد، وأن يستخلفه عليكم فقد استخلف قبل ذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، -وهذا القول كذب-، فكذبه عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه أمام الناس، فقال: أهرقلية؟ استخلف أبو بكر الصديق ولم يستخلف أحداً من أبنائه، واستخلف عمر بن الخطاب ولم يستخلف أحداً من أبنائه، فكيف تقول: إن معاوية استخلف كما استخلف أبو بكر وعمر؟! ففعْل معاوية مخالف لما فعله أبو بكر وعمر، فالذي فعله أبو بكر وعمر كان رحمة بالأمة، والذي فعله معاوية كان رحمة بابنه رضي الله عن الجميع، فـ معاوية اختار الملك، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: (تئول الخلافة إلى ملك عضوض) فكان بدء الملك العضوض أن معاوية استخلف ابنه فبقى الأمراء من بعده يستخلفون أبناءهم، فلما أنكر عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه على مروان بن الحكم، أراد أن يسيء إليه فلم يجد إلا القرآن، من أجل أن ينفر الناس من حوله، فقال له: ألست الذي قد قال الله عز وجل فيه كذا؟ فافترى أن هذه الآية نزلت فيه، فلما قال ذلك كذبته عائشة من وراء حجابها رضي الله عنها، فسمع الناس لما قالته عائشة رضي الله تبارك وتعالى عنها، فقالت: والله؛ لأنا أعلم فيمن نزلت هذه الآية، يعني: لو شاءت لحدثت، ولكنها سترت وكتمت ولم تقل شيئاً رضي الله تبارك وتعالى عنها. فتغيظ مروان وأراد أن يسجن عبد الرحمن بن أبي بكر ويأخذه، فدخل إلى بيت عائشة فلم يقدر عليه. فـ عبد الرحمن بن أبي بكر من أفاضل المؤمنين رضي الله عنه، وقد قام فقال قول حق، فإذا بهذا الرجل يتهمه بهذا الشيء ويقول عنه ذلك. فالغرض أن الآية نزلت في إنسان كافر عاص لله سبحانه، وصفه الله عز وجل بأنه مستحق للعذاب، وأنه كان من الخاسرين، قال تعالى: ((إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ)) أي: سبق في علم الله عز وجل ذلك، فاستحقوا الهوان والخسران، نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين.

تفسير سورة الأحقاف [15 - 19]

تفسير سورة الأحقاف [15 - 19] لقد امتلأت آيات القرآن الكريم بذكر صفات عباد الله المؤمنين، وذلك للحث على التحلي والاتصاف بها، لأجل تكوين الجيل المسلم المنشود، كما أنه قد وردت في القرآن صفات الكافرين والمنحرفين، تنبيهاً على الابتعاد عنها واجتنابها، ولقد بين الله في كتابه جزاء كل من الفريقين، وعاقبة الطرفين، حتى يكون الإنسان على بصيرة، وحتى لا يكون هناك حجة لأحد، وتأتي هذه الآيات مؤكدة لهذا الأمر العظيم، ومدللة عليه.

صفات المؤمنين الواردة في سورة الأحقاف

صفات المؤمنين الواردة في سورة الأحقاف الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الأحقاف: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ * وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ * وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} [الأحقاف:15 - 20]. ذكر الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات وما قبلها فريقين: فريقاً من المؤمنين، وفريقاً من الكافرين، فأما المؤمنون فذكر الله سبحانه وتعالى من صفاتهم أنهم: {قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30]، وأخبر أن أصحاب الجنة: {َلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:38]. وأخبر سبحانه أنهم يعبدونه سبحانه وتعالى، حتى إذا بلغ أحدهم أشده وبلغ أربعين سنة دعا ربه سبحانه وتعالى وهو موقن بأنه راجع إليه، وأنه راحل إلى ربه سبحانه، كما قال تعالى: ((قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)). فدعا الله بخيري الدنيا والآخرة، فطلب من ربه سبحانه وتعالى أن يعينه ويوزعه ويحثه ويدفعه إلى شكر نعمه عليه سبحانه، وإلى أن يكون حماداً شكاراً له سبحانه، كما قال تعالى: {أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} أي: ألهمني أن أعمل صالحاً ترضاه، ((وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي))، فدعا لنفسه بالخير، ودعا لذريته بالخير، وتاب إلى ربه فقال: ((إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)).

لا يتقبل الله إلا من المؤمنين

لا يتقبل الله إلا من المؤمنين إن هؤلاء الذين هذه صفاتهم يخبر الله عز وجل أنه يتقبل عنهم أحسن ما عملوا، ويتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة، والإنسان قد يعمل أعمالاً هي حسنة في نظره، فمنها ما يكون مباحاً، ومنها ما يكون مستحباً، ومنها ما يكون فرضاً واجباً، فالله عز وجل يجزيه على ما كان عبادة، وعلى أحسن الحسن، فيجزيه على ذلك خير الجزاء. وكل ما يعمله الإنسان من عبادة يتقرب بها إلى الله ولو مثقال ذرة من خير فإن الله عز وجل يثيبه عليها، ويزيده من فضله. إذاً فليس المعنى: أن حسنات الإنسان منها حسنة يتقرب بها إلى الله ولا يؤجر عليها، وحسنة أخرى يؤجر عليها، لا، فكل ما يتقرب به إلى الله ولو كان مثقال ذرة من الخير فإنه يؤجر عليه، وإنما أفعل التفضيل هنا بحسب نظر الإنسان، فقد يعمل العمل فرحاً به ويظنه حسناً، ولكنه ليس عبادة، وآخر يعمل عملاً حسناً وهو عبادة لله عز وجل، فهذا الذي يؤجره الله عز وجل عليه، ويعطيه من فضله.

مجازاة الإنسان على العمل الحسن ولو كان كافرا

مجازاة الإنسان على العمل الحسن ولو كان كافراً إن الكافر لو عمل العمل الحسن فإنه يؤجر عليه في الدنيا، فالإنسان الكافر قد يبر والديه، فيعطيه الله في الدنيا مالاً، ويزيده رزقاً، ويعطيه من ثناء الناس، وقد يفعل الإنسان معروفاً: فيخدم إنساناً، أو يجري في مصلحته، ويكون هذا الفاعل كافراً، أو يكون فاجراً، أو يكون فاسقاً، فيعطيه الله أجرة في الدنيا على ما عمل، ولا يضيع الله عز وجل عمل إنسان، ولكن العمل الذي يريده الله سبحانه، والذي ينتفع به الإنسان في الآجلة هو الذي يكون مقروناً بالإيمان، وبعبادة الله سبحانه وتعالى.

بيان تجاوز الله عن عباده المؤمنين

بيان تجاوز الله عن عباده المؤمنين إن هؤلاء المؤمنين الذين عبدوا الله، والذي كان من دعائهم ما ذكر الله سبحانه، قال عنهم: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ))، وكل بني آدم خطاء، والله سبحانه وتعالى يجازي العبد على إحسانه بالحسنى وزيادة، وعلى بعض سيئاته وليس على جميعها، بل يتجاوز الله سبحانه، كما قال: {وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [المائدة:15]، وقال: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]، فكأنه بفضله وبرحمته يتكرم على الإنسان، ويبتليه في الدنيا بمكفرات لذنوبه، فيبتلى الإنسان بنقص في رزقه، ويبتليه بشيء من الآلام والأمراض وغيرها من مصائب الدنيا؛ لتكون تكفيراً لسيئاته عند الله سبحانه وتعالى. فلذلك يقول سبحانه هنا: ((وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ))، فيعفو عنهم سبحانه، بل يتكرم الله عز وجل ويبدل بعض سيئاتهم حسنات، كما قال تعالى: {أُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:70]، فإن عباد الله عبدوه سبحانه ووقعوا في الذنوب، والله عز وجل يريد لهم درجة في الجنة لن يبلغوها بأعمالهم، فيطلعهم سبحانه على ما صنعوا من سيئات في الدنيا -صنعت كذا، وصنعت كذا- فيخجل العبد من ربه سبحانه يوم القيامة ويستحي، ويقر بذنوبه ويعترف، فيستره الله ثم يبدلها له حسنات مكان هذه الذنوب التي فعلها، ويرفعه بها درجات من فضله وكرمه سبحانه وتعالى، قال: {أُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:70]، وقال هنا: ((وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ)) أي: نعفو عن سيئاتهم فيما كان بينهم وبين الله عز وجل. وأما ما كان بينه وبين الناس فلا بد فيه من القصاص والجزاء كأن يكون لطم إنساناً، أو ضربه، أو أخذ ماله، فهذا يجزى عليه يوم القيامة، ويعطي للآخرين من حسناته، وأما ما كان من ذنوب بين العبد وبين الله فإما أن يعفو عنها سبحانه، أو يؤاخذ العبد على جميعها، وهذا يعود إلى إرادة الله ومشيئته سبحانه. فإن من أصحاب الجنة من يدخله الله عز وجل الجنة بغير حساب، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم، ومنهم من يحاسب حساباً يسيراً، ومنهم من يحاسب حساباً شديداً فيحبس عن الجنة فترة ثم يدخلها، ومنهم من يدخل بذنوبه النار -نسأل الله العفو والعافية- ثم يعفو عنه سبحانه ويخرجه من النار إلى الجنة.

بيان وعد الله لعباده المؤمنين

بيان وعد الله لعباده المؤمنين قال تعالى: ((وَعْدَ الصِّدْقِ)) أي: وعد الحق، فإن الله قد وعدهم وعداً صدقاً، و (وعد) هنا منصوب على المصدرية، فوعد الله وعد الصدق سبحانه، ((الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ)) أي: فهذا ((وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ))، فقد وعدهم الله وعد الصدق أنه يدخلهم الجنة، ويتجاوز عن سيئاتهم إن آمنوا وأحسنوا.

الاهتمام بتربية الأبناء

الاهتمام بتربية الأبناء قال تعالى: ((وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ)) أي: اذكر هذا الإنسان الكافر الذي قال لوالديه: ((أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ)) أي: أنهما مؤمنان يلجئان إلى الله، ويستجيران به سبحانه والاثنان يدعوان ابنهما إلى طاعة الله عز وجل، فعلى الأب المسلم والأم المسلمة ألا يفرطا في حق أولادهما، وأن يدعوانهم إلى الله سبحانه، وأن يربيا أولادهما على حب الله، وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى طاعة الله سبحانه من الصغر حتى الكبر، وأن يأمراهم بالمعروف وينهياهم عن المنكر، فهما يستغيثان الله؛ لأنه يرفض أن يستجيب ويدخل في دين الله. فيقول الوالدان لهذا الولد ولأمثاله: ((وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ)) أي: لك الويل، ولا أحد يدعو على ابنه بالويل، ولكن هذا كأنه مقيد بالكفر، أي: كأنك بكفرك تستحق الويل فتدارك نفسك، وتب إلى الله، وآمن بالله سبحانه، فإذا بهذا الولد يجيب الجواب القبيح ويقول: ((مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ)) أي: هذه خرافات السابقين. والأساطير: جمع أسطورة وهي الحكاية، يعني: أن هذا الكلام هو من الأساطير والخرافات التي تحكي عن الأولين، ((فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ))، فأمثال هذا من الكفرة قد حقت عليهم كلمة العذاب عند الله سبحانه، كما قال تعالى: {حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} [القصص:63] أي: قول الله سبحانه: {لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:85]. فالله سبحانه يملأ جهنم من الشيطان وممن تبعه من الإنس والجن، فحق عليهم قول الله سبحانه: {فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} [فصلت:25]، إذاً: فليس هؤلاء فقط هم الذين يدخلون النار، وإنما يدخل معهم أمم خالية سابقة قد كفروا أيضاً بالله سبحانه، وأعرضوا عن دين الله، فاستحقوا الخسران في الدنيا والآخرة بإعراضهم عن الله. ((إنهم)) يعني: لأنهم ((كانوا خاسرين))، فإن هنا: تعليلية سببية، {إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [فصلت:25] أي: خسروا أنفسهم وأهليهم ودينهم، فاستحقوا النار. وكأنها أيضاً بمعنى ما يستحقونه في المستقبل، أي: أن ذلك بسبب أنهم كانوا خاسرين في الآخرة. قال: ((وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ))، هنا يذكر الله المؤمنين والكافرين فيقول: ((وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ)) أي: لكل من الفريقين درجات مما عملوا، فالمؤمنون لهم الدرجات العالية عند الله سبحانه، والكفرة المجرمون لهم الدركات السفلى في نار جهنم، كما قال الله سبحانه: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء:145]، إذاً: فالمنافقون والكفار في أسفل النار، ولهم دركات، وتطلق الدركة: على المكان من السفل، وتطلق الدرجة على المكان من العلو، وقد قال هنا: ((وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ))، وليس للكفار درجات، ولكن هذا من باب التغليب؛ لأنه لا يليق أن يقال عن المؤمنين: إن لهم دركات، فقال: ((وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ))، تغليباً، كما تقول: الشمسان، وتقصد الشمس والقمر، وتقول: العمران، وتقصد أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، فتسمي بواحد وتقصد الاثنين، فهنا كذلك قال: ((وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ))، فدرجات أهل النعيم عالية، ودرجات هؤلاء دركات هاوية. قال تعالى: ((وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا)) أي: بسبب أعمالهم، ((وَلِيُوَفِّيَهُمْ)) جاءت بالإفراد وجاءت بالجمع: (ولنوفيهمُ أعمالهم)، فقرأها ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وهشام بخلفه وكذلك عاصم: ((وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ))، وقرأها باقي القراء: (ولنوفيهم أعمالهم)، والذي يوفي الأعمال هو الله سبحانه، فيأمر بهؤلاء إلى الجنة، وبهؤلاء إلى النار. قال تعالى: ((وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ))، فيوفيهم ويعطيهم الجزاء وافياً، ولا يبخس أحداً شيئاً من حسناته، ولا يظلم أحداً بعقوبة لم يفعلها، ولكن يجزي كلاً الجزاء الوافي عنده سبحانه، فقال: ((وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ))، وهذه كقوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الأحقاف الآية [20]

تفسير سورة الأحقاف الآية [20] لقد أحل الله سبحانه وتعالى الطيبات من الرزق ونهى عن الإسراف، فعلى المسلم ألا يأخذ كل ما أبيح له؛ لأنه قد يتعدى بذلك إلى الحرام، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أسوة حسنة، وأما الكفار فإنهم يذهبون طيباتهم في الدنيا، وليس لهم في الآخرة شيء.

تفسير قوله تعالى: (ويوم يعرض الذين كفروا على النار)

تفسير قوله تعالى: (ويوم يعرض الذين كفروا على النار) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الأحقاف: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ * وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأحقاف:20 - 21]. يذكر الله عز وجل عباده بهذه الآية وما يليها بيوم القيامة، وما يكون في هذا اليوم من سؤال عما أنعم الله عز وجل به على العباد، وعما فعلوه في هذه النعمة، وهل شكروا النعمة وذكروا صاحب النعمة، أم أنهم كفروا ربهم سبحانه واستوجبوا على أنفسهم منه النقمة. فقوله تعالى: ((وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ))، أي: يزال عنهم الغطاء، فيرون أمامهم نار جهنم ماثلة، فيعرضون عليها، ويؤمرون بدخولها، وذلك {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ:26]، ويقال: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [الحج:10]. ويقال: ((أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا)). أي: قد فعلتم ذلك، فالإنسان يستغل هذه الدنيا إما فيما ينفعه أو فيما يضره، والنفع إما يكون عاجلاً أو آجلاً، والمضرة كذلك، فالإنسان الذي يجلب لنفسه الضرر في الدنيا عندما يستغل في الباطل فإنه يدين على نفسه الشؤم فيها بمعصيته لله سبحانه، ثم عقوبته يوم القيامة، وهذا الإنسان من الخاسرين. وأما المؤمن فيطلب الراحة الأبدية والنعيم المقيم ولو بمضرة عاجلة، فمهما أصيب الإنسان المؤمن في الدنيا ببلاء لو قيس بما يكون يوم القيامة من عذاب ومن صعوبات ومشقة وحساب وعرض، فإن الذي يكون في الدنيا يسير؛ ولذلك فالصادقون نظروا في هذه الآية فعملوا بما أمر الله عز وجل به، وتذكروا هذا اليوم، وتذكروا أنهم إن أذهبوا طيباتهم في هذه الحياة الدنيا، واستغلوا الدنيا وأخذوا كل ما يريدون، ونالوا كل ما يشتهون فإن ذلك لا ينفعهم بل يضرهم، ولا شك أن الإنسان الذي ينكب على الملذات لن يكفيه أن يأخذ من الحلال فهو طماع، والطماع لا يكتفي بالحلال، بل لا بد أن يقع في الشيء الذي فيه شبهة، ثم يتعدى بعد ذلك إلى الحرام، لذلك على الإنسان المؤمن أن يربي نفسه ويهذبها ويؤدبها، ولا يأخذ كل ما أحل له، فإذا أخذ كل الحلال تعدى بعد ذلك إلى الحرام، ولكن ليجعل بينه وبين النار حاجباً وستاراً من الحلال حتى يترك الحرام، ولذلك أدبنا ربنا سبحانه بعبادته، فجعل شهراً في العام تصوم فيه، تصوم عن الحلال، فالطعام والشراب حلال لك في غير وقت الصيام، وفي وقت الصيام يصير محرماً عليك لا يجوز لك أن تأكل ذلك، فتتمرن على أنه ليس كل شيء تشتهيه لا بد أن تأكله، تأديباً وتهذيباً لنفس الإنسان وليس تعذيباً لها، وإنما ليربي نفسه. فهنا يقول الله عز وجل مذكراً عباده: ((وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا)).

اختلاف القراءات في قوله تعالى: (أذهبتم)

اختلاف القراءات في قوله تعالى: (أذهبتم) وهذه الكلمة فيها قراءتان: (أذهبتم) على الإخبار، و (أأذهبتم) على الإنشاء والاستفسار والاستفهام يوم القيامة. فقوله تعالى: (أذهبتم) تقرير لهم، أي: قد فعلتم ذلك، فأذهبتم الطبيات واستمتعتم بالدنيا وبكل ما فيها من محرمات وأخذتموها، فاليوم ليس لكم جزاء إلا النار. والقراءة الأخرى: (أأذهبتم) استفهام توبيخي وإنكار على هؤلاء، أي: قد أعطيناكم الدنيا لتعبدوا الله، وقلنا لكم: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58]. فالقراءة الأخرى: (أأذهبتم طيباتكم)، أي: هل فعلتم ذلك؟ و A أذهبوا طيباتهم في هذه الحياة الدنيا، وقراءة الاستفهام أيضاً فيها وجوه للقراء في قراءتها. فالقراءة: (أأذهبتم طيباتكم) هذه قراءة ابن ذكوان وقراءة روح عن يعقوب. وتقرأ: (آذهبتم) بالمد والتسهيل، وهذه قراءة ابن كثير وقراءة رويس وقراءة هشام بخلفه. وفي قراءتها وجوه لـ هشام، أيضاً ابن كثير يقرؤها: (اأذهبتم) بالتسهيل بغير مد فيها، وكذلك رويس، فتكون القراءات فيها: (اأذهبتم طيباتكم) قراءة ابن كثير ورويس، والقراءة: (آأذهبتم طيباتكم) قراءة أبي جعفر وقراءة أيضاً هشام بخلفه، وهناك وجه ثالث لـ هشام فيها، وقرئت (أأذهبتم طيباتكم) بهمزتين وهي قراءة ابن ذكوان وقراءة روح عن يعقوب. وباقي القراء يقرءونها: (أذهبتم). وقوله تعالى: ((طَيِّبَاتِكُمْ)) أي: ما أنعمنا به عليكم في هذه الحياة الدنيا، فأخذتم المال فأنفقتموه في الحرام، وشربتم به الخمور، وأكلتم به الخنازير، ووقعتم فيما حرم الله عز وجل من أخذ المال من الباطل، فضيعتم هذه الدنيا في الباطل. فيسأل الإنسان عن عمره وعن شبابه وعن ماله وعن علمه يوم القيامة، يسأل عن عمره فيما أفناه، والعمر من طيبات الله عز وجل التي أنعم الله بها على العبد، فقد أعطاك عمراً، وأعطاك شباباً وصحة وقوة. وعن شبابه فيما أبلاه، أي: أين أبليت هذا الشباب وأفنيته وضيعته؟ فهل عملت بالطاعات أم عملت بالمعاصي؟ ويسأل عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ ويسأل عن العلم الذي تعلمه ماذا عمل به؟ هل عمل بطاعة الله عز وجل، أم عمل بمعصية؟ نسأل الله العفو والعافية ومغفرة الذنوب. فقوله تعالى: ((طَيِّبَاتِكُمْ)) أي: ما أعطيناكم من أشياء لتستغلوها في عبادة الله سبحانه أذهبتموها في حياتكم الدنيا، وأفنيتم شبابكم وأعماركم في الكفر وفي المعاصي، وضيعتم هذه الطاقات التي كان من الممكن أن تنتفعوا بها لتدخلوا الجنة، ضيعتموها في الدنيا، فاذهب الإنسان عمره، وضيع ماله، وضيع شبابه، وأفنى جسده بمعصية الله، وأذهب عقله بشرب الخمور وشرب ما حرم الله سبحانه وتعالى عليه، وأذهب ماله في شراء الخبيث، وفي التفريط على نفسه في المعاصي وفي الذنوب. كذلك: ((أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا)). أي: أخذتم كل ما طاب لكم واستمتعتم وجعلتم الدنيا للدنيا وتستعدوا بها للآخرة، فيوم القيامة ((تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ)). فقوله تعالى: ((عَذَابَ الْهُونِ)) أي: العذاب الذي يهينكم، وهو عذاب الهوان والذل والصغار، فالإنسان الذي كان كبيراً في الدنيا وكان مستمتعاً فيها ومغروراً بها يهان يوم القيامة، ويعذب ويذل ويعرض على النار أصغر الصاغرين، ويكون أسفل السافلين في نار الجحيم والعياذ بالله، ويقال لهم: ((فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ)) أي: عذاب الهوان والصغار باستكباركم، فمن كان في الدنيا مستكبراً متعالياً رافعاً أنفه شامخاً في السماء مستكبراً على خلق الله، فإنه يذل يوم القيامة، ويعرض المستكبرون على أشد النار سعيراً أمثال الذر من الصغار، كما ثبت من ذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقوله تعالى: ((تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ)). أي: عذاب الخزي وعذاب الفضيحة والصغار والذل، والسبب: ((بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ))، وبئس الاستكبار والاستعلاء على أهل الأرض؛ إذ يستعلون على خلق الله عز وجل ويتكبرون عليهم بغير الحق، ولا يوجد استكبار على الخلق بحق، ولكن هذا الإنسان ظن بنفسه أنه أعلى من غيره، فظنه باطل وهو يعلم ذلك في نفسه، وهو يعلم أن كل إنسان مخلوق من طين، لكنه يستكبر، وهو يعلم أن هذا الاستكبار ليس حقاً له، فالمعنى: فاستكبرتم في الأرض بغير الحق، وبما كنتم تفسقون في أفعالكم بغياً وظلماً وعناداً وخروجاً عن طاعة الله سبحانه، وهذا يفسر الخروج عن الطاعة.

بيان حال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعد نزول هذه الآية

بيان حال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعد نزول هذه الآية هذه الآية جعلت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يخافون من العرض يوم القيامة ومن الحساب، فيضيقون ويقللون على أنفسهم خوفاً من العرض يوم القيامة، وإن كان الله الكريم سبحانه قال: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31]. وقال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32]. وهذا من كرم الخالق سبحانه وتعالى أن نأكل ونشرب، لكن لا نسرف، فالإنسان لا يأكل من أجل أن يموت، وإنما يأكل من أجل أن يعيش فيعبد الله سبحانه وتعالى، إذاً: فكل واشرب ولا تسرف ((إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)). والله سبحانه وتعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، فإن أعطاك أكلاً أكلت، وإن أعطاك الشراب شربت، وإن أعطاك مالاً اشتريت به ملابس طيبة، ولم يأمرك أن تمشي في ثياب مرقعة، ولم يقل لك: اترك هذا المال ولا تتنعم به، ولكن بالقدر الذي لا يكون فيه استكبار، ولا يكون فيه تعاظم على خلق الله سبحانه وتعالى، إذاً: فالإنسان يأكل ويشرب ويلبس دون أن يستكبر على خلق الله سبحانه، فإن وجد الغالي ووجد ما هو دونه أخذ الوسط، فيكون في الوسط دائماً، ولا يأخذ الغالي دائماً وإن كان حلالاً؛ لأن ذلك يدفع الإنسان إلى الاستكبار في النهاية، ولكن يأخذ هذا ويأخذ من هذا وخير الأمور أوسطها، وقد عاش في الدنيا صلوات الله وسلامه عليه وهي ضيقة عليه وعلى أصحابه، ولما فتحت له الدنيا لم يتركه الله فيها، بل قبضه سبحانه وتعالى ولم يتنعم بشيء منها، فالصحابة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أكلوا الخبز المرقق، وكان أحدهم يأكل منه ويبكي، ويذكر النبي صلى الله عليه وسلم كيف خرج من الدنيا وما ذاقه، ومع ذلك أكلوا ولكن لم يسرفوا، فرضوان الله وتعالى عليهم. فهذا عمر رضي الله عنه يروي عنه الإمام مسلم أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم في مشربة له حين هجر نساءه صلوات الله وسلامه عليه، وذلك لما ضقن بقلة النفقة، فطلبن من النبي صلى الله عليه وسلم الزيادة في النفقة وذلك حين فتح الله عليه، فلما شددن ضاق ذرعاً بهن صلى الله عليه وسلم فتركهن وهجرهن شهراً صلوات الله وسلامه عليه، فهنا النبي صلى الله عليه وسلم أدب نساءه في طلبهن كثرة النفقة منه صلوات الله وسلامه عليه، وخرج إلى مشربة له صلى الله عليه وسلم، والمشربة هي الغرفة العالية، فاعتزل نساءه صلى الله عليه وسلم فيها، وحلف أن يعتزلهن شهراً صلوات الله وسلامه عليه، وذلك بسبب طلبهن الزيادة في النفقة، وبسبب الغيرة التي كانت بين نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فقد دفعتهن إلى أن يكن حزبين: حزباً مع السيدة عائشة رضي الله عنه، وحزباً آخر مع غيرها من نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فاعتزلهن صلى الله عليه وسلم تأديباً لهن لما حدث ذلك، وإذا بالصحابة رضوان الله عليهم يحزنون لضيق النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ كان أهم شيء عندهم هو سروره، ويكرهون أن يغتم صلى الله عليه وسلم، فلما وجدوه اعتزل نساءه صلى الله عليه وسلم خافوا أن يكون قد طلق نسائه، فجلسوا في المسجد يبكون، وقد حذر عمر بن الخطاب ابنته حفصة من إغضاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: سليني من مالي ما شئت، ولا تطلبي من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يغرنك أن زوجك النبي صلى الله عليه وسلم وأن جارتك أوضأ منك، فالسيدة عائشة أجمل منها. وكان الصحابة في ذلك الحين يتحدثون أن ملك غسان يجهز جيشاً للقدوم على النبي صلوات الله وسلامه عليه، وكانوا لا يخافون من أحد من العرب مثل خوفهم من غسان وملك غسان؛ لقوتهم، وفي يوم من الأيام كان عمر رضي الله عنه في بيته فطرق صاحبه البيت عليه بالليل، وذلك في وقت ما كان يذهب إليه فيه، فقام عمر بن الخطاب خائفاً وقال: ماذا حدث؟ أجاء ملك غسان؟ قال: لا، أشد من ذلك، فقد كان فغضب النبي صلى الله عليه وسلم أشد عند الصحابة من قتال الأعداء، فقال: أشد من ذلك، فارق النبي صلى الله عليه وسلم نساءه، فقال عمر بن الخطاب: هذا ما كنت أخشاه، وذهب إلى المسجد، فوجد الصحابة عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم جالسين منهم من يبكي ومنهم من يفكر، فـ عمر بن الخطاب سأل: ماذا حدث؟ قالوا: طلق النبي صلى الله عليه وسلم نساءه، فستأذن عمر رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يأذن له، فاستأذن مرة ثانية ومرة ثالثة، ثم أذن له، فدخل على النبي صلوات الله وسلامه عليه فالتفت فلم ير شيئاً يرد البصر إلا أهباً -والأهب: الجلود التي لم تدبغ بعد- قد سطع ريحها، وتلطف مع النبي صلى الله عليه وسلم في الكلام وما زال يكلمه حتى ضحك النبي صلى الله عليه وسلم، فمن ضمن ما ذكر أنه قال: يا رسول الله! كنا قوماً في قريش وكنا نغلب نساءنا، يعني: لما كنا في مكة كنا نغلب نسائنا، ولما جئنا المدينة وجدنا الأنصار تغلبهم نساؤهم، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: يا رسول الله! لو رأيتني وقد ذهبت إلى حفصة وقلت لها: لا يغرنك أن كانت جارتك أوضأ منك، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أضحك النبي صلى الله عليه وسلم قال: أطلقت نساءك؟ قال: لا، فكبر عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، فسمعه أهل المسجد، فعلموا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطلق نساءه، فقال عمر بعد ذلك: يا رسول الله! أنت هنا وهذا كسرى وقيصر في الديباج والحرير، فاستوى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟! أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا). فالله سبحانه وتعالى أعطى كسرى وأعطى قيصر ليس لأنه يحبهم، ولكن عجل لهم طيباتهم في هذه الدنيا؛ حتى لا يكون لهم عند الله شيء يوم القيامة. فقال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم: استغفر لي، فقال: (اللهم اغفر له). فالنبي صلى الله عليه وسلم أدب عمر رضي الله عنه بذلك. يقول حفص بن أبي العاص: كنت أتغدى عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أي: يفطر مع عمر، وكانوا يأكلون وجبتين في اليوم: الغداء -أي: الإفطار- والعشاء. قال: كنت أتغدى عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخبز والزيت، والخبز والسمن، والخبز واللبن، والخبز والقديد، وأقل ذلك اللحم الغليظ، وهو اللحم الطري. وكان عمر رضي الله عنه يقول: لا تنخلوا الدقيق؛ فإنه طعامٌ كله، فجيء بخبز متفلع غليظ فجعل يأكل رضي الله عنه ويقول: كلوا. هذا هو عمر أمير المؤمنين، وأمير الدولة الإسلامية رضي الله تبارك وتعالى عنه يأكل ذلك ويقول لمن حوله: كلوا، قال: فجعلنا لا نأكل، فقال: مالكم لا تأكلون؟ فقلنا: والله يا أمير المؤمنين! إنا نرجع إلى طعام ألين من طعامك، فقال عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه: يا ابن أبي عاصم، أما ترى بأني عالم لو أمرت بعناق سمينة فيلقى عنها شعرها، ثم تخرج مصلية كأنها كذا وكذا. يأدبهم عمر بذلك رضي الله تبارك وتعالى عنه. وقال: أما ترى بأني عالم لو أمرت بصاع أو صاعين من زبيب، فأجعله في سقاء ثم أشن عليه من الماء، فيصبح كأنه دم غزال، فقلت: يا أمير المؤمنين! أجل، ما تنعت: العيش، أي: ما تنعته هو العيش، فقال عمر: أجل، والله الذي لا إله إلا هو لولا أني أخاف أن تنقص حسناتي يوم القيامة لشاركناكم في العيش، ولكني سمعت الله تعالى يقول لأقوام: ((أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا)). إذاً: فـ عمر كان خائفاً من هذه الآية أنه لو أخذ كل الطيبات في الدنيا لم يبق له شيء يوم القيامة، وهذا من التهذيب للنفس، ولم يأمرنا ربنا سبحانه بذلك، وإنما تكرم وقال: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف:31]، فنهانا عن الإسراف. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين.

تفسير سورة الأحقاف [21 - 24]

تفسير سورة الأحقاف [21 - 24] لقد كان قوم عاد من الذين مكنهم الله في الأرض، فنحتوا الجبال، وزرعوا الأرض، وأعطاهم الله ما أعطاهم من قوة وتمكين في الأرض، لكنهم لم يشكروا نعم الله، ولم يرعوها حق رعايتها، فتجبروا في الأرض، وعبدوا غير الله سبحانه، فأرسل إليهم رسولاً منهم وهو هود عليه السلام لينذرهم ويلقي عليهم الحجج، فاستهزءوا به وآذوه، فعاقبهم الله بعذاب من عنده، وجعلهم عبرة للمعتبرين.

نسب قبيلة عاد

نسب قبيلة عاد الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الأحقاف: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف:21 - 24]. هذه القصة العظيمة التي يسوقها ربنا سبحانه وتعالى في سورة الأحقاف قد ساقها في مواضع من كتابه، وفي كل موضع يذكر شيئاً مما يليق بهذه القصة، فذكر هذه القصة في سورة الأعراف وأشار إلى قوم عاد بقوله: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [الأعراف:65]، وذكرها في سورة هود. حيث قال: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ} [هود:50]، وذكرها في سورة الأحقاف حيث قال: ((وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ)). كما تحدث الله عز وجل عن قوم عاد في سورة الفجر فقال: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} [الفجر:6 - 9]. وعاد وثمود قبيلتان مكنهما الله عز وجل في الأرض، وقوم عاد أبناء عمومة مع قوم ثمود، فعاد إرم، وثمود إرم أيضاً، فجدهم الأعلى إرم، فعاد يقول الله عز وجل عنها: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} [الفجر:7]، وعاد هي ذات العماد، والرجل الذي تنسب إليه هذه القبيلة هو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. وبين عاد وبين نوح عليه الصلاة والسلام قرون قليلة، وقد علم قوم عاد ما حدث من قوم نوح، وكيف عبدوا غير الله سبحانه، وكيف أغرقهم الله، فهم أحفادهم، وثمود من بعدهم بثلاثة أو أربعة أجيال، وجاءت ثمود ولم يتعظوا بعاد الأولى، فعاد هم أبناء العموم وأبناء الجد الأعلى، فلذلك يقول الله عز وجل: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى} [النجم:50]، وقد جاءت بعدها ثمود من نفس القبيلة، ومن نفس الفرع، من إرم بن سام بن نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام.

قوم عاد وتمكين الله لهم في الأرض

قوم عاد وتمكين الله لهم في الأرض وصف الله سبحانه وتعالى قوم عاد بالقوة العظيمة والتمكين في الأرض، وذكر ما عاشوا فيه من قصور كانوا ينحتونها في جلاميد الجبال، وذلك دليل على قوتهم، فالناس الآن لا يبنون القصور إلا بالاستعانة بالآلات، ومن الصعب أن ينحت الإنسان الصخر في هذه الأيام، ولذلك لم يؤتَ أحد بعدهم مثل ما أعطاهم الله عز وجل من قوة عظيمة، فلم تغني عنهم هذه القوة كما صور لنا ربنا سبحانه، وقد رأينا كيف أن القوة قد تطغي صاحبها فيستشعر أنه فوق كل شيء، فإذا بالله عز وجل يأتيه بعذاب من عنده يدمر كل شيء، قال الله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ}. إن قوم عاد إرم ذات العماد كانوا في جنوب الجزيرة العربية أي: في جنوب السعودية في منطقة الربع الخالي، بينها وبين حضرموت في اليمن، والتنقيبات والحفر الأثرية التي يحفرونها دلتهم على أنه كان في تلك الأماكن حضارة وأنه كان فيها قصور عظيمة شاهقة، وجبال منحوتة، فقد كانوا ينحتونها ويصنعون منها قصورهم. وهذه الأماكن التي كانت في يوم من الأيام مهداً لحضارة هؤلاء صارت الآن رمالاً قاحلة، وصحراء عظيمة شاسعة واسعة، فهذه هي ديار قوم عاد الذين كانوا فيها، فلما أهلكهم الله سبحانه وتعالى كان لهم فرع آخر من هؤلاء في الشمال بين الجزيرة وبين الشام، وهم ثمود أصحاب القصور المنحوتة من الجبال كما سبق، وقد أخبر الله عز وجل عنهم وعن تكذيبهم، وأنهم لم يتعظوا بما جرى لأبناء عمومتهم -قوم عاد- من إهلاك الله عز وجل لهم، ففسقوا وعتوا عن أمر الله فأهلكهم الله سبحانه وتعالى. وذكر الله سبحانه في سورة الشعراء كيف مكن قوم عاد وأعطاهم من نعمه، وأن نبيهم هود عليه الصلاة والسلام ذكرهم بالله سبحانه وتعالى، وأنه مكن لهم في الأرض، فعبدوا غيره، قال الله تعالى عن هود أنه قال لهم: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:128 - 131]، فيدعوهم إلى ربهم سبحانه وتعالى الذي خلقهم وأعطاهم ورزقهم تلك المباني العظيمة، والأفكار التي يصنعون من ورائها أشياء لا يعبدون الله سبحانه بها، ولكن يفتخرون على غيرهم من الأمم، فقال: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} [الشعراء:128]، الآية هنا هي القصر العظيم، والعلامة الشامخة الشاهقة، فيفتخرون بذلك لعباً وعبثاً وإظهاراً للقوة، وكأنه سبحانه يذكر المسلمين ويحذرهم أن يصنعوا مثل هؤلاء، فإنه قد أعطاهم تلك النعم ليعبدوا الله عز وجل بها، وليعرفوا ربهم سبحانه ويشكروه على ما آتاهم، ويستغلوا هذه النعمة فيما يرضي الله، لا فيما يغضبه سبحانه. ولذلك لما ذكر هذه القصة في سورة الأحقاف قال في آخرها: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الأحقاف:26]، فلما كفروا ما أغنى عنهم هذا الذي أعطاهم الله عز وجل، فقد كان لهم سمع يسمعون به المواعظ، ويسمعون به ما يريده الله عز وجل منهم، كما كان لهم بصر يبصرون به آيات الله سبحانه، وما آتاهم من نعم، وما يدعوهم إليه سبحانه، فيسمعون ويبصرون، ويرسل إليهم الرسل؛ ليدعوهم إلى الله عز وجل، فسمعوا ما قال، ورأوا ما أخبر عن ربه صلوات الله وسلامه عليه، وجعل الله لهم قلوباً وأفئدة يعقلون بها، ولكن ما أغنى عنهم ذلك كله؛ لأنهم كانوا يجحدون بآيات الله، فقضى على قلوبهم بأن ختم عليها، فلا يفهمون ولا يعقلون عن الله عز وجل شيئاً. فهنا يقول الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ} في المكان الذي أنت فيه في الجنوب كان قوم عاد، وهذه السورة مكية، فكأن الله تعالى يسلي بها النبي صلى الله عليه وسلم ويصبره بأن أبا جهل الملعون وغيره ممن كانوا يشتمون النبي صلى الله عليه وسلم ويسبونه ستكون عاقبتهم كعاقبة قوم عاد. وقوله: ((وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ)) أي: أخوهم في النسب وليس أخاً لهم في الدين، فهم كفار وهو مسلم، ولكنه من القبيلة نفسها، فهو: هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد، فجده الثالث هو عاد، وهؤلاء من أحفاد عاد أيضاً.

معنى الأحقاف

معنى الأحقاف قال الله عز وجل: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ} [الأحقاف:21]، والأحقاف: هي الرمال المرتفعة المستطيلة التي ليست محدودبة، ولكنها مائلة منحنية، فليست كالجبل منصوبة وممتدة إلى الأعلى ولكنها رمال مستديرة من أعلى لا تبلغ أن تكون جبالاً.

الدعوة إلى التوحيد مهمة الرسل جميعا

الدعوة إلى التوحيد مهمة الرسل جميعاً قال الله تعالى: {وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ}، وكأن الله سبحانه يذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن قبل هود كان هناك نذر، وبعده كان هناك نذر أيضاً، والنذر بمعنى الرسل، والمعنى: أرسلنا رسلاً قبله ورسلاً بعده عليه الصلاة والسلام، فمن قبله كان نوح صلوات الله وسلامه عليه، وربنا يقول: {وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} [النساء:164]، فهناك رسل من رسل الله عز وجل لم يقص الله خبرهم على النبي صلى الله عليه وسلم، ورسل قد قص الله خبرهم عليه. فالله عز وجل ذكر بعض رسله عليهم الصلاة والسلام، فقد خلا من قبل هود رسل أنذروا قومهم، ومن بعده أيضاً جاء رسل ينذرون أقوامهم، {وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ} [الأحقاف:21] أي: أن المنذرين قد مضوا من قبله، وأيضاً جاءوا من بعده، فمضوا من بين يديه ومن خلفه، يدعون أقوامهم ويقولون لهم: ((أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ))، وهذه هي دعوة الرسل جميعهم، كقوله تعالى: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [هود:50]، واعبدوا الله معناها لا إله إلا الله، فكل الرسل يدعون إلى الإسلام، فعلى المسلم أن يسلم نفسه، وأن يوجه وجهه لله، ولا يشرك به شيئاً. وقوله تعالى: ((إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)) هذه هي قراءة الجمهور، وقراءة نافع وأبي جعفر وابن كثير وأبي عمرو: ((إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ))، وهو يوم القيامة، ولا يمنع أن يكون قبل ذلك عذاب أليم وعذاب شديد، ولكن أعظم ما يكون من العذاب هو عذاب يوم القيامة. نسأل الله العفو والعافية.

تكرار ذكر قصة قوم عاد في سور القرآن بما يتناسب مع كل سورة

تكرار ذكر قصة قوم عاد في سور القرآن بما يتناسب مع كل سورة لقد ذكر الله هذه القصة في أماكن كثيرة يختصرها في مكان ويطيل ذكرها في مكان آخر، ويذكر العبرة اللائقة بكل مكان، وهذا من عجيب أمر القرآن العظيم الجليل، وسياق كل سورة له وزن معين وموسيقى معينة تسمعها من خلال تلاوة الآيات، فالقصة في السورة مناسبة للسياق من أوله إلى آخره، فسورة الشعراء والقصص التي قبلها كل سورة تذكر القصة بما يتناسب مع سياقها، وفي سورة الأحقاف وسورة الأعراف وغيرها من سور القرآن يكون سياق القصة مناسب للسورة التي هي فيها.

تفسير قوله تعالى: (قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا)

تفسير قوله تعالى: (قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا) يذكر سبحانه أن هوداً بعدما دعا قومه إلى الله سبحانه، وذكرهم بآياته كان ردهم عليه بأن قالوا كما حكى الله عنهم: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا} [الأحقاف:22]، والإفك بمعنى الصرف والإدانة والكذب، والمعنى: أجئتنا لتصرفنا عن آلهتنا، وتبعدنا عنها، ولتفتري وتكذب علينا حتى نترك آلهتنا، والإفك: أعظم الكذب، فوصفوه بما هم أهل له، فهم أهل الإفك والإفتراء وليس هو عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. قالوا: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}، والقصة هنا مختصرة وقد ساقها الله عز وجل في أماكن أخرى، فقال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [الأعراف:65]، فأول ما دعاهم إليه هو توحيد الله سبحانه وتعالى، ثم ذكرهم بنعم الله عز وجل عليهم كما في سورة الشعراء: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء:129 - 135]، فكان جوابهم: {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ * إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:136 - 137] أي: أنت تقلد الذين من قبلك، فسواء وعظتنا أم لم تعظنا فلسنا داخلين في دينك، فيكون قد أعذر إليهم بما قاله لهم. وهذه الآية اختصرت ذلك، فذكر الله عز وجل فيها جوابهم على نبيهم وهو: ((أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا))، ولما قال لهم -كما في سورة هود-: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ} [هود:50]، كأنه قال قبل ذلك كلاماً كثيراً وذكرهم بنعم الله، فلما أصروا قال لهم: أنتم مفترون مجرمون تفترون على الله الكذب، وتزعمون له شركاء، وتدعون معه من لا ينفع ولا يضر، فقالوا له: ((أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)). فعادة الإنسان المجرم الاستهتار وعدم النظر في العاقبة، فهؤلاء لما رأوه صادقاً عليه الصلاة والسلام وداعياً إلى الله، ولا يطلب منهم شيئاً لنفسه، وإنما يقول لهم: {يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ} [هود:51] أي: أني لم آتِ لأطلب منكم شيئاً، وإنما جئت أدعوكم لتعبدوا الله سبحانه، فأبوا إلا ما هم فيه من الكفر وقالوا: ((فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)).

تفسير قوله تعالى: (قال إنما العلم عند الله)

تفسير قوله تعالى: (قال إنما العلم عند الله) فأجابهم بقوله: {قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحقاف:23] أي: لا أدري متى يأتيكم عذابكم، فعلم ذلك عند الله، وما علي إلا البلاغ، {وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ}، وهذه قراءة الجمهور بالتشديد، وقراءة أبي عمرو: {وأبُلْغكم مَا أُرْسِلْتُ بِهِ}. {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ}، هذه هي قراءة الجمهور، وقراءة نافع والبزي عن ابن كثير وأبي عمرو: ((وَلَكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ)). وقوله: (أراكم) قرأها بعض القراء بالإمالة، كـ الأزرق عن ورش وابن ذكون وأبي عمرو. وقوله: ((وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ)) أي: تجهلون ربكم سبحانه، وتجهلون ضعفكم، ولذلك استمعتم بالدنيا وظننتم أنكم قد غلبتم الناس جميعهم، وأنكم فوق البشر ولا يقدر أحد على أن يفعل بكم شيئاً، فلما ظننتم ذلك جهلتم. فمن جهل الإنسان: ألا يعرف نفسه ولا يعرف أنه ضعيف، ولذلك فإن الله يذكره بحوادث الدهر، وينزل عليه المصائب، فيمرض أو يضيع منه ماله، أو يفقد الولد وغير ذلك من حوادث الدهر؛ حتى يتذكر أنه مخلوق ضعيف، وأنه محتاج إلى الله عز وجل، وأنه في هذا الكون جاء ليعيش فترة محدودة يعبد فيها ربه سبحانه ثم ينتهي لا محالة. قال الله تعالى ((فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا)) أي: أنهم اغتروا فغرهم الله سبحانه وتعالى، فظنوا أنهم سيعيشون آمنين بحصونهم وجبالهم، فأتاهم العذاب من مأمنهم، وهذا من بطش الله وبأسه وانتقامه ممن كذب رسله كما ذكر في أكثر من سورة من سور القرآن. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الأحقاف [21 - 25]

تفسير سورة الأحقاف [21 - 25] لقد أنذر هود عليه السلام قومه عاداً وحذرهم من عبادة غير الله تعالى، فكان جوابهم الاستهزاء والإعراض واستعجال العقاب من الله سبحانه، فأصابهم القحط والجدب، ثم جاءتهم سحابة سوداء فاستبشروا وظنوا أنه مطر، فكان مطراً من نار ولهب والعياذ بالله، ثم تلاه ريح صرصر دمرت كل شيء، وهكذا الجزاء من جنس العمل، ولا يظلم ربك أحداً.

تفسير قوله تعالى: (واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف)

تفسير قوله تعالى: (واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: فقال الله عز وجل في سورة الأحقاف: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [الأحقاف:21 - 25].

إنذار الله لعباده

إنذار الله لعباده ذكرنا فيما مضى أن الله سبحانه وتعالى أرسل نبيه هوداً إلى عاد، وهم قبيلة كانوا يسكنون الأحقاف، والأحقاف جمع حقف، وهي: المرتفعات من الرمال كهيئة الجبال وإن كانت ليست عظيمة العلو، ولكنها محقوقفة، أي: منحنية الأطراف أو الارتفاع. وهذا المكان الذي كانوا فيه ما بين حضرموت في اليمن وجنوب الجزيرة في منطقة الربع الخالي. قال تعالى: ((وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ))، وهو هود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. قوله: ((إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ))، وكانوا يعبدون آلة من دون الله سبحانه وتعالى، فحذرهم من عبادة غير الله، وكانوا يعصون الله سبحانه وتعالى، وكانوا يتطاولون على خلق الله، معجبين بأجسامهم، معجبين بقوتهم، وكانوا مترفين منعمين، فأعطاهم الله القوة، وأعطاهم المال، وأعطاهم الأرض الواسعة المنبسطة الفسيحة، وأعطاهم نعماً كثيرة، فلم يشكروا الله سبحانه، وإنما كفروا واغتروا، وكانوا يؤذون خلق الله سبحانه، وقد وصفهم الله بقوله: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} [الفجر:7] أي: أنهم قبيلة ذات عماد، والعماد جمع عمود، والإنسان يعيش في مكان له أعمدة عادية، لكن إن كان هذا الإنسان طويلاً جداً فيحتاج إلى مثل ذلك، فهم قد أعطاهم الله عز وجل أجساماً في غاية القوة، في غاية الطول، فاغتروا على خلقه، واغتروا بما أعطاهم الله سبحانه، وفعلوا ما يغضب الله سبحانه، ففعلوا أفحش وأعظم ما يقع فيه إنسان يغضب الله من الكفر بالله والشرك به، واتخاذ الآلهة من دون الله، أو يتقربون بها إلى الله سبحانه وتعالى، فاتخذوها قرباناً آلهة، واتخذوا آلهة صنعوها بأيديهم، فعبدوها تقرباً بزعمهم إلى خالقهم سبحانه وتعالى، فحذرهم نبيهم عليه الصلاة والسلام، ((أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)).

تفسير قوله تعالى: (قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا ولكني أراكم قوما تجهلون)

تفسير قوله تعالى: (قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا ولكني أراكم قوماً تجهلون) فكان A { قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأحقاف:22]، أي: لتصدنا وتصرفنا عن آلهتنا التي نعبدها من دون الله سبحانه، ((فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ))، أي: إن كنت تقدر على فعل شيء فافعل ما تقدر عليه، {قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} [الأحقاف:23]، فوصفهم بالجهل؛ لأنهم يجهلون قدرة الله عز وجل، ويجهلون قوة الله سبحانه، ويجهلون فضل الله عز وجل عليهم، فهو الذي أعطاهم ما يجعلهم يعبدونه وحده، ويجهلون ضعف أنفسهم وحقارة أبدانهم التي ظنوا أنها تقيهم أو ينتفعون بها، فحذرهم نبيهم عليه الصلاة والسلام، {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأعراف:69]، وهذا مما دعاهم إلى أن يتطاولوا على نبيهم صلوات الله وسلامه عليه عندما دعاهم إلى الله، وحذرهم منه، وكأنه يقول لهم: إذا كان الله زادكم بسطة في الجسم، وبسطة في الهيئة، فاذكروا ما صنع بقوم نوح من قبلكم، فقد عمروا أكثر منكم، ومع ذلك جاءهم العذاب من عند الله، فقالوا: {أْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} [الأحقاف:22 - 23]، فأي نبي وأي رسول لا يملك مجيء العذاب لقومه، فالله يأتي بعذابه وقت ما يشاء، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما عليه أن يحذرهم وينذرهم غضب الله سبحانه، أما أنه يملك مجيء العذاب فهذا لا يملكه، وإنما الله عز وجل يفعل ما يشاء في الوقت الذي يريده سبحانه وتعالى، وقد يظن الإنسان أن هؤلاء يستحقون العقوبة العاجلة فيؤخرها الله عز وجل، وقد يظن أن هؤلاء يستحقون العذاب فيعفو الله عز وجل عنهم، فلا يملك نبي لقومه شيئاً إلا أن يدعو قومه إلى الله عز وجل، أما أنه يأتي بالعذاب فهذا ليس بيده، ولذلك قال لهم نبيهم عليه الصلاة والسلام: ((قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ))، أي: أن وقت هلاككم هو إلى الله عز وجل، وإنما علي البلاغ، ((وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ))، فأي أخلاق من هذا الكافر عندما يستعجل العذاب! وعندما يطلب العقوبة من الله عز وجل. وإن من أخلاق الكفار: العلو في الأرض بغير الحق، والإفساد في الأرض، والتعالي على رسل الله عليهم الصلاة والسلام، وعدم الإيمان بالله سبحانه، فهؤلاء صنعوا ذلك، وربنا يذكر نبيه صلى الله عليه وسلم بهؤلاء القوم الذين يشبه صنيعهم صنيع قريش مع النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: ((قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ)) [الأحقاف:9]، فهذا الذي ابتدأ الله عز وجل بذكره في هذه السورة: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأحقاف:9]، لذلك ربنا يذكر بالأنبياء السابقين، فنفس الذي قاله الأنبياء السابقون، ((قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ)) هو الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم، ((وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا)) أي: لا ندري متى نموت؟ وبأي طريقة يكون الموت؟ فعلم ذلك عند الله عز وجل ((َمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ))، فكذلك من قبل قال هذا النبي الكريم هود عليه الصلاة والسلام. والكفار الذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: عجل لنا العذاب، {رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص:16]، قد قاله السابقون قبلهم، قال الله على لسانهم: {ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:77]، وكذلك هؤلاء اللاحقون عندما دعوا على أنفسهم: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32]، أليس هذا يدل على جهلهم؟ فقال لهم نبيهم السابق هود عليه الصلاة والسلام: ((وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ))، فالجهل موجود في الأمم الماضية. وكذلك البعد عن الله عز وجل، وطلب ما لا يحل لهم، فبنو إسرائيل جاءهم نبيهم يدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى، فإذا بهم بمجرد ما ينجيهم الله يقولون: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف:138]، فهذا هو الجهل، والبعد عن الله سبحانه، وطلب ما لا يحل. فكذلك هنا ذكر الله عز وجل عن نبيهم أنه قال: ((وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ)) أي: باستعجالكم عذاب الله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم)

تفسير قوله تعالى: (فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم) قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف:24]، فجاء العذاب من عند الله سبحانه وتعالى، والإنسان الذي يستكبر عن عبادة الله، وينتظر عذابه يأخذه، فإذا أخذه لا يفلته. وانظر عندما جاء العذاب من الله سبحانه أين ابن نوح الذي اغتر أن أباه نبي؟ واغتر بأنه سيصعد إلى أعلى جبل كي يعصمه من الماء، فقال الله: {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود:43]، فجاء العذاب من السماء، ومن الأرض، فالأرض أخرجت ماءها، والسماء أنزلت ماءها، وأغرق الله من على الأرض كيف شاء وحين شاء سبحانه وتعالى. وعاد هؤلاء هم الذين قال الله فيهم: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} [الفجر:7 - 8]، فلم يكن هناك أناس بمثل هذه الأجسام، ومثل هذه القوة، لا من قبلهم ولا من بعدهم، ولن يأتي مثلهم، فالله قدر أن يكون هؤلاء عظة لغيرهم، فجاءهم العذاب فدمر هذه القصور العالية، وتتعجب من قصور هؤلاء عندما يجدونها في الحفريات في الرمال تحت الأرض، فيجدون جبالاً لهؤلاء القوم، فقد كانوا ينحتون من الجبال بيوتاً، جبال صم ينحتون فيها البيوت، وهذا مستحيل إن فكر أحدنا في ذلك، فكيف وهم قد بنوا قصوراً داخل هذه الجبال؟! فينحتون قرى كاملة في الجبال، أبوابها من الصخر، مدخلها كذلك من الصخر، وأشياء عجيبة جداً، فعمروا سنين طويلة نحتوا فيها الجبال، وبنوا فيها القصور الشاهقة، وظنوا أن هذه الجبال تمنعهم من عذاب الله تعالى، وظنوا أن هذه ستعصمهم من الله عز وجل، فإذا بالله عز وجل يأتيهم بالعذاب من مأمنهم، ومن حيث يظنون الأمن والأمان، ومن حيث يظنون البعد عن البلاء، ومن حيث يظنون مصدر رخاءهم، فحذرهم نبيهم عليه الصلاة والسلام، وأنذرهم غضب الله سبحانه وتعالى، فلم يخافوا وإنما طلبوا العذاب: ((ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا))، فمنع الله عنهم الماء، حتى هلكت الزروع والمواشي، وأجدبت الأرض، فماذا عملوا؟ بعثوا أحدهم إلى مكة -المكان هذا كان معروفاً، وكانت الكعبة غير موجودة، فهذا قبل إبراهيم- ليدعو الله لهم هناك، فأرسلوا واردهم ووافدهم، وهنا قصة يسوقها الإمام الترمذي وأحمد بإسناد حسن، وهي: أن رجلاً اسمه الحارث بن يزيد البكري -صحابي جليل- خرج إلى النبي صلوات الله وسلامه عليه ليكلمه في شيء، وفي الطريق قابلته امرأة عجوز، فطلبت منه أن يحملها معه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فحملها إلى النبي صلوات الله وسلامه عليه. ولما وصل بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وجد القوم يستعدون للخروج للجهاد في سبيل الله عز وجل، والقصة طويلة، وإنما الغرض منها: أن الرجل طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع قومه أرضاً في المكان الذي هم فيه، فالعجوز التي معه كانت من أهل هذه الأرض، فإذا بها تستفز وتقول للنبي صلى الله عليه وسلم: كيف تعطيه الماء الكثير؟ وكيف تعطيه الأرض الواسعة؟ ونحن إلى أين سنذهب؟ مع أنها كانت مخالفة لقومها، فهي على الإسلام وقومها كانوا كفاراً، ولكن مع ذلك أشفقت المرأة على قومها، فقالت: يا رسول الله! فإلى أين تضطر مضرك؟ فقال الرجل متعجباً: حملتك من الطريق الفلاني وأتيت بك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا بك تخاصميني عنده! إنما مثلي كما قال الأول: معزاء حملت حتفها. وهذه قصة معروفة عند العرب وهي: أن معزة كانت مع صاحبها، وبينما هي تحفر الأرض برجلها وجدت سكينة، فأخذها صاحبها وذبحها بها وأكلها. ثم قال: (حملت هذه ولا أشعر أنها كانت خصماً لي، أعوذ بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم أن أكون كوافد عاد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هيه! وما وافد عاد؟) وهذا من لطف وأدب النبي صلى الله عليه وسلم، فهو يعرف قصة عاد ووافدهم، ولذا عندما يذكر لك أحدهم أمراً من الأمور وأنت تعرفه لا مانع من أن تسمعه منه مرة أخرى، وليس لازماً أن تحرجه وتقول له: أنا أعرف هذه القصة، لا، وإنما اسمع منه ما يقول. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وما وافد عاد؟ فقال الرجل: قلت: إن عاداً قحطوا) أي: منع عنهم المطر ثلاث سنوات، قال: (فبعثوا وافداً لهم يقال له: قيل، فمر بـ معاوية بن بكر فأقام عنده شهراً يسقيه الخمر وتغنيه جاريتان) وعاد كانوا يسكنون اليمن، فأرسلوا أحدهم إلى مكة ليدعو لهم؛ لأنهم كانوا يعرفون أن هذا المكان مكان إجابة، فالرجل عندما مر في الطريق جاء على قوم عندهم طعام وشراب، ولم يكونوا يعانون مما يعاني منه الذين في الجنوب، فأقام عند معاوية بن بكر يسقيه الخمر ويطعمه وتغنيه جاريتان، فنسى وهو في اللهو ما جاء من أجله، ثم ذكره القوم بمقصد مجيئه، فخرج إلى جبال تهامة فنادى ودعا هنالك فقال: اللهم إنك تعلم أني لم أجيء إلى مريض فأداويه، ولا إلى أسير فأفاديه، اللهم اسق عاداً ما كنت مسقيه)، أي: أن عاداً تعودوا منك أن تسقيهم، فهم كانوا يعرفون أن الله هو الخالق سبحانه، وأن الله هو الرزاق سبحانه، ومع ذلك يعبدون أصناماً من دون الله سبحانه وتعالى، فإذا به يدعو ربه ويبقى هو في عبادته لغير الله، (فاستجاب الله دعاءه، فمرت به سحابات سود، فأومأ إلى سحابة منها سوداء، وظن أن الله استجاب له دعاءه، فرجع إلى قومه يبشرهم بذلك، فنودي من السحابة: خذها رماداً رمدداً، لا تبقي من عاد أحداً)، رماداً بمعنى: هباب؛ لأن أي شيء إذا احترق صار رماداً. قال: (خذها رماداً رمدداً لا تبقي من عاد أحداً، قال: بلغني أنه بعث عليهم من الريح إلا قدر ما يجري في خاتمي هذا حتى هلكوا)، أي: أن الله أرسل عليهم الريح العقيم التي تدمر كل شيء، فأسقطت السحابة عليهم نيراناً من السماء، وأرسل الله عز وجل عليهم الريح العقيم، واستمر ذلك سبع ليال وثمانية أيام حسوماً، فإذا جبالهم وحصونهم لا تحميهم، وأغرقها الله بالرمال، وكانت الريح ترفع أحدهم إلى علو ثم تشدخه بالأرض: {تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة:7 - 8] أي: هل ترى أحداً منهم موجود؟ فقال الله سبحانه وتعالى هنا في هذه الآيات: ((فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ)) أي: رأوا سحابات آتية تعرض في السماء، ((قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا)) أي: قد استجبنا فلسنا محتاجين للرسول، فكان الجواب من الله: ((بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ)) أي: هذا هلاككم، فقد كنتم تقولون: ((فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا))، وجهلتم قدرة الله سبحانه، جهلتم بطش الله وانتقامه، ((بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ))، ((تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ))، فدمرت البلاد، ودمرت العباد، وغطت قصورهم وحصونهم وجبالهم بهذه الرمال ولم تقم لهم قائمة بعد ذلك، والآن معروف مكان الرمال، فهي في الربع الخالي، وهو مكان ليس فيه أحد، وفيه يبحثون عن حفريات وآثار للسابقين، وقد صوروا ما كان فيها من البيوت التي بنوها في الجبال، وأما أن أحداً يسكن في هذه الأماكن فلا، فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم. وهذه قراءة عاصم وحمزة وخلف ويعقوب: {فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:25]، وقراءة باقي القراء، ((فَأَصْبَحُوا لا تَرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ))، أي: أصبحتَ لا ترى، فلو ذهبت إلى هناك فلا تجد أحداً، وليس هناك أماكن عمران، فلا ترى إلا مساكن هؤلاء القوم. قوله: {كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} أي: كل من يجرم فهذا جزاؤه، فنفعل به كما فعلنا بالسابقين. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الأحقاف [24 - 28]

تفسير سورة الأحقاف [24 - 28] يذكر الله تعالى هنا قصة قوم عاد الذين أرسل إليهم رسوله هوداً يدعوهم إلى الله وعبادته وطاعته، فقابلوه بالكفر والعناد والإعراض، ولم يغن عنهم ما سمعوا وما رأوا مما أصاب الأمم قبلهم من العذاب والنكال، ولم يعتبروا بذلك، فكان الجزاء من جنس العمل، حيث أرسل الله عليهم الرياح فاقتلعت بيوتهم وخيامهم، وخربت ديارهم، وجعلتهم عبرة وعظة وآية لكل الناس إلى يوم القيامة.

تفسير قوله تعالى: (فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم)

تفسير قوله تعالى: (فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الأحقاف: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ * وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأحقاف:24 - 27]. ذكر الله عز وجل في هذه السورة قصة عاد الأولى، وكيف أن الله سبحانه وتعالى أهلكهم من حيث ظنوا أنهم آمنون، من حيث ظنوا أنهم يأتيهم الرزق (المطر)، فكان عذاباً أليماً، وريحاً شديدة تدمر كل شيء بأمر ربها، فقد أرسلوا وافدهم ليدعو ربه سبحانه وتعالى، فلما ذهب إلى جبال مكة ليدعو هنالك رأى سحابات في السماء، فقيل له: اختر، فاختار سحابة سوداء، فكانت هلاكاً ودماراً على قومه، وقيل له: خذها رماداً رمدداً لا تبقي من عاد أحداً، فكان فيها العذاب، وأرسل الله عز وجل عليهم الرياح الشديدة التي اقتلعتهم من الأرض، ورفعتهم ثم هوت بهم على رءوسهم، فكانوا كأعجاز نخل خاوية، فلم يبق الله لهم باقية سبحانه.

من مظاهر قدرة الله تعالى

من مظاهر قدرة الله تعالى قال سبحانه: ((فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ)) أي: سحابات تعترض السماء، ((قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا)) أي: أن هذه السحابات ستمطرنا، فقيل لهم: ((بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ)) أي: هو العذاب الذي استعجلتم به، هذا العذاب ريح فيها العذاب الأليم، وهي تدمر كل شيء، فأرسلها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً، {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة:7]، أي: لو كنت هناك لرأيت القوم فيها صرعى، {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ}. {وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [فصلت:18]، فأنجى الله سبحانه وتعالى هوداً والمؤمنين الذين معه، وهذا من الأمر العجيب، أن تأتي الرياح الذي فيها العذاب الأليم والشديد فتختار أناساً فترفعهم إلى السماء، وتهوي بهم إلى الأرض، فتشدخ رءوسهم وتتركهم جثثاً هامدة، وتدفنهم الرمال، وتترك أناساً لقوة إيمانهم وقوة يقينهم فلا تؤثر فيهم شيئاً، فالريح هبت على القوم جميعهم، فأنجى الله عز وجل الذين آمنوا وكانوا يتقون، فهذا هود عليه السلام اجتمع معه المؤمنون الأتقياء في مكان، والريح هبت فأهلكت من شاء الله عز وجل من هؤلاء.

تفسير قوله تعالى: (تدمر كل شيء بأمر ربها)

تفسير قوله تعالى: (تدمر كل شيء بأمر ربها) قوله: ((تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ)) وهذا من باب العام المخصوص، فهي لم تدمر كل شيء، فلم تدمر هوداً، ولم تدمر المؤمنين الذين معه، وهذا كما يقول الأصوليون: قد يأتي العموم ويراد به الخصوص، وقد يأتي العموم الذي يخصص إما بالنص، وإما بالإجماع، وإما بالعقل، وإما بالعرف ونحو ذلك، فهذا من العموم الذي يخص بما دل النص عليه، ويخص بالعقل أيضاً. فهنا الرياح دمرت كل شيء أراد الله عز وجل تدميره، أما ما لم يرد تدميره فلم يدمر، ولذلك في الآية نفسها يقول الله: ((فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ)) فالمساكن لم تدمر، ولو أراد الله عز وجل لدمر كل شيء، ولكن دفن هذا كله بالرمال، فالرمال تؤمر لتدفن هؤلاء ولا تدفن المؤمنين، فالله عز وجل فعله عظيم، ومثل هذا الشيء شاهده أصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه في يوم الخندق، فكان الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم في غاية الرعب والفزع من الكفار، وقد تجمع عليهم الأحزاب من كل مكان، فما كان من أهل المدينة إلا أن أخذوا برأي بعضهم في حفر خندق يمنع وصول المشركين إليهم؛ لأنهم لا يستطيعون مواجهة هذا العدد الضخم من الكفار، ويبقى اليهود من ورائهم يحمون ظهورهم، لكن اليهود نقضوا العهد مع المسلمين، فأصبح المؤمنون في غاية الخوف والرعب، وفي هذه الظروف الحرجة تأتي ريح شديدة، وبرودة شديدة، والصحابة ما زالوا يرتعشون ويرتجفون، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من يأتينا بخبر القوم؟ -وهو على يقين أن الله سينصره- فلا أحد يجيب من شدة البرد ومن شدة الخوف، ثم قال: قم يا حذيفة! ولولا أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إليه لما قام أحد، فقام حذيفة وتوجه إلى جيش المشركين، فقال رضي الله عنه: فكأني أسير في حمام)، والحمام هو مكان الحميم، وهو الماء الساخن، فكان الفرق شاسع بين رياح جيش المسلمين ورياح جيش المشركين، فما إن وصل إلى معسكر الشرك وجد أمراً يخيف، فوجد الرياح تقتلع خيامهم، وتكفئ قدورهم، والعجب أن المكان واحد، فهنا المسلمين وهناك المشركين، والريح آتية على الجميع، لكن هنا صورة وهناك صورة أخرى، فسبحان مقلب الأمور، فيقلبها كيف يشاء، فأرسل الرياح ليقول لنا: قوم عاد فعلنا بهم كذا وكذا، وأنجينا المؤمنين منهم، كما أنجينا النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه في يوم الأحزاب، وذلك عندما جاءت الريح على الجميع. وفي يوم بدر لما أنزل الله عز وجل المطر جعله تثبيتاً للمؤمنين، وتخويفاً لهؤلاء الكافرين، وجعله أمنة للمؤمنين ليطهر به قلوبهم، ويثبت به أقدامهم، ويذهب عنهم الرجز والآلام التي في أنفسهم، وأما الكفار فيخزيهم ويكبتهم سبحانه وتعالى. قال تعالى: ((تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا)) فكل شيء راجع إلى أمره سبحانه، فهو الذي أمر الرياح بتدمير هؤلاء، فدمرت هؤلاء، ((فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ)) فأصبح الذاهب إلى هنالك لا يرى إلا المساكن، وأما الأقوام فقد دفنوا تحت الأرض. {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة:7] صُرع القوم، ثم دفنوا تحت الرمال هم وبيوتهم. قال سبحانه: ((فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ)) أي: هذا حكمنا فيمن كذب رسلنا وخالف أمرنا، و (ذلك) اسم إشارة للبعيد، وقد يكون للشيء العظيم الذي حدث، وهو أن هؤلاء كانوا في غاية القوة فأهلكهم الله هلاكاً عظيماً، وكذلك هو إهلاكنا وعقابنا لكل مجرم يحاد الله ورسوله.

تفسير قوله تعالى: (ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه)

تفسير قوله تعالى: (ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه) قال تعالى: ((وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ)) أي: مكنا لهؤلاء القوم، فأعطيناهم القوة العظيمة، والأبدان الصحيحة، والتمكين في الأرض، لكن عتوا في الأرض وأفسدوا فيها، ((وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ)) و (إن) هنا تحتمل معانٍ كلها صحيحة، ((وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ)) فتحتمل أن تكون: صلة، فيكون التقدير: ولقد مكناهم في الذي مكناكم فيه، وأعطيناكم مثل ما أعطيناهم، وإن كان هناك فرق كبير بينكم وبينهم، فهم كانوا عمالقة وأقوياء. وتحتمل أن تكون: شرطية، فيكون المعنى: إن أعطيناكم مثل ما أعطيناهم من القوة وعظم الأجساد فإنكم ستفسدون وتعثون في الأرض مثل ما فعلوا، وأنتم الآن على ضعفكم تفسدون في الأرض، فكيف إذا كنتم مثلهم! وتحتمل (إن) معنىً آخر وهو: النفي، فيكون المعنى: (ولقد مكناهم فيما لم نعطكم مثله). فقوله: (فيما إن مكناكم فيه) أي: في الشيء الذي أعطيناكم مثله، وهذا صحيح، وتفسير: فيما لم نعطكم مثله أيضاً صحيح، فتفسير: (أعطيناكم مثله) أي: أعطيناهم أرضاً وأعطيناكم أرضاً، وأعطيناهم رزقاً وأعطيناكم رزقاً، لكن لم نعطكم ما كانوا فيه من قوة عظيمة، ((كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ)) فكان هؤلاء الأقوام ذو طول وقوة في البدن، فكان أحدهم ينحت الجبل فيعمل منه بيتاً فارهاً له. إذاً: فقد أعطيناكم مثل ما أعطيناهم في بعض الأشياء، فأعطيناكم رزقاً وعقولاً تفكرون بها، ورسالة جاءتكم تدعوكم إلى الله سبحانه، وأعطيناهم شيئاً لم نعطكم إياه، فأعطيناهم القوة العظيمة التي لم نعطكم مثلها في أبدانكم، وإن كنا عوضناكم بشيء آخر مكانه، فأعطيناكم عقولاً تفكرون بها كيف تصنعون الطائرات والدبابات، والآلات التي تخرقون بها الأرض، والتي تبنون بها العمائر، وأما الأبدان فلم نعط أحداً مثل هؤلاء الأقوام.

تمكين الله للأمم السالفة في الدنيا

تمكين الله للأمم السالفة في الدنيا قوله تعالى: ((وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً))، وأنتم أيضاً أعطيناكم السمع والأبصار والأفئدة، ((فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ))؛ لأنهم كانوا يجحدون بآيات الله. وهناك فرق بين الجاحد والمنكر: فالمنكر: قد يظن في نفسه أنه صادق في ذلك، فتقول له: أنا أعطيتك حاجة كذا وكذا، فيقول لك: لا، ما أعطيتني، فلعله يكون ناسياً، لكن إذا نفى ذلك وكان ذاكراً فهو جاحد، فالجاحد هو الذي ينكر مع معرفته في نفسه وإقراره في قلبه أنه أخذ هذا الشيء. فهؤلاء جحدوا بآيات الله وكذبوا رسل الله عليهم الصلاة والسلام، فهم يعرفون أن هذا النبي حق ومع ذلك كذبوا، وهم مقتنعون وموقنون أنه على الحق، لكن جحدوا وكذبوا، فاستحقوا العقوبة الشديدة، ولذلك طبع الله على قلوبهم فلم تنفعهم النذارة، ولم يخافوا من عذاب الله عز وجل، حتى بغتهم العذاب فلم ينفعهم شيء. قال سبحانه: ((فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ)) وهنا نرجع لقضاء الله وقدره، فمن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلله فأولئك هم الغافلون، وأولئك هم الظالمون، فالله سبحانه تبارك وتعالى يهدي فضلاً منه سبحانه، ويضل بعدل منه سبحانه، فهؤلاء استحقوا أن يطبع الله على قلوبهم، وألا ينتفعوا بما يشاهدون من الآيات، وألا ينتفعوا بما يسمعونه من الحكم والعبر؛ لأنهم كانوا يجحدون بآيات الله، ويكذبون بالحق الذي يعرفون، فلا يستحقون أن يبصروا، ولا أن تنار قلوبهم، فلذلك طمس الله عليها وأظلمها، فقال: ((إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ)) أي: أحدق بهم ونزل بهم نزول إحاطة، فنزل العذاب نزولاً فظيعاً عظيماً محيطاً بهم، فلم يفلت منهم أحد. قال: ((وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون)) فحاق بهم نتيجة ما طلبوه، فهم طلبوا من رسولهم عليه الصلاة والسلام، {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [هود:32] ضحكوا منه، وسخروا به، فجاءهم العذاب من عند الله سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى)

تفسير قوله تعالى: (ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى) ثم قال لمشركي مكة: تذكروا ما حدث لهؤلاء القوم، وكيف أصبناهم بالعذاب في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأحقاف:27] يعني: أنه قد أهلك الله الأمم المكذبة بالرسل ممن كانوا حول مكة، كثمود، وأصحاب الأيكة، وقوم لوط في الشمال، وقوم عاد في الجنوب، وفرعون وقومه في الغرب، وغيرهم ممن كذبوا وأعرضوا وجحدوا. قوله: (وصرفنا الآيات) أي: بيناها وأوضحناها بالحجج التي في القرآن، والتي يقولها الرسل، والدلالات، وأنواع البيانات والعضات من الله عز وجل، وقد بينا لكل قوم ولكل قبيلة ما ينذرون به، وما يخوفون به، ومع ذلك لم يرجعوا عن غيهم، قال: ((لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)) , فلم يرجعوا، فجاءهم عذاب رب العالمين سبحانه.

انكشاف تدليس المشركين

انكشاف تدليس المشركين قال تعالى: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً} [الأحقاف:28] و (لولا) بمعنى: هلا، وهي للتحضيض والحث، أي: هل نصرتهم هذه الآلهة لما جاءهم عذاب رب العالمين! فأين الآلهة التي كانوا يدعونها دون الله؟! ((فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً)) أي: اتخذوهم آلهة يعبدونهم متقربين بذلك إلى الله، فقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، وكذلك المشركون يدلسون ويفترون على الله الكذب، فحينما كانوا يعبدون الأصنام يتأولون لأنفسهم فيقولون: نحن نعبد هذه الأصنام من أجل أن تقربنا إلى الله سبحانه وتعالى، فيكذبون ويفترون، والله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً له سبحانه، موافقاً لما يريده سبحانه. {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ} [الأحقاف:28]، فالآلهة ضلت عن أقوامهم، والأقوام ضلوا عن آلهتهم، ((بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ)) ففي وقت الشدة والضيق، ونزول العذاب ما نفعتهم هذه الآلهة التي يدعونها من دون الله، فلم تكشف عنهم العذاب وقت مجيئه، ولم يقولوا: يا آلهتنا! وإنما قالوا: يا الله! فلم ينفعهم ذلك، قال: {بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ}، وضل بمعنى: تاه وبعد، والإفك: الكذب، وكأنه يقول: هذا إفكهم إن افتروا واتخذوا آلهة من دون الله، فكانت النتيجة عقوبة الله سبحانه، {وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأحقاف:28]، فزعموا أن الآلهة تنفع وتضر مع الله، فلم تنفعهم شيئاً، {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [هود:8]. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الأحقاف [29 - 31]

تفسير سورة الأحقاف [29 - 31] لقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم قومه إلى عبادة الله وترك عبادة الأوثان والأنداد، فلم يستجيبوا له، بل آذوه وحاربوه، فلما يئس منهم خرج إلى الطائف؛ لعله يجد من يؤمن به وينصره ويؤويه، ولكنهم قابلوه بنفس الصنع أو أشد، فسلاه رب العباد وطمأن قلبه بمن آمن به من الجن، حيث استمعوا له منصتين ببطن نخلة، ثم رجعوا إلى قومهم منذرين، فهذه هداية الله يعطيها من يشاء من عباده.

تفسير قوله تعالى: (وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن)

تفسير قوله تعالى: (وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين، وبعد: يقول الله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأحقاف:29 - 32]. يقول تعالى مخبراً نبيه صلى الله عليه وسلم: ((وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ)) هذه السورة سورة مكية، وقد نزلت لما كان صلى الله عليه وسلم في مكة يدعو إلى الله.

خروج الرسول إلى الطائف للدعوة إلى الله

خروج الرسول إلى الطائف للدعوة إلى الله يقول ابن عباس رضي الله عنه: لما مات أبو طالب خرج النبي صلى الله عليه وسلم وحده إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصرة، ويدعوهم إلى الله عز وجل لعلهم يستجيبون له بعد إعراض أهل مكة عنه وأذيتهم له، فلم يتوجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف مهاجراً وإنما داعياً إلى الله عز وجل بإذنه، فلما وصل إلى الطائف قصد أناسا ًمن كبارهم وهم عبد ياليل ومسعود وحبيب، ثلاثة إخوة أبناء عمرو بن عمير وعندهم امرأة من قريش فدعاهم إلى الإيمان وسألهم أن ينصروه على قومه. والأصل أن الذي يدعوك إلى أمر فإما أن تستجيب وأما أن تنصرف عنه، لكن هؤلاء استهزءوا به صلى الله عليه وسلم، فقد دعاهم إلى الله عز وجل الذي خلقهم ورزقهم، والذي هو أحق بالعبادة من غيره، فقال له أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك، والمعنى: أنه مستحيل أن الله عز وجل يكون قد أرسلك. وقال السافل الثاني: أما وجد الله أحداً غيرك يرسله؟ وهذا سوء أدب منهم وخفه، فلم ينظروا إلى الرسالة وإنما نظروا إلى الرسول، وهذا فعل اليهود، فقد قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إذا كان السفير بينك وبين الله هو جبريل فلن نؤمن بما جئت به، فلم ينظروا إلى مضمون ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما نظروا إلى جبريل، فما دام وأنه هو الذي ينزل بالوحي فلن يؤمنوا، ومع ذلك كان النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه يحلم عنهم. وقال الثالث للنبي صلى الله عليه وسلم: والله لا أكلمك كلمة أبداً، فإذا كنت رسولاً فأنت أعظم من أن أكلمك، وإذا لم تكن رسولاً وأنت كذاب، فأنت أحقر من أن أكلمك. فلم يستجيبوا له صلى الله عليه وسلم، بل أغروا به سفهائهم وعبيدهم يسبونه ويضحكون عليه صلى الله عليه وسلم، حتى اجتمع عليه الناس وألجئوه إلى حائط ل عتبة وشيبة ابني ربيعة وعتبة وشيبة أبنا ربيعة من مكة، ولكن لهم حائط في ذلك المكان. فظل هؤلاء وراء النبي صلى الله عليه وسلم يرجموه بالحجارة ويسبونه ويشتمونه، وهو ينصرف عنهم صلوات الله وسلامه عليه، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان له مكانته العظيمة عند الله، ولكن الله عز وجل أراد أن يعلم الخلق الحلم والأدب والصبر والعفو، وعدم الانتقام، وعدم الدفع إلا بالتي هي أحسن. فلما وصل إلى ذلك البستان إذا بـ الجمحية وهي امرأة من بني جمح القرشية، وكانت زوجة لواحد من هؤلاء، وصعب عليها النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنها لا تقدر أن تعمل له شيئاً، فكأنها كلمت النبي صلى الله عليه وسلم تواسيه، فقال لها: (ماذا لقينا من أحمائك)، أي: انظري إلى فعلهم بنا، صلوات الله وسلامه عليه.

شكوى الرسول الكريم إلى ربه

شكوى الرسول الكريم إلى ربه لما لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم حيلة مع أهل تلك البلدة شكا إلى ربه سبحانه وقال: (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس) وذلك لأن هؤلاء لم يستجيبوا له، وفي مكة كذلك استجاب له عدد قليل قد لا يصل إلى مائة، ومع ذلك كانوا مستخفين إلى أن دخل عمر وحمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم في الإسلام، وبدأ المسلمون يظهرون، وإلى هذا الوقت والنبي صلى الله عليه وسلم يدعو ربه ويقول: (أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين! أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، لمن تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أو إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي)، وهذا كلام عظيم منه صلى الله عليه وسلم فلم يعترض على ربه، وأهم شيء لديه هو أن يرضى عنه ولا يغضب عليه، فالله عز وجل حين يوجه إلى العبد مصائب الدنيا فإما أنه يستحق تلك المصائب بسبب الذنوب التي فعلها، وإما أن يكون له درجات عند الله لا يبلغها إلا بذلك. فكأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لله عز وجل إني راضٍ بما يحدث لي، ولا أبالي به إذا لم تكن غضباناً علي، ثم قال: (ولكن عافيتك هي أوسع لي) وهذا استدراك منه صلى الله عليه وسلم، والمعنى: أني مع ذلك غير قادر على هذا البلاء، فرحمتك وعافيتك أوسع، فإنها تسع كل خلقك، ثم قال: (أعوذ بنور وجهك من أن ينزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى) أي: إلى أن ترضى، فسوف استمر في الدعوة إليك وأصبر على البلاء حتى ترضى، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ولا حول ولا قوة إلا بك).

حلمه صلى الله عليه وسلم وعفوه عمن آذاه

حلمه صلى الله عليه وسلم وعفوه عمن آذاه لقد أرانا الله عز وجل حكم وكرم النبي صلى الله عليه وسلم بأن نزل عليه جبريل، وأتى إليه ملك الجبال، فقال له جبريل: إن ملك الجبال يقول: إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين، وهما جبلان عظيمان يحيطان بهؤلاء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا، ولكن أرجو الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً) أي: لعل من ذريتهم من يؤمن بالله، فكان من أمر الله عز وجل أن أخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيء.

تصديق عداس بالرسول الكريم

تصديق عداس بالرسول الكريم كأن عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وهما ذاهبان إلى حائطهم في الطائف سمعا يأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فصعب عليهما ما حل به رغم أنهمها كافران لم يؤمنا به، وقد قاتلاه في يوم بدر، فقالا لغلام لهما نصراني اسمه عداس: خذ قطفاً من العنب وضعه في هذا الطبق، ثم ضعه بين يدي هذا الرجل، ولم يذهبا إليه؛ هروباً من دعوته إياهما إلى الإسلام، فوضعه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ النبي قطفاً من العنب ليأكله وقال: (بسم الله، فلما سمعه الغلام العبد النصراني نظر إلى وجه صلى الله عليه وسلم ثم قال: والله! إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة، -لأنه كان له معرفة ببعض الأديان- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من أي البلاد أنت يا عداس؟! وما دينك؟) قال: أنا نصراني من أهل نينوى، من شمال العراق، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟)، وكان الكفار لا يعرفون الأنبياء إلا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وكانوا يسمعون عن موسى وعن المسيح عيسى، ولكن لا يعرفون التفاصيل، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان في مكة لا يعرف ذلك إلا أن الله سبحانه وتعالى علمه. فقال الغلام لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول ذلك: وما يدريك ما يونس بن متى؟ -لأنه لا يوجد من العرب من يعرف يونس بن متى عليه الصلاة والسلام، -فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذاك أخي كان نبياً وأنا نبي)، فانكب عداس حتى قبل رأس النبي صلى الله عليه وسلم ويديه ورجليه، فلما رأى شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة ذلك منه قالا له: لم فعلت هذا يا عداس؟! فقال: ما في الأرض خير من هذا، أخبرني بأمر لا يعلمه إلا نبي. وكان المفترض على هؤلاء لما عرفوا أنه نبي صلى الله عليه وسلم أن يتبعوه ولا يحاربوه، ولكن الرئاسة قد تمنع الإنسان من اتباع الحق، وهؤلاء كانوا سادة في أقوامهم، فكيف يستجيبون لهذا الرجل ويكونون أتباعاً له؟! فالإنسان قد يرفض الحق بعد معرفته بسبب ما هو فيه من أمر الدنيا، ففضل الدنيا على الآخرة.

وصول الرسول إلى وادي نخلة وسماع الجن للقرآن

وصول الرسول إلى وادي نخلة وسماع الجن للقرآن قال ابن عباس رضي الله عنه: ثم انصرف النبي صلى الله عليه وسلم حين يئس من خير ثقيف، حتى إذا كان ببطن نخلة -وكان بينها وبين مكة ثلاثة عشر كيلو متراً، وقد مشاها صلوات الله وسلامه عليه على قدميه- قام يصلي من الليل صلى الله عليه وسلم. فمن فضل الله سبحانه أن بعث له من يستجيب لدعوته بعد أن رفضها أهل الطائف، فأرسل إليه نفراً من الجن من أهل نصيبين -مكان في اليمن- وكان ذلك سبباً لهدايتهم، فقد كانوا يسترقون السمع من السماء وينزلون إلى الأرض، فيأخذون الكلمة ويزيدون عليها ويكذبون بها على الخلق، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم إذا بالجن التي تسترق السمع تلقى عليها الشهب الثاقبة من السماء فتحرقها. فقالوا: هناك أمر قد حدث في الأرض منعنا من استراق السمع، فبعث إبليس سرية من أشرف الجن فداروا في الأرض حتى وصلوا إلى تهامة، فلما بلغوا بطن نخلة سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الغداة ويتلوا القرآن، فاستمعوا له وقال بعضهم لبعض: أنصتوا، قال الله تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:19]، فكأن الجن جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسمعون له وازدحموا عليه حتى صاروا لبداً، أي: صار بعضهم فوق بعض. فقال الله له ممتناً عليه: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} [الأحقاف:29]، فعندما لم يؤمن الإنس جاء الجن فأمنوا بك، وهذا فيه تثبيت له صلى الله عليه وسلم. وفي هذه الحادثة كان النبي صلى الله عليه وسلم وحده؛ لأن ابن مسعود: رضي الله عنه عندما سأله أحدهم: هل شهد منكم أحد مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ فقال ابن مسعود: لا، فكأنه يقصد في هذه المرة، وفي المرة الأخرى ذكرنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد الترمذي والدارمي عن النبي صلى الله عليه وسلم عن ابن مسعود: أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم. وإن كان يحتمل أنه لم يسمع ولم يحفظ كلام النبي صلى الله عليه وسلم عن الجن، فقد خط له النبي صلى الله عليه وسلم خطاً ونهاه أن يخرج من هذا الخط إلى أن يرجع إليه، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم ودعا الجن، ثم رجع إلى ابن مسعود كما قدمنا في الحديث السابق.

الجن يعلنون إسلامهم ويدعون قومهم إلى الإسلام

الجن يعلنون إسلامهم ويدعون قومهم إلى الإسلام يقول الله عز وجل ((وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا)) والنفر: هو المجموعة من الجن، وقد جاءوا للنبي صلوات الله وسلامه عليه، ((يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ))، فبعد أن كان يذهب إلى الإنس يسمعهم القرآن جاء إليه الجن ليستمعوا له، فقالوا: (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن:1] أي: هذا كلام عظيم جميل، {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الجن:2]. يقول هنا ربنا سبحانه ((فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا)) أي: أمر بعضهم بعضاً بسماع الكلام من النبي صلى الله عليه وسلم، فجلسوا ساكتين يستمعون القرآن، وهذا من أدبهم، وكان مما تلى عليهم صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن، وهي تلقب بعروس القرآن، وقد تلاها النبي صلى الله عليه وسلم على الصحابة فسكتوا لما سمعوها، فقال: (لقد كانت الجن أحسن رداً منكم)؛ لأنهم سمعوا واستوعبوا من النبي صلى الله عليه وسلم، فكان كلما تلا عليهم {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13] يقولون: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد، فتليت عليهم إحدى وثلاثين مرة، وهم يرددون: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد. قال الله تعالى: ((فَلَمَّا قُضِيَ))، أي: لما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم من قراءة القرآن على هؤلاء ((وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ)) أي: ينذرون قومهم ويخوفونهم ويقولون لهم: ((يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ))، ففي هذه المرة دعا النبي صلى الله عليه وسلم الجن فرجعوا إلى قومهم منذرين، وجاءوا إليه أيضاً مرة أخرى، ففي صحيح مسلم عن معن يذكر عن أبيه عن مسروق أنه سأل: من آذن النبي صلى الله عليه وسلم بالجن ليلة استمعوا القرآن؟ أي: من أعلم النبي صلى الله عليه وسلم بأن الجن يسمعون منه القرآن؟ فقال: حدثني ابن مسعود رضي الله عنه أنه آذنته بهم شجرة. وهذه معجزة من الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم في أن الجن جاءوا ليستمعوا منه القرآن، وحتى لا يخاف النبي صلى الله عليه وسلم من الجن آذنته شجرة، فجاء الجن وسمعوا منه.

تفسير قوله تعالى: (قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى)

تفسير قوله تعالى: (قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى) فلما رجعوا إلى قومهم منذرين {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف:30] وهذا كعادة القرآن في ذكر كتاب موسى وكتاب محمد صلى الله عليه وسلم، لأن كتاب موسى كان كتاب شريعة، وأما الإنجيل كتاب عيسى عليه الصلاة والسلام فلم يكن كتاب شريعة، وإنما كان كتاب حكم ومواعظ، وبشارة لمجيء النبي صلى الله عليه وسلم، وعندما يقال: العهد الجديد والعهد القديم فإن القديم هو التوراة التي فيها الشريعة. فإذا قيل الكتاب الذي قبل القرآن فهو كتاب موسى عليه الصلاة والسلام الذي فيه التشريع من الله سبحانه وتعالى، فكأن الجن قالوا: هذا كتاب تشريع كما كان كتاب موسى كتاب تشريع. وقوله تعالى: ((مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ)) أي: مصدقاً للكتب السابقة وما جاء فيها من التشريعات والعقائد، من قصص الأنبياء. وقوله: ((يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ)) أي: يهدي إلى أمر الله عز وجل، وإلى الطريق المستقيم، وهو الطريق الموصل إلى جنة الله ورضوانه. قال الله تعالى: ((يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ)) فالجن يطلبون من أقوامهم أن يستجيبوا للنبي صلى الله عليه وسلم، ويؤمنوا به، فإن فعلتم ذلك فالله يغفر لكم من ذنوبكم بفضله وكرمه، وبسبب استجابتكم، ولأن الإسلام يجب ما قبله كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: ((يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)). نسأل الله عز وجل أن يغفر لنا ذنوبنا، وأن يجيرنا من عذابه سبحانه. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الأحقاف [30 - 35]

تفسير سورة الأحقاف [30 - 35] ذكر الله تعالى في هذه الآيات أن نفراً من الجن سمعوا هذا القرآن الكريم البليغ المعجز، فدهشوا لسماعه، وتعجبوا من عظمته، فولوا إلى قومهم منذرين، فأخبروا قومهم بما سمعوه من العجب، وذكروا لهم صفته، وأنه يهدي إلى الرشد وإلى الطريق المستقيم، ثم نصحوا قومهم بأن يتبعوا دين الله تعالى، فإن هم فعلوا ذلك كان لهم الأجر العظيم، وإن لم يفعلوا ذلك فإنهم لا يعجزون الله شيئاً، ولا يضرون إلا أنفسهم.

تفسير قوله تعالى: (وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن)

تفسير قوله تعالى: (وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة الأحقاف: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} [الأحقاف:29 - 35]. ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات كيف أنه صرف مجموعة من الجن يستمعون القرآن من النبي صلوات الله وسلامه عليه، وهذا كان في مكة بعد موت أبي طالب، وموت خديجة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ازداد ابتلاء الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم، وازداد أذى المشركين له، فخرج يدعو أهل الطائف فتلقوه بما ذكرنا في الحديث السابق، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكان اسمه نخلة، وهنالك ساق الله عز وجل إليه مجموعة من الجن فاستمعوا منه القرآن، وصدقوه، ورجعوا إلى قومهم ليبلغوهم وينذروهم، فقالوا: ((يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ)). إنه كتاب عظيم جاء من بعد موسى عليه الصلاة والسلام، وفيه شريعة من الله كما كان كتاب موسى فيه شريعة من الله سبحانه وتعالى، مصدقاً الكتب السابقة، وللرسل السابقين عليهم الصلاة والسلام. وقوله: (يهدي إلى الحق) أي: يدل على طريق الله سبحانه، وإلى الحق الذي يريده الله، كما يدل على الإله الحق المعبود سبحانه وتعالى، ويهدي إلى طريق مستقيم، أي: طريق الشريعة الموصل إلى جنة الله عز وجل. قال الله تعالى عن الجن أنهم قالوا لقومهم: ((يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ)) فالجن يدعون قومهم ويقولون: يا قومنا، والرسل يدعون أقوامهم ويقولون: يا قومنا، وهذه الكلمة فيها ما فيها من اللطف بمن تدعوه، فحين تقول للإنسان: يا إنسان! افعل كذا، فقد يستشعر أنه شيء وأنت شيء آخر، وحين تقول له: يا أخي! أو تدعو المجموعة: يا قومنا! فإن هذا يجعلهم يألفون من يدعوهم، ويحسون أنه يخاف عليهم من عذاب الله سبحانه. قال الله تعالى: {قَاْلُوْا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} فبدءوا بالدليل النقلي قبل مخاطبة العقل، فالنقلي: أنه كتاب جاء من عند الله عز وجل سمعناه ولم نقله من عندنا، وقد جاء من بعد موسى على محمد صلوات الله وسلامه عليه، ووجدناه يهدي ويدل على الطريق المستقيم وإلى الجنة. وقوله: (يا قومنا أجيبوا داعي الله) أي: ما جاءكم من عند الله سبحانه، واسمعوا وعوا كلام رب العالمين. وقوله: (وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم) فيه أن الذي يدخل في دين الله عز وجل الله فإنه يغفر له من ذنوبه، وكأن (من) هنا للدلالة على جنس الذنوب، وليس المقصود بها بعض الذنوب فقط، فالإسلام يغفر به الله عز وجل جميع الذنوب، ويجب ما كان قبله من الكفر والمعاصي بشرط الإحسان في الإسلام، فلو أن إنساناً كان كافراً سواء كان يهودياً أو نصرانياً أو وثنياً، أو في أي ملة من الملل غير الإسلام ثم أسلم وتاب وآمن وعمل صالحاً فالله يغفر له جميع ما فعله قبل ذلك، ولكنه لو أسلم ولم يعمل صالحاً، ولم يستمع لما يقوله الله سبحانه فقد تنفعه كلمة التوحيد يوماً من الدهر، ولكنه قد يؤاخذ على كل ما عمل من ذنوب قبل الإسلام وبعده، فلابد أن يحسن في الإسلام، فيصلي ويصوم ويزكي ويفعل الطاعات ويمتنع من المعاصي، وهذا الذي جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما رجل أسلم فأحسن غفر الله عز وجل له ذنوبه، ومن أسلم ولم يحسن أخذ بالأول والآخر) أي: بالذي فعله قبل ذلك والذي يفعله بعد إسلامه؛ لأنه لابد للإنسان المسلم من أن يظهر عليه أثر الإسلام، وإن كانت كلمة التوحيد وهي العهد والميثاق الذي بينه وبين الله عز وجل لا تجعله خالد مخلداً في نار جهنم كالكفار، ولكنه قد يستوجب النار والعذاب إلى ما شاء الله سبحانه وتعالى، ثم يخرج منها إلى الجنة. لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم مبعوثاً إلى الجن وإلى الإنس وإلى جميع الخلق، فدعاهم صلى الله عليه وسلم فاستجابوا له.

الخمس الخصال التي خص بها النبي صلى الله عليه وسلم دون سائر الأنبياء

الخمس الخصال التي خص بها النبي صلى الله عليه وسلم دون سائر الأنبياء جاء في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي) إن الله عز وجل ميز النبي صلى الله عليه وسلم بخمس خصال من فضله وكرمه، ولم يكن لأحد من الأنبياء مثل ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: (كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود) أي: أنه بعث إلى الخلق جميعهم، الأحمر والأسود، والعربي والعجمي، والإنس والجن، فهذه خصيصة لم تكن إلا له وحده صلوات الله وسلامه عليه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي)، فقد رحم الله عز وجل به هذه الأمة وأعطاهم الغنائم، وقد كان الأنبياء قبل النبي صلى الله عليه وسلم لا يحل لهم الانتفاع بها، فإذا قاتلوا وغلبوا أعداءهم أخذوا الغنائم ووضعوها فوق الجبل وتركوها، فتنزل نار من السماء فتحرقها، ويكون ذلك دليلاً على أن الله قد قبل منهم هذا الجهاد، ولكن في شريعتنا رحم الله عز وجل هذه الأمة فأباح لهم أن ينتفعوا بهذه الغنائم. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وجعلت لي الأرض طيبة طهوراً ومسجداً)، فالذي يريد أن يصلي فمسجده الأرض، وفيها طهوره، فإذا لم يجد ماء يتوضأ به فليتيمم من الأرض، وله أن يركع ويسجد على تراب الأرض، فلا يحتاج إلى سجادة ولا حصيرة، فالأصل أن الأرض طاهرة، إلا إن علمت النجاسة في موضع فلينتقل الإنسان إلى موضع آخر ليس بنجس، وهذا تيسير عظيم من الله سبحانه في أمر الوضوء والاغتسال، فالبدل من ذلك هو التيمم. وقد كان السابقون يحتاجون إلى مكان يصلون فيه، وأما نحن فلا نحتاج إلى ذلك، ففي أي مكان أدركتنا الصلاة صلينا، فإذا لم يوجد المسجد صلاها المسلم في أي مكان من الأرض، وأما السابقون فكانوا ملزمين بأن يصلوا في المساجد، ولذلك قال الله عز وجل لموسى عليه السلام وأخيه {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} [يونس:87]؛ لأن آل فرعون منعوهم من الصلاة والعبادة في المساجد، فأمرهم الله أن يجعلوا بيوتهم إلى القبلة، وأن يصلوا في بيوتهم، فالأصل عندهم ألا يصلي الإنسان في بيته، ولكن للضرورة التي وقعوا فيها من إيذاء فرعون وجنوده لهم رخص لهم في ذلك، وأما نحن فالأرض لنا مسجد وطهور، فإذا وجد المسجد فيلزم المسلم أن يذهب إليه، وإذا لم يجد المسجد صلى في أي مكان هو فيه. قال صلى الله عليه وسلم: (فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل -أي: حيث كان-، ونصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر) أي: أنه صلى الله عليه وسلم نصر بالرعب، فجعل الله له جنوداً من الإنس ومن الملائكة، وجنوداً مما شاء الله عز وجل مما يبثه في قلوب أعداءه، ومن ذلك الرعب، فأيما عدو سمع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قادم إليه جعل الله عز وجل في نفسه الرعب والخوف من النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل الله له من الجنود ما يعلم ومالا يعلم صلوات الله وسلامه عليه. قال: (وأعطيت الشفاعة)، فأعظم عطاء من الله سبحانه لنبيه أن يشفع في فصل القضاء يوم القيامة، ويطلب من الله عز وجل أن يفصل القضاء بين العباد، وله شفاعات أخرى معلومة.

عموم دعوته صلى الله عليه وسلم للجن والإنس

عموم دعوته صلى الله عليه وسلم للجن والإنس ذكر الله عز وجل عن الجن أنهم قالوا لقومهم: ((يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ))، وداعي الله هو النبي صلى الله عليه وسلم، ومعنى آمنوا به أي: آمنوا بالله سبحانه وتعالى. وقوله: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:31] أي: يغيثكم من عذاب النار يوم القيامة، فالجن فيهم منذرون، لكن لم يذكر الله لنا أن فيهم رسلاً منهم، إلا أنهم يسمعون أنبياء الله عز وجل من البشر ويبلغون أقوامهم، فهؤلاء سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم، فذهبوا وبلغوا قومهم وقالوا لهم: استجيبوا لربكم. وأما قول الله عز وجل: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام:130] فهذا جاء على التغليب، فمعنى رسل منكم أي: من الإنس للجميع، كما تقول للشمس والقمر: الشمسان، وهي شمس واحدة، ولكنه غلب واحد من الاثنين، وتقول: العمران، وتقصد أبا بكر وعمر رضي الله تبارك وتعالى عنهما، وهو عمر واحد وليس اثنين، وقلنا: العمران ولم نقل: البكران؛ لأن العمران أسهل. فهذا أيضاً من هذا الباب، فالمقصود بـ (رسل منكم) أي: من جنس واحد من الاثنين وهو الإنس.

تفسير قوله تعالى: (ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض)

تفسير قوله تعالى: (ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض) قال سبحانه: {وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأحقاف:32].

اختلاف العلماء في الجن هل لهم ثواب على إيمانهم أم لا؟

اختلاف العلماء في الجن هل لهم ثواب على إيمانهم أم لا؟ في هذه الآية يحذر الجن أقوامهم من معصية الله، ومن الكفر به، بالعذاب الأليم، وقد اختلف العلماء فيما لو أطاع الجن ربهم عز وجل هل لهم ثواب على ذلك أم لا؟ فذهب الإمام أبو حنيفة رحمه الله إلى أن الجن لا ثواب لهم إلا أن يجاروا من النار، وبعد ذلك يقال لهم: كونوا تراباً فيكونون تراباً، والصواب خلاف ذلك، فكل مؤمن له أجر عند الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله عز وجل عندما ذكر الجنة وما فيها قال: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:46 - 47]، والخطاب هنا موجه إلى الإنس والجن، فالذي يخاف مقام الله عز وجل له جنتان سواء كان من الإنس أو من الجن، ثم قال بعد ذلك: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) [الرحمن:62 - 63]، فالمطيع له الجنة والعاصي له النار من الجن والإنس.

تخويف الجن لقومهم بقوة الله وقدرته

تخويف الجن لقومهم بقوة الله وقدرته قال الله سبحانه: {وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِي اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ} [الأحقاف:32]، فالجن يخاطبون قومهم بأن الذي لا يستجيب لله فلا يستطيع أن يهرب منه لا في الأرض ولا في السماء. وقوله: {وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ} [الأحقاف:32] أي: لا يجد من ينصره ويتولى الدفاع عنه ويتولى أمره من دون الله، بل هو في ضلال مبين وبعيد، فقد ابتعد كل البعد عن طريق الهداية، فهو في أعظم الضلال، وضل الإنسان بمعنى: تاه، فالذي لم يعرف ربه، ولم يستجيب له فقد تاه، وهذا التيه الذي هو فيه ضلال بيّن، فكل من ينظر إليه يعرف أنه ضال ضائع هالك، فهذا كذلك في ضلال مبين، كما قال الله تعالى: ((أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)).

تفسر قوله تعالى: (أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض بقادر)

تفسر قوله تعالى: (أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض بقادر) يقول الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأحقاف:33] فبعد أن ذكر سبحانه كلام الجن مع قومهم دعا الخلق إلى أن ينظروا ويتأملوا في بديع خلق الله عز وجل، وفي قدرته سبحانه وتعالى، والمعنى: أولم ير هؤلاء المشركون الذين يعبدون غير الله سبحانه، ويكفرون بالله أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن، أي: لم يتعب ولم يكل ولم يعجز سبحانه وتعالى (بقادر) وهذه قراءة الجمهور، وقرأها يعقوب: (يقدر على أن يحيى الموتى)، أولم يروا ذلك؟ و A بلى إنه قادر على كل شيء سبحانه، فأجاب سبحانه: ((بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ))، فالذي خلق السموات والأرض، وخلق البشر وأحياهم وأماتهم قادر على أن يحييهم مرة ثانية، فهو يقدر على كل شيء في هذا الكون.

تفسير قوله تعالى: (ويوم يعرض الذين كفروا على النار)

تفسير قوله تعالى: (ويوم يعرض الذين كفروا على النار) يذكَر الله سبحانه وتعالى الكافرين بيوم الحشر والعرض الأكبر عليه سبحانه، فيقول: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ} [الأحقاف:34] فيقال لهم: {أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ} [الأحقاف:34] ويؤتى بالنار لها سبعون ألف زمام، وعلى كل زمام سبعون ألف ملك، حتى تكون أمامهم فيصرخون ويفزعون، فيقال لهم: ((أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ))؟ فهذه هي النار التي كنتم تكذبون بها، وتستهينون وتسخرون منها، ((أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ))؟ فيجيبون على ربهم سبحانه ويقولون: {بَلَى وَرَبِّنَا} [الأحقاف:34]، قال: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ} [الأحقاف:34]، فلا ينفعكم الاعتراف بعد أن رأيتم النار، فقد كان الإيمان بالغيب وبالجنة والنار ينفعكم في الدنيا، قال تعالى: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأحقاف:34]، فهذا العذاب بما كنتم تكفرون، ونحن نؤمن بقضاء الله وقدره، وأنه منذ خلقهم وهو يعلم أنهم صائرون إلى النار، ولكن حين يدخلهم النار ليس معنى ذلك أنه ظلمهم، ولكنه أدخلهم النار بما كسبت أيديهم، فكان جزاؤهم جزءاً وفاقاً، إذاً: نؤمن بقضاء الله وقدره، فهو الحكم العدل سبحانه وتعالى، وحاشاه أن يعذب أحد ظالماً له، وإنما ذلك بما كسبت يديه.

تفسير قوله تعالى: (فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل)

تفسير قوله تعالى: (فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل) ختم الله سبحانه هذه السورة الكريمة بقوله للنبي صلى الله عليه وسلم: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35] أي: فاصبر وتأس بالسابقين من قبلك من الأنبياء، فهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم -وقد صبر- وللمؤمنين بالتبع، فكأنه سبحانه يقول لهم: اصبروا على ما ينالكم من الكفار، فلعل الله عز وجل أن يأتيكم بالفرج من عنده، {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35]، والعزم هو الحزم والعزيمة والقوة في دين الله سبحانه وتعالى، وكل الرسل من أولي العزم، ولكن بعضهم اشتد الابتلاء عليه واشتد صبره، فأمر الله النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهؤلاء، قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90] فأمره أن يقتدي بهدي السابقين عليهم الصلاة والسلام خاصة من ابتلي منهم فصبر، وللمفسرين كلام كثير في تعيين أولي العزم. وكل من ابتلاه الله عز وجل وصبر على هذا الابتلاء فهو من أولي العزم، ولا يمنع أن يكون أعظمهم خمسة أنبياء، وهم: نبينا صلوات الله وسلامه عليه، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى عليهم السلام، هؤلاء من أولي العزم من الرسل، لكن ليسوا وحدهم فقط، فهناك غيرهم من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام صبروا صبراً عظيماً على أمر الله سبحانه، فهذا نوح صبر ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوا قومه وهم لا يستجيبون له، وما آمن منهم إلا قليل، وهذا هود يدعو قومه، وهذا صالح يدعو قومه ولا يستجيبون له، وهذا شعيب يسفهه قومه ويأبون أن يستجيبوا له عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وهذا أيوب يبتليه الله سبحانه وتعالى فيمكث في ذلك البلاء ثمانية عشر عاماً وهو صابر، ولم يطلب كشف البلاء عنه إلا في النهاية حين آذاه أصدقاؤه بكلام سيء، وباتهام كاذب. فالغرض أن الله ذكر الأنبياء السابقين وما فيهم من عزيمة وصبر على أمر الله، فأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهم في صبرهم عليهم الصلاة والسلام. وقال سبحانه {وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف:35] أي: لا تستعجل فتدعو عليهم بأن يمحقهم الله ويبيدهم، ولكن اصبر عليهم، فكان كذلك صلوات الله وسلامه عليه. ثم قال تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:35] أي: كأن هؤلاء حين يتخيلون ما هم فيه من طول العزاء والشقاء والعناء يوم القيامة {لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} [الأحقاف:35]، وكأن هذه الدنيا لعبة، فالإنسان حين يتفكر في عمره وكم مضى منه: عشر سنين، أو عشرون سنة، أو خمسون سنة، أو أكثر فإنه يحس أنه لا شيء، ولو عمِّر كما عمِّر نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فإنه عندما يقارن يوم القيامة بما عاشه في الدنيا يشعر وكأنه لم يعش ساعة، ولذلك عندما يسألون: {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون:112 - 113] قال الله سبحانه {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ} أي: هذا بلاغ، فقد بلغناكم وأنذرناكم، والبلاغ بمعنى الكفاية أيضاً، كأنه يقول: هذا فيه كفاية لكم في إنذاركم، ولو أنكم تعقلون ذلك لاكتفيتم به، فعملتم ثم خفتم من المرجع إلى الله سبحانه وتعالى. ثم قال تعالى: ((فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ)) أي: فلا يهلك على الله إلا هالك، وهو الإنسان الذي فسق وخرج من عباءة الإيمان، ودخل في الكفر والشرك بالله سبحانه، فلا يهلك إلا الفاسقون. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

محمد

تفسير سورة محمد [1 - 2] سورة محمد تسمى: سورة القتال، وسورة الذين كفروا، ولها أغراض عظيمة جداً أولها: تحريض المؤمنين على قتال الكافرين، وذكر ثواب ذلك عند الله عز وجل، وقد أخبر سبحانه أنه يبطل أعمال الكافرين مهما كانت؛ لأنهم لا يبتغون بها وجهه الكريم سبحانه، وأنه سيسدد الذين آمنوا بما أنزله من الشرائع على نبيه صلى الله عليه وسلم في كل شيء.

مقدمة بين يدي سورة محمد

مقدمة بين يدي سورة محمد الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة محمد صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} [محمد:1 - 2]. هذه السورة هي السابعة والأربعون في ترتيب المصحف في كتاب الله سبحانه وتعالى. سميت سورة محمد صلى الله عليه وسلم، وسميت بسورة القتال، وسميت سورة الذين كفروا. وأسباب التسميات: سميت بسورة محمد؛ لأنه ذكر فيها اسم النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان ذكر في آل عمران اسمه صلى الله عليه وسلم إلا أن هذه سابقة لسورة آل عمران، فسميت بذلك، أما سورة آل عمران فسميت باسمها المعروف. وسميت بسورة القتال؛ لأن الله عز وجل ذكر فيها القتال، وحرض فيها المؤمنين على قتال الكفار. وسميت بسورة الذين كفروا باعتبار أول آية فيها، {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:1]، والسورة قد تسمى بما يذكر في أولها أو بما يشتهر ذكره فيها ببعض الأحكام التي تدل عليها السورة. هذه السورة مدنية باتفاق المفسرين، وإن كان روي أن فيها آية مكية وهي الآية الثالثة عشر فقد قيل: إنها نزلت في طريق هجرة النبي صلى الله عليه وسلم. وهل نزلت بعد غزوة بدر أو بعد غزوة أحد؟ المهم أنها سورة مدنية، وقد شرع الله عز وجل فيها القتال، وحرض المؤمنين على الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى. والسورة ترتيبها على حسب نزول سور القرآن السادسة والتسعون، وقد نزلت هذه السورة بعد سورة الحديد وقبل سورة الرعد. واختلفوا في عدد آياتها على ما قدمنا قبل ذلك من خلافهم في مواضع الوقوف في الفواصل التي بين الآيات، وإلا فهي نفس الكلمات ونفس الحروف إلا أن البعض قد يعتبر هذه آية والبعض يعتبرها آيتين، ففي عد الكوفيين ثمانية وثلاثون آية، وفي عد الحجازيين والدمشقيين تسعة وثلاثون، وفي عد البصريين والحمصيين أربعون آية، فهم يختلفون في الوقف، فقوله: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد:4]، يوجد فيها وقف لغير الكوفيين، أما الكوفيون فلا يقفون، ولا يعدونها آية، وقوله سبحانه: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد:4]، وقوله: {فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} [محمد:4]، وقوله: {لانتَصَرَ مِنْهُمْ} [محمد:4]، في هذه المواضع يقف الحمصيون، فبناء على ذلك سيكون العدد عندهم أكثر من العدد عند غيرهم.

أغراض السورة ومقاصدها

أغراض السورة ومقاصدها الغرض من هذه السورة واضح من أولها، فهي تحريض للمؤمنين على أن يدفعوا عن أنفسهم وعن دينهم، وأن يطلبوا الجنة بالجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى، ولذلك معظم أغراض هذه السورة التحريض على الجهاد في سبيل الله عز وجل، والانتصار لهذا الدين العظيم، وذكر ثواب ذلك. ولذلك بدأت هذه السورة بذكر {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ الله} [محمد:1]، ليتذكر المؤمن أن هؤلاء كفرة، مجرمون، يكفرون بربهم سبحانه وتعالى، ويجحدونه سبحانه، بل ويصدون المؤمنين عن سبيل الله، فأول آية في السورة فيها تحريض للمؤمنين على هؤلاء الذين يصدونهم عن دينهم، وطردوهم من مكة، ثم جاءوا إليهم إلى المدينة ليقاتلوهم، وليضيعوا عليهم دينهم، فقد افتتح الله عز وجل هذه السورة بما يثير حنق المؤمنين على المشركين لكونهم كفروا بالله وصدوا عن سبيله سبحانه وتعالى. وكذلك من أغراض هذه السورة أن الله عز وجل بين للمؤمنين أن الكافر غير مسدد وغير موفق؛ لأن التوفيق من الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88]، فالله هو الذي يوفقك، أما الكافر فلا يستحق التوفيق، فالله عز وجل يقول للمؤمنين: قاتلوا هؤلاء، فإني سأثبتكم، وأنصركم، وأسدد رميكم، {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]، {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة:14]، وهذا التأييد كله إذا كان القتال في سبيل الله عز وجل وليس في سبيل الدنيا، وليس رياءً ولا سمعة، فإذا أخلص المؤمنون فإن الله وعدهم بأنه سيكون معهم سبحانه وتعالى، وأعلمهم سبحانه بأن الكفار لن يسددوا، بل إن الله سبحانه وتعالى سيحبط أعمالهم، ثم أخبر المؤمنين بأنهم لا بد وأن يقاتلوا في سبيل الله عز وجل من أجل إعلاء كلمة الله سبحانه، ونصر دينه سبحانه وتعالى، وأنه لو شاء لنصر دينه من غير جهاد أو مجاهدين، ولو شاء لمحق الكفر والكافرين، ولكن لحكمة من الله عز وجل لا بد من الابتلاء، والتنازع بين هؤلاء وهؤلاء ليعلم من الذي يثبت على دينه سبحانه وتعالى. وفي هذه السورة وعد الله المجاهدين بالجنة، وأنه سيعطيهم الدرجات العلى منه سبحانه، كما أنه أمر المسلمين بمجاهدة الكفر والكافرين، ونهاهم أن يدعوا إلى السلم وإلى التراخي، فليس المسلم كالكافر، فلا تهنوا، أي: إياكم أن يصيبكم الهوان، فإذا أنت -أيها المسلم- أهنت نفسك أهانك غيرك، فلا تنظر لنفسك بعين التحقير مع هؤلاء الكفار. ولذلك يشرع للمؤمن أن يختال على الكفار في ميدان الجهاد والقتال في سبيل الله سبحانه، ولا يري من نفسه الضعف، ولكن يري من نفسه القوة والعزة، فهو معتز بدين الله سبحانه، {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:35]، فإذا كان الله سبحانه معكم أيها المؤمنون فأنتم الأعلون، والله سبحانه لن ينقصكم ثواب أعمالكم، فما الذي سيجعلكم تهنون أمام الكفار؟ فالله سبحانه يدعو المؤمنين لجهاد الكفار إلى أن ينتصروا عليهم، فإن جنحوا للسلم فاجنح لها، أما أن تجنح للسلم وتجنح للتراخي في حال انهزامك وتلغي الجهاد في سبيل الله عز وجل، فإن الله لم يأمرك بذلك، طالما أن دين الله يتعرض له الكفار بالإيذاء، ويشرع جهاد الدفع والابتداء إلى أن يدخل الناس في دين الله أو يتركوا المسلمين يدعون الناس إلى الله سبحانه من غير أن يصدوا عن سبيل الله سبحانه وتعالى، عند ذلك تشرع الأحكام الأخرى التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه. أيضاً من أغراض هذه السورة إخبار المشركين بأن الله عز وجل سيصيبهم بمثل ما أصاب السابقين قبلهم، {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ} [يونس:102] أي: لينتظروا ما تكون النتيجة من قتالهم المؤمنين. ومن أغراضها أيضاً وصف الجنة وما فيها من النعيم العظيم {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد:15]، ليشتاق المؤمنون إلى الجنة، فكأنه يقول للمؤمن: الجنة أمامك، وما بينك وبين الجنة إلا أن تقاتل في سبيل الله، مخلصاً لله سبحانه، أو تموت وفي نيتك أن تجاهد في سبيل الله، وفي قلبك إيمان بالله سبحانه. ومن أغراضها: وصف النار وما فيها، وذكر طعام أهلها وشرابهم الذي يقطع أمعائهم، فهل يستوي ما في الجنة وما في النار؟ لا يستويان أبداً. أيضاً من أغراضها وصف حال المنافقين، واندهاشهم وحيرتهم إذا أنزلت سورة وذكر فيها القتال، فهم في وقت السلم يقولون: متى نجاهد؟ {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا} [محمد:20] أي: كل من يتلفظ بالإيمان {لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} [محمد:20 - 21] أي: بدل أن يقولوا: لماذا لم تنزل آيات فيها ذكر القتال يطيعون الله عز وجل، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، حتى إذا أنزلت الآيات في القتال جاهدوا في سبيل الله سبحانه وتعالى. أيضاً من أغراضها: تهديد المنافقين بأن الله سيفضحهم، وأنه سيريهم نبيه صلى الله عليه وسلم بأسمائهم فهو يرى سيماهم، وعلامات المنافقين واضحة، يعرفهم النبي صلى الله عليه وسلم بها. {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ} [محمد:30] أي: لعرفتهم بأوصافهم وأسمائهم ولكن تعرفهم في لحن القول، وتعرف إشاراتهم وأفعالهم. ثم ختم الله عز وجل السورة بالإشارة إلى تحقق وعد الله للمسلمين بنوال السلطان، وحذرهم إذا صار إليهم الحكم، وصار بين أيديهم الملك أن يفسدوا في الأرض، وأن يقطعوا أرحامهم، {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلُيتمْ} [محمد:22] أي: إذا كان الأمر كذلك {أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23]. كذلك في هذه السورة الحث على تدبر كتاب الله سبحانه، {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، فهو يصف الإنسان الذي يسمع القرآن فلا يعقله ولا يتدبره بأنه مقفول على قلبه فلا يعرفه ولا يفهمه، فالإنسان المؤمن إذا سمع كتاب الله لا بد أن يرعه سمعه وقلبه وأن يتأمل وأن يتدبر فيه، وخاصة آيات الأحكام والآيات التي تتحدث عن الكون كخلق السماوات والأرض، فإنه لما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم قول الله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران:190] قال: (لقد أنزلت علي الليلة آيات ويل لمن سمعها ثم لم يتفكر فيها)، فإذا سمعت آيات الله عز وجل وجب عليك أن تتأمل وأن تتدبر هذه الآيات حتى لا تدخل في الوعيد الذي ذكره الله سبحانه في الآية السابقة.

تفسير قوله تعالى: (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم)

تفسير قوله تعالى: (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم) ابتدأت هذه السورة بقوله سبحانه: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:1]، كفر بمعنى: جحد، والكفر هو التغطية والستر، ولذلك يسمى المزارع كافر؛ لأنه يضع البذرة في الأرض ويكفرها بالتراب أي: يسترها. فكأن الكافر غطى على دلائل ما يدخله في دين الله سبحانه، وما يعرف به الله سبحانه وتعالى، فهو يريد أن يطمس النور الذي جاء من عند الله سبحانه، فهو يقول: لا يوجد إله أو آلهة مع الله، كأنه جعل ربه عاجزاً يحتاج لآلهة أخرى معه! حاشا لله سبحانه وتعالى. فالكافر حين ينكر آيات الله، وينكر نعم الله يكفرها، ويغطيها ويسترها فلا ينظر إليها ولا يدعو إليها. والكفر فعل لازم لهم في أنفسهم، والصد فعل متعد، فهم يصدون غيرهم عن طاعة الله وعن سبيل الله سبحانه وتعالى، فكفروا في أنفسهم ومنعوا غيرهم من الدخول في الإيمان بالتعذيب والتهديد والوعيد وغير ذلك. وسبيل الله هو طريق الله المستقيم، طريق الإيمان، والإسلام. {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:1]، أي: أعمال الكفار، والضلال بمعنى الضياع والتيه وعدم الهداية، فهو سبحانه لم يهدهم في أعمالهم بل أضلهم بالطمس على قلوبهم، وعلى أبصارهم وبصائرهم، فلا يفهمون ولا يعقلون، {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44]. وقوله: {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:1]، هي من الآيات القصيرة التي لها معانٍ عظيمة جداً، وهي كثيرة في القرآن، وهذا من بلاغة القرآن فهو يبلغ إلى المعنى الذي يريده وإلى المعاني الكثيرة بالألفاظ القليلة. ولها معنى آخر: وهو أن الله عز وجل أبطل على هؤلاء كيدهم ومكرهم وتدبيرهم للمؤمنين، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]، وهذا وعد من الله عز وجل، أنه مهما مكر بكم الكفار واعتصمتم بالله سبحانه فإنه ناصركم عليهم، ومبطل كيدهم {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:1] أي: أبطل كيدهم ومكرهم وتدبيرهم لكم. ولها معنى ثالث وهو: أنهم إذا جاءوا يوم القيامة تكون أعمالهم كلها هباءً منثوراً، {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]، فقد كانوا يطعمون الحجيج، ويسقونهم ابتغاء السمعة، ليس ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى، وابتغاء الشرف، ومن أجل أن يقال عنهم: هذه القبيلة أفضل من هذه القبيلة، ولذلك كان سبب صدهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الدعوة إلى الله المفاخرة، لأنه سيكون أحسن منهم بزعمهم، فقد قالوا: تسابقنا مع بني هاشم، أطعموا الحجيج وأطعمنا الحجيج، وسقوا الحجيج وسقينا الحجيج، وعمروا المسجد الحرام وعمرنا المسجد الحرام، ثم لم يلبثوا أن قالوا: منا نبي، فأنى لنا بنبي؟ إذاًَ كان إطعام وسقاية الحجيج ليس من أجل التقرب إلى الله، وإنما كان لأجل المفاخرة وابتغاء الدنيا، وأن يكون لهم ذكر وفخر وشرف بين الناس. ولذلك قالوا: حتى إذا كنا كفرسي رهان، أي: حتى إذا كنا في الشرف سواء قلتم: منا نبي! ومن أين نأتي بنبي؟ إذاً: فلن ندخل في هذا الدين. فأبطل الله عز وجل ما عملوا مما كانوا يسمونه مكارم الأخلاق، من صلة الأرحام، وفك الأسرى، وقرى الأضياف، وحفظ الجوار، ونصر المظلوم، ونحو ذلك، فأبطل الله عز وجل عليهم أعمالهم؛ لأن هذه الأعمال لم يبتغ بها وجه الله سبحانه وتعالى، حتى وإن ابتغوا وجه الله بشيء منها فهم يشركون بالله سبحانه ويتقربون إلى غيره من أصنام وغيرها، والله لا يقبل من العمل إلا ما كان صالحاً وما كان خالصاً له وحده سبحانه وتعالى. وكان من هؤلاء الذين يوصفون بالإطعام المطعم بن عدي وقد كان هذا اسمه، واشتهر بأنه يطعم الناس، فكأنه أخذ فعله من اسمه، ابتغاء الدنيا، فكان ابنه يقول للنبي صلوات الله وسلامه عليه: أبي كان يطعم الحجيج ويفعل ويفعل، هل هذا نافعه عند الله عز وجل؟ قال: لا، (إنه لم يقل يوماً من الدهر: رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم)، يعني: ما أخلص لله عز وجل، فقد كان عمله لغير الله، فلا يقبله الله عز وجل. كذلك من هؤلاء من أطعموا في يوم بدر، فقد كان فيهم اثنا عشر رجلاً تكفلوا لجيش الكفار بالطعام، فكانوا ينحرون عشرة جمال أو تسعة جمال كل يوم، وهؤلاء الاثنا عشر: أبو جهل والحارث بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبي بن خلف وأمية بن خلف ومنبه بن الحجاج ونبيه بن الحجاج وأبو البختري بن هشام وزمعة بن الأسود وحكيم بن حزام والحارث بن عامر بن نوفل، هؤلاء الاثنا عشر أنفقوا من أموالهم، والله يقول: {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:1]، فلو أنفقوا ما أنفقوا فإنه إنفاق على الكفر لا ينجح عند الله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد)

تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد) قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ} [محمد:2] الذي نزل على محمد، هو هذا الدين العظيم، وهذا القرآن الكريم، وهذه الشرائع من رب العالمين سبحانه التي تعلم الناس من ربهم وما دينهم ومن نبيهم صلى الله عليه وسلم، وما الذي يرضي الله عز وجل، وما الذي يغضب الله، فهؤلاء الذين آمنوا بذلك ونفذوا أمر الله سبحانه، استحقوا من الله عز وجل أن يكفر عنهم سيئاتهم، وأن يستر ما وقعوا فيه من المعاصي والسيئات، وأن يصلح حالهم وبالهم وعملهم، وأن يقبل ذلك منهم ولا يحبطه. وللحديث بقية إن شاء الله. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة محمد [1 - 4]

تفسير سورة محمد [1 - 4] منذ أمد بعيد والحرب قائمة على كل مسلم على وجه المعمورة، فأخبر سبحانه أنه سيبطل وسيحبط أعمال الكافرين المحاربين، وسيكفر سيئات المؤمنين، وسيصلح أحوالهم؛ وذلك أن الكافرين اتبعوا الباطل المستورد من أهوائهم والشيطان، والذين آمنوا اتبعوا الحق المستوحى من ربهم.

تفسير قوله تعالى: (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله)

تفسير قوله تعالى: (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة محمد: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} [محمد:1 - 3]. هذه سورة محمد صلى الله عليه وسلم، وذكرنا مقدمات لهذه السورة في الحديث السابق، وبدأها الله سبحانه تبارك وتعالى بتحفيز المؤمنين على الجهاد في سبيل الله سبحانه، وتهييج ما في قلوبهم من إيمان على الدفاع عن دين الله سبحانه تبارك وتعالى، ومقاتلة من يصدونهم عن سبيل الله وعن الدعوة إلى الله سبحانه. {الَّذِينَ كَفَرُوا} [محمد:1] هم الكفار الذين كانوا في أهل مكة، وصدوا النبي صلى الله عليه وسلم ومنعوه من أن يدعو إلى الله سبحانه، وأخرجوه من داره صلوات الله وسلامه عليه، فربنا يذكر المؤمنين بصنيع المشركين؛ حتى يبارزوهم وحتى يدافعوا عن دينهم. فإن المؤمنين لو تركوا الجهاد في سبيل الله تسلط عليهم الكفار، فالدنيا إما أن تكون فيها غالباً أو تكون فيها مغلوباً، ولا يوجد وسط في ذلك، والدنيا مثل الغابة، القوي فيها يغلب، والكافر استأسد على المسلم، وأخذ ما عنده، ولم ينفع معه مجادلة بحجة ولا بعقل ولا بشيء، فالكافر يلغي عقله، ويحكِّم سلاحه وقوته، وهذا فعل الكافر، والمؤمن يحكم شرع الله سبحانه، ويحكم دين الله عز وجل، ويخاطب العقول، لكن الكافر أغلق عقله وحكَّم سيفه، وتعرض لأذى المؤمن، فإن لم يكن المؤمن قوياً، ومعه من القوة ما يسكت به ويلجم هذا الكافر، ويدفعه إلى أن يحكم العقل، ويخضع للنقاش، فإما أن تكون ضعيفاً، والكافر قوي غالب مستأسد، غاشم، معتدي، لا يفكر ولا يسمع منك، وتقول: أدعوه، فإلى أي شيء تدعوه؟! وهو الذي يملي عليك الشروط، وهو الذي يلزمك بما يريد، لذلك يقول القرآن: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} [التوبة:8]. لا تقل: أنا سأناقشه بالعقل وسيسمع مني، فهذا كلام غير مقبول، فإن الذي حكم عليه هو الله سبحانه، وهو عليم بما في نفسه، خبير بذات الصدور وذات الأنفس، يقول لك: كن قوياً؛ حتى تعرف كيف تدعو إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، وحتى لا يصدك هذا، وحتى لا يكفر بما جئت به، وحتى لا يستر ويغطي النور الذي معك بقوته، وطغيانه، فيقول لنا: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [محمد:1]، بدأ بذكر هؤلاء وأفعالهم القبيحة. قال تعالى: {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:1] فالله سبحانه أحبط أعمالهم، وأبطل ما يصنعون، وجعلهم في تيه لا يعقلون، فقد أضل أعمالهم في الدنيا وفي الآخرة. في الدنيا: أضل أعمالهم بأن جعل على قلوبهم الران والغشاوة، وختم على القلوب، وطبع عليها، فهم لا يعقلون، {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44]. وفي الآخرة: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23].

تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد)

تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد) أما المؤمنون فيقول تعالى عنهم: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} [محمد:2] المقصود المؤمن التقي الذي يعمل بما يرضي الله سبحانه، ويعمل الصالحات من الأفعال والأقوال، وكلها في ميزان حسناته، وميزان الصالحات. قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} [محمد:2] أي: صدقوا بما جاء من عند الله، ومن ذلك آيات الجهاد في سبيل الله عز وجل، وقتال المشركين، وآمن بما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك قوله: (إنكم إن تركتم الجهاد في سبيل الله سلّط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم). وقوله: (وهو الحق) جملة اعتراضية؛ ليبين أنه الحق سواء اعترفتم أو لم تعترفوا بأنه الحق، فالله عز وجل قد أخبر بذلك، {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح:28] فقوله الحق سبحانه. والذي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم هو القرآن العظيم، والإسلام وهذا الدين، وهذه الشريعة، والحق هو من الله سبحانه تبارك وتعالى، سواء أقروا أو لم يقروا بذلك، فهو الحق من ربهم. قال تعالى: {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} [محمد:2] أي: ستر عنهم السيئات التي وقعوا فيها، وغفرها لهم سبحانه تبارك وتعالى، ولم يفضحهم بها لا في الدنيا ولا في الآخرة. {وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} [محمد:2] البال هو: الشأن، فشأن الإنسان: باله وحاله، فأصلح الله شأنهم، أي: أصلح حالهم، وأصلح أعمالهم، وأصلح أقوالهم سبحانه تبارك وتعالى، ومصالح دينهم ودنياهم وأخراهم أصلحها الله سبحانه، ووجههم إلى الخير في ذلك. {وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} [محمد:2] على ما يتعلق بأمر دنياهم، وأمر أخراهم، ومن معانيها أيضاً: أصلح نياتهم، وأصلح أعمالهم بإصلاح نواياهم، فالبال المذكور هنا بمعنى: الشأن، ويأتي بمعنى: عمل الإنسان أيضاً، إذاً هنا: أصلح الحال، وأصلح الشأن، وأصلح أعمالهم، وأصلح أمورهم سبحانه تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل)

تفسير قوله تعالى: (ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل) قال تعالى: {ذَلِكَ} [محمد:3] أي: الأمر الذي ذكره الله عز وجل، وهو إضلال الكفار، وإصلاح حال المؤمنين وهدايتهم، {ذَلِكَ} [محمد:3] وهي كلمة فصيحة؛ لأنها تعبير عن جملة، وهي أن الذي ذكر هذه الآية أشار إليه بذلك، وكل الذي فعله الله عز وجل من إصلاح حال المؤمنين، وإضلال أعمال الكافرين، من صنع الله سبحانه له سبب وهو: {بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد:3]. فالكفار اتبعوا الضلال، واتبعوا الباطل، وهم في غيهم يلعبون، ومع ذلك يصدون المؤمنين عن عبادتهم، ويصدونهم عن ربهم سبحانه تبارك وتعالى، والكافر يظن أن المؤمن ليس بأحسن منه، فهو لا يقبل أن يكون المؤمن أفضل منه، حتى وإن قال الكافر: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6] فلن يسكت أبداً عن المسلم؛ لأن المسلم دينه حق، ولو دعا إليه سيتبعه الناس، فالكافر لا يريد ذلك، فإذا جاء على المسلم ضيق عليه، كما صُنع مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقيل له: إذا أردت أن تقرأ القرآن، فاقرأ في بيتك، ولا تقرأه علينا، فأخذوا الميثاق على ذلك، ونادوا بمن أجار أبا بكر فإذا به يلتزم لهم ألا يقرأ أبو بكر عليهم القرآن، وبنى مسجداً في داره، وجلس يقرأ القرآن فيه، فإذا بنساء المشركين، يتهافتن ويأتين إلى بيت أبي بكر الصديق، يسمعن من أبي بكر الصديق القرآن، فرفض الكفار ذلك، وقالوا: لا يقرأ حتى لو كان في بيته. فالكافر لن يكف عن إيذاء المسلمين، ويقول لك: تصرف على راحتك، وخذ حريتك، هذا غير ممكن، ولن يسكت على ذلك، مع أنه يعرف دينك، والمستشرقون درسوا هذا الكتاب، ودرسوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والقرآن فيه كذا، والسنة فيها كذا، ولو انتشر ذلك هم الذين سيغلبون ويسيطرون على الدنيا؛ لأن كلامهم الحق. فهم يضربون المسلمين ضربات قاصمة، من أجل أن يفتتوا الدين، ويفرقوا المسلمين، بعدما كانوا دولة واحدة وخلافة تحكم الدنيا كلها، فتتوها إلى دويلات وإمارات وجمهوريات، وأصبح كل واحد ينظر لما عنده وليس له شأن بأحد، والمسلمون في كل مكان يحصل لهم ما يحصل، وهو يقول: ليس لي شأن، والمهم الذي نحن فيه فقط، والمكان الذي نحن فيه. ودخلوا في ديار المسلمين، وأخرجوا نساء المسلمين، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لنا: (إن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)، فهي أعظم فتنة، ونادوا بخروج المرأة من البيت، وبدءوا يقننون للزنا والفواحش القوانين تحت ما يسمى: بالحرية والمساواة والعدالة مع المرأة، ومبدأ مساواة المرأة بالرجل، فتخرج المرأة وتفعل ما تشاء، ليس لأحد شأن بها، وبدءوا يتحكمون في بلاد المسلمين. وقالوا: إن المرأة مظلومة، فأقرت الأمم المتحدة قانوناً للنساء، لا بد أن يطبق في كل بلد من البلدان، فأصبح المسلمون كلهم يقولون: إن المرأة نصف المجتمع، ولا بد أن نعطي لها مكاناً في البرلمان، واحتجت أمريكا على الدول التي تكون فيها المرأة منقبة، وقالوا: لا بد للمرأة أن تتحرر من هذا النقاب! فهم يتدخلون في جميع شئون بلاد المسلمين، ويقولون: لا نسكت على هذا الشيء، لا بد أن تخرج المرأة حتى ينتشر العهر والجنس، وحتى يقع الناس في الزنا، وحتى ينزل عليكم غضب الله سبحانه تبارك وتعالى، وحتى تتركوا دينكم، وحتى لا تنتصروا؛ لأنهم يعلمون أن هذا هو الدين الذي تنتصرون به، فالكفار عرفوا أن المسلمين إن تمسكوا بدين الله، نصرهم الله عز وجل، فبدءوا يدخلون الشبهات والشهوات عقول شباب المسلمين، حتى يصرفوهم عن الجهاد، فأدخلوا لهم المسكرات، وأحلّوا لهم الخمر والحشيش والفواحش، وغيرها من أساليب الإدمان التي تزج بشباب المسلمين إلى المصحات أو القبور. وبين الحين والآخر يخترعون أشياء وينزلوها في بلاد المسلمين، وإذا وصل الحال بشباب المسلمين إلى ذلك، لن يكون لهم جيوش، فما دام الشاب سكراناً ومحذراً وضائعاً، فلا قوة للبلدان المسلمة، ولماذا تقوم الدول والحكومات بإنشاء الجيوش؟ فإذا أراد الكافر في أي يوم أن يضربك، لن تستطيع أن تدافع، ولن يكون أمامي إلا شعبك، لديك مدافع ولديك دبابات، ولكن ليس لها المدى الذي تصل به لطائراتنا، ولا لهجومنا، هؤلاء الكفار الذي حذر الله منهم بقوله: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} [التوبة:8] فهم يقولون: سنضربكم، وندمر دولكم بدعوى وجود الإرهاب في بلادكم، أتينا لنعلمكم الديمقراطية، والحرية، وأتينا نقرر عندكم مبادئ المساواة والعدالة، وإخراج النساء من المنازل، والمسلمون للأسف الشديد حتى إذا لم يصدقوا فهم مغلوبون على أمورهم، وعلى عقولهم، وهم يمضون وراء التيار، لكي لا تضيع الرياسة منهم، ولكيلا تضيع الكراسي منهم، وهم يقومون بإخافتهم بلعبة العصا والجزرة التي يلعبون بها مع القرد أو الأرنب أو غيره، يقولون: نعطيك الجزرة إذا مضيت معنا، ونضربك بالعصا إذا خالفت دربنا، فإذا بهم يمضون وراء هؤلاء في كل ما يقولون! ويحذرنا القرآن من ذلك، فإذا ظهروا عليكم لن يرقبوا فيكم إلاً ولا ذمة، وأكبر دليل على ذلك ما يصنعون في العراق، ففي كل يوم يضربون العراق وأهله، وهم إذا أرادوا قتل جماعة من الناس في أي دولة من الدول فإنهم يطلقون على هذه الجماعة وابلاً من الرصاص والمدفعيات وغيرها من الأسلحة ثم تقول الدولة والإدارة: قتلوا بنيران صديقة! وهم يريدون تطبيق مبدأ المساواة التي يريدونها، وفي الحقيقة أن المساواة والعدالة معدومة تماماً في سجونهم ومعتقلاتهم. فلذلك من ابتعد عن كتاب الله وعن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعب به الشيطان، ولعب به هواه، ولعب به الكفار وتحكموا فيه، والله مع المؤمنين إذا اعتصموا بالله، والله سيضل الكافرين؛ لأنهم اتبعوا الباطل. قال تعالى: {وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد:3]، فهداية المؤمنين منوط بذلك، فالمؤمن لا بد أن يكون متبعاً للحق من عند الله، وليس مبتدعاً، ولا بعيداً عن دين الله سبحانه، تاركاً له وراء ظهره، {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد:3]، ما هي نتيجة هذا الشيء؟ أن الله مع المؤمنين، وأن الله يكيد للكفار، وأن الله يغلبهم ويمحقهم سبحانه. {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} [محمد:3] أي: كهذا البيان الذي ذكر الله عز وجل يوضح الله لكم في كتابه، فاعقلوا عن الله ما يريد بكم من خير.

تفسير قوله تعالى: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب)

تفسير قوله تعالى: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب) قال تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:4] هذا هو الحكم الذي مهد له فيما تقدم، {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد:4] والكافر إذا حارب المسلم، فلا يقول له المسلم: أسالمك، وافعل بي ما تريد، فأنا مسالم، وسأعمل على تحقيق هدنة من طرف واحد! هذا خطأ حذر الله منه، فطالما المؤمن مستضعف نفسه، فإن الكافر يستأستد عليه. فعلى المؤمن أن يكون قوياً، ويجهر بالحق، مع إعداد القوة التي أمر الله عز وجل بها، {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] (ما استطعتم) من ألفاظ العموم، أي: كل ما استطعتم من قوة، ولذلك فإن المؤمن يتقن عمله في كل مجال؛ حتى يعد العدة لهؤلاء الكفار، كما أمر الله سبحانه، ولا بد للمسلمين أن ينبغوا -كما كانوا قبل ذلك- في كل المجالات، وكل في مجاله، فالآن العلم أصبح شبكة متداخلة فالطب أصبح في الهندسة، والهندسة دخلت في الطب، فيوجد الطب الوراثي، والهندسة الوراثية والزراعة وغيرها إذا لم يتعلم المؤمن هذه الأشياء فسوف يدخل الكفار إلى بلاده، فيخربون بلادهم، ومثال ذلك: عندما استوردنا البذور من إسرائيل، فسدت المزارع، ولم ينبت الزرع، وهذا نتيجة أنهم وصلوا في الزراعة لأعلى الدرجات، فاليهود أعلم الناس بالزراعة، فإذا أنت لم تكن على نفس الدرجة الذي هو عليها، فإنك ستحتاج إلى ما يقدمونه وخصوصاً إذا كان بسعر رخيص. وعندما ترك المسلمون ذلك، دخل الطلبة الامتحانات بأجهزة إلكترونية بغرض أن يغشوا بها، فزوروا ودفعوا رشاوى لكي ينجحوا، وتركوا العلم فلم يتعلموا أمور دنياهم، ولا أمور دينهم، واعتمدوا على بعض المدرسين الذين حضروا الدكتوراه، والذين حضروا الماجستير في رسالة معينة، ثم رميت في الدرج، وأقفل عليها ولم ينظر أحد إليها بعد ذلك. أصبحت رسائل العلماء في الأبحاث التي يعملونها مرمية، واعتمدنا على الغرب أن يعطينا، فأعطونا هذه الصفعات المتتالية التي لا نقوم منها، وبين الحين والآخر يحصل شيء في غير صالح الأمة، تأتي أنفلونزا الطيور، فلا نستطيع محاربتها إلى أن يبعثوا لنا بالمصل من الخارج، ونصرف كذا مليار من أجل أن نحضر المصل من الخارج، فنحن لا نفعل شيئاً، حتى الإبر نستوردها من الصين، والأوراق نستوردها كذا، في الخارج القمامة التي في البيوت يأخذوها، ويقسمون القمامة، فيضعون الورق في جانب، والبلاستيك في جانب، والزجاج في جانب، فتباع لأصحاب القمامة؛ من أجل أن يشجع الناس ألا يفسدوها، وتأتي شركة الورق تبحث عن الورق الهالك هذا، ويستفيدون منه في إعادة تصنيع الورق، ولو أننا نعمل هذا فإنه من الممكن أن نستفيد بمقدار 65% مما نستورده منهم، ولكن الناس يفسدون الورق، ويضع الورق على الماء، وعلى النجاسة، ونحن لا نحتاج الورق، فنحن لا نعرف ماذا نفعل به، وهذا نتيجة عدم الفهم، فهل الكافر أذكى منا لأنه يفكر بهذا الشيء، ونحن ليس لدينا هذه العقول؟ فعقولنا أصبحت عقولاً سفيهة غبية؛ لأنها تركت دين الله عز وجل. فعلى المسلمين إذا لقوا الكفار أن يكونوا أقوياء، قادرين على الصمود، أما الآن فأخبار جرائدنا عبارة عن: هجوم صاروخي على البلدة الفلانية في بداية الصفحة، وتحتها: هجوم لفريق كرة القدم على الآخر! فهذا الذي أصبحت الشعوب مهمة فيه، وإخواننا يضربون في بلدانهم، ونحن لا نعقل ولا نفهم، وكل الذي في عقولنا: ماذا سنأكل غداً؟ ماذا سنفعل؟ رزقنا قليل البلد ليس فيه عمل، لأن الله سلط بعضنا على بعض، فانشغل الناس بالدنيا، وتركوا دين الله سبحانه، بل أصبحوا يحاربون دين الله سبحانه. وتجد شاباً ملتحياً قدم بطلب وظيفة في شركة خاصة لكي يعمل بها، فلم يتم قبوله؛ لأن الشخص الملتحي ممنوع من العمل في شركة خاصة وفي الشركات الحكومية أيضاً! وكل هذا محاربة لدين الله سبحانه؛ لأن الكفار يقولون لهم ذلك، بحجة أنهم إرهابيون، ولكنه بعد أن حلق لحيته تم قبوله، فلماذا بعدما حلق لحيته أصبح جيداً، ودخل الشركة مع أنه نفس الشخص ولم يغير نفسه، وعندما كان بلحية كان إرهابياً؟! يقولون: إن شركتنا لا تقبل ملتحين، ومنظرك لن يكون مناسباً، ولكن تجد المنسق الأوروبي لحيته كثيفة، فلماذا لحية هذا لم تفسد عليه الاجتماع الذي هو فيه؟! هذا يدل على عدم التفكير، وعلى الهوس في التفكير، والبعد عن دين الله سبحانه، فيسلط الله عز وجل عليهم أعداءهم، يملون عليهم أن افعلوا كذا من دون تفكير، وهذا كله سببه الضعف الكامن في قلوبهم، فهم ضعيفون في عقائدهم، وفي نفوسهم، وقد استخزوا فأخزاهم الله، واستذلوا فأذلهم الله، واستهانوا بأنفسهم فأهانهم الله، وما لجرح بميت إيلام. {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [محمد:4] وكنتم على قوة، وأعددتم لهم ما تستطيعون من قوة، {فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ} [محمد:4] ولا يكون المن والفداء إلا بعدما تكون قادراً، وبعدما تخيف عدوك، ولا يكون هذا وأنت ضعيف فسيستهين بك، ويلعب بك، ولا تقدر معه على شيء. {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ} [محمد:4] يعني: اضربوها ضرباً، فهذا مصدر يفيد جملة محذوفة تقديرها: اضربوا رقاب الكفار ضرباً. {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد:4] ورقبة الإنسان أعز ما عليه، فعندما أقول: اضرب رقبته، يعني: أزل رأس فلان، ففيها من القوة ومن الشدة، فهي أقوى من أن يقول: اقتله، قال: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد:4] أي: أزيلوا رقاب هؤلاء؛ حتى يكون بعضهم عبرة لبعض، وقد يقول بعض الكفار: أنتم تعملون هذا الشيء من ضرب للرقاب، متناسين القنابل التي ينزلونها على بلاد المسلمين، القنابل الفسفورية والعنقودية والذرية الصغيرة والكبيرة، وكلها تجرَّب في بلاد المسلمين، ويدمرون بها المسلمين، ويدمرون بها الحقول, وعندما تنزل تخرج الماء من باطن الأرض، فما الذي يفعلونه بالمسلمين؟! أليس ضرباً للرقاب بهذه القنابل، وحرق البلاد والعباد وإفساد الأرض؟ فإذا لقيتم الذين كفروا فاضربوا رقابهم، الذين يصدونكم عن سبيل الله ويصدونكم عن دين الله سبحانه، ويمنعون تبليغ دين الله سبحانه، لا ينفع معهم إلا أن تجاهدوهم. وإن الحرب التي يتحدثون عنها هي: حرب صليبية، مهما قالوا: إنها من أجل الديمقراطية فهذا كذب بين، وهذه حقيقة حروبهم مع المسلمين، وأن الإسلام هو عدوهم. ولذلك لما انهار الاتحاد السوفيتي قال الأمريكان في اجتماعهم: انتهينا من عدو، وبقي لنا الآن عدو آخر وهو: الإسلام، فبعد الاتحاد السوفيتي، والحرب الباردة، وحرب النجوم، لا بد أن نشن الحرب على الإسلام، وفعلوا ذلك، والمسلمون في غفلة، يقولون: لا، هذه ليست حرباً على الإسلام، هؤلاء يقصدون المتطرفين من المسلمين! والحقيقة أنهم يضربون المسلمين الملتزمين وغير الملتزمين، يضربون الجميع، ولا يفرقون بين أحد وآخر، بل يحاولون إبادة كل شخص يطلق عليه مسلم، لذلك لا بد أن يعود المسلمون إلى عقولهم، ويعودون إلى دينهم، ويقرءون التاريخ فيعرفون كيف يصنع الكفار بالمسلمين حين يتمكنون منهم. نسأل الله عز وجل أن يعز الإسلام والمسلمين, وأن يذل الكفر والمشركين. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة محمد [4 - 7]

تفسير سورة محمد [4 - 7] شرع الله سبحانه الجهاد في سبيله، وشرع أحكاماً في معاملة أسرى الحرب، وبين سبحانه ما للشهيد عنده من كرامات وهبات، وفضائل سابغات، وبين فضل المجاهدين، حتى يحث المسلمين على الجهاد، فقد اقتضت سنة الله الكونية أن يقع الصراع بين الحق والباطل، ولو شاء الله لانتصر من الكافرين، ولكن ليبلو المسلمين بهم.

تفسير قوله تعالى: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب)

تفسير قوله تعالى: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب) الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة محمد صلى الله عليه وسلم: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد:4 - 6]. يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن حكم من أحكام الجهاد في سبيله سبحانه وتعالى، فيقول: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد:4] أي: اضربوا رقابهم كما قدمنا في الحديث السابق، والكفار: من ليس بينهم وبين المسلمين عهد ولا ذمة، فهؤلاء الذين يقاتلون، أما من بينهم وبين المسلمين عهد أو ذمة، فلهم عهدهم إلى مدتهم، فإذا كانوا يعيشون بين المسلمين، ولهم ذمة مع المسلمين، ويدفعون الجزية للمسلمين، فلهم عهدهم ولهم ذمتهم. لكن الكافر الحربي المحارب للإسلام ولدين الله عز وجل، يحارب ويجاهد في سبيل الله عز وجل، قال: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [محمد:4] أي: في أي مكان، سواء جاءوا إليكم أم نزلوا في أراضيكم، أم قابلتموهم في قتال بينكم وبينهم، قال: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} [محمد:4]، وفي الآية تعويد للمسلمين على العزة بدينهم، وأن يطلب الله سبحانه في هذا الجهاد لا الدنيا، فإذا كان الجهاد لله عز وجل كان الله مع المؤمنين فنصرهم وأعلى أمرهم، لذلك لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم بعضاً من المسلمين في سرية لقوا بعض الكفار، وكان بينهم مسلم وكانت بينه وبين أحد المسلمين المرسلين ضعينة، فلما وصل إليهم سلم عليهم، فتحرش المسلم به فقتله زاعماً أنه يتحصن بالسلام فقط، وحقيقة أمره أنه طمع في الغنيمة التي كانت مع هذا الرجل، فقد كانت معه بعض غنمات فطمع فيها، فأخذ الغنمات وقتل الرجل، فأنزل الله عز وجل: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النساء:94] فقوله: (لَسْتَ مُؤْمِنًا) أي: لن نؤمنك، وليس المقصود بالإيمان المقابل للكفر، بل أنت على ما أنت عليه، قال: {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا} [النساء:94]، فالآية هنا فضحت ما في النفس، وقالت: احذروا أن يكون الجهاد طلباً للدنيا، فهذا الذي صنعتموه بهذا الرجل، لم يكن ابتغاء وجه الله، بل ابتغاء هذه الغنيمة، ولقد كنتم كفاراً من قبل فمن الله عز وجل عليكم بالإسلام، فلماذا تبادرون بقتل إنسان ألقى إليكم السلام، وفي هذا تعويد للمجاهدين أن الأسير إذا استسلم فلا يجوز قتله في هذه الحالة، قال: (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) و (السَلامَ)، فالسلم: الاستسلام، والسلام: قول: السلام عليكم، ولا تقل لهذا: لست مؤمناً، أي: لن نؤمنك، قال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ} [النساء:94] أي: كنتم كفاراً قبل ذلك، قال: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا} [النساء:94]. فهنا الله سبحانه وتعالى يعلم المؤمن أن يكون مجاهداً في سبيل الله مخلصاً له طالباً أمان الناس، هذا هو الهدف، فليس الهدف أخذ الغنيمة، وإنما هي تابعة.

الحكمة من الغلظة على الكافرين المحاربين

الحكمة من الغلظة على الكافرين المحاربين قال تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [محمد:4]، منوا على هؤلاء بأن تعلموهم دين الله سبحانه، فإذا كان لا فائدة، فاقتلوا الذين كفروا، كما قال سبحانه: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة:5]؛ لأنهم إن ظهروا عليكم لا يرقبون فيكم إلاً ولا ذمة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرسل بعوثه وسراياه صلوات الله وسلامه عليه وجيوشه فيقول لأميرهم: (إذا لقيت عدوك من المشركين، فادعهم إلى واحدة من خصال ثلاث) أي: ولا تقاتلهم مباشرة، قال: (ادعهم إلى الإسلام، فإن هم أطاعوا فكف عنهم، واقبل منهم)، إذاً: فالأمر ليس لمجرد القتال فقط، ولكن ابدأ بدعوة هؤلاء إلى دين الإسلام، فإن قبلوا منك هذا فهو المطلوب، فإذا لم يقبلوا الإسلام أتيت بالخصلة الثانية، قال: (ادعهم إلى أن يدفعوا الجزية، فإن قبلوا منك ذلك فخذ منهم وكف عنهم، فإذا رفضوا ذلك وأبوا إلا المقاتلة، فاستعن بالله وقاتلهم، فإذا قاتلت هؤلاء فافعل بما أمر الله عز وجل، {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد:4]) أي: قاتل قتالاً شديداً ابتغاء وجه الله عز وجل، كما قال: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران:139 - 140]، فأنتم الأعلون عند الله عز وجل، فإنها إن تصبكم جراحات في القتال فقد أصابت اعداءكم، فهل يكونون أصبر منكم على الجراح وعلى القتل؟ وكيف يكونون أصبر منكم وأنتم موعودون بالجنة عند الله عز وجل؟! فلكم الأجر العظيم والقرب من الله سبحانه في الآخرة، ولكم في الدنيا النصر والغنيمة، فلا تكونوا أقل شأناً من أعدائكم. قال تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد:4] أي: فقاتلهم قبل أن تسالم أو تداهن؛ حتى توهن عدوك، وحتى يعرف قدرتك، ثم تكلم عن السلم بعد ذلك وأنت غالب قوي، أما وأنت ضعيف فليس لك عند عدوك شأن حتى يقبل منك شيئاً، فلا تبدأ بطلب السلم بل جاهد وقاتل في سبيل الله حتى تضعف خصمك، وحتى ينصرك الله سبحانه وتعالى. قال: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ} [محمد:4]، الإثخان في العدو: أي: إكثار القتل فيه، يقال: أثخنه جراحاً: أي: أسال دمه وأكثر فيه القتل والجراحات: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} [محمد:4]، الوثاق: الربط والقيد، يعني: أسر الأعداء، ثم لكم أن تمنوا عليهم بعد انتصاركم عليهم، ولكم أن تقبلوا الفدية، ولكم أن تدعوهم إلى دين الله عز وجل مرة ثانية، لعلهم يدخلون في دين الله سبحانه وتعالى.

كيفية التعامل مع الأسرى

كيفية التعامل مع الأسرى قال سبحانه: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ} [محمد:4] أي: بعد أن ينصركم الله سبحانه وتعالى، وبعد أن تتمكنوا من أعدائكم، قال: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد:4]، حتى لا يكون بينك وبين الكفار قتال، والأوزار: هي الأثقال، مفردها وزر، والوزر: الثقل، قال: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد:4]، أي: حتى يكف الكفار عنكم، إذاً: فقاتل عدوك؛ لأنك إن لم تقاتله فسوف يقاتلك، فإذا استسلم ووضع سلاحه وكف عنك فكف عنه، حتى تضع الحرب أوزارها بشروط كتاب الله سبحانه وتعالى، وما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في سنته. اختلف العلماء في هذه الآية، هل هي منسوخة بآية السيف، وهي قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة:5] أم أنهما في مواطن مختلفة؟ والصواب: أنها آية محكمة وليست منسوخة، والمعنى: أن المن باق، فتمن على عدوك وتطلقه بغير شيء، أو أنك تفادي العدو بالأسير، فلإمام المسلمين وقائدهم أن يصنع ذلك، لذلك فإن الأكثر ومنهم ابن عباس رضي الله عنهما على أن هذه الآية محكمة، والإمام مخير. والأدلة من السنة على ذلك كثيرة ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد من على الكفار في فتح مكة، فقال: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)، وكانوا قد جمعوا أنفسهم لقتاله صلى الله عليه وسلم مرات ومرات قبل الفتح، بل إنهم جمعوا له في الفتح أوباشهم ليقاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم، فنصره الله سبحانه، ثم منَّ عليهم صلوات الله وسلامه عليه. كذلك: جاء عنه أنه قتل البعض ممن كانوا يؤذونه صلى الله عليه وسلم ويؤذون المسلمين، كـ عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهم، فقتلوا في يوم بدر؛ لأنهما كانا يؤذيان النبي صلى الله عليه وسلم، ويتكلمان فيه بالكلام المؤذي، ويطعنان في الإسلام والمسلمين، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهما بعدما أسرا. إذاً: إذا كان العدو محارباً لله عز وجل ولدينه، فهو يسبه ويفخر بذلك، فإذا أسر ولم يدخل في الإسلام وبقي على كفره فإنه يقتل، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد من على رجل من هذا الصنف واسمه أبو عزة الشاعر، وقد كان شاعراً يهجو الإسلام ويهجو النبي صلى الله عليه وسلم، فمن عليه النبي صلى الله عليه وسلم في يوم بدر لما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أن له بنات لا يكفلهن غيره، فرحمه النبي صلى الله عليه وسلم فتركه، فرجع إلى مكة يضحك ويسخر من النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: ضحكت على النبي وعلى المسلمين وقلت لهم كذا وكذا، ويحك عارضيه بالكعبة، ويقول: هزأت بالمسلمين وكذا، فلما أسر مرة ثانية بدأ يستعطف النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: لا، لا ترجع مرة ثانية تحك عارضيك بالكعبة وتقول: سخرت منه، وأمر بقتله فقتل. فالغرض: أن حكم الإنسان الذي يسب دين الله عز وجل القتل إلا إذا أسلم فحينئذ يكف عنه، أما إذا بقي على كفره، فللإمام أن يقتله كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث في يوم بدر، وفدى سائر أسارى بدر، ومن على ثمامة بن أثال، وكان رجلاً من كفار بني حنيفة، فجيء به أسيراً، فحبسه النبي صلى الله عليه وسلم وربطه في المسجد لينظر في أمره صلوات الله وسلامه عليه. وكان يمر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: (ما عندك يا ثمامة؟ قال: عندي خير، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تمنن فعلى شاكر، وإن تطلب المال فالمال كثير، فخذ منه ما شئت) يعني: إذا منيت فقد منيت على إنسان يشكر لك هذه النعمة، وإذا قتلتني فمن حقك؛ لأني قتلت منكم الكثير، وإذا فاديت وطلبت المال، فعندي مال كثير فاطلب منه ما شئت. فتركه النبي صلى الله عليه وسلم: (وجاء إليه في اليوم الثاني صلوات الله وسلامه عليه وقال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال كما قال في اليوم الأول، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أطلقوا ثمامة، واتركوه)، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم استشعر بلطفه وبرحمته من الرجل طيبة وخيراً، فقال: أطلقوه، فالرجل ذهب فاغتسل ثم رجع مسلماً رضي الله تبارك وتعالى عنه، فالمن هنا أتى بنتيجة. وقد أتى بنتيجة كذلك في أهل مكة، فلما من النبي صلى الله عليه وسلم عليهم وتركهم أسلموا جميعاً، وإذا بهم يجاهدون مع النبي صلى الله عليه وسلم ويكونون بعد ذلك من أصحاب الرأي في المسلمين، ويطلق عليهم مشيخة قريش. فلما من النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية، دل على أن هذه الآية محكمة وليست منسوخة.

معنى قوله تعالى: (ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم)

معنى قوله تعالى: (ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم) قال الله عز وجل: {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد:4]، فالله هو القوي العزيز سبحانه وتعالى، فلو شاء لخسف بالمشركين الأرض، ولو شاء لأنزل عليهم آية من السماء أو عذاباً من الأرض، ولكن حكمته سبحانه تقتضي أن يبتلي الناس بعضهم ببعض، فالدنيا زمن امتحان، والإنسان يريد أن يعيش في هذه الدنيا من غير امتحان بتاتاً، والله لم يجعل هذه الدنيا جنة، بل سميت دنيا ليعلم أن الآخرة هي العليا، فالدنيا هي أرض البلاء ومكان الامتحان الذي يمتحن فيه العبد، وستترك هذه الدنيا ولن ترجع إليها مرة ثانية، ولله الحكمة في وجودك في الدنيا في هذا الوقت الذي أنت فيه، ولو شاء الله عز وجل لجعل الناس أمة واحدة، ولجعل الكل على الإسلام، ولو شاء الله عز وجل لنصر المسلمين في كل موطن من المواطن، لكن النبي صلى الله عليه وسلم دخل في قتال كثير مع الكفار، فقد جاهد النبي صلى الله عليه وسلم وأرسل بعوثه وسراياه التي بلغت تسعين غزوة وسرية، وذكر بعضهم: أنها بلغت مائة وعشرين أو مائة وثلاثين غزوة وسرية، وغزا النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه في نحو تسع عشرة غزوة صلوات الله وسلامه عليه، وكل ما غزا فيه النبي صلى الله عليه وسلم من التسع عشرة غزوة كانت في المدينة، فقد مكث النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة يدعو إلى الله سبحانه في مكة، ولم يكن فرض عليه أن يجاهد في سبيل الله، ثم لما هاجر إلى المدينة صلى الله عليه وسلم فرض عليه الجهاد في سبيل الله، وقد عاش النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة عشر سنوات، فإذا خرج بنفسه تسع عشرة مرة صلى الله عليه وسلم فإنه سيكون قد خرج للجهاد مرتين في كل سنة صلى الله عليه وسلم، أما من جعل عدد البعوث والسرايا التي بعثها النبي صلى الله عليه وسلم مائة وثلاثين، فلو أنه خرج في كل واحدة منها لشق ذلك على المسلمين، فسيخرج في السنة الواحدة ثلاثة عشر مرةً، وهذا عدد كبير جداً للخروج، فكيف سيدير شئون المسلمين صلى الله عليه وسلم إذا فعل ذلك؟ لذلك: كان من الحكمة أن يخرج بنفسه في بعض السرايا وفي بعض الجيوش، ويخرج المسلمون المجاهدون في سبيل الله عز وجل في الباقي، ولو يشاء الله لانتصر من الكفار، ولكن المسلمين غلبوا في بعض الغزوات؛ ولله عز وجل الحكمة العظيمة في ذلك؛ وحتى لا يغتر المسلمون بالنصر دائماً، قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60]، وتوكلوا على الله سبحانه إن كنتم مؤمنين، فأحسنوا الإعداد، وأحسنوا الظن بالله سبحانه وتعالى، فإن الله عز وجل معكم, فإذا بعدتم عن ذلك خذلكم الله سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، ولو يشاء الله لانتصر من هؤلاء الكفار ,ولكن ليختبر بعضكم ببعض، وليختبر المسلمين بالكفار، فالمسلم عندما يدخل في القتال فإنه إما قاتل أو مقتول، فهو مجاهد في سبيل الله عز وجل، فيبقى الاحتمالان موجودان، والله عز وجل يقول: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:4]. ((والذينَ قُتِلُوا)) هذه قراءة حفص عن عاصم، وقراءة أبي عمرو البصري وكذلك يعقوب الحضرمي، أما باقي القراء فإنهم يقرءونها: (والذين قاتلوا في سبيل الله)، ولكل من القراءتين معنى، فمن قرأ: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:4] فالمعنى: أنهم قتلوا وصاروا شهداء عند الله عز وجل، فلن يحبط الله لهم عملاً، بل له الأجر والثواب لأنه جاهد في سبيل الله عز وجل، والله يوجهه إلى جنته سبحانه وتعالى، فيقول: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ} [محمد:4]، وأما من قرأ: (وَالَّذِينَ قاتلوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ) فإنه جعلهم أحياء يقاتلون في سبيل الله سبحانه، فالله عز وجل يقبل هؤلاء؛ لأنهم ثبتوا على دين الله سبحانه وتعالى، فالوعد إذاً لمن عاش وبقي مجاهداً في سبيل الله أن يثبته الله على هذا الدين، وألا يضله سبحانه وتعالى، وأن يهديه ويزيده هدى، أما الذي قتل وتوفي ومات في سبيل الله سبحانه فله هداية أخرى، فإن الله يهديه في قبره، ويهديه يوم القيامة على الصراط، ويهديه سبحانه لطريق الجنة، ويثبته الله سبحانه وتعالى في قبره فلا يفتنه سبحانه وتعالى، فالذين عاشوا لهم هداية معينة، وللآخرين هداية معينة وكل بحسبه. قال تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:4] أي: لن يضيع عليهم ثواب ما عملوا في الجهاد في سبيل الله سبحانه، بل سيزيدهم هداية وإيماناً حتى يتوفاهم على ذلك سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (سيهديهم ويصلح بالهم)

تفسير قوله تعالى: (سيهديهم ويصلح بالهم) قال الله: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} [محمد:5] هذه على قراءة الجمهور أي: ما داموا على قيد الحياة، (ويصلح بالهم) أي: شأنهم وعملهم، فيحمل قوله تعالى: (والذين قاتلوا في سبيل الله)، على الأحياء المجاهدين، أما الذين قتلوا فسيصلح بالهم في السؤال في القبر، وفي التثبيت يوم القيامة، وفي السؤال عند الله عز وجل، وفي المرور على الصراط، وفي الهداية إلى الجنة، وسيصلح لهم عملهم الذي عملوه في الدنيا. قال: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} [محمد:5]، والبال يأتي على ثلاث معانٍ: الشأن والأمر والحال.

تفسير قوله تعالى: (ويدخلهم الجنة عرفها لهم)

تفسير قوله تعالى: (ويدخلهم الجنة عرفها لهم) قال الله: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد:6]، هذه آية عظيمة جميلة، فالله تعالى يدخل العباد الجنة، (عرفها لهم) أي: وهم في الدنيا، أخبرهم بأن في الجنة كذا وكذا، وإذا كان الله قد عرفك بهذه الجنة فاطلبها، ولتطلبها بعملك ودعائك، فقد عرفك الله عز وجل الجنة، فاطلبها بالعمل وبالنية الحسنة وبالقول السديد، قال: {عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد:6]، فإذا دخلوا الجنة عرفها لهم، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري عن أبي سعيد قوله: (يخلص المؤمنون من النار، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقضى لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا) أي: أن هؤلاء يخلصون من المرور على الصراط، فمنهم من يجري سريعاً، ومنهم من يمر كطرف العين، ومنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح المرسلة، أو كأجاويد الخيل، أو كالذي يسعى من الرجال، وكل بحسبه، قال: (فمنهم من يتأخر في ذلك، ومنهم من يمر سريعاً، فإذا خلصوا من هذه يحبسون على قنطرة بين الجنة وبين النار)، فيحبسون في مظالم كانت بينهم في الدنيا، ولا يعني أنك إذا خلصت من النار أنك قد تحللت منها، بل تبقى عليك مظالم فيقتص منك، فيأخذ المظلوم من حسناتك، حتى إذا هذبوا ونقوا قبل دخول الجنة أمروا بدخول الجنة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أذن لهم بدخول الجنة، فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله في الدنيا)، وانظر إلى قول الله: {عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد:6]، فليسوا بمحتاجين إلى دليل يدلهم على الجنة؛ فهم أعرف بمكانهم في الجنة، ولكن الدليل معهم يكون كنوع من التشريف، مثلما يجيء الإنسان الكبير في القوم وقومه أمامه وخلفه وهو يعرف طريقه ويعرف بيته، ولكنهم يوسعون له الطريق، وكذلك الملائكة، فإنها تستقبل هؤلاء وتذهب بهم إلى ديارهم في الجنة تشريفاً لهم، وإلا فقد عرفوا منازلهم، كما أنك تصلي الجمعة، وتخرج من صلاة الجمعة وأنت تعرف بيتك، مع أنك في وسط زحمة الناس، فكذلك أهل الجنة يعرفون بيوتهم، والملائكة توصله إلى هذا المكان الذي هو يعرفه أشد معرفة، وأكثر من معرفته بداره في الدنيا. قال: (فوالذي نفس محمد بيده، لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله في الدنيا)، فقد بينها الله لعباده، وقد عرفها عباده في الدنيا بما فيها من ملاذ، وما فيها مما يشتهيه المؤمن، وعرفها لهم يوم القيامة فدخلوا إلى ديارهم غير محتاجين لمن يدلهم عليها.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) ثم قال الله عز وجل للمؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، هذه الآية لا بد أن تكون دليلاً لكل مؤمن يريد وجه الله سبحانه وتعالى وجنته، ولكن لمن يريد أن يكون الله معه سبحانه وتعالى، فإذا أردت أن يكون الله معك فتذكر معيته لعباده المؤمنين، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]، فالله مع المحسنين، وهو يحب المحسنين سبحانه وتعالى. قال: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، إذا أردت معية الله تعالى لك بقوته سبحانه، وتوفيقه وهدايته فكن مع الله سبحانه، وامش في طريق الله سبحانه وتعالى، ودافع عن دين الله سبحانه كما قال: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38]، فالجزاء من جنس العمل، فإذا دافعت عن دين الله دافع الله عنك، وليس معنى ذلك: أنك كلما دافعت عن دين الله فلن تبتلى ولن تجرح أو تسجن، بل ابتلاء المؤمنين من سنة الله في خلقه سبحانه، قال صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، ويبتلى الرجل على قدر دينه، فإن كان في دينه قوة زيد له من البلاء، وإن كان في دينه رقة، قلل له من البلاء). إذاً: الله عز وجل يبتلي العبد بأشياء في الدنيا بما يشاء سبحانه وتعالى، فإذا كان صلباً في دينه زيد عليه من البلاء؛ لأن الله يعلم صبره على ذلك سبحانه ويقدره، وإذا كان دينه ضعيفاً قلل له من البلاء سبحانه وتعالى. فإذا كنت تريد أن يكون الله معك وأن ينصرك ويدافع عنك فكن من المؤمنين، وكن مع المؤمنين، وكن من الصادقين، فإن الله يحب هؤلاء، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]. نسأل الله عز وجل أن ينصر الإسلام والمسلمين، وأن يجعلنا جنوداً لدين رب العالمين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة محمد الآية [7]

تفسير سورة محمد الآية [7] وعد الله عز وجل عباده بالنصر إذا هم نصروه سبحانه، وذلك بالتمسك بشرعه، فيأتمرون بأمره ويجتنبون نهيه، فإذا فعلوا ذلك فإن الله سينصرهم؛ وقد نصر عز وجل الصحابة، وفتح بهم مشارق الأرض ومغاربها، وما ذاك إلا بتمسكهم بشرع الله ودينه.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم) الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة محمد صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:7 - 8]. وعد الله عز وجل المؤمنين بالنصر إذا نصروا دين الله سبحانه، ووعدهم أن يخزي أعداءه ويهزمهم ويجعل لهم التعاسة والخيبة والشقاء والخسران والوبال والهلاك، {وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122]. والإنسان المؤمن حين يتأمل في تاريخ دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه، ثم الصحابة من بعد النبي صلى الله عليه وسلم كيف دعوا إلى الله عز وجل، وكيف نصروا دين الله فنصرهم الله سبحانه تبارك وتعالى؛ يزداد يقيناً في أن النصر يكون مع أخذ أسباب هذا النصر، وأعظم الأسباب الإيمان، واليقين، وأيضاً الاستعداد، قال عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60]، فليس الأمر أن يقول الإنسان: أنا مسلم، وإذا كنت مسلماً فلازم أن أنتصر، ليس كذلك؛ فإن الله عز وجل يقول: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال:66]، وهنا قيد (أن تعدوا) ويكون العدد قريباً من عدد العدو، أو يكون أقل من عدد العدو، ولكن ليس عدداً قليلاً جداً، فلتكن مائة أمام مائتين وألف أمام ألفين من الأعداء، فإن أعددتم لهذا العدو العدة فالله عز وجل ينصركم. فانتصاركم يكون باستعدادكم الإيماني، واستعدادكم البدني، وإعدادكم القوة والسلاح لحرب هؤلاء الكفار، وبثقتكم في الله سبحانه، وبالتوكل على الله سبحانه، وبأخذ الحذر من كيد الكفار، فهنا بيان أن الإنسان المؤمن ينتصر بالإعداد ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحرب خدعة)، وأنت مع الكافر إما أن تهزمه فتقتله، وإما أن تُهزم وتُقتل وتُغلب، فالإنسان إما غالب وإما مغلوب. فإذاً لا تضيع الأخذ بالأسباب؛ حتى لا تضيع نفسك، وتضيع دين الله سبحانه.

ذكر قصة معركة نهاوند

ذكر قصة معركة نهاوند ومن القصص التي ذكرت في التاريخ: قصة فتح نهاوند، وهذه القصة ساقها الإمام الطبري في تاريخه، وساقها ابن حبان وغيرهما، وفيها أن عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه بعث جيوشاً لفتح نهاوند، وكان السبب في ذلك: أن الكفار أرسلوا إلى ملكهم ملك الفرس يزدجرد يقولون له: إن المسلمين أخذوا الأهواز، وهي بلدة من بلاد الفرس، فغضب، وأرسل إلى كل مكان ليجمع جيشاً عظيماً، فجمع جيشاً في هذا المكان، وكان عدد جيش الكفار نحو مائة وخمسين ألفاً من المقاتلين؛ ليقاتلوا المسلمين. فجمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه من يذهب إلى هنالك، وكان يريد أن يذهب بنفسه رضي الله عنه، ولكنه استشار الصحابة، ومن ضمنهم علي بن أبي طالب فكانت مشورة الصحابة عليه أنك لو أرسلت إليهم أهل اليمن من المسلمين، فسيزحف أهل الحبشة على اليمن، فيقاتلون أهل اليمن ويأخذون اليمن، ولو أرسلت إليهم أهل المدينة وأنت خرجت بنفسك، فسيتكاثر عليهم الكفار من حولهم، وتضيع المدينة، لكن ابق أنت في المدينة مثلما أنت، واترك أهل اليمن مكانهم، وأرسل إليهم مَن حولهم هناك من أهل الكوفة وغيرها، فأرسل جيشاً كان قوامه ثلاثين ألفاً، ولاحظ الفرق بين عدد الكفار وعدد المسلمين، فالكفار مائة وخمسون ألفاً، والمسلمون ثلاثون ألفاً، يعني: خمس عدد الكفار! فالكفار جاءوا بعدد ضخم جداً، وهم في غاية الغضب وغاية القوة يريدون الانتصار والانتقام من هؤلاء المسلمين، وقد ذكرنا أن الكفار أرسلوا إلى جيش عمر رضي الله عنه يطلبون واحداً يتكلمون معه، فذهب المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، وحصل ما حصل بينه وبين الأمير رئيس الكفار، وكان يريد أن يجلس معه على كرسيه؛ كنوع من الاستهانة به، والتحقير له ولمن معه، وتكلم معهم، فكلمهم بكلام مرعب، فأرعبهم في كلامه، وكان من ضمن ذلك أنه قال: كنا فقراء وكنا عالة وكنا وكنا وكنا، ولكن جاء النبي صلى الله عليه وسلم فجمعنا على الحق، واهتدينا بهذا الدين العظيم، ثم جئناكم الآن، وبلغنا أن دياركم فيها السمن وفيها العسل وفيها المال، فلن نرجع إلى التقشف وإلى الفقر الذي كنا فيه حتى نأخذ هذا منكم. فأُرعب الملك بهذا الكلام الذي قاله، وقال لما رجع: ما تركتهم إلا وقد أرعبتهم، أي: أنه تركهم في رعبهم. وهؤلاء الكفار الذين خرجوا للقتال طلبوا من المسلمين وقالوا: إما أن نعبر إليكم، أو أنتم تعبرون إلينا، فالمسلمون قالوا: اعبروا، فعبروا إليهم، يقول راوي القصة: فجعلوا يجيئون كأنهم جبال الحديد، وقد تواثقوا ألا يفروا من العرب. يعني: أنهم جعلوا بينهم عهوداً ألا يفروا من العرب، ولكنهم لم يصدقوا أنفسهم، فعهودهم ليست قوية، فلذلك احتاجوا أن يربطوا بعضهم إلى بعض، فجعلوا كل سبعة في سلسلة، فكان الرجل منهم عليه حديد، وصاروا كأمثال الجبال، ثم جاءوا لقتال المسلمين فقرن بعضهم إلى بعضهم، بحيث يبقوا جملة يقاتلون العرب، ولا يستطيع العرب أو المسلمون أن ينفذوا بينهم. فقال المغيرة حين رأى كثرتهم: لم أر كاليوم قتيلاً، إن عدونا يتركون أن يتتاموا فلا يُعجلوا؟! يعني: أنه كان له وجهة نظر، وكان قائد الجيش النعمان بن مقرن الصحابي الفاضل رضي الله عنه، وكان فيهم حذيفة بن اليمان صاحب سر النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من أفاضل الصحابة رضي الله عن الجميع، فـ المغيرة كان له وجهة نظر، والمغيرة كانت من أذكياء العرب في الجاهلية وفي الإسلام، حتى كانوا يقولون: إنه داهية من دواهي العرب، فرضي الله تبارك وتعالى عنه، وقد ذكرنا قصته في إسلامه، وذلك أنه ذهب مع مجموعة من الكفار إلى الحبشة فأعطاهم ملك الحبشة هدايا، وأعطاه أقل منهم، فلما كان راجعاً معهم سقاهم خمراً، وقتلهم جميعاً وأخذ أموالهم، وذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم، وقال: هذه أموالهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال له: (أما المال فلا -أي: أنك أخذته غدراً فلا نقبله-، وأما الإسلام فنعم)، فرفض أن يأخذ منه المال، وله قصص وحكايات طويلة تدل على ذكائه وقدرته العقلية الفائقة رضي الله عنه. فهنا المغيرة لم يكن يعجبه أن الفرس يعبرون إلى المسلمين، وكأنه يقول: كيف نصبر عليهم إلى أن يتجيشوا ويتحصنوا، ثم نقاتلهم؟ ولذا قال: لم أر كاليوم قتيلاً، يعني: أنه سيكون فينا مقتلة عظيمة من هؤلاء إذا تركناهم. فـ النعمان بن المقرن رضي الله عنه أمر المسلمين أن يصبروا، وقال لهم: اصبروا، لا أحد يقاتل، فحضروا أسلحتكم، واصبروا إلى أن يأتي وقت الزوال، وتهب رياح النصر، قال لهم ذلك لأنه كان يرى النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، فإنه كان ينتظر إلى أن يمر وقت الظهيرة ويبدأ في القتال صلى الله عليه وسلم، لكن المغيرة لم يعجبه هذا الشيء؛ لأن الكفار سيرشقونهم بالرماح، وهم قاعدون وساكتون بأمر النعمان بن المقرن رضي الله عنه. وكان المغيرة يقول: والله! لو أن الأمر إلي قد أعجلتهم، وكان النعمان رجلاً بكاءً، فقال: قد كان الله عز وجل يشهدك أمثالها، فلا يحزنك ولا يعيبك موقفك. يعني أنت أهل أن تكون قائد الجيش، وأنت لست أقل من ذلك، وقد كان الله يشهدك أمثالها، ولكن لا يعيق موقفك أنك الآن جندي عندي، وأنك تستحق أن تكون قائداً، ولا تحزن لذلك، وإني والله! ما يمنعني أن أناجزهم إلا شيء شهدته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا غدا فلم يقاتل أول النهار لم يعجل حتى تحضر الصلاة، وتهب الرياح، وينزل النصر. يعني: كان ينتظر إلى أن يأتي وقت صلاة فريضة، فيصلي ثم يقاتل صلوات الله وسلامه عليه، فيأتي النصر من عند الله عز وجل، فقال النعمان بن المقرن رضي الله عنه: اللهم إني أسألك أن تقر عيني بفتح يكون فيه عز الإسلام وأهله، وذل الكفر وأهله، وقال للمسلمين: إني داعٍ فأمنوا، والله عز وجل إذا فتح على يدي إنسان فهذا شيء عظيم جداً، والإنسان يفرح بذلك، والنعمان كان يريد أن يفرح بالنصر إذا انتصر الجيش، ومن ثم يكون هو شهيداً رضي الله عنه. فقال وهو يدعو ربه: اللهم إني أسألك أن تقر عيني بفتح يكون فيه عز الإسلام وأهله، وذل الكفار وأهله، ثم اختم لي على إثر ذلك بالشهادة. أي: لا أريد أن أعيش أكثر من هذا، أريد فقط أن تقر عيني بالنصر، والشهادة بعد ذلك. ثم قال: أمنوا رحمكم الله، قال: فأمنا، قال النعمان: إني هاز لوائي فتيسروا للسلاح، ثم هازها الثانية فكونوا متأهبين لقتال أعدائكم، فإذا هززتها الثالثة فليحمل كل قوم على من يليهم من عدوهم على بركة الله. يقول: سأهز اللواء، فإذا هززته فاستعدوا، وكل واحد يحضر نفسه للقتال، والهزة الثانية اركبوا خيلكم وجهزوا أسلحتكم، والهزة الثالثة اهجموا على أعدائكم. وكان الأعداء قبل ذلك يرمونهم بالرماح، وكان المسلمون لا يقومون لهم، وكأن الكفار استقلوا هؤلاء، وظنوا أنهم ناس ضعفاء، فلما حضرت الصلاة وهبت الرياح كبر وكبرنا، وقال النعمان: ريح الفتح إن شاء الله، وإني أرجو أن يستجيب الله لي، وأن يفتح علينا، قال: فهز اللواء فتيسرنا، ثم هزها الثانية، ثم هزها الثالثة، فحملنا جميعاً كل قوم على من يليهم. وكان عدد المؤمنين قليلاً فإنهم كانوا ثلاثين ألفاً، أمام مائة وخمسين ألفاً جاءوا بأسلحة عظيمة جداً أمثال الجبال، وجاءوا متواثقين على أنهم لا يفروا، وكان الكفار واضعين وراءهم حسك الحديد، ففي أول القصة قال: وألقوا حسك الحديد خلفهم، أي: مثل شجر الشوك، ولكنها من الحديد، وأوقدوا ناراً وراءهم، ووضعوا حسك الحديد؛ من أجل ألا يفر أحد، وإذا فروا يقتلهم الحديد. وانظر إلى حكمة الله سبحانه تبارك وتعالى القائل: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7]، والقائل: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]، فهؤلاء جعلوا مقتلهم بأيديهم، ووضعوا حسك الحديد وراءهم، وهنا بدأ القتال وثبت الكفار وصبر لهم المسلمون، وكانوا ثلاثين ألفاً أمام مائة وخمسين ألفاً من الكفار، وقال النعمان للمؤمنين: إن أصبت أنا فعلى الناس حذيفة، فإن أصيب حذيفة ففلان ثم فلان، حتى عد سبعة آخرهم المغيرة بن شعبة رضي الله عنه. يقول راوي القصة: فوالله! ما علمت من المسلمين أحداً يحب أن يرجع إلى أهله حتى يقتل أو يظفر. فالمؤمنون لا أحد منهم يريد أن يرجع إلى أهله إلا منتصراً، ولسان حالهم: إما أننا نقتل شهداء، فالجنة أمامنا، وإما أننا نظفر بهؤلاء، فإذا كانت هذه هي النية فمستحيل أن يفر صاحبها، مستحيل أن رجلاً يريد الشهادة فيفر؛ ولذلك ثبت المسلمون في قتال شديد، يقول الراوي: فلم نسمع إلا وقع الحديد على الحديد، ولا نسمع شيئاً، ولا يوجد صوت إلا صوت الحديد على الحديد، والسلاح يضرب في بعضه، حتى أصيب من المسلمين عصابة عظيمة، فلما رأى الكفار أنه يقتل من المسلمين ويقتل من المسلمين ويقتل من المسلمين والباقي صابرون لا يفرون، لما وجدوا الصبر هذا، جعلوا يفرون، وقتل في المعركة ثلاثون ألفاً من الكفار، يعني: مثل عدد جيش المسلمين كاملاً، قال: فجعلوا ينهزمون، وجعلوا يرجعون ويقع الرجل فيقع عليه سبعة؛ لأنهم كانوا رابطين أنفسهم بالحديد، وهذا مصداق قوله عز وجل: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]، فلولا عون الله لما قدر ثلاثون ألفاً من المسلمين على مائة وخمسين ألفاً أمثال جبال الحديد، فهو نصر من عنده، {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7] فجعل كيدهم في نحورهم، وجعل بأسهم بينهم، وجعل تدبيرهم تدميرهم، ودمرهم سبحانه تبارك وتعالى بأسلحتهم. فالكفار جهزوا حسك الحديد، وأشعلوا النيران و

تفسير سورة محمد [7 - 8]

تفسير سورة محمد [7 - 8] وعد الله عباده المؤمنين بالنصر والتمكين إن هم نصروا الله سبحانه ونصروا رسوله صلى الله عليه وسلم وأعدوا العدة لقتال الأعداء، فقد كانت انتصارات المسلمين على مر التاريخ لأنهم نصروا الله ورسوله وصدقوا الله في لقاء الأعداء، وقد كتب الله التعاسة والشقاء على الكافرين، وعلى كل من خالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة محمد صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:7 - 8]. يخبرنا ربنا سبحانه وتعالى في هذه الآيات أن النصر من عنده، وأنه ينصر المؤمنين إذا نصروا دين الله سبحانه، وهذا سبب ونتيجة، شرط وجواب، فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ} [محمد:7] إن تنصروا دين الله عز وجل، وإن تدافعوا عن دين الله سبحانه، وإن تنصروا المستضعفين من المؤمنين؛ فالله عز وجل ناصركم ومثبت أقدامكم، ومعطيكم خير الدنيا والآخرة. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [محمد:7] أي: يا من صدقتم ودخلتم في هذا الدين، موقنين بالله رب العالمين أنه ربكم وأن هذا رسولكم صلوات الله وسلامه عليه، وأن هذا القرآن من عند رب العالمين. يا من آمنتم بالجنة وعرفتم النار وصدقتم وآمنتم بهذا كله، يا مؤمنون جاهدوا في سبيل الله عز وجل، فإذا نصرتم الله عز وجل فالله معكم والله ناصركم سبحانه. وكان المؤمنون يدعون ربهم سبحانه في قتالهم يقولون: فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا إن الألى إذا بغوا علينا أو أرادوا فتنة أبينا فكانوا يقولون لله سبحانه: ثبت الأقدام إن لاقينا، فالله عز وجل يثبتهم بما يشاء من تثبيت، وتثبيت الأقدام يأتي من تثبيت القلوب، ويأتي مما يصنعه الله سبحانه وتعالى للمؤمنين، قال تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} [الأنفال:11]. فهذا تثبيت من الله عز وجل للمؤمنين: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} [الأنفال:11] المؤمنون في قتالهم الأعداء يرون كثرة أعدائهم، ويرون قلة ما هم فيه من عدد ومن عدة، ومع ذلك إذا بالله سبحانه وتعالى يثبت المؤمنين تثبيتاً شديداً. ويخبرهم الله على لسان النبي صلى الله عليه وسلم بالوعد الحق أنه ناصرهم في يوم بدر، وأنه سيربط على قلوبهم سبحانه، قال تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [الأنفال:11] أي: بركات من السماء، فإذا بهم يجدون ما يشربون من ماء السماء ويتوضئون به، كذلك يجعل التراب الذي تحت أقدامهم صلباً فتثبت أقدامهم. ويربط بذلك على قلوبهم ويعطيهم شيئاً عجيباً أن يناموا والأعداء يتربصون بهم، قال تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} [الأنفال:11] فينام أحدهم وهو قاعد وهو قائم ويغشى عليه، حتى يكاد يقع عن الدابة التي هو عليها، فينامون ربطاً على قلوبهم، فيثبتهم الله سبحانه تبارك وتعالى بذلك. وحين يواجهون أعداءهم، قال الله تعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ} [الأنفال:43] فالله سبحانه وتعالى عليم بذات الصدور، وأعلم بما في نفوس المؤمنين، فيري النبي صلى الله عليه وسلم رؤيا منامية أن الأعداء قليلون، فيطمئن النبي صلى الله عليه وسلم ويبشر المؤمنين. قال تعالى: {إذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا} [الأنفال:43]، وقال تعالى: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} [الأنفال:44] وقال تعالى: {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال:42] أي: سميع بما تقولون، عليم بما تفعلون سبحانه، عليم بما في قلوبكم، وتدبير الأمر كله من الله سبحانه، تجد أنه يحرك هؤلاء ويحرك هؤلاء، فالكفار يرون المؤمنين قلة وهذه الحقيقة، والمؤمنون يرون الكفار قلة، إذ إن الله سبحانه غير المنظر فأرى المؤمنين أن الكفار عددهم قليل جداً فإذا بالمؤمنين يستأسدون ويتقوون على أعدائهم، والكفار يرون المؤمنين قلة حتى يهجموا ويقدموا للقتال، فلو انعكس الأمر بأن جعل الله الكفار يرون المؤمنين عدداً كثيراً لما حصل قتال، ولهرب الكفار وهم الذين جاءوا للمؤمنين، ولكن الله أراد أن يلتقي الفريقان وأن يتقدم الكفار إلى المؤمنين حتى يرينا نصره سبحانه، قال تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران:126]، فهذا شيء أحدثه الله عز وجل للمؤمنين حين التقوا مع الكفار في يوم بدر، ونصر الله عز وجل المؤمنين نصراً عظيماً ما كانوا يتخيلونه. قال تعالى: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7] فهم قد نصروا الله سبحانه، وقد سألهم النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى الكفار وعدد الكفار: (أشيروا علي أيها القوم) فكانت الإشارة من المهاجرين ومن الأنصار: أقدم يا رسول الله، لو خضت بنا برك الغماد لخضناه معك. أي: اذهب لآخر الأرض التي نعرفها وهي برك الغماد فسنذهب معك لهذه الأرض مثلما تريد، وأوصل حبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وعاد من شئت، وسالم من شئت، نحن معك، ولا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] بل نقول: إنا معكما مقاتلون. قاتل يا رسول الله ونحن معك ونحن أمامك ووراءك صلوات الله وسلامه عليه، فكان النصر من عند الله سبحانه وتعالى، وهذه معاني نتعلمها من كتاب الله ومن سير أصحاب رسول الله مع النبي صلوات الله وسلامه عليه في جهادهم وقتالهم للكفار. فقد رباهم النبي صلى الله عليه وسلم على حب الجنة، فكان جهادهم ابتغاء مرضات الله وطلباً لهذه الجنة العظيمة، والله يعدهم هذا الوعد العظيم: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7] ولم يكن للنبي فقط عليه الصلاة والسلام وإنما الوعد باق من الله عز وجل لكل المؤمنين في كل زمان ومكان. فقوله تعالى: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7] أي: ينصركم الله عز وجل إذا أتيتم بشروط هذا النصر، وهو نصركم لدين الله وإعدادكم للكفار ما استطعتم من قوة، قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60]، فإذا أعد المؤمنون أنفسهم وأعدوا ما في قلوبهم من قوة بالاعتصام بحبل الله وبكتاب الله وبهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالتمسك بدينهم، وأعدوا ما استطاعوا من قوة ومن عدة ومن عدد لجهاد أعدائهم، ومن ربط بين المسلمين وتآلف فيما بينهم ومن اتحاد واعتصام بحبل الله سبحانه، فإن الله ناصرهم.

تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم)

تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا فتعساً لهم وأضل أعمالهم) قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:8] أي: الذين كفروا لهم الخيبة ولهم التعس ولهم التعاسة ولهم الشقاء ولهم الوبال ولهم الهلاك والشنار، ولهم من الله عز وجل الدمار، فقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ} [محمد:8] أي: يتعسهم الله ويخزيهم ويخيب أمرهم سبحانه وتعالى. فلست أنت الذي تصنع، وإنما الله سبحانه وتعالى يصنع ذلك، قال تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]. وهل الكفار فقط الذين يتعسون؟ الله عز وجل ذكر ذلك، وذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم أن من الذين يتعسون من عبد الدنيا ومن طلب الدنيا ومن كان همه فيها الدينار والدرهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم). فالإنسان الذي همه الدنيا إنسان تعيس، دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم بالتعاسة وبالخيبة وبالشقاء وبأن لا ينال مراده من هذه الدنيا، قال: (تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش). فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم لأن همه في الدنيا، لا يهتم لدين ولا لصلاة ولا لصوم ولا لدعوة إلى الله سبحانه، سواء انتصر المسلمون أو انهزموا لا يهمه ذلك، المهم ماله! فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: خيبك الله، تعست أيها الإنسان، أنت همك نفسك فقط، وأنت ما خلقت إلا لإقامة هذا الدين، فكل أمر الله عز وجل ليس على بالك، فلا تستحق إلا التعاسة والخيبة والشقاء. قال: (تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش)، الانتقاش: إزالة الشوكة بالملقاط، فيدعو عليه النبي صلى الله عليه وسلم أنه لو شيك فلا قدر على أن يخرجها من قدمه؛ لأنه لا يستحق أن يعافى؛ لأنه ابتعد عن دين الله سبحانه وتعالى. بل الكافر له التعاسة وله الشقاء، وكذلك من المسلمين من تركوا دين الله عز وجل وراءهم ظهرياً وعبدوا الدرهم والدينار، وأقبلوا على الدنيا وعلى تحصيلها من كل مكان، وفروا من القتال في سبيل الله عز وجل ومن الجهاد في سبيله.

من قصص الصحابة في نصرهم دين الله عز وجل

من قصص الصحابة في نصرهم دين الله عز وجل إن قصص الصحابة كثيرة في نصر دين الله عز وجل، وقد رأينا كيف أنهم يدعون إلى الله عز وجل في قتالهم لأعدائهم، فإذا أصر أعداؤهم على الكفر قاتلوهم فنصر الله عز وجل بهم دين الله سبحانه. كان أحدهم يتقدم ويتحنط قبل القتال كما فعل ثابت بن قيس بن شماس خطيب الأنصار بل خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعند قتال مسيلمة الكذاب ومن معه قال لمن معه من التابعين ومن حضر الموقعة: بئس ما عودتم أقرانكم، أن تفروا من أمام هؤلاء! وكان يلبس كفنه، ويريهم أن الذي يتقدم للقتال لا يطلب الدنيا؛ لأن الذي يطلب الدنيا لن يقاتل، بل سيفر ويهرب، فاطلب الآخرة، فقد كان أحدهم يتقدم للقتال في سبيل الله ويقول: واه لريح الجنة، لئن صبرت حتى آكل هذه التمرات إنه لعمر طويل، فيرميها ويتجه للقتال في سبيل الله عز وجل طالباً جنته سبحانه وتعالى. وهذه قصة في عهد عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه في فتح نهاوند، ونهاوند من بلاد الفرس فتحها الله عز وجل للمؤمنين في عهد عمر رضي الله عنه، وكان قائد المسلمين في القتال هو النعمان بن مقرن رضي الله تبارك وتعالى عنه، أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان بكاءً رضي الله عنه، عظيم البكاء من خوف الله عز وجل، وفتح الله عز وجل على يديه وعلى يد المسلمين هذه البلدة التي كانت صعبة وعسيرة. وهذه القصة يذكرها ابن جرير الطبري في تاريخه ويذكرها ابن حبان في سياق طويل جداً، وهي قصة إسنادها صحيح صححها الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة، وفيها يقول ابن جبير بن حية عن أبيه أن الهرمزان أحد قادة الفرس أسره عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه وكان عمر يريد قتله، فـ الهرمزان أراد أن يشرب ماء وخدع عمر رضي الله عنه بقولة قالها، وذلك لما أتوا له بالماء لم يمد يده إليه، فإذا بـ عمر يقول له: اشرب لا بأس، عمر يقصد أنه لن نفعل بك شيئاً، فالرجل أخذ الماء وشرب فلما أراد عمر قتله قال: لقد أمنتني أي: أعطيتني الأمان، فكيف تقتلني الآن؟ فتعجب عمر وقال: أين الأمان الذي أعطيته لك؟ قال: قلت لي: اشرب لا بأس، فإذا بـ عمر ينظر للصحابة وكان عظيم الورع، فقالوا: صدق أنت الذي قلت له: لا بأس، قال: خدعني خدعه الله. وأظهر الهرمزان إسلامه، وكان مع عمر، فأراد عمر رضي الله عنه النصيحة من الهرمزان في أمر فارس، وقد كان عمر في غاية الذكاء رضي الله تبارك وتعالى عنه، لا مانع من أن يأخذ النصيحة ممن كان عدواً له، ولكن يفكر في هذه النصيحة قبل أن يأخذ بها، وهل يقبل النصيحة من عدو؟ فقد يكون أنت تقاتله البارحة، واليوم صار صديقاً لك، لكن العداوة ما زالت موجودة في القلب، فليس معنى أنه في البارحة كان عدواً لك واليوم صديقاً لك أنه دخل في الإسلام دخولاً حقيقياً، فلما طلب عمر من الهرمزان النصحية قال الهرمزان: إن فارس اليوم رأس وجناحان، أي: فارس مثل طائر له رأس وله جناحان، فقال له عمر رضي الله عنه: فأين الرأس؟ قال: نهاوند مع بندار واحد من أعظم رؤساء الفرس، فإن معه أساورة كسرى وأهل أصفهان. قال عمر: فأين الجناحان؟ فذكر الهرمزان الجناحين، والراوي يقول: نسيت المكان الذي ذكره، فقال الهرمزان لـ عمر ناصحاً: اقطع الجناحين توهن الرأس، فقال له عمر رضي الله عنه: كذبت يا عدو الله تريد أن تفل جموع المسلمين وتفتتهم شمالاً ويميناً حتى إذا جاءوا للرأس هُزموا، بل أبدأ بالرأس، فكان عظيم الحكمة رضي الله تبارك وتعالى عنه، قال: بل أعمد إلى الرأس فيقطعه الله، وانظر إلى قوله البليغ، ليس هو الذي يقطع الرأس، ولكن الله سبحانه وتعالى هو الذي سيقطعه، فإذا قطعه الله عنهم، انقطع عنهم الجناحان، فأراد عمر أن يسير بنفسه لقتال الفرس رضي الله تبارك وتعالى عنه، فإذا بأصحابه رضوان الله عليهم يقولون: نذكرك الله يا أمير المؤمنين أن لا تسير بنفسك إلى العجم، فقد استقرت الدولة في عهد عمر، وكانت دولة الإسلام في عهده أعظم ما يكون. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لم أر عبقرياً يفري فري عمر) رضي الله عنه، وذلك حين رآه في رؤيا منامية. فقالوا: إن أصبت بها لم يكن للمسلمين نظام، ولكن ابعث الجنود، فبعث أهل المدينة وبعث فيهم ابنه عبد الله بن عمر حتى لا يقال: عمر قعد وخاف على أهله، قال: وبعث المهاجرين والأنصار لتثبيت المقاتلين من المسلمين. وكتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن سر بأهل البصرة، وكتب إلى حذيفة بن اليمان أن سر بأهل الكوفة، حتى تجتمعوا بنهاوند جميعاً، فإذا اجتمعتم فأميركم النعمان بن مقرن رضي الله عنه، وهو صحابي فاضل، وذكرنا أنه كان عظيم الزهد كثير البكاء من خشية الله سبحانه، فلما اجتمعوا بنهاوند أرسل إليهم بندار كبير الفرس أن أرسلوا إلينا يا معشر العرب رجلاً منكم نكلمه، فبعث الصحابة إليه المغيرة بن شعبة رضي الله عنه وكان من أذكى خلق الله رضي الله تبارك وتعالى عنه. فذهب المغيرة بن شعبة، قال الراوي: وهو رجل طويل أشعر، أي: شعره طويل أعور رضي الله تبارك وتعالى عنه، وأفتاهم فلما رجع إلينا سألناه فقال: وجدت العلج قد استشار أصحابه. والعلج بمعنى: الرجل غير العربي، والعلوج يعني: غير العرب، يطلق عليهم ذلك، قال: قد استشار أصحابه في أي شيء تأذنون لهذا العربي؟ أبشارتنا وبهجتنا وملكنا أو نتقشف له فنزهده؟ يعني: إذا جاءنا هذا العربي، هل نظهر له أبهتنا وعظمتنا وفرشنا فيخاف منا، أو نظهر أمامه في صورة الزهاد المتمسكين الذين لا حيلة لهم، فيبعدون عنا ويتركونا؟ قالوا: بل نأذن له بأفضل ما يكون من الشارة والعدة، قال: فلما رأيتهم رأيت تلك الحراب والترع يلمع منها البصر، فلما نظر إلى المنظر الذي هم فيه قال: ورأيتهم قياماً على رأس أميرهم أو رئيسهم، فإذا هو على سرير من ذهب، أي: له عرش ضخم جداً من ذهب وعلى رأسه التاج، فمضيت كما أنا، والصحابة زهاد لا يملكون إلا الثياب الرثة، وقد كان يلبسها رضي الله عنه، قال: ونكست رأسي لأقعد معه على السرير، فدفعت ونهرت، فقلت لهم: إن الرسل لا يفعل بهم هذا! فلما قال لهم ذلك، قالوا: إنما أنت كلب أتقعد مع الملك؟! فقال: لأنا أشرف في قومي من هذا فيكم، فانتهرني وقال: اجلس فجلست، فترجم لي قوله فقال: يا معشر العرب إنكم كنتم أطول الناس جوعاً، وأعظم الناس شقاءً، وأقذر الناس قذراًً، وأبعد الناس داراً، وأبعدهم من كل خير، وما كان منعني أن آمر هذه الأساور أن ينتظموكم بالنشاب إلا تنجساً لجيفكم لأنكم أرجاس، فإن تذهبوا يخلى عنكم، وإن تأبوا نبوئكم مصارعكم. انظروا هنا الافتخار بالنفس والكبر والغرور الذي يؤدي بالإنسان إلى أن يكون جيفة في القبور، تكبر على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أنتم جيف! قال المغيرة: فحمدت الله وأثنيت عليه وقلت: ما أخطأت من صفتنا شيئاً، إن كنا لأبعد الناس داراً، وأشد الناس جوعاً، وأعظم الناس شقاءً، وأبعد الناس من كل خير، حتى بعث الله إلينا رسولاً صلوات الله وسلامه عليه فوعدنا بالنصر في الدنيا والجنة في الآخرة، فلم نزل نتعرف من ربنا منذ جاءنا رسوله صلى الله عليه وسلم الفلاح والنصر حتى أتيناكم، وإنا والله نرى لكم ملكاً وعيشاً لا نرجع منه إلى ذلك الشقاء أبداً، يعني: لن نترككم أبداً سنأخذ كل ما عندكم، فقد كان رضي الله عنه غاية في الذكاء، وكان عظيماً في الكياسة وعظيماً في التكلم رضي الله عنه، واختيار ما يرعب به خصمه، قال: لا نرجع إلى ذلك الشقاء أبداً حتى نغلبكم على ما في أيديكم أو نقتل في أرضكم، فقال الرجل لقومه: أما الأعور فقد صدق، هذا الأعور الذي جاءكم قد صدق في كلامه الذي نسمع، قال: فقمت من عنده وقد -والله- أرعبت العلج جهدي. فهذا واحد من المسلمين يرعب عظيم الفرس قائد هذا الجيش كله! فقال: فأرسل إلينا العلج إما أن تعبروا إلينا بنهاوند وإما أن نعبر إليكم، وكان بين المسلمين والكفار نهر فقال النعمان بن مقرن رضي الله عنه: اعبروا إلينا، قال راوي الحديث: فلم أر مثل اليوم قط، إن العلوج يجيئون كأنهم جبال الحديد، أي: كأني أنظر إلى أعدادهم وعدتهم وكأنهم جبال من حديد، هيئتهم من الأكل والشرب والاستعداد الواحد منهم مثل الجبل، والتروس التي عليه والعدد التي عليه كأنها جبل من حديد. قال: وقد تواثقوا أن لا يفروا من العرب، وقد قرن بعضهم إلى بعض حتى كان السبعة في قران، أي: ربطوا أنفسهم بسلاسل، كل سبعة مربوطون في سلسلة، بحيث لا يفرون من العرب، وكأنهم جبال مربوطة ببعضها، والعرب أعدادهم أقل من أعداد هؤلاء بكثير، وحدثت المعركة بينهم والحديث طويل نرجئه للغد إن شاء الله. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة محمد [7 - 11]

تفسير سورة محمد [7 - 11] وعد الله سبحانه وتعالى المؤمنين بالنصر إذا هم نصروه، وكتب التعاسة والشقاء على الكافرين، والله يمحص المؤمنين حتى يعودوا إلى دينهم، وهو وليهم، والكفار لا مولى لهم.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة محمد صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:7 - 11]. في الآيات وعد من الله سبحانه وتعالى للمؤمنين الذين يدافعون عن دينه، وينصرون دين الله سبحانه أن ينصرهم الله سبحانه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، وقد عرفنا جهاد النبي صلى الله عليه وسلم وغزواته صلوات الله وسلامه عليه، وكيف ثبت الله عز وجل المؤمنين في مواطن كثيرة ومن عليهم بذلك، قال تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} [التوبة:25]، ولكن حين ظنوا أنهم ينتصرون بقوتهم، بين لهم النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الظن خطأ، وأن القوة ليست كل شيء، وإنما الإنسان يُعد ما استطاع من قوة إيمانية، وقوة بدنية، وقوة في السلاح وغير ذلك، فالأصل أنَّ قلب الإنسان يكون مؤمناً، ومتوكلاً على الله سبحانه وتعالى. فإذا ظن الإنسان أنه بقوته ينتصر فقد أصابه غرور واستحق أن يتركه الله سبحانه وتعالى، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يحذر الصحابة من الغرور ومن الاستكبار ويقول لهم حين يقول له سعد: يا رسول الله هذا السيف أريد، أعطني هذا السيف لعله يأخذه من لا يبلي بلائي، وكان عظيم البلاء رضي الله عنه، وكان في قتاله شديداً، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يفديه وهو يرمي ويقول: (ارمِ فداك أبي وأمي)، ومع هذا كله لم يعطِهِ السيف في يوم بدر، وكأنه يقول: أنا يدي قوية، أنا سأقاتل قتالاً شديداً، ولعله يأخذه من لا يجيد استعمال هذا السيف، فقال: (ضعه مكانه). فلما أكثر على النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وهل تنصرون إلا بضعفائكم؟) فالضعيف يذهب ليقاتل في سبيل الله وليس هذا مدح للضعف، وإنما مدح لقوة إيمان المؤمن الذي لا حيلة له. وقد كان عبد الله بن مسعود من أعظم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم علماً ومع ذلك كان نحيفاً جداً، وكان قصيراً جداً رضي الله عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم حين ضحك الصحابة من دقة ساقيه: (لهما أثقل في الميزان من جبل أحد) فهو رضي الله عنه خلقه الله عز وجل هكذا والله يخلق ما يشاء، ولما أراد أن يحز رقبة أبي جهل بسيفه أخذ يضرب في أبي جهل ويضرب، والسيف لا يؤثر حتى قال أبو جهل: خذ سيفي، فأخذ سيفه وصعد فوق صدره فحز رقبته لعنة الله عليه. هذا صحابي لم يمنعه أنه نحيف البدن، قصير القامة من أن يجاهد في سبيل الله رضي الله تبارك وتعالى عنه، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (هل تنصرون إلا بضعفائكم؟)، يجاهدون في سبيل الله فيري الله عز وجل كيف يصنع هؤلاء، فالضعيف يقاتل ما استطاع، ويفعل ما يقدره الله عز وجل عليه، بل يكون في قلبه قوة الإيمان بالله الذي يدفعه لأن لا يرى أنه أقل من غيره في القوة، والكفار كالجبال وهذا بجوارهم قصير ونحيف، ومع ذلك يقف ليقاتل في سبيل الله سبحانه وتعالى! هذا الضعيف قوة الإيمان في قلبه ويقول: يا ربي يا ربي فينصرنا الله بدعاء الضعيف، والضعيف أشد دعاءً واستغاثة بلله سبحانه وتعالى، وأكثر تضرعاً إلى الله سبحانه وتعالى، فالإنسان القوي ينسى نفسه وفي أثناء القتال يتناسى أمر الدعاء ويعتمد على أنه يهجم على الأعداء، لكن الضعيف دائماً على لسانه ذكر الله سبحانه؛ لأنه يعلم أن النصر ليس بيده، وهو ضعيف إن لم يقوّهِ الله عز وجل وإن كان الجميع هكذا، ولكن الضعيف أشد استحضاراً لهذا الحال من القوي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هل تنصرون إلا بضعفائكم؟)، يرحمهم الله سبحانه وتعالى، وليس الضعيف هو الإنسان الذي هو نحيف البدن أو أنه قليل القوة فقط، ولكن الضعيف أيضاً النساء والصبيان، فهؤلاء الضعفاء يدعون الله عز وجل فيستجيب الله سبحانه، وينصر المسلمين ببركة دعوة هؤلاء، ولجوئهم إلى الله عز وجل، وصدق استغاثتهم به سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم)

تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا فتعساً لهم وأضل أعمالهم) قال سبحانه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:8] التعس أصله: التَعثر، تعس الإنسان بمعنى: انكب، وتعثر وسقط على الأرض. وتطلق أيضاً التعاسة على الشقاء، وعلى الكآبة، وعلى الخيبة، وعلى الحسرة، وعلى الحرمان، وتطلق أيضاً على التدبير، والتدمير، والإهلاك، كل هذه المعاني جمعها الله عز وجل في هذه الكلمة للكفار، مكتوب عليهم الشقاء، مهما آتاهم الله عز وجل من ملك ومن قوة، ومن قدرة وغنىً ونساء، مهما آتاهم الله يستشعرون في قلوبهم التعاسة. وتتجلى المظاهر الكاذبة والبراقة أمام الناس في قائد الفرس وهو جالس على سرير من ذهب، فيرعبه صحابي واحد، إذْ نظر إليه قائد الفرس فقال: إنما أنتم كالكلاب، ولولا أني أخاف أن تتنجس رماحنا لرميناكم! هذه نظرة هذا الكافر لهؤلاء الصحابة الأفاضل. ولما مشى المغيرة بن شعبة وكان أعور رضي الله تبارك وتعالى عنه قال هذا الكافر لمن حوله: لقد صدق الأعور، صدق في اللقاء، وذلك لمَّا قال لهم: (إن كنا لأبعد الناس داراً، وأشد الناس جوعاً، وأعظم الناس شقاءً، وأبعد الناس من كل خير حتى بعث الله إلينا رسولاً، فوعدنا النصر في الدنيا، والجنة في الآخرة، فلم نزل نعرف من ربنا منذ جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفلاح والنصر حتى أتيناكم. والكافر ينظر إليه ويقول: صدق فعلاً، هذا الكافر أظهر مظهر العظمة والفخامة أمام هذا الصحابي، لكن بعد ما انصرف إذا به يقول لمن حوله: لقد صدق فيما قال، وسيفعل ما يقول، وقبل أن يأتي المغيرة بن شعبة إليهم استشار قومه في أن يظهروا أمامهم بمظهر متقشف فيه حتى لا يطمعوا فيهم، أو يظهرون أمامهم بمظهر الملوك لكي يخوفونهم؟ كلهم قالوا: بل بمظهر العظمة والفخامة، وكان قبل ذلك خائفاً، وبعد ذلك ازداد رعباً، ورجع المغيرة قوياً في قلبه، شجاعاً في بدنه رضي الله تبارك تعالى عنه، يقول لمن حوله: والله ما تركتهم حتى أرعبت الكافر! هذا هو الفرق بين المؤمن وبين الكافر، الكافر وإن أظهر القوة هو في نفسه خائف وشقي، وفي نفسه الرعب من المستقبل، أمَّا المؤمن مطمئن بالله عز وجل، قال تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]. فالمؤمن مطمئن بالله عز وجل، أما الكافر: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} [البقرة:96]، يريد أن يعيش كثيراً فيموت بعد ذلك ولا بعث حسب زعمه، ولما عرف اليهود أن مآلهم النار تطاولوا على النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: سنمكث فيها سبعة أيام ثم تخلفونا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اخسئوا والله لا نخلفكم فيها أبداً، ولا تخرجون منها أبداً). فلذلك الكافر في تعاسة وفي شقاء، وهو مهما أوتي من بذخ في الدنيا يستشعر في نفسه أنه يفقد شيئاً، لذلك تجد من يسلم من هؤلاء يذكر أنه كان قبل أن يسلم في تعاسة وشقاء، وأنه كان يفقد شيئاً. يجدون تعاسة في قلوبهم حتى وإن أظهروا أنهم أفضل من غيرهم، فمن أسلم منهم استشعر طعم الإيمان، واستشعر حلاوة هذا الدين، هذا الذي كان ينقصه، أما من بقي على مثل ما هو عليه ففي نفسه الشقاء، وفي نفسه الحرمان والخيبة كما قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ} [محمد:8]، في الدنيا وفي الآخرة. ولذلك تجد أعلى معدل للانتحار في بلاد البذخ والرفاهية وفي بلاد الكفار، والآن عندهم أماكن للموت يسمونها موت الرحمة للانتحار، وهناك أطباء مستعدون لذلك، ومن أراد أن يموت يذهب إلى الأطباء ليعطوه حقنة يموت بسببها، ويشرعون قانوناً لمثل هذا! رجل لديه من الأموال الطائلة ما لديه، لكنه يريد أن يموت؛ لأنه يائس من الدنيا، فهو يستشعر الإحباط في نفسه، وليس بينه وبين الله عز وجل صلة، لكن المؤمن مهما ابتلي في الدنيا في نفسه أو في ماله، أو فيما يشاء الله سبحانه تجده صابراً محتسباً. فإذا جاء البلاء فالمؤمن صابر؛ لأنه يعلم أن هذا البلاء قضاء من الله وقدر، فهو راضٍ بقضاء الله وقدره، وصابر لأمر الله سبحانه؛ لأن بعد الضيق سيأتي الفرج؛ وبعد الدنيا ستأتي الآخرة؛ ولأن بعد الشقاء جنة ونعيم وخلود فيها، فهو يصبر، ويطمئن نفسه على ذلك؛ لأنَّ رجوعنا جميعاً إلى الله. فهناك فرق بين من يعد نفسه للجائزة العظيمة عند الله عز وجل، وبين من يقول: {نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24]. ولذلك يزهق الكافر من الدنيا، ويقتل نفسه برصاصة يئساً من رحمة الله، قال تعالى: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87]، كفروا بالله، ويئسوا من رحمة الله. ولذلك من لم يعرف الله سبحانه لم يعرف شيئاً، ومن وجد الله وعرف الله وجد كل شيء وعرف كل شيء، ومن لم يعرف الله سبحانه حتى وإن زعم أنه يعلم في الدنيا قال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7].

تفسير قوله تعالى: (ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم)

تفسير قوله تعالى: (ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم) قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:9] تلك التعاسة التي كتبها الله عز وجل عليهم بأنهم كرهوا ما أنزل الله، والذي يكره ما نزل من عند الله عز وجل ضيع نفسه وهو في ضلال مبين، أضل الله عز وجل أعمالهم في الدنيا فشقوا ففعلوا السيئات والمنكرات، وفي الآخرة أضلهم عن طريق الجنة إلى طريق النار والعياذ بالله؛ لأن هؤلاء: {كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ} [محمد:9]، من الكتب، والشرائع، وما نزل من عند الله سبحانه {فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:9] أي: أبطل أعمالهم حتى لا يعملوا، بزعم الإنسانية، والرحمة، والمساواة بين الخلق، ويفعلون الشيء الذي ظاهره حلو ولكن باطنه لا يعرفون الله سبحانه، ولا يتقربون به إلى الله سبحانه وتعالى، فأحبط الله أعمالهم، فالعمل الصالح لا يقبل إلا من المؤمن.

تفسير قوله تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم)

تفسير قوله تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم) قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [محمد:10]، {أَفَلَمْ} [محمد:10]: تعجب من شأنهم، أي: أما ساروا في الأرض هؤلاء؟ وأكثر الناس بحثاً عن الحفريات وعن الآثار، وأكثر الناس سياحة في الأرض هم الكفار، فقد ساروا في الأرض ورأوا آثار السابقين، أفلا يدفعهم ذلك إلى الإيمان برب العالمين، وقد قال سبحانه: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت:53]، يرون الآية تلو الآية، ولا يؤمنون، ومن الآيات عثور الكفار على أقدم نسخة من الأناجيل، وهو إنجيل يهوذا ووضعوه تحت الإشعاع فعرفوا أن هذا الإنجيل كتب سنة مائتين أو قبلها من ميلاد المسيح عليه السلام، وهذا الإنجيل يخالف عقائد النصارى، وفيها أن اليهود يقولون: إن المسيح سأل من يكون مقامي؟ يعني: من يصلب مكاني؟ فتثبت أن المسيح لم يُقتل، قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} [فصلت:53] وفيها أن يهوذا هو الذي صلب وليس المسيح، قال تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157]. فسبحان الله الذي يري هؤلاء الآيات، ويا ترى هل يقودهم ذلك إلى الإيمان؟ هذا بعيد جداً إلا من رحمه الله سبحانه وتعالى، فهم كرهوا ما أنزل الله، وأعجبتهم الدنيا ورضوا بها. وهذا هرقل عرف النبي صلى الله عليه وسلم، وامتحن أبا سفيان وكان أبو سفيان كافراً، وسألوه عن النبي صلى الله عليه وسلم عشرة أسئلة كلها تؤكد لـ هرقل أن محمداً نبي حتى كاد أن يسلم، ثم ضن بملكه، ورفض أن يدخل في دين الله سبحانه بعدما دعا قومه إلى أن يتابعوا النبي صلوات الله وسلامه عليه، فترك الآخرة وطلب هذه الدنيا، قال الله عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [محمد:9 - 10]، كيف كان جزاؤهم؟ كيف كانت نهاية السابقين؟ {دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [محمد:10]، يقال: دمرهم، ودمر عليهم، دمرهم، أي: من الداخل في أنفس هؤلاء، ودمر عليهم أي: فيها ما فيها من الهول، ويكون العذاب من فوقهم، وفيه ما فيه من الرعب. فقوله تعالى: {دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [محمد:10] أي: أنزل عليهم الدمار من فوقهم فأهلكهم الله سبحانه وأبادهم، واستأصلهم، {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد:10]، ليس العذاب لهؤلاء فقط، بل إن كل كافر يكفر بالله عز وجل له يوم عند الله عز وجل يذيقه فيه ما يشاء من عذاب أليم.

تفسير قوله تعالى: (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا)

تفسير قوله تعالى: (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا) ذكر الله أن ذلك الذي يصنعه الله عز وجل مع هؤلاء الكفار {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} [محمد:11] أي: المؤمنون وليهم وناصرهم سبحانه، ومعينهم، وهو المدافع عنهم سبحانه وتعالى. وقوله تعالى: {وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11]، يا ترى هل الكفار ليس لهم أحد يدافع عنهم؟ بل لهم أولياء كثيرون، ولكن لا قيمة لهم، والجيوش التي في الأرض لا تنفعهم أمام ولاية الله عز وجل، فالشيطان يفر، قال تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [إبراهيم:22]. ولما رأى الشيطان الملائكة تنزل من السماء فر وقال: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر:16]، {أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة:196]، ترك أولياءه من الكفار وفر. إذاً: الكفار لا مولى لهم مهما كانت قوتهم، ومهما كثر عددهم فلا ولاية لهم ولا ناصر لهم من الله سبحانه وتعالى.

ذكر زمن نزول قوله تعالى: (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا)

ذكر زمن نزول قوله تعالى: (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا) قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} [محمد:11]، هذه الآية نزلت قبل وقعة أحد، ولذلك في أول غزوة أحد انتصر المسلمون ولما خالفوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم انهزم المسلمون، وظهر الكفار، ثمَّ أجمع الكفار على المسير. ووقف أبو سفيان يرفع صوته، فيقول: أفيكم محمد صلى الله عليه وسلم؟ قال: (لا تجيبوه) فقال: أفيكم محمد؟ قال: (لا تجيبوه)، ففرح أبو سفيان وقال لمن حوله وللمؤمنين: أما محمد فقد قتل، فلم يمسك عمر لسانه وقال: قد أبقى الله لك ما يخزيك أيها الكافر، لم يمت النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقتل، فرفع أبو سفيان شعاراً وقال: اعل هبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا تجيبوه؟ قالوا: ماذا نقول؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل، فقال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم، قال: ألا تجيبوه؟ قالوا: وما نقول؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم) يعني: وإن انتصرتم فالله معنا وليس معكم. فالله مولى المؤمنين سواء كانوا منتصرين أو مغلوبين، يتركهم حين يتركون الحق، ويبتعدون عن الصواب ولكن لا يتركهم دائماً، بل لا بد أن تكون هناك فئة من المؤمنين ينصرهم الله سبحانه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم، أو خذلهم حتى تقوم الساعة). إذاً: الله ينصر المؤمنين، والله يتولاهم، وقد يختبرهم بالمحن أياماً، أو شهوراً، أو سنيناً، ولكن لا يدوم ذلك، فقد وعد الله عز وجل بنصر هذا الدين، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله سيمكن للإسلام والمسلمين بعز عزيز، أو بذل ذليل، بعز يعز الله عز وجل به الإسلام، وبذل يخزي به الكفار. نسأل الله عز وجل أن ينصر الإسلام والمسلمين. أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة محمد [10 - 15]

تفسير سورة محمد [10 - 15] ألا يتأمل كل من لم يوقن بوعد الله عند سيره في الأرض أن الملك الجبار قد دمر الأمم السابقة المكذبين، وما زالت بعض آثارهم باقية تدل على بطش الله بهم، فيؤمن حتى يستحق ولاية الله سبحانه ليدخله جنات تجري من تحتها الأنهار.

تفسير قوله تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم)

تفسير قوله تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد:10]. قال سبحانه: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا} أي: هؤلاء الكافرون. ثم قال: {فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي: هم عند سيرهم في الأرض لم يتعظوا ولم يعتبروا بنهاية السابقين، وكيف أن الله أهلكهم ودمرهم، قال سبحانه: {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:40]. وكيف صنع الله عز وجل بالأقوام السابقين قوم نوح وعاد وثمود وأصحاب الأيكة وقوم لوط وفرعون وجنوده، وغير ذلك، منهم من قص الله عز وجل علينا خبره، ومنهم من لم يقصص علينا خبره. يسيرون في الأرض ليروا كيف صنع الله عز وجل بهذه المخلوقات التي كانت على الأرض، أبادها وأنشأ غيرها، وكلما حفروا في الأرض نظروا إلى آيات وعجائب من خلق الله عز وجل. وفي عصر من العصور كانت الديناصورات موجودة في الأرض وقد وجدوا الهياكل العظمية لها، وهي حيوانات ضخمة جداً وعملاقة، فحاولوا أن يجمعوا العظام لكي يتخيلوا منظرها، أين ذهبت هذه الكائنات؟ وكيف استبدل الله عز وجل بها غيرها سبحانه؟ {إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأحقاف:33]. دمر الله السابقين، وأهلكهم في أراضيهم، وأهلك زروعهم، ودوابهم، أهلك ما شاء سبحانه وأنشأ قوماً آخرين، هلا اعتبروا بذلك؟ وإن الدمار والموت الذي أتى عليهم سيأتي على غيرهم أيضاً فهلا أحسنوا العمل؟ قال: {دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد:10] أي: لن يفلتوا من الله عز وجل، فلهم الدمار، ولهم الإهلاك من الله سبحانه وتعالى، ووعد الله حق، وقول الله صدق {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب:4]. وفي هذه الآية بشارة للمؤمنين أن الله سينصرهم على الكافرين، وأن الله سيهزم الكافرين إن أخذتم بأسباب النصر أيها المؤمنون.

تفسير قوله تعالى: (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا)

تفسير قوله تعالى: (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا) قال الله سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11] ذلك التدمير للكافرين من الله عز وجل له سبب بأن الله مولى الذين آمنوا، فالمؤمن يتولى الله سبحانه وتعالى، وينصر دين الله، ويدافع عن أهل الله، فالله يدافع عنه قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38]. قال سبحانه: {وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11] أي: لا ناصر لهم من عند الله سبحانه، وإن اجتمع من في الأرض ليدافع عن الكافرين وأراد الله إهلاكهم فلا بد أن يكون أمر الله سبحانه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله عز وجل لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف). فالقوم مهما اجتمعوا على شيء من قضاء الله وقدره فسيكون، ولو اجتمعوا على شيء لم يقدره الله فمستحيل أن يكون هذا الشيء الذي يجتمعون عليه.

تفسير قوله تعالى: (إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار)

تفسير قوله تعالى: (إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار) يقول سبحانه وتعالى ذكراً للمؤمنين ثوابهم وحسن الجزاء من الله سبحانه لهم: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد:12] يعني هل يستوي المؤمنون مع الكفار؟ هؤلاء المؤمنون الأتقياء الذين خافوا من الله، وصدقوا بموعود الله سبحانه، والذين أخلصوا لله وعملوا من أجل دين الله يدخلهم الله عز وجل جنات عظيمة. قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ} [محمد:12] فالله صاحب هذه الجنات، وخالقها، ويتفضل ويكرم عباده فيقول: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} [الحجر:46] وهو سبحانه الذي يتولى ذلك، فالمؤمن يستبشر ويطمئن فربه كريم سبحانه وتعالى. قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا} [محمد:12] أي: الذين صدقوا وأيقنوا وعملوا الصالحات يدخلهم جنات وبساتين عظيمة في جنة الخلود. قال تعالى: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [محمد:12] أي: في أرضها من تحت أقدامهم، فينظرون إلى الأنهار وهي تجري لا كدورة فيها، ولا عكارة فيها، ولا شيء يؤذيهم فيها. وسيفسر لنا بعد ذلك ما هذه الأنهار؟ قال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ} [محمد:12] كأنه يقول لك: قارن بين الاثنين، فالمؤمن آمن في الدنيا وعمل الصالحات، واجتهد في طاعة الله، وفي عبادة الله، وجاهد نفسه وهواه، وجاهد شيطانه، وصبر على أمر الله، وجاهد الكفار والمنافقين، وجاهد كل شيء يؤذي ويشغل عن الله سبحانه وتعالى، فالمؤمن تعب في الدنيا، فاستحق الراحة في الآخرة. أما الكافر فاستمتع بهذه الحياة الدنيا، فمثلهم مثل البهائم، لا يفهمون ولا يفقهون لماذا خلقوا ولماذا يموتون، وهل هناك بعث أم لا، الذي يهمه الدنيا فقط، فيقضي الدنيا للدنيا؛ لذلك تجد الكفار يجرون في دائرة لا تنتهي، فيمني بعضهم بعضاً، يريدون رفاهية، ويريدون حياة طيبة بزعمهم، ويريدون أن يعيشوا، ويستمتعوا بكل شيء في هذه الدنيا، فإذا بهم في بلاد الكفار عندهم المال، وعندهم النساء، وعندهم ما يشتهونه من أشياء، ومن لديه حاجة لا يرضى بها ويريد أكثر منها! ويشجعون بعضهم على ذلك: فإن كان لأحدهم شقة صغيرة في حي فقير، قيل له: خذ شقة كبيرة في حي غني. وإن كان عندك بيت قالوا: اجعله قصراً، وهكذا يطلبون الدنيا، والمال، والشهرة، ويقولون: اطلب هذا الشيء واعمل وسنعطيك، بل سنعطيك قبل أن تعمل، فالبنوك موجودة استلف من بنك واعمل لنفسك بيتاً، أو دع البيت القديم وخذ الجديد، ويبيع سيارته لكي يأخذ الموديل الجديد الأحدث منها، وهكذا شغلهم في الدنيا بما لا ينفعهم في الآخرة. وأيضاً: كثير من المسلمين يقلدونهم في هذا الشيء، إن كان عنده سيارة موديل قديم تركها وأخذ الأحدث منها، ولا فرق بينهما إلا الموديل! وهذا بذخ وطلب الدنيا للدنيا، يكلف نفسه، ولعله يستدين من بنك أو من أحد ويزيد عشرين ألف فوقها، والذي أدخله في هذه الفرامة الطمع في الدنيا. وما زاده من مال قد يكون أخذه من ظلم الناس، ونهب أموالهم، وسرقتهم، وقد يمتنع من زكاة المال التي تجب عليه، ويتهرب منها كأن يشتري بماله أشياء تبقى للقنية، ثم يبيعها ليضيع حول زكاة المال في سنته! وهذا طريق الكفار أن يستمتع بالدنيا للدنيا، ويريد كل شيء في الدنيا، ومستحيل أن يحصل إنسان على كل شيء فيها. يقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ} [محمد:12] أكل البهائم، والأنعام، يريد الدنيا فيأكل ويشرب فيها، ويعمل ما يشاء، وفي كل مرة يعلن عن أكل جديد وهو متابع لكل جديد. ويقال له: خذ الدواء الفلاني بالصبح والليل من أجل الصحة والحيوية وتأخير الشيخوخة، مثل الأنعام يريد الحياة الدنيا للدنيا، يريد أن يكون شاباً طول عمره، ويشد وجهه لكي يبدو منظره شاباً. وما علموا أن الهرمونات الموجودة في جسم الإنسان هي مسئولة عن الشيخوخة أم يريدون إلغاءها؟! ولماذا لا يلغون الموت أيضاً؟! يظنون أنهم يخلدون في هذه الدنيا، سبحان الله! هم مثل البهائم والأنعام كما قال تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44]. ويقول هنا: {وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد:12] فرق بين المؤمن حين يأكل وبين الكافر حين يأكل، الكافر يأكل يريد الصحة والقوة، والمؤمن يتقوى بذلك على طاعة الله سبحانه وتعالى، فالمؤمن يأمره الله عز وجل: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31]. ويقول: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32] أي: كل واشرب بقدر من غير أن تؤذي نفسك، ولا تؤذي غيرك، ثم احمد الله عز وجل واشكره على نعمه؛ فهذه النعم خالصة لك يوم القيامة، وليس عليك حساب يوم القيامة ولا عقاب على ذلك. أما الكافر فيسأل عن كل شيء، قال تعالى: {وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد:12] أي: مقامهم، والمنزل الذي ينزلون فيه، ومكان ثوائهم. ومعنى يثوون: يقيمون ويؤبدون فيها لا يخرجون منها.

تفسير قوله تعالى: (وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك)

تفسير قوله تعالى: (وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك) قال الله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} [محمد:13]. {وَكَأَيِّنْ} أي: كم؟ كثير. قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ} [محمد:13] أصلها: كأي، ولذلك يقف أبو عمرو ويعقوب عليها: (وكأيْ)، وباقي القراء يقفون: (وكأين) كلمة كاملة. والقراءات التي فيها: {وَكَأَيِّنْ} [محمد:13] قراءة الجمهور: (وكائن)، وقراءة ابن كثير، (وكاين) بالتسهيل، وقراءة أبي جعفر بالمد وبالقصر. والمعنى: كثير من القرى، والقرية بمعنى: المدينة، فكلمة (قرية) في القرآن معناها المدينة، ونحن نطلق هذا على الريف، والقرية سميت قرية؛ لأنها كبيرة وتجمع من فيها من القَريْ، والقري الجمع، فالمدينة سميت قرية؛ لأنها تجمع أهلها فيها. قال تعالى: {هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ} [محمد:13] أي: من بلدك مكة. {الَّتِي أَخْرَجَتْكَ} [محمد:13] ورأينا كيف خرج منها صلوات الله وسلامه عليه ولم يستجب له إلا القليل خلال ثلاث عشرة سنة من دعوته إلى الله سبحانه وتعالى. قال سبحانه: {أَهْلَكْنَاهُمْ} [محمد:13] في جنوب مكة انظروا كيف صنعنا بعاد، وفي شمال مكة كيف صنعنا بثمود، وانظروا حولكم تعرفون كيف صنع الله عز وجل بالسابقين، قال سبحانه: {فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} [محمد:13] أي: من ينصرهم من دون الله؟ لم يجدوا لهم من دون الله ولياً ولا نصيراً.

تفسير قوله تعالى: (أفمن كان على بينة من ربه)

تفسير قوله تعالى: (أفمن كان على بينة من ربه) قال الله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد:14] يعني هل يستويان؟ وهل يعقل هذا الشيء؟ الإنسان الذي على بينة ودليل وحجة وبرهان من الله، صدق بذلك، وأيقن أن هذا من عند الله فعمل لذلك، وأيقن بالجزاء وبالحساب وبالجنة وبالنار وبالموعد عند الله سبحانه وتعالى، هل يستوي هذا مع إنسان زين له سوء عمله؟ والتزيين إما خلقة وإما فعلاً ودلالة ووسوسة: فالله عز وجل، خلق المال والبنين وجعلهما زينة للحياة الدنيا، وزين النساء، والأرض. فإذا بهؤلاء ينظرون إلى هذه الأشياء المزينة ولا ينظرون كيف يشكرون الله عز وجل ليستعينوا بالنعمة على عبادة الله سبحانه تبارك وتعالى. زين الله عز وجل المال فأخذوه سواء من حلال أم حرام، فالمهم أنه مال. وزين الله عز وجل النساء، وأباح أن تتزوج بالعقد الشرعي، فإذا بالكافر لا يهتم بالعقد الشرعي، ويريد أن يزني ويريد أن يقع فيما يحب ويهوى، ويريد انتشار الخبث والخبائث بين الناس، فيبيح لنفسه ما حرم الله سبحانه. إذاً: التزيين يكون من الله عز وجل الذي زين الخلق، ويكون كوسوسة في النفس ليأخذ الإنسان الحرام فيأتي الشيطان فيزين هوى الإنسان. إذاً: المقصود بقوله: ((كمن زين)) أن الخلق يزينه الله عز وجل، والذي يزين للإنسان أن يقع في الحرام الهوى والشيطان. فهل يستوي من زين له سوء عمله؛ فاتبع هواه فوقع في النار مع الإنسان المؤمن؟ قال سبحانه: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} [محمد:14] العمل السيئ كأن يكون الخلق حسناً من الله عز وجل فإذا بنفس الإنسان تأمره أن يأخذ هذا من الحرام، فجعله الله سبحانه وتعالى من أهل النار؛ لأن الله خلق الخلق ليستدل به على أنه الخالق وحده سبحانه، فيعبد دون غيره. وإذا به ينظر للخلق فيعبد الخلق من دون الله سبحانه، فيعبد الحجارة ويعبد كذا ويعبد كذا، فزين له سوء عمله يظن أن عمله هذا صحيح، وما علم أن الشيطان أغواه بذلك، وزين له سوء عمله فاتبع هواه من دون الله.

تفسير قوله تعالى: (مثل الجنة التي وعد المتقون)

تفسير قوله تعالى: (مثل الجنة التي وعد المتقون) ثم يذكر لنا الله عز وجل الجنة وجمال الجنة التي وعد بها المتقون المؤمنون، فانظر إلى هذه الجنة العظيمة العالية، قال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد:15] ما مثل هذه الجنة؟ تخيل هذا الشيء، وليس الإنسان حين يتأمل الآية سينظر إلى الجنة حقيقة، إنما هذا تمثيل لتقريب المعنى. فعندما يقول الله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن:68] فالنخلة في الدنيا إذا أخذت منها بلحة قد يكون طعمها ليس حلواً، فلو ذكر أسماء لا تعرفها فلن تتخيل الجنة، فلا تندفع للعمل لها، لكن لما يذكر لك مثالاً لها، كأن يقال: البلح موجود في مصر، وهناك نوع أحسن منه في بلاد الشام، والبلح الذي في الجنة أعظم فيعطيك المثل. إذاً تأمل في الشيء الموجود وحاول أن تتخيل ما هو أعظم منه ولن تصل بخيالك إليه. قال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [محمد:15] أي: وعد الله عز وجل المتقين هذه الجنة العظيمة. والمتقون الأتقياء، وتقوى الإنسان أن يبتعد عن الحرام. قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي هريرة: (اتق المحارم تكن أعبد الناس). يعني: إذا تريد أن تصير أتقى الناس وأورعهم فابتعد عن الحرام، وإذا ابتعد المؤمن عن الحرام هداه الله عز وجل لفعل كل ما يرضي الله سبحانه وتعالى، فإذا بعدت عن الحرام وفقك للحلال، وللواجب، وللمستحب، ولكل عبادة له. قال تعالى: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد:15]. هذه الجنة التي ينادى على أهلها، (يا أهل الجنة! إن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً، وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، إن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً). يعيش المؤمن في هذه الجنة العظيمة، فادع ربك سبحانه الجنة، (فإذا سأل العبد ربه الجنة ثلاث مرات قالت الجنة: يا رب أدخله الجنة). واستجر بالله عز وجل من النار: (اللهم إني أعوذ بك من النار، اللهم إني أعوذ بك من النار، اللهم إني أعوذ بك من النار، فتقول النار: يا رب! ابعده عني). فضل من الله ورحمة من الله سبحانه للإنسان المؤمن أن الجنة تحبه، والنار تدعو ربها ألا يكون من أهلها، فكل شيء من خلق الله سبحانه وتعالى يحب للمؤمن الخير، فإذا دخل الجنة وجد فيها هذا النعيم العظيم. قال تعالى: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} [محمد:15]. (آسِنٍ) قراءة الجمهور، و (أسِن) قراءة ابن كثير، و (آسن وأسن) بمعنى: منتن. فماء الدنيا لو وقف كثيراً أنتن، وماء البحر لو وقف ينتن، وماء النهر كذلك، لكن الله عز وجل يجري الأنهار لئلا يحصل فيها النتن. والبحار جعل فيها الملح حتى لا يتأذى الإنسان بنتن الماء. ولكن ماء الجنة ماء عظيم مستحيل أن ينتن، ولا يتغير طعمه، وليس فيه حصى، ولا تراب. قال تعالى: {وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} [محمد:15] حين يترك اللبن في البيت فترة يتغير طعمه، أما لبن الجنة فأنهار لا يتغير طعمه. قال تعالى: {وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ} [محمد:15] خمر الجنة خمر عظيم، لما منعت نفسك من الخمر في الدنيا طاعة لله عز وجل، فاشرب ما شئت في الجنة. قال سبحانه: {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ} [الواقعة:19] فخمر الدنيا يذهب العقل ويخرف شاربه، ويدوخ وينام ويقوم من النوم تعبان من الخمر التي شربها. أما في الجنة فلا في صداع، اشرب ما شئت، ولا تذهب العقل، يقال نزف العقل بمعنى. راح العقل. فلا ينزفون بسبب هذه الخمر في الجنة، أما خمر الدنيا ففيها الرجس (النجاسة) وذهاب العقل، وتخدع الرجل الحليم وكم صنعت في الناس هذه الخمور فجعلتهم يقتلون، وجعلتهم يزنون، وجعلتهم يفعلون كل ما حرم الله سبحانه وتعالى، وجعلت الرجل الحليم وشكله الكبير في القوم يكون وضيعاً، أتلفت أموال الناس، ولذلك كان بعض أهل الجاهلية يحرمها على نفسه لما رأى من صنيع الخمر به منهم: قيس بن عاصم، فهؤلاء شربوا الخمر مرة فرأوا أنهم يخرفون والناس تضحك عليهم فلما أفاقوا قالوا لهم: عملتم كذا وكذا، فحرموها على أنفسهم. وهنا الله عز وجل قارن بين خمر الدنيا وخمر الجنة فخمر الجنة له لذة، وخمر الدنيا مرة، واصبر عمرك وهو قليل حتى تصل إلى الجنة فتأخذ من هذا الذي ادخره الله عز وجل لك. قال تعالى: {وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد:15] ليس محتاجاً للنحل، فالنحل يأخذ العسل ثم يخلطه ببطنه بشيء ويخرج العسل، أما عسل الجنة فلا نحل ولا شمع ولا كدورة الدنيا، إنما هو عسل مصفى نقي أنهار خلقه الله الذي يقول للشيء: كن فيكون، فجعله أنهاراً! قال تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [محمد:15]. كل ما شئت من كل الثمار التي تتمناها، قال تعالى: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة:25]، فهو متشابه شكلاً، مختلف طعماً، وفي الدنيا ستأكل ثمرة أو ثمرتين ثم تمتلئ بطنك أما في الجنة فكل ما شئت فإذا قلت: بطني امتلأ، خرج رشح من الإنسان رائحته رائحة المسك، وكل مرة أخرى كل، في كل وقت ولا يوجد ليل في الجنة، فتجد المؤمن حين يتفكر في الجنة يقول: لا أفرط في الجنة، ولا أضيعها؛ ففيها نعيم دائم، أما الدنيا فنعيم زائل لا يدوم، ولو كان معك مال كثير فكل الناس ينظر إليك حسداً حتى تبتلى بالمرض، أما الآخرة فهي خير وأبقى، فالمؤمن يعمل لهذه الدار العظيمة. ثم ذكر الله عز وجل أن هذا الذي أعطيه من نعيم للمؤمن أزيد على ذلك المغفرة، فيغفر الله سبحانه وتعالى الذنوب، وكل هذا الفضل من الله عز وجل، ومغفرة من ربهم الذي خلقهم، يغفر مغفرة تليق به سبحانه وتعالى، فعبر عنها بالربوبية لله عز وجل، وهو الفعال لما يريد سبحانه، لا يتعاظم على الله شيء فيغفر الذنوب جميعاً، من تاب تاب الله عليه. فهل هؤلاء الذين في الجنة يستوون مع من هو خالد في النار وسقوا ماء حميماً فقطع أمعاءهم؟ هل يستوي أهل الجنة مع أهل النار الذين يخلدون في النار والعياذ بالله فلا يخرجون منها أبداً؟ قال تعالى: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد:15] طعامهم الزقوم، وشرابهم الحميم، والزقوم طعام مر له شوك يقف في الحلوق، فلا ينزل، ويريدون ماء لإنزال الشوك من الحلوق، فإذا بالله عز وجل يعطيهم حميماً مغلياً شديد الحرارة يشربونه، فيمزق جلودهم، ويشوي وجوههم، ويدخل في أمعائهم فيخترقها! تخيل تقطيع الأمعاء في الدنيا، الإنسان قد يأتي له مرض شديد فتتقطع من شدة الألم أمعاؤه، لكن تخيل لو أن الطعام كانت حموضته كبيرة فأصابه بالقرحة في الأمعاء واخترق هذه الأمعاء وطلع منه جزء يسير! فسيكون الألم لا يطاق، فعندما يقول لك: قطع أمعاءهم قطعها حقيقة، وهم يستحقون ذلك بما صنعوا، نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة محمد [16 - 18]

تفسير سورة محمد [16 - 18] النبي صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين، ومبعثه صلى الله عليه وسلم من علامات الساعة، وللساعة علامات صغرى وكبرى ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ظهر أكثرها، وسيظهر الباقي كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.

تفسير قوله تعالى: (ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك)

تفسير قوله تعالى: (ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الله عز وجل في سورة محمد صلى الله عليه وسلم: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ * وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ * فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} [محمد:16 - 18]. يخبرنا الله عز وجل في هذه الآيات عن صفة من صفات المنافقين، والفرق بينهم وبين المؤمنين أن المنافق: إنسان دخل في الإسلام وهو كاره له، لما رأى غلبة الإسلام وغلبة المسلمين أذعن ودخل في دين الله عز وجل، وأظهر هذا الإسلام، وأبطن الكفر، وعمل للإفساد بين المسلمين. والمنافقون أشد الناس على المسلمين، وأفسد الناس فيمن استطاعوا أن يفسدوهم من المسلمين، وهم أكثر الناس إدخالاً للفساد على بلاد المسلمين. والكافر معروف كفره، أما المنافق فبعض الناس يدافع عنه، وله أقرباء من الناس، ولذلك الناس يسكتون عنه؛ إكراماً لأقربائه؛ ولأنه يقول: أنا مسلم، يسكتون عنه، ويتغاضون عنه، أما هو فلا يسكت، بل يشيع الفاحشة بين المؤمنين، ويشيع الكلام الخبيث بين المؤمنين، ويظهر الكلام الذي يوهن في قوة المسلمين، وإذا جاء وقت الجهاد ووقت الحرب ووقت الغزو إذا به يتكلم عن الكفار بأنهم أقوى ما يكونون، وأن المؤمنين ضعفاء، ولا يقدرون على هؤلاء؛ توهيناً لقوة المسلمين. والمنافقون فضحهم الله عز وجل في سورة المنافقون، وأيضاً في سورة براءة، وهنا في هذه السورة ذكر صفة من صفات هؤلاء، وفي سورة براءة ذكر الله عز وجل كثيراً من صفاتهم. وهنا ذكر صفة من هذه الصفات فقال: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد:16]، ومن هؤلاء عبد الله بن أبي ابن سلول رئيس المنافقين لعنة الله عليه وعلى أمثاله. ومن هؤلاء رجل اسمه رفاعة بن التابوت، ورجل آخر اسمه زيد بن الصلت، ورجل رابع اسمه الحارث بن عمرو، وكان هؤلاء وغيرهم من المنافقين يعرفهم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان هناك غيرهم لا يعرفهم لكن الله يعرفهم، ثم أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم عن بعض أسماء هؤلاء الذين يموتون على نفاقهم، فهؤلاء من أوصافهم التي ذكر الله عز وجل في كتابه أن النبي صلى الله عليه وسلم يعرفهم في لحن القول، فالمنافق يلحن بقوله فيعرف النبي صلى الله عليه وسلم ما في باطن هذا الإنسان بما يظهر على فلتات لسانه. قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} [محمد:16]، هنا استمعوا للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب وهو يذكر ويقرأ القرآن، فكانوا يسمعون ساكتين، وحين يخرجون من عند النبي صلى الله عليه وسلم فكما قال الله: {حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا} [محمد:16] يعني: حالاً، منذ وقت قريب، فالأنف: الشيء القريب. وفرق بين أن يسأل الإنسان آخر: ما عملت أمس؟ والسنة التي فاتت ماذا كان فيها؟ أما الذي سيسأل عما حصل في الأمس فستقول له: أنت تشك، أو يمكن أنك ناسٍ، والمنافقون يقول أحدهم للآخر: اترك النبي صلى الله عليه وسلم ولا تسمع منه شيئاً، فهو يقول كلاماً لا يدخل عقولنا، ولا يحفظ هذا الكلام، فيريدون أن يشككوا المسلمين، كعادة الإنسان الذي يستهين بمن يعلمه، وبمن يدرسه. قال تعالى: ((مَاذَا قَالَ آنِفًا)) أي: حالاً، يعني: الخطبة التي كان يقولها ماذا كان يتكلم فيها؟ فيحاولون أن يلقوا الشك في قلوب المؤمنين، فيسألون الذين أوتوا العلم: ((مَاذَا قَالَ آنِفًا))، والعادة أن صاحب العلم حوله من يتعلم منه، وحوله من يسمع له، فكان يأتي المنافق إلى مثل ابن مسعود رضي الله عنه وهو من فقهاء الصحابة فيقول له: ماذا كان يقول؟ يعني: الكلام الذي كان يقوله النبي صلى الله عليه وسلم كلام ليس مفهوماً، وكأن هؤلاء الناس الكبار ليسوا فاهمين منه شيئاً، ويشككون المؤمنين فيما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم، ففضحهم الله عز وجل بهذا. وللمنافقين صفات أخرى كثيرة ذكرها الله، منها قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة:58]، وقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة:49] وغيرها من الصفات. فمن صفاتهم: التشكيك فيما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم، والاستهانة بالنبي صلى الله عليه وسلم، والاستهزاء بكلامه عليه الصلاة والسلام، ودعوى أنه يقول كلاماً لا يفهم. قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [محمد:16]، إذاً: هم يظهرون أنهم لا يفهمون، والحقيقة أنهم وإن فهموا المعنى فقلوبهم في غفلة، وقلوبهم مختوم عليها، ومطبوع عليها، ولا يدخلها الإيمان لفسادها، ولذا قال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [محمد:16] أي: ختم الله عليها، وجعل عليها أغشية فلا تفقه ولا تعي ولا تفهم ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم، وفرق بين أن يفهم الإنسان أن معنى الإيمان معنى التصديق، وأن يعقل الإنسان بقلبه ذلك فيستجيب له، فهذا استماع وهذا استماع، وهذا استمع للإيمان وهذا استمع للإيمان، ولكن أحدهما استمع ليشكك، والآخر استمع ليصدق، ففرق بين هذا وبين ذاك، فلذلك ذكر الله المؤمنين فقال: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى}. فالمنافق بسبب أنه يريد أن يستهين وأن يستهزء بالدين يطبع الله على قلبه، والمؤمن أقبل على الله، وأقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفتح قلبه تواضعاً لدين الله سبحانه؛ ففتح الله قلبه، وزاده إيماناً فوق إيمانه، فالمنافقون قال الله عنهم: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد:16]، فهم متبعون للهوى، وسيهوي بهم في نار جهنم والعياذ بالله! وأما المؤمنون فاتبعوا تقوى الله سبحانه تبارك وتعالى، فآتاهم تقواهم، وآتى كل إنسان من المؤمنين التقوى التي ينتفع بها في الدنيا بأن يسمع ويزداد إيماناً، وينتفع بها في الآخرة بأن يقيه الله عز وجل من النار.

تفسير قوله تعالى: (والذين اهتدوا زادهم هدى)

تفسير قوله تعالى: (والذين اهتدوا زادهم هدى) قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17]، في هذه الآية مسألة من مسائل العقيدة التي يؤمن بها المؤمنون، وهي أن الإيمان يزيد وينقص، كما قال تعالى: {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13]، وقال: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4]، فالإيمان أصله التصديق، والذي يريده الله عز وجل ليس مجرد تصديق، ولكن التصديق الذي يدفع إلى العمل واليقين في القلب، فاليهود كانوا مصدقين بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يظهرون ذلك، بل يظهرون خلاف ما يعتقدونه، فإذا قالوا: أنت نبي، يستثنون ويقولون: ولكنك نبي الأميين، فهم مصدقون أنه صلى الله عليه وسلم نبي، وهم يعرفون بينهم وبين أنفسهم أنه نبي، والكفار كان في قلوبهم التصديق بأنه نبي صلى الله عليه وسلم، ولكن حسدوه صلوات الله وسلامه عليه، وقالوا: وأنى لنا نبي؟ فهم يعرفون معرفة يقينية أن هذا رسول، ولكنهم لم يتبعوه، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لبعض اليهود وقد جاءوا إليه وسألوه وقالوا له: صدقت يا محمد! فقال صلى الله عليه وسلم: (فما يمنعكم أن تتبعوني؟) فهم كلهم يقولون: أنت صادق، وأنت نبي فعلاً، وقبلوا يديه ورجليه صلى الله عليه وسلم، فكما فلما قال لهم: (ما يمنعكم أن تتبعوني؟) قالوا: نخاف من اليهود، فهؤلاء ليسوا مكذبين للنبي صلى الله عليه وسلم، وليس في قلوبهم أن هذا ليس نبياً، بل هم يعرفون في قلوبهم أنه نبي، بدليل أنهم يعترفون له بذلك، ولكن هذا لا ينفع، فمجرد كونك عرفت أنه نبي ولكنك لم تتبعه هذا لا ينفعك، بل لا بد من الاتباع، ولذلك قال: (ما يمنعكم أن تتبعوني؟) قالوا: نخشى من اليهود، والبعض الآخر قالوا: إن داود دعا بأنه لا يزال في ذريتي نبي، فنحن ننتظر نبياً من ذرية داود عليه وعلى نبينا الصلاة السلام. وكذبوا فيما قالوه للنبي صلى الله عليه وسلم، فالإيمان الذي يريده الله عز وجل ليس مجرد التصديق بأن هذا كتاب من عند الله، وأن هذا رسول من عند الله صلوات الله وسلامه عليه، ولكن المراد تصديق ويقين يدفع للاتباع، فيدخل الإنسان في هذا الدين، ويقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فإذا دخل الإنسان في الإيمان عمل الصالحات، وازداد إيماناً فوق إيمانه، فالإيمان يزيد وينقص، يزيد الإيمان بالطاعة، وينقص الإيمان بالمعصية. فمن اعتقاد المؤمنين أن الله عز وجل يزيد المؤمنين إيماناً، فيزدادون درجات من عند الله عز وجل، وبالمعاصي ينقص الإيمان، وليس المعنى أنه بالمعصية ينقص ويصير كافراً، ولكن المعاصي تتنوع، فقد تكون المعصية كفراً بالله سبحانه تبارك وتعالى، وأعظم ذلك الشك بهذا الدين والتكذيب بما جاء به سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام. فالمؤمنون زادهم الله عز وجل هدى وآتاهم تقواهم، فيعين الله عز وجل المؤمن بأن يعطيه في قلبه ما يجعله يبصر أن هذا خطأ فيتقي الله، ويبتعد عن الخطأ.

تفسير قوله تعالى: (فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة)

تفسير قوله تعالى: (فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة) قال تعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} [محمد:18]. هؤلاء المنافقون الذين يسمعون فلا ينتفعون، والذين يقولون لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ: مَاذَا قَالَ آنِفًا، قال عز وجل عنهم: {َهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ} [محمد:18]، أي: ينتظرون الساعة فجأة {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد:18]. يقول قتادة: الناس رجلان: رجل عقل عن الله فانتفع بما سمع، ورجل لم يعقل ولم ينتفع بما سمع، يعني: هذا يسمع وهذا يسمع، ولكن إنساناً سمع فانتفع وآخر سمع فلم ينتفع. وكان يقال: الناس مع هذا الدين العظيم ومع كلام رب العالمين ثلاثة أنوع: فسامع عامل، وسامع عاقل، وسامع غافل تارك. سامع عامل أي: يسمع ويعمل بما سمع، وسامع عاقل أي: عقل وفهم هذا الذي يقال، وسامع غافل تارك يعني: يسمع الكلام ولا يستجيب، وكأنه في واد بعيد، وهذا مثل كثير من الناس، فإنك حين تذكره بالله عز وجل يتضجر، ولو أنه عاقل لما تذكره به، وعرف أن هذا الكلام الذي تقوله سيسأله الله عز وجل يوم القيامة عنه لما تضجر، فتقول له: تعال صل، فيقول لك: ما لك دعوة، وهو لو يعقل الذي يقوله لما قاله، فهو لن يصلي لك أنت وإنما سيصلي لله سبحانه تبارك وتعالى، ولو كان يعقل لما قال هذا الشيء، ولكنه في هذا الحين يهرف بما لا يعرف، ويتكلم بالكلام الذي لا يعقله بسمعه ولا بقلبه ولا ببصيرته، فيقول الكلام الذي يؤذيه، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً تهوي به في النار سبعين خريفاً)، فيغضب الله عز وجل بما يقول، وليس على باله أن هذه الكلمة عظيمة، فهذا الإنسان يستهزئ، ويستهين يالدين، فيا ترى هل فهم؟ ولو كان يعقل ويتخيل النار التي يلقى فيها يوم القيامة بسبب هذه الكلمة ما قال هذه الكلمة، ولكنه ذهب عقله، وغاب فهمه، فإذا به يتكلم بالكلام الذي يؤذي به نفسه يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً تهوي به في النار سبعين خريفاً، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها رضوانه). قال سبحانه: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} [محمد:18] أي: فجأة يوم القيامة، وقد عرفنا من الأحاديث أنها تكون يوم الجمعة، لكن أي جمعة؟ لا ندري، وهذه الساعة الكبرى، وأما ساعة أحدنا فتكون قبل هذه الساعة الكبرى. فهنا قال سبحانه: {َهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} [محمد:18]، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بعثت أنا والساعة كهاتين)، وأشار بإصبعيه: السبابة والوسطى، والمعنى: أن المسافة يسيرة بين بعث النبي صلى الله عليه وسلم وبين الساعة، ويعدون السنين التي في الدنيا بآلاف السنين، بل يعدونها بالملايين من السنين، والله أعلم بها، والذي بقي من الدنيا وقت قليل، وإذا كان بعث النبي صلى الله عليه وسلم وبعثت الساعة معه، فالمعنى: أنه أمر أن يقول للناس وينذر الناس ويبشر الناس، والساعة تليه صلوات الله وسلامه عليه. إذاً: الساعة قريبة، كما قال الله سبحانه: {لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} [الأحزاب:63]. وقوله: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} [محمد:18] أي: فجأة {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد:18] أي: علاماتها، وكأنه مأخوذ من الشرط، والشرط: العلامة، ولذلك سميت الشرطة برجال الشرط، من أجل أنهم يلبسون علامات تميزهم عن غيرهم، فالشرطة والشَرَط والشُرَط والشُرْط والأشراط معناها: العلامات. وقد جاءت أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الساعة وما يكون من أمر الساعة، وما الذي يحدث قبلها، سواء علامات الساعة الكبرى، أو علامات الساعة الصغرى.

ذكر بعض أشراط الساعة

ذكر بعض أشراط الساعة قوله: {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد:18] ما هي أشراط الساعة؟ جاءت أحاديث في ذلك، منها ما في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويظهر الجهل، ويشرب الخمر، ويظهر الزنا)، فهذه من أشراط الساعة، والساعة لها علامات كبرى، وهذه من العلامات الصغرى، وكلها تقع بين يدي الساعة، فإذا حدثت هذه الأشياء فانتظروا الساعة فإنها قريبة. وقوله: (إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم) يعني: يجهل الناس الدين، وفي أيام النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يهتمون بحفظ كتاب الله عز وجل، وبحفظ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يزالوا هكذا قروناً وراء قرون وراء قرون، إلى أن بدأ الناس يتركون دين الله، وبدأ يقل حفظهم لكتاب الله ولسنة النبي صلى الله عليه وسلم، حتى تجد الرجل الآن لعله لا يحفظ الفاتحة، فتقول له: اقرأ الفاتحة فلا يعرف يقرأ الفاتحة، وكم تسمع من ذلك، بل تجد إنساناً كبيراً في السن ويصلي وعمره نحو ثلاثين أو أربعين سنة أو أكثر فتقول له: اقرأ لي الفاتحة، فيخطئ فيها، ولا يعرف أن يقرأ الفاتحة، وما أكثر هؤلاء رجالاً ونساءً، فيضيع العلم، حتى القرآن العظيم ينسى، فترى الإنسان الذي يتكلم عن القرآن يقول لك: ربنا يقول كذا، ويأتي بمثل من الأمثلة! لا يفرق بين القرآن وبين كلام البشر! وقوله: (يرفع العلم ويظهر الجهل)، أي: يتأصل الجهل في نفوس الناس، فإذا بهم يجهلون القرآن ويجهلون السنة، ويتكلم كل إنسان بما ليس في دين الله عز وجل، بل ويثبتون عكس ما في كتاب الله عز وجل، فتسمع الناس يتكلمون، فيقوم الواحد منهم يقول لك: ما هو المانع من هذا الشيء؟ لا مانع يمنع من هذا الشيء، الحجاب الذي تذكرونه عليه، ليس هناك آية في القرآن تقول: حجاب، فالحشمة تكفي، والمهم الإيمان في القلب، واللباس لباس التقوى، ونحو هذا الكلام الفارغ، فهذا الذي يقول هذا الكلام هل قرأ القرآن فعلاً حتى يقول: ليس في القرآن آية تأمر المرأة بالحجاب؟ والله عز وجل يقول: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59]، فهذا لا يقرأ القرآن ولا يعرف شيئاً من القرآن، وإنما الإنسان منهم ينظر في التلفزيون أو يستمع من الراديو أو يقرأ الصحف، ويتكلم ويقول: المتطرفون والمتزمتون يقولون: هذه آيات من القرآن وهذه أحاديث من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول هذا المجرم الجاهل: ليس هذا في كتاب الله ولا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم! فمن أين أتوا لنا بهذا الكلام؟ ولو أنه قرأ وكلف نفسه أن يختم القرآن ختمة واحدة، لعرف ما في القرآن، ولكن الجهل الذي ثبت ورسخ في قلوب هؤلاء المجرمين هو السبب، فنسوا الله سبحانه ونسوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم. ويأتي إنسان آخر فيقول: ويقولون: أهل الكتاب كفرة، هؤلاء مسلمون، فلقد سمعنا من يقول: أهل الكتاب مسلمون، أهل الكتاب مؤمنون! والله عز وجل يقول: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73]، فربنا يقول هذا الشيء، وهذا يقول: ليس في القرآن هذا الشيء، وإنما هؤلاء يريدون أن يكفروا الناس، فكلنا مسلمون وكلنا مؤمنون، وكلنا كذا! ونحو هذا الكلام الخبيث الكاذب، ويقول هؤلاء الخبثاء: ابعد عن القرآن وابعد عن السنة! ثبت الجهل في قلوبهم فإذا بهم يتركون الدين وراء ظهورهم ولا يعرفون شيئاً من دين الله سبحانه تبارك وتعالى. قوله: (ويشرب الخمر) يعني: أن الناس يشربون الخمر، وهذه من علامات الساعة؛ فالمحلات في كل مكان مليئة بالخمور، ولا تستطيع أن تنكر؛ فإن صاحب المحل يأخذ رخصة من الدولة من أجل أن يعمل الخمر ويصنعها، ومن أجل أن يبيعها، ويأتي إليه أصحاب الضرائب فيأخذون عليه الضرائب؛ لأنه في زعمهم من ضمن الرعية الموجودين، وله أن يشرب الخمر وأن يبيع الخمر، ولا شيء عليه طالما أن القانون يبيح هذا الشيء، وأما دين ربنا سبحانه تبارك وتعالى فليس بمهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله! ولا ننتظر إلا أن يأتيهم عذاب رب العالمين، وإلا أن يخزيهم الله سبحانه، وإلا أن يسلط عليهم أنفسهم وأعداءهم، فتسلط عليهم الكفار، ففي كل يوم يستهينون بدين الله عز وجل، ويستهينون بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهم في غفلة، وهم فقط يدافعون عن أنفسهم ويدافعون عن أمر هذا الدين الذي يزعمونه ولا يعرفون شيئاً عن كتاب الله ولا عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله: (يظهر الزنا) يعني: ما كان مستوراً مختبئاً يصير ظاهراً أمام الناس، وأصبح لا مانع من مواخير في بلاد المسلمين، وأصبحت هناك أماكن يذهب إليها الناس للهو وللزنا وللعبث، ولا أحد يتكلم في هذا الشيء، وطالما أن الذي يفعل هذا والتي تفعل هذا راضيان فلا مانع عندهم في القانون، وحين يقبض على أحد من الناس زنى بزوجة إنسان فإنهم يسجنونه شهرين ويخرجونه! فأين أحكام كتاب الله عز وجل؟ ثم بعد ذلك يأتي الكفار ويقولون لهم: لا بد من تشريعات في بلادكم للإباحة الجنسية، لماذا لا يكون فيها إباحة جنسية؟! أين الحرية الجنسية؟! فصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: (يظهر الزنا) أي: يفشوا بين الناس، ولا حول ولا قوة إلا بالله! قال: (وتكثر النساء، ويقل الرجال، حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد)، وسيكون ما أخبر به النبي صلوات الله وسلامه عليه. أيضاً يقول صلى الله عليه وسلم: (إن من أشراط الساعة أن تقاتلوا قوماً ينتعلون نعال الشعر، وإن من أشراط الساعة أن تقاتلوا قوماً عراض الوجوه، كأن وجوههم المجان المطرقة)، وهذا القتال سيكون بين المسلمين وبين الروم، وبين المسلمين وبين الترك، وبين المسلمين وبين الكفار أهل الغرب، فهنا يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لن تقوم الساعة حتى يحصل قتال، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. ما كان المسلمون أبداً يقولون: إنه سيغزونا الكفار إلى بلادنا، ونحن غزونا العالم كله، وكان الخليفة في أيام الخلافة الإسلامية يقول: اذهبي -يا سحابة- إلى أي مكان فسيأتيني خراجك، أما الآن فالخراج يأخذه الكفار من بلاد المسلمين عنوة وغصباً وعدواناً، ينزلون إلى بلاد المسلمين ويقولون: نحن ندافع عنكم! نحن نريد أن نثبتكم على كراسيكم، فادفعوا لنا ثمن أننا نحارب في المكان الفلاني، وادفعوا لنا في اليوم مليون دولار من أموال بترولكم، ودعونا نأخذ البترول نتصرف فيه مثل ما نريد، فيحتلون بلاد المسلمين، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخبر أنه لا تقوم الساعة حتى يحدث ذلك، فحصل الذل على المسلمين بتفريطهم في دينهم، فإذا فرط الإنسان في دينه فإن الله لا يدافع عنه؛ لأن الله لا ينصر إلا المؤمنين، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38]. أما إذا كانوا ليسوا بمؤمنين فكيف يتوقعون أن يدافع الله عز وجل عنهم، وهم يحاربون الله، ويحاربون دين الله سبحانه تبارك وتعالى؟ وفي حديث آخر ذكر فيه بعض هذه الأشراط الصغرى، قال صلى الله عليه وسلم: (من أشراط الساعة أن يتباهى الناس في المساجد)، هذا الحديث رواه أبو داود والنسائي وهو حديث صحيح، فمن أشراط الساعة المباهاة، فالمسجد هو مكان للعبادة لا للمباهاة، لكن ترى من يقول: مسجدنا أحسن مسجد، ومسجدنا جعلناه على شكل الكعبة، وآخر يقول: مسجدنا جعلناه مثل المسجد النبوي، وعملنا فيه قبباً، وعملنا فيه مئذنة طويلة، وعملنا فيه كذا، ولوناه بأحمر وأسود، ونحو ذلك! فالتباهي بالمساجد وعدم الصلاة فيها من أشراط الساعة، قال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:18]، وعمران بيوت الله عز وجل يكون بالصلاة فيها، وليس المعنى: أن المسجد لا يبيض ولا ينظف؛ بل النبي صلى الله عليه وسلم صلى على المرأة التي كانت تنظف المسجد، صلى عليها وهي في قبرها، وكانت قد دفنت من غير ما يؤذن النبي صلى الله عليه وسلم بها. ولكن المعنى: أنه سيقل الإيمان ويبقى فخر الناس فقط بقولهم: عندنا مسجد كبير، وكثير منهم لا يصلون فيه، بل إن بعض الناس يكون في مكة، ويبقى فيها سنين وما صلى في المسجد الحرام! لا يصلي وبجانبه الكعبة، وبجانبه المسجد الحرام، ولا اعتمر ولا حج ولا يعرف شيئاً! وبعض الناس من أصحاب الشركات السياحية يخرج بالناس ليؤدوا العمرة، وعندما يريد أن يعتمر يلبس لبس الإحرام، فإذا أغضبه أحد يخلع لباس الإحرام ويقول: لن أعمل عمرة هذه السنة، فهذا دينهم، {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:19]، فظهر الجهل بين الناس، وقل العلم، وقل الدين، فلم ينتظروا إلا الهوان في الدنيا، وما لجرح بميت إيلام. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة محمد [17 - 18]

تفسير سورة محمد [17 - 18] الإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، والمنافقون مذبذبون بين ذلك، فإذا جاءهم الموت بغتة أو الساعة فلا توبة تنفعهم ولا إيمان، وقد جاءتهم علامات قرب قيام الساعة ولكن لم يعتبروا ولم يتوبوا، وعلامات الساعة مذكورة في الكتاب والسنة.

تفسير قوله تعالى: (والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم)

تفسير قوله تعالى: (والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم) الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة محمدٍ صلى الله عليه وسلم: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ * فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} [محمد:17 - 18]. الله سبحانه وتعالى يمن على المؤمنين بالهدى ويزيدهم إيماناً فوق إيمانهم بطاعتهم، فالمؤمن كلما ازداد طاعة زاده الله عز وجل إيماناً، وزاده رفعة، وزاده درجات عنده سبحانه وتعالى، وكلما وقع الإنسان في المعصية نكت على قلبه، وتغير شيء من قلبه، فإذا تاب مسحت هذه النكتة السوداء التي تكون على قلبه. وإذا وقع في المعصية رجعت مرة أخرى، فإما أن يصير صاحب معاصٍ فيختم على قلبه ويطبع، ولا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، أو أنه ينزع ويتوب إلى الله عز وجل ويبيض قلبه، فيعرف الخير ويزداد إيماناً، فالمؤمنون يزيدهم الله عز وجل هدى. وذكر الله المنافقين وكيف أنهم كانوا يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم القرآن ويسمعون كلامه العظيم صلوات الله وسلامه عليه، ويريدون أن يشككوا الناس فيما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم، فيسألون أهل العلم أمام الناس فيقولون: ماذا قال آنفاً؟ كأنهم لم يعقلوا ولم يفهموا ما الذي يقوله صلوات الله وسلامه عليه! استهزاءً بما يقول، وتنفيراً للناس عن النبي صلى الله عليه وسلم حين يرون هؤلاء أنهم لم يفهموا، فلعل غيرهم يقولون ما يقول هؤلاء، فيتشككون في كلامه صلى الله عليه وسلم.

تفسير قوله تعالى: (فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة)

تفسير قوله تعالى: (فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة) قال الله تعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} [محمد:18]، فتأتي ساعة أحدهم أو تأتي القيامة الكبرى عليهم، قال تعالى: {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد:18]، أي: قد جاءت أشراط الساعة، ومن أشراط الساعة أن بعث النبي صلوات الله وسلامه عليه، وأخبر أنه بعث هو والساعة كهاتين، وأشار بالأصبعين الوسطى والسبابة، فسبقت واحدة والأخرى تليها مباشرة، فالفترة الزمنية التي بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قيام الساعة فترة صغيرة وقليلة جداً من هذه الدنيا. وقال تعالى: {أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} [محمد:18] أي: إذا جاءت الساعة جاءت بغتة تذهل الناس، وترجع الناس فيأخذهم الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ} [محمد:18]، أي: كيف ومن أين لهم إذا جاءتهم هذه الساعة أن يتذكروا؟ أي: متى يتاح لهم أن يتذكروا، يأتي الموت ثم تأتي الساعة، ولا يلحق الإنسان أن يتذكر التذكرة التي تنفعه في العمل، فإنه إذا رأى الموت رأى ما كان غائباً عنه قبل ذلك، فلا تنفعه الذكرى، ولا تنفعه التوبة، ولا يستطيع أن يقول: تبت إلى الله، بل يختم عليه ويمسك لسانه، فلا يقدر أن يقول: لا إله إلا الله، أو أن يقول: تبت إلى الله، قال تعالى: {لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158]. فقوله تعالى: {فَأَنَّى لَهُمْ} [محمد:18]، أي: من أين وكيف لهم أن يتذكروا فينتفعوا بهذه الذكرى؟ فأنى لهم إذا جاءتهم الساعة أن يتذكروا وأن ينتفعوا بذلك، وأن يناجي بعضهم بعضاً، فيذكر بعضهم بعضاً، والحق أنَّ الساعة ستقوم، بل تأتي الساعة عليهم كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد يكونون في سوقهم يتبايعون، يبيع الرجل الثوب ويمده ويمتره ويذرعه، وهذا يشد وهذا يشد وهذا يقيس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ينفخ في الصور فإذا بهم يسمعون صوت نفخة، فيصغي الرجل ليتاً ويرفع ليتاً) والليت: جانب العنق، يصغي: يميل ليسمع ما هو هذا الصوت، فلا يلحق بل يخر ميتاً، وذكر أن إنساناً آخر يلوط حوض إبله، أي: يحضر الحوض الذي سيسقي فيه إبله ويجهزه، ولا يلحق أن يأتي الإبل ويسقيها، فإذا به يسمع النفخ في الصور فيخر صعقاً، والرجل يمسك اللقمة يرفعها إلى فيه، فيسمع الصوت ويصغي له، ولا يلحق أن يأكل اللقمة، ويخر ميتاً. فمتى يتذكرون؟ ومتى يعتبرون؟ ومتى يدعو بعضهم بعضاً؟ ومتى يذكر بعضهم بعضاً وينادي بعضهم على بعض أن الساعة حق؟ ومتى يلحقون قول لا إله إلا الله قبل أن تقوم الساعة؟ أنى لهم ومن أين لهم هذا الشيء؟ لا يقدرون. فقد جاء من الله عز وجل أشراط، أي: علامات لهذه الساعة، جاءت العلامات الصغرى لعلهم يعتبرون قبل أن تأتي الكبرى، وقبل: {لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} [الأنعام:158].

من علامات الساعة

من علامات الساعة

تسليم الخاصة

تسليم الخاصة من أشراط الساعة الصغرى: أن يرفع العلم، وأن يثبت الجهل، وأن يشرب الخمر، وأن يظهر الزنا، من ذلك أيضاً: عن طارق بن شهاب قال: كنا عند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فجاء رجل فقال: قد أقيمت الصلاة، فقام وقمنا معه، فلما دخلنا المسجد رأينا الناس ركوعاً في مقدم المسجد، فكبر وركع وركعنا، ثم ذكر: أنه مر رجل مسرعاً، فقال: عليك السلام يا أبا عبد الرحمن، يعني: هم دخلوا للصلاة، وهذا الذي مر على الجميع قال: عليك السلام يا أبا عبد الرحمن. وقد نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا القول: عليك السلام يا فلان، قال صلى الله عليه وسلم: (عليك السلام تحية الموتى، إنما تقول: السلام عليكم). فـ ابن مسعود كان في الصلاة، ومعلوم أنه إذا سلم الإنسان على إنسان يصلي، فإنَّ المصلين لن يردوا عليه السلام، ولكن يرد بيده إذا كان يرفع يده ويرفع إصبعه، ينبه أن سمع السلام ويكفي، وكان ابن مسعود في الصلاة، فقال: صدق رسول الله، أو كان لم يدخل في الصلاة فقال ذلك، والله أعلم، لكن الغرض: أنه رفع صوته بذلك، قال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما انتهى ابن مسعود من الصلاة ورجع سألوه عن سبب قوله: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن بين يدي الساعة تسليم الخاصة) يعني: من علامات الساعة: مجموعة من الناس موجودون، فيسلم المار على أحدهم، وبقية الناس لا قيمة لهم. ومن علامات الساعة أن يظهر جهل الناس، ويسلم على واحد فقط، فأنت إذا أردت السلام على واحدٍ بين قوم، تسلم على الجميع، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النور:61] أي: يُسلم بعضكم على بعض، فلا تنتقي واحداً وتسلم على الذي تعرفه فقط، والباقي لا تسلم عليهم، فـ ابن مسعود يقول: صدق رسول الله، يعني: حدث هذا في عهده رضي الله تعالى عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أنه سيكون ذلك، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (إن بين يدي الساعة تسليم الخاصة) يعني: الإنسان يسلم على الذي يعرفه فقط، أما أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا يسلمون على الجميع، مثل عبد الله بن عمر رضي الله عنه، كان يخرج إلى السوق ومعه جماعة من الناس، ولا يريد أن يبيع ولا يريد أن يشتري ولكن ليسلم على الناس فقط، ثمَّ يرجع إلى البيت. وإذا خرج الإنسان إلى السوق وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، يأخذ ألف ألف حسنة على هذه الكلمة التي يقولها، يعني: مليون حسنة على هذه الكلمة! فالإنسان المؤمن يفكر كيف يأخذ الثواب من الله عز وجل، وكيف يعمل العمل الذي يؤجر عليه الأجر العظيم، أما أنه يسلم على واحد فقط من بين الناس، فهذا لا ينبغي. إن تسليم الخاصة يجعل العداوة والبغضاء في قلوب الناس، فبتسليمه كسب عداوة الباقين، فالنبي صلى الله عليه وسلم يعلم المؤمنين، ويقول: (افش السلام على من عرفت ومن لم تعرف) أي: سلم على الجميع على من عرفت وعلى من لم تعرف.

فشو التجارة

فشو التجارة من علامات الساعة: (فشو التجارة)، ولا يعني هذا: معرفة الناس كيفية البيع والشراء، لكن فشو التجارة يعني: يدخل فيها الذي يعرفها والذي لا يعرفها، فتجد الواحد موظفاً ويزاول التجارة أيضاً، وليس معناه: أن التجارة حرام، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يخبر عن شيء سيكون أن كل الناس الذي يعرف البيع والشراء والذي لا يعرف سيزاولون التجارة، قال: (حتى تعين المرأة زوجها على التجارة)، ولم يكن معروفاً في الجاهلية هذا الشيء، أن الرجل يشتغل، وزوجته تقعد مكانه في الدكان، ولم يكن معروفاً عند المسلمين هذا الشيء، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا سيكون وليس معناه: أنه حرام، وليس معناه: أن المرأة لا تعين زوجها على التجارة وأنه حرام، ولكن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيكون هم الإنسان كله في دنياه ليس في دينه، ويكون الرجل مشغولاً في التجارة، وزوجته مشغولة معه في التجارة، فينسون دين الله عز وجل، فهنا إخبار أن هذا الدين سينْسى؛ لاشتغال الناس بالدنيا والتجارة، حتى تعين المرأة زوجها على التجارة.

قطع الأرحام

قطع الأرحام قطع الأرحام من علامات الساعة، فالإنسان يقطع أرحامه؛ لانشغاله بالدنيا وجمع المال، ولا يريد أن يعطي أحداً حقه، ولا ينظر إلى فقير ولا إلى مسكين ولا إلى أب ولا أم ولا كذا، فترى الأب يجانبه ابنه في البيت، ولا يذهب إليه؛ خوفاً من أن يقول له أبوه: هات. والأب يعرف أن ابنه فقير ومحتاج، لكن لا يتدخل به، فتقطع الأرحام بسبب جمع المال والحرص عليه، وكل إنسان لا يريد أن يعطي الحق الواجب عليه.

شهادة الزور

شهادة الزور من علامات الساعة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وشهادة الزور)، أن يشهد الإنسان زوراً، بأن يكون محرجاً من فلان، فيذهب ويشهد معه زوراً وهو لم ير شيئاً. وإنسان يبغض فلاناً فيشهد عليه زوراً وهو لم يرَ شيئاً، وقد يجلس شخص على القهوة، وينتظر أحد يناديه، تعال واشهد معي في المحكمة وسأعطيك مبلغاً من المال، فيذهب ويشهد كذباً وزوراً ويحلف اليمين الغموس، وكم تسمع عن أمثال هؤلاء وهم لم يشاهدوا شيئاً حتى يشهدوا! والذي يشهد شهادة الزور يعتبرها خدمة ومجاملة، فيشهد زوراً وكذباً لإنسان؛ فتضيع حقوق الناس، وقد يظلم أهل التقوى ويسجنون بسبب شهادة الزور. والمرأة تشهد على جارتها وتحلف كذباً لأنها تغيظ منها، كذلك المحامي يقول لمن يحامي عنه: أوجع نفسك بأي جرح واتهم بما حدث لك فلاناً، فهذه أيضاً من شهادة الزور.

كتمان الشهادة

كتمان الشهادة يقول صلى الله عليه وسلم هنا ذاكراً من علامات الساعة: (وكتمان الشهادة) كتمان الشهادة من علامات الساعة، فيكون الإنسان مظلوماً وأنت تعرف ذلك وقد شاهدت ما حصل بنفسك فتأبى أن تشهد معه، ومن ذلك مثلاً: امرأة زوج قريبتها تبنى طفلاً صغيراً، ومعلوم أن التبني حرام، فمات هذا الرجل وعنده مال، وورثه هو وأخواته البنات، والرجل صنع وكالة لهذا المتبنى، ونسبه لنفسه، فأخذ الولد المال كله يصرفه على نفسه ويضيعه، وهم يقولون: إنه لا يعطي لعماته، ومعلومٌ أن هذا المتبنى ليس له من المال شيء، بل هو آكل مال الورثة، وضاع الإرث عن أصحابه بسبب كتم الموروث الشهادة. فالمطلوب منك أن تدلي بشهادة الحق، حتى لا يضيع المال على صاحبه. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الكذبة والفساق أنه يسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته، ويخبر أنه من علامة المؤمن أن يؤدي الشهادة قبل أن تطلب منه، وأنكر النبي صلى الله عليه وسلم على من يشهد بعد أن تطلب منه، وأمر بأن يشهد من غير أن يطلب منه؛ لأنه يعلم أن الحق سيضيع على أصحابه لو لم يشهد. فيبدأ هو بالشهادة من عند نفسه من غير أن يستدعيه إنسان، فمن يعرف مظلوماً سيضيع حقه، فعليه أن يؤدي الشهادة بحقها حتى لا يضيع هذا المظلوم.

ظهور القلم

ظهور القلم من علامات الساعة كما جاء في هذا الحديث: (وظهور القلم)، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن بين يدي الساعة تسليم الخاصة، وفشو التجارة، حتى تعين المرأة زوجها على التجارة، وقطع الأرحام، وشهادة الزور، وكتمان شهادة الحق، وظهور القلم). وأيام النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول لهم: (نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب) أي: الذين يكتبون عدد قليل جداً، ولكن هو يخبر أنه في يوم من الأيام سيكون أكثر هذه الأمم يعرفون القراءة والكتابة، وسيظهر القلم، وسيكون كل إنسان يقرأ ويكتب ويحسب ويعرف هذا الشيء، وليس هذا ذماً لظهور القلم أن يكتب الناس، ولكن يخبر أن الأمة العربية التي كانت جاهلة وكانت أمية، سيأتي يوم من الأيام على أغلبها يظهر فيهم القلم، وسيكون كل شيء بالكتاب، ويخبر أنه ستصاب هذه الأمة بالنسيان، حتى تحتاج إلى القلم. فالعرب لم يكونوا يحتاجون إلى القلم، بل منهم من كان يفتخر أنه لا يكتب بالقلم كما قال الشعبي: ما كتبت بيضاء في سوداء، بل يسمع فقط، وكان حافظاً من الحفاظ، وعالماً من العلماء، وفقيهاً من الفقهاء، ويحفظ ما سمعه، والإمام ابن شهاب الزهري عالم لا يحتاج إلى كتاب يكتب إليه، فهو يحفظ الحديث حين يسمعه من مرة واحدة فقط، ولا يحتاج أن يكرر عليه الحديث، قال العلماء عنه: الحديث الذي لا يعرفه الزهري ليس بحديث، فـ الزهري ليس محتاجاً إلى أن يكتب، حفظه قوي جداً، فكان العرب هذه عادتهم، إذْ كانوا يفتخرون بالحفظ، فإذا بأحدهم يحفظ القصيدة مائة بيت ومائتي بيت من الأول إلى الآخر، وينكسها من الآخر إلى الأول من غير كتابة ولا حفظ يعانيه ولا غيره! فقوله صلى الله عليه وسلم: (وظهور القلم) معناه: ستنسون وستتعودون على النسيان، حتى تحتاجوا إلى أقلامٍ لكتابة هذا الشيء.

ولادة الأمة سيدتها أو سيدها وتطاول الحفاة العراة في البنيان

ولادة الأمة سيدتها أو سيدها وتطاول الحفاة العراة في البنيان من الأحاديث التي جاءت عنه صلى الله عليه وسلم في بيان علامات الساعة، ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في مسند الإمام أحمد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأيت الأمة ولدت ربتها، ورأيت أصحاب البنيان يتطاولون في البنيان، ورأيت الحفاة الجياع العالة كانوا رءوس الناس؛ فذلك من معالم الساعة وأشراطها)، هذا جاء في حديث عمر بن الخطاب في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل، وجاء أيضاً من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وحديث جبريل حديث طويل، وهذا الحديث مختصر: (إذا رأيت الأمة ولدت ربتها)، والمعنى: أمة جارية تلد سيدتها، تكون ابنتها سيدتها، وابنها سيدها، وهذا لا يجوز؛ لأن الابن لا يستعبد أمه، والبنت لا تستعبد أمها، هذا لا يكون أبداً، ولكن أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا سيكون في يوم من الأيام! ومعلوم أن الأمة إذا وطأها سيدها، ثم أحبلها الجنين الذي في بطنها عندما تضعه يكون سبب عتقها، ولا يجوز أن تكون أمة بعد ذلك، فإذا مات هذا السيد، وكان ابنها هو الذي يستعبدها بعد ذلك، تصير عبدة عند ابنها، فهذا من علامات الساعة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. قال: (ورأيت أصحاب البنيان يتطاولون في البنيان)، والذي يخبر به النبي صلى الله عليه وسلم كله حاصل، فهناك بيوت عالية جداً بحق وبباطل، وبيوت ناطحات سحاب في السماء، وما كان الصحابة يتخيلون بيتاً مكوناً من طابقين، بل أعلى شيء يتخيلونه أن تكون هناك غرفة مشرفة عالية في البيت. قال: (ورأيت الحفاة الجياع العالة، كانوا رءوس النا)، أي: إنسان يكون فقيراً وفي يوم من الأيام يكون رئيساً على الناس، ولا يوجد مانع من هذا الشيء، ومن يمنع رحمة الله عز وجل؟ ولكن المعنى: أن الناس يجعلون صاحب المال رئيساً فيهم، فصاحب المال هذا كان في يوم من الأيام حافياً جائعاً، ولم يكن يملك شيئاً، وليس له حظ في العلم ولا في العمل ولا وجاهة له في الناس، وفجأة أصبح هذا الإنسان غنياً، وأصبح فوق رءوس الناس، فصار هو الذي يصلح أن يقودهم، وليست عنده حكمة، وليس عنده علم، وليس هو من أهل الخبرة في ذلك، ولكن ماله هو الذي جعله فوق الناس، يعني: الناس لا يحترمون إلا من له مال. فإذاً: هو صاحب الرأي فيهم، وهو الذي يصلح فيهم أن يقودهم، فهذا من علامات الساعة، لكن أهل الجاهلية من العرب لم يكن رئيسهم صاحب مال، بل صاحب العقل فيهم، وصاحب السن فيهم، يعرفون له سناً، ويعرفون له حكمته، فيقبلون منه، ويذهبون إليه فيتقاضون عنده، لكن إذا صار الأمر إلى أن الذي عنده مال هو الذي يصلح، ضاع الرأي إذا كان المال من ورائه، قال صلى الله عليه وسلم: (فذلك من معالم الساعة وأشراطها).

ظهور خسف وقذف ومسخ

ظهور خسف وقذف ومسخ أيضاً: جاء عنه صلى الله عليه وسلم في الحديث يقول: (إذا سمعتم بقوم قد خسف فيهم هاهنا قريباً، فقد أظلت الساعة)، خسف بالمشرق هناك، إذا سمعتم أنه حصل خسف بالناس، فاعلموا أن الساعة قريبة، وأخبر عن الزلازل، وانظر إلى الزلازل التي كثرت في هذا الزمان. ويقول صلى الله عليه وسلم: (إذا فسد أهل الشام، فلا خير فيكم، ولا تزال طائفة من أمتي منصورين، لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة). إذا فسد أهل الشام، وإذا ضاع الإيمان، وضاع الدين من بلاد الشام، هذا آخر ما يكون في الإيمان، فقد فسدت الدنيا فانتظروا الساعة.

إسناد الأمر إلى غير أهله

إسناد الأمر إلى غير أهله من علاماتها أيضاً الصغرى: يقول: (إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظروا الساعة)، إذا صارت الأمور ومقاليدها يديرها من لا يستحقون ذلك، والذين لا خبرة لهم، والكفار يصنعون ذلك في المسلمين، إذْ يولون بين المسلمين وعلى المسلمين من لا يصلح لشيء، ولذلك سقط الاتحاد السوفيتي بسبب رجل من أصحاب المخابرات في الاتحاد السوفيتي يعترف في يوم من الأيام أنه كان عميلاً للأمريكان هنالك، إذْ جعلوه مسئولاً عن التعيينات، وأي إنسان صاحب كفاءة لا يعينه، فكان إذا خير بين ثلاثة أو أربعة عندهم كفاءات وإنسان جاهل، يأتي بالجاهل ويحطه في هذا المكان، وإذا صارت البلاد يديرها الجهال ضاعت البلاد؛ لأنه لا خبرة عنده ولا ديانة عنده ولا دراية عنده، فسقط الاتحاد السوفيتي الذي كان في يوم من الأيام ملء السمع والبصر! هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا وسد الأمر إلى غير أهله) أي: إذا صار يحكم الناس، ويقوم بشئونهم أصحاب المحسوبية والرشاوى والأقارب والإنسان الذي لا يستحق؛ ضاعت بلاد المسلمين، وانتظروا الساعة من وراء ذلك.

حديث عوف بن مالك في بيان بعض علامات الساعة الصغرى

حديث عوف بن مالك في بيان بعض علامات الساعة الصغرى عن عوف بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري - يقول: (أعدد ستاً بين يدي الساعة: موت النبي صلى الله عليه وسلم، ثم فتح بيت المقدس -وقد حصل في زمن عمر رضي الله عنه- ثم موتان يأخذ فيكم كقعاص الغنم) يعني: أنه يحدث فيكم أوبئة، فيموت فيكم أعداد ضخمة جداً من الناس، وهذا حدث في عصور كثيرة قبل ذلك، فالله أعلم أي عصر يقصده النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن يخبر أنه ستكون في بلاد المسلمين أوبئة يموت بسببها الأعداد الضخمة من الناس. يقول: (ثم استفاضة المال حتى يعطى الرجل مائة دينار، فيظل ساخطاً)، يخبر أنه يصبح الناس في يوم من الأيام أغنياء، فيعطي الرجل مائة دينار يعني: نصف كيلو ذهب: أربعمائة وخمسة وعشرون جراماً من الذهب تقريباً، فيسخط ويريد أكثر من ذلك، ولا يرضى بهذا المال. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته) أي: معاصٍ وذنوب تدخل جميع البيوت، ما من بيت من البيوت إلا وتجد فيه فتنة من الفتن، في النساء وفي الرجال وفي المال وغير ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله. يقول صلى الله عليه وسلم: (ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر) أي: بينكم وبين الغرب، بينكم وبين الكفار تكون هدنة، فيغدرون ويدخلون بلادكم، قال: (ويأتونكم تحت ثمانين راية) أي: تحت ثمانين لواء، (تحت كل راية اثنا عشر ألفاً) يعني: ستأتيكم جيوش ضخمة من هؤلاء الكفار على بلادكم، يصل عددهم إلى نحو مليون، حوالي تسعمائة وستين ألف مقاتل، ويسمونها جيوش الأحلاف، هؤلاء الكفار يدخلون على المسلمين في بلادهم، فيحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من هؤلاء، هذه بعض علامات الساعة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة محمد الآية [18]

تفسير سورة محمد الآية [18] لقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ظهور علامات صغرى وكبرى قبل قيام الساعة، وأخبر عليه الصلاة والسلام أن الناس عند اقتراب الساعة ورؤيتهم لعلاماتها لا يزدادون على الدنيا إلا حرصاً، ولا من الله إلا بعداً، فينبغي على المسلم أن يشتد حذره وخوفه من الله، وعندما يشاهد هذه العلامات يزداد حرصاً على الآخرة، ويزداد إقبالاً على الطاعة.

تفسير قوله تعالى: (فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة)

تفسير قوله تعالى: (فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. وقفنا في سورة محمد صلى الله عليه وسلم عند قول الله عز وجل: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} [محمد:18]. يخبر الله عز وجل أن الساعة قريب، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى ذلك في كتابه، قال سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} [النازعات:42 - 43]، علم الساعة عند الله سبحانه وتعالى ففيم أنت من ذكر هذه الساعة؟ {إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا} [النازعات:44] أي: منتهى علم هذه الساعة إليه سبحانه، فهو الذي يعلم منتهى هذه الساعة وما يكون فيها، وأخبر أن الساعة قريب، وأنها إذا جاءت أذن الله عز وجل أنه لابد أن تكون، فأخبر بقوله: {لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} [الأحزاب:63] وأخبر الله سبحانه {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1] أي: قد أمر الله وقد كان من أمر الساعة ما يريده الله سبحانه، فلابد أن تكون. قال سبحانه هنا: ((فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا)) أي: جاءت العلامات الصغرى للساعة، وتليها بعد ذلك العلامات الكبرى للساعة، ومن العلامات الصغرى ما ذكرناه قبل ذلك. ورد حديث للنبي صلى الله عليه وسلم يخبرنا فيه أن الساعة قريبة، ومع ذلك الناس ليس على بالهم أمر الساعة، فروى الإمام الحاكم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه وأيضاً رواه الطبراني قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اقتربت الساعة ولا يزداد الناس على الدنيا إلا حرصاً، ولا يزدادون من الله إلا بعداً) يعني: كلما جاءت أشراط الساعة لم يتعظ الناس، وكلما اقترب أمر الساعة ازداد الناس حرصاً على الدنيا وليس على الآخرة، وكان المفترض في الإنسان أنه كلما ذكر بآية من الآيات وعلامة من العلامات رجع وتاب وأناب إلى الله عز وجل، ولكن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كلما رأوا شيئاً من هذه العلامات ازدادوا حرصاً على الدنيا وتكالباً على الدنيا، وهذا الذي تراه، فتجد الناس يشيعون الجنائز وبعض المشيعين لعلهم لا يصلون، وإنما يبقون خارج المسجد في سياراتهم ويشربون سجائر ويضحكون، والميت يصلى عليه داخل المسجد! وهو إنما حضر مجاملة لأهل الميت، ويذهب معهم إلى المقابر نوعاً من المجاملة للأحياء، أما الميت فليس على بالهم، وذكر الموت ليس على بالهم، مع أن ذكر الموت موعظة من أعظم المواعظ، فهؤلاء يرون الموتى أمامهم فلا يزدادون على الدنيا إلا حرصاً، ولا يزدادون من الله إلا بعداً، وكلما كان الإنسان في غفلة كان بعيداً عن الله، وكلما بعد عن الله سبحانه استحق عقوبة الله سبحانه.

شرح حديث: (لا تقوم الساعة حتى تكون عشر آيات)

شرح حديث: (لا تقوم الساعة حتى تكون عشر آيات) من الأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الساعة هذا الحديث الذي رواه مسلم من حديث حذيفة بن أسيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الساعة لا تقوم حتى تكون عشر آيات) وهذه العلامات الكبرى للساعة عشر آيات، وأخبر في حديث: (أنها كنظام عقد انفرط) العقد هو السلك الذي ينضم فيه الخرزات، فهذا العقد إذا انفرط وانقطع تساقطت الخرزات منه خرزة خرزة، فكأنه يخبر أن علامات الساعة الكبرى إذا جاءت فإن الساعة تطلع بسرعة وراء هذه العلامات. يقول: (إن الساعة لا تقوم حتى تكون عشر آيات: الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، ونزول عيسى، وخروج يأجوج ومأجوج، ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر، تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا) هذه العلامات الكبرى للساعة، حين تظهر هذه العلامات وخاصة طلوع الشمس من مغربها يقول ربنا سبحانه: {لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158]، ويذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية مع ذكره هذه العلامات، فمن العلامات الكبرى التي تكون قرب الساعة: الدخان، دخان يملأ الدنيا، ويكون شديداً على الكافر، ويكون على المؤمن كالزكمة في أنفه، والدجال الذي يدعو الناس إلى نفسه بأن يعبدوه فيتبعه اليهود والمنافقون، ويرى المؤمن مكتوباً على جبينه: كافر، أيضاً الدابة، وهي دابة تكلم الناس: {أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ} [النمل:82] كما مر في سورة النمل، فالله سبحانه وتعالى يخبرنا عن هذه الدابة أنها تكلم الناس: {أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ} [النمل:82]، والنبي صلى الله عليه وسلم يخبرنا أن الدابة تسم الناس، فهي تجري وراء كل إنسان وتسمه على جبينه: هذا كافر وهذا مؤمن، وانتهى الأمر على ذلك، المؤمن يعيش يناديه الناس: يا مؤمن! اذهب يا مؤمن، تعال يا مؤمن، هات كذا، والكافر يناديه الناس: يا كافر! اعمل كذا، يا كافر هات كذا، ويختم على ذلك الكافر، فهو كافر لا ينتفع بموعظة ولا بشيء، ويظل على ذلك حتى يموت. يقول هنا في الحديث: (وطلوع الشمس من مغربها، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق) يعني: الأرض تخسف بمن عليها، (وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب) يعني: تحصل زلازل عظيمة جداً ويخسف بالناس في هذه المواضع الثلاث. قوله: (ونزول عيسى، وفتح يأجوج ومأجوج) إذا خرج الدجال ينزل المسيح عيسى بن مريم من السماء فيقتله، ويحقق العدالة على الأرض التي يريدها الله سبحانه وتعالى، ويحكم بهذا القرآن العظيم، ويقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ولا يقبل الجزية أي: لا يقبل إلا الإسلام فقط، فيصير الناس مؤمنين طيبين. يقول هنا صلى الله عليه وسلم: (ونار تخرج من قعر عدن) من عدن تخرج نار تسوق الناس إلى أرض المحشر يعني: من عدن من اليمن إلى بلاد الشام، من الجنوب إلى الشمال، نار تسوق الناس ولا يقدرون أن يطفئوا هذه النار مهما أوتوا من قوة ومن آلات ومياه وغيرها، لا يقدرون على إطفائها إنما يفرون منها وهي وراءهم تجري معهم ليل نهار من اليمن إلى أن يصلوا إلى بلاد الشام.

شرح حديث: (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها)

شرح حديث: (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها) أيضاً من الأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث الذي في صحيح مسلم من حديث ثوبان رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله زوى لي الأرض) يعني: جمع لي الأرض، ثم قال: (فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها) يعني: ما جمعه الله عز وجل لي ورأيته لابد وأن يكون، لأن الله لا يخلف الميعاد سبحانه، ثم قال: (وإني أعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض) يعني: أعطى أمته، وإلا فهو قد مات صلى الله عليه وسلم قبل أن ينال من الدنيا شيئاً من كنوزها عليه الصلاة والسلام، وإنما يفتح الله لهذه الأمة ويعطيها ويمكن لها في الأرض، ثم قال: (وإني سألت ربي لأمتي ألا يهلكها بسنة عامة، ولا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم) يعني: أنه صلى الله عليه وسلم دعا ربه سبحانه ألا يهلك المسلمين بسنة عامة، يعني: جميع المسلمين وإلا ففي بلاد المسلمين حصلت مجاعات خلال القرون السابقة، كانت تجيء على أهل مصر مجاعة كانوا يأكلون الكلاب ويأكلون لحوم الميتة، والذي يقرأ في التاريخ يعرف كيف أننا أصبحنا في نعم من الله سبحانه وتعالى، ففي بلادنا هذه يذكر الحافظ الذهبي في تاريخ الإسلام وسير أعلام النبلاء وغيرهما من الكتب وغيره من العلماء أنه حصلت مجاعات في هذه البلاد كان الناس يأكلون فيها كل شيء، ووصل ثمن حفنة القمح بمثلها من الذهب، كانوا يخرجون الدر والياقوت حتى يأخذوا مكانه قمحاً بنفس المقدار! وهذه المجاعات أكل فيها الناس الكلاب وأكلوا كل شيء، حتى كان الرجل يموت فلا يصلون بجثته إلى المقابر إلا وقد تخاطف الناس الجثة وأكلوها، ويذكر علماء التاريخ من ذلك أنه في مجاعة من هذه المجاعات خرج قاضي البلد على بغلة له ومعه حراسه، وتركوا البغلة في مكان، وذهب القاضي للقضاء، فالناس سرقوا البغلة وأكلوها، نسأل الله العفو والعافية! فيخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه دعا ربه ألا يهلك المؤمنين بسنة عامة يعني: ألا يعمهم عذاب من عند الله عز وجل ويمنع عنهم المطر ويمنع عنهم الخير ويموت الجميع، فليس يحدث هذا الشيء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم دعا ربه بألا يكون ذلك، ولكن قد يحدث في بعض البلدان ذلك. ودعا صلى الله عليه وسلم: (ولا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم) وربنا سبحانه أجاب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا محمد! إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة، ولا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بين أقطارها) يعني: ليس يكون ذلك ما داموا متمسكين بكتاب الله عز وجل، وما داموا متآلفين متحابين فيما بينهم، ثم قال له ربه: (حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً) يعني: أن يقاتل المسلمون بعضهم بعضاً، طمعاً في الدنيا وحباً للملك، إذا حصل ذلك سأسلط عليهم أعداءهم، وهذا هو الحاصل في المسلمين، لما بغى المسلمون بعضهم على بعض، وتركوا كتاب الله عز وجل وراء ظهورهم، وتنازعوا وتناحروا على الدنيا؛ إذا بالله عز وجل يتركهم، فيتسلط عليهم أعداؤهم، وهذا الوعد الحق من أشراط الساعة. إذاً: الله لا يرفع عن هذه الأمة العذاب العام، وإنما يجعل بأسهم بينهم إذا هم نسوا دين الله عز وجل، ولا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم إلا إذا تسلط بعضهم على بعض، حينها يسلط عليهم أعداءهم.

تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الأئمة المضلين

تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الأئمة المضلين يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين) الإمام إما الإمامة الكبرى بمعنى الأمراء والرؤساء والخلفاء، وإما الأئمة المفتون الذين يفتون الناس ويعلمون الناس دينهم، فمن هؤلاء أئمة مضلون، وهم الذين يتركون كتاب ربنا وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ويتأولون ذلك بأهوائهم وبرأيهم، ويصدرون للناس أحكاماً ما أنزل الله عز وجل بها من سلطان، فإذا بهم يفتون الناس بغير علم أو يفتون الناس بالباطل مع معرفتهم الحق، فتسمع الفتاوى العجيبة من ناس ليس لهم شأن بدين الله، ومن أناس من أهل هذا الشأن وأساتذة في الجامعات ومع ذلك يتكلم أحدهم بالكلام الذي يجامل فيه الخلق وينسى كتاب الله وينسى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم أو يتغافل عنهما، فهؤلاء هم الذين حذر النبي صلى الله عليه وسلم منهم: (إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين) يعني: الحكام الذين يدعون الناس إلى غير كتاب الله سبحانه، ويبعدون الناس ويلهونهم عن دين الله عز وجل، وكذلك الأئمة الذين يأتم الناس بهم ويتبعونهم ويقلدونهم فيفتونهم بغير علم أو يفتونهم بأهوائهم وزيغهم. ثم يقول صلى الله عليه وسلم: (وإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنهم إلى يوم القيامة) هذا مما أخبر به عليه الصلاة والسلام وهو حق، فمن حين وضع السيف وبدأ القتال بين هذه الأمة من زمن مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه لم يرفع عنها السيف، وافترقت الأمة إلى سنة وإلى خوارج وإلى شيعة، جاء في الحديث: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة -الكل يقول: أنا مسلم-، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي) وأهل السنة هم الجماعة الذين يجتمعون ويعتصمون بحبل الله سبحانه وتعالى، ولذلك أعداء المسلمين يريدون أن يكون كل المسلمين في ضياع، بعيدين عن كتاب الله وعن هدي النبي صلى الله عليه وسلم، والذي يتمسك بالكتاب والسنة فهذا عندهم متزمت متشدد، لكن ابعد عن الكتاب والسنة بحيث تصبح المسلم الذي يريده الغرب الكافر. إذاً: الفرقة الوحيدة الناجية هم أهل السنة، الذين يصفهم هؤلاء الكفار بأنهم الأصوليون وبأنهم المتزمتون، ويقصدون المتمسكين بكتاب الله وبسنة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.

إخبار الرسول عن لحوق قبائل من أمته بالمشركين وعبادة الأوثان قبل قيام الساعة

إخبار الرسول عن لحوق قبائل من أمته بالمشركين وعبادة الأوثان قبل قيام الساعة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين) يعني: ليس واحداً ولا اثنين لكن سيلحق كثير بالمشركين، فيا ترى هذا حاصل وإلا ليس بحاصل؟ كم يحصل من المسلمين ممن يتسمى بأسماء المسلمين وينبهر بما يزعم بأنها حضارات الكفار فيدعوه إلى ما يدعوه إليه هؤلاء، يقول: أنا علماني، وفي البداية كان يستحيي الواحد منهم أن يقول: أنا علماني، وكانوا يقولون: إن معنى علماني يعني: علم التكنولوجيا وعلم كذا، يعني: لا دخل لي بالدين، أما الآن فيصرحون بأنهم علمانيون، يعني: لا دخل لي بالدين، فهذه امرأة لبنانية سئلت على قناة فضائية: ما دينك؟ قالت: لا دخل لك بديني أنا علمانية، يعني: هي لا تؤمن بالغيب، ولا تصدق الكتب السماوية، هذا الذي يقولونه الآن، فهؤلاء انسلخوا عن دينهم، وهم الذين أخبر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يذهبون إلى الكفار حيث قال: (ولا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان) يعني: أن هذه الأمة سيكون منها أقوام يعبدون الأوثان من دون الله سبحانه وتعالى، فترجع الجاهلية مرة ثانية، ومن يزعم من المسلمين أنه غير ممكن أن ترجع الأمة إلى الجاهلية فهذا مكذب بما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أول هؤلاء الجاهليين الذين يدعون الناس إلى صناعة الأصنام وإلى التماثيل، وإلى أنه لا مانع من هذه الأشياء، وأن الدين لا يحارب هذه الأشياء ولا ينهى عنها، مع كثرة الأحاديث التي أتت عن النبي صلى الله عليه وسلم في المنع من ذلك، والإخبار بأن الناس سيرجعون في يوم من الأيام لعبادة الأوثان من دون الله. أما عبادة القبور فقال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد) يتعوذ بربه سبحانه أن يكون قبره وثناً يعبد، وقال: (لا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك) فإذا بهم الآن ينادون بمثل ذلك، ويخرج بعضهم على الناس ويقول: الصوفية هي الحل، والرجوع إلى اتخاذ القبور في المساجد هذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم، يقولون: هؤلاء أماتوا السنة أماتهم الله، ويقولون: لعنة الله على الكذابين، ويقولون: أو ما قبر النبي صلى الله عليه وسلم بداخل المسجد؟ نقول: والله ما أمرهم بذلك، ولا كان قبره بداخل المسجد، إنما كان قبره في حجرة عائشة خارج مسجده صلى الله عليه وسلم، فلما ضاق المكان وسع المسجد فكان عذراً، فكيف يقاس حال غير العذر على حال العذر؟! والنبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن أن تتخذ القبور مساجد، فقال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد إني أنهاكم عن ذلك) فقد حذرهم النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك. فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد) يدل على أن القبور قد تعبد من دون الله، وذلك بأن يذهب إلى القبر ويقول: يا سيدي فلان أعطني كذا، يا سيدي فلان اعمل لي كذا، نقول: هذا الذي لا يطلب إلا من الله سبحانه وتعالى، فيقول: ماذا عليك عندما تطلب من رجل صالح ورجل ولي ورجل كذا حاجتك؟ لا مانع من هذا الشيء، نقول: أين الأحاديث التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الشيء؟ هناك أحاديث كثيرة جداً في الصحيحين وفي غيرها تبلغ حد التواتر فيها النهي عن هذا الشيء، فتراه لا يستطيع أن يرد هذه الأحاديث، لكن يقول: أنتم غير فاهمين معاني هذه الأحاديث، نقول: نحن غير فاهمين معانيها؟ وكل العلماء السابقين وأبناء الأمة غير فاهمين معانيها، حتى جئت أنت وأمثالك ففهمتم معانيها ووضحتموها؟! نقول: النبي صلى الله عليه وسلم حذر أن يتخذ قبره وثناً يعبد صلوات الله وسلامه عليه، وحذر أن تتخذ القبور في المساجد، وأن تبنى المساجد على قبور. وهؤلاء الذين يعبدون القبور من دون الله سبحانه وتعالى، يتشدق أحدهم ويقول: أين تذهبون بالحديث الذي فيه أن أبا دجانة أو أبا بصير بني على قبره مسجداً؟ نقول: من أين جئت بهذا الحديث؟ فيقول: هذا الحديث ورد بإسناد صحيح، أقول: ارجعوا إلى كتاب (تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد) حتى تعرفوا درجة هذا الحديث، وتعرفوا كلام الألباني عالم الحديث في هذا الحديث؛ حتى لا يخدعكم أحد في دين الله سبحانه وتعالى، فيخرج كذاب يكذب على الناس ويقول: الحديث في الصحيح، وهو غير صحيح وغير موجود في الصحيح، والبحث في الأحاديث كان شاقاً جداً، أما الآن فالبحث فيها سهل ويسير عن طريق (الكمبيوتر)، ولو فرضنا أن هذا الحديث ورد بإسناد صحيح فكيف وقد عارضه (أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بأيام ذكرت له أم حبيبة وأم سلمة كنيسة رأتاها في الحبشة وفيها تصاوير فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، ألا إني أحذركم ذلك، وقال: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ألا إني أنهاكم عن ذلك) فحذر عند وفاته من ذلك، فكيف يلغى ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم ويقال: إن أبا بصير بني على قبره مسجداً؟! نسأل الله العفو والعافية.

إخبار الرسول عن ظهور كذابين يدعون النبوة

إخبار الرسول عن ظهور كذابين يدعون النبوة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون) أي: سيكون في الأمة من يكذب على الله ويكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدجلون على الناس. ثم قال: (كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي) انقطع أمر الرسالة والوحي من السماء، ولا يكون بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا نزول المسيح عليه الصلاة والسلام؛ ليحكم بهذه الشريعة بكتاب الله عز وجل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فليس يأتي بشيء جديد وإنما يأتي ليحكم بهذه الشريعة العظيمة. وذكر أنه سيظهر دجالون كذابون يزعمون أنهم أنبياء، وهؤلاء أجهل الناس بدين الله وباللغة العربية التي يتكلمون بها؛ ولذلك يقولون: إنه قال: لا نبي بعدي، ولم يقل: لا رسول، ولا رسول إلا وهو نبي أصلاً، إذ كل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً، فالرسالة أعلى مرتبة، فكل من بعثهم الله أنبياء، وخص بالرسالة مجموعة من هؤلاء الأنبياء، فهؤلاء الذين يكذبون يقولون: هو قال: لا نبي بعدي، ولم يقل: لا رسول، فنقول: النبي عليه الصلاة والسلام حين يخبر أنه لا نبي بعده فمعنى ذلك أنه لا نبي ولا رسول؛ لأنه مستحيل أن يكون رسولاً قبل أن يكون نبياً.

بقاء الطائفة المنصورة على الحق إلى قيام الساعة

بقاء الطائفة المنصورة على الحق إلى قيام الساعة يقول صلى الله عليه وسلم: (ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله) فهذا الكلام من النبي صلى الله عليه وسلم هو الحق، والوعد الصدق الذي يخبر به، فالله سبحانه لا ينطمس نوره عن الدنيا بالكلية، لا يكون أبداً، لابد وأن تكون طائفة في كل زمان تعرف الحق الذي يريده الله سبحانه، وتدعو الناس إليه، حتى تقوم الساعة وهم على ذلك متمسكين بدين الله عز وجل. نسأل الله أن يجعلنا من هذه الطائفة المنصورة، وأن ينصر الإسلام والمسلمين، وأن يخذل الكفر والمشركين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة محمد (تابع 1) الآية [18]

تفسير سورة محمد (تابع 1) الآية [18] وردت أحاديث كثيرة تذكر بعض ما سيكون بين يدي الساعة من كثرة القتل بين الناس على حطام الدنيا، وكثرة الخسف والقذف والزلازل على أولئك القوم الذين يبارزون الله بالمعاصي والذنوب، وأن يلتمس العلم عند الأصاغر، ولا تقوم الساعة حتى يكون الروم أكثر الناس، وحتى يفتح المسلمون القسطنطينية.

تفسير قوله تعالى: (فقد جاء أشراطها)

تفسير قوله تعالى: (فقد جاء أشراطها) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. ذكرنا قول الله سبحانه وتعالى في سورة محمد صلى الله عليه وسلم: {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد:18] يعني: أشراط الساعة، هل ينتظر الناس إلا أن تأتي الساعة؟ فقد جعل الله عز وجل أشراطاً لهذه الساعة، وبدأت هذه الأشراط بمبعث النبي صلوات الله وسلامه عليه، ((فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ)). وقد ذكرنا جملة من أشراط الساعة التي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرها، وهنا جملة أخرى من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في أشراط الساعة، قد ذكرنا منها الأشراط الكبرى وهي العشر الآيات، وسنذكر أشراط أخرى هي علامات صغرى للساعة.

من العلامات الصغرى للساعة

من العلامات الصغرى للساعة

كثرة القتل

كثرة القتل روى الإمام أحمد وابن ماجة عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن بين يدي الساعة الهرج) أي: القتل، وليس هو قتل الكفار ولكن قتل الأمة بعضها بعضاً، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن كلمة الهرج؟ فأخبر أنه القتل، يعني: سيكون بين المسلمين قتال، يقتل بعضهم بعضاً على الدنيا، وعلى الملك، وعلى الرئاسة، وعلى الحكم، وعلى النيابة، وعلى غير ذلك من أمور الدنيا. حتى إن الرجل يلقاه أخوه فيقتله، أي: أن الإخوة من النسب يلتقيان فيختلفان على شيء تافه فيقتل أحدهما الآخر، كذلك الأخ في الدين يلقى أخاه فيختلفان على أمر من أمور الدنيا فيقتله. (ينتزع عقول أهل ذلك الزمن) أي: أن الله عز وجل ينتزع عقولهم، فيصبحون لا عقول لهم، ولا رحمة، فلا يهتدون لشيء، إنما الذي يحكمهم والذي يريدونه هو الدنيا، والمنصب، والدينار، والدرهم، يقول: (ويخلف لها هباء من الناس يحسب أكثرهم أنهم على شيء وليسوا على شيء)، فيكون أكثر الناس لا عقول لهم، ولا يعرفون شيئاً عن دين الله سبحانه وتعالى، بل إن آخر ما يتكلمون عنه هو دين الله سبحانه وتعالى، فيحسبون أنهم على شيء وليسوا على شيء، ويخلف لهذا الزمان قوم يكون لهم هباء من الناس، يعني: أمثال الذر الذي لا قيمة له.

وقوع الفتن المهلكات

وقوع الفتن المهلكات هذه الأحاديث التي سنذكرها كلها أحاديث صحيحة، فإنه قد ورد في أشراط الساعة أحاديث كثيرة جداً، منها الصحيح، ومنها الحسن، ومنها الضعيف، فانتقينا منها جملة من الأحاديث الصحيحة. روى الإمام أحمد وأبو داود من حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن بين يدي الساعة فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً)، وهذا دليل على رقة الدين، وضعفه، حتى إن الإنسان ليتحول إلى الكفر ولا يعصمه دينه عن ذلك، فكأنه لا شيء في قلبه، فمجرد أن يتنازع مع آخر على الدنيا سرعان ما يترك الدين، ويترك شرع الله عز وجل، ينام الرجل على الإسلام ثم يصبح على أبسط الأمور يسب دين الله عز وجل، ويتبرأ منه! وهذا من الفتن، يقول صلى الله عليه وسلم: (القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي)؛ لأنه اقتتال بين المسلمين على الملك، وعلى الحكم، وعلى الدنيا، فكأنه صلى الله عليه وسلم يقول: ابتعدوا عنها، فأفضل إنسان في هذه الفتن من ابتعد عنها ولكن قد يخوض البعض من الناس فيها، فيقول: إن الذي قعد وابتعد عنها خير من الذي دخل فيها. والمعنى أن أناساً يسابقون في الفتن وأناساً يتباطئون عنها ويبتعدون عنها، فالمتباطئ أفضل من الذي يسعى، وكأن المعنى ابتعدوا عنها قدر الاستطاعة حتى إن وجدت نفسك على وشك أن تدخل في الفتنة فأخر نفسك، وابتعد عنها ولا تقاتل مسلماً أبداً، فيقول هنا صلى الله عليه وسلم: (فكسروا قسيكم، وقطعوا أوتاركم، واضربوا سيوفكم بحجارة فإن دخل على أحد منكم بيته فليكن كخير ابني آدم) أي لا تكن مع واحد من الفريقين الذين يتقاتلون على الدنيا، حتى وإن دخل على أحدكم، هذا إذا كان القتال من أجل الدنيا، أما من أجل دين الله، فعلى المؤمن أن يدافع عن دينه، وأن يقاتل الكفار، والمنافقين، وكل من يتعرض لدين الإسلام، فإن قتل كان شهيداً، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اكسر سيفك) هو إذا كان القتال على المال أو الحكم أو أمر من أمور الدنيا فلا تقاتل لأجل الدنيا، ولكن قاتل القتال المشروع، الذي تدافع فيه عن دين الله سبحانه، أو عن النفس، أو عن الأرض.

رفع العلم وقلة الرجال وكثرة النساء

رفع العلم وقلة الرجال وكثرة النساء أيضاً ورد عن النبي صلوات الله وسلامه عليه بشأن أشراط الساعة قوله: (إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم، وذكر الحديث، وقال: ويذهب الرجال، وتبقى النساء حتى يكون لخمسين امرأة قيم واحد) أي: أنه من كثرة الحروب التي ستحصل بين الناس يقتل الرجال، حتى يكون التناسب بين عدد الرجال والنساء أن ينسب واحد إلى خمسين امرأة، أي: كل خمسين امرأة عندهن رجل واحد.

التماس العلم عند الأصاغر

التماس العلم عند الأصاغر في الحديث الصحيح الذي رواه الطبراني من حديث أبي أمية الجمحي: (إن من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر)، والمعنى: أن الناس يتركون العلماء والكبراء الذين يدعونهم إلى كتاب الله، وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويطلبون العلم عند الجهلة، الذين لا يعرفون شيئاً عن كتاب الله، وعن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، أو الذين لا يتكلمون بالكتاب ولا بالسنة وإنما بالعقل وبالهوى، وبما يعجب من يعينه في منصبه فيلتمس عندهم العلم، فهؤلاء وصفهم بأنهم الأصاغر؛ لأنهم ليس عندهم علم الكتاب، ولا علم سنة النبي صلى الله عليه وسلم، أو عندهم لكن لا يقولون به، ولا يعملون به، فمن أشراط الساعة أن يقبل الناس على هؤلاء، حتى إن أحدهم إذا دعي إلى كتاب الله عز وجل، وقيل له: نرجع لأقوال السلف الصالح، أقوال الصحابة والتابعين وما رواه الإمام البخاري وما رواه الإمام مسلم يقول: لا حاجة إلى هذه الأشياء، ويخرف ويتكلم بعقله، فيلتمس عند هؤلاء العلم الباطل حتى إن أحدهم ليرد كتاب الله عز وجل وما أجمعت عليه الأمة ببساطة، يخرج أحدهم على الناس ويقول لهم: إن آدم أبو البشر ليس أول مخلوق بل إنه وجد قبله بشر خلقهم الله، ويقول: آدم له أب، وله أم! مع أن الله عز وجل قد ذكر أنه خلق آدم من تراب وأنه لم يكن قبله أحد من البشر، فأبو البشر هو آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، والمسلمون مجمعون على ذلك، وببساطة يرد الإجماع ويرد ما جاء في القرآن، وما جاء في السنة، ودليله على قوله الباطل أن علماء الغرب يقولون: إن جنس البشر موجود على الأرض منذ كذا مليون سنة، وآدم ما له إلا كذا ألف سنة، فيصدق بأشياء لا دليل عليها، ويكذبه علماء الطبيعة، وعلماء الدنيا الذين يعرفون هذا الأمر أكثر منه، فإذا به يعاند، وإذا ذكر حديث في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كذا أو فعل كذا، إذا كان عقله يقبل هذا الشيء قبله، وإلا قال: لا أقبله، ويتفاخر ويقول: أنا أرد حديث البخاري الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر، ولا أقبل هذا الحديث، لأن عقلي لا يقبل هذا الحديث! وليس الأصاغر بمعنى أن عمره عشر سنين أو خمسة عشر سنة، فقد يكون شيخاً كبيراً عمره سبعين أو ثمانين سنة لكنه صغير في العلم لا علم عنده، لا يعرف كتاباً ولا سنة، ويغر بعض هؤلاء أنه عالم باللغة العربية، ودخل مجمع اللغة العربية، ومجمع البحوث الإسلامية من هذا الباب، فإذا به يفتي في الفقه، ويفتي في القرآن, ويفتي في كذا؛ لأنه عالم باللغة العربية، فيتكلم بكلام لم يقله أحد قبله، ولا يستحيي من نفسه أنه لم يقل أحد هذا الكلام قبله، حتى إنه ليرد على من أنكر عليه بقوله: يوجد من يوافقني على ما أقول، والمخالفون لي أقل وهكذا بعض الشيعة وبعض المسلمين، وفيهم هذا الذي يتكلم أن آدم أبو البشر ليس أول إنسان، وببساطة يكلم الشيخ ويقول له: توجد أحاديث في البخاري أنا أردها! فيقال لمثل هذا. ما هي العلة التي رددت بسببها أحاديث البخاري ومسلم؟ وما هو الحكم الذي تحكم من خلاله على الأحاديث بالضعف؟ فقد يأتي غيرك ويقول: وأنا أيضاً هذا الحديث عندي غير صحيح، وأصبح الحديث الذي نعرف صحته بالنظر في سنده ومتنه مردود عند هؤلاء ولا حول ولا قوة إلا بالله، فلم تبق إلا الأحاديث المكذوبة التي يرويها الشيعة وغيرهم، فنقول له: أنت تأخذ بهذه المكذوبات وتقول بها؟ فبماذا تعرف دينك إذا تركت أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وتركت ما عرفناه من كتاب الله عز وجل؟ فما الذي يبقى للإنسان إذا رد ذلك؟

المسخ والخسف والقذف

المسخ والخسف والقذف قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن بين يدي الساعة مسخ وخسف وقذف)، هذه من العلامات التي ستكون بين يدي الساعة، المسخ: تحول للخلقة، فيمسخ الله عز وجل أناساً قردة وخنازير يشربون الخمور, ويسمعون الموسيقى والقيان، ويعصون الله سبحانه وتعالى، ويبخلون على الفقراء فلا يعطوهم، فإذا جاء الفقير يطلب منهم لحاجة شديدة أصابته قالوا له: ارجع إلينا، ولا يعطونه شيئاً، فإذا بالله عز وجل يمسخهم قردة وخنازير. قال: (وخسف) أي: زلازل تخسف بالإنسان في الأرض، يكون فوق الأرض فتنشق الأرض من الزلزال ويكون في باطنها. قال: (وقذف) يعني: حجارة تمطر عليهم من السماء، وسيكون ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أخبر في حديث آخر أن من علامات الساعة أن تكثر الزلازل، وهذا أمر حاصل، فالمناطق التي كانوا يقولون عنها: ليست داخلة تحت حزام الزلازل، دخلت الآن تحت حزام الزلازل، وأصبح كل يوم تسمع: حصل زلزال قوته كذا، وما كانوا يسمعون عن ذلك في الماضي!

كثرة الروم وقلة العرب

كثرة الروم وقلة العرب يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تقوم الساعة والروم أكثر الناس) المعنى: أنه عند قيام الساعة يكون غير العرب هم أكثر الناس في الدنيا.

فتح القسطنطينية

فتح القسطنطينية يقول صلى الله عليه وسلم: (سمعتم بمدينة جانب منها في البر وجانب في البحر؟)، يقول ذلك للمسلمين، فقالوا: نعم، قال: (لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفاً من بني إسحاق، فإذا جاءوها نزلوا فلم يقاتلوا بسلاح). هذه البلدة يقول شراح الحديث: القسطنطينية، معقل الروم أيام هرقل، فإنه بعدما أخذت منه ديار الشام تحسر وهو ينظر إلى سوريا وفر منها إلى القسطنطينية، وهي في شمال البحر المتوسط جزء منها في البحر المتوسط وبعضها على البحر الأسود، فهي بلدة محاطة بالبحر الأبيض والبحر الأسود، وهذه البلدة لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفاً من بني إسحاق، وكان كثير من شراح الأحاديث يقولون: إن الصواب أنهم من بني إسماعيل، ولا مانع أن يكونوا من بني إسحاق، فإن إسماعيل وإسحاق ولدان لإبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وإسماعيل أبو العرب، وإسحاق أبو العجم، وكأن معنى الحديث وهو في صحيح مسلم أن بني إسحاق سيدخلون في دين الله عز وجل، وقد حصل أن كثيراً من ولد إسحاق دخلوا في دين الله، فيخبر عن هؤلاء الذين أسلموا من بني إسحاق أنهم سيفتحون هذه البلدة وأن ذلك من أشراط الساعة. يقول: (فلم يقاتلوا بسلاح، ولم يرموا بسهم) وقد يقول قائل: الكفار يسيطرون على بلاد الدنيا الآن فنقول له: ومع ذلك هناك فتح ثاني غير الفتح الإسلامي الماضي، فإن الفتح الإسلامي الماضي ما كان فيه (فلم يقاتلوا) لكن هذا الفتح يخبر أنه سيكون في يوم من الأيام، وأنه سيلي ذلك خروج المسيح الدجال، وهذا الفتح ليس الذي حصل للقسطنطينية في الماضي، ولكن المقصود فتح جديد سيكون بعد ذلك، وفي هذا الحديث إشارة من النبي صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل سيفتح للمؤمنين فليتمسكوا بدينهم، فإن الله عز وجل سيعطيهم قوة، والإنسان المسلم حين ينظر لأسباب القوة اليوم يشعر بشيء من اليأس؛ لأن الكفار والمشركين يملكون قنابل نووية ومع ذلك يمنعون المسلمين أن يمتلكوا تلك الأسلحة، فيقول للمؤمن: لا تيئس، سيكون الفتح من الله عز وجل، ولن تحتاج لقنابل نووية ولا غيره من السلاح، بل سيجعل الله عز وجل من بني إسحاق من يسلم وهم الذين سيتغلبون على هذه البلدة، وسيكونون من أفضل خلق الله عز وجل، فيقول صلى الله عليه وسلم: (فإذا جاءوها) أي: بلدة القسطنطينية (نزلوا فلم يقاتلوا بسلاح ولم يرموا بسهم). أي: إنما قالوا: لا إله إلا الله والله أكبر، فيسقط أحد جانبيها، قال الله {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّه} [آل عمران:126]، وكم من بلد أسقطه الله سبحانه وتعالى بالمظاهرة بلا سلاح ولا غيره، والذي حصل إما خيانات أو مظاهرات من الناس، فإذا كان هؤلاء الكفار سقطت بلدانهم بمظاهرات ألا ينصر الله عز وجل هذا الدين بلا إله إلا الله والله أكبر؟! يقول: (فيسقط أحد جانبيها الذي في البحر، ثم يقولون الثانية: لا إله إلا الله والله أكبر فيسقط جانبها الآخر، ثم يقولون الثالثة: لا إله إلا الله والله أكبر فيفرج لهم فيدخلونها، فيغنمون، فبينما هم يقتسمون المغانم إذ جاءهم الصريخ ينادي عليهم: الحقوا ذراريكم فقد خرج المسيح الدجال، فيتركون كل شيء من المغانم ويرجعون للجهاد في سبيل الله عز وجل، فهؤلاء خير عصابة تكون على الأرض).

انتشار الفحش والتفحش وقطيعة الرحم وتخوين الأمين

انتشار الفحش والتفحش وقطيعة الرحم وتخوين الأمين جاء عنه صلوات الله وسلامه عليه وقد سئل عن الساعة فقال: (من أشراط الساعة: الفحش، والتفحش، وقطيعة الرحم، وتخوين الأمين، وائتمان الخائن)، هذا الحديث رواه الطبراني في الأوسط من حديث أنس وصححه الشيخ الألباني، وأظن هذا قد حصل، ففي أي مكان تسير تتأذى أذنك بما تسمع، فذا يشتم ذا، وذا يسب ذا، حتى النساء والأطفال تسمع منهم من الكلام ما يؤذيك، و (الفحش) يكون ببذاءة اللسان، (والتفحش) هو تكلف ذلك، والفحش، يدخل فيه الجرائم التي تتعلق بالأخلاق والأعراض كجرائم الزنا، وما أكثرها! في كل مكان تحت مسميات الزواج العرفي والصداقات التي بين الرجال وبين النساء، والدعوة إلى مثل ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله، (وقطيعة الرحم)، هي: أن الإنسان لا يزور أباه وأمه، لا يبر أباه وأخاه، أي: يذهب البر بين الناس. لذلك المؤمن حين يسمع أن قطع الرحم من علامات الساعة يستدرك نفسه، فيزور أرحامه وأقرباءه حتى لا يكون واحداًَ من هؤلاء الذين ذمهم النبي صلى الله عليه وسلم، ولهم العقوبة الشديدة عند الله عز وجل، وقطيعة الرحم لا تكون إلا من نقص الإيمان، والإنسان الذي يحب أقرباءه حين يحس أنهم سيطلبون منه حاجة من حوائج الدنيا تحصل منه القطيعة لهم ويقول: لن أذهب إلى أقربائي الذين يؤذوني ويطمعون في مالي! ينظر نظرة دنيوية فلا يصلهم حتى لا يخسر؛ فتتقطع الأرحام بذلك، فليحذر المؤمن من مثل هذه النظرة، وليعلم أن صلة الرحم تزيد في الرزق، وينسئ الله عز وجل له في عمره بسبب ذلك، أي: يكون عمره طويلاً، وليس المقصود من الطول في حياته أنه يعيش عمراً طويلاً بين أسرته، بل المقصود أنه يخلف آثاراً وذكراً ودعوات تكون له كإنسان عاش أكثر منه. يقول: (وتخوين الأمين) أي: أن الإنسان الأمين تلفق له التهم أنه خائن ومختلس ومرتش وكذا؛ لأنه يقول كلمة الحق، فيخون الأمين حتى ينزل من المكان الذي هو فيه لكونه أمين. (ويؤتمن الخائن) أي: أن الإنسان الخائن يعطى المناصب الكبيرة، ويعطى الودائع والأمانات، ويقال عنه: هذا أمين، وهم يعرفون أنه خائن!

مرور الرجل بالمسجد لا يصلي فيه ركعتين

مرور الرجل بالمسجد لا يصلي فيه ركعتين من أشراط الساعة: (أن يمر الرجل في المسجد لا يصلي فيه ركعتين) أي: يمر في المسجد يتفرج على المصلين أو يدخل المسجد بعد أن يصلي الناس يسأل حاجة له ثم يذهب ولا يصلي! ولا حول ولا قوة إلا بالله، أو يمر في المسجد ثم يأخذ حاجته من فلان من الناس ثم يذهب ولا يصلي، ولعل معهم جنازة في المسجد يصلون عليها فيقف خارج المسجد ينظر إليهم ولا يصلي.

تسليم الرجل على من يعرف فقط

تسليم الرجل على من يعرف فقط من أشراط الساعة (وأن لا يسلم الرجل إلا على من يعرف) أي: أنه إذا مر في الطريق لا يكلم أحداً، ولا يسلم عليه إلا إذا كان يعرفه، أما إذا لم يعرفه فلا.

تضييع الدين

تضييع الدين قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء) أي: أنه لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس، وجاء في حديث آخر (حتى لا يقال على الأرض: الله الله) أي: أن الناس يتركون كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يضيع الدين فلا يقال على الأرض: الله الله.

تكليم الحيوانات والجمادات للإنسان

تكليم الحيوانات والجمادات للإنسان قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنس، وحتى يكلم الرجل عذبة سوطه، وشراك نعله، ويخبره فخذه بما يحدث أهله بعده). أي: من أشراط الساعة أن الناس إذا قل الإيمان احتاج المؤمن لشيء يثبته، فالله عز وجل يجعل أشياء كهذه علامات للمؤمن تثبته على دينه؛ لأن الإنسان حين يرى أنه لا يوجد حوله إلا الكفر والفسوق والعصيان، فتن في الطريق، وفتن في البيت، يحتاج إلى شيء يثبته، فالله عز وجل يثبته، بأن يرى رؤيا صالحة يثبته الله عز وجل بها، أو يجد حوله بعض المؤمنين الذي يأمرونه بالمعروف وينهونه عن منكر، وما شابه ذلك مما يجعله الله عز وجل تثبيتاً للمؤمنين، والصحابة ما كانوا يحتاجون إلى رؤية أشياء حسية تثبتهم على الدين؛ لأنهم عرفوا الدين، وامتلأت قلوبهم إيماناً به، فلا يحتاجون إلى ذلك، لكن من أشراط الساعة: أن يقل عدد المؤمنين فيحتاج المؤمن إلى شيء يثبته، فيجعل الله عز وجل آيات وكرامات للبعض من المؤمنين، مثال ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنس)، سيحدث في يوم من الأيام أن السباع، والبهائم، والأسود، والنمور، والكلاب، تكلم المسلم: افعل كذا ولا تفعل كذا، تأمره بشيء أو تطلب منه شيئاً! فيتعجب المسلم فيكون تثبيتاً له. وفي الأحاديث أن الجمل ذهب يشكو للنبي صلى الله عليه وسلم، وأن جذع الشجرة الذي كان يقف عليه صلى الله عليه وسلم حين تركه وصعد على المنبر حنَّ وبكى، فقد يأتي أناس فيقولون: لم يصح من هذا شيء، فيجعل الله عز وجل لهم آية من الآيات يعرفون بها صدق ذلك، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم (يقاتل المسلمون اليهود، وأن الحجر والشجر يقول للمسلم: يا مسلم! ورائي يهودي تعال فاقتله) فقد يتعجب المؤمن من هذا الشيء، فلما يحدث أمام عينيه، ويسمع ذلك؛ يشعر بصدق ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم. يقول: (والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنس، وحتى يكلم الرجل عذبة سوطه)، السوط هو العصا، فيكلم السوط الإنسان: احذر من كذا! وهذا شيء عجيب جداً، وليس المعنى: أن الإنسان يبحث عنها حتى تحصل له، لا، ولكن لا شك أنه سيكون ما أخبر به النبي صلوات الله وسلامه عليه، وحين نسمع حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذهب إليه اثنان من الصحابة أحدهما أسيد بن حضير رضي الله عنهما، وسهرا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الليل، فلما خرجا من عنده ولم يكن هناك قمر ولا مصابيح، والطريق مظلم، فإذا بالله عز وجل يجعل لهما نوراً أمامهما في سوط أحدهما، فلما افترق الرجلان إذا بكل منهما معه نور في الطريق الذي هو فيه، فقد يجيء إنسان ويقول: هذا لا يكون، أما المؤمن فإنه يصدق ولا يحتاج إلى شيء إذا صح الحديث، ولكن المشككون الذين يقول أحدهم: أرد الحديث لأن عقلي لا يقبله، فيجعل الله لهم آية كهذه الآية حتى يعلموا أن عذاب الله صدق، وأن الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم حق. يقول في هذا الحديث: (حتى يكلم الرجل عذبة سوطه، وشراك نعله، ويخبره فخذه بما يحدث أهله بعده) أي: أنه حين يصل إلى بيته رجله تتكلم، وفخذه تتكلم: حصل كذا وكذا في بيتك. وهذا عجب من العجب، ولكن سيكون ما أخبر به النبي صلوات الله وسلامه عليه قطعاً ولا نشك في ذلك أبداً. نسأل الله عز وجل أن يثبتنا على الإيمان حتى نلقاه به. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة محمد (تابع 2) الآية [18]

تفسير سورة محمد (تابع 2) الآية [18] أخبر الله تعالى في كتابه بقرب الساعة، وأن قيامها سيكون بغتة في آخر الزمان، فإذا جاءت آياتها الكبرى فلا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً.

تابع من علامات الساعة الصغرى

تابع من علامات الساعة الصغرى الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} [محمد:18]. قد سبق ذكر بعض الآيات التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنها تكون بين يدي الساعة، وهذه جملة أخرى من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم تبين بعض العلامات التي تكون قبل قيام الساعة، ومن ذلك العشر العلامات الكبرى التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (أنه لا تقوم الساعة حتى يرى الناس عشر علامات: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدجال، والدابة، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق وخسف في المغرب وخسف في جزيرة العرب، ونزول المسيح، وفتح يأجوج ومأجوج، ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر، تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا). هناك علامات أخرى ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم أنها تكون قرب الساعة؛ حتى يتعظ بها المؤمنون الذين يصدقون كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فيرون الشيء فيعلمون أنه علامة من العلامات فيسرعون إلى الطاعة وينزعون عن المعصية.

عصابة من المؤمنين يقاتلون على الحق

عصابة من المؤمنين يقاتلون على الحق ومن ذلك ما جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم لا يضلهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك) والمعنى: أن القتال بين المسلمين وبين الكفار يكون دائماً، ولا توجد هدنة دائمة، بل لا بد من القتال بين المسلمين والكفار في كل زمان في بلد من بلاد المسلمين حتى تقوم الساعة، وينصر الله عز وجل المؤمنين المتمسكين بدينه، فلا تزال هذه العصابة ظاهرة يقاتلون إلى ذلك الحين. وقد يقال: إن المسلمين مغلوبون في كل مكان في الأرض، فكيف نفهم قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا تزال طائفة منصورة). و A إن النصر على الكفار حاصل ولو في مكان من الأماكن، وتوجد انتصارات للمسلمين في بعض البلدان، وإن كانوا مهزومين في أماكن كثيرة جداً، فتجدهم في بلاد الأفغان مثلاً ينتصرون على الروس، وإن كانت قد تحدث كبوة بعد ذلك وينتصر عليهم الكفار، ولكن لا يزال يوجد من يقاوم الكفار في هذه الأماكن إما بالسيف والسنان أو بالحجة واللسان، وهذا نصر من الله، عندما تجد من يخرج على المسلمين فيشتم دين الله تبارك وتعالى، ويتكلم عن دين الله، ويريد من يناظره، فيخرج الله عز وجل له من المسلمين من يدحض حجته، ويخزيه الله عز وجل على يده. وقد رأينا مثل ذلك في مناظرات الشيخ أحمد ديدات رحمة الله عليه، وقبله الشيخ رحمة الله الهندي وغيرهما من علماء المسلمين الذين ناظروا الكفار، فأدحض الله عز وجل حجتهم، وطمس فريتهم، ونصر دينه سبحانه وتعالى، ودخل الكثيرون في دين الإسلام. وقد قيل: رب ضارة نافعة، فتجد الكفار يسيئون للإسلام ثم تجد كثيراً منهم يدخلون في دين الله تبارك وتعالى ويؤمنون بالله ويجعل الله عز وجل منهم من يدعو إلى دينه.

اتباع اليهود والنصارى والتشبه بهم

اتباع اليهود والنصارى والتشبه بهم من الأحاديث التي جاءت عنه صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي أخذ القرون قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع) فيخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لن تقوم الساعة حتى يترك كثير من المسلمين دينهم، ويقلدون فارس عباد النار والروم النصارى، فإذا بالمسلمين اليوم يقلدون هؤلاء أو من يكون في هذه البلاد، فصدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخبر. وقد قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه وراءهم، قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟!) أي: من غيرهم؟ فستقلدون اليهود والنصارى، وهذا حاصل اليوم، فتجد المسلمين في كل مكان يقلدون هؤلاء في زيهم وفي طريقتهم في الحياة، ويقلدونهم فيما يصنعونه في بلادهم، وكيف يتحكم بعضهم في بعض، ويجعلون صاحب المال فوق غيره، وقد نزعت الرحمة من قلوبهم، فالغني عنده المال الكثير، ولا يواسي به فقيراً أو يعطف عليه، وإن كانوا يتشدقون بالإنسانية، ويتشدقون بالكلام عن الحرية، وهذا كلام للاستهلاك فقط، أما الحقيقة فلا يوجد شيء من ذلك. أما ما يقدمونه من الإعانات للبلاد الأخرى فذلك بمقابل إلغاء الدين في تلك البلاد. ومثال ذلك: الحصار الاقتصادي على فلسطين، والجيوش التي تكون عليهم من اليهود، والأسلحة التي تعطى لهم لتدمير الفلسطينين وغيرهم من المسلمين الذين يقولون: لا إله إلا الله، ويطلبون شرع الله سبحانه وتعالى، فيقاتلونهم على أنهم إرهابيون، وعلى أنهم جماعات متطرفة وعصابة من العصابات. أما اليهود الحثالة والعصابة المجرمة الكفرة الذين عاثوا في الأرض فساداً، والذين يدمرون ويقتلون ويخربون، فهم أصحاب الفهم الصحيح، وأصحاب المال الذين تكون معهم أمريكا وأوروبا وغيرهم. فإذا قتل يهودي واحد هاجت الدنيا، وإذا قتل المئات والألوف من المسلمين فلا أحد يتكلم عنهم، فما هي الحرية التي يتكلم عنها هؤلاء؟! وما هو الإخاء الإنساني الذي يتكلمون عنه؟ أما المعونات فتخرج مشروطة يقولون: تحللوا واخرجوا من دينكم لنعطيكم هذه المعونات، أما أن تبقوا على الدين فلا نعطيكم شيئاً. مثل ذلك: أنه ينتجون القمح بكميات هائلة، حتى إنهم يرمون الفائض في البحر، ولا يعطى للبلاد التي فيها مجاعات، فإذا أعطته أمريكا تعطيه لبعض الدول كنوع من المعونة؛ لكي يتحكموا فيها، فيسألون: ما هو النظام الموجود عندكم؟ وكيف ستتعاملون معنا؟ فهناك فرق بين هؤلاء وبين المسلمين الذين يتعاطفون ويتراحمون مع خلق الله سبحانه وتعالى. وقد أرسل الله النبي صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] أي: للخلق جميعهم، فهو رحمة صلوات الله وسلامه عليه للعالمين، أما هؤلاء فالرحمة عندهم شعار زائف، أما الحقيقة فلينظر إلى ما يصنع في العراق وفي فلسطين وفي أفغانستان وفي كل الدنيا حين يتحكمون في هذه البلدان. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي أخذ القرون قبلها، شبراً بشبر وذراعاً بذراع، قيل: يا رسول الله! كفارس والروم؟ قال: ومن الناس إلا أولئك؟!) يعني: تقليد الكفار، فالروم كانوا نصارى، وفارس كانوا عباد النيران، أي: سترجعون مرة ثانية تتبعون هؤلاء فيما يفعلون، وما يقولون. فما يصنعه اليهود والنصارى يصنعه المسلمون مقلدين لهم. وجاء في حديث آخر: (حتى لو أن أحدهم أتى أمه في الطريق لفعله هؤلاء) أي: يقلدونهم في استباحة الزنا، فقد يأتي على بلاد المسلمين وقت يستبيحون فيه ذلك، أو يباح لهم أن يصنعوا ذلك من حكامهم وغيرهم، فيتناسون دين الله عز وجل ويقعون في المعاصي، فيأتيهم الذل والخزي من الله سبحانه.

الرجوع إلى عبادة الأوثان

الرجوع إلى عبادة الأوثان جاء في حديث آخر: (لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس حول ذي الخلصة) وهذا صنم من أصنام دوس في الجاهلية، كانوا يعبدونه من دون الله، وطلب النبي صلى الله عليه وسلم من جرير بن عبد الله البجلي الصحابي الفاضل رضي الله عنه أن يخلصه منه قال: (ألا تريحني من ذي الخلصة؟ فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ادعوا الله لي فإني لا أثبت على الخيل)، يعني: أنا أقاتل على رجلي ولا أقدر على ركوب الخيل، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم فثبته الله وذهب إلى المكان الذي فيه هذا الصنم فدمره وحرقه، ورجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: لقد تركته كالجمل الأجرب، أي: تركت هذا البيت الذي يعبدونه من دون الله كالجمل الأجرب، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم أن يبارك الله عز وجل فيه وأن يبارك في قومه. فالغرض: أن هذا الصنم الذي دمر في حياة النبي صلى الله عليه وسلم سيرجع مرة ثانية، وسيعبده الناس من دون الله سبحانه. ومعنى الحديث: أن من أكثر الناس اتباعاً لهذه الشركيات النساء في كل مكان، فتجد المرأة تنسى نفسها وتتوجه في حاجتها إلى السيد الفلاني، والمقصود أن من أوائل من يصنع ذلك النساء، فالمرأة تطوف مرة ثانية على هذا الصنم؛ لتعبده من دون الله سبحانه، ولن تفعل ذلك النساء إلا بموافقة الرجال الذين يكونون تاركين دينهم وراء ظهورهم، وهذه الأحاديث التي نذكرها كلها أحاديث صحيحة، فلا نحتاج أن نذكر صحة كل حديث.

طلوع الشمس من مغربها

طلوع الشمس من مغربها قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت فرآها الناس آمنوا أجمعين، فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً) فيذكر لنا صلى الله عليه وسلم أعظم العلامات وهي طلوع الشمس من مغربها، فإذا رآها الناس آمنوا، ولكن لا ينفعهم هذا الإيمان، كمن يأتيه الموت فيصدق أنه توجد جنة ونار وملائكة، لكن لا ينفعه هذا الإيمان؛ لأنه صار معايناً، أما الإيمان المطلوب فهو الإيمان بالغيب. وهذا الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم تفسير لقوله تعالى: {لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158]، قال صلى الله عليه وسلم: (ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه). وذلك أن الساعة تأتي بغتة وقد نشر البائع والمشتري الثوب ليتبايعان عليه فلا يكملان البيع. قال صلى الله عليه وسلم: (ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه) أي: أخذ حليب ناقته فتقوم الساعة، يموت قبل أن يشربه. قال صلى الله عليه وسلم: (ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقى فيه) أي: يصلح الحوض ليسقي فيه إبله فتقوم الساعة قبل أن يسقي فيه. قال صلى الله عليه وسلم: (ولتقومن الساعة وقد رفع الرجل أكلته إلى فيه فلا يطعمه) يعني: يغمس اللقمة ثم يرفعها إلى فمه فتقوم الساعة واللقمة على فمه فيسقط ميتاً. وهذه الساعة المقصود بها موت الإنسان بغتة، وكم من إنسان يقال له: سيموت بعد ساعة أو ساعتين ثم يعيش أياماً وشهوراً، وآخر يقال له: أنت لا زلت شاباً فيموت في شبابه! فالموت لا يملكه إلا الله سبحانه وتعالى، ويأتي الإنسان بغتة.

بقية علامات الساعة الصغرى

بقية علامات الساعة الصغرى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت فرآها الناس آمنوا أجمعين، فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً) فيذكر لنا صلى الله عليه وسلم أعظم العلامات وهي طلوع الشمس من مغربها، فإذا رآها الناس آمنوا، ولكن لا ينفعهم هذا الإيمان، كمن يأتيه الموت فيصدق أنه توجد جنة ونار وملائكة، لكن لا ينفعه هذا الإيمان؛ لأنه صار معايناً، أما الإيمان المطلوب فهو الإيمان بالغيب. وهذا الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم تفسير لقوله تعالى: {لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158]، قال صلى الله عليه وسلم: (ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه). وذلك أن الساعة تأتي بغتة وقد نشر البائع والمشتري الثوب ليتبايعان عليه فلا يكملان البيع. قال صلى الله عليه وسلم: (ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه) أي: أخذ حليب ناقته فتقوم الساعة، يموت قبل أن يشربه. قال صلى الله عليه وسلم: (ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقى فيه) أي: يصلح الحوض ليسقي فيه إبله فتقوم الساعة قبل أن يسقي فيه. قال صلى الله عليه وسلم: (ولتقومن الساعة وقد رفع الرجل أكلته إلى فيه فلا يطعمه) يعني: يغمس اللقمة ثم يرفعها إلى فمه فتقوم الساعة واللقمة على فمه فيسقط ميتاً. وهذه الساعة المقصود بها موت الإنسان بغتة، وكم من إنسان يقال له: سيموت بعد ساعة أو ساعتين ثم يعيش أياماً وشهوراً، وآخر يقال له: أنت لا زلت شاباً فيموت في شبابه! فالموت لا يملكه إلا الله سبحانه وتعالى، ويأتي الإنسان بغتة.

قتال المسلمين لليهود

قتال المسلمين لليهود من الأحاديث التي جاءت عنه صلوات الله وسلامه عليه قوله: (لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود، حتى يقول الحجر: يا مسلم! هذا يهودي ورائي تعال فاقتله) والعجيب أن الكثيرين من اليهود يعرفون ذلك، ولا يدفعهم ذلك إلى أن يدخلوا في الإسلام. وبعضهم يجادل بعض المسلمين في أمريكا وفي غيرها ويقول له: أليس عندكم في الحديث: (لا تقوم الساعة حتى يقول الحجر: ورائي يهودي تعال فاقتله)، فاصبروا حتى يتكلم الحجر واتركونا الآن! فهم يعرفون ذلك والمسلم يتشكك فيه. ومعنى هذا الحديث: أنه سيكون قتال بين المسلمين وبين اليهود ينتصر فيه المسلمون، ومن إعانة الله تعالى للمسلمين أن ينطق الحجر والشجر، فيقول: تعال اقتل اليهودي المختبئ ورائي. ولكن المسلم يتناسى أن النصر من عند الله سبحانه، ويطلبه من المشرق والمغرب؛ إلا من رحم الله تعالى.

هدم الكعبة

هدم الكعبة من الأحاديث أيضاً ما قاله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى لا يحج البيت) أي: لا تقوم الساعة حتى لا تزار الكعبة، ولا يحج إليها أحد، فينسى الناس ربهم ودينهم. وحديث آخر يقول: (لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله) يعني: يبتدئ ذهاب الدين من الناس شيئاً فشيئاً، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم رفع هذا الدين من الناس، فأخبر (أن الكعبة ينقضها حجراً حجراً ذو السويقتين من الحبشة) وأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم (أن نترك أهل الحبشة ما تركونا، فإنه لا ينقض الكعبة إلا ذو السويقتين من الحبشة) والسويقتان تصغير الساقين، وكأن ساقيه معوجتان، فإذا هدمت الكعبة على يد هذا لم ترفع بعد ذلك. ونسيانهم للدين ومنه الحج سببه المعصية لله تعالى، وإدارة العاصي ظهره لدينه. ودين الله دين عزيز، والقرآن كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، نزل من عند الله الحكيم الحميد، فمن يستحق ذلك أخذه، ومن لا يستحقه ولا يفهمه لا يأخذه.

تحلية المصاحف والتباهي بالمساجد

تحلية المصاحف والتباهي بالمساجد إذا ترك المسلمون مصاحفهم وتركوا دينهم وراء أظهرهم واهتموا بتزويق المصاحف جاءهم الهلاك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا حليتم مصاحفكم وتفاخرتم بمساجدكم فالدمار عليكم). فإذا كان اهتمام الإنسان بشكل المصحف وورقه وجلده وحجمه، ولا يعرف ما فيه ولا يقرأ آياته، وكذلك اهتمامه بزخرفة المسجد ولا يصلي فيه، قال: (فالدمار عليكم) أي: لا تستحقون أن تعيشوا ولا تستحقون أن تنصروا فالدمار عليكم؛ لأنهم اهتموا بما لم يؤمروا به، وإنما أمروا بما في كتاب الله عز وجل أن يحفظوه وأن يعملوا به. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد)، (لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله)، وقال: (لا تقوم الساعة حتى لا يحج البيت) فهناك أشياء تسبب فيها المسلمون أنفسهم فأعطوا ظهورهم لكتاب الله عز وجل لم يتعلموه ولم يعملوا به، فيأتي عليهم زمان يرفع القرآن فيصبحون ولا يجدون هذا المصحف العظيم، فهو من الله جاء وإلى الله عز وجل يرجع مرة ثانية. ثم بعد ذلك يتهارجون تهارج الحمر، يصبحون كالوحوش في الغابات، ليس عندهم كتاب من الله عز وجل، والكعبة تهدم ولا يعرفون الصلاة حتى إن الناس ليقولون: سمعنا الناس يقولون ذلك، أو أن الرجل يذكر عن أجداده أنه سمعهم يقولون: الله الله، ففي النهاية أخذ الله تعالى منهم ما نزل عليهم. لذلك المسلم الآن في رحمة من الله عز وجل، عنده كتاب الله، وعنده المساجد، والكعبة موجودة، فلا يفرط في هذه الأشياء بل يحرص على أداء ما أمره الله عز وجل بأدائه.

قلة العلم والعلماء

قلة العلم والعلماء قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يرفع العلم انتزاعاً ينتزعه من قلوب العلماء، وإنما يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا). فطالما القرآن محفوظ والسنة معروفة والعمل بهما قائم فليطمئن المسلمون فلن ينتزع الله الدين منهم، فالله لا يأخذ العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء، إنما يأخذه بموت العلماء، فيستفتى الناس الجهال فيضلونهم. والعلم ليس مجرد الحفظ، إنما العلم معرفة ما في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك التقوى التي في القلب، أن يكون العالم تقياً لله، يخاف من الله سبحانه، ويقيم شرع الله عز وجل. وانظر لـ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يوم أن جاءه الناس ويقولون: إننا تركنا رجلاً جالساً في المسجد والناس من حوله وهو يقول لهم: سبحوا الله مائة، يعني: تسبيحاً جماعياً، ويقول: احمدوا الله مائة، كبروا الله مائة. ولو أن أي إنسان غير هذا الصحابي الفاضل أو غير أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين عرفوا هذا الدين من كتاب الله عز وجل ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك لقال: وماذا في ذلك؟ رجل قاعد في المسجد مع الناس يذكرون الله تعالى! لكن ابن مسعود رضي الله عنه لما سمع ذلك ذهب فوجد الحلقة والرجل قاعد في وسط الحلقة يصنع ما ذكر، فقال ابن مسعود رضي الله عنه: والله لأنتم على ملة هي أهدى من ملة محمد صلى الله عليه وسلم أو أنكم مفتتحو باب ضلالة؟ يعني: إما أنتم أحسن من النبي صلى الله عليه وسلم وإما أنتم على ضلال، فهذا شيء لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم. فقالوا له: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير. قال: وكم من مريد للخير لا يبلغه. فليس الأمر أن تفعل شيئاً، وتقول: أنا أتقرب إلى الله عز وجل به، إنما يجب أن تنظر قبل العمل هل فعله النبي صلى الله عليه وسلم أو لم يفعله؟ فقد مكث النبي صلى الله عليه وسلم مدة حياته لم يفعل ذلك التحلق والذكر الجماعي، وإنما أرشد وعلم وترك كل واحد يذكر الله عز وجل على انفراد، ولما علمهم الذكر عقب الصلاة يسبحون الله ثلاثاً وثلاثين، ويحمدون الله ثلاثاً وثلاثين، ويكبرون الله ثلاثاً وثلاثين، ويقولون: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، تمام المائة، أو يحمدون ويكبرون ويسبحون كل واحدة إحدى عشرة حتى يكون المجموع ثلاثة وثلاثين، ولم يفعل ذلك جماعياً، إنما السنة أن يفعل ذلك فرادى. أما التحديد بهيئة معينة لم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم، فيظن الفاعل في نفسه أنه أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم، بل عليه أن يفعل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، وبذلك يحفظ دين الله عز وجل من البدع والضلالات. وهناك الآن من يفتي الناس ويقول: كل الأحاديث المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم صحيحة، ولا توجد أحاديث ضعيفة؛ لأن الذين رووها أناس يحترمون النبي صلى الله عليه وسلم ويقدرونه! ويريدون بذلك إلغاء علم الحديث وعلم المصطلح، وبناءً على ذلك لا ينكرون ما قد يزاد من أشياء لا تصح كالزيادة في ألفاظ الأذان، ويقولون: ليس في ذلك شيء. نقول: هذه عبادة، ولها ألفاظ مخصوصة علمنا إياها النبي صلى الله عليه وسلم فلا نزيد فيها، ولو فتح هذا الباب لزاد كل إنسان ما يستحسنه. ومرة دخلت مسجداً والمؤذن يقيم الصلاة ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن سيدنا ومولانا محمد رسول الله! ولم نسمع مثل هذا إلا بعدما جاء هذا المفتي الجديد وقال للناس: ليس في ذلك شيء. ونحن ما صدقنا أن ألغي ما كانوا يصنعونه بعد الأذان، فيقف المؤذن بعد الأذان ويقول: الصلاة والسلام عليك يا رسول الله، يا خير خلق الله!! ونحن لا ننكر أبداً أنه رسول الله وخير خلق الله وأحب الخلق إلى الله، ولكن ننكر الزيادة في الأذان؛ لأن ألفاظه مخصوصة، وعددها إما تسعة عشر لفظة أو سبعة عشر لفظة أو خمسة عشر أو أحد عشر لفظة، وذلك معلوم من قول النبي صلى الله عليه وسلم أو من تقريره، ولا نفتح باباً للبدع، ولو قلنا بقول هذا المفتي لما أنكرنا على الشيعة قولهم في الأذان: حي على خير العمل. فتنفيذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم هو من التأدب معه، أما من يفصل بينهما فيقول: أنا أتأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم ويخالف بتأدبه المزعوم الأمر فهذا سوء أدب مع النبي صلى الله عليه وسلم، ومع الرب سبحانه وتعالى، حيث يترك دين الله عز وجل ويشرع ديناً آخر! وقد سأل رجل الإمام مالك رحمة الله عليه فقال: من أين أحرم؟ قال: من ذي الحليفة، قال: ما علي لو أحرمت من المدينة؟ يعني: من غير الميقات فقال: أخاف عليك الفتنة. قال: وأي فتنة في ذلك، إنما هي أميال أزيدها، يعني: فيكون أكثر في الإحرام وأكثر في الثواب. فقال: وأي فتنة أعظم من أن تظن أنك فعلت ما لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم! والنبي صلى الله عليه وسلم كان في المدينة ولم يحرم منها، إنما أحرم من ذي الحليفة، وبينها وبين المدينة خمسة أو ستة كيلومتر، وقد كان أهون عليه أن يغتسل في بيته ويلبس لبس الإحرام ويستريح من هذه المسافة الزائدة، لكنه لم يفعل ذلك؛ لأن هذا هو الميقات الذي شرعه الله سبحانه وتعالى. فتأمل هنا فقه الإمام مالك رحمة الله عليه! قال الإمام مالك: يقول الله عز وجل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] أي: فليحذر الذين يخالفون عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم أو أمر الله عز وجل تحت أي دعوة من الدعوات، وما من بدعة تبتدع في الدين إلا وألغيت مقابلها سنة، فإذا أنكرت على من يزيد في ألفاظ الأذان قوله: أشهد أن سيدنا ومولانا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول لك: أنت لا تحب النبي صلى الله عليه وسلم! وكذلك يقول: الأعداء يشتمون النبي صلى الله عليه وسلم وأنتم تقولون ما تقولون! سبحان الله! هل ينصر النبي صلى الله عليه وسلم بالابتداع في دين الله عز وجل، ولكن علينا أن نتمسك بدين الله سبحانه وتعالى ونحذر من البدع والضلالات، ونكون كما قال الله تعالى: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة:63]. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة محمد [18 - 20]

تفسير سورة محمد [18 - 20] توحيد الله عز وجل هو الغاية من خلق الخلق، وقد جاءت جميع الشرائع لتحقيق توحيد الله وتكميله وإزالة ما يناقضه وينقصه، وقد أمر الله رسوله بالعلم بأنه لا إله إلا الله قبل أن يأمره بالعمل، فبدأ بالعلم قبل القول والعمل.

تفسير قوله تعالى: (فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة)

تفسير قوله تعالى: (فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة محمد صلى الله عليه وسلم: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ * فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد:18 - 21]. لما ذكر الله سبحانه تبارك وتعالى أمر الساعة وقال للكفار {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد:18]، فقد حذر الله سبحانه تبارك وتعالى عباده جميعهم من الحساب يوم الحساب، وإذا جاءت الساعة فهي تأتي بغتة سواءً الساعة الكبرى القيامة، أو ساعة كل إنسان يعني: وقت وفاة كل إنسان، فإذا جاء وقت الوفاة فهو يأتي بغتة، ولا يستطيع العبد أن يراجع نفسه أو يتوب أو يرد المظالم إلى أصحابها، بل لعله لا يقدر على أن يتلفظ بكلمة التوحيد: لا إله إلا الله إذا جاءت ساعته، وذلك حين لا ينفع نفس إيمانها لم تكن آمنت من قبل. {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد:18] أي: جاءت أشراط الساعة وقدمنا الأحاديث التي فيها هذا المعنى. قال الله عز وجل: {فَأَنَّى لَهُمْ} [محمد:18] أي: من أين لهم؟ وكيف لهم؟ إذا جاءت الساعة وإذا جاءت القيامة وإذا جاء الموت {إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} [محمد:18] الذكرى والتذكر والتذكرة، فتنجيهم هذه التذكرة وتنفعهم الذكرى، قال الله عز وجل: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]، {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9]، والذكرى لا تنفع في وقتين: وقت القيامة الكبرى، ووقت الوفاة حين تحشرج النفس وتبلغ الروح الحلقوم، فذاك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً. ومعنى قوله تعالى: {فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} [محمد:18]، بمعنى: تذكيرهم بما عملوه من خير أو شر {فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} [محمد:18]، فعلى ذلك ربنا يحذر الإنسان من عدم التوبة وتسويفها إلى أن يأتي الموت فلا يقدر على التذكرة.

تفسير قوله تعالى: (فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك)

تفسير قوله تعالى: (فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك) يقول سبحانه: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمد:19]، (فَاعْلَمْ)، وهو يعلم عليه الصلاة والسلام، وهو الداعي إلى الله عز وجل والداعي إلى هذه الكلمة، والعلم المذكور هنا ليس العلم المنافي للجهل وإنما المنافي للشك، فالجميع يعلمون أن الله عز وجل هو الخالق الرازق البارئ القادر على كل شيء سبحانه تبارك وتعالى، ويعلمون ربوبية الله سبحانه تبارك وتعالى؛ ولذلك لم يجادل أحد من الكفار في أن الله هو الرب، بل هم مقرون بذلك، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87]. وهذا أمر مفروغ منه عند الكفار ومثل المسلمين، ولا يجادلون في هذا الشيء، فهو الذي يأتي بالشمس من المشرق، وهو الذي يخفي الشمس في المغرب، فلا يوجد أحد من آلهتهم يزعمون أنها تفعل ذلك، لكن الأمر فيمن يعبدون، فمن يعبدون؟ وإلى من يتوجهون في العبادة؟ فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين وللخلق جميعهم: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19] أي: استيقن من ذلك، فقد علمتم أن الآلهة التي تعبدونها لا تنفع ولا تضر، فاستيقنوا يقيناً لا شك فيه أن الإله المستحق للعبادة هو الرب الذي ينفع ويضر ويرفع ويخفض ويعز ويذل سبحانه، فاعلم أنه هو وحده المستحق للعبادة. ولقد زينت الشياطين للمشركين أن يعبدوا الأصنام بحجة أنها توصل إلى الله، وكأنهم يتواضعون وأنهم لا يقدرون أن يوصلوا إلى ربنا دون واسطة، وهو يخبرنا أنه ليس كذلك، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186]، والله عز وجل قريب من عباده، ولا داعي أن تجعل الواسطة بينك وبين الله سبحانه تبارك وتعالى.

فضل العلم

فضل العلم سفيان بن عيينة سئل عن فضل العلم فقال: ألم تسمع قوله حين بدأ به {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19]؟ يعني: فضل الله العلم حين بدأ بالعلم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ((فاعْلَمْ))، وأول ما بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بوحي من السماء قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]، ولقد فضل الله عز وجل عباده أن خلق لهم عقولاً يعون بها ويعقلون ويعلمون بها فيعملون، فقال: ألم تسمع قوله حين بدأ به أي بالعلم {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19]؟ فأمر بالعمل بعد العلم. والاستغفار ينفع العبد؛ لأنك علمت من الذي تستغفره، وعلمت من هو ربك بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، فهو الله الغفور فتستغفر وأنت موقن أنه سيغفر سبحانه تبارك وتعالى. قال سبحانه: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [الحديد:20]، إلى أن قال: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} [الحديد:21]، فاعلم وبعد ذلك سابق إلى المغفرة بعدما تعلم أن الدنيا لعب ولهو. وقال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:28]. فبعدما أعلمكم الله سبحانه تبارك وتعالى بأمر الأزواج قال في سورة أخرى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:14]، فاحذروا هذه الأصناف. وقال: {اعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال:41]، فعلمكم الله عز وجل ثم قسم هذه الصدقات على ما ذكر الله سبحانه تبارك وتعالى، فأمر بالعمل بعد العلم. فالإنسان ليعمل لابد أن يعلم، وقبل أن تصلي لابد أن تعلم ما هي الصلاة، وكيف تتقرب بها إلى الله عز وجل، وكيف تأتي بشروطها وأركانها وأفعالها وهيئاتها وسننها، فالعلم ثم العمل، وكذلك في كل العبادات وفي كل المعاملات وفي كل شيء تفعله في دين الله عز وجل عليك أن تتعلم ثم تعمل.

الحث على الاستغفار للنفس وللمؤمنين

الحث على الاستغفار للنفس وللمؤمنين قال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19] أي: استيقن بذلك، {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19]، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستغفار، وقد قال الله عز وجل له: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:2]، فهو مغفور له ذنبه، وهو معصوم عليه الصلاة والسلام من أن يقع في شيء يغضب ربه سبحانه تبارك وتعالى. إذاً كأنه يعلم المؤمنين إذا كان النبي يستغفر ويكثر من الاستغفار فأنتم أولى أن تستغفروا ربكم سبحانه. {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] أي: استغفر إن وقع منك ذنب، واستغفر ليثبتك الله عز وجل على الهدى فلا تقع في ذنب، وقد كان عليه الصلاة والسلام يجلس في المجلس الواحد ويقول: (إني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة)، بل كانوا يعدون له في الجلسة الواحدة سبعين مرة يستغفر فيها الله عز وجل ويتوب إليه صلوات الله وسلامه عليه. {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19]، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية أن يستغفر لنفسه وأن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات أيضاً، وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم ألا نبخل بالدعاء، فالإنسان البخيل الذي يبخل بالدعاء لإخوانه المسلمين كأن يقول: رب اغفر لي واغفر لفلان واغفر لفلان، والبخيل من دعا لنفسه فقط، ولذلك الأعرابي الذي قال أمام النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم! ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً، شبهه النبي صلى الله عليه وسلم ببعير أهله وقال: (لقد حجرت واسعاً)، فرحمة الله عظيمة واسعة، وأنك بقولك هذا تحجر رحمة الله، قال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118 - 119]، فقد خلقهم ليرحمهم سبحانه تبارك وتعالى، فرحمة الله عظيمة واسعة، فمن جهل بربه سبحانه تبارك وتعالى كان كهذا الأعرابي الجاهل، فلذلك قال ربك: {فَاعْلَمْ} [محمد:19] أي: اعلم من الذي تستغفره، ومن الذي تعبده، ومن الذي تطلب منه فتتأدب معه سبحانه تبارك وتعالى، ولا تحجر رحمته ولا مغفرته سبحانه تبارك وتعالى. قال: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19]، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يستغفر لنفسه ويستغفر للمؤمنين والمؤمنات، وفي الحديث الذي رواه مسلم من حديث عبد الله بن سرجس المخزومي رضي الله عنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأكلت معه خبزاً ولحماً)، فقال راوي الحديث عنه عاصم الأحول قال: هل استغفر لك النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال الصحابي الفاضل عبد الله بن سرجس: نعم، ولك، فليس لي فقط، وإنما استغفر لي ولك، وعاصم بن الأحول ما شاهد النبي صلى الله عليه وسلم فهو تابعي ولكنه تلا هذه الآية: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19]، فلم يحرم أحداً من هذه الأمة من دعوة صلوات الله وسلامه عليه، فقد دعا لأمته واستغفر لنفسه ولأمته صلوات الله وسلامه عليه، فتلا الصحابي هذه الآية، قال الصحابي الذي جلس مع النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم تحولت فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه صلوات الله وسلامه عليه). وكان معلوم عند أهل الكتاب أنه ما من نبي يبعث إلا وله خاتم النبوة، وهي علامة يعرف بها أنه نبي، فمن كان يخالطهم كان يأتي للنبي صلى الله عليه وسلم ويحاول أن يرى ظهر النبي صلى الله عليه وسلم وينظر خاتم النبوة، وهو قطعة من اللحم مثل بيضة الحمامة كانت بين كتفيه صلوات الله وسلامه عليه، من أجل التأكد من صحة أنه نبي صلوات الله وسلامه عليه. فعلم الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم أن يستغفر ربه وأن يستغفر للمؤمنين، وأن يدعو للمؤمنين وللمؤمنات بالمغفرة، وكذلك علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن ندعو لأنفسنا وللمؤمنين، فقال: (إذا دعوت لأخيك بظهر الغيب أمن الملك وقال: آمين ولك بمثله)، فعندما تدعو لأخيك فأنت ستحصل على تأمين الملك فهو يقول: (آمين ولك بمثل) يعني: أدعو لك بمثل ما دعوت لأخيك. ومن أعظم وأجمل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (من استغفر للمؤمنين والمؤمنات أعطاه الله عز وجل بكل مؤمن حسنة)، وأعداد المؤمنين تتجاوز الملايين، وهذا عدد الأحياء فقط أما الأموات ومن يكونون إلى قيام الساعة فأكثر من ذلك بكثير، فحين تدعو لنفسك وتقول: اللهم! اغفر لي وللمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، وتدعو لجميع المؤمنين من هذه الأمة، وتدعو لجميع المؤمنين تعطى بكل مؤمن حسنة، فلا تبخل بالدعاء لإخوانك فإن من أبخل الناس من بخل بالدعاء.

معنى قوله تعالى: (والله يعلم متقلبكم ومثواكم)

معنى قوله تعالى: (والله يعلم متقلبكم ومثواكم) قال تعالى: {ِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ} [محمد:19] مثوى الإنسان وهو ما يثوي إليه، تثوي إلى بيتك أو تئوي إلى المكان الذي يثويك، فكل تقلب للإنسان يعلمه الله، ولذلك اختلفت أقوال المفسرين حول هذا المعنى فيذكرون التقلب للإنسان في أصلاب الآباء، وفي أرحام الأمهات، فقد كان جنيناً في بطن أمه، ونزل من بطن الأم وصار طفلاً فتقلب في الحياة، وتقلب في الأعمال، وتقلب بين الأمراض وبين العافية، وكل تقلب الإنسان يعلمه الله عز وجل، وكل حركة للإنسان يتغير فيها ويتحول فيها يعلمها الله، ويقدر ويرزق سبحانه، وكل شيء يثوي إليه من نوم ومن موت ومن ركوب ومن انتقال وإقامة وقتية أو إقامة دائمة فالله عز وجل يعلم ذلك، وكل شيء يفعله الإنسان فالله عز وجل يحصيه ويكتبه سبحانه تبارك وتعالى، ويعلمه قبل أن يخلق الإنسان.

تفسير قوله تعالى: (ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة)

تفسير قوله تعالى: (ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة) قال تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ} [محمد:20]. هذه السورة اسمها سورة محمد صلى الله عليه وسلم، واسمها أيضاً سورة القتال؛ لهذه الآية: {فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ} [محمد:20]، ولذكر القتال فيها. المؤمنون يشتاقون إلى ربهم ويشتاقون إلى الجنة ويشتاقون إلى الشهادة فيطلبون من الله عز وجل الأذن بالجهاد في سبيل الله، وربنا قد أمر المؤمنين بأن يسألوا الله عز وجل العفو والعافية على لسان النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاثبتوا)، وذلك لأن أناساً تمنوا ذلك فحين حدث خافوا وأصابهم الجبن. {ويَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ} [محمد:20] أي: المؤمنون الصادقون وفيهم ضعاف الإيمان وفيهم منافقون، فلذلك عندما المؤمن يقول يضطر من حوله أيضاً أن يقولوا مثلما يقول، ولكن {إِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ} [محمد:20]، أي: ليست منسوخة {وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ} [محمد:20]، وأمركم الله عز وجل فيها بالقتال تنقسموا إلى فريقين، فالذين كانوا يدعون بدءوا بالتراجع، والمؤمن الصادق ظل على مبدئه، ولكن غيره بدأ يجبن ويخاف {رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [محمد:20] أي: الذي خرجت روحه من جسده فإن عيناه تصبحان في منظر مخيف ومختلف؛ وذلك بسبب تعلق عينيه في المكان الذي تخرج إليه روحه. فالإنسان التي تشخص عيناه من شدة الرعب مثله مثل الذي تخرج روحه، فيكون مرعوباً من شدة الموت، مع أنه لم يحصل قتال، فما زالت السورة نازلة تخبرهم بأن جاهدوا في سبيل الله فارتعبوا وخافوا، ولذلك قال الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ} [النساء:77]، وهم الذين كانوا يطلبون من الله عز وجل القتال ويقولون: نريد أن نجاهد، فلما فرض القتال إذا بهم يخافون ويرتعبون وقالوا: {لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء:77].

تفسير قوله تعالى: (طاعة وقول معروف)

تفسير قوله تعالى: (طاعة وقول معروف) يقول سبحانه: {فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} [محمد:20 - 21]، (فأولى لهم) فيها معنيان إما على الوصل وإما على الوقف، فعلى الوقف أي: انتظر الهلاك لهؤلاء فقد قاربهم. وعلى الوصل بما بعدها {فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} [محمد:20 - 21] أي: كان أولى بهم أن يطيعوا الله عز وجل وأن يقولوا قولاً معروفاً وأن يلتزموا بما قاله الله سبحانه. قال تعالى: {فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد:21]. للحديث بقية إن شاء الله. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة محمد [20 - 24]

تفسير سورة محمد [20 - 24] كان المؤمنون يتمنون من الله عز وجل أن ينزل عليهم آية تأمرهم بالجهاد في سبيل الله، ولكن لحكمة الله التي لا يعلمها كثير من العباد أخر عنهم الأمر بالجهاد؛ لعلمه الغيبي بتقاعس بعض من في قلوبهم مرض، وافتتان بعض ضعفاء الإيمان حيث لم يعلموا أن الطاعة بالمعروف، وأن الصدق لو كان في القلوب لجاءت العزيمة، والله غالب على أمره.

تفسير قوله تعالى: (ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة)

تفسير قوله تعالى: (ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة) الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة محمد صلى الله عليه وسلم: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ * فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ * أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:20 - 24]. يذكر الله عز وجل المؤمنين في هذه الآيات بما كانوا يدعون ربهم سبحانه تبارك وتعالى به، ويطلبونه، ويقولون: لولا نزلت آية في القرآن تأمرنا أن نجاهد في سبيل الله، فكانوا يقولون ذلك. وكان ربنا سبحانه تبارك وتعالى يصبرهم على ما هم فيه، ويقول لهم: أقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وكفوا أيديكم، وذكر ذلك في سورة النساء فقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ} [النساء:77]. إذاً: كان المؤمنون يطلبون من الله عز وجل أن يأمرهم أمراً في القرآن بأن يخرجوا مجاهدين في سبيل الله، وكان القرآن يأمرهم بمجاهدة أنفسهم؛ لأن الإنسان الذي لا يجاهد نفسه لا يستطيع أن يجاهد عدوه، فكان القرآن يربيهم مدة ثلاثة عشر عاماً وهم في مكة، فيأمرهم بأن يكفوا أيديهم، وأن يصبروا على الأذى، وإذا أمر بالجهاد فهو جهاد الكلمة والنفس. ولكن لما هاجروا إلى المدينة بدأ أمر الجهاد يتغير، فكان يأمرهم بدفع أعدائهم، وهذا يسمى: بقتال وجهاد الدفع، فإذا تعرض لك أعداؤك فدافع عن نفسك، ثم تدرج الله بهم إلى أن أمرهم أن يخرجوا غازين مجاهدين في سبيل الله، يدعون إلى الله عز وجل، ويقاتلون من يمنعهم من تبليغ دعوة الله سبحانه تبارك وتعالى. فهنا يذكر المؤمنين أنهم كانوا كثيراً ما يطلبون من ربهم سبحانه أن ينزل عليهم آية فيها ذكر الجهاد ويأمرهم فيها بالقتال. فقال هنا: {فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [محمد:20] والله أعلم بعباده سبحانه، الله أعلم بمن يقوم بأمره، ومن يتخاذل ويترك نصرة دين الله سبحانه، الله أعلم هل هؤلاء يستحقون في ذلك الوقت أن ينزل عليهم أو لا يستحقون فيؤخر عنهم هذا الأمر إلى حين. فلذلك كأنه يقول لهم: لا تطلبوا الشيء الذي لا تدرون هل تقدرون عليه أو لا، وصرح لهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: (لا تتمنوا لقاء العدو)، فلا تقل: متى نقاتل؟ متى يفرض علينا؟ لا، لا تطلب هذا الشيء، (لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا). إذاً: الإنسان لا يتمنى البلاء، ولا يقل: لو أنه فرض الجهاد لقاتلت وفعلت وفعلت. لا تقل هذا، لا تدري لعلك لا تصبر، ولذلك كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يخافون ذلك، والبعض منهم كان يتمنى أنه يشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم قتالاً، مثل أنس بن النضر عم أنس بن مالك رضي الله عنه، فكان يقول وقد تغيب عن النبي صلى الله عليه وسلم في يوم بدر: (لئن أشهدني الله عز وجل -يعني: موقعة أخرى مع النبي صلى الله عليه وسلم- مشهداً آخر ليرين الله ما أفعل) الله سيرى ما أفعل، ويسكت، ولا يزيد أكثر من ذلك؛ خوفاً من أن يقول شيئاً لا يقدر عليه، ولما جاء يوم أحد أبلى فيه أعظم البلاء رضي الله عنه، وقتل شهيداً رضي الله تبارك وتعالى عنه، ولم يعرف إلا ببنانه، أي: بعلامة كانت في أصبعه، إنسان قتيل لا يعرفونه إلا بأصبعه كيف سيكون شكل هذا القتيل؟! سيكون ممزقاً ومقطعاً قطعاً، بحيث لا يستطيع الناظر إليه أن يعرفه، فأبلى بلاء حسناً، وجاهد في سبيل الله حتى قتل. وكثيرٌ ممن كانوا يقولون: نريد الجهاد! نريد الجهاد! عندما يأتي الجهاد لا يجاهدون، ولا يفعلون شيئاً، بل يخافون كما قال الله عز وجل عنهم أنهم يقولون: {لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [النساء:77]، لم كتبت علينا القتال؟ فلو كنت أخرتنا قليلاً نستمتع بالدنيا، ثم بعد ذلك نجاهد في سبيل الله، فلذلك قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية) يعني: دائماً تسألوا الله العافية، فإذا جاء وقت الجهاد في سبيل الله عز وجل فاثبتوا وانصروا الله، قال تعالى: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]. وهنا يخبرنا عن حال المنافقين، المنافق دائماً كثير الكلام، يتكلم كثيراً جداً، ويظهر شجاعته في وقت السلم، أما في وقت الحرب فهو الجبان، والخائف المعرض، الذي يولي دبره ويهرب، فإذا انتهى القتال رجع يتحدث ويتكلم، فيذكر الله عز وجل هنا صورة هؤلاء المنافقين كما في سورة المنافقون قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:4] إذاً: أشكالهم طويلة وعريضة، ومناظرهم جميلة، ولكن إذا حدث القتال فهم أجبن ما يكون، يخرجون من عند النبي صلى الله عليه وسلم ويتركونه، ويهربون قائلين: لا طاقة لنا بذلك. قال تعالى: {فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ} [محمد:20] أي: ليست منسوخة، وذكر فيها الأمر بالجهاد في سبيل الله، قال تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة:5]. قوله: {وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ} [محمد:20] يعني: الأمر به، {رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [محمد:20] فهؤلاء أصحاب أمراض، وليست أمراضاً بدنية فيعذرون، وإنما هم أمراض القلوب. قوله: {رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [محمد:20] أي: تظهر أمراضهم الآن، {يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [محمد:20] يعني: تجدهم مذعورين، وفي غاية الرعب والذعر، ومندهشين، ومتحيرين، فينظر أحدهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم محدقاً النظر فيه، كالذي ستخرج روحه! قوله: {يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ} [محمد:20] يهددهم ويتوعدهم الله سبحانه تبارك وتعالى، فيقول: {فَأَوْلَى لَهُمْ} [محمد:20] أي: قاربهم ما يهلكهم بسبب ذلك، فلينتظروا عذاب الله عز وجل بسبب كلامهم الذي لا تنفذه أفعالهم.

تفسير قوله تعالى: (طاعة وقول معروف)

تفسير قوله تعالى: (طاعة وقول معروف) قال تعالى: {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [محمد:21] كأنه يقول: لو أنهم قالوا: (طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) كان هذا خيراً لهم وأفضل، فكأن الآية على الفصل، فقوله: {فَأَوْلَى لَهُمْ} [محمد:20] انتهت هذه الآية، والمعنى: تهديد ووعيد لهؤلاء، فقد قاربهم ما يهلكهم بسبب ذلك، (أولى لهم) أي: قد جاءهم ووليهم عذاب من عند الله عز وجل. ثم بدأ واستأنف فقال: {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} [محمد:21] أي: هلا قال هؤلاء: أمرنا، شأننا، فعلنا الطاعة والقول المعروف، فهذه بداية، كأنه يقول: هذا خبر لمبتدأ محذوف تقديره: أمرنا طاعة وقول معروف، يعني: لو كان حالهم ذلك، وشأنهم أنهم يتكلمون فيقولون: سمعنا وأطعنا، مثلما يقول المؤمنون. قال تعالى: {فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد:21] كان الأخير بهؤلاء أن يكونوا مطيعين لله وللرسول، ولا يتمنوا لقاء العدو، فإذا جد الجد، ونزل الأمر بالجهاد جاهدوا وصدقوا الله، لو فعلوا هذا لكان خيراً لهم. وقد يكون على الوصل بالآية التي تليها، (فأولى لهم طاعة وقول معروف) أي: أولى بهؤلاء من الفرار، ومن تمني لقاء العدو ثم عدم التنفيذ، أولى بهم أن يطيعوا الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن يطيعوا ربهم سبحانه، وأن يقولوا القول المعروف. فإذا جد القتال، وعزم الأمر {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ} [محمد:21] أي: في الإيمان، وفي تنفيذ ما يقولونه والإخلاص لله عز وجل، وفي الجهاد في سبيل الله، {لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد:21]. فيتعلم المؤمن من هذه الآية: أنه لا يكثر من الأماني، ولا يتكلم عن نفسه بالشيء الذي يتباهى به ويفتخر، ويظهر نفسه أنه شيء كبير، فإذا كان وقت الجد إذا به صغير في تنفيذ ما يقول، لا تتمنى الشيء الذي لا تقدر عليه، لا تقل: أنا أفعل كذا، لو كنت أنا مكان هذا لكنت فعلت. وفعلت، فيقول لك: لا، لو كنت أنت تستحق ذلك لكنا جعلناك مكان هذا الإنسان، لا تتمنى الشيء الذي لا تقدر عليه، ولا تتكلم بما لا تستطيعه، ولكن اسأل ربك أن يوفقك ويعينك على الخير.

تفسير قوله تعالى: (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض)

تفسير قوله تعالى: (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض)

تفسير قوله تعالى: (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض)

تفسير قوله تعالى: (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض) يقول سبحانه وتعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد:22] (هل عسيتم) خطاب للجميع، وإن كان المخصوص به المنافقين، فهؤلاء الذين يظهرون خلاف ما يبطنون، يقول لهم ربهم سبحانه: هل عسيتم أيها المنافقون إذا توليتم في الأرض، وصارت لكم الولاية في يوم من الأيام، أن تكونوا مفسدين بدلاً من الإصلاح، وهذا قريب من هؤلاء، والجدير بأخلاقهم أنهم يقولون ما لا يفعلون ويتفاخرون بما لا يقدرون عليه. وقوله: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ) هذه قراءة الجمهور، وقراءة نافع: (فهل عسيِتم). وقوله: (إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) هذه قراءة الجمهور، وقراءة رويس عن يعقوب: (إن تُولِّيتم) على البناء للمفعول، بمعنى: إن وليناكم ولاية، أو إذا وليتم ولاية من الولايات. وقوله: (وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) هذه قراءة الجمهور، وقراءة يعقوب: (وتقطَعوا أرحامكم) بدون تشديد فيها. فالمعنى: أنه يقول: أنا أعلم بكم منكم، ففي قلوبكم الدغل والفساد، وفي إيمانكم الغش، فلو أنكم كما تزعمون فستجاهدون وتنتصرون ليس بفضلكم، ولكن بفضل الله عز وجل، فإذا ولاكم الله عز وجل ولاية فأنتم أهل الجور، وأنتم أهل الظلم أيها المنافقون، لا تصلحون للولايات، بل أنتم مفسدون، وهذا سيكون حالكم عندما يوليكم الله عز وجل ولاية من الولايات، وستتنكرون للمؤمنين، بل ستتنكرون لأقرب الناس إليكم: الأرحام، فستقطعون أرحامكم، وستفسدون في الأرض فتحكمون بظلم، وتقيمون غير شرع الله سبحانه، ولا تقيمون جهاداً في سبيل الله، وتتولون معرضين، فهذا حال المنافقين إذا أصابوا ولاية من الولايات. قال سبحانه: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد:22]، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الرحم قال: (إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم، قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك، وأن أقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذاك لك، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرءوا إن شئتم: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد:22]).

تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين لعنهم الله)

تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين لعنهم الله) قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:23]. هذه الرحم التي أمرنا الله عز وجل في كتابه أن نصلها، قال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:36] فوصية من الله سبحانه بكل هؤلاء: الأرحام، والجيران، والأصدقاء، والأصحاب، والمؤمنين عامة، اهتموا بشئون هؤلاء جميعهم، وصلوا أرحامكم، وصلوا المؤمنين، ولا تقطعوا الوشائج بينكم وبينهم، فمن قطعها فأولئك الذين لعنهم الله، وأبعدهم وطردهم من رحمته سبحانه، {فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:23]. (أصمهم) أصم آذانهم، (وأعمى أبصارهم) وقد ذكر الله عز وجل فقال: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:4] أجسامهم جميلة وصحيحة، فيها العافية. وقوله: (أعمى أبصارهم) هل هم عميان؟ كأن المعنى هنا: أبصارهم كلا أبصار، وأسماعهم كلا أسماع. إذاً: كأنهم لا سمع معهم كأنهم طرش؛ لأنهم لا يسمعون ما ينفعهم، وإنما يسمعون ما يضرهم، فلا يبصرون فيعتبرون، ولكن ينظرون إلى ما يضرهم، فيسمعون إلى كلام المنافقين، ولا يسمعون للنبي صلى الله عليه وسلم ليهتدوا به. فالمنافقون ينظرون إلى العورات، ويتجسسون على المؤمنين، أما أن ينظروا في كتاب الله وفي آيات الله سبحانه تبارك وتعالى في الكون فيعتبرون فلا، فكأنهم لا ينتفعون بأسماعهم، ولا بأبصارهم، فهم عمي الأبصار، إذاًَ العمى هنا راجع إلى البصائر والقلوب، فسمع لا ينفع، وبصر لا يرى الحق، فكأنهم لا شيء عندهم. ولذلك وصف الله عز وجل الكفار بأنهم لا يعلمون، قال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم:7] كأن العلم بالدنيا ليس هو العلم الحقيقي، وإنما هو علم قاصر، وليس معناه: أنك لا تتعلم شئون الدنيا، ولكن لا يكون تعلم الدنيا للدنيا، وإنما تتعلم لتنتفع عند الله سبحانه تبارك وتعالى، قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]. فالعلم الذي يورث الخشية في القلب هو العلم المطلوب الذي ينفعك عند الله سبحانه تبارك وتعالى، أما العلم الذي يورث الغرور والتيه والفخر على الخلق فهذا لا ينتفع به أي إنسان، قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:23]، الذين لم يستمعوا القول فيتبعون أحسنه، والذين لم يطيعوا الله ولا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذين إذا ولاهم الله وأعطاهم ولاية إذا بهم يقطعون أرحامهم، ولا يعرفون لأحد فضله ولا حقه.

تفسير قوله تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها)

تفسير قوله تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] يعني: هلا تدبروا كتاب الله سبحانه تبارك وتعالى، والفاء هنا: عاطفة، فهي: (ألا يتدبرون) والفاء: للعطف، فتقتضي الترتيب والتعقيب، أي: إذا سمعتم ذلك فهلا تدبرتم كتاب الله عز وجل، وفقهتم، وفهمتم ما فيه؟! قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [محمد:24] بالهمزة في قراءة الجمهور، وقراءة ابن كثير: (القران) والمعنى واحد. فقوله: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ} [محمد:24] فيه حث على تدبر كتاب الله سبحانه تبارك وتعالى، وقد أمرنا الله فقال: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204] استمع وليس مجرد سماع، فتكون الآيات تمر على الأذن من غير أن تعيها، وإنما قال: أنصت، فلا بد أن تحترم كتاب الله عز وجل، وتستمع وتصغي السمع إلى كتاب الله عز وجل، وتتأمل وتتدبر في كتابه سبحانه تبارك وتعالى. قوله: {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، هذا استنكار من الله، وقال: (أَمْ عَلَى قُلُوبٍ) ولم يقل: (أم على قلوبهم)، فأراد بذلك العموم، والمعنى: أي قلوب هؤلاء وقلوب أمثالهم، وليس قلوبهم فقط، فقال: (أم على قلوب) والمعنى: أن كل إنسان هذا حاله، لا يستمع لكتاب الله عز وجل، ولا يعيه، ولا يتدبر فيه، فعلى قلبه قفل، وهو الغلق الذي يجعل على الباب، كذلك هؤلاء: (أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) ولم يقل: (أقفال) وكأن كل قلب من قلوب هؤلاء المنافقين عليه قفل يناسبه. وكذا كل إنسان يسمع كلام الله عز وجل فلا ينتبه له، ولا يعي ما يقوله الله عز وجل، ولا يعمل به، يكون داخلاً تحت هذه الآية، وكل من أعرض عن كتاب الله سبحانه، ونصح بالقرآن وقيل له: إن الله يأمر بكذا، فرفض أن يفعل ما أمره الله عز وجل، فعلى القلوب أقفالها. إذاً: هنا ربنا سبحانه في هذه الآيات يشير إلى أنه يجب على الإنسان المؤمن أن يمسك لسانه عن تمني الشيء الذي لا يقدر عليه، فيجب على الإنسان المؤمن أن يتدبر كتاب الله سبحانه، وأن يعمل به، ويجب على الإنسان المؤمن إذا ولاه الله عز وجل ولاية من الولايات أن يراعي في ذلك إقامة الحق والعدل، ولا يتنصل من أقربائه، ولا يقطع رحمه. وهنا لاحظ بين إنسان يوليه الله عز وجل ولاية، فيقوم بتوظيف أقاربه، فلان يجعله في كذا وفلان يوليه كذا، وهنا ليس معنى الآية كذلك، ليس المعنى أن توظف أقاربك، فتكون بهذا وصلت الأرحام، ولكن الإنسان الذي يتولى ولاية، فمن الأمانة أن يجعل الإنسان في مكانه. إذاً قوله: {وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد:22] معناه: أنهم إذا ولاهم الله يتكبرون فيقطعون أرحامهم، فلا يعرفون إلا المنافقين، ولا يعرفون إلا الكبراء بزعمهم، أما الصغار الذين كانوا يعرفونهم قبل ذلك، فقد أصبحوا يحتقرونهم الآن، فهذا هو المعنى. أما الذي يتولى ولاية من الولايات، فيبتدأ بتوظيف كل أقاربه فيها، ويضع محسوبياته من غير كفاءة ولا غيرها، فهذه من علامات الساعة، وقد سأل سائل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه العلامات فقال: (إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة) فأي إنسان يتولى ولاية من الولايات، فيبدأ بتوظيف فلان، فيضعه في المصلحة المعينة لأنه قريبه، ويكون أهل الكفاءة في هذا الشيء معزولون، ويولى من لا يصلح، فهذه هي الخيانة، وهذه من أشراط الساعة وعلاماتها. وفي الآية حث على صلة الأرحام، وليس معناه أنك تجامل في غير الحق وفي الباطل. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة محمد [25 - 30]

تفسير سورة محمد [25 - 30] من صفات المنافقين أنهم يكرهون ما أنزل الله على رسوله، ويكرهون الدين، ويطيعون من عادى الله ورسوله، فهؤلاء هم المرتدون حقيقة؛ لأنهم ما نطقوا بالدين إلا تقية وحفظاً لأموالهم ودمائهم، فهؤلاء يمهلهم الله عز وجل في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب عظيم.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعدما تبين لهم الهدى)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعدما تبين لهم الهدى) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة محمد صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ * وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:25 - 30]. لما ذكر الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه السورة الكريمة: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23]. هل عسيتم إن مكنكم الله عز وجل وأعطاكم ولايات ورئاسات ووزارات وحكماً تحكمون بين الناس، وقدرة على ذلك، أن ترتدوا على أدباركم، وتعرضوا عن ذكر الله سبحانه وشرعه، وتقيموا الظلم بين الناس، وتعرضوا عن هذا الدين، وتتبعوا الهوى والشياطين، وتقطعوا أرحامكم؟ هل عسيتم أن تفعلوا ذلك فترتدوا على أدباركم، وتعكسوا ما أمركم الله عز وجل بوصله وفعله؟ {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء:82] أي: هلا تدبروا كتاب الله عز وجل وقرءوه واستمعوا له، وفهموا ما يريده الله عز وجل ففعلوه. ثم قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ} [محمد:25] وهنا بعدما ذكر: لعلكم إذا فتح الله لكم، وأعطاكم من فضله، أن تنقلبوا على أعقابكم القهقرى، فهؤلاء الذين هذا حالهم يقول الله سبحانه لهم: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} [محمد:25]. مشوا في طريق الشيطان وتركوا طريق الله سبحانه تبارك وتعالى، وتركوا الصواب بعدما عرفوه، وتركوا القرآن بعدما فهموا معانيه، (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ) ردة رجوع على الأعقاب إلى الورى، بعدما كانوا متقدمين في دين الله عز وجل، وصاروا متأخرين تاركين الدين وراء ظهورهم؛ لا يضرون إلا أنفسهم، {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} [محمد:25] من بعدما عرفوا الحق، وسمعوا كتاب الله، وهدي النبي صلوات الله وسلامه عليه، فهؤلاء الشيطان سول لهم، وضحك عليهم، وخدعهم، وزين لهم الأماني الباطلة. (وأملى لهم) الجمهور يقرءونها هكذا، والبصريون يقرءونها قراءة أخرى، فـ أبو عمرو البصري يقرؤها: (وأملِيَ لهم) ويقرؤها: (وأملِيْ لهم)، وهنا الآية تعددت القراءات فيها فكأنها تتعدد المعاني، وكأن الآية آيتان بحسب القراءة، فهنا يقول سبحانه: الشيطان سول لهؤلاء، (وأملى لهم) أي: أملى لهم الله سبحانه تبارك وتعالى، فالله عز وجل يقول: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم:84] أي: نحضر ونجهز لهم المصائب والعذاب، ففهم من المعنى: أن الشيطان يضحك عليهم، ويخدعهم، وقد حذرهم الله عز وجل من الشيطان، فقال: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76]، الشيطان سول وزين لهم، فقال: {وَأَمْلَى لَهُمْ} [محمد:25] أي: أملى لهم ربهم سبحانه، وأعد لهم العذاب، وهذه قراءة الجمهور. وقراءة أبي عمرو توضح ذلك قال: (وأملِيَ لهم) على البناء للمجهول، يعني: قد أعد لهم المصائب والعذاب، (أملي لهم) من الذي أملى لهم؟ الله سبحانه، يعني: مد لهم في العمر وتركهم، وصبر عليهم، وحلم عنهم سبحانه تبارك وتعالى حتى يأخذهم فيقصمهم ويأخذهم أخذ عزيز مقتدر. وقراءة يعقوب الحضرمي يقرأ: (وأملِيْ لهم) فبعدما قال عن الشيطان: (سول لهم) قال: وأنا أملي لهم، أي: أحضر لهم، وأجهز لهم من العذاب ما لا يطيقون منه. إذاً: على هذه القراءات: الله عز وجل أملى لهم، وعلى قراءة الجمهور: تحتمل معنىً آخر، وهو: أن الشيطان هو الذي سول وأملى لهم، والمعنى: أنه جعلهم يتمهلون ويتريثون ويبتعدون عن التقدم في دين الله عز وجل. إذاً: هذه المعاني كلها صحيحة، فإن الشيطان خدع هؤلاء، فجعلهم يسوفون، وأملى لهم فقال: استمهلوا واصبروا لا تستعجلون، الموت متأخر. إذاً: هذا من إملاء الشيطان على هؤلاء، أنه يجعلهم يتمهلون عن التوبة، ويتركون اتباع دين الله عز وجل، فيخدعهم، ويزين لهم أعمالهم، وجعلهم يتمهلون، فهذا على معنى. والمعنى الآخر: وأملى لهم ربهم سبحانه بأن مد لهم، فإذا بهم يتمهلون، ويسيرون في طريق يظنون أن النهاية حسنة فيه، وأنهم أرادوا الدنيا حيث زينت لهم، والشيطان سول لهم هذه الحياة الدنيا، وإن كان التزيين حقيقة من الله عز وجل، الله هو الذي يزين سبحانه تبارك وتعالى، زين الدنيا فخدعت هؤلاء، فالله خلق الدنيا وقال لنا: لا تغتروا بهذه الدنيا، فيها الورود، ولكن فيها الأشواك، وفيها الحلو ولكن فيه المرارات، وفي هذه الدنيا العابرة يراها الإنسان حلوة، ولكن إذا خبرها وجد في صفوها الكدر، وفي حلوها المر، وفي وردها الشوك، وفيما ينظر إليه من سعادة فإن وراءه الشقاء، فلا توجد سعادة في هذه الدنيا تدوم، لذلك المؤمن العاقل همه في الدنيا أن يرضي الله سبحانه تبارك وتعالى، لا أن يأخذ الدنيا؛ لأن الدنيا زينها الله سبحانه تبارك وتعالى لخلقه، والشيطان زين للعباد فيها أن يعصوا الله سبحانه تبارك وتعالى، فإذا بهم يخدعون، الله يبيح لهم الزواج، والشيطان يشجعهم على الزنا، الله يمنعهم من شرب الخمر، والشيطان يجعلهم يقعون في شربها ويتبعون الهوى، ويزعمون أن الخمر تشجعهم، وتزيل غمومهم، وغير ذلك. إذاً: التزيين من الله عز وجل خلقة، فيخلق الشيء حسناً، والتزيين من الشيطان أن يجعل العبد يستحلي الشيء المر، ويستعذب أن يقع في معصية الله سبحانه تبارك وتعالى، فهذا الشيطان يسول لهؤلاء أن يقعوا في المعاصي، ويزين لهم ويدفعهم، ويحثهم على أن يقعوا في معصية الله عز وجل، وأملى لهم الشيطان أي: أمد لهم في الغي، وأملى لهم الرحمن بمعنى: أمهلهم وصبر عليهم، وأعد لهم ما يستحقون من عقوبة وعذاب نسأل الله العفو والعافية!

تفسير قوله تعالى: (ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله)

تفسير قوله تعالى: (ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله) قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ} [محمد:26] ارتدوا عن دين الله عز وجل، ورجعوا بأن أصغوا لليهود، وللنصارى فسمعوا كلام هؤلاء وأعطوهم الوعود بألسنتهم: سنكون معكم قليلاً، فنكون مع هؤلاء مرة ومع هؤلاء مرة مع النبي صلى الله عليه وسلم مرة، ومعكم مرة ثانية. ذلك الجزاء بأنهم قالوا لهؤلاء الكارهين ما أنزل الله من مشركين وعباد أوثان، ومن يهود ونصارى: {سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ} [محمد:26] ليس في كل الأمر، لا، نحن نقول: لا إله إلا الله، لكن سنطيعكم في بعض الأمر. قال الله سبحانه: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} [محمد:26] والله يعلم ما في قلوبهم، فهم أحبوا هذا النفاق، وأحبوا معصية الله سبحانه تبارك وتعالى، فهم قالوا: لا إله إلا الله بألسنتهم، ولم تتحقق في قلوبهم، فقال: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} [محمد:26] وهذه قراءة حفص عن عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف، وباقي القراء يقرءونها: (والله يعلم أَسرَارهم) الإسرار: مصدر من أسرَّ إسراراً، وأسرارهم أي: فيما يبطنونه، والمعنى: كل أسرار هؤلاء عند الله عز وجل لا يخفى منها عن الله عز وجل شيء، ومهما تكتم من شيء فإن الله يعلمه، فالله يعلم إسرارهم.

تفسير قوله تعالى: (فكيف إذا توفتهم الملائكة)

تفسير قوله تعالى: (فكيف إذا توفتهم الملائكة) قال تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [محمد:27] فكيف بهؤلاء؟! كيف يكون حالهم إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم؟! الملائكة تتوفاهم، والله يتوفاهم كما ذكر لنا ربنا سبحانه، فالله يتوفى، والملائكة تتوفى، الله يقضي بالموت، والقبض حقيقة بأمر الله سبحانه تبارك وتعالى، فالله هو الذي يخلق، وهو الذي يحيي ويرزق ويميت، فالله فاعل كل شيء، وخالق كل شيء سبحانه، والملائكة المباشرون للأمر يقبضون الأرواح، وما يفعلون شيئاً إلا بأمر الله سبحانه، ولا يقدرون على شيء إلا بما يقدرهم الله عز وجل عليه. إذاً: الملائكة مأمورون منفذون لأمر الله سبحانه، فالله عز وجل هو الذي يتوفى، ولذلك من الخطأ أن نقول: فلان توفى، هذا خطأ، فلان توفى بمعنى: قبض، ولكن فلان قُبِضَ فنقول: تُوفيَ فلان، ومات فلان، فالذي يتوفاه هو الله عز وجل، والذين يتوفونه هم الملائكة يقبضون روحه، فالقائم بالأمر هو الله عز وجل، ثم الملائكة منفذون لأمر الله سبحانه تبارك وتعالى. فكيف يكون حال هؤلاء المنافقين المرتدين على أدبارهم إذا قبضت الملائكة أرواحهم وهم في حالهم عصاة كفار مجرمون؟! الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم، يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: لا يتوفى أحد على معصية إلا بضرب شديد لوجهه وقفاه، إلا بضرب نسأل الله العفو والعافية، فصاحب المعصية الذي مات على المعصية يتوفى على هذه الحال، والملائكة تضربه على وجهه، وتلطمه على ظهره وقفاه، فلا يتوفى أحد على معصية إلا على هذه الحال، فكيف يكون حال هؤلاء المنافقين حين تتوفاهم الملائكة بمثل هذا الضرب؟! أنت ترى الإنسان وهو يموت وأنت لا تدري عما يفعل به شيئاً، فالملائكة تضرب وجهه وظهره. كذلك عندما يقاتل المؤمنون الكفار والمنافقين، ويقاتلون غيرهم، فإن الملائكة تتوفى الكفار القتلى فيضربون وجوههم وأدبارهم في حال القتال، والملائكة مؤيدة بالله عز وجل، مؤيدة للمؤمنين، فيضربون وجوه الكفار عند الطلب، ويضربون أدبارهم عند الهرب، الكافر يقبل على المؤمن فتضربه الملائكة على وجهه، والكافر عندما يهرب تضربه الملائكة على قفاه ورأسه وظهره، فهذا تأييد من الله عز وجل للمؤمنين، وتطمين للمؤمن ألا يخاف فإن الله معه، فهل ينظرون إلا إحدى الحسنيين، فانتظر: إما أن ينصرك الله عز وجل وإما أن يتوفاك فتكون شهيداً ولك العاقبة الحسنة عند الله عز وجل. قال الله عز وجل: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [محمد:27] إذاً: هذا في وقت الموت والوفاة، وفي وقت الحرب والقتال والقتل، كذلك عندما يقومون من قبورهم تسوقهم الملائكة إلى الموقف، وتسوقهم الملائكة إلى النار والعياذ بالله بالضرب، فيدعون إلى نار جهنم دعا، ويدفعون على أقفائهم ويضربون على وجوههم، نسأل الله العفو والعافية، فهذا هو حالهم، فمن سينصرهم في هذه الحال؟! ذلك الجزاء والعذاب والعقاب بأنهم اتبعوا ما أسخط الله سبحانه تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه)

تفسير قوله تعالى: (ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه) قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:28] (ذلك بأنهم اتبعوا) التعليل هنا يخيف صاحب المعصية، فكل إنسان عاص يخاف على نفسه ما الذي سيحدث له عند الوفاة، فهذا هو حالهم، فالله إذا غضب على العبد أخذه أخذ عزيز مقتدر، فيميته على معصية، وإذا أحب الله عبداً ابتلاه عز وجل في الدنيا، ثم يستعمله بفضله وكرمه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله إذا أحب عبداً عسله، قالوا: وما عسله؟ قال: يوفقه لعمل صالح، ثم يقبضه عليه) نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من هؤلاء الذين يعسلهم الله عز وجل. والعكس: إذا أبغض الله عز وجل عبداً يجعله في طغيانه وعتوه، ويجعله جباراً عنيداً، حتى إذا أخذه لم يفلته، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]. قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ} [محمد:28] أي: مشوا وراء معاصي الله عز وجل، فكل شيء يغضب ربهم يفعلونه، في قيامهم أو نومهم وفي لهوهم، وفي أفراحهم ومعاصيهم، فيغضبون الله ويتبعون كل ما يسخطه سبحانه، ويكرهون رضوان الله سبحانه، لا يوجد إنسان يقول: أنا أكره أن أرضي ربي، ولكنهم بأفعالهم يكرهون ما أنزل الله، فإذا قيل: هذه الطاعة، وهذا كتاب الله، وهذه سنة رسول الله، فهو يقول: كل وقت تقول لي: كتاب وسنة، كتاب وسنة! إذاً: هو كاره لهذا الشيء سواء عبر بلسانه أو أعرض بحاله، فحين تذكره بالله يلوي لك ظهره ويمشي كأنه ما سمع، تمر وتذهب للمسجد فتراه وتقول له: ادخل وصل معنا يا فلان، وكأنه ما سمع كلامك، ويلتفت إلى الناحية الثانية، وتسلم عليه عادة فتقول له: السلام عليكم من أجل أن تأتي بعد قليل فتقول له: ادخل صل فلا يرد عليك السلام، وإذا كان جاء من آخر الشارع يدخل البيت فيختبئ حتى لا تقول له: تعال إلى بيت الله عز وجل، فيستغشون ثيابهم، والمنافقون كانوا يغطون حالهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا رأوه استغشوا بثيابهم، لا يريدون أن ينظروا إليه، حتى لا يأمرهم بالطاعة، وكذلك فعل الكفار. قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} [محمد:28] (رضوانه) فيها قراءتان: قراءة الجمهور: (رِضوان) بكسر الراء، وقراءة شعبة عن عاصم: (رُضوان) بضم الراء. قوله: {وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:28] ومحبطات الأعمال كثيرة منها: الشرك بالله عز وجل والكفر بالله سبحانه تبارك وتعالى، كذلك من محبطات الأعمال ترك الصلاة وتضييعها، ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله) فالذي يضيع الصلاة يحبط عمله، والذي يضيع صلاة العصر يصاب بحزن يوم القيامة، يساوي حزن إنسان قتل أهله، وضاع ماله، وهذا الحزن لا يستشعره الآن، وإنما يستشعره في يوم القيامة، قال الله عز وجل: {فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:28] أي: أذهبها وضيعها بسبب كفرهم وبعدهم عن الله عز وجل، وحبهم ما أسخط الله، ويكرهون رضوانه.

تفسير قوله تعالى: (أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم)

تفسير قوله تعالى: (أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم) قال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} [محمد:29] أعرض عن هؤلاء وأضرب عنهم، أحسب الذين في قلوبهم مرض وهم المنافقون {أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} [محمد:29] يعني: كل إنسان يبطن في قلبه الكره لهذا الدين، والكره لأهل الدين، فهل هذا يخفى على الله؟ وهل يتركه الله على ذلك؟ لا، فكل منافق لا بد وأن يفضحه الله عز وجل مهما دخل مع الناس وصلى، وهو في قلبه يكره المسلمين والمصلين، ويكره الملتزمين، فتجد على فلتات لسانه ما يدل على الكره، وإن كان يصلي ويمسك المصحف وكذا، ولكن بدأ يفلت لسانه بالكره لكتاب الله، ولسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان لا يقول: أنا أكره الكتاب السنة، فليس ممكناً أن يقول هذا الشيء، ولكن في لسانه التهكم والاستهزاء على أشياء صحيحة من دين الله سبحانه تبارك وتعالى. أم حسب هؤلاء المنافقون الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم؟ و (أضغانهم): جمع ضغن، والضغن: الحقد الدفين، فالشيء الذي يخبيه في قلبه لا بد وأن يظهر على فلتات لسانه، وقيل في المثل: (كل إناء بما فيه ينضح) فالذي يختبئ في الإناء سينضح في يوم من الأيام، كذلك الإنسان المنافق الذي يخفي البغض للإسلام المسلمين لا بد وأن يظهر ذلك على لسانه يوماً من الأيام.

تفسير قوله تعالى: (ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم)

تفسير قوله تعالى: (ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم) قال الله عز وجل: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [محمد:30] لو أردنا لكنا أريناهم لك، وعملنا عليهم علامات حتى تنظر إلى هذا المنافق بعلامته، ولو نشاء لفضحناه، ولكن الله حيي كريم ستير سبحانه تبارك وتعالى، يستر على عباده، ولا يفضح إلا من يستحق ذلك، فستر على الكثيرين، وفضح البعض وجعلهم عبرة للآخرين. قال: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30] سنعرفك بهؤلاء أو قد أشرنا إليك، فأنت الآن تعرف هؤلاء في لحن القول، وفي سقطات اللسان، وفي فحوى ما يقولون، فكانوا يقولون أمام النبي صلى الله عليه وسلم بأشياء، وهو بطيبة قلبه صلوات الله وسلامه عليه، وحسن ظنه في الناس يقبل الكلام على ظاهره، فإذا بالله يحذره ويحذر المؤمنين أن يتشبهوا بالكفار، فلا تقلدوا هؤلاء في أقوالهم، فليس كلما قال الكفار شيئاً تقوموا مؤيدين لمثل هذا الشيء؛ لأنهم قد يقصدون خلاف ما يقولون. وانظروا هنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث يقولون له: (اسمع غير مسمع)، فيحملها النبي صلى الله عليه وسلم بقلب طيب، وبحسن ظن أن المعنى اسمع منا، ولن تسمع ما تكره، وهذا هو الظاهر فيه، اسمع هذا الكلام الذي سنقوله لك، ما سنقول لك شيئاً يؤذيك ولا حاجة تضايقك، اسمع غير مسمع منا ما يؤذيك، لكن الحقيقة هم لا يقصدون ذلك، وإنما المراد: اسمع لا سمعت! كأنهم يقولون لإنسان: اذهب أذهب الله سمعك، فهذا هو معنى هذا الكلام الذي يقولونه لعنة الله عليهم، فيقول ربنا للمؤمنين: لا تقلدوا هؤلاء فيما يقولون، يأتي اليهود فيقولون: راعنا، فيأتي المنافقون ويقولون: راعنا، وهم يقصدون بها المعنى، وراعنا: كلمة عند اليهود معناها: أنت شرنا، فيأتي المؤمنون يقلدون هؤلاء فيقولون: يا رسول الله! راعنا، ولا يقصدون ما يقول هؤلاء الكلاب المجرمون، ولكن الله عز وجل يحذرهم فقال تعالى: {لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا} [البقرة:104]، فأتى بكلمة أخرى مكان هذه فقال: {وَقُولُوا انظُرْنَا} [البقرة:104] وهو نفس المعنى، ولكن هؤلاء قصدوا شيئاً آخر بهذه الكلمة، فحذر الله المؤمنين، وبين للنبي صلى الله عليه وسلم أنه سيعرفهم في لحن قولهم، وإنما مراد هؤلاء بكلامهم إرادة الأذى بك، ولا يريدون بك الخير، فعرفه الله عز وجل بالمنافقين، فكان لا يصلي على المنافقين صلوات الله وسلامه عليه، وذكرهم لـ حذيفة فكان يلقب بصاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين، فكان حذيفة لا يصلي عليهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، إذا مات واحد من هؤلاء لا يصلي عليهم، وعمر كان لا يعرفهم، فكان ينظر فيمن يموت هل صلى عليه حذيفة؟! فلا يصلي عليه عمر حتى يصلي عليه حذيفة، فقد عرف أسماء البعض من المنافقين من النبي صلوات الله وسلامه عليه. قال الله عز وجل: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:30]. نسأل الله العفو والعافية، في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة محمد [31 - 34]

تفسير سورة محمد [31 - 34] الله سبحانه وتعالى يبتلي العباد ليميز الخبيث من الطيب، وهو يعلم ذلك من قبل أن يخلقهم، ولكنه سبحانه يظهر ذلك ويجعله علم شهادة، والكافر مهما عمل صالحاً لا يتقبل الله منه لكفره، والمؤمن قد يحبط عمله بمن أو عجب أو رياء أو سمعة أو غير ذلك.

تفسير قوله تعالى: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم

تفسير قوله تعالى: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في سورة محمد صلى الله عليه وسلم: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ * فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:31 - 35]. في هذه الآيات يخبر الله سبحانه وتعالى عباده أنه يبتليهم، وهذا المعنى تكرر في القرآن، لما خلق الله عز وجل هؤلاء الخلق، والكل يدعي أنه يعبد الله سبحانه، والكل يدعي أنه يحب الله سبحانه وأنه يتبع سبيل الله سبحانه، فاختبرهم الله وابتلاهم وامتحنهم، هل يتبعون طريقه وهم على الحق أم أنهم يدعون ما لا يعملون؟ فأنزل الكتاب وأرسل الرسل ودل على طريق الخير وكلف العباد، وأخبر أنه سيبتلي عباده، فقال: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35]، فالشر فتنة للعباد والخير فتنة للعباد، والتكاليف الشرعية ابتلاء للعباد وامتحان لهم، هل يسيرون على طريق الله سبحانه أم أنهم يتنكبون عن هذا الطريق ويعرضون عن الدين حين يرون التكاليف شاقة عليهم وصعبة عليهم؟ فقوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} [محمد:31] فعل مضارع في أوله اللام التي للتوكيد، وفي آخره النون المثقلة دليل على أنَّ هناك قسماً في هذه الجملة، والمعنى: والله لنبلونكم، فهذا واقع في جواب القسم: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ} [محمد:31] أي: إلى أن نعلم: {الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31]. والله سبحانه قبل أن يخلق العباد قد علم ما كان وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، وكل شيء يعلمه الله سبحانه وتعالى، ومن هم أصحاب الجنة، ومن هم أصحاب السعير، ومن يموت كبيراً، ومن يموت صغيراً، ومن يستحق كذا، ومن يستحق كذا، قال الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] فالله يعلم كل شيء سبحانه. هنا يقول: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ} [محمد:31] أي: حتى نظهر علمنا ذلك، قد علمنا علم غيب والآن علم شهادة، وهو ظهور هذا الشيء الذي علمناه، ويقيناً سيكون ما علمناه عنكم، فالله عز وجل هو الذي خلق العباد، قال تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]. فالله هو الذي خلقهم، ويعلم أن هؤلاء يستحقون الجنة فهم أهلها، ولذلك خلقهم سبحانه وتعالى، وخلق العباد ويعلم ما يعملون سبحانه، ولكن يوم القيامة حين يقال للعباد: ادخلوا الجنة يقال لهم: عملتم كذا وعملتم كذا، فأنتم تستحقون الجنة، ادخلوا الجنة جزاءً بما كنتم تعملون. إذاً: جزاءً من الله عطاءً حساباً، ولكن قبل ذلك هي رحمة رب العالمين سبحانه وتعالى، وحين يقول: ادخلوا النار لن يقول: خلقتكم للنار، ولا يقول لهم: إني خلقتكم وأفضت من نوري ولم يأتكم شيء من نوري، ولكن يقول: جزاءً بما كنتم تعملون، ولا ينكر العباد مما عملوه شيئاً، إذاً: إدخالهم الجنة هو بأعمالهم وإن كان قبل ذلك برحمة رب العالمين سبحانه؛ لأن الأعمال لا تساوي أن تكون ثمناً لجنة الله سبحانه ولكنها سبب لدخول الجنة. كذلك الأعمال سبب لدخول النار، استحقوا النار بأعمالهم، ولا يقدرون أن يعترضوا على الله عز وجل يوم القيامة، فلا يقولون: يا ربنا أنت الذي فعلت بنا ذلك، أنت الذي قدرت ذلك، لا يقدرون لأنه يقول: هذه صحيفة أعمالك {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:14]. وحين يكذب المنافقون ويقولون: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23] يختم على أفواههم وتنطق جوارحهم بما كانوا يفعلون، فتعترف عليهم أعضاؤهم فيستحقون أشد العذاب والعياذ بالله. إذاً: الله يعلم قبل أن يخلق العباد إلى أي طريق يسيرون عليه ويصيرون من أهله، ولكن: {حَتَّى نَعْلَمَ} [محمد:31] أي: حتى نظهر علمنا، حتى يكون العلم الآن مشاهداً وعلم شهادة، حتى تروا وحتى يرى المؤمنون وحتى يرى الكفار ما يصنع هؤلاء. فإذا جاءوا يوم القيامة شهد بعضهم على بعض، فلان كان يشرب الخمر، فلان كان يأكل خنزيراً، وفلان كان يفعل كذا، وفلان كان يفعل كذا، والعبد يعترف على نفسه: فعلت كذا وفعلت كذا وفعلت كذا، فيقول الله: هل ظلمك كتبتي؟ هل ظلمك الحفظة؟ يقول: لا، أنا الذي فعلت هذا الشيء. إذاً: أظهر الله عز وجل ما كان خافياً من علمه في خلق هؤلاء، وأوجدهم فعملوا ما علم الله عز وجل أنهم يعملون، فقوله: {حَتَّى نَعْلَمَ} [محمد:31] أي: حتى نشاهد، فنشاهد ذلك ويظهر ذلك، فنرى أعمالكم، وكما علمناها غيباً نعلمها مشاهدة، ويعلمها المؤمنون وتعلمها الملائكة، ويشهد بعضهم على البعض. قال تعالى: {الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31] أي: الذي يجاهد في سبيل الله عز وجل والذي يجاهد في غير سبيل الله سبحانه، والذي يصبر على أمر الله، والذي لا يصبر على أمر الله. إذاً: سنبلوكم بالتكاليف الشرعية: الصلاة، الصيام، الحج، الأمر بالمعروف، النهي عن المنكر، نبلوكم بالجهاد في سبيل الله، وبالأشياء التي فيها كلفة وفيها شيء من المشقة حتى ننظر كيف تعملون. وقوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} [محمد:31] بنون العظمة ونون الجمع، قراءة الجمهور: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31] بنون الجمع ونون العظمة تعبيراً عن عظمة رب العالمين سبحانه. وقراءة شعبة عن عاصم: (وليبلونكم حتى يعلم المجاهدين منكم والصابرين ويبلوا أخباركم) بالياء المضارعة ضمير المتكلم، فالله عز وجل يقول للغائب: (يبلوكم الله سبحانه)، فقوله: (وليبلونكم) أي: الله سبحانه. وقراءة رويس عن يعقوب: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوُ أخباركم) فيقرأ للاستئناف هنا: (ونبلوُ أخباركم)، فعلى قراءة الجمهور: (ونبلوَ أخباركم) عطف على منصوب، وقراءة رُويس بدء بجملة جديدة، يعني: ولا يزال الله عز وجل يبلوُ أخباركم سبحانه. إذاً: المعنى هنا: سيمتحنكم الله سبحانه وتعالى، وسيختبركم الله سبحانه بالتكاليف الشرعية حتى يظهر من الذي يجاهد نفسه ويجاهد هواه ويجاهد شيطانه ويجاهد المنافقين والكفار، ومن الذي يجاهد في سبيل الله، ومن الذي ينكص على عقبيه ولا يفعل ذلك، ومن الذي يصبر على المشاق وعلى التكاليف الشرعية وعلى أمر الله، ومن الذي لا يصبر على ذلك. وقد قال الله عز وجل في سورة العنكبوت: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3]. فالله سبحانه وتعالى يقول: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا} [العنكبوت:2] كذا هملاً وسدى؟ لا، بل لابد أن نبلوكم وأن نفتنكم ونختبركم؛ حتى يظهر الجيد ويتميز من الرديء، قال: {وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31] يعني: نظهر أعمالكم. إذاً: (يبلوكم): يختبركم، (ونبلو) بمعنى: نظهر ونكشف ما بداخلكم من أسرار فتكون معلنة وتكون منظورة.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول) قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:32] الله الغني عن العباد، الله الغني عن المؤمنين وعن الكافرين وعن جميع خلقه سبحانه وتعالى، فإن الله هو الغني الحميد، ويخبر هنا عن الكفار فيقول: {كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى} [محمد:32]. أقام الله عز وجل عليهم الحجة فعرفوا الطريق، وأن هذا طريق الله سبحانه فمضوا في الطريق الآخر، فطريق الله هذا في هذا الشق وهم في هذا الجانب، فشاقوا، والمشاقة: المعاندة والمحادة، ذهبوا إلى الناحية الثانية، فمعنى قوله تعالى: {شَاقُّوا الرَّسُولَ} [محمد:32] من المشاققة، يشاقق الإنسان: يخاصم، يجدك أنت في جانب وهو يأخذ الجانب الآخر. فهؤلاء {شَاقُّوا الرَّسُولَ} [محمد:32] أي: عاندوا الرسول صلوات الله وسلامه عليه، فكفروا بالله سبحانه وتعالى ومنعوا الناس من الدخول في سبيل الله وطريقه وهداه، ومنعوا النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن يبلغوا رسالة الله سبحانه وتعالى، وصاروا أعداءً يتربصون برسول الله وبالمؤمنين وبدين الله وشاقوا الرسول. قال تعالى: {لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} [محمد:32] أي: هؤلاء لن يضروا الله شيئاً مهما عملوا. وقوله تعالى: {وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:32] فهم كفار كفروا وصدوا عن سبيل الله وعاندوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو كفر على كفر على كفر، وهؤلاء يحبط الله سبحانه وتعالى أعمالهم. فلن يضروا الله شيئاً مهما اجتمعوا على دين الله سبحانه، فالله يأبى إلا أن يتم نوره ويظهر دينه سبحانه وتعالى وسيحبط أعمال هؤلاء، وكان الكفار يعملون أعمالاً هي في زعمهم أعمال صالحة، كانوا يحجون البيت وكانوا يطعمون الحجيج ويسقونهم وكانوا يفعلون أشياء من البر ومن الصلة ولكنهم يصدون عن سبيل الله. فكانوا مع صدهم عن سبيل الله عز وجل يظنون أنهم يعملون خيراً ويقولون: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22] أي: نحن نعمل الخير، والله سبحانه وتعالى سيحبطه لهم، ولن ينتفعون به أبداً، ففي غزوة بدر كان من الكفار من يسمون بالمطعمين، يطعمون في يوم عشرة جمال أو تسعة جمال، فهذا الذي يدفع من ماله تسعة جمال من أجل أن يأكل جيش الكفار هو يفعل ذلك ظناً منه أنه يعمل طاعة؛ ولذلك كانوا يقولون: اللهم أقطعنا للرحم فأحنه اليوم، يعني هم في ظنهم أن الذي يعملونه ليس قطعاً للرحم، والنبي صلى الله عليه وسلم يطلب منهم صلة الرحم، فيقولون: لسنا نحن الذين قطعنا الرحم، أنت الذي قطعت الرحم، فالكافر حين يفعل المعصية ويفعل الكفر يظن أن هذا هو الصواب؛ لأنه لا يريد أن يفكر، فحين يقال: أنتم قطعتم الرحم، قال تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23] أي: راعوا المودة التي بيني وبينكم، واتركوني أبلغ رسالة الله. يقولون: لا أنت الذي تقطع الأرحام، فقد أتيت بدين فرقت به بين الولد وأبيه، الولد صار مسلماً وأبوه بقي كافراً، فأنت الذي فرقت، وأنت الذي قطعت الأرحام. ولذلك كان دعاؤهم يدل على غبائهم حين يدعون ويقولون: {إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} [الأنفال:32] يطلبون من الله عز وجل العذاب فيقولون: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} [الأنفال:32]. فهذا دعاء في منتهى الغباء، لأن الإنسان يقول: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأنزل علينا رحمة من عندك، فاهدنا إليه، فدلنا عليه، فخذ بأيدينا إليه، ولا يدعو بالعذاب لنفسه. فأي عقول عند هؤلاء؟ يدعون بذلك وكأنهم في غاية اليقين، إذاً هم لا يريدون أن يفكروا في هذا الدين، وفيما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وصدهم عن ذلك ومنعهم الحسد للنبي صلى الله عليه وسلم والحقد عليه؛ لأنه جاءته الرسالة من عند رب العالمين، فلا يريدون أن ينظروا حتى ولو كانت النتيجة أن يكونوا هم القتلى، أو يكونوا هم المشردين، لكن لا يدخلون في هذا الدين! فقال الله عز وجل: {سَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:32] طالما أنهم ألغوا عقولهم فيستحقون من الله عز وجل أشد العقوبة؛ لأن الله خلق العقل ليتفكر به الإنسان، وليهتدي به وليستدل به على ربه سبحانه، أما أنه يستغل عقله للمعاندة والمشاقة حتى ولو كان يعلم أن هذا هو الحق، ويدعو على نفسه بأنه يكون من المهلكين فيستحق ما سأل الله عز وجل لنفسه.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33] التحذير للمؤمنين أن يكونوا مثل هؤلاء الكفار، احذر أيها العبد المؤمن أن تحبط عملك فتستوي مع هذا الكافر، وإن كان هناك فرق بين المؤمن وبين الكافر. فالكافر عمله كله محبط، والمؤمن لا يكون عمله كله محبطاً إلا بالكفر والردة عن دين الله سبحانه تعالى، فإذا كفر وارتد حبط العمل، فالله يحذر المؤمن، احذر أن تكفر، واحذر أن تشرك بالله، واحذر أن ترائي، واحذر أن تعجب بعملك، واحذر أن تزهو وأن تفاخر بعمل، وأن تكاثر بشيء فتفتخر به على خلق الله، واحذر أن تطلب الدنيا بعملك، واحذر أن تمن بعملك على دين الله سبحانه وتعالى، فإنَّ هذه محبطات للعمل، والإنسان لا يعمل العمل لغير الله، أو رياءً وسمعةً وشركاً بالله عز وجل، فالله أغنى الأغنياء عن الشرك ولا يقبل منه هذا العمل. وحين يعمل العمل ليزهو به فلا ثواب له في هذا العمل، وحين يعمل العمل ويكون عمله لله ثم بعد ذلك يمن به على الله عز وجل ويمن به على المؤمنين أبطل عمله بذلك، فهذه أشياء تحبط عمل الإنسان، منها: الشرك بالله عز وجل والكفر والردة، ومن هذه الأشياء: الغرور، والعجب بالعمل، وأن يمن بعمله على ربه سبحانه وتعالى. فيحذر الله المؤمنين فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33] أي: احذروا من أن تبطلوا أعمالكم، وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أشياء تحبط العمل، كالشرك الخفي، كأن يقوم ويصلي ثم ينظر إلى الناس، ويزين صلاته للناس وليس لله سبحانه وتعالى، والإنسان يترك العمل الصالح بعدما كان يعمل، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يمل حتى تملوا) فالإنسان يعمل العمل فيكون له أجره، فإذا مل وترك ومن بهذا العمل أبطل هذا العمل وقضى عليه. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من فاتته صلاة العصر فقد حبط عمله)، ويقيناً أن هذا الذي حبط عمله ما حبط كل عمله؛ لأنه لم يكفر بالله عز وجل إلا إذا تركها معتقداً أنها ليست واجبة، فهذا كفر بإنكار شيء معلوم من الدين بالضرورة، ولكن إذا تركها وهو قادر على أن يصليها لا عذر له في ذلك. والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس في النوم تفريط)، أي: الإنسان معذور إذا نام وفاتته الصلاة، (ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى) إذاً: لا يكون التفريط من الإنسان إلا إذا خرج وقت الصلاة وهو قادر على أن يصليها حتى انتهى وقت هذه الصلاة. إذاً: ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من ضيع وقت الصلاة حتى انتهى وقتها، ومن فاتته صلاة العصر فقد حبط عمله، فقوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33] أي: بمنٍّ وعجب وشرك وردة وغيرها.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار) قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [محمد:34] رحمة الله عظيمة، فيقول: {فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [محمد:34] فيها رحمة رب العالمين سبحانه، فالكافر الذي يصد عن سبيل الله ولا يزال على ذلك حتى قبيل الوفاة فيتوب إلى الله يغفر الله له. فإذا كان كل حياته كافراً ويصد عن سبيل الله ويشاقق الرسول وفي النهاية تدركه الرحمة ويتوب إلى الله يغفر الله له، فقيد حبوط العمل بأن يموت على ذلك، وتخرج روح هذا الإنسان وهو على الكفر، هذا الذي لا يغفر الله عز وجل له. قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا} [محمد:34] يعني: استمروا على كفرهم حتى جاءهم الوفاة وهم كفار، قال تعالى: {فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [محمد:34] والغفر بمعنى: المحو والستر، فالله يغفر للمؤمنين، وفيها رحمة الله عز وجل بالمؤمنين، فالمؤمن تحت مشيئة الله سبحانه وتعالى طالما أنه لم يقع في الكفر بالله سبحانه، ومات على الإيمان، فعسى الله أن يغفر له حتى ولو كان صاحب كبيرة. فالله عز وجل يغفر الذنوب، يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، ففيها الرجاء في رحمة رب العالمين سبحانه لمن آمن، حتى وإن كان من أهل المعاصي، فكيف بمن آمن وكان من أهل الطاعات؟ فلا شك أن الله عز وجل يغفر له ويدخله جنته، نسأل الله عز وجل مغفرته وجنته إنه على كل شيء قدير. أقولي قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة محمد [32 - 36]

تفسير سورة محمد [32 - 36] لقد أمرنا الله عز وجل بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وألا نبطل أعمالنا بما يحبطها من الشرك والرياء، وأمرنا بالحفاظ على القوة وعدم الضعف والخور أمام الأعداء بالدعوة إلى السلم والاستسلام، وأخبر أن سبب الضعف هو حب الدنيا والركون إليها، والاغترار بها ونسيان الآخرة وما عند الله من الحسنى.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في آخر سورة محمد صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ * فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ * إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ * إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ * هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:33 - 38]. هذه الآيات الكريمة من آخر سورة محمد صلى الله عليه وسلم - وهي سورة القتال - يخبرنا الله سبحانه تبارك وتعالى فيها عن حال الكفار، وعن حال المؤمنين. الكفار الذين يصدون عن سبيل الله ويشاقون الرسول صلوات الله وسلامه عليه لا يقدرون على شيء إلا بما يشاء الله سبحانه تبارك وتعالى. الله خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن، ولو شاء لم يخلق الكفار أصلاً، ولكن أراد أن يبتلي العباد بعضهم ببعض، ليبلوكم حتى يميز الخبيث من الطيب. فالذين كفروا بالله، وبرسل الله عليهم الصلاة والسلام، وصدوا عن سبيل الله، ومنعوا من يدعو إلى الله ومنعوا الرسول من تبليغ رسالة ربهم، شاقوا الرسول عليه الصلاة والسلام، وعاندوه، ومنعوه أن يدعو إلى ربه سبحانه من بعد ما تبين لهم الهدى، فليس لهم عذر عند الله سبحانه، فقد عرفوا الحق وأقام الله عز وجل عليهم الحجة، فهؤلاء مهما عملوا لن يضروا الله شيئاً. قد يصاب المؤمنون بأذى من هؤلاء، أما أن يؤذوا ويصيبوا ربهم سبحانه بالضرر فهذا مستحيل، والله القوي العزيز، والقاهر الغالب الجبار سبحانه تبارك وتعالى. {لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:32] إذاً: أعمالهم يجعلها هباء منثوراً مهما كادوا لدين الله، فيأبى الله إلا أن يظهر دينه، ولن يضروا إلا أنفسهم، وكذا كل إنسان كافر فاجر عاص ضرره على نفسه. الحياة الدنيا حياة قصيرة، فمهما ضروا المؤمنين فيها إما أن هذا الضرر يزيله الله عز وجل، وإما أن يذهب هذا الكافر ويقتله الله سبحانه، وإما أن يموت المؤمن ويرجع إلى ثواب الله عز وجل. فالضرر لن يدوم الدهر أبداً، ولكن الذي يدوم هو عذاب الله عز وجل وناره، وثواب الله وجنته سبحانه، فلذلك مهما يكون من ضرر على المؤمنين في الدنيا فليس ضرراً دائماً أبداً. ولذلك أخبر أن هؤلاء سيحبط أعمالهم التي عملوها، هم يكيدون للإسلام والمسلمين والله يأبى إلا أن يتم نوره. فمهما كادوا أحبط الله عز وجل عملهم، ومهما عملوا من أعمال في ظنهم أنها أعمال صالحة إذا جاءوا يوم القيامة أحبطها الله ولم يؤجروا عليها؛ لأنهم كفروا بالله وكذبوا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه. أما المؤمنون فيعلمهم الله سبحانه تبارك وتعالى أن يطيعوا الله، وأن يطيعوا الرسول صلوات الله وسلامه عليه، ويحذرهم أن يبطلوا أعمالهم. فالمؤمن عمله يتقرب به إلى الله، والله يعطيه الأجر المضاعف الحسنة بعشرة أمثالها، ويضاعف الله لمن يشاء أضعافاً كثيرة. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33] لا تكونوا كهؤلاء الكفار الذين أحبطنا لهم أعمالهم بكفرهم، وبصدهم عن سبيل الله. فاحذر أيها العبد المؤمن أن تقع في الشرك بالله أن تقع في الصد عن سبيل الله أن تعجب بعملك أن تفتخر به أن تمن على الله عز وجل بما عملت وإلا حبط عملك بذلك، إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان صالحاً وله خالصاً سبحانه. ولذلك كان يكثر النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه أن يدعو: (يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك). ويقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما أكثر ما تدعو بذلك! فيقول: إن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء) سبحانه تبارك وتعالى. كذلك المؤمن يحتاج أن يثبت على دين الله عز وجل، ولا يكون ذلك إلا في أن يتصل بربه سبحانه بصلاته بعبادته بدعائه بتوحيده ربه سبحانه تبارك وتعالى بأمره بالمعروف بنهيه عن المنكر بطاعته لله بطاعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم بحبه لدين الله عز وجل بالدعوة إلى هذا الدين العظيم. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [محمد:33] أطيعوا الله سبحانه، ومن طاعتكم لله طاعتكم للرسول صلى الله عليه وسلم، فلم يأت بشيء من عند نفسه وإنما ينطق بوحي من الله سبحانه. {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33] احذروا، فلما قدم أن الكفار يحبط الله أعمالهم بكفرهم وشركهم كأنه تحذير للمؤمن أن يرتد عن دين الله سبحانه، وأن يقع في الشرك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ربه: (اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً أعلمه، وأستغفرك لما لا أعلمه). وحاشا للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقع في الشرك، ولكنه يعلم المؤمنين أن يقولوا ذلك، وأن المؤمن يثبت على توحيد الله عز وجل، فلو وقع في الشرك الأكبر أو الأصغر أو وقع في الشرك الخفي أحبط الله عز وجل ما يكون فيه شرك من عمله، فحذر الله المؤمنين من أن يحبطوا عملهم.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار) قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [محمد:34]، الكافر الذي يصد عن سبيل الله، قد يكون هناك كافر ولكن ما يصد، هو في حاله وأنا في حالي، الصد إما صد للغير وإما صد للنفس، فتقول له: اسمع كلام الله يقول لك: ما أريد، هذا صد، منع كلام الله عز وجل أن يستمع إليه، وأن يصغي إليه، وأن يتدبره، وأن يفهمه. فإن صد غيره كانت المصيبة أعظم، فالذين كفروا وصدوا عن سبيل الله، صدوا أنفسهم وصدوا غيرهم، ومنعوا الرسل من تبليغ رسالات ربهم، ومنعوا الدعاة أن يدعوا إلى ربهم. (ثم ماتوا وهم كفار) أي: على الصد عن سبيل الله (فلن يغفر الله لهم) مصيبتهم مصيبة الذي لا يغفر الله له، فلا ينتظر من الله إلا العذاب الأليم، وإلا النار والجحيم.

تفسير قوله تعالى: (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون)

تفسير قوله تعالى: (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون) يطمئن الله عز وجل المؤمنين فيقول: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:35]. فيها إخبار أن المؤمن لا بد أن يكون قوياً، {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] لا تركن إلى الضعف، لا تكن ضعيفاً، قال صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير، احرص على ما ينفعك ولا تعجز، إن أصابك شيء لا تقل: لو أني فعلت كذا كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل). فيعلم الله عز وجل المؤمن أن اثبت على دينك اعتصم بالله سبحانه تبارك وتعالى احذر من العجز لا تعجز أعد لكل أمر العدة التي تكون له {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60]، ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم. فكلما كان المؤمنون أقوياء خاف منهم الأعداء، لا يخاف العدو من مؤمن مسالم، يقول: نحن في أمن وسلام، ونحن نريد الصلح مع الجميع، الكافر لا يفعل ذلك، لو فكر المسلمون هل الكفار في أمريكا وفي أوروبا وفي غيرها يدعون إلى السلام؟ لو كانوا كذلك ما صنعوا السلاح النووي والمسابقات في حرب النجوم من أجل الصعود إلى الفضاء والسيطرة على الكون، فمن لا يفهم هذا الأمر فهو جاهل. فالكافر يعيبك ويعيرك بالشيء الذي يفعله هو، فيمدح نفسه به ويذمك أنت عليه، أنت تريد أن تصنع السلاح النووي؟ ماذا تريد أن تفعل بهذا الشيء؟ فإن قيل: أنت عندك نفس هذا الأمر! يقول لك: لا، أنا أعقل منك، أنا في يدي هذا الشيء، لكن أنت حكمك أنك طفل، فممكن أن تلعب بها فتحرقك أما نحن فكبار! ولذلك يفتخر الأمريكيون المدنيون ويقولون: نحن أطول الناس قامة! ما معنى هذا الكلام من هؤلاء؟ نحن أطول الناس قامة أي: ننظر إلى قدام نحن أطول منكم نظراً، والطويل في وسط الناس ينظر قدامه، لكن أنتم صغار لا تنظرون إلى الذين قدامكم، فأنتم تمنعون عن الرؤية، هذا كلامهم. يستغفلون العرب والمسلمين ويخدعونهم، ويضحكون عليهم بمثل هذا الكلام، ولا يكون معكم سلاح أبداً، نترك لكم إسرائيل في النصف معها كل الأسلحة، والدفاعات التابعة لكم دفاعات قليلة لأجل ألا تفكروا في يوم من الأيام أن تقاتلوها أو تعملوا فيها شيئاً. انظر إلى الضعف الذي فيه المسلمون! لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أمن قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟ قال: لا، بل أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل). والغثاء: الزبالة، السيل عندما يجري يأخذ الزبالة فتتفوق على السيل الذي يحصل في أي مكان، انظر إلى السيل الذي كان في أندونيسيا، الغثاء كان فوقه فيقول: أنتم غثاء وعدد كثير، ولكن مثل هذه الزبالات التي تكون فوق الماء حين يجرفها، فلا قيمة لها ولا تصنع شيئاً. (وليقذفن الله في قلوبكم الوهن حب الدنيا وبغض الموت). المسلمون يتكلمون: نحن مسالمون مثل العجائز والشيوخ الكبار الذين ما لهم حاجة يقولون: دافعوا أنتم عنا واعملوا أنتم ما تشاءون!

النهي عن الوهن والضعف

النهي عن الوهن والضعف الله عز وجل يقول: {فَلا تَهِنُوا} [محمد:35] لماذا تضعف نفسك؟! نحن نقول لكم: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60]، كونوا أقوياء، و (ما) من ألفاظ العموم، يعني: كل شيء تستطيعونه من أسباب القوة أعدوه؛ لأن الكافر لن يسكت عليك، أنت تقرأ في كتاب الله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73] فتوجعه بهذا الكلمة، لكن طالما المؤمن قوي لا يتكلم، طالما المؤمن ضعيف، يرفع الكافر صوته على المؤمنين: أنتم تقولون كذا، أنتم تعملون كذا، الكلام الذي لم تكن تسمعه أبداً مباشرة تسمعه عندما ضعف المسلمون، وتقوى الكفار بعضهم ببعض، يقول الله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال:73]. ويقول: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] أين الولاية؟ {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:71] الولاية التي بين المؤمنين هي: الولاء والبراء، المؤمن يحب المؤمن وينصره ويدافع عنه، والكافر كذلك مع الكافر، وإن لم تكن هناك محبة قلبية منهم، والذي يجمعهم هو الدنيا فقط، والله عز وجل يقول: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14] يجتمعون عليه صلى الله عليه وسلم. {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ} [التوبة:8] يقول لك كلاماً طيباً جميلاً بلسانه فقط، أما ما في القلوب فهم يبغضون الإسلام والمسلمين، ويفعلون ما يقدرون عليه؛ حتى يوهنوا المسلمين فلا يقدرون أن يدعوا إلى الله سبحانه تبارك وتعالى. فهم يحاولون أن يبثوا الفرقة والخلاف بين المسلمين، ويسارعون للإفساد والدخل بين المؤمنين، فإذا أنت حرصت على نفسك فهذا مستحيل أن يكون. {فَلا تَهِنُوا} [محمد:35] هذا أمر الله عز وجل للمؤمن: لا تعجز لا تهنوا لا يكن في قلوبكم الوهن والضعف. {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} [محمد:35] أنت الأعلى عند الله عز وجل، أنت المؤمن، أنت الذي يعد الله عز وجل لك الجنة لماذا تكون ضعيفاً في هذه الدنيا؟! لماذا أنت تضحك على نفسك وتخدعها وتقول: أنا لا أقدر على هؤلاء؟ لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم لوحده، فلو أن الإنسان بعقله البشري فكر فإن النبي صلوات الله وسلامه عليه كان لوحده أمام هذا الجمع من الكفار، ويقدر عليهم بقدرة الله، لم لا تعتبرون بذلك من أن الله كان مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى بلغ رسالة الله سبحانه؟! وكم أوذي في الله سبحانه تبارك وتعالى وصلوات الله وسلامه عليه فصبر حتى بلغ رسالة الله عز وجل! كم جاهد المؤمنون ودافعوا عن دين الله حتى وصل الدين إلى مشارق الأرض ومغاربها، فيقول لنا ربنا: لا تهنوا، لا تعجزوا، لا تضعفوا. {وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} [محمد:35] هذه فيها قراءتان: قراءة الجمهور بالفتح (وتدعوا إلى السَّلمِ) وقراءة شعبة عن عاصم وحمزة وخلف (وتدعوا إلى السِّلمِ) أي: المسالمة، وهما بمعنى واحد السلم هو الاستسلام، لا تدعوا إلى ذلك وأنتم ضعفاء، ولكن كونوا أقوياء حتى لا تتحكم فيكم الدنيا وأصحاب الكفر.

المؤمنون هم الأعلون

المؤمنون هم الأعلون قال: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ} [محمد:35] يذكر الله المؤمن فيقول له: جعلناك أنت الأعلى وأنا معك، ولذا قال لموسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام: {لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] موسى وهارون عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام ذهبا إلى فرعون يدعوانه إلى الله عز وجل؛ لأنه قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] قال الله عز وجل {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:43 - 44]، ذكراه لعله يخشى ويرجع عما يقوله. {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ} [طه:45] الخوف جبلي في الإنسان {إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لا تَخَافَا} [طه:45 - 46] لماذا لا تخافا؟ {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] أنا معكما بسمعي وبصري، معكما بقوتي وقدرتي؛ فلا تخافا. {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ} [محمد:35] فالمعية ليست لموسى وهارون فقط، وليست للنبي صلى الله عليه وسلم فقط، ولكن لكل المؤمنين، الله مع المؤمنين، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]، فاتقوا ربكم يكن ربكم معكم. قال: {وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ} [محمد:35] أي: لن ينقصكم شيئاً من ثواب أعمالكم، ولن يضيع الله عز وجل عليكم ثواب ما عملتم، مهما عملتم من عمل قليلاً كان أو كثيراً، صغيراً في نظركم أو كبيراً، كله عند الله يدخره لكم ويعطيكم الثواب عليه. {وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ} [محمد:35] هذه مأخوذة من الوتر بمعنى: الواحد، والوتر بمعنى: الانفراد كأنه يقول: لن يفردكم عن أعمالكم، كأن إنساناً أفرد الإنسان عن صديقه، أخذ صديقه بعيداً وتركك أنت في مكان آخر، كذلك لن يترك ثوابك، لن يأخذ الثواب ليضيعه ويتركك أنت لوحدك من غير ثواب، لا، الثواب لك عند الله عز وجل. {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:35] أي: لن ينقصكم من ثواب أعمالكم.

تفسير قوله تعالى: (إنما الحياة الدنيا لعب ولهو)

تفسير قوله تعالى: (إنما الحياة الدنيا لعب ولهو) قال تعالى: {إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد:36] هذه هي الدنيا التي يذكرك الله عز وجل دائماً بها، ما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور، الإنسان الذي يغتر بالدنيا كم يعجب بنفسه وكم يغتر بها ويذهب منه هذا الذي يغتر به ويعجب به! كذلك الدنيا متاع يغتر بها أصحابها ولا تدوم لأحد أبداً. {إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد:36] المعنى: كم ترى من إنسان جاد في تحصيل هذه الدنيا، وفي النهاية ماذا سيعمل بهذه الأشياء؟ يتركها كلها كأنه كان يلعب، أخذت ما أكلت ما شربت ما نمت عليه أخذت حاجاتك وضرورياتك، والباقي ستتركه كأنك تلعب في أخذ هذا الباقي من الأشياء، فإذا كان الإنسان يجمع الدنيا ويضيع دينه يصير هذا من اللعب، أخذ أشياء لن تمكث معه، وترك الشيء الباقي الذي يدوم له! فضيع على نفسه أفضل الأشياء وأعظمها الدار الآخرة. {إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد:36] فالذي يلعب ويلهو يفوته قطار الآخرة، كإنسان واقف على محطة ينتظر القطار، فشغل بأشياء هذا يبيع منه كذا، وهذا يعطيه كلمة حلوة، وهذا أصغى إليهم ونظر إليهم يضحك ويلعب، فمر القطار وتجاوزه، كذلك عمر الإنسان يضيعه في الضحك واللعب واللهو وأخذ الدنيا، وغداً أتوب وأصلي وحين يرتفع الراتب أذهب إلى الجامع، وأصير أدعو الله في كذا، وهكذا يوم وراء يوم حتى خرج من الدنيا كلها إلى حسابه وجزائه عند الله عز وجل! {إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} [محمد:36]. نكتفي بهذا القدر، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة محمد [36 - 38]

تفسير سورة محمد [36 - 38] يحث الله تعالى عباده المؤمنين على الصدقة والإنفاق في سبيله سبحانه وتعالى، ومن أسباب نصر هذا الدين تضحية أهله ببذل المال والأرواح رخيصة في سبيل الله، وقد حذر الله من البخل، وأخبر أن من تولى فلا يضر إلا نفسه ولن يضر الله شيئاً، وسيستبدل قوماً آخرين يعبدونه وينصرون دينه، ويعلون كلمته سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم)

تفسير قوله تعالى: (إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله عز وجل في آخر سورة محمد صلى الله عليه وسلم: {إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ * إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ * هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:36 - 38]. هذه الآيات الأخيرة من سورة محمد صلى الله عليه وسلم وهي سورة القتال، يقول الله عز وجل فيها ويخبر عن هذه الحياة الدنيا التي يستعذبها الإنسان، ويستحلي أن يعيش فيها، ويطلب أن يعمر فيها عمراً طويلاً، فيبين لنا حقيقة هذه الدنيا، قال تعالى: {إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد:36] الآخرة: هي الحيوان والحياة الحقيقية، {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83] أي: العاقبة الحسنة، فهم لم يطلبوا الدنيا للعب، ولا للهو، ولا للبغي، ولا للفساد، ولا للاستكبار، ولا ليحصلوها، لم يريدوا ذلك، وإنما أرادوا أن يرضوا ربهم سبحانه، فمن طلب الدنيا للدنيا فهذا طالب لهو ولغو ولعب: {إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد:36]. أما الذي يطلب الآخرة فلن يلعب في الدنيا، ولن يلهو فيها، وإنما يستعد للآخرة، يستعد للقاء الله سبحانه تبارك وتعالى، يستعد للجزاء والحساب، فلذلك هو يؤمن ويتقي ربه سبحانه، وينتظر الأجر العظيم من الله. قال الله عز وجل: {إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} [محمد:36]، هل حصلت المال في الدنيا لتنتفع به في الدنيا؟! ولتبغي به في الدنيا ولتفسد ولتتعالى على غيرك وتزهو في الدنيا؟! لا ليس كذلك، فالحياة الدنيا متاع قليل، ثم بعد فترة يزول وتترك ما حصلت فيها، فاحذر من أن تعيش في هذه الدنيا لاعباً كسلاناً، مؤخراً عمل اليوم إلى الغد، وترجو أنه يغفر لك من غير عمل، فهنا الحياة الدنيا لعب ولهو لمن أراد الدنيا للدنيا، ولكن المؤمن التقي ينشغل في هذه الحياة الدنيا ليله ونهاره عبادة لله سبحانه تبارك وتعالى، فيعبد ربه في قيامه كما يعبده في نومه، ويعبد ربه في عمله كما يعبده في أكله وشربه، ويعبد ربه في قضاء شهوته، فحياته كلها عبادة. قال الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58].

فتنة المال

فتنة المال وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها) يخاف النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه بعد ما كانوا فقراء يعبدون الله عز وجل ما يفتح الله عز وجل عليهم من زهرة الدنيا وزينتها، فقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: (أويأتي الخير بالشر؟!) يعني: الفتح الذي يفتحه الله عز وجل علينا هذا خير، ومغانم نأخذها فيها خير، وزهرة الدنيا نحصل عليها خير، فهل هذا الخير يأتي بالشر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه لا يأتي الخير بالشر)، وهذا الجواب وقع بعد ما نزل عليه الوحي من السماء، فلم يجب السائل حتى نزل الوحي، فأجاب صلى الله عليه وسلم: (إنه لا يأتي الخير بالشر، وإن مما ينبت الربيع يقتل خبطاً أو يلم إلا آكلة الخضر) يريد النبي صلى الله عليه وسلم أن يضرب المثال للدنيا فيمن ينكب على الدنيا يريد أن يحصلها جميعها، هذا المثال الذي يذكره النبي صلوات الله وسلامه عليه: (إن مما ينبت الربيع يقتل خبطاً أو يلم) الربيع هو جدول الماء ينبت على حافته أعشاب ونبات وبقول، وتأتي الحيوانات التي تأكل هذا العشب، فمن البهائم ما يستحلي هذا النبات فيأكل كثيراً حتى يشارف على الهلاك من كثرة الامتلاء، قال: (إلا آكلة الخضر) بقرة ذهبت فأكلت ما استطاعت ثم جلست كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى إذا امتدت خاصرتها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ورتعت) بقرة من الأبقار ذهبت فأكلت، وبعدما أكلت استقبلت الشمس فخرج منها العرق والبول، ثم ثلطت وقامت وتحركت شمالاً ويميناً لتهضم هذا الذي بداخلها، فلم يقتلها ما أكلته، ولكن البهيمة التي تأكل ولا تعمل شيئاً، وتهتم بأن تأكل في النهاية يقتلها ذلك خبطاً أو يكاد أن يقتلها إلا أن يدركها صاحبها. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وإن هذا المال خضرة حلوة)، كهذه البقول التي تخرج من الأرض، وكهذه الخضروات التي تخرج من الأرض، لكن المسلم سيكون المال خيراً له: (ما أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم (وإنه من يأخذه بغير حقه كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون عليه شهيداً يوم القيامة) هذا المال الذي يريد الإنسان أن يحصله: إما أن يحصله للخير ليعبد الله عز وجل به، ويعطي الحق لأصحابه، وينفق على أهله وعياله من طول، وعلى المسكين واليتيم وابن السبيل، فيخرج من المال ما يطهر به هذا المال، فهذا الذي ينتفع به العبد يوم القيامة. ولكن الذي يجمع المال من حل وحرام، وينفق المال في حل وحرام، فهذا كالذي يأكل ولا يشبع، حتى إذا امتلأ في النهاية مات من التخمة، ويأتي المال يوم القيامة ليكون شهيداً على صاحبه، فهذا الذي يلعب في الدنيا ويلهو ويجمع المال للعبث، يكون المال شهيداً عليه يوم القيامة، فالحياة الدنيا إذا استغلها العبد لطاعة الله عز وجل في كل لحظة كانت عظيمة عند الله. وجاء في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها) غدوة في الصباح تذهب مطيعاً لله عز وجل فيها، مجاهداً في سبيل الله سبحانه تبارك وتعالى، أو روحة في سبيل الله، في المساء، فهذه خير من الدنيا جميعها.

الدنيا ملعونة

الدنيا ملعونة روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إن الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، وعالم ومتعلم). فهذه الدنيا كل ما فيها بعيد من رحمة الله، وكأن الدنيا مليئة بالمصائب، وبالعبث واللهو، ومليئة بكل ما يلهي الإنسان عما عند الله سبحانه تبارك وتعالى، إلا أن يجعل الإنسان أمامه نوراً من الله سبحانه تبارك وتعالى، من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالدنيا ملعونة ملعون ما فيها، يعني: كل ما فيها يبعد عن طاعة الله سبحانه، إلا أن تتشبث بذكر الله عز وجل، ويكون لسانك ذاكراً لله عز وجل، قال صلى الله عليه وسلم: (إلا ذكر الله وما والاه)، وما يتبع ذلك من ذكر الله كالصلاة والزكاة والصيام، فتذكر الله وتصوم ما فرضه الله عز وجل عليك، وتعمل ما سنه لك النبي صلى الله عليه وسلم، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. كذلك العالم والمتعلم، فيكون الإنسان عالماً يعلم غيره، ويكون متعلماً يستفيد من غيره، وغير ذلك كله بعد عن طاعة الله، لو تأملت في ذلك ونظرت في حقيقة ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم عندما يجيء الإنسان يقول: هم ثلاثة فقط، والباقي كله بعيد عن رحمة الله عز وجل؟! فستجد أنهم الثلاثة فقط الذين ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، والباقي بعيد عن الله عز وجل. كيف تعرف ربك إن لم تكن عالماً أو متعلماً؟! وكيف تعرف دين الله عز وجل إن لم تكن عالماً أو متعلماً؟! وكيف تطيع الله سبحانه تبارك وتعالى؟! وبأي شيء تعبده إن لم تكن عالماً أو متعلماً؟! فلذلك كل من بعد عن ذلك فليس بعالم ولا متعلماً، فكيف سيعرف هذا العبادة والمعاملة؟ وكيف سيقيم شرع الله عز وجل وهو لم يتعلم ولا هو من أهل العلم، ولا هو طائف على موائدهم؟! فغير هؤلاء يكون بعيداً عن طاعة الله عز وجل، ويتكلم فيما لا يعنيه، ويهرف بما لا يعرف، ويتكلم في الدين وفي غير الدين بعقله وهواه، فيغويه الشيطان ويتبع هواه فيكون من أصحاب النار والعياذ بالله!

الحث على ذكر الله

الحث على ذكر الله جاء في حديث معاذ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحب الأعمال إلى الله أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله)، وفي رواية في هذا الحديث من حديث عبد الله بن بسر رضي الله عنه (خير العمل أن تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله)، خير العمل أنك تكثر من ذكر الله، فذكر الله أكبر من كل شيء، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45]. فالإنسان يصلي الخمس الصلوات في اليوم والليلة، ويصلي رواتبها، ويذكر الله، فهو ما بين صلاة وصلاة في ذكر لله عز وجل، فلا ينسى ربه أبداً، ولا ينسى طاعة الله سبحانه، ويستحيل أن تتخيل إنساناً ذاكراً لله عز وجل وهو تارك للصلاة لا يصلي، أو ذاكراً لله عز وجل وهو تارك للصوم والعبادة، فهذا مستحيل، ولكن قد يكون الإنسان يصلي وقت الصلاة وفي غير وقت الصلاة مشغول بهذه الدنيا، فلذلك قال الله عز وجل: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45]. ذكر الله عز وجل أعظم من الصلاة؛ لأن الذاكر لله عز وجل يصلي ويذكر الله عز وجل فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (خير العمل أن تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله).

الحث على الإيمان والتقوى والنفقة

الحث على الإيمان والتقوى والنفقة قال تعالى: {إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا} [محمد:36] أي: تؤمنوا بالله عز وجل وبما جاء من عند الله، فتؤمن تصدق وتعمل، وتتقي ما يغضب الله عز وجل، فالإيمان يدفع العبد للعمل، والتقوى تدفع العبد إلى ترك ما يغضب الله سبحانه تبارك وتعالى، فإذا فعلت ذلك يؤتك الله عز وجل الأجر. قال تعالى: {يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} [محمد:36] يعني: لم يسألكم الله عز وجل جميع أموالكم، فالله سبحانه تبارك وتعالى كريم، فحين يفرض الله عز وجل عليك زكاة مالك شيئاً يسيراً، فستتمتع بسبعة وتسعين ونصف في المائة من مالك، وادفع لله عز وجل اثنين ونصف في المائة من مالك، فهذه هي الزكاة التي يفرضها الله عز وجل، فهي نسبة يسيرة جداً من مالك. وإذا كان لديك زروع وثمار تسقيها بتعبك، فتشتري الماء وتسقي الزرع، فستخرج نصف العشر مما تخرجه الأرض، وإذا كان الماء من السماء من غير تعب منك فتخرج العشر منها، وتستمتع بالتسعة الأعشار، والعشر لله سبحانه تبارك وتعالى، فهذا العشر هو الذي يطهر لك باقي المال. وإذا حفر الإنسان في الأرض فخرج وعاء ذهب أو فضة من غير تعب منه فهذا يعتبر ركازاً من دفن الجاهلية، فيجب عليك فيه الخمس، مقدار عشرين في المائة؛ لأنك لم تتعب أصلاً، فإذا زاد التعب قلت الزكاة وخفت، فالله عز وجل ليس بطامع في المال الذي عندك كما تفعل الحكومات مع الناس، حيث وضعوا ضرائب على الناس، فيأتي عامل الضرائب يقول للناس: سنخفف عليك والآخر يضع عليه ضرائب أكثر، ويرفض منه، ويجعل له المقيدات، فالدين لا يفعل ذلك أبداً بالإنسان، قال تعالى: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]، الإنسان عندما يؤمر بالنفقة يبخل، فالدين يجعل الإنسان يدفع، ولو كل مؤمن على الأرض دفع زكاة ماله لما بقي فقير أبداً، وزكاة المال كثيرة جداً، فهي اثنين ونصف في المائة، وكل إنسان يرغب فيما عند الله، ويرهب من عذاب الله عز وجل فيدفع المال، ولو أن الحكومات ترشد إنفاق هذا المال على الوجوه التي ترضي الله عز وجل لكانت البركة في الأرض، فالإنسان يدفع الزكاة وهو راض، وقد يدفع أكثر مما يطلب من أجل الله، ويصرف أكثر من النسبة المطلوبة؛ لأنه ينوي الأجر من الله، لا ينفق لأنه مجبر على ذلك، وليس كالضرائب ولسان حال أحدهم: أنا يأخذ مني أكثر، والثاني يأخذ منه أقل، وفلان المليونير لا يدفع شيئاً وفلان له محسوبية! الدين ليس فيه هذا الشيء، الناس كلهم سواسية، فعندما يطبق شرع الله عز وجل تجد الإنسان مسروراً في دفع الشيء؛ لأنه يصدق فيما يقول. وكان عثمان رضي الله عنه يقول للناس: هذا شهر زكاة مالكم، فلينظر الإنسان ما عليه من الدين، ثم يدفع ما عليه من زكاة المال فلا يصدق أحد ويقول: أنا علي ديون كذا، والمال الذي عندي كله دين، وأنا عندي عشرة آلاف لكن غالبه دين والذي يأتي إليه يصدقه فيما يقول، فلا يلزمه ويقول: زك مالك وإلا سندخلك السجن ونعمل فيك هذا، هذه أشياء الشريعة لا تأتي بمثلها أبداً، ولذلك ربنا يقول لنا: {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ} [محمد:37]، فالله سبحانه يحثنا ويأمرنا بدفع الزكاة وإذا بنا نبخل {وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد:37] وكأنها طبيعة في الإنسان يقال له: هات أكثر فيقول: لا ما أدفع أكثر من هذا الشيء، فيتعلم الإنسان أنه لا يرهق أخاه، الله سبحانه يخفف والإنسان يشدد على غيره ليدفع أكثر فالله سبحانه تبارك وتعالى أعلم بنفوس الخلق: {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} [محمد:36] يعني: لا يسألكم جميع أموالكم، وإنما هي نسبة بسيطة من المال يطهر بها لكم أموالكم، ويأخذ الفقراء نصيبهم الذي عندكم، ولم يسألكم المال كله.

تفسير قوله تعالى: (إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم)

تفسير قوله تعالى: (إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم) قال تعالى: {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ} [محمد:37] الإحفاء: بمعنى الجز والاستئصال، ومنه إحفاء الشارب، كأن يقصه ويجزه جزاً شديداً بحيث لا ينزل على الشفاه منه شيء، فمعنى (يحفكم) أي: يشدد ويأخذ الأكثر من المال تبخلوا: {وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد:37] فالإنسان قد يحقد على الدين فيقول: لماذا تأخذوا منا هذا المال، نتعب لأجل أن تأخذوا منا خمسين في المائة من أموالنا؟! فلو ربنا سبحانه تبارك وتعالى هو الذي يقول ذلك، ويجيء الإنسان لا رحمة عنده مثل قطاع الطريق، من أجل أن يأخذ الضرائب من الجميع فتكون دولة رأسمالية ديمقراطية، فهذه الأشياء ما أنزل الله بها من سلطان، ولو عاد الناس إلى شرع الله عز وجل وأخذ الفقير المال من الإنسان الغني لكفت الزكاة الفقراء، وعندما لا تكفي الزكاة للفقراء فمن حق الحاكم أن يفرض على الناس ضرائب بحسب مقدرتهم وليس بالتشديد على الناس، فلو أن الله سبحانه الخالق شدد على الناس لبخلوا وأخرجوا أضغانهم، ولكن الله برحمته لم يجعل ذلك، ألا يتعلم الإنسان من ربه سبحانه؟! الله خلق المال وخلق الإنسان، ولم يفعل ذلك مع الإنسان سبحانه تبارك وتعالى، {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد:37].

تفسير قوله تعالى: (ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار)

تفسير قوله تعالى: (ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار) قال تعالى: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} [محمد:38] الذي يبخل عن الإنفاق في سبيل الله عز وجل إنما يبخل عن نفسه والله سبحانه الغني لا يحتاج إلى أحد، إنما يأمرك بالنفقة لتنتفع أنت يوم القيامة بما أنفقت. قوله: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} [محمد:38]، أنتم الفقراء، والله الغني بذاته، عطاؤه كلام: (كُنْ فَيَكُونُ)، والإنسان فقير بذاته خرج إلى الدنيا عرياناً لا شيء معه، وجاء إليها وهو طفل صغير يحتاج إلى غيره وليس معه ثوب، ويخرج من الدنيا كذلك وهو لا شيء له، فهو فقير بأصل خلقته، وفقير بذاته {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ} [محمد:38] سبحانه تبارك وتعالى. قوله: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا} [محمد:38] إذا توليتم عن طاعة الله، وهربتم من الإنفاق في سبيل الله استبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم، ومن يتولى عن طاعة الله ودينه، ويهرب من هذا الدين العظيم فإن ربنا يقول: الله الغني لا يحتاج إليك، والله القادر على أن يأتي بقوم غيركم يعبدون الله ويؤدون حقه سبحانه تبارك وتعالى، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن الصحابة سألوه صلى الله عليه وسلم: من هؤلاء الذين يستبدلهم الله عز وجل بنا إذا نحن تولينا؟ وكان سلمان بجوار النبي صلى الله عليه وسلم فأشار إليه وقال: (هذا وأصحابه)، من الفرس والعجم، إذا تولى العرب عن طاعة الله أيد الله عز وجل هذا الدين بغيرهم، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل البر والفاجر)، فقد يؤيد هذا الدين بمن ينصره من الأبرار، والفجار، والله على كل شيء قدير، فالمكسب هو للإنسان المؤمن، أقبل على الله سبحانه، لا تتولى، فأنت الذي تربح إذا أقبلت، وأنت الذي تخسر إذا أدبرت، ولن تضر الله شيئاً، ولن تضر دين الله شيئاً. قال تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] بل يكونون مطيعين لله عز وجل. نسأل الله عز وجل أن يثبتنا على دينه، وأن يثبتنا على الإيمان حتى نلقاه به. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

§1/1